الاثنين، 30 أبريل 2018

على الجانب الآخر.. الماضي المخزي في يوغوسلافيا



من خلال استخدامه اللقطات الطويلة زمنيا ينجح المخرج الكرواتي Zrinko Ogresta زرينكو جريستا في منح المُشاهد الفرصة للتأمل الطويل لما يقدمه في فيلمه الكرواتي الصربي On The Other Side أو "على الجانب الآخر"، أي أن المخرج يرغب هنا منذ بداية فيلمه في أن يُشرك معه المشاهد في التأمل؛ كي يستطيع الخروج بالمعنى العميق لكل مشهد؛ لاسيما أن الفيلم هنا يعتمد على المشاعر العميقة في حقيقته، وأثر الحرب اليوغوسلافية على حياة الآخرين بعد انتهائها، ومدى تدميرها لسيكولوجيتهم وحياتهم الاجتماعية، وقدرتهم على التسامح مع الماضي.
في فيلم من الأفلام التي تتأمل الحياة بعد الحرب اليوغوسلافية يؤكد لنا المخرج أن أثر الحرب ما زال قاتلا- حتى لو كان على المستوى النفسي-  لكل من في المجتمع، وأن التجسس على حيوات الآخرين ما زال هو القانون، ولعل إيحاءه لنا بتجسس الجميع على بعضهم البعض يتضح في العديد من المشاهد الطويلة التي بدت فيها بطلة الفيلم Vesna فيسنا التي أدت دورها ببراعة الممثلة Ksenija Marinković وهي تقف خلف الزجاج الشفاف، أو خلف الستائر؛ ليدلل على وجود من يتجسس دائما، كذلك مشهد النهاية المهم الذي وقفت فيه "فيسنا" في شرفة منزلها بينما يقف في الشرفة المجاورة خلف الزجاج Zarko زاركو الذي أدى  دوره الممثل Lazar Ristovski، وهو ما يُشعر المشاهد بأن ثمة شخص ما في حالة تجسس دائمة على الشخصيات وإن كنا لا ندري عنه شيئا.
يتتبع المخرج حياة "فيسنا" الممرضة التي تعيش في العاصمة الكرواتية زغرب مع ابنها رجل الأعمال المتزوج، وابنتها التي درست القانون وتستعد لزواجها بينما تحاول البحث لها عن عمل بدلا من عملها كمتدربة عند محام، ونعرف فيما بعد أن "فيسنا" كانت زوجة لأحد المسؤولين عن الحرب اليوغوسلافية الذي اتخذ الجانب الصربي وانتهى به الأمر باعتباره مجرم حرب وُجهت له العديد من التهم؛ الأمر الذي جعله يهرب بعيدا عن عائلته ويتركهم وحدهم؛ مما أدى إلى انتحار ابنه الثالث الأكبر.
رغم أن الزوجة احتملت ما حدث وتولت رعاية أولادها وتناست ما حدث في الماضي، وهاجرت إلى مكان جديد، إلا أن هذا الماضي المخجل يعود إليها دفعة واحدة محاولا تعذيبها مرة أخرى من خلال مكالمة هاتفية من زوجها؛ فتقع بين شد وجذب بين حبها القديم للزوج، وبين عدم قدرتها على مسامحته بسبب ما ارتكبه من جرائم في حق الجميع، بل وفي حقها هي وأولادها أيضا حينما اختار أن يهرب ويبتعد عنهم الكثير من السنوات من دون أن يعرف عنهم أي شيء، بالإضافة إلى أن تاريخه ما زال وصمة عار بالنسبة للأبناء؛ مما يجعل الابنة غير قادرة على أن تلتحق بوظيفة في وزارة الخارجية بسبب تاريخ أبيها الدموي والإجرامي في الحرب اليوغوسلافية.
يحاول Zarko زاركو الزوج الضغط على مشاعر "فيسنا" بالعديد من الاتصالات الهاتفية التي لا تكون إلا في الليل، حيث وحدتها التي لا تجد فيها أحدا بجانبها، ومن ثم تبدأ رويدا مكالمة بعد الأخرى في الميل للزوج مرة أخرى، وتتحرك مشاعرها القديمة باتجاهه؛ ورغم أن ابنها يرفض تماما أن يكون له أي علاقة به، حتى إنه يرفض طلب أبيه بأن يهاتفه، ورغم أن الابنة أيضا ترفض التعامل مع الأب بأي شكل، إلا أن "فيسنا" لا تستطيع كبح مشاعرها تجاه زوجها الذي تركهم الكثير من السنوات، بل وتبدأ في التماس العديد من الأعذار له عما فعله من جرائم في حق المجتمع اليوغوسلافي، وفي حقها هي وأبنائها.
يبدو أثر جرائم الأب على حياة الابنة لا سيما حينما تسألها أمها: هل أخبرت خطيبك بالأمر؟ أي بماضي أبيها وحقيقته، لكن الابنة ترد ضائقة: هل من المفترض أن أخبر أي صديق لي عن حقيقة والدي؟ Was I supposed to tell all my boyfriends who my father is?، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى تدمير الزيجة بالكامل، مثلما منع الفتاة من الالتحاق بالوظيفة التي تقدمت إليها في وزارة الخارجية بسبب تاريخ الأب.
هنا يبدو لنا أن ما فعله الأب كمسؤول في الحرب اليوغوسلافية قد أدى إلى الكثير من العوائق والمشكلات التي كادت أن تُدمر حياة الأسرة رغم أنهم لا ذنب لهم فيها، ولعل مثل هذه الأمور كفيلة بأن تبتعد الأم عن الأب تماما ولا تميل إليه مرة أخرى، لكنه بتكرار مهاتفاته المتكررة لها، وشكواه لها عن حاله ووحدته، وبث الكثير من المشاعر تبدأ في اللين والرغبة في التواصل مع الزوج مرة أخرى، حتى أنها تتسامح معه، ولا تشعر تجاهه بالسوء حينما يزورها شخصان غريبان ويذكرانها بأنهما كانا جيرانها قبل سنوات الحرب، ويخبرانها عن قصة مقتل 33 شخصا من النساء والأطفال؛ لأن الرجال كانوا في خط المواجهة، والسيئ في الأمر أنهما لا يعرفان أين دُفنت جثثهم، بينما زوجها هو الوحيد الذي يعرف؛ لأنه كان في نفس المنطقة التي حدثت فيها المذبحة، بل كان من أهم المسؤولين هناك، ويطلبون منها أن تتواصل مع الزوج لمعرفة أين دُفن ذويهم من أجل استعادة جثثهم.
هنا قد يتصور المشاهد أن تنشب معركة حقيقية بين "فيسنا" والزوج بسبب هذه القصة، لكنها حينما سألته رد عليها بكل هدوء: لا أعرف شيئا عما حدث هناك، وهو ما صدقته الزوجة واقتنعت به رغم كل الجرائم السابقة التي ارتكبها، أي أن الزوج استطاع من خلال مهاتفاته المتكررة في استمالتها، وتحريك مشاعرها التي كانت قد تجمدت تماما تجاهه في سنوات الغياب الطويلة السابقة.
نلحظ هذا الميل من الزوجة- التي كانت ترفض هذه المشاعر مع بداية المكالمات- حينما يطلب منها أن تُرسل إليه صورتها وحينما لا تفعل ويسألها عن امتناعها تقول: لم أرغب في صدمتك I didn’t want to shock you، ليرد عليها: أنت تعلمين إني أجدك جميلة دائما  You know I’ve always found you beautiful، في تأكيد على عمق مشاعره نحوها، وأنه ما زال يُكن لها الكثير من المشاعر؛ الأمر الذي يجعله فيما بعد يُلح عليها في الذهاب إليه في بلجراد لرؤيتها، وهو ما تبدأ في الميل إليه رغم رفض ابنها وابنتها في أن تفعل ذلك.
تبدأ الزوجة "فيسنا" في الرغبة الحقيقية بالتواصل مع زوجها؛ حتى أنها كانت تسرع بالاتصال به إذا لم يتصل بها في إحدى الليالي، إلى أن امتنع عن الرد عليها ذات مرة؛ الأمر الذي جعلها تُهاتف أحد جيرانها القدامى والذي تعرف أنه على صلة وثيقة بزوجها لتطمئن عليه، مُخبرة إياه أنه لا يرد على هاتفها وأنها تشعر بالقلق فيعدها أن يخبره ويجعله يُعاود الاتصال بها، وبالفعل تأتي إليها مكاملة من الزوج من رقم غريب، وحينما تسأله: لماذا غيرت رقم هاتفك للمرة الثالثة، يؤكد لها أنه لم يغير هاتفه من قبل، وأنه سعيد بأنها قد بادرت بالاتصال به بعد كل هذه السنوات، وأنه كان يمتنع عن الاتصال بها خشية أن يزعجها هي وأولاده، ثم يسألها عن حال الأولاد وكأنه لم يحادثها من قبل.
هنا يكون الانقلاب السينمائي الذي أعده المخرج الكرواتي زرينكو جريستا؛ لنكتشف أن هذه القصة العميقة من المشاعر بين الزوج والزوجة، وبعد قدرة الزوجة على تجاوز الماضي ومسامحة الزوج، وكل هذه الاتصالات الليلية بينهما لم تكن حقيقة؛ فالشخص الذي كان يُهاتفها لم يكن في حقيقته الزوج، بل كان شخصا مغرما بها ويدعي أنه زوجها.
ربما كانت قصة الفيلم من القصص المهمة التي تُعبر عن الأزمة التي أصابت الكثير من الأسر في يوغوسلافيا السابقة بسبب الحرب؛ الأمر الذي أدى إلى انفصال الكثير من الأسر عن بعضها البعض، بل وأدى ذلك إلى نبذ العديد من الأبناء بسبب تاريخ أهلهم الملطخ بجرائم الحرب.
لكن رغم أهمية الفيلم وشاعريته العميقة، ولعبه على المشاعر التي قدمها المخرج ببراعة حقيقية ثمة تساؤلات إذا ما صرحنا بها يبدو لنا الفيلم شائها بشكل حقيقي، وينتابه الكثير من النقص أو الاستسهال في حبكة السيناريو الذي اشترك فيه المخرج مع السيناريست Mate Matišić ومن ثم ينهار الفيلم رغم جمالياته البصرية، ورغم جمال القصة التي قدمها لنا المخرج؛ فلقد بيّن لنا الفيلم في نهايته حينما هاتفت "فيستا" للشخصية المدعية لتقول له باكية: ماذا فعلت لك؟ لم تفعل بي ذلك؟ هل تمتلك أي فكرة عما فعلته بي؟ What have I done to you? Why are you doing this to me? Have you any idea what you’ve done to me?، نقول: إننا نكتشف بعد هذا المشهد حينما تعود إلى بيتها أن الشخص الذي كان يدعي أنه زوجها والذي كان يحادثها ليلا يوميا كل هذه الفترة هو جارها الذي يسكن في الشقة المقابلة لها تماما، ومن هنا تبدأ الأسئلة في التوارد إلى أذهاننا منثالة؛ ومن ثم لا نستطيع تقبل منطقية السيناريو الذي قدمه المخرج.
إن هذا الشخص الذي يقطن في الشقة المقابلة لها لا تعرفه أي معرفة شخصية، لاسيما أنه صعد معها في المصعد، وساعدها في حمل حاجياتها، وهي لم تتعرف عليه. إذن من أين عرف عنها تفاصيل حياتها التي كان يتحدث معها فيها؟ كيف عرف عن ابنها الذي انتحر، وعن زوجها مجرم الحرب المُدان في العديد من الجرائم قبل هروبها مع أبنائها إلى كرواتيا؟ وكيف عرف أصدقاء زوجها القدامى وجيرانهم الذين كان يتحدث معها عنهم؟ ومن أين له بالعديد من الذكريات المشتركة التي كانا يتحادثان فيها؟
ثمة لامنطقية في السيناريو الذي قدمه الفيلم تجعلنا حينما نصل إلى الانقلاب في النهاية نرغب في العودة مرة أخرى إلى بداية الفيلم؛ نتيجة سيل هذه الأسئلة التي لا نجد عليها أي إجابة مقنعة؛ مما يدل على أن المخرج وكاتب السيناريو لم ينتبها إلى منطقية الحدث بقدر اهتمامهما وتركيزهما الكبير على تطور المشاعر بين الزوج والزوجة واستعادة ذكرياتهما مع بعضهما البعض، ولعل الممثلة Ksenija Marinković ببراعتها في أداء دور الزوجة، ومن خلال انفعالاتها الصادقة التي تجعل المشاهد يتعاطف معها؛ فيغضب لغضبها، ويبكي لبكائها، ويفرح لفرحها، هو ما شجع المخرج على الانسياق خلف التركيز على هذه المشاعر من دون الاهتمام، أو الالتفات إلى منطقية السيناريو وحبكته من عدمه.
كذلك لا ننسى الموسيقى التصويرية البارعة التي كانت عنصرا مهما من عناصر الفيلم في اللعب على المشاعر لاسيما الترقب الذي كان يسود العديد من المشاهد، وهو الشعور الذي كانت توحي به الموسيقى.
ربما يُعد الفيلم الكرواتي الصربي "على الجانب الآخر" من الأفلام المهمة التي تتأمل الحياة في المجتمع اليوغوسلافي بعد الحرب، وأثر هذه الحرب على تشويه العديد من الأسر والمشاعر، ولعل المخرج قدمه بشكل فيه الكثير من البراعة، رغم اعتماده على المكالمات المتبادلة والطويلة بين الزوجين، وإن كان قد أخفق في الحبكة الدرامية للسيناريو التي شوهت هذه المتعة البصرية، والروائية، والأدائية التي قدمها لنا في نهاية الأمر.




محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية
عدد مارس 2018م




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق