في الوقت الذي ننادي فيه مع
المرأة بحقها في الحياة والحرية والإبداع وممارسة حياتها كيفما يحلو لها، بعيدًا عن سطوة المجتمع الذكوري الذي بدأ منذ بزوغ
الأديان الإبراهيمية التي كرست للإله الذكر، المُسيطر والمُهيمن على كل شيء، وباتت
فيه المرأة مجرد تابعة ملزمة بالطاعة العمياء بعدما كانت إلهية في المجتمعات
الأمومية؛ نُفاجأ غالبًا أنها أول من يخفق في المحافظة على هذه الحقوق التي تنادي
بها وننادي بها معها، بل وتُفضل دائمًا أن تكون في كنف الرجل حتى على المستوى
الإبداعي، وكأن ذهنيتها وعقليتها قد تشكلتا في نهاية الأمر على أن تكون مجرد تابع
للرجل حتى في خيالها وآمالها.
لعل تأمل الإبداع الذي
تقدمه المرأة لاسيما في المنطقة العربية بالكامل يجعلنا نتساءل: لم تظل المرأة
مهما كانت مثقفة أو قادرة على التعبير عن نفسها مجرد ظل للرجل؟ ولا تكف عن الدوران
حول مشكلاتها الصغيرة التي لا تخرج عن إطار الرجل المُهيمن، سواء كانت هذه الهيمنة
بالسلب أو بالإيجاب. وبالتالي نراها تُعبرّ دائما إما عن اضطهادها من قبل الرجل،
أو معاناتها في مجتمع ذكوري مهيمن يمثل الرفيق أو الأب أو الأخ، أو تعاني من حب
رجل خدعها وتركها في لوعتها وحيدة، وكأن كينونتها مقترنة به، أو تدور دائما في فلك
المطبخ وإعداد الطعام لرجلها، أو حياكة الملابس، أو غير ذلك من الأمور التي لا
تخرج من دائرتها إلا نادرا. ومن ثم يكون العالم الإبداعي للمرأة العربية دائما
عالمًا شديد الضيق والسطحية، يهتم بالتفاصيل التي لا معنى ولا ضرورة لها في الوقت
الذي تعجز فيه عن التحليق فيما هو أوسع وأكثر رحابة وتظل عاجزة عن خلق حالة
إبداعية حقيقية من الممكن الالتفات إليها أو الانفلات إليها!
إن تأمل المجالات الإبداعية
التي حاولت المرأة خوض غمارها تجعلنا نتأكد أن قدرتها على الإبداع هي في الحقيقة
قدرة واهية فهي عاجزة عن العطاء بشكل فيه من الوفرة والغنى والعمق؛ وبالتالي يكون
من الطبيعي الانصراف عما تقدمه؛ لأنه في النهاية غير ذي أهمية كبيرة، أو غير لافت
للنظر نتيجة وقوعها في أسر الدائرة الضيقة التي هي أسيرة لها دون محاولة منها
للخروج على انغلاقها عليها. فإذا ما تأملنا مجال الأدب سنجدها في الغالب محصورة في
عالمها الضيق ومشكلاتها الصغيرة التي تخصها، فلا تخرج في نصها إلى عالم أكثر رحابة
إلا فيما ندر، أي أنها تدور في فلك عالمها الضيق النظرة لا تستطيع أن تتجاوزه!
ولعل تجربة الروائية الراحلة رضوى عاشور كانت من التجارب الروائية النادرة التي
خرجت فيها الروائية من عالمها الصغير الضيق إلى عالم آخر أكثر رحابة ما يدعونا
للتوقف أمامه وتأمله، فلم نجدها مثلاً تتحدث عن كونها امرأة تعاني طوال الوقت، أو
تثرثر مجرد ثرثرات لا معنى لها، أو تكتفي بتقديم دور المرأة الضحية بل قدمت لنا
عالما روائيا حقيقيا إذا ما قرأناه بعد إزالة اسم رضوى عنه لن نستطيع الحكم أو
القول بأن هذا العالم الإبداعي يخص امرأة بعينها، بل من الممكن نسبته إلى أي كائن
من دون الانحياز إلى جنس بعينه. ولكن ما رأيناه لدى رضوى كان من الأمور النادرة
التي لا تتكرر كثيرا، وهذا ما يجعلنا إذا ما أزلنا اسم أي كاتبة عن عملها وقرأناه؛
لابد سنردّه إلى أن من قامت بكتابة هذا العمل بالضرورة هي أنثى؛ نتيجة الثرثرات
الفارغة التي لا داعي لها، والغنائية، والتحسر على حياتها، والتفاصيل الصغيرة التي
تتحدث عن معاناتها، أو فقدها، أو غير ذلك مما يخص عالم المرأة فقط والذي لا يعني
أحدًا في نهاية الأمر سوى امرأة؛ لأنها ترى- واهمة- أن هذه التفاصيل لابد سيهتم
بها العالم بالكامل، في حين أن الحقيقة هي أنها لا تهم أحدًا سواها.
إذا ما تأملنا المجالات
الأخرى التي تحاول المرأة أن تدلو بدلوها فيها سنجد أنها غير قادرة على خوضها بشكل
فيه من العمق ما يجعلنا نتوقف أمامها، أو أنها لن تقترب منها مطلقا من قريب أو
بعيد، فمجال الموسيقى مثلا نادرا ما نجد فيه امرأة، فلم نر ملحنة برعت في مجال
التلحين الموسيقي، أو مؤلفة أغاني مثلا، أو فنانة تشكيلية متميزة، أو مخرجة متميزة
أو كاتبة سيناريو إلا فيما ندر.
لعل هذا الفقر الإبداعي في
معظم المجالات الإبداعية يعود في حقيقة الأمر إلى إشكالية مهمة وهي ضيق أو انعدام
التجربة الحياتية بالنسبة للمرأة ومحدودية نهلها من الحياة بكل أشكالها، بما أنها
تحيا في مجتمع ذكوري مهيمن ولا تحتك بالعالم الخارجي إلا من خلال الرجل؛ مما أدى
إلى انعكاس ذلك على تجربتها الإبداعية التي اتسمت بالفقر، وبالتالي ظلت أسيرة
لعالمها الضيق الذي لا تعرف غيره واقعيًا وأدبيًا؛ وهكذا اضيّق إبداعها من حيث
الرؤية الفنية تمامًا مثل تجربتها الضيقة أو المنعدمة على أرض الواقع. كل هذا
طبعًا مع التشديد على وجود مبدعات حقيقيات فارقات في التاريخ الإنساني كله، ويُشاد
بتفوقهن على الرجال مجتمعين، ولكنهن استثنائيات ونادرات- حالات فردية.
هذه التأملات في عالم
المرأة لابد ستكون هي محور تفكيرنا أثناء قراءة المجموعة القصصية
"دومينو" للناقدة السينمائية والقاصة ناهد صلاح، وهي المجموعة التي
ستجعلك كلما انتهيت من قراءة قصة من القصص تعود إلى قراءتها مرة أخرى، لا بداعي
المتعة بما قرأته أو الاكتشاف، ولكن بداعي أنك ستفترض في نفسك الغباء حينما لا
يصلك شيء من السرد الذي انتهيت منه؛ وبالتالي ترغب في العودة مرة أخرى للقراءة؛
علّك لم تكن في حالة تركيز كاملة وبالتالي لم يصلك المعنى الذي أرادته الكاتبة،
لكنك بالتأكيد ستصل في النهاية إلى أن ما قرأته مجرد ثرثرة لا طائل منها، وبالتالي
فأنت لم تقرأ شيئا ذا قيمة، بل مجرد تسويد للصفحات وثرثرات رغبت المؤلفة لها أن
تأخذ شكل القصة، لكنها ليست بالقصة في نهاية الأمر بل سرد تتداخل فيه الأحاديث غير
المترابطة التي تجعلك تتساءل ما علاقة هذا بذاك، وإلام يؤدي مثل هذا الحديث الذي
لا يفضي إلى شيء ولا يُستخلص منه شيء؟
في قصتها "رشة
ملح" لابد من التوقف أولاً أمام العنوان الذي لا يمكن أن يحيلك إلا إلى مجرد
مفردات نسائية بحتة، إذن فهو قاموس نسائي منذ البداية، ولكن إذا ما تجاوزنا دلالة
العنوان وإحالته فإننا بالضرورة لن نتمكن من فهم ما تريد أن تقوله المؤلفة! فالقصة
لا تخرج عن إطار العالم الغارق تماما في حياتها النسائية التي لا تقدم لك أي
خلاصة. كما أن التفاصيل التي تتحدث عنها لا تقدم لك أي تنامٍ أو تطور في الحدث، بل
سيظل الحدث ثابتا على التفاصيل التي تزدحم بها القصة؛ مما يدفع بك إلى الملل
لتنتهي القصة بشكل يجعلك تريد أن تغلق المجموعة تمامًا مؤكدًا لنفسك أن المرأة لن
تقدم لك الكثير في الكتابة في نهاية الأمر.
تبدأ القصة بامرأة تتحدث عن
رجلها الذي أخبرها في الصباح عن رغبته في صينية بطاطس وأرز مفلفل: "ظلت نصف
نهار تفكر كيف سيكون شكل طبق السلطة الذي ستفاجئه به مع صينية البطاطس والأرز
المفلفل الذي طلبه قبل أن يخرج في الصباح الباكر وهو يقول لها: "حبة..
حبة"، ونظرتها التي صوبتها إلى شفتين تسربان الكلمات بدقة تمتد في الفضاء
وتعود من ملكوت الشرود وفراشاته التي تتبعها خلف ظلال اللاشيء واللاأسئلة، وتحاول
أن تستعيد رائحة الأطعمة التي كانت تُحضرها أمها، فتزدحم رأسها بالوجوه والضحكات
والأمكنة، وتشعر أنها ارتفعت عن الأرض قليلا، لا تستطيع أن تقيس المسافة والأمر في
أصله ليس علميا، كما أنها لا تُحب أن يُفسر لها أحد تفاصيلها على أساس علمي، تحب
فقط مقادير أمها في تحضير الطعام"، من خلال هذا المقطع الذي تبدأ به القاصة
قصتها يتضح لنا أنها تتحدث عن امرأة لا يعنيها في حياتها سوى ما يطلبه منها رجلها
في أن تُحضر له ما يحبه ويطلبه، وبالتالي فحياتها كلها تتمركز حول ما يرغب أن
يأكله ولا يمكن لحياتها الخروج عن هذا السياق، كما أننا إذا ما تأملنا الفقرة
السابقة لابد أن نتساءل ماذا تعني الكاتبة بقولها: "لا تستطيع أن تقيس المسافة
والأمر في أصله ليس علميا، كما أنها لا تُحب أن يُفسر لها أحد تفاصيلها على أساس علمي"،
وما هو العلمي الذي قصدته في قولها؟ وما هي التفاصيل التي لا تحب أن يفسرها لها
أحد على أساس علمي؟ وهل الحديث هنا من قبيل الثرثرة التي لا معنى لها؟ وهل تتحدث
عن أمر سري في ذهنها هي فقط؛ وبالتالي لم تحاول توضيحه أو شرحه لنا كقرّاء؟!
إذا ما تجاوزنا هذه
التساؤلات سنرى أنها تحاول الحديث عن تفاصيل الطبخة التي طبختها بالتفصيل مما لا
يقدم لنا أي شيء مفيد يخص السرد سوى أنها تريد أن تشرح لنا كيف يمكن إعداد الطبخة؛
مما يجعل القصة أكثر تناسبًا مع كتاب يخص وصفات الطبخ لا وصفات السرد القصصية؛
فنراها تقول: "قطعت اللحم مكعبات متساوية قدر الإمكان، فهي سيدة التمام
والكمال كما يصفها دوما، وسلقته مع ورق لاورا والبصل والهيل وجوز الطيب، ووقفت تشم
الأبخرة الصاعدة مغمضة العينين لأنها تخشى إن فتحتهما أن تفقد متعتها أو تتراءى
لها في الأبخرة أشكالا وصورا تُرعبها، فينقطع خيط الحنين وساعتها لا تبصر اللون
البرتقالي ويطاردها الأزرق الكحلي في مدن مكسورة على جدران الظل والضوء، وكل شيء
فيها مهدر بين الصوت والصدى"، وهنا فضلا عن التفاصيل التي تخص طريقة الطبخ
التي من الممكن أن نتجاوزها، نلاحظ أن الجمل التي أتت فيما بعد مجرد جمل مهوّمة في
الفراغ لا معنى لها، ولا يمكن فهم ما الذي تعنيه الكاتبة من صياغتها؛ فالجمل
مُطلقة غير محددة لا تعبر عن شيء سوى كلمات متراصة بجانب بعضها البعض من دون معنى
أو هدف، فما معنى: "لأنها تخشى إن فتحتهما أن تفقد متعتها أو تتراءى لها في الأبخرة
أشكالا وصورا تُرعبها، فينقطع خيط الحنين وساعتها لا تبصر اللون البرتقالي ويطاردها
الأزرق الكحلي في مدن مكسورة على جدران الظل والضوء، وكل شيء فيها مهدر بين الصوت والصدى"؟!
وهل لهذا الحديث أي علاقة بما سبق أو فيما سيأتي بعد ذلك؟!
في الحقيقة أن هذه الجمل
المبهمة لم يكن لها أي معنى أو علاقة بالسياق الذي تتحدث فيه، وبالتالي كانت مجرد
جزر منعزلة عن السرد الذي تكتبه المؤلفة، ثم لا تلبث أن تعود إلى تفاصيل الطبخ مرة
أخرى: "رصت البطاطس التي قشرتها وقطعتها شرائحا متوسطة ومتساوية الحجم في
الصينية المتوسطة ورصت فوقها دوائر البصل المتوسطة ومكعبات اللحم الناضجة وصبت
عليها صلصة الطماطم المتبلة بالملح والفلفل وزجتها ووضعتها في الفرن المتوسط،
الكمال لا ينبغي أن يُمس"، وفضلا عن التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي لا معنى لها
فلقد لفتت نظرنا مفردات "الصينية المتوسطة، ودوائر البصل المتوسطة، وقطعتها
شرائحا متوسطة، والفرن المتوسط"، فما هي الدلالة التي تريدها المؤلفة من
التأكيد على وصف المتوسطة؟! لكننا في النهاية لن نجد أي دلالة سوى أن القاصة أرادت
لهذه الأمور أن تكون متوسطة فقط لا غير! ربما باعتبارها كاتبة متوسطة، ثم لا تلبث
القاصة أن تنخرط في الحديث عن بعض المعلومات عن البطاطس وأنها من أهم الأطعمة
المؤدية للإصابة بالسرطان، لكنها تتحدث عن آراء علمية أخرى فتقول إنها مفيدة جدًا؛
كي تعود مرة أخرى لتهوّم بالسرد في اللامعنى والمُطلق بشكل غير مفهوم حينما تقول:
"وبعد أن فلفلت الأرز "حبة..حبة" لم تتوقف كثيرًا عند سؤال آخر: من
هذا الرجل الذي سحبها من حرير أحلامها إلى لهيب المطبخ وروائح البصل والثوم
والفلفل، صحيح أنها تذكرت مقولة لطيفة الزيات الشهيرة: "الجنس هدم قلاعا
وامبراطوريات"، لكنها لم تبتسم وامتصتها هواجس كانت تقصدها ولا تمنحها أية
فرصة للإفلات، هواجس جائعة للوجع ومعلقة بين الحاضر والغيب ولها قوة الظل الذي
يزحف ببطء حتى يغطس فيه المكان، حاولت أن تستل من هذه العتمة وتوقظ نفسها ببعض
الذكريات السعيدة، فتجاوزت صوته وهو يتلو عليها مكررا الآية القرآنية: "ليقضي
الله أمرا كان مفعولا"، من خلال هذا المقطع لا نفهم ماذا تريد الكاتبة أن
تقول! وما علاقة لطيفة الزيات ومقولتها بالسرد، وما هي الهواجس التي تقصدها وما
نوعيتها؟ وما هو المكان الذي من الممكن له أن يغطس في هذه الهواجس، وما علاقة هذا
بالآية القرآنية وما مدلولها، وما علاقة هذا الحكي بالكامل بسياق القصة التي تطبخ
فيها؟!
تعود الكاتبة في نفس القصة
إلى: "واصلت تحضير طبق السلطة، فقطعت الخس والخيار والفلفل والألوان والطماطم
وبشرت الجزر وخلطتهم بحب الرمان ورشت الكثير من زيت الزيتون والقليل من الزعتر،
وقبل أن تنثر رشة الملح الأخيرة رن هاتفها المحمول لحظة دخوله من باب الشقة
بابتسامته العريضة وفي يده باكو من الشيكولاتة التي تحبها، بينما تصلبت مفاصلها
وتجمدت ملامح وجهها وهي تقول بهدوء:.. طلقني"، هنا تنتهي اللاقصة التي ظنت
الكاتبة أنها قصة، لكنها أيضا تنتهي بشكل غير مفهوم؛ فلم طلبت منه الطلاق، وما
الداعي لذلك؟! أنا شخصيا لم يصلني أي معنى ولم أفهم؛ لدرجة أني قرأت القصة ثلاث
مرات ولم يصلني منها أي معنى سوى أنها مجرد وصفة للطبخ وشرود في اللاشيء.
إذا كان هذا هو عالم المرأة
الذي تكتب عنه وتهتم به؛ فمن الأدعى بها ألا تفكر سوى في مطبخها، وتترك لنا
الإبداع حتى لا يتم تشويهه بمثل هذه الثرثرات التي لا معنى لها بدعوى أنها تكتب
قصة أو أدبا؛ لأن ما قرأته في هذا السرد لا علاقة له بالأدب بقدر ما له علاقة
بالطبخ.
في قصة "فلافل"
تبدأ القصة بالحديث عن كروية الأرض والدرس الذي كان يلقنهم إياه المدرس وهم صغار حول
هذه المعلومة العلمية، والجدل الدائر بين جاليليو والأديان حول هذه الحقيقة
العلمية، ثم لا يلبث السرد أن ينتقل بشكل مفاجئ إلى ساحة ميدان دام في العاصمة
الهولندية أمستردام بينما الراوي ينام على ظهره بجوار حبيبته، ثم يبدأ الراوي في
وصف تفصيلي لساحة الميدان وتاريخه، لكنه يتحدث فجأة بعد هذا الوصف عن الفلافل التي
هي عنوان القصة فتقول المؤلفة على لسان راويها: "أما أنا فأستمتع بوضعيتي
كواحد من المنسيين هنا في هذه الساحة العامرة، وأقرأ قصيدة "لا تصالح"
لأمل دنقل بصوت عال يشاكس صوتها وهي مستلقية بجواري في نفس الوضعية، بعد أن التهمت
معها اثنين من ساندوتشات الفلافل من المحل الزجاجي ذي العرض الشهي للفلافل والطرشي
والمخللات، فلافل الحمص المستديرة، المقرمشة، الساخنة، الملفوفة بورق الخس الطازج،
وسائل الطحينة ينساب في الفم ناعما ويغلب عليه مذاق السمسم الذي تباغته قضمة من قرن
الفلفل الأخضر الحار، فتنشرخ سيمفونية الأكل والمضغ بسعال متقطع أو آهة مصحوبة
بدموع فجرتها المتعة المدوخة في هذا الصقيع الأوروبي الذي لم ينجح في محو الضغينة،
فما أن أخبرنا صديق بخبث أن المحل الزجاجي صاحبه إسرائيلي يدعي أن الفلافل ذاتها
إسرائيلية، رمت هي نصف الساندويتش وظلت تلعن إسرائيل وجدودها، لم أفهم أنا وكذلك
لم تفهم هي إذا كانت هذه مزحة من صديقنا أم حقيقة، لكنها فعلت ذلك من باب أن الحرص
واجب، وأن شتيمة إسرائيل ضرورة وطنية، هذه طريقتها في التعبير عن عواطفها صريحة
وصارخة ولا لبث فيها"، وهنا لابد من التوقف أمام شيئين: فالكاتبة هنا تهتم
بتفاصيل الأكل ومكوناته بشكل مبالغ فيه وغير مفيد للسرد في شيء، وبالتالي رأيناها
تُفصل القول في مكونات ساندويتشات الفلافل التي نعرف مكوناتها جيدا وإن لم تقدم
لنا شيئا ذا فائدة، ولكن ما علاقة الفلافل التي جعلتها عنوانا لقصتها بالزج
بإسرائيل في سياق القصة، وهل بزجها لإسرائيل داخل السياق أرادت أن تبني على ذلك
أحداثًا لاحقة؟
الحقيقة أنها لم تبن على
هذا الزج داخل سياق القصة بل تركت الأمور معلقة عند هذا الحد لتتحدث في فقرة طويلة
عن إيريك فروم ونظريته التي تقول: "إن الحب هو قوة فعالة في الإنسان"
وتبدأ في نقاشها، ثم تبدأ في الهذيان السردي الذي لا معنى له ولا طائل من تحته حتى
تنتهي القصة وتفضي إلى اللاشيء؛ مما يجعلنا نحاول الربط بين كروية الأرض وجاليليو
وصراعه مع الأديان حول الحقيقة العلمية وعلاقة كل ذلك بالفلافل، ثم أهمية الزج بإسرائيل
في الأمر وعلاقة إيريك فروم بقصيدة أمل دنقل، ثم العبث السردي المهوّم في الفراغ
الذي جاء في نهاية القصة؛ ليتأكد لنا في النهاية أن هذه الكتابة لا يمكن أن يفهمها
سوى مؤلفها فقط! فهي مجموعة من الثرثرات التي تطلقها المؤلفة علينا وربما لا
تفهمها هي أيضا، وبالتالي لابد من التساؤل ماذا تريد المرأة من الإبداع إذا كان كل
ما تكتبه لا يمكن له أن يخرج عن فلك الأكل والمطبخ وتفاصيل الطبخات، ثم الثرثرات
التي تبيّن لنا مفهوم الكاتبة المغلوط عن الأدب؟!
في قصة "سرسجي"
يتأكد لنا أن ناهد صلاح لا يمكن لها أن تكتب القصة وأن ما تكتبه مجرد نصيحة أو
خاطرة أو أي شيء من الممكن أن نطلق عليه أي مُسمى فيما عدا مُسمى الأدب أو القصة؛
فنحن حينما نقرأ أحدهم يقول: "أن ترتدي البادي المحزق أو القميص المفتوح حتى
صُرتك والبنطلون الجينز المقطع والكاوتش الصيني الـ"هاي كوبي" لماركة عالمية،
وتطوّل شعرك وتفلفله أو تعمله ديل حصان وتدهنه بالجيل، وتعلّق في رقبتك السلسلة
والأساور والحظاظات الجلدية في معصمك، وتضع النظارة الشمسية التي أهدتك إياها
البنت التي خدعتها بكلمتين حلوين عن رومانسية الطلوع للقمر بـ"التوك
توك"، و"تتلطّع" على مقاهي وسط البلد وأنت تحمل تليفونك
الـ"سامسونج" الجديد ومشغول بالـ"فيس بوك" وتتحدث برطانة
العظماء في السياسة، فهذا لا يعني أنك صرت آدميا متكاملا، لأنك مهما فعلت لن
يقولوا عنك سوى.. سرسجي".
ربما حرصتُ هنا على سوْق
القصة بالكامل كما كتبتها صاحبتها لأوضح أنه لا علاقة لما كتبته بالقصة أو الأدب
من قريب أو بعيد، وأن من خادعها وأفهمها أن هذا الكلام الذي هو من قبيل الردح من
الممكن أن يكون قصة فقد أوهمها كثيرا، وكل من وافقها على أن هذه الهراء من الممكن
له أن يكون قصة فقد ارتكب جريمة قصوى في حقها وفي حق الأدب أيضًا.
القصة لا يمكن أن تكون بمثل
هذا الشكل، وإذا كانت الكاتبة ترغب في إعطاء النصائح فالقصة ليست هي المجال الصالح
لها إطلاقا، فلتبحث عما يناسبها بعيدا عن الأدب، كما أن الأمر يبدو كرد فعل لموقف
شخصي حدث مع الكاتبة الأنثى من أحد الرجال؛ ومن ثم فلقد أرادت أن تعطيه درسا قوليا
كي تضعه في حجمه الطبيعي، ولكن هل هذا الأمر مجاله الأدب أم الجلسات الخاصة؟!
أعتقد أن على الكاتبة القراءة كثيرا في كيفية الكتابة الأدبية قبل أن تُقدم على
هذا الفعل بمثل هذه الجرأة التي لا يمكن تسميتها سوى أنها جريمة مكتملة الأركان.
في قصة "رائحة القرفة
اللطيفة" تعمل المؤلفة على التكريس لصورة المرأة المنسحقة والعاشقة لانسحاقها
وضعفها والتي لا ترى نفسها سوى في هذا الشكل، فهي تتحدث عن حبيبها الذي تعشق أن
تشم فيه رائحة القرفة لفرط تناوله الـ"هوت سيدر" بعيدان القرفة، فهي
تتشمم دائما رائحته التي تحبها كلما قابلها، حتى أن هذه الرائحة تنطلق في كل مكان
يكون فيه، وتستعرض لقائها به في أكثر من مكان سواء أمام عمارات معروف، أو في ميدان
طلعت حرب أمام جروبي، أو في شقة تجمعهما، ولكن رائحة القرفة الأثيرة التي تنطلق
منه لا تلبث أن تتلاشى حينما يضع قدمه في وجهها ويرصد عدد الانفجارات التي حدثت في
أنحاء البلاد، ومن ثم نخرج من السرد في النهاية ونحن لم نفهم ما الذي تريد أن
تقوله لنا سوى تكريس صورة المرأة المنسحقة والتابعة. كما أن تأمل طريقة السرد
يجعلنا نندهش من الجملة المركبة التي تجعلنا نتوقف أمامها كثيرا كي نستطيع تفكيكها
وفهمها حينما تقول: "مرة أخيرة كان هو يجلس على الكنبة القديمة داخل الشقة
الصغيرة بالعمارة الكبيرة في الحارة الضيقة، ينظر إلى السقف غير مبال، بينما كانت
هي تتجمد لحظة أمام قدمه المرفوعة بغرور في وجهها، ثم تصرخ وتهذي بكلمات غير مفسرة
قبل أن يقوم إلى المكتب في الجهة المقابلة دون أن يلتفت إليها، يخلع قميصه ويطمئن
على عضلاته ويشد جهاز الكمبيوتر بقوة ثم يضغط على مفتاح التشغيل فتتدحرج كلماته
لترصد عدد انفجارات اليوم في أنحاء البلاد وتختفي رائحة القرفة تماما"، هنا
سنلاحظ أن الجمل شديدة التركيب كما أنها مبهمة تفتقد الدلالة والمعنى، ولا يمكن أن
تؤدي بنا إلى خلاصة أو فكرة. فما الذي تريد أن تقوله لنا المؤلفة سوى أنها افتقدت
رائحة القرفة التي تستمدها من رجلها حينما تعامل معها بذكورية فظة؟!
في قصتها "فردة
حلق" تُصرّ الكاتبة على نفس العالم الضيق الذي تدور في فلكه ولا يمكنها
الخروج منه بأي شكل من الأشكال، إنه عالم الهزائم الصغيرة، والمرأة المنسحقة تحت
الضغط الذكوري الذي يتمثل الأب أو الأخ أو الحبيب أو الزوج، إنه الرجل غير القادر
على فهم مشاعر المرأة المرهفة الحس والذي تعاني منه في كل حياتها، وربما لذلك
حاولت المؤلفة أن تكون القصة على لسان حبيبها أو رفيقها الذي يتأمل حالتها، ولعلنا
نلاحظ في عناوين معظم القصص هذه المفردات النسائية التي لا تعبر سوى عن عالمها
المحدود، فهي تتحدث هنا عن فردة الحلق التي ما أن تضيع منها إلا وتتأكد أن علاقتها
بالرجل الذي معها قد انتهت وكأن ضياع فردة الحلق هي إشارة لانتهاء علاقتها بالرجل
المرتبطة به. كما تتأمل المؤلفة كثيرًا بشيء لا يخلو من التفلسف معنى ضياع فردة
الحلق وتأثير ذلك على حياتها وعلاقتها بالرجال، وتعمل على تحليل الأمر بشكل فيه من
الثرثرة أكثر مما قد يفيد السرد، ثم لا تلبث أن تنغمس في الحديث عن المرأة
المقهورة ممثلةً في الأم والأب حينما تقول على لسان الراوي: "تتمترس في
مكانها حيث تجلس في وضعية اليوجا تلك التي أبهرتني منذ رأيتها لأول مرة ولم أعرف
كيف أضاهيها أبدا، تتربع وأرجلها متقاطعة ومطوية إلى داخل جسمها وجذعها العلوي
منتصبا فيما هي تُجمع كل فردات الحلقان الوحيدة وتشخص بنظرها إلى نقطة بعيدة
تستعيد فيها صورا من حياتها، أب متجهم وأم مهدودة الحيل وصفعة قوية من أبيها على
أذنها اليمنى لأنها رفضت وهي صغيرة أن تتناول الدواء، حتى هذه اللحظة هي تظن أن
الصفعة هي سبب عدم إذعان تلك الأذن بالذات للاستسلام لأي فردة حلق، قالت لي ذات مرة:
إنني أشبه أباها، واقعي جدا لا أُصاب برعشة الخرافة أو حمى الخيال"، وهنا
يتضح لنا أن مأساتها الحقيقة في حياتها هي صفعة أبيها وقسوته في التعامل معها ومع
أمها؛ وبالتالي تضيع منها دائما فردة الحلق التي تعني انتهاء علاقتها بالرجال، وفي
هذا التناول ما يدل على السطحية وعدم العمق في تناول موضوع القصة، وهو ما نراه عند
أغلب الكاتبات اللاتي يدرن في عالمهن الضيق غير المهم، كما أنها تحرص على إنهاء
القصة بأن يشتري لها رفيقها زوجين من نفس الحلق حتى إذا ما ضاع منها فردة يخرج لها
الثانية ويقول لها: إنها لم تضع، وهنا يتضح لنا أنها رغم اتهامها الدائم له بأنه
مثل أبيها واقعي ولا يهتز للخيال ولا يشعر بمشاعرها إلا أنه حريص على أن يشتري
زوجين من الحلق حتى لا يفقدها الأمل في علاقتهما، أي أنه أكثر حساسية تجاهها أكثر
من حساسيتها تجاهه.
في المجموعة القصصية للقاصة
ناهد صلاح نلمح العالم الضيق الذي تدور فيه معظم نساء المنطقة العربية وهو العالم
الذي لا يستطعن الخروج منه، بل يبقين رهنه دائما وكأنه لا يمكن لهن الحياة خارجه،
أي أن المرأة العربية في النهاية رهينة مازوخيتها التي تعمل على اجترارها بشيء من
المتعة، كما أن الكتابة هنا لا يمكن وصفها سوى بالثرثرة في الهواء الطلق، حتى أننا
لا نستطيع الخروج مما نقرأه بأي شيء مفيد، كما أن السرد متوقف غير قادر على التطور
رغم السطور الكثيرة المكتوبة لكنها لا تؤدي إلى أي معنى في النهاية؛ لأن الكاتبة
لديها الرغبة في الكلام فقط من دون أي هدف يتجاوز هذا الكلام.
نحويًا، نلاحظ وجود العديد
من الأخطاء التي لم تحرص الكاتبة على مراجعتها، منها عدم الاهتمام بحرف الجزم
"لم" وبالتالي لم تحذف حرف العلة في "لم تر" التي كتبتها
"لم ترى"، كما وضعت المؤلفة الهمزة على الواو مرتين في كلمة
"بهدوء" التي كتبتها "بهدؤ"، كما لاحظنا أنها كتبت "ثلاث
رجال" في حين أن الصحيح هو "ثلاثة رجال" لأن الأعداد من ثلاثة إلى
عشرة تخالف التمييز في التذكير والتأنيث، كما نرى جملة "عيناكِ الطفوليتين
التي تركز على نقطة بعيدة وتحبس دموعها"، هكذا كتبتها المؤلفة مع اختلال الضمائر
وحالات النصب والرفع؛ لأن صحيح الجملة هو "عيناك الطفوليتان اللتان تركزان
على نقطة بعيدة وتحبسان دموعهما"، هذا فضلا عن الخطأ الذي بتنا نراه لدى
النسبة الغالبة من الكتاب تقريبا وهو عدم إدغام ما يتوجب إدغامه في اللغة مثل
قولها: "في ما مضى"، الذي لابد أن يُكتب "فيما مضى" وغير ذلك
من الأخطاء.
مجموعة "دومينو"
من المجموعات القصصية الفقيرة فنيًا والتي لا يمكن أن تقدم سوى صورة مشوهة تشويها
حقيقا حول كتابة المرأة العاجزة عن الخروج إلى عالم إبداعي واسع ورحب بعيدًا عن
مشكلاتها الصغيرة وإحساسها بالدونية أمام الرجل وكونها مجرد تابع له، كما أن هذه
المشكلات الصغيرة التي تراها المرأة في قرارة نفسها عظيمة وكبيرة ومحور العالم
كله، هي في حقيقة الأمر ليست كذلك، وهي مجموعة من المشكلات التي لا يمكن أن تكون
صالحة لبنية السرد الفني أو الأدبي، بل هي صالحة لثرثرتها مع صديقاتها في جلسات
النميمة بعيدا تمامًا عن العالم الأدبي.
محمود الغيطاني