السبت، 22 نوفمبر 2025

بيات شتوي: كآبة جمالية تنضج على مهل!

في دراما سينمائية طويلة يتعمد مُخرجها أن تكون بطيئة ومُتمهلة؛ ليتيح للمُتفرج الفُرصة في تأمل بواطن الأمور، وكنه الأحداث التي تدور أمامه، والهدف منها، يحرص المُخرج التركي Nuri Bilge Ceylan نوري بيلجي جيلان على تقديم فيلمه Winter Sleep بيات شتوي، أو ş Uykusu حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة التركية، وهو الفيلم الذي اعتمد فيه المُخرج، الذي شارك في كتابة السيناريو، على قصة قصيرة للروائي الروسي Anton Chekhov أنطون تشيكوف بعنوان The Wife الزوجة، لكن، رغم اعتماد المُخرج على قصة تشيكوف القصيرة في بناء السيناريو، إلا أنه لم يكتف بها فقط، بل كان من الواضح أنه مُتشبع تماما بالعالم الأدبي والروائي للكاتب الروسي، وهو العالم الذي ينضح بالكثير من الفقر، والحزن، والعوز، والحاجة، والكآبة المُسيطرة على جميع مُفردات هذا العالم؛ فخرج لنا الفيلم في مُجمله بشكل تشيكوفي لا يمكن إغفال النظر عنه.

لكن، هل رغب نوري جيلان تقديم فيلم عن الفقر والفقراء ومدى حاجاتهم ومُعاناتهم فقط؟

لم يلجأ المُخرج إلى وضع نفسه في هذا المأزق الذي ما كان من المُمكن له أن يساعده في تقديم فيلم بمثل الجماليات التي رأيناها في مدة زمنية وصلت إلى ثلاث ساعات وربع الساعة هي مُدة عرض الفيلم، ورغم هذا الطول الكبير في زمن الفيلم لم يشعر المُشاهد بأي قدر من الملل، أو قلّ تركيزه في مُتابعة ما يدور أمامه من أحداث، وحوارات طويلة بلغت أحيانا إلى 20 دقيقة في حوار نجلاء مع عايدين، أي أن الحوارات الطويلة التي لجأ إليها المُخرج لم تكن مُجرد ثرثرة يرغب من خلالها في الحشو، بل كانت من الأهمية بمكان في صيرورة الحدث ما جعله يغامر بطول هذه الحوارات بشكل كبير، وإن كان قد نجح أيما نجاح في الحفاظ على انتباه المُشاهد الذي لم يفلت منه، بل ظل مُنجذبا إلى ما يدور أمامه.

لكن المُخرج كان يعنيه في المقام الأول، إلى جوار الحديث عن الفقر والحاجة المادية للعديد من أبطاله، التأكيد على أن نظرتنا إلى أنفسنا، وظننا الكمال فيما نفعله ليس بالضرورة نظرة حقيقية؛ لأن هذا الكمال الذي نراه داخلنا هو ما نرغب في رؤيته فقط، أي أنه المثال الذي نحاول تصديره للآخرين ولأنفسنا معهم، إلا أن هذه النظرة المُكتملة يكمن أسفلها الكثير من النقصان الذي لا نراه وإن كان يراه الآخرون فينا حتى لو لم يلجأوا إلى البوح لنا بنقائصنا، إلا أنه بمجرد الصدام بيننا وبين الآخر- الذي يرانا بشكل أفضل- تنفجر القنبلة الموقوتة التي كانت في حالة سبات، أو بيات شتوي؛ ومن ثم يواجهنا الآخرون بنقائصنا التي لم نكن نتخيلها عن أنفسنا يوما!


إذن، فنحن أمام فيلم يتأمل في النفس البشرية، يتأمل في المثال الذي نرغبه أو نظنه، والواقع الذي لا يمكن أن يتساوى مع هذا الكمال. يقدم المُخرج هذه الفكرة- التي لم يتعجل في عرضها وكأنه يتذوق طعاما بمهل راغبا في الاستمتاع به حتى آخر لحظة- من خلال عرض حياة عايدين- قام بدوره المُمثل التركي Haluk Bilginer هالوك بيلجينر- المُمثل المسرحي السابق في شبابه، وكاتب المقالات في إحدى الصحف المحلية، والراغب في تأليف كتاب مُهم عن تاريخ المسرح التركي. نعرف أن عايدين رجل ثري يعيش في سهول الأناضول الساحرة، مُمتلكا لأحد الفنادق السياحية في هذا المكان، وهو الفندق الشبيه بالكهوف، حيث نُحت في الجبال، كما يمتلك الكثير من المنازل في المنطقة، وهي المنازل التي يتعيش من إيجارها للآخرين، أي أنه يكاد يكون وكأنه مالك المنطقة بأسرها، وهذه المُمتلكات قد آلت إليه من ميراثه عن أبيه واشترك معه في هذا الميراث أخته نجلاء- قامت بدورها المُمثلة التركية Demet Akbağ ديمت أكباي- المُطلقة، والتي تعيش معه في مُمتلكات أبيهما شاعرة بالكثير من الملل.

يعيش مع عايدين ونجلاء زوجته نهال- قامت بدورها المُمثلة التركية Melisa Sözen ميليسا سوزين- وهي فتاة أصغر منه بالكثير من السنوات، حتى أن من يراها يظنها ابنته لفارق العمر الكبير بينهما، ونلاحظ أن نهال صامتة دائما، يبدو على قسماتها الكثير من الحزن الذي لا نعرف له سببا، كما نلاحظ أنها تكاد أن تكون منزوية دائما، مُكتفية بذاتها، لا علاقة حقيقية تربط بينها وبين زوجها، أو بين أي شخص من المُتواجدين في البيت من حولها.

يبدأ المُخرج فيلمه مُستعرضا مشاهد سهول الأناضول التي بدت لنا وكأنها لوحات تشكيلية، أو لوحات طبيعية صالحة لكروت المُعايدة السياحية؛ لفرط جمال السهول والجبال والوديان الغارقة في الثلج الأبيض، ولعل جمال الطبيعة التي لجأ المُخرج إلى التصوير فيها كانت عاملا فنيا مُساعدا ومُهما أعطى المُصور فرصة كبيرة للإبداع في التصوير، وهو ما نراه على طول أحداث ومشاهد الفيلم.

نشاهد منذ البداية عايدين مع سائقه ورجله الأهم في إدارة مُمتلكاته هدايت- قام بدوره المُمثل التركي Ayberk Pekcan آيبيرك بيكان- في سيارته يجتازان السهول الواسعة التي تغطيها الثلوج، وبينما تسير السيارة ينطلق حجر كالقذيفة إلى الشباك المُجاور لعايدين؛ ليكسر زجاج النافذة، وهو ما جعل هدايت يحاول الحفاظ على توازن السيارة من الانقلاب بسبب المُفاجأة. يلحق هدايت بالطفل الذي قذف بالحجر لنعرف فيما بعد أنه إلياس ابن إسماعيل- قام بدوره المُمثل التركي Nejat İşler نجاة إيسلر- أحد المُؤجرين من السيد عايدين لبيت من بيوته في المنطقة. يحرص عايدين على إيصال الطفل إلى بيت أبيه؛ خشية أن يصاب بالبرد بعدما وقع في المياه أثناء مطاردة هدايت له، لكن حينما يوصل هدايت الابن لأبيه ويخبره بما قام به ابنه، يتعامل إسماعيل بنفور وكراهية وعدائية مع هدايت ولا يصدق أن ابنه قد فعل ذلك، ويظن أن هدايت قد جاء إليه من أجل مُطالبته بالإيجار المُتأخر الذي لا يمتلكه، إلا أن الأب حينما يسأل ابنه ويؤكد له الابن أنه قد قام بذلك بالفعل يقوم الأب بصفعه، رغم أنه يظل يتعامل مع هدايت بعدائية.

حينما يلاحظ عايدين، الذي يقف بعيدا بجوار سيارته، الطريقة العدائية التي يتعامل بها إسماعيل مع سائقه يناديه للمُغادرة في اللحظة التي يصل فيها حمدي- قام بدوره المُمثل التركي Serhat Kılıç سرهات كيليك- الأخ الأصغر لإسماعيل، وإمام المسجد المجاور؛ فيتساءل حمدي عما يحدث، ويخبر هدايت حمدي بالأمر إلا أن إسماعيل يبدأ في سبه ويرغب في ضربه؛ الأمر الذي يجعل حمدي يحاول منعه من ذلك، ويتجه إلى السيد عايدين للاعتذار له عما قام به شقيقه، مُؤكدا له أنه سوف يدفع له الإيجار المُتأخر قريبا، وأنه يحاول الاستدانة من أجل دفع الإيجار.

يؤكد له عايدين أنه لم يأت من أجل الإيجار، كما أنه لم يكن يعرف بأنهم مُستأجرين لديه، وأن السبب الأساس من أجل قدومه هو إيصال الطفل حتى لا يصاب بالبرد. يعرف عايدين فيما بعد من هدايت أن حمدي وأخاه إسماعيل مُستأجرين منذ زمن طويل، وأنهم عاجزون عن دفع الإيجار منذ شهور طويلة؛ الأمر الذي جعل هدايت يخبر المحامي برفع قضية إخلاء عليهم، وبالفعل فلقد توجهت الشرطة إلى المنزل محاولة إرغامهم على دفع الإيجار أو الإخلاء، وأخذوا منهم الثلاجة والتلفاز مُقابل شيء من الإيجار.

ربما نلاحظ الخنوع والمذلة اللتين يتعامل بهما حمدي حوجة في مواجهة كل من عايدين وهدايت، لكن إذا ما تأملنا جيدا سيتأكد لنا أن خنوع وضعف حمدي أمامهما- وهو الدور الذي أداه المُمثل ببراعة- يوضحان لنا قسوة الفقر والبؤس اللذين يعاني منهما حمدي وأسرته المغلوبين على أمرهم، وكيف يؤدي الفقر بصاحبه للشعور بالانكسار الشديد والمذلة أمام الجميع رغم حرصه على أن يبدو مُتماسكا؛ ليحافظ على أقل قدر من كرامته أمام الآخرين.

يتبدى لنا هذا البؤس الشديد الذي يسببه الفقر حينما يذهب حمدي إلى منزل عايدين من أجل الاعتذار له عما بدر من الطفل إلياس، حيث نرى حذائه المُلطخ بالأوحال الذي خلعه أمام باب مكتب عايدين رغم البرودة القارسة للطقس التي لا يمكن لأحد أن يحتملها، لكن، رغم أن حمدي حرص على خلع حذائه إلا أن عايدين يأنف من حمدي ومن مظهره الرث، ويبدأ في التفلسف باعتبار أن حمدي شخص لا يهتم بمظهره رغم أنه رجل دين لا بد له أن يكون قدوة للآخرين في سلوكياتهم ومظهرهم.

حينما يسأل عايدين حمدي عن السبب الذي دفع الطفل إلى كسر زجاج النافذة، يخبره حمدي خجلا: كان لهذا علاقة بأمر الإخلاء؛ لهذا فعل هذا الخطأ، خصوصا أنه رأى أباه وهو يتعرض للضرب، فيسأله عايدين: كيف ضُرب؟ ليقول حمدي: عندما جاء أمر الإخلاء بالطبع أراد إسماعيل منعهم، وكانت الشرطة هناك؛ لهذا خرجت الأمور عن السيطرة. هنا نعرف أن الطفل يرغب في الانتقام لأبيه من المالك، ويشعر تجاهه بالكثير من الكراهية؛ لأنه السبب في قدوم الشرطة من أجل طردهم من منزلهم، كما أنه يرى أن المالك هو السبب في ضرب أبيه وإهانته أمامه حينما حاول مقاومتهم لما رغبوا في سلبهم ثلاجتهم، وتلفازهم أيضا، وهو السبب الرئيس أيضا في رغبة الطفل حينما يكبر أن يكون رجل شرطة، ربما كي ينتقم من عايدين وأمثاله من الأثرياء، أو ليمنع الظلم الذي رآه واقعا على أبيه من قبل رجال الشرطة.

يحاول حمدي الحديث مع عايدين بمذلة؛ كي يعطيه مُهلة من أجل دفع الإيجار، كما يؤكد له أنه مُستعد لدفع ثمن زجاج نافذة السيارة، لكنه حينما يعرف أن ثمن الزجاج 170 ليرة يشعر بالدهشة الشديدة للسعر الباهظ، ويطلب من عايدين تقسيط ثمن الزجاج، إلا أن عايدين يؤكد له أنه لا ضرورة لذلك؛ فلقد تم تغيير الزجاج، وهو لا يحتاج ثمنه، لكنه يطلب منه عدم القدوم إليه مرة أخرى؛ لأنه لا يعرف شيئا عن مُمتلكاته، ولا وقت لديه من أجل إدارتها لتفرغه للكتابة فقط، وأن أمر الإدارة في يد هدايت؛ وبالتالي عليه التوجه إلى هدايت والحديث معه هو، وألا يعود إليه مرة أخرى؛ لأنه لا يعرف الخطوات القانونية التي يقوم بها هدايت من أجل تحصيل إيجاراته.

لا يفوتنا أن المُخرج حريص على توضيح حياة الفقر والبؤس التي تعيشها المنطقة بالكامل، وأنهم يفتقدون المدارس من أجل تعليم صغارهم، كما لا يجدون العمل الذي يعينهم على الحياة؛ لذلك تصل رسالة إليكترونية إلى عايدين من فتاة في قرية قريبة تطلب منه مُساعدة أهالي القرية في إنشاء مشغل للتطريز، وهو الأمر الذي سيساعد أبناء القرية على الحياة بكرامة. هنا يعرض عايدين الرسالة على صديقه المُقرب سوافي- قام بدوره المُمثل التركي Tamer Levent تامر ليفنت- ليقول سوافي شارحا ما يدور حولهم: أتعلم ما أفكر فيه؟ البؤس والفقر كارثتان طبيعيتان، الله يبتلينا بهما، ولا يمكننا مُعاندة قدرنا، فيرد عليه عايدين: لكن الله قد وهبنا ذكاء؛ لنحل به هذه القضايا، ليقول سوافي: هذا صحيح، لكن رغم ذلك هناك أشخاص خلقوا خصيصا لهذه المهمات، عليك أن تدعهم يقومون بمهماتهم، أما أنت، فأنت فنان مُبدع، ما علاقتك بهذه الأمور؟ اهتم بعملك.

 

ألا نلاحظ هنا في رد سوافي مجرد نظرة رأسمالية مُتعالية لا تعنيها الفقراء وجوعهم وبؤسهم واحتياجهم، بقدر ما تعنيها مصلحتها الشخصية وعدم التفكير في الآخرين وما يعانونه في حياتهم؟

هذه النظرة المُتعالية الشديدة الأنانية سنلاحظها لدى عايدين الذي يحاول دائما التحلي بالأخلاقيات الظاهرية والحديث عنها، لكن رغم أخلاقياته الظاهرية نراه يفكر في كتابة مقال عن رجال الدين الذين لا يحافظون على جمال مظهرهم أو أناقتهم، أو نظافتهم مُتخذا من حمدي حوجة مثالا لذلك، رغم أن حمدي لا يمتلك المال لمجرد أن يطعم أسرته فكيف له أن يفكر في شراء ملابس أنيقة. نلاحظ ذلك في قول عايدين لأخته نجلاء مُشمئزا: كنت مُستاء بشدة، ولم أستطع منع نفسي عن الكتابة، في الحقيقة، هناك الكثير من الأمور التي جعلتني أكتب عن هذا الموضوع في مقالي، منظره الرث، ونفاقه وخداعه، أتعلمين؟ سبق لي أن قمت بتمثيل دور الإمام، وقد نال أدائي ثناء جيدا، لكن بعدما رأيت هذا الرجل أعتقد أني قمت بالدور بطريقة خاطئة، تفاصيل كاملة غابت عني. أي أنه لا يرى في ملابس حمدي ومظهره مجرد سبب لبؤس الفقر فقط؛ الأمر الذي كان من الأحرى أن يدفعه من أجل مُساعدته، بل يرى في محاولة تذلل حمدي محافظا على القليل من كرامته مُجرد نفاق وخداع!

يحاول حمدي الحفاظ على علاقة جيدة بالسيد عايدين، ويرغم ابن أخيه إلياس أن يذهب معه إلى منزل عايدين من أجل الاعتذار له عما بدر منه، ويعرف عايدين أنهما قد قدما إليه من قريتهما مشيا على الأقدام؛ فيظهر الكثير من الدهشة غير قادر على استيعاب أن فقرهما الشديد قد دفعهما إلى المشي حتى بيته قائلا: هل جئتما من القرية مشيا على الأقدام؟ فيرد حمدي: نعم، بالتأكيد، لماذا؟ فيقول عايدين: يعني، المسافة بعيدة جدا، ليقول حمدي مُبتسما بمذلة: نعم، إنها بعيدة، هذا صحيح، فيسأله عايدين: أجئتما المرة الماضية مشيا كذلك؟ أعني بالأمس، ليقول حمدي: أجل، إنها رياضة بالنسبة لنا، لا تقلق، لكن عايدين يسأله: أليس لديك دراجة بخارية؟ فيقول حمدي: سأشتري واحدة عندما تتحسن الأحوال، لحسن الحظ أن البيت مجاور للمسجد، وإلا لكان علي القيام بخمس رحلات يوميا، سيكون في هذا مشقة.

ربما نلاحظ من حوار عايدين مع حمدي أنه غير قادر على استيعاب أن الفقر قد يصل بالناس إلى درجة أنهم يسيرون الكثير من الكيلومترات على أقدامهم في الوحل لمُجرد أنهم لا يمتلكون المال من أجل ركوب المواصلات، وهو الأمر الذي يتعامى عنه عايدين، أو لا يحب أن يراه، والحقيقة أنه إذا ما كان رجل إحسان، وبر، وأخلاقيات بالفعل لكان قد أعفى حمدي من الإيجار، أو لصبر عليه على الأقل لحين تدبر أمره المالي، لكنه بدلا من ذلك كان يشعر تجاهه بالكثير من الاحتقار والتقزز بسبب مظهره الرث، ومحاولة الرجل أن يكون لطيفا معه حتى أنه قد أرغم الطفل الصغير على أن يأتي معه كل هذه المسافة مشيا على الأقدام ليعتذر لعايدين عما بدر منه وليقبل كفه، وهو الأمر الذي رفض الطفل أن يفعله، ووقف أمام يد عايدين الممدودة من أجل تقبيلها رافضا فعل ذلك وأغشي عليه من فرط التعب، وإصابته بالالتهاب الرئوي!

إن مشهد عايدين الذي يمد يده كي يقوم الطفل بتقبيلها هو من المشاهد المُهمة التي تُدلل على الأخلاقيات الظاهرية لعايدين الذي لا يتحلى بها بقدر ما يلوكها فقط أمام الآخرين، ويكتب عنها مقالاته في الجريدة المحلية، لذلك حينما يكتب مقالا آخر عن مظهر رجال الدين الرث، وهو المقال الذي يقصد به حمدي تقول له أخته نجلاء: لماذا تحشر أنفك في هذه الأمور؟ أنت مُمثل مسرحي، اكتب عما تعرفه، لكنه يرد عليها: المُخيلة لا تختار دائما ما نكتبه عزيزتي نجلاء، الموضوع هو الذي يختارك، فتقول: بالطبع، كل إنسان حر في الكتابة عما يحلو له، لكن يجب أن تعرف بأنك ستحصد ما تزرع؛ فهناك فارق بين وجهة نظر خبير كرس حياته لهذه المواضيع، وبين وجهة نظر هاوٍ، لا مجال للمُقارنة، التنظير في مواضيع لا تعرف عنها كثيرا أمر غير موفق، إن مقالتك تطفح بالرومانسية المُبتذلة، والقناعات الذاتية الساذجة غير المُقنعة، ليس فيها مُجازفة من أي نوع، يبدو الأمر كما لو أن الكاتب تبنى القيم الإيجابية التي يتفق عليها الجميع لمُجرد أن يجعل نفسه محبوبا، لكن التمويه الشعري أحيانا يخلق عواطف زائفة.

إن حديث نجلاء إلى شقيقها عايدين كان بمثابة انفجار القنبلة الموقوتة التي طال أمد انفجارها، أو هو أشبه بذوبان الجليد الذي تجمد كثيرا، أو الصحو من البيات الشتوي الذي كان يمنع أي كائن من مواجهة عايدين بمشاكله الحقيقية التي يعاني منها، وهي التظاهر بغير حقيقته وأنانيته؛ الأمر الذي سيجعل عايدين ينفجر فيها بدوره ويعمل على تعريتها أمام نفسها، أي أن البيات الشتوي الطويل بين أفراد العائلة الذي كان يمنع كل شخص فيهم من تعرية الآخر أمام نفسه قد بدأ؛ ومن ثم عرى كل منهم الآخر أمام نفسه؛ لذلك يقول لها عايدين: أعتقد أنك تكرهينني أنا وليس مقالاتي؛ فترد: أصلا، ما علاقتك بالدين والإيمان والروحانية؟ هل سبق لك أن دُست برجلك في المسجد؟ هل صليت مرة حتى تتكلم عن الروحانية؟ فيقول: أيجب عليّ أن أذهب إلى المسجد حتى أتكلم عن الدين؟ فتقول: لقد قلت إن حمدي تفوح رائحة قدميه، ما الذي يهمك في ذلك؟ لقد قطع 10 كيلومترات مشيا على الأقدام، ما الذي كان بوسعه أن يفعل ليمنع ذلك حين أتى إلى هنا؟ لا أعتقد أن من الصواب لرجل أن يتكلم عن الروحانية في حين أنه لم يذرف دمعة واحدة على قبريّ والديه، ولم يسبق له أن زارهما، فيقول لها غاضبا: أنت تشعرين بالملل لأنك لا تفعلين شيئا في حياتك، أخيرا يمكنني أن أرى، فهمت لماذا تطلقت بعد كل هذه السنوات، لا رجل يستطيع احتمال مثل هذا اللسان السليط، لكنها تبدأ في تعريته هو وزوجته نهال قائلة: الطيور على أشكالها تقع، حتى زوجتك، أنتما مُتشابهان كثيرا، أعرف رأيكما في، لكني لا أهتم، إنها تمشي كما لو أنها الملاك الحارس بينما هي في الواقع لا تفعل شيئا ذا قيمة، ناهيك عن نظراتها المليئة بالازدراء، فيرد أكثر غضبا: أنت محكوم عليك بالوحدة والملل طوال ما تبقى من حياتك؛ لأنك جبانة، لأنك كسولة، أنت تعيشين كالطفيلية وتتوقعين من الجميع مُساعدتك، أنت تتصرفين كما لو أن العالم بأسره يدين لك بشيء ما، أيا كان ما تفعلينه، وأيا كان ما تقولينه تتوقعين من الآخرين أن يغفروا لك، أيعقل ما تقومين به؟ أنت تعيشين في أوهامك، أؤكد لك في اللحظة التي تدخلين فيها من ذلك الباب، أدعو الله أن ترحميني من انتقاداتك اللاذعة، عندما تجلسين ورائي؛ أشعر بعينيك وهما تجاهدان لاختلاق المشاكل فقط لتهربي من مللك، أشعر بالخدر في ظهري، كما لو أن أحدهم يفرك ظهري بيده القاسية، هذا يشعرني بالقشعريرة ويمنعني عن الكتابة، هل أنت مُضطرة أن تكوني بهذه اللامبالاة؟ لهذا السبب أنت وحيدة تماما، لا زوج، ولا صديقة ولا أحد، أنت وحيدة في هذا العالم.

إن الحوار الطويل الذي دار بين كل من عايدين وشقيقته نجلاء، وهو الحوار الذي حاول كل منهما تعرية الآخر أمام نفسه التي يراها بوضوح كان من أهم المشاهد في الفيلم التي تؤكد على أن المرء ليس بالضرورة كما يحاول أن يرى نفسه، بل هو يرى نفسه في مرآته الشخصية كما يحب، ويعمل على تصدير شكله للآخرين كما يرى هو، لكن الحقيقة تؤكد أن من حوله يرونه بشكل آخر لا علاقة له بالنظرة المثالية التي ينظر بها إلى ذاته، أو يحرص على تصديرها؛ لذلك انفجر كل منهما في الآخر، وذاب الجليد المُتجمد منذ سنوات طويلة؛ الأمر الذي جعل كل منهما يصرح للآخر بنظرته تجاهه بوضوح ومن دون تجميل؛ فرأى عايدين نفسه المُتظاهرة بالأخلاقيات في حين أنه لا يتحلى بها، بينما عرى عايدين نجلاء، وأكد لها أنها ذات لسان سليط وأنانية، ولا يعنيها الناس، وتطلب منهم أن يتسامحوا في أي شيء من المُمكن أن يصدر عنها، ولعل هذا الموقف هو الجوهر الأساس الذي يسعى إليه المُخرج في صناعة فيلمه، أي نظرة الآخرين لنا، ونظرنا لأنفسنا.

إن هذه النظرة إلى الآخرين لا تتوقف عند نجلاء شقيقته فقط، بل تنسحب مع أحداث الفيلم إلى الزوجة نهال أيضا، وهي الزوجة الشابة الوحيدة المنزوية الصامتة، التي تحاول دائما أن تكون بعيدة عن عايدين رغم استمرار علاقة الزواج بينهما، ولعل العديد من المشاهد بين الزوج والزوجة تؤكد لنا أن ثمة علاقة متوترة، تكاد أن تكون مُنتهية بين كل من عايدين ونهال، صحيح أن الفيلم لم يقل ذلك صراحة، لكنه يشير إليها من خلال الأحداث؛ حيث نرى عايدين يسأل عنها الخدم، ولا يذهب إليها بنفسه من أجل رؤيتها، ويتلصص عليها من بعيد لإلقاء نظراته على شباك غرفتها، لكنه لا يقترب منها، ولعل قوله لنجلاء حينما دخلت عليه مكتبه لتقديم الشاي: من كان ليعتني بي لو لم تكوني هنا، خير دليل على وجود شرخ ما في علاقته بزوجته التي لا تهتم به، ولا يعنيها، بل تحاول دائما الانزواء بعيدا عنه غير راغبة في الاختلاط به إلا بشكل مظهري أمام الآخرين.

كما لا يفوتنا طريقة تعامل عايدين مع زوجته، وهي الطريقة التي تبدو لنا وكأنه يحسن إليها، وأن مجرد بقائها في بيته لا بد لها أن تشكره عليه، كما يقول لها حينما يعرف أنها تجمع التبرعات من أجل بناء المدراس في القرى المُحيطة الفقيرة: أطلب منك أن توقفي الاجتماعات السرية في بيتي، أنا لا أسمح إلا للمعارف المُقربين بالدخول، إذا كان هؤلاء الجماعة يريدون القيام بعمل خيري؛ فليجدوا لأنفسهم مكانا آخر، لا أريد لأحد أن يهتف ليلا في بيتي، لن أسمح بهذا!
المُخرج التركي نوري بيلجي جيلان

صحيح أن سبب ثورة عايدين على نهال كان بسبب ظنها رغبته في التدخل في شؤونها الخاصة، وأنه قد اقتحم اجتماع الجمعية الخيرية الذي أقامته في المنزل رغم أنه لم يكن يقصد ذلك، لكن مُجرد الظن بينهما قد أدى إلى الانفجار، وذوبان الجليد بينهما أيضا؛ الأمر الذي أدى إلى تعرية كل منهما للآخر أمام نفسه؛ فرأى عايدين أنها مُجرد امرأة مُتكبرة، تظن نفسها لها الأفضلية لأنها أصغر منه عمرا، كما يرى أنه لولا ثروته وأمواله التي تعيش نهال في رغدها لكانت مُجرد متسولة أو عاملة في اسطنبول تعتاش من مُرتب زهيد لا يغني من جوع، كما أنها ستظل تعمل ليل نهار ليذوى شبابها من دون مُقابل، أي أنه يرى نفسه مجرد مُتفضل عليها بحياتها في بيته، وهو الأمر الذي جعلها تنفجر فيه لتعريته أمام نفسه بقولها: أنت رجل لا يُطاق، أناني وحاقد، وساخر، أنت مُثقف، صادق، ونزيه ومُستقيم، هذا صحيح في المُجمل، لا يمكنني قول ما هو عكس ذلك، لكنك أحيانا تستخدم امتيازاتك لتكبت الآخرين، وتستخف بهم وتهينهم وتحطمهم، أخلاقياتك العالية تدفعك إلى أن تكره العالم، أنت تكره المؤمنين لأن الإيمان بالنسبة لك هو علامة على التخلف والجهل، وتكره غير المؤمنين لأنهم لا يملكون أيا من الإيمان أو المُثل العليا، أنت لا تحب كبار السن؛ لأنهم محافظون مُتعصبون، وغير قادرين على التفكير بحرية، ولا تحب الشباب لأنهم يفكرون بحرية زائدة عن اللزوم، ويتركون التقاليد، أنت دائما ما تدافع عن فضائل المُجتمع، لكنك تشك في أن يكون الجميع لصوصا؛ لذلك تكره كل الناس، أنت عمليا تكره الجميع، لو أنك لمرة واحدة استطعت الدفاع عن موقف ما حتى لو كلفك ذلك شيئا، أو شعرت بأنك لم تعد تنال المُجاملات، ولكن هذا غير مُحتمل، الضمير، الأخلاق، المثاليات والمبادئ الغرض من الحياة، هذه الكلمات حاضرة دائما على لسانك، أنت تُسيء استخدامها في إيذاء وإذلال البشر وتشويه سُمعتهم، لكن لو سألتني، أعتقد أن الذي يطرق هذه الكلمات مرارا هو الذي يجب أن نشك فيه!
الممثل التركي آيبيرك بيكان

 يحاول عايدين أن يجمل صورته أمام نهال بالتبرع لجمعيتها الخيرية بمبلغ كبير يتركه لها باسم مجهول، ثم يخبرها بأنه سيسافر إلى اسطنبول ولن يعود إلا في الربيع، كما يخبرها بأنها لها الحرية في استمرار ما تقوم به، لكنه بمجرد المُغادرة تذهب إلى بيت حمدي حوجة وتسأله عن المهنة التي يعملها أخوه إسماعيل؛ فيرد عليها حمدي خجلا: كان لديه عمل فيما مضى، كان يعمل في المنجم، لكنه لسوء الحظ وقع في مُشكلة وقضى ستة أشهر في السجن، ومنذ ذلك الحين لم يتوظف، فتسأله نهال: لماذا كان في السجن؟ ما الذي فعله؟ ليقول لها: كان هناك لصوص يتحرشون بزوجته، وفي إحدى الليالي استيقظ إسماعيل بعدما سمع صوتا عاليا، وركض خلف أحدهم حتى نهاية الشارع، لقد أتوا ليسرقوا ملابس زوجته الداخلية من على حبل الغسيل، لم يستطع إمساكهم؛ فصب غضبه على زوجته في تلك الليلة، حتى إن الفتاة المسكينة لم تعرف شيئا عن ذلك، في اليوم التالي صادف إسماعيل هؤلاء اللصوص الذين سخروا منه في السوق؛ فأخرج إسماعيل سكينه وطعن أحدهم، كان علينا أن ندفع للعملية الجراحية، ولتعويض ذلك الرجل، لهذا وقعنا في الدين، ليس لدي الآن سوى راتبي، إنه وضع صعب، لم نعد نستطيع دفع الإيجار، السيد عايدين معه حق، لقد سببنا له مُشكلة بتخلفنا عن الدفع كل هذه الأشهر، لكني آمل أن أجد عملا ثانيا. أي أن حمدي ينفق على أخيه وابنه وزوجته وأمه من عمله كإمام للمسجد، ولا يستطيع التكفل بذلك بسبب الأزمة التي وقعوا فيها؛ الأمر الذي يدفع نهال إلى منح حمدي الأموال التي تبرع بها عايدين إلى جمعيتها الخيرية والتي تقدر بعشر آلاف ليرة، وهو مبلغ ضخم كافٍ لشراء بيت جديد، لكن إسماعيل يدخل عليهما الغرفة ويلمح المال الذي منحته نهال لأخيه؛ فيبدأ في السخرية المريرة منها باعتبارها تتعطف عليهم، وتريد أن ترضي ذاتها كامرأة ثرية بمنحهم هذا المال، لكن بما أن كرامته لا يمكن لها أن تسمح بقبول هذا المال منها فهو يلقيه في المدفأة لتحترق مع الخشب المشتعل؛ الأمر الذي يجعل نهال تخرج من بيتهم باكية.
الممثل التركي سرهات كيليك

يتراجع عايدين عن رغبته في السفر إلى اسطنبول ويذهب إلى مزرعة صديقه سوافي، لكنه يجد عنده ليفنت- قام بدوره المُمثل التركي Nadir Saribacak نادر ساريباكاك- المُدرس في إحدى مدارس القرى المجاورة، والذي يتعاون مع نهال في جمعيتها الخيرية، ويبدأ الثلاثة في الشرب حتى يسكروا، ويصب عايدين كرهه وغيرته من ليفنت على رأسه، لكنه حينما يعود إلى منزله وفندقه مرة أخرى نستمع إلى شريط الصوت بينما عايدين يقف متأملا نافذة نهال بأنه يشعر بكونه رجلا آخر، وأنه لا يتخيل الحياة من دون نهال حتى لو اتخذته عبدا أو خادما لها، حتى لو أرادت أن تدير حياته تبعا لرغبتها، فمجرد وجودها في حياته أمر مُهم لا يمكن له أن يتخيل سواه، لينتهي الفيلم على عايدين في مكتبه بينما يكتب على حاسوبه عنوان كتابه الراغب في تأليفه: "تاريخ المسرح التركي".

إن الفيلم التركي بيات شتوي للمُخرج نوري بيلجي جيلان من الأفلام المُهمة التي تتميز بجمالياتها السينمائية التي تخص أسلوبية مُخرجها، لا سيما التصوير المُتميز الذي ساعده في ذلك هضاب الأناضول وسهولها الواسعة، والسيناريو البارع الذي استطاع من خلاله المُخرج أن يدير الحوارات الطويلة جدا في العديد من المشاهد، وهي الحوارات التي كان من المُمكن لها أن تصرف انتباه المُشاهد للفيلم، أو تشعره بالكثير من الملل، لكن براعة المُخرج والسيناريو المكتوب جعلا هذه الحوارات لا غنى عنها في هذا الفيلم الذي أداره المُخرج وصنعه بثقة وتمهل شديدان غير مُتعجل، حريصا على التأمل في أعماق شخصياته وتعرية كل منهم للآخر أمام نفسه في تأكيد منه بأن النظرة التي ينظرها الشخص لذاته ليست بالضرورة صحيحة أو مثالية؛ فثمة أناس آخرين مُحيطين بنا ينظرون إلينا بمفهوم آخر مُختلف عن هذه النظرة التي نرى بها أنفسنا أو نحاول تصديرها للآخرين، ساعد المُخرج في تقديم هذا الفيلم المُهم الأداء البارع لممثلينه الذين اختارهم، والذين بدا أداءهم أمام بعضهم البعض كسباق محموم من أجل الاكتمال في الأداء وتقمص الأدوار كما رسمها المُخرج تماما، أو تخيلها في ذهنه.


 محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد نوفمبر 2025م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق