ثمة محاولات حقيقية يهتم بها
الناقد حينما يتعرض للكتابة عن عمل سردي أصابته الشهرة - سواء كانت هذه الشهرة تخص
العمل نفسه أو كاتبه- وهذه المحاولات ضرورية من قبل الناقد؛ لأنه حينما يتعرض لعمل
سردي لكاتب شهير فالكتابة عنه تكون أكثر صعوبة ومحفوفة بالكثير من المصاعب في
مقابل تناوله عملا عاديا، وتتمثل الصعوبة هنا بالنسبة للناقد في أنه إذا ما كان
العمل السردي ضعيفا فستكون الكتابة النقدية في مواجهة سطوة الآلة الإعلامية التي
تعمل على هذا الكاتب، بالإضافة إلى جمهوره العريض الذي يُهلل له ويسبح بحمده ليل
نهار على أي كلمة يكتبها هذا الكاتب حتى لو كانت مجرد لغو، وتكمن الصعوبة الأكبر
في كسر الأسطورة التي نسجها الكاتب حول نفسه أو عمله لا سيما إذا ما كان هذا العمل
السردي قد حاز جائزة ما باعتباره من الأعمال السردية الجيدة، وهنا تكون الصعوبة
الحقيقية التي يجابه بها الناقد الجميع والسطوة التي لا يمكن مقاومتها للجائزة،
خاصة أن الثقافة الجمعية الآن تجمع – للأسف- على وهم كبير يفيد بأن العمل الحائز
على جائزة لابد أن يكون فريدا؛ وبالتالي لا يمكن لأحد أن يتحدث عنه بالنقد وإلا
يكون قد ارتكب كبيرة من الكبائر.
كما أن هذا العمل إذا ما كان
جيدا بالفعل تكون هناك أيضا صعوبة تناول العمل وإظهار جمالياته السردية بشكل حقيقي،
وليس مجرد تلخيص له للحديث عنه من دون الالتفات إلى هذه الجماليات، أي أن النقد
هنا لا يجب أن يكون مجرد إطناب في مدح الكتابة من دون الارتكاز على الجماليات
الفنية فيه، بل إيضاحها وتعليلها.
إذن فمن خلال الوجهين- الضعف أو
القوة- بالنسبة للعمل الشهير تكون هناك صعوبة ما تواجه الناقد الذي يكتب عن هذا
العمل؛ نظرا لشهرته وشهرة كاتبه، وهنا تكون الكتابة النقدية عنه بمثابة كتابة على
الحافة، لابد لها من التركيز وإعادة قراءة العمل عدة مرات للكشف عن جمالياته أو
نقائصه.
ربما كان هذا الحرص في قراءة
العمل أكثر من مرة قبل الكتابة عنه من أهم المحاولات التي أحرص عليها دائما؛ حتى
يكون العمل واضحا تماما أمامي قبل التعرض له بالنقد، وهو ما حرصت عليه في رواية
المشرط للروائي التونسي كمال الرياحي لاسيما أن الرواية قد حازت على جائزة
"الكومار الذهبي" كأفضل رواية تونسية، وتُرجمت إلى عدة لغات أجنبية،
وكُتب عنها الكثير، ولكن كل هذه الأمور لا يمكن لها في النهاية أن تقف حجر عثرة
أمام الناقد حينما يتبين له أن ثمة قصورا فنيا في العمل مهما نال من تقدير أو
جوائز، وهذا ما نراه في هذه الرواية.
النظرة الأولى لرواية المشرط
توضح لنا أن الرياحي قد حرص على تقسيم روايته إلى ثلاثة أجزاء كما قسمها هو نفسه،
ومن خلال هذا التقسيم يحرص الروائي على سوق العديد من الحكايات في كل قسم منها،
وربما كان الجزء الأول منها هو أهم أجزاء هذا العمل الذي ينجح فيه السرد الروائي في
جذب القارئ من تلابيبه؛ فيأخذه ممتلكا إياه، مُغرقا القارئ في عالمه السردي الأسطوري
الذي يراه في هذا الجزء. لكن قبل الدخول إلى الأجزاء الثلاثة يحرص الرياحي على
تصدير روايته بصفحة لابد من التوقف أمامها قليلا وهي الصفحة التي تحمل شعار جريدة
تُسمى "الحقيقية" وما جاء في هذه الجريدة من خبر أورده الروائي كممهد
لروايته- لابد هنا من الانتباه إلى أن الروائي أنهى روايته بخبر آخر في نفس
الجريدة بعد أن تحولت إلى "الحقائق" أي أن الجريدة عملت على تغيير اسمها
وظلت متابعة للقضية-.
يبدأ الرياحي روايته بالخبر
الذي جاء في جريدة "الحقيقة" كتمهيد للرواية قائلا: "نظرا إلى أن
القضية أصبحت قضية رأي عام، ولأن الدوائر المسؤولة فشلت في العثور على الجاني ولم
تعثر على المفقودين، قررنا أن نخرج ما عندنا من معلومات لعل ذلك يميط اللثام عن
بعض الأمور المُلتبسة ويجيب عن بعض أسئلة القراء، خاصة أن المعني بالأمر كان قد
كُلف بمتابعة القضية ومحاورة المختصين في تحليل الجريمة، وبعد اختفائه المفاجئ كان
من واجبنا التحقيق في القضية بطرقنا الخاصة"، ويشير في هذا الخبر إلى اختفاء
محرر الجريدة بعدما تولى التحقيق في جريمة لم يذكرها الخبر وأنهم قد عثروا بعد
اختفائه على دفترين بخطين مختلفين سيتم نشرهما.
ربما كانت هذه البداية الذكية
من المؤلف هي ما تجعل القارئ مستعدا لعالم من الجريمة أو الأدب البوليسي؛ ومن ثم
يتهيأ لذلك العالم الذي توحي به هذه المقدمة للرواية. كما تشير المقدمة إلى وجود
دفترين مجهولين بخطين مختلفين ستقوم بنشرهما، في حين أننا لم نر أي دفترين على طول
الرواية، أي أن المؤلف أوهمنا منذ البداية بشيء ولم يقدمه في روايته اللهم إلا إذا
كان يقصد بهذين الدفترين ما جاء في الجزء الثالث والأخير من الرواية تحت عنوانين
مختلفين: "من كراسة النيفرو"، و"من كراسة بولحية" أي في
الصفحات النهائية من الرواية. ولكن لا بد من الانتباه أيضا إلى أن الخبر في أول
صفحة من صفحات الرواية أشار إلى أنهما دفترين مجهولين: "عندما كسروا الباب
الخشبي واقتحموا الغرفة المتربة لم يعثروا إلا على حزمة من الأقلام الجافة وفتات
خبز أخضر ودفترين بخطين مختلفين، ولم يهتد أحد إلى تمييز خطه من الخط الآخر، لذلك
قررنا نشر ما جاء في الدفترين"، في حين أن الروائي حينما يعرض الدفترين في
نهاية روايته يعرضهما وقد نسب كل دفتر إلى صاحبه، ولم يكن هناك على طول الرواية أي
دفاتر أخرى؛ مما يُدلل على وجود مشكلة أساسية لدى الروائي في بناء روايته، أو عدم
التزام بما سبق أن بنى عليه منذ البداية؛ مما يجعل المقدمة هنا منفصلة عن المتن أو
غير منطبقة عليه.
تحدثنا الرواية في جزئها
الأول عن عالم أسطوري من الممكن أن يحدث فيه أي شيء وكل شيء من خلال العديد من
الحكايات التي حرص الرياحي على عنونة كل منها بعنوان يخصها؛ ففي الحكاية الأولى
"في ذكر الخرّوبة المبروكة التي سكنها الهدهد" يتحدث على لسان طفل مجهول
عن حكايته مع والديه الفقيرين وإخوته الذين يسكنون بيتا طينيا أمامه شجرة خروب يرى
الأب أنها مباركة وتعمل على حراسة البيت. كما يُطلق عليها الأب وصف
"الأم" باعتبارها أمهم جميعا، ويتحدث الطفل عن الأب الذي يرى أن هذه
الشجرة هي التي تعمل على حراستهم وحراسة البيت حتى سكنها ذات يوم ثعبان ضخم مخيف
رأى الأب أنه ثعبانا مقدسا لا يجب أن تمسه الأسرة؛ حتى أنه حينما سقط من السقف ترك
له الأب البيت وذهب هو وأسرته إلى الاسطبل لأنه يرى أن البيت من حق الثعبان
المبارك؛ الأمر الذي يجعل الزوجة ثائرة ومن ثم تقتل الثعبان؛ مما يؤدي إلى سقوط
الخروبة على البيت الطيني فتقتل الأم. ويعمل الروائي على إثراء الأسطورة وتقويتها
في نفس القارئ حينما يؤكد أن الطفل الراوي حينما بال يوما على جذع الخروبة أقفل سحاب
بنطاله على عضوه وذاق الكثير من الآلام كعقاب له من الشجرة المباركة، وهنا ينجح الروائي
في إدخال القارئ إلى عالمه الأسطوري الذي سيمعن في أسطوريته فيما بعد حينما ينتقل
إلى الحكاية الأخرى: "في ذكر المخّاخ".
لا يمكن إنكار أن العالم
الأسطوري الذي عمل الرياحي على سرده منذ بداية الرواية، رغم انفصاله عن المقدمة
التي جاءت في أول صفحة كخبر في الجريدة، هو عالم سردي شديد التميز يجذب القارئ ولا
يمكن أن يتركه، ولعل الرياحي لو كان قد استمر في هذا العالم البديع على طول الرواية
لكنا قد اكتسبنا رواية متميزة لم نر مثلها الكثير في السرد العربي؛ نظرا لتميز هذا
العالم الذي استدعى فيه شخصية العلامة ابن خلدون، وجعله راويا يحكي الكثير من
الحكايات الأسطورية التي لم نرها من قبل، لكن القارئ المدقق والمتمرس بالتأكيد
سينتبه إلى التأثير الكبير الذي تركه الروائي التونسي الراحل محمود المسعدي في
روايته "حدث أبو هريرة قال.." على السرد الروائي الأسطوري الذي يكتبه
كمال الرياحي في هذا الجزء من الرواية سواء على مستوى الحكاية، أو الخيال، أو
اللغة، أو الرحلة؛ فكل منهما يتشابهان كثيرا فيما قرأناه من سرد. وإذا كان المسعدي
قد استدعى "أبو هريرة" في روايته ليبدأ الرحلة، فالرياحي استدعى
"ابن خلدون" أيضا كي يبدأ رحلته، كما أن العوالم التي جال فيها الرياحي
لا تختلف كثيرا عن عوالم المسعدي. ولعل ترك المسعدي بأثره السردي على الرياحي لا
يقلل من شأنه كثيرا؛ فالمهم كيف يصوغ الروائي عالمه حتى لو كان متأثرا بغيره، وإن
كان عالم المسعدي سيظل يطارد القارئ بين الفينة والأخرى كلما تقدم في قراءة الرحلة
الأسطورية التي يسوقها الرياحي في الجزء الأول.
نقول أن أفضل ما في رواية
الرياحي هو هذا الجزء الأسطوري الذي كنا نتمنى أن تستغرق الرواية فيه للنهاية،
ولكن استدعاء شخصية من التاريخ إلى السرد هي من الأمور التي يجب أن تجعل الروائي
منتبها إلى أن هذه الشخصية لا بد لها من الحديث بلغة عصرها الذي عاشت فيه، وليس
بلغة العصر التي يروي من خلالها الراوي، وهذا ما يجعل الروائي متيقظا على طول السرد
الروائي إلى لغة الشخصية التي استدعاها، لكننا نلاحظ أن الرياحي لم يلتزم في
البداية إلى اللغة التراثية لابن خلدون، أي أن هناك ثمة مراوحة في بداية السرد بين
اللغة السردية العادية، وبين اللغة السردية التراثية، وهذه المراوحة واضحة تماما؛
الأمر الذي جعلها تترك ثغرة في السرد لم ينتبه إليها المؤلف كثيرا؛ فمع بداية ظهور
شخصية ابن خلدون نقرأ: "سكت ابن خلدون، وامتدت يده نحو علبة سجائري، أخذ
واحدة، أشعلها، سحب نفسا، ثم أطلق دخانه إلى الطريق الخالية. تابع تمزق الغيمة
التي ضاعت في ظلمة الليل واستأنف: مثل هذه الغيمة، تُهتُ يوما في مجاهل الشمال،
بعد أن "أقسمت بمن جحت قريش لبيته" ألا أقيم يوما آخر في هذا الشارع.
مزقت الدفتر وركضت نحو "محطة برشلونة". تسللت إلى إحدى العربات متخفيا
ببرنسي. دخلت دورة المياه وأقفلت على نفسي هناك حتى لا يُكشف أمري.. مر وقت طويل
قبل أن ينطلق القطار نحو المجهول.. لم أكن أعلم إلى أين يسير، كنت أرغب في ترك
الشارع فقط، كان ذلك كل همي.. قضيت ساعات أستمع إلى همهمات المسافرين وضحكاتهم وعراكهم،
أحيانا كان أحدهم يطرق باب المرحاض بعنف ثم ينسحب عندما ييأس من فتحه. كان القطار
يعبر نفقا في جبل عندما فتح عليّ مراقب التذاكر الباب، فصرخ من الدهشة وأغمى عليه،
هرع نحونا المسافرون، ارتميت في تلك اللحظة خارج القطار الذي كان قد خفف من سرعته
في أحد المنعرجات ولم أعد أذكر شيئا غير ارتطام رأسي بجانب النفق المظلم".
إذا ما تأملنا هذا المقطع
السردي الذي يأتي على لسان ابن خلدون سنلاحظ أن اللغة هنا مجرد لغة سردية عادية لا
علاقة لها باللغة التراثية التي يجب أن تكون عليها لغة ابن خلدون، أي أن المؤلف
استنطقه بلغة عادية لا تتناسب مع الشخصية التراثية في حين أنه يغير هذه اللغة فيما
بعد ويجعلها تراثية متناسبة تماما مع الشخصية؛ أي أنه كانت ثمة مراوحة وقع فيها
الكاتب في اللغة التي يجب أن تنطق بها الشخصية التراثية، كما كانت هذه المراوحة
واضحة ولافتة للنظر؛ الأمر الذي أدى إلى فجوة سردية خطيرة في جسد السرد الروائي
لابد أن ينتبه إليها كل من يقرأ الرواية.
يتضح هذا الفارق الكبير في
اللغة السردية التي يتحدث بها ابن خلدون حينما نقرأ: "وقرأت في الكتب القديمة
"من العجائب خلق النسناس وهو كمثل نصف الإنسان بيد واحدة ورجل واحدة، ويثب
وثبا ويعدو عدوا شديدا، وكان ببلاد اليمن، وربما كان ببلاد العجم، والعرب تصيده
وتأكله، وفي بعض أخبارهم أن سيارة وقعوا في أرض كثيرة النسناس، فصادوا واحدا
وذبحوه وطبخوه وكان سمينا، فلما جلسوا يأكلونه قال أحدهم: لقد كان هذا النسناس
ثمينا، فقال نسناس آخر، قد اختفى في شجرة بالقرب منهم: إنه يأكل السرو فلذلك سمن،
فنبههم على نفسه فأخذوه وذبحوه. فقال آخر من شجرة أخرى، قد اختفى فيها عنهم: لو
كان عاقلا صمت ولم ينطق، فأخذوه وذبحوه، فناداهم نسناس آخر تخبأ في بعض خروق
الأرض: إني قد أحسنت فلم أتكلم فأخذوه وذبحوه، وكان لهم فيها قوت، فقيل إنه يتغذى
بالثمار والنبات ويصبر على العطش".
ربما نلاحظ هنا أن السرد
التراثي الذي لا بد أن ينطق به ابن خلدون قد استقام للروائي وأنطقه بما يجب أن
ينطق به حتى نهاية الحكاية، لكن الملاحظة الأهم أن الروايات والحكايات التي يرويها
ابن خلدون عن رحلته الأسطورية التي رأى فيها الكثير من الأمم والأعاجيب، والتي
قابل فيها "المخاخ" الذي يتغذى على أمخاخ الأمم التي قابلها ومنهم
"المنافيخ" لا يمكن أن تمحو من ذهن المتلقي روح الرحلة التي قام بها
المسعدي في "حدث أبو هريرة قال.."، فالبناء واللغة والخيال والرحلة
يتشابهون تشابها كبيرا بين المسعدي والرياحي، وإن كانت حكاية الرياحي فيها الكثير
من التشويق؛ فهو يبني الكثير من الحكايات الأسطورية التي يعمل على تأصيلها بسرد
التفاصيل كحكاية "المنافيخ" التي يقول فيها: "علمتُ ساعتها علة
إطلاق اسم "المنافيخ" على سكان تلك الربوع، ذكروا لي بعد ذلك أن رجلا
غريبا نزل بديارهم يوما، أقام بها مدة وشاهد نساءهم الحوامل على طول العام، وعندما
كان بصدد مغادرة المكان قطع عليه الطريق جماعة من الصعاليك سلبوه أمواله وزاده
وخلّعوه أثوابه وسألوه من أين جاء فأجاب: كنت بين "المنافيخ" وسرى الاسم
كالنار في الهشيم حتى جاء به أحد تجارهم العائدين من الشمال". إذن فهو لا
يذكر معلومة جديدة في الأسطورة إلا إذا تمعن في سببها وبنى عليها المزيد من
الحكايات الأسطورية.
يقول الرياحي في روايته على
لسان ابن خلدون: "وكانت تسكن هذه الأقاليم أمم غريبة ما رأيت مثلها قط منها
"أمة طوال خفاف زرق ذات أجنحة كلامهم فرقعة، ومنها أمة أبدانهم كأبدان الأسد
ورؤوسهم رؤوس الطير لهم شعور وأذناب طوال كلامهم دوي، ومنها أمة لها وجهان قدامها
وخلفها وأرجل كثيرة وكلامهم كلام الطير، ومنها الجن، ومنها صفة الجن، وهي أمة في
صورة الكلاب لها أذناب وكلامها همهمة لا يفهم..."، من خلال هذا العالم
الأسطوري الذي يعمل الروائي على بنائه والإيغال فيه كان من السهل له أن يكتب رواية
بديعة مختلفة تماما عما يجود به السرد العربي في الآونة الأخيرة، خاصة أنه يحرص
على الإمعان في هذا العالم الغرائبي حينما يهرب ابن خلدون من هذه العوالم الغريبة
وتدوسه إحدى السيارات فيقول ابن خلدون: "لا أعلم كم من الأيام مرت علي وأنا
في غيبوبتي. عندما أفقت في ذلك الصباح كنت في ورشة نحات عصبي يلسعني بكاويته
الكهربائية. غالبت ألمي حتى انتهى من ترميمي، وضع بين يدي الكتاب ولسعني من جديد.
أردت أن أقول له إن هذا التمثال الذي رفعته يشبهك ولا يشبهني بلحيته الشعثاء
وعينيه اللوزيتين فهل تراك كنت تروم تخليدي أم تخليد نفسك؟".
كان من السهل للروائي هنا أن
يتخذ من عالم ابن خلدون الأسطوري وإعادة تركيبه في شكل تمثال يقف في منتصف الشارع
على قاعدة معدنية مادة ثرية لعالم روائي مختلف ويتتبع قصة التمثال وعوالمه، لكن
يبدو أن الروائي هنا قد تعجل إنهاء هذا العالم للدخول في عوالم أخرى لا علاقة لها
بهذا العالم الأسطوري؛ فبدا لنا هذا العالم الذي استمتعنا به كثيرا وكأنه قد تم
إقحامه على الرواية إذا ما اعتبرنا أن ما جاء فيما يُعد متنا وهذه الأساطير هامشا،
وإن كنت أرى أن العالم الأسطوري الذي قرأناه كان لا بد له أن يكون هو متن الرواية
وبالتالي يصبح كل ما جاء فيما بعد هو الهامش المقحم الذي لم يكن له أي أهمية أو
ضرورة، لكن الروائي أصر على إقحام عوالم أخرى إلى هذا العالم هاربا منه إلى عالم
يرومه وإن بدا لنا مقحما.
تبدو لنا رواية المشرط وكأنها
قد تم رسمها في ذهن الروائي قبل الإقبال على كتابتها وهذا ما جعل فيها الكثير من
الاصطناع مبتعدا في ذلك عن العفوية السردية، أي أنه خطط لها كثيرا قبل الكتابة،
ولعل هذا يتضح من خلال العديد من الإشارات أثناء عملية السرد الروائي؛ فإذا كنا
نرى أن قصة "الشلاط" أو الرجل الذي يستخدم المشرط الطبي لجرح مؤخرات
النساء هي مجرد قصة مقحمة على السرد؛ يُدلل على ذلك أننا لم نعرف عنها شيئا إلا في
الجزء الثالث من الرواية أي في الثلث الأخير منها، وهذا يُعد عيبا كبيرا في السرد؛
لأنه من غير المعقول أن يكون الثلثين الأولين من الرواية اللذين بلغا مائة صفحة
كاملة من مائة وخمسين صفحة هي جسد الرواية هو مجرد بناء من أجل حكاية فرعية تأخذ
الثلث الأخير منها فقط؛ مما يُدلل على وجود تزيدات وترهلات لم يكن لها داع، أو أن
المؤلف كان عاجزا عن الدخول في موضوعه الأساس الذي بنى من أجله الرواية والذي جعل
الرواية باسمه.
نقول أن سبب الاصطناع لدى
الرياحي أو تخطيطه المسبق كثيرا قبل الكتابة اتضح مثلا في العديد من اللمحات التي
لم يكن لها أي علاقة بحكاية المشرط، وإن كان الروائي حرص على وضع الإشارات المسبقة
التي لم يكن لها صلة بالحكاية التي يسردها، منها على سبيل المثال قوله على لسان
ابن خلدون حينما ودع زوجة الحارس: "بعد ساعة راحت دامعة ورحت دامعا، وندمت
لأنني لم أسألها عن سر آثار جرح شق مؤخرتها بالعرض". من خلال هذه الجملة نلمح
إشارة واضحة إلى قصة المشرط التي سنعرفها في الجزء الأخير من الرواية، لكن هذه
الإشارة في حقيقتها لم يكن لها أي صلة موضوعية بالسرد الذي كان يرويه ابن خلدون،
كما أنه لم يبن على هذه الملاحظة شيئا، ولم يحاول الربط بين مؤخرة المرأة المجروحة
وما جاء فيما بعد في المتن السردي الروائي، كما أن ابن خلدون لم يلحظ هذا الجرح من
قبل أثناء مضاجعته للمرأة، ولم يتأمله، ولم يذكره، وكل ما هنالك أنه ألقى هذه
الجملة فجأة ثم نساها تماما، أي أن المؤلف ذكر هذه الملاحظة لأنه فقط يريد أن
يذكرها من دون إضافة أو قيمة لما بين أيدينا سوى أنه يحمل في ذهنه حكاية أخرى
سنعرفها فيما بعد، وهذا دليل على الافتعال والصنعة تبعد بالسرد كثيرا عن العفوية
والانسيابية.
كما أن الجزء الأول من
الرواية لم تكن فيه ثمة وحدة عضوية أو سردية من الممكن أن تجمعه مع بعضه البعض، بل
هي مجرد شذرات سردية تقف كل منها كوحدة مستقلة بنفسها عما يأتي قبلها أو بعدها.
نلاحظ ذلك في أن الحكاية الأولى التي تخص الخروبة والثعبان لا علاقة لها برحلة ابن
خلدون وإن كان من الممكن أن نجمعهما معا باعتبارهما عالمين أسطوريين، لكن حينما
نقرأ "ما أشد حماقة من يموت بالحمى" وهي الحكاية الثالثة في الجزء الأول
سنلاحظ أنها لا علاقة لها إطلاقا بما قبلها أو بعدها في هذا الجزء، وهو ما ينطبق
على حكاية "رؤى" التي لم يكن لها أي علاقة بالنص الروائي بالكامل، ولم يعمل
الروائي على الاستفادة منها فيما بعد وكأن الروائي يرغب فقط في استعراض مجموعة من
الحكايات المتناثرة التي لا تربطها ببعضها البعض أي وحدة عضوية أو سردية. ولعلنا
نلاحظ في الحكاية الأخيرة "في ذكر سيدة الروتند" أنها جاءت بشكل مُسبق
لاسيما أننا لن نعلم أي شيء عن سيدة الروتند هذه إلا في نهاية الرواية، أي أن
الروائي يحاول أن يفتعل وحدة سردية وعضوية في الرواية بذكر حكايات وشذرات من
الحكايات التي لا علاقة لها بالسياق الذي يحكي فيه؛ فيذكرها من دون مناسبة في
بداية الرواية ليعود إليها مرة أخرى في نهايتها ظانا أنه بذلك قد ربط الرواية ذات
العوالم المنفصلة عن بعضها البعض، في حين أنه لم يفعل أكثر من زيادة القارئ حيرة
وتساؤلا وارتباكا فقط.
نلاحظ أيضا أن الرياحي حريص
على تعدد الأصوات أو الرواة داخل روايته، ولعل تعدد الرواة من التقنيات السردية
التي نعيها جيدا في السرد الروائي وهناك الكثير من الروايات التي بنيت على تعدد
الأصوات، لكن المشكلة الحقيقية والمربكة في رواية الرياحي المتعددة الأصوات أنه لم
يكن يحرص على تحديد الصوت الذي يتحدث ومن ثم يتركنا في حيرة ومحاولة إعادة القراءة
غير مرة لنعرف من هو الذي يسرد الحدث، ففي الجزء الأول مثلا "في ذكر
الخروبة" كان هو الراوي الأساس"، و"في ذكر المخاخ" نجد نفس
الراوي، لكن في "ما أشد حماقة.." هناك راو مجهول لم نعرفه، وفي
"رؤى" لا نعرف ما علاقتها بالنص وهناك راو خارجي عليم لا نعرفه أيضا،
وفي "ذكر سيدة الروتيند" لم نفهم من هو الراوي كما أنه استباق شديد
البعد ومبالغ فيه للحدث الذي سنقرأه في نهاية الرواية.
هذه الأصوات المتعددة التي لا
يحرص الروائي على سوق بعض الإشارات القليلة إلى أصحابها إلا في نهايات السرد تجعل
السرد مقلقا ومبهما بالنسبة للقارئ، اللهم إلا إذا كان الروائي يظن أن الإبهام
وتحير القارئ هو دليل الجودة في الكتابة.
ينتقل الرياحي إلى الجزء
الثاني من روايته الذي يعمل على تقسيمه إلى العديد من الحكايات أيضا وإن كان في
هذا الجزء يحيلنا إلى عالم مختلف تماما عن عالمه الذي رأيناه في الجزء الأول، فنرى
هنا عالم المهمشين والمدقعين والمتسولين والمجرمين واللصوص والداعرات؛ مما يجعلنا
نتساءل: ما علاقة هذا العالم المستقل بذاته تماما بالعالم الأسطوري السابق له؟
يبدو لنا الأمر وكأن الروائي قد انتقل إلى فكرة أخرى وعالم آخر يبني من خلاله
رواية جديدة لا علاقة لها بما سبقها، أي أننا هنا أمام روايتين مختلفتين وإن كان
الرياحي سيحاول أن يربط بين الأولى والأخيرة بعض الربط من خلال بعض الإشارات
البسيطة كي لا ينفرط منه عقد العالمين ويصبح كل عالم منهما مستقلا بنفسه.
في هذا الجزء من الرواية يظهر
لنا قاع المجتمع التونسي من خلال شخصيات سعيد النيفرو، وبولحية، وحمزة الثابتة،
وشورّب وغيرهم من الشخصيات الهامشية مثل بودبرة، كما يحرص الروائي على تقسيم هذا
الجزء إلى مجموعة من الحكايات المعنونة وإن كانت أكثر ارتباطا ببعضها البعض خلافا
للحكايات الأولى التي كانت تبدو وكأنها وحدات منفصلة تستقل كل واحدة منها بنفسها؛
فنرى: "قصة الجرح والمرأة التي أكلناها في.." وهي الحكاية التي يتحدث
فيها عن النيفرو الذي يشق شورّب وجهه بالموس بعد اكتشافه أنه كان يخادعهم ويطعمهم
من طعام مقبرة "الجلاز"، ولكن بولحية صديقهم الثالث الذي يشاركهم في
السكن والذي يكتب الكثير من القصص والذي سنعرف فيما بعد أنه الذي يتخيل جلوسه مع
ابن خلدون ويكتب عنه القصص الأسطورية حتى بات يصدق ما يكتبه باعتباره واقعا. نقول
أن بولحية ينقذ النفرو من الموت ويأخذه لسكنى إحدى الشقق في وسط تونس العاصمة وهي
الشقة التي تخص شخصية نور كما سنعرف في الجزء الأخير، ويسرد لنا الرياحي رحلة النيفرو
وبولحية في أتوبيس نقل عام بعد منتصف الليل ووجود داعرة في الحافلة يأكلها جميع
الركاب بعيونهم، ثم ينتقل إلى حكاية أخرى "حديث العنبرية" وهي الحكاية
التي يرويها حمزة الثابتة في جمع كبير من رواد المقهى عن شورّب ومغامراته مع
النساء، وفي الحكاية الثالثة "في ما حصل لعصافير شارع الشوارع وقصة لقائي
بالنيفرو" يحكي بولحية عن قصة لقائه بالنيفرو وسكناهم مع بعضهم البعض وكيف
انضم إليهم شورّب رغما عنهما، كما يحكي حكاية العصافير التي ماتت في شكل جماعات
والتي ذهب الناس إلى تفسيرها تفسيرات مختلفة منها أن البلدية هي من قتلت العصافير
لأنهم سيعيدون تدشين الشارع وافتتاحه ولقد تخوف المسؤول من أن تتبرز العصافير على
الكبار حين التدشين، ثم يحاول الروائي ربط الجزء الأول من الرواية بهذا الجزء
حينما يذكر "حكاية التمثال والعمامة وأخبار أخرى" حينما يعود إلى ابن
خلدون الذي امتلأت ذقنه بالقمل الكثير، وكيف أنه حينما ترك مكانه أعاده العسكر بعد
أن اعتدوا عليه بالضرب.
ربما كان الجزء الثاني من
الرواية الذي يتحدث فيه الرياحي عن عالم المهمشين صالح لرواية جديدة مستقلة تماما
عن الجزء الأول، أي أننا الآن أمام روايتين صالحتين للسرد، كل منهما مستقلة عن
الأخرى وإن كان الروائي يحاول أن يجد ثمة صلة بينهما لإيهام القارئ أنه لم يزل
يسرد رواية واحدة ولم ينتقل إلى عالم آخر جديد ومخالف. يحاول الرياحي ربط الجزء
الأول بالثاني من خلال استدعاء شخصية ابن خلدون مرة أخرى على يد بولحية الروائي
الذي يكتب القصص عن ابن خلدون ويصدقها فيقول: "ليلتها زارنا الشقي ابن
الحجاج، قال إنه ينوي السفر إلى الجنوب، قال "نداء القلم لا يقاوم، تهون
أمامه كل المصاعب وتركب لأجله كل المخاطر بما فيها "لواجات"
الموت"، وهنا يعجب النيفرو كثيرا بابن خلدون الذي يهاجر من أجل القلم
والكتابة التي يخلص لها؛ فيوضح له بولحية أنه لم يفهم شيئا: "قلت له إن ما
سمعه ليس صحيحا وأن القلم الذي كان يتحدث عنه ابن الحجاج هو قلم ما بين فخذيه وذلك
هو صاحب الواجب وصاحب النداء والمسؤولية لذلك سميته ابن الحجاج.. كان لا يمسك
بالقلم إلا ليدون أو يؤرخ لما خطه قلمه النصراني كما يسميه، سماه نصرانيا لأنه لم
يُختن كبقية المسلمين، وكان يتباهى في جلساته الماجنة بأنه يحمل أغرب أير في ديار
الإسلام، وينتفخ غرورا عندما يتذكر أن مثل ذلك الأير كان لبونابرت وموسوليني وريغن
وتشي غيفارا ورامبو ودون كيشوت"، هنا يحاول الروائي ربط الجزء الأول بالثاني
من خلال هذه الحكاية، بل هو يسخر من ابن خلدون ومن التاريخ ويُعيد كتابته بشكل
مغاير يخص الروائي نفسه، ولعل الرياحي لو كان اهتم بإعادة كتابة التاريخ بشكل ساخر
يخصه كروائي لكان أفضل له كثيرا، لكنه لم يهتم بذلك إلا في هذا المقطع فقط حينما
ذكر: "كان ابن الحجاج كلما سكر ينزل سرواله ويغرق أيره في الخمرة أمام
الجميع، كان يتوجه إليه بالحديث قائلا: "اشرب فأنت نصراني ولا حرج على أهل
الكتاب"".
يعمل الرياحي في هذا الجزء
على كشف زيف السلطات الحاكمة في تزوير التاريخ فحينما يذكر أن ابن خلدون ترك مكانه
للبحث عن كتاب: "اعترضني منذ شهر في نهج الدباغين يبحث عن كتاب بخس.. حدثني
عن كتابه الذي ملّ حمله بين كفيه. لم يكن مسليا إنما هو حكم ينفذه منذ قرون، وهمس
لي في أذني، إن ذلك الكتاب ليس كتابا.. وعندما أردت أن أستفسر عن سره وصلوا،
استلوا أحزمتهم السوداء وعصيهم البيضاء وانهالوا على المسكين جلدا أمام الخلق،
تطاير لحمه سيورا، كبلوه، طوقوا رقبته بأحد الأحزمة وجروه وراءهم مثل جاسوس عنيد.
أعادوه إلى قاعدته الصلبة. مسّكوه الكتاب اللغز، وروحلوا"، لكن في الصباح لم
يجدوا عمامة ابن خلدون على رأس التمثال وحينما أعيتهم الحيلة في البحث عنها عملت
السلطة على تزييف التاريخ لصالحها: "وجاءت صحف الصباح تحمل خبرا واحدا: تعلن
وزارة الثقافة أنه وقع التحوير في هيئة تمثال ابن خلدون المنتصب في قلب العاصمة
التونسية بعدما نظرت في تقرير لجنة علماء الآثار والتاريخ التي عثرت على ورقة
مخطوطة رجح أنها سقطت من كتاب التعريف للعلامة ابن خلدون المغربي يذكر فيها أنه لم
يضع عمامة قط فقد كان يقتدي في ترتيب هيئته بفلاسفة الإغريق واليونان...".
ربما كانت هذه المحاولة
لرواية التاريخ بشكل جديد ومغاير من أفضل وأهم المحاولات السردية التي لجأ إليها
الرياحي وهي حكاية روائية ثرية كان من الممكن أن تذهب بروايته وجهة أخرى بدلا من
حكاية المشرط أو "الشلاط" الذي يشق مؤخرات النساء، والذي لم نعرف عنه أي
شيء حتى الآن ولن يأتي ذكره إلا في نهاية الرواية، وهو ما يدل على أن بناء الرواية
يشوبه الكثير من العوار والتقصير حيث موضوعها الأساس لا يتحدث فيه الروائي إلا في
الخمسين صفحة الأخيرة منها فقط، وهذا دليل على أن البناء اختل كثيرا بين يديه.
ثمة ملاحظة نلاحظها في السرد الروائي
لدى الرياحي أيضا أنه ليس هناك التزاما بتتالي السرد، أي أن السرد والحكايات دائما
ما تأتي كيفما اتفق؛ ومن ثم نراه يخرج من حكاية إلى حكاية أخرى وإن كانت الحكايات
في النهاية حينما ننظر إليها ككل متكامل تعمل على سد العديد من الفجوات السردية
التي كنا نتساءل عنها.
في الجزء الثالث من الرواية
يبدأ الرياحي في الحديث عن الرجل الذي يشق مؤخرات نساء تونس بمشرط طبي، ولعلنا
نراه منذ الحكاية الأولى في هذا الجزء "اقتحام غرفة أرشيمبولدو" يُشير
إلى أن صديقه "نور" صاحب الشقة التي يسكن فيها بولحية والنيفرو في وسط
العاصمة هو الذي يرتكب هذه الجرائم، يشير إلى ذلك حينما يقول: "ها أنت على
دراجتك النارية الحمراء تحمل في يدك الخوذة وشعرك الطويل مبعثر على كتفك، نحيف كما
أنت دائما تأكل نفسك مع كل لوحة"، وهي نفس مواصفات المجرم التي سنعرفها فيما
بعد، كما يشير إلى ذلك مرة أخرى على لسان النيفرو وفي مذكراته حينما يقول:
"منذ مدة وأنا أتابع سيرة المؤخرة، في هذا الكم من الكتب التي تزدحم بها
مكتبة هذا الرجل الذي استولينا على بيته، لعلني أعثر على خيط يفك لي لغز هذه
القضية التي شغلت الرأي العام دون أن أظفر بشيء"، في إشارة إلى اهتمام نور
بالكتب التي تتحدث عن المؤخرات.
في هذا الجزء من الرواية يدخل
الرياحي إلى عالمه الذي يريده والذي جعل الرواية تتسمى باسمه، لكنه دخل هذا العالم
متأخرا جدا، صحيح أنه دخل هذا العالم بنفس الشخصيات التي كانت موجودة في الجزء
السابق، ليحاول الربط بين جسد الرواية ولكن حكاية الرجل الشلاط كان من الممكن لها
أن تكون أيضا رواية منفصلة عن الجزئين السابقين، أي أن الروائي كان لديه ثلاث
روايات منفصلة عن بعضها البعض حاول أن يجعل منها رواية واحدة فقط وإن خانته قدرته
السردية في ذلك كثيرا؛ فعدم الإيغال السردي في حكاية الرجل الذي يشق مؤخرات النساء
جعل منها مجرد حكاية هامشية لا أهمية لها مما لو كان عمل على التعمق والتوسع فيها
أكثر ليبني منها عالما روائيا أكثر ثراء، لكنه فضل في بناء روايته الحكايات
المبعثرة التي لا تكتمل ظنا منه أنه يعمل على شكل روائي متماسك وإن كان منفرطا في
حقيقته.
الروائي التونسي كمال الرياحي |
يقول الرياحي في الجزء الخاص
بمذكرات النيفرو: "البارحة سقط الحرز من عنقي في فتحة المرحاض، فأصابتني حالة
من الرعب، أغرقته بالماء وعدت إلى سريري. بدأت أشعر بقشعريرة ثم رعدة شديدة، فجعلت
أتدثر بالبطاطين والفرش ونمت أصارع حمى ثقيلة ألمت بي فجأة، عندما تذكرت غوتة وهو
يقول: "ما أشد حماقة من يموت بالحمى"، عبارة كنت قد قرأتها في ورقة رمى
بها بولحية في كيس قمامة، نهضت وغطست في كتبي فنسيت"، من خلال هذا المقطع من
الممكن لنا أن نفهم ما جاء في الجزء الأول من الرواية في الحكاية التي لم نفهمها
والتي كانت بعنوان "ما أشد حماقة من يموت بالحمى"، ولكن مثل هذا الشكل
من السرد المتبعثر والمتناثر فيه دلالة قوية على أن الكاتب مهووس بالشكل أكثر من
اهتمامه بالسرد والمضمون وكأنه يصنع الكتابة بشكل متعمد فيه الكثير من التصنع، وهو
ما جعله ينثر حكاياته تقديما وتأخيرا اعتماد على الشكل الروائي أكثر من اهتمامه
بالمضمون الذي اختل كثيرا أمام القارئ، وهو ما نراه أيضا حينما يقول بولحية:
"كان توقف عن نشر قصصي منذ أن اتصل به رجل مهم يحتج على ما جاء في قصة
"سيدة الروتند" التي نشرتها الجريدة في ملحقها الثقافي الأسبوعي"،
وهو ما سيعيدنا مرة أخرى إلى الجزء الأول الذي لم نفهم فيه ما علاقة قصة سيدة
الروتند بهذا الجزء، إلا أن الرياحي كان يبعثر حكاياته هنا وهناك كيفما اتفق، وكأن
اكتشافنا فيما بعد الغرض من ذلك بمثابة التجديد في البناء الروائي.
هنا في هذا الجزء يتحدث
الرياحي عن الدفترين اللذين جعلهما في أول صفحة مجهولين بينما نراهما الآن معروفي
الهوية مما يدل على خلل في البناء، وهو ما نراه مرة أخرى أيضا لدى شخصيتي بولحية
والنيفرو؛ فثمة خلط كبير بين الشخصيتين حتى أن الروائي يجعل النيفرو مرة ابن الرجل
الذي قتلت زوجته بسبب الخروبة، ومرة أخرى يجعل بولحية هو ابن هذا الرجل؛ الأمر
الذي يوقع القارئ في حيرة حينما نحاول رد كل واحد منهما إلى أصله؛ ففي مذكرات
النيفرو التي كانت بعنوان من كراسة النيفرو نقرأ: "حدث لي مثل هذا عندما
أقدمت يوما على فتح ذلك الحرز الذي علقته لي أمي منذ أيام طفولتي الأولى، في الحقيقة
لا أذكر متى علقته في رقبتي بالضبط، ربما عندما كنت في الخامسة أو السادسة. لكني
ما زلت أذكر بعض ذلك الكلام الغريب الذي قرأته حين فضضته وأنا في الخامسة عشر تحت
شجرة الخروب، خروبتنا الكبيرة التي كانت تحتضن الدار"، من خلال هذا الكلام
الذي نقرأه في دفتر النيفرو يتأكد لنا أن النيفرو هو ابن الرجل الذي كان يطلق على
الخروبة اسم "الأم" وهي الخروبة التي هدمت الدار بعد أن قتلت أمه
الثعبان، في حين أن الروائي يذكر أن النيفرو له أم في القرية يبعث لها بالمال الذي
يعمل به، كما أنها أرسلت له أنها قد تزوجت وباعت الأرض وأرسلت له نصيبه.
وفي موقف آخر يذكر الرياحي:
"بولحية مثلا أقواله متضاربة بشكل غريب، مرة قال لي إن والده مات مع أمه بعد
أن تهدم بيتهم عندما سقطت عليهم شجرة الخروب"، وفي موقف آخر يذكر ما جاء في
كراسة بولحية فيكتب: "كم هي مظلمة تلك الشهور التي قضيناها مع ذلك الوحش الذي
اقتحم بيتنا بالقوة. عندما أتذكره اليوم أتذكر ذلك الثعبان الذي احتل بيت طفولتي
وجعلني وعائلتي نبيت في اسطبل البهائم، كان الثعبان يتجول طول الوقت بين أعمدة
السقف كأنما هو المالك ونحن الضيوف الثقلاء" وهذا ما يؤكد أن بولحية هو ابن
هذه الحكاية، أي أن الرياحي يسقط هنا في الخلط بين الشخصيات وينسب الحدث الواحد
للشخصيتين مما يؤدي إلى اختلال التركيز عند القارئ وعدم القدرة على الفهم، لاسيما
وأنه هنا لا يعتمد على أي حيلة فنية في مثل هذا الخلط أي أنه ليس خلطا سرديا
متعمدا بل وقع فيه الروائي ولم ينتبه إليه.
ثمة أخطاء أسلوبية يقع فيها
كمال الرياحي في روايته منها قوله: "في ليلة شتوية، كنا نسهر على وقع المطر
وزفير الريح القادمة من أتون الجحيم"، فالريح هنا لا يمكن لها أن تأتي من
أتون الجحيم بعدما ذكر أنها ليلة شتوية وفيها الكثير من البرد والمطر؛ فصلة التشبيه
بالمشبه به هنا منبته ولا يمكن أن يستقيم بها المعنى الذي يريد إيصاله للقاريء،
كما يقول في مقطع آخر: "أنا الآن مثل بعوضة. مثل حشرة بلا وجه تلحس مؤخرتها
في غفلة من رواد معرض الكتاب"، فالتشبيه هنا غير مفهوم مما يجعلنا نتساءل ما
علاقة الحشرة التي تلحس مؤخرتها بمعرض الكتاب، وما هو وجه الشبه هنا، وإلام يريد
الكاتب أن يصل بالمعنى إلى ذهن القارئ الذي سيتوقف أمام العبارة غير قادر على
فهمها أو استيعابها؟!
كما أن كلمة بُرنس لا يمكن
جمعها على برانيس، بل على برانس، وقوله: "قالت ذلك وهي ترمي بكفها إلى دغل
صاحبتها التي صاحت تلذذا. تعانقا وتعالقا كحيتين ركبهما الشيطان"، فالصحيح
هنا بما أنه يتحدث عن مثنى مؤنث هو تعانقتا وتعالقتا كحيتين، كما أن تاريخ
الصلاحية لا يمكن أن نكتبها "تاريخ الصلوحية"، هذا فضلا عن ذكر بعض
المعلومات التي لا يستفيد منها السرد الروائي بل هو يلقيها كيفما اتفق له لأنها
وجدت في نفسه قبولا فقط حينما كتب في الجزء الأول عن أمة المنافيخ: "يمشون
محركين مؤخراتهم بشكل غريب [عرفت بعد ذلك أنهم جميعا مصابون بداء الزهري]"،
فالمعلومة التي ذكرها بين قوسين وهي إصابتهم بداء الزهري لم نفهم لم حرص على
ذكرها، ومن المعروف في السرد الروائي أن أي معلومة من الممكن ذكرها فيه لابد أن
تكون مفيدة في السرد لأن الروائي سيستغلها فيما بعد ويبني عليها، لكنا فوجئنا
بالرياحي يذكر هذه المعلومة التي بدت لنا مهمة لاسيما وضعها بين علامتين، لكنه لم
يعد لها مرة أخرى وكأنه نساها تماما، أو كأنها لم تكن.
رواية المشرط للروائي التونسي
كمال الرياحي هي مجرد مسودة واحدة لثلاث روايات مختلفة حاول الروائي أن يجعل منها
رواية واحدة ولكن البناء السردي الروائي جاء مجوفا ومتشظيا ومفككا، وبدت كل رواية
من الروايات الثلاث منبتة الصلة عن الرواية الأخرى رغم محاولات الكاتب لرأب الصدع
بين الروايات وجعلهم رواية واحدة لكنه لم ينجح في ذلك.
محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب.
عدد سبتمبر 2019م.
لم اقرأ الرواية المذكورة لكني فهمت ملاظات الغيطاني جيدا لانه توسع بشكل موضوعي وايجابي في" شرح الرواية " وقرائتها يطريقةته.
ردحذفبالتالي سأكتب بحذر عن السرد الروائي الذي ناقشه الغيطاني و ليس عن السرد في الرواية اي ما كتبه الكاتب . ارى ان هناك التباسا من الكاتب يقع فيه معظم الكتاب - وانا منهم- كما حدث لي في رواية "مزاج التماسيح " وهي رواية داخل رواية و معروفه هذه التقنية من زمن لكني تعاملت معها "تقية " حيث كنت اسجل بشكل روائي الصراع الطائفي في مصر ايامها .. لكن تقنيتي كانت ضعيفة ولم اكن متمكنا منها فالتبس الامر على القراء و هم محقون في هذا .. بالتالي يجب ان يكون السرد مهما كانت دوافع تقنيته واضحا "لعامة " القراء و ما اكثرهم و ما اهمهم ايضا .. ثانيا التزام اي كاتب ببعض القواعد السردية التي ذكر بعضها الغيطاني مثل وحدة الموضوع خاصة اذا ما اراد الكاتب ان " يلعب " بالزمن . لكن بالطبع لا يهمه و حدة الزمان او المكان لان هاتين الوحدتين متعلقتان بالمسرح القديم حتى ذلك الشكسبيري وحطم الوحدات المسرح التجريدي لبيكيت و ايونسكو..