إن فكرة الانتظار في حد ذاتها هي فكرة قاتلة لمن يقوم بها، لا سيما إذا استحوذت على حياته وظل الشخص المُنتظر لها يدور في فلك تلك الفكرة فقط خارجا من إطار الحياة الواقعية والطبيعية إلى الخيال وما سيحدث في المستقبل من أمور قد تحدث كما تخيلها الشخص، أو لا تحدث مطلقا؛ ليظل الأمر مجرد خيال لصاحبه، لكنه لم يتحقق.
لكن المشكلة الحقيقية هي إذا لم يتحقق الشيء المُنتظر الذي أسس من ينتظره- بناء على انتظاره- حياة كاملة، ومشاعر، وأحداث، وأحاسيس؛ حينها قد يتحول كل هذا الانتظار والخيال الذي عاش فيه إلى كابوس حقيقي ربما أدى به إلى الحياة داخل الوهم والخيال، ومن ثم يخرج من إطار حياتنا الواقعية إلى حياة أخرى تخصه فقط ويعيش فيها وحده؛ فيرى ما لا نراه، ويشعر بما لا نشعر به.
هذه الفكرة القاسية- الانتظار المضفر بالخيال الخصب لما سيحدث في المستقبل- كانت هي الفكرة الرئيسة المُسيطرة على العالم الروائي في رواية "العطر الفرنسي" للروائي السوداني أمير تاج السر؛ حيث يؤدي هذا الانتظار إلى انهيار عالم قائم حقيقي وواقعي، وقيام عالم آخر مفترض وغير حقيقي وإن كان قد سيطر على صاحبه وجذبه إليه من عالمه المحيط ليعيش فيه وحده مصدقا إياه.
نلاحظ من خلال قراءة رواية تاج السر أنها رواية لا تخرج عن الشكل الكلاسيكي للرواية العربية، فلا ألعاب سردية، ولا تجديد في بنية النص، بل هي رواية تبدأ من حدث ما، ثم لا تلبث أن تقدم لنا شخصياتها المتعددة الكثيرة وتعرفنا بهم من أبناء الحي، وتظل تسير في طريقها إلى النهاية- غير المنتظرة- في شكل هو الأقرب إلى السرد الكلاسيكي القديم الذي لا يعيبها بشكل فني؛ حيث كان الروائي واعيا تماما لما يكتبه ممسكا بتلابيب السرد التي مكنته من الوصول إلى النهاية بشكل فيه الكثير من الفنية ما يمنع من السقوط في المباشرة أو الترهلات والزوائد السردية التي قد نراها كثيرا في النصوص التي تعتمد الأشكال الكلاسيكية في السرد.
ربما كان يقين تاج السر بأنه يكتب شكلا كلاسيكيا في الرواية هو ما جعله حريصا على صياغة العديد من الحكايات المدهشة عن شخصيات العمل الروائي؛ الأمر الذي يزيد الشكل طرافة ويجذب انتباه القارئ إلى هذه الشخصيات التي تحدث في حياتها أمور ليست بالمعهودة أو الطبيعية، كما نجح في سوق هذه الحكايات المدهشة عن شخصياته بشكل أقرب إلى التقريرية وكأنه يحكي أمرا عاديا، وإن كانت هذه التقريرية التي تبدو لنا ظاهريا هكذا تحتوي في داخلها الكثير من الدهشة التي لا بد لها من أن توقف القارئ ليتأملها بإعجاب، ومن ثم يكوّن وجهة نظر عن صاحب هذه الشخصية الطريفة المدهشة.
نرى هذه الحكايات المثيرة للدهشة في: "كانت السادسة صباحا، في الواقع، ساعة غريبة، تلك التي اختارها حكيم النبوي لتكون وقتا لاجتماعات مكثفة ستجرى في بيته باستمرار، بعد أن انتهك جرجار قيلولته المقدسة، وأخبره بخبر الفرنسية القادمة للسكنى في حي غائب. إنها الساعة التي حدثت فيها ثورات عظيمة، وانقلابات عسكرية طائشة أيضا. الساعة التي تصفو فيها الأذهان حتى من جريرة التذكر.. الساعة التي يشاهد فيها موسى خاطر، الذي كان يعمل في إحدى الدوائر الأمنية ويتخذ الحي مادة لتقاريره اليومية، راكضا في الأزقة والحفر، في رياضة عنيفة تلهيه عن قراءة النصوص المكتوبة والمسموعة، والمرسومة على الوجوه. والساعة التي انتحر فيها الرومانسي الرقيق طه أيوب، منذ أكثر من سبع سنوات حين اكتشف فجأة أن عرق الأنثى لا يختلف أبدا عن عرق الذكر في جميع مراحل تكوينه وتصببه على الأجساد".
في هذا الاقتباس نلحظ أن أمير تاج السر يحاول إثارة دهشة القارئ من خلال بعض الأحداث؛ فحكيم النبوي حينما يذهب إليه علي جرجار في ساعة القيلولة مخبرا إياه بأمر الزائرة الفرنسية، يخبره النبوي أن يجمع الآخرين من أجل اجتماع يناقشون فيه الأمر في السادسة صباحا، وهنا نرى الروائي يتحدث عن توقيت السادسة صباحا باعتباره توقيتا كونيا حدثت فيه الكثير من الأحداث المهمة في العالم، لكن الدهشة الفنية الحقيقية حينما يذكر الرومانسي الرقيق طه أيوب الذي انتحر "حين اكتشف فجأة أن عرق الأنثى لا يختلف أبدا عن عرق الذكر في جميع مراحل تكوينه وتصببه على الأجساد". هنا يعمل الروائي على التأصيل لشخصياته الروائية بشكل مدهش غير مُنتظر من القارئ، لكن التساؤل هنا: إذا كان الروائي تاج السر يرى أن هذه الدهشة لا بد منها فنيا- وهذا حقيقي- للإحاطة بشخصياته الروائية، فلماذا لم يعمل على تنمية هذه الشخصيات روائيا لتخدم العمل الفني بشكل أكثر فنية؟
إن وجود شخصية ترى أن اختلاف عرق المرأة عن عرق الرجل أمر جدير بأن تنتحر من أجله، كان من الحري بها أن تدفع الروائي إلى المزيد من الحكايات عن هذه الشخصية، أو العمل على تنميتها روائيا، أو أن يكون لها أي دور مؤثر في هذا العمل الفني. لكن أن يذكر الروائي هذه الشخصية في هذا المقطع فقط ثم يتناساها تماما ولا يذكرها مرة أخرى في روايته جعلها مجرد شخصية معلقة في الفراغ كنا في حاجة إلى المزيد عنها أو عدم ذكرها في الرواية مطلقا؛ لأنها لم تُفد أكثر من جذب انتباه القارئ لها جاعلة إياه منتظرا المزيد عنها، وهو ما لم يحدث على طول الرواية.
هذه الدهشة أو الحكايات الغرائبية عن شخصياته الروائية رأيناها في العديد من المقاطع التي حرص عليها تاج السر لتأسيس عالمه الروائي منذ البداية فنقرأ: "تعيس الذي كان اسمه شاكر، واكتسب ذلك الاسم لأنه الوحيد الذي لم يذق ماء زمزم حين أرسله إلى الحي أحد المحسنين واصطف الناس طوابير شرهة ومجنونة لتذوقه أو الاغتسال به"، كما نقرأه في: "فجأة اخترق وقفتنا الأمني موسى خاطر، سمعنا ضجيج دراجته النارية ساخنا، ثم جهازه اللاسلكي، يحكي شفرة عن صيادين سكارى يحلبون تيسا بستة قرون، وعنزة ذات أجنحة سوداء تطير وتحط، ونهر صغير بدأ يتحول إلى بحر".
من خلال هذه المقاطع السردية في بداية رواية "العطر الفرنسي" نلحظ أن الروائي يحاول أن يحيط شخصياته بعالم غرائبي يخص هذه الشخصيات؛ فيكسبها من الثراء الروائي والفني الكثير مما يجعل القارئ منتبها تماما منذ بداية السرد حتى نهايته مع هذه الشخصيات الفقيرة ماديا غير الطبيعية فيما يحدث لها.
يبني الروائي روايته من خلال فصلين رئيسيين، الأول الذي لا يتعدى 14 صفحة بعنوان "حين يأتي خبر ما"، وهو الفصل التأسيسي للعمل الروائي؛ حيث جاء السرد من خلال الضمير الثالث- ضمير الغائب- ونراه من خلال هذا الفصل حريصا على تقديم جميع شخصيات الرواية وما يحيط بهم من أساطير وحكايات، مضفورة في الخبر الذي جاء إلى مبنى المحافظة ويخبر به "مبروك" المسؤول الحكومي على جرجار، فيقول له: "ستأتي الفرنسية كاتيا كادويلي في الأيام القادمة، للإقامة معكم في الحي فترة من الوقت، ضمن دراسة عالمية.. استضيفوها في أي مكان بينكم، وعيشوا حياتكم كما هي".
هذا الخبر المقتضب الذي أخبر به المسؤول الحكومي علي جرجار يمسى صلب الرواية ولبها حتى نهايتها، وهنا يبدأ خيال علي جرجار الخصب في العمل: كيف سيخبر أهل الحي الشديد الفقر بالخبر؟ وما هي البهارات اللازمة كي يضيفها إلى الخبر؟ وكيف سيتقبل أهل الحي هذا الخبر؟ وبالفعل يضيف جرجار بعض التوابل إلى الخبر من خلال خياله الخصب لتكون صيغته النهائية هي: "ستزورنا في القريب العاجل، النجمة الفرنسية كاتيا كادويلي، لتجرب الحياة الشعبية وسطنا، وذلك بخصوص مشروع عالمي كبير يخص الدعاية والإعلان تقوم بالمشاركة فيه، ثم تعود بعد ذلك إلى بلادها، وتذكرنا بالخير. كانت عبارة "تذكرنا بالخير" قد جاءت بعد نحت شديد للذهن وليست مصادفة، إنها تعني أشياء عديدة مهمة مثل أن تجعلنا مشاهير في العالم كله بتوثيقنا في شريط تسجيلي.. ترسل لنا المال اللازم لتطوير الحي ودفن بالوعاته وحفره.. تعتني بكلابنا وقططنا الضالة. تطلب بعضنا للهجرة والإقامة معها في باريس، وربما تحب أحدنا بجنون، وتعرض عليه الزواج. كانت "تحب أحدنا بجنون، وتعرض عليه الزواج" بالذات تخصه هو شخصيا من دون سائر سكان الحي، فقد كان علي جرجار برغم وصوله لسن تسمح لـ"تنقو" بائع الآيس كريم، وعمر الحلاق، وصليحة الممرضة في المستشفى، أن ينادوه يا جدي، ما يزال مقتنعا بأنه صاحب جاذبية لا تقاوم، ويمكن أن يكون العريس المناسب، حتى لرقية الطالبة في الصف الثالث الابتدائي.. وبنات صفها كلهن".
إذن فمن خلال هذا الفصل التأسيسي يحرص الروائي على تقديم لب الحكاية وهيكلها، بل وجميع الشخصيات داخلها، وإن كان يؤخذ عليه ذكر العديد من الشخصيات التي تم ذكرها فقط في الفصل الأول ولم يعد إليها مرة أخرى ليحاول تنمية هذه الشخصيات فنيا وروائيا، فإذا كان قد ذكر من قبل طه أيوب الذي انتحر حينما عرف حقيقة عرق المرأة، فهو قد ذكر أيضا "تنقو" بائع الآيس كريم، وعمر الحلاق، وصليحة الممرضة في المستشفى الذين لم يعد إليهم مرة أخرى ولم نعرف عنهم أي شيء آخر، وهذا ليس في صالح الأعمال الروائية؛ لأن الشخصية التي يذكرها الروائي في عمله إذا لم يكن لها أي أهمية كي يبني عليها فيما بعد تُعد نبوا ونتوءا في العمل الروائي لا معنى، ولا داعي لوجودها أساسا، وهو عيب فني في بناء العمل الروائي.
بعد هذ الفصل مباشرة يبدأ الفصل الثاني من الرواية وهو الفصل الأخير المستمر معنا في السرد حتى النهاية بعنوان "القصة بلسان علي جرجار"، أي أن الرواية تنبني على فصلين فقط وصوتين مختلفين، الصوت الأول وهو ضمير الغائب، والصوت الثاني وهو ضمير المتكلم على لسان علي جرجار حتى نهاية السرد. لكن إذا ما تأملنا الرواية جيدا لوجدنا أن وجود الفصل الأول الذي ورد بضمير الغائب لم يكن هناك أي ضرورة فنية له كي يأتي بهذا الضمير؛ لأن علي جرجار نفسه كان من الممكن له أن يروي هذا الفصل الذي تم فيه تقديم الحكاية والشخصيات الروائية على لسانه من دون أن يكون هناك أي مشكلة فنية، لكن تاج السر رأى أنه لا بد أن يأتي بهذا الفصل بضمير مختلف لرغبة ما منه غير مفهومة لنا، وإن لم تضر السرد الفني.
يبدأ الحي بالكامل في تجهيز نفسه وانتظار الضيفة الفرنسية بناء على رواية علي جرجار؛ ومن ثم تقوم العديد من المحلات ومنها محل البقالة الرئيسي في الحي بتغيير اسمه إلى اسم كاتيا، بل ويشتري العديد من البضائع التي لا رواج لها في حي غائب ظنا منه أن كاتيا الفرنسية حينما ستأتي ستطلب هذه البضائع التي منها الفوط الصحية التي لا تستخدمها نساء الحي الفقيرات ولا يعرفن عنها شيئا، ويظل جرجار يتخيلها طول الوقت ويرى أنه سيروق لها، بل ويبدأ في تخيل الحكايات التي ستحدث بينهما. يعود جرجار غير مرة إلى مبروك المسؤول الحكومي ليسأله عن تأخر وصول كاتيا، إلا أن مبروك يخبره في كل مرة أن أحد حكماء الدول الإفريقية قد وجه لها دعوة ولبت دعوته؛ الأمر الذي يجعل جرجار يسب كل حكماء الدول الإفريقية الذين يصرون على دعوتها دعوات متتالية تجعلها تتأخر في الوصول إلى حي غائب المنتظر لها، والذي جهز أهله أنفسهم لاستقبال هذه الفرنسية، حيث ستنزل ضيفة في إحدى غرف بيت قارئة الكف حليمة المرضعة.
يؤكد تاج السر من خلال سرده الروائي وبشكل لا مباشرة فيه ومتناسب مع الحدث أن السلطة السياسية كثيرا ما تكون حريصة على إطلاق الشائعات بين المواطنين لأغراض تخصها هي وتعضد من مكاسبها السياسية غير مهتمة في ذلك بالبلبلة التي من الممكن أن تسببها بهذه الشائعات؛ لذلك حينما يموت الأستاذ حكيم النبوي الذي كان هو البوق الأول والأخير لنشر الأخبار داخل حي غائب نرى مبروك المسؤول الحكومي يقول لجرجار: "ومن تظنه مناسبا ليخلفه في تأصيل الإشاعات ونشرها في الحي؟ ابتسمتُ، لكن الحكومي لم يبتسم أو يغير تعابير وجهه، وفي لحظة استغراب شديد تملكتني أخبرني بأن تأصيل الإشاعات ونشرها في الأحياء الفقيرة، مهنة رسمية لدى الدولة، وأن النبوي كان يتلقى راتبا شهريا على ذلك، النبوي ينشرها، وموسى يكتبها تقارير.. وبقية الأجهزة تتصفح التقارير لإجراء اللازم، هل فهمت يا جرجار؟ أنا أخبرك بذلك لأنك صديق.. هل تفهم؟". أي أن بقاء السلطات السياسية معظم الوقت رهين للشائعات التي تطلقها بين المواطنين والفقراء والجهلاء والعوام؛ ومن ثم تكتسب هذه السلطات الفاسدة شرعية وجودها من خلال هذه الشائعات ومن يساعدها من المواطنين الفاسدين الذين يتلقون على هذا العمل راتبا شهريا، ولكن رغم هذه الصداقة الكاذبة التي يدعيها المسؤول الحكومي، مبروك، نراها تختفي تماما ويحاول التنكر منها حينما يتغير الحال ويصبح وزيرا لشؤون الأقليات رغم عدم أحقيته لذلك: "لم يكن ذلك أمرا مستبعدا بالنسبة لمبروك، ولا لأي شخص آخر في بلد أصبح فيها زكريا حنقة ناظر محطة السكة الحديد وزيرا للمواصلات، وكردي الذي كان مشردا يشم البنزين في محطات تموين السيارات، وينام في الأزقة، رائدا بجهاز الأمن العام، والممثل الفكاهي فتحي فتاح سفيرا للبلاد في إحدى دول أمريكا اللاتينية".
إذن فالفساد السياسي يضرب بعمق في السودان، وهذا ما جعل مبروك يتبرأ من معرفته بجرجار حينما يصبح وزيرا لا يناسبه أن يعرف شخصا فقيرا من حي غائب: "قلت لهم: أنا علي جرجار صاحب صيحة التخيل الشهيرة التي يعرفها أي شخص. فلم يعن لهم ذلك شيئا. قلت: أنا صديق الوزير مبروك ويتوقع أن أزوره اليوم، فابتسم أحدهم قائلا: صديقه قبل أم بعد؟ وما الفرق؟ الفرق كبير جدا.. قبل تعني ماضيا سيندفن عميقا، وبعد تعني مصلحة ستتم بين الطرفين لاحقا. هل فهمت؟ وكان صادقا في حديثه، لأنني رابطت أمام مبنى المحافظة حتى خف الضجيج كله، وخرج مبروك برفقة حارسين من ذات شركة لا مخاطر، يضعانه في وسطهما ويتلفتان حولهما في حذر، صحت: مبروك.. مبروك.. سعادة الوزير.. أنا علي جرجار، لكن الوزير لم يلتفت، وكان وجهه منتفخا بعض الشيء، في عينيه طرب ما، وهاتفه المحمول يرن بلا انقطاع في جيبه من دون أن يمد يده ليسكته". هذا هو شكل العلاقات مع السلطة والتي يعمل تاج السر على التعرض إليها بشكل فيه الكثير من الفنية بحيث يكون متسقا مع الحكاية الرئيسية وليس من خلال سرد أو إشارة مباشرة.
ربما نندهش قليلا أو كثيرا من موقف مبروك الذي جابه جرجار به بعدما أصبح وزيرا لا سيما أن جرجار كان مقربا بشكل كبير منه، بل وكان جرجار من الأشخاص القلائل جدا الذين دخلوا "المخزن"، أو الغرفة الخاصة والخفية التي تخص مبروك والموجودة في مكتبة بشكل لا يعرف عنها أحد شيئا: "لمحت عبر الباب نصف المفتوح للخزانة الخشبية، ما بدا لي معرضا نسائيا ممتلئا بالشبق حتى القاع. ثمة قمصان نوم حمراء وزرقاء وبنفسجية، حمالات صدر منتفخة كأنها تحتوي صدورا يانعة، وتفاصيل أخرى لم أحدد معالمها جيدا، لكنني تخيلتها بجدارة. انهزمت في الدومينو خمس مرات وخرجت، وقد صغر الوطن في عيني". يؤكد الروائي أن هذا هو حال السلطات السياسية الفاسدة التي تنتقي الأشخاص لمرحلة زمنية محددة فقط كي تستفيد من خدماتها لهم ثم سرعان ما تلقي بهم إلى أقرب سلة للقمامة متنكرة لهم وكأنها لا تعرفهم مهما عرف عنهم هؤلاء الأشخاص من أسرار؛ فهي لا تهتم لأن أرواحهم في النهاية بيدها هي فقط.
هذه الأمراض الاجتماعية التي تغص بها المجتمعات الفقيرة يحرص الروائي على سوقها بشكل روائي جيد حينما يتعرض لميخا المسيحي ابن حي غائب الذي رفض الهجرة مع أسرته إلى أستراليا، بل وبصق على أوراق الهجرة في السفارة الأسترالية؛ الأمر الذي جعله ممنوعا من دخول الأراضي الأسترالية للأبد؛ لأنه لا يريد أن يترك تاريخه وذكرياته التي عاش من أجلها ويذهب إلى أراض أخرى لا يعرف عنها شيئا ولا تاريخ يربطه بها، ولكن حينما زالت الذكريات والأماكن تماما زال معها تاريخ ميخا الذي بدأ يبحث عن أي فرصة للهجرة؛ لذلك يذهب إلى جرجار ويرجوه أن يتوسط له عند كاتيا حينما تأتي كي تساعده في الهجرة إلى فرنسا، ويجعل تعيس يحدث جرجار باسمه: "يريدك أن تقدمه إلى الفرنسية كاتيا كادويلي حين تأتي إلى الحي.. يريد الهجرة إلى فرنسا.. سيكمل تعلمه آلة الأورج ويصبح عازفا محترفا.. وقاطعته مستغربا، وملتفتا إلى القبطي الذي احمرت إحدى عينيه فجأة، وبدأت قدمه الأخرى تشارك في الاهتزاز: وقبر أبيك ميخائيل دقندس؟ ومقهى روماني اللذيذ؟ وكنيسة العذراء التي شاركت في طلائها؟ وشيخوخة الأب مكارس؟ حدثت تطورات يا أخي. رد القبطي في توتر. تطورات؟ نعم، تطورات كثيرة.. قبر أبي، أزاله السيل الأخير ولم أعثر عليه أبدا.. مقهى روماني اشتراه أحد المستثمرين الأجانب، سيحولونه إلى مصرف إسلامي.. كنيسة العذراء رُفع عنها الدعم البابوي مؤخرا بسبب سوء حالتها.. وغالبا ستهدم هذا العام. والأب مكارس؟ مات بالأمس".
من خلال هذا الاقتباس يؤكد الروائي أن زوال التاريخ أو الذكريات يكون سببا رئيسا في تغيير طريقة التفكير؛ ومن ثم رغب ميخا- الرافض للهجرة- في أن يهاجر إلى فرنسا من خلال الفرنسية المنتظر قدومها. لكن لعلنا نلاحظ أن الروائي أمير تاج السر قد وقع في خطأ كثيرا ما يقع فيه الآخرون حينما يطلقون على المسيحي أو النصراني مفردة "قبطي" التي هي في حقيقة أمرها تخص المصريين القدامى، أو السكان الأصليين لمصر. والقبطي في اللغة هي كلمة يونانية الأصل بمعنى سكان مصر، ويُقصد بها اليوم: المسيحيون من المصريين، باعتبار أن من دان بالمسيحية هم سكان مصر الأصليين ثم دخل عليهم العرب من المسلمين فيما بعد، ولكن كلمة القبطي لا يمكن أن تُطلق على المسيحيين بشكل عام.
يتأثر جرجار كثيرا بحال ميخا ويحاول مساعدته إلا أن كاتيا تتأخر في الوصول؛ فيحاول أن ينقذه مما هو فيه ويفكر أن يستعين بـ"عركي" صاحب البقالة ويجعله يتصل بإحدى الجمعيات الخيرية في السعودية ويخبرهم أن هناك مسيحيا أعلن إسلامه مؤخرا وهو في حاجة كبيرة إلى المساعدة المالية؛ وبالفعل يأخذ ميخا إلى صلاة الجمعة ويخبر المصلين أن هناك مسيحيا يريد أن يعلن إسلامه؛ فيضع ميخا في موقف لا يستطيع التصرف فيه، وبالفعل يهجم عليه المصلون ويلقنونه الشهادة لنرى الديكتاتورية الدينية التي قد تؤدي به إلى القتل لمجرد أنه نطق الشهادتين: "أفلته الإمام، واقترب مني ليهمس لي بضرورة أخذه إلى المستشفى لختانه حتى يكتمل إسلامه، وتدريبه على أمور الدين متى ما تيسر الأمر. كدت أضحك وأنا أتخيل كهلا في الستين، تُجز لحمته التي عاش بها كل ذلك العمر، وأنجب بها أطفالا كبروا، وهاجروا إلى أستراليا، وحين خرجنا ووقفنا أمام المسجد، لنتلقى تبرعات أهل الخير وتهنئتهم ووعودهم بمستقبل جديد لميخا، كما هي العادة في مثل تلك الأحوال، لم يأتنا أحد. قفز الوجهاء إلى عرباتهم وانصرفوا، ليتركونا برفقة رجل من السجل الشرعي، وثق إسلام ميخا، واسمه الجديد على دفتر كبير يحمله، ولوّح له بحد الردة، الذي هو القتل، إذا راودته نفسه بالعودة إلى النصرانية مرة أخرى"!!
هذه الديكتاتورية الإسلامية التي تهدد ميخا بالقتل إذا ما عاد إلى دينه مرة أخرى، أو تأخر في ختان نفسه نراها مرة أخرى في: "قدته إلى بيته الذي لم يكن بعيدا عن بيتي، وهناك وجدنا بابه مكسور القفل، وقد اختفت كل حياته النصرانية التي عاشها لأكثر من ستين عاما. لا صليب.. لا وشاحات.. لا تراتيل، ولا كتاب مقدس. لم يبق شيء من الماضي إذن. لا أدري هل هو الذي قالها، أم أنا، أم لا أحد لكنني تخيلتها. أرقدته على سريره الخشبي المترنح، كأنني أم ترقد طفلها"، هنا يؤكد الروائي على سلطة الدين القمعية على الجميع، بل وأحيانا استخدامه تبعا للمصالح والمجاملات فقط حينما نقرأ بعد موت النبوي وفي عزائه: "المعزين الثمانين هجموا على الولدين وهم يمدون أيديهم بسورة الفاتحة، وكان في وسطهم ملتح، بثوب قصير وصوت جبار، قدموه باسم الشيخ أسامة، وسمعته يصرخ: الغريق شهيد.. المحروق بالنار شهيد.. الساقط من حالق شهيد.. والميت أثناء كتابة الشعر، أيضا شهيد ما لم يكتبه في معصية. وكان موت كاتب الشعر شهيدا، ترفا جديدا أسمع به لأول مرة"، في الاقتباس السابق نلاحظ التجارة بالدين من أجل المجاملات لمجرد أن النبوي مات وهي يكتب قصيدة شعر؛ مما يدلل على فساد الحياتين السياسية والدينية.
يظل جرجار وأهالي حي غائب بالكامل في انتظار كاتيا، ويصطحبه الصبي أيمن داؤود الحضاري- الوحيد من أهل الحي الذي يفهم في الإنترنت- إلى مقهى الإنترنت ذات يوم ويبحث عن كاتيا كادويلي على موقع البحث "جوجل" وهناك يجد ثلاث صور لثلاثة نساء ينطبق عليهن الاسم، إحداهن مغنية فرنسية، والثانية يهودية هاجرت إلى فرنسا وهي كاتبة تناضل من أجل حقوق الفلسطينيين، والثالثة تعمل ممرضة وقد أُطلق عليها لقب الملاك لأنها كشفت غش الأدوية ذات مرة حينما كانت في رحلة إلى إفريقيا، ويطبع الصور الثلاث لجرجار الذي يأخذهن معه إلى بيته ويتخيلهن طول الليل، إلا أنه كان يشعر بميل غير طبيعي لكاتيا الملاك الممرضة، وذات مرة يسأل مبروك المسؤول الحكومي حينما تأخر وصولها بسبب حكماء إفريقيا الذين يدعونها إلى بلدانهم كلما تركت بلدا إفريقيا: هل هي ممرضة؟ فيندهش مبروك ويسأله: كيف عرفت ذلك؛ ليخبره جرجار أنه عرف من شبكة الإنترنت.
يعود جرجار إلى بيته ويتخلص من الصورتين الأخريين ويحتفظ بصورة كاتيا الملاك التي يظل يتأملها ويتخيل معها الكثير من المواقف حتى يقع في عشقها تماما، بل ويذهب إلى أحد ستوديوهات التصوير الشهيرة بألعابها بالصور "فوتوشوب" ويطلب منه أن يصنع له العديد من الصور لكاتيا في كل مراحل حياتها: وهي تبكي، وهي تضحك، وهي في قمة نشوتها الجنسية، صور لها بعد سنوات عديدة، وصور لها وهي أم وغير ذلك، وبالفعل يقوم الاستوديو بتقديم ما لا يقل عن 30 صورة لجرجار تمثل كاتيا في الكثير من الحالات والمواقف: "وبعد عدة أيام سلمني كاتيا الملاك عروسا في ليلة الزفاف، وفي لحظة العناق الحميم، وبعد خمس سنوات من الزواج، وحين تصبح جدة بشعر مشوه كشعر الإثيوبية زهورات. كنت منتشيا بشدة، يدق قلبي بعنف، وأنا أرتب بيتي للحدث الكبير، عقد قراني على الفرنسية حتى لو كانت صورة، حتى لو كانت خيالا. كنت ممتلئا بالعشق حتى القاع، ولم تعد لي طاقة لانتظار أولئك الأفارقة غريبي الأطوار إلى أن يفلتوا المرأة التي انتظرتها زمانا، فأنا الآن أمتلكها.. وأمضي بها لمستقبل جديد". هنا يتحول الأمر بجرجار إلى شكل من أشكال الهوس بكاتيا التي ينتظرها ولم تأت بعد؛ فيضع صورها في كل مكان من البيت، ويتعامل معها باعتبارها حقيقية واقعة وتعيش معه فعليا، ويتحدث معها، ويحبها، ويبادلها الكثير من المشاعر والأحاديث لدرجة أن يتفق معها على الزواج ويلزم بيته برفقة صورها.
هذا العشق والحياة الوهمية مع كاتيا المنتظرة التي لم تصل يستمر في إيغاله وتضخمه داخل جرجار الذي لم يعد طبيعيا: "في اليوم الذي رتبت فيه كل شيء، ولم يتبق على زفافي من كاتيا الملاك سوى عدة دقائق فقط بعد أن تأنقت بأناقتي الزرقاء وارتديت حذاء الباتا، وتعطرت بعطر رائع اشتريته خصيصا، حدث ما لم أكن أتوقعه، ولم يخطر ببالي على الإطلاق.. سمعت طرقا عنيفا على الباب أطار الفرحة من وجهي، ووجه عروسي الجميلة التي كانت أمامي على الكرسي المواجه، تنتظر عقد القران بلهفة، وهي تحدق في الشموع الملونة والزينة الورقية التي علقتها على السقف، وقالب الحلوى الذي اشتريته من حلواني رامونا، وكتبت عليه بخط متعرج لكنه واضح "علي وكاتيا إلى الأبد". حاولت ألا أهتم للطرق وأواصل طقوس فرحي، لكني أحسست أن الباب يترنح ويكاد يسقط، انطفأت تماما، استأذنت من عروسي، وذهبت أستطلع الأمر"!!
إذن فقد وصل الحال بجرجار إلى
درجة لا يمكن تصديقها؛ حيث الحياة الموغلة في التوهم وتصديق هذا الوهم والتعامل
معه باعتباره حقيقة لا مناص منها: "خمسة أيام مضت على شهر عسلي الذي حرصت على
جعله شهر عسل حقيقيا، بلا ظهور لافت للنظر في الحي، بلا رد على كل مكالمة ترد إلى
هاتفي الذي كان في معظم أوقاته مغلقا، ولا فتح للباب حتى لو تكسر من شدة الخبط.
ونوعا من الرغبة في تغيير المزاج كما يحدث في شهور العسل والحياة الزوجية عموما،
ذهبنا أنا وكاتيا الملاك مرة إلى تلك الغرفة المستأجرة في بيت حليمة المرضعة،
أخبرت الإثيوبية التي رأتني أفتح الباب، أنني جئت لأضع اللمسات الأخيرة على
الحجرة، قبل أن تأتي الضيفة، بناء على تكليف رسمي من المحافظة، وأنني قد أغفو
قليلا بها لأن بيتي محاط بعمال يحفرون الأرض ويحدثون ضجة، كنت أكذب حتى لا ينتشر
الخبر قبل أوانه، فانصرفت وفي وجهها علامات استفهام كثيرة من كيس ضخم كنت أحمله
وفي داخله عروستي اليانعة بشتى أوضاعها، حتى وهي عرقانة، أو تستحم. قضينا النهار
بطوله نحتلب المتعة ونضخها، جسدانا يلتحمان ويتفككان، يتفككان ويلتحمان، وأنفاسنا
تفور وتبرد، وخرجنا في المساء من أجل الذهاب لعرس شاكر تعيس وسلافة الذي كان مقررا
له ذلك اليوم".الروائي السوداني أمير تاج السر
من الاقتباس الأخير يتأكد لنا أن جرجار رغم انغماسه في أوهامه غير الحقيقية مع عروسه كاتيا، إلا أنه ما زال يدرك أن ما يفعله غير حقيقي، وأن كاتيا مجرد صور يتخيلها وليست حقيقة؛ بدليل قوله للإثيوبية أنه قد جاء من أجل إعداد الغرفة للضيفة التي هي على وشك الوصول، لكن الأمر يتطور معه فيما بعد فيصدق أن كاتيا حقيقة لا يمكن إنكارها، بل ويبدأ في تقديمها إلى أهالي الحي باعتبارها موجودة أمامهم فعليا: "كنا نقترب من نهاية شهر العسل حين اتفقنا أنا وكاتيا في صوت واحد، أن نعلن زواجنا رسميا، نوثقه بكل المواثيق، ونظهر في الحي والمدينة كلها، جنبا إلى جنب كما يظهر الأزواج. كنت معتزما تعميق الصلة ببعض الأسر في الحي، بعد أن انتهت عزوبيتي الطويلة، وفتح بيتنا أمام الضيوف كأي بيت ينفتح. وقد رأت كاتيا أن تستقر لفترة في حي غائب قبل أن نحزم أمتعتنا، ونشد الرحال إلى باريس". إن هذا التصديق يجعله غارقا حتى النخاع في وهمه اللذيذ بالنسبة له؛ لذلك يبدأ في التعامل مع الأمر باعتباره واقعا لا غبار عليه، بل بدأ يظن أن الجميع يرونها كما يراها هو: "أول مكان ظهرنا فيه أنا وحبيبتي كاتيا علنا في الحي، كانت بقالة عركي، أخبرتني برغبتها في شراء بعض الحاجيات لها وللبيت، وأخذتها إلى هناك، كنت أرتدي أناقتي الزرقاء مغسولة ونظيفة وأنتعل حذائي الباتا بعد أن لمعته بالورنيش، وكانت هي بفستان أزرق فريد في التفصيل، ويبرز الكثير من فتنتها، وقد جعلت شعرها مرسلا حتى لامس كتفيها الناعمين. سرنا قليلا في الشوارع وأنا ألاحظ نظرات الحسد والدهشة من كل صوب، وحين وقفنا أمام عركي، سألني بطرف لسانه: ماذا تريد يا جرجار؟ تغاضيت عن عدم ترحيبه، وأشرت إلى زوجتي، قلت: ليس أنا ولكن هي تطلب زجاجة من زيت عباد الشمس، وستة أرطال سكر، وخمس علب تونا، وعلبة كريم نيفيا، ومشطا للشعر بعد أن ضاع مشطها الباريسي في فوضى شهر العسل، ولم تعثر عليه. رأيت عركي يتلفت ببله، ويمد بصره من خلف طاولة دكانه إلى الطريق، ثم يسألني: أين هي يا رجل.. هل جننت؟ بل أنت المجنون.. تقف أمامك أجمل نساء الأرض، ولا تراها؟ صرخت في وجهه. والآن اذهب واحضر ما طلبته كاتيا. كان يرتعد بشدة، يتلفت خلفه في هلع، وهو يصعد سلما خشبيا في البقالة ليأتي بعلبة النيفيا التي لم تكن من ضمن السلع الرائجة في حي غائب، يعود ببقية الأشياء ليقف أمامنا مرتعدا ما يزال، ولاحظت أنه لم يفتح دفتره على اسمي ليسجل المشتريات، كما كان يفعل دائما. قيد الحساب على اسمي.. لماذا ترتجف؟ لا ضرورة لذلك يا جرجار.. هذه هديتي لزوجتك".
يبدأ جرجار في العامل مع الأمر كواقع لا يمكن إنكاره؛ ومن ثم يأخذها إلى مقهى الإنترنت باعتبار أنها ترغب في التواصل مع أهلها في باريس وتفتح إيميلها الإليكتروني، وغير ذلك من الأمور، إلى أن تنتابه مجموعة من الهلاوس يرى فيها أن أهل الحي يتحرشون بها جنسيا وأنها تقبل منهم هذ الشكل من التحرش؛ الأمر الذي يجعله يحبسها في البيت ويمنعها من الذهاب إلى مقهى الإنترنت، بل ويوغر صدره باتجاه الكثيرين من أهل الحي راغبا في الانتقام منهم لتحرشهم بزوجته: "وقفت أمام عركي صاحب البقالة، وأنا أستعر، كان عنده رجل مسن، يسأل عن صبغة بيجون الرخيصة ليفاجئ بها امرأته، حين يعود شابا، أزحته جانبا بلا رحمة، وأخرجت سكيني، ورأيت رعبا في عيني البقال، لم أره أبدا في عيني أحد من قبل، لوحت بالسكين في وجهه، فتفاداها، وهويت على رأسه بالعصا ليخرج الوجع والدم. عثرت على المشرد كنكل ساكن الشوارع رابضا في إحدى الحفر يعبث بهاتفه المحمول، انتزعته من الحفرة، جرحته في ساقيه بالسكين، وحطمت هاتفه، انطلقت في الشوارع، وسكينتي حمراء يقطر منها الشر والدم كنت أبحث عن أيمن الحضاري ولم أجده، وأبحث عن سوكارنو النبوي ولم أجده، ورأيت الحي فائرا عن آخره، بعضهم يهربون من وجهي، وبعضهم يحاولون تهدئتي أو الإمساك بي". هنا وصل الأمر بجرجار إلى الجنون الحقيقي؛ لذلك يلقون القبض عليه ويأخذونه إلى الشرطة، لكن الروائي أمير تاج السر في المشهد/ الصفحة الأخيرة من روايته يفاجئنا بذكاء الروائي الذي يتلاعب بنا بوصول كاتيا الفرنسية الحقيقية في نفس اللحظة التي يتم فيها ترحيل جرجار إلى الشرطة، أي أنها وصلت إلى الحي في اللحظة التي وصل فيها إلى قمة جنونه بسبب حبه لها وانتظاره الطويل لوصولها: "كنت في سيارة مكشوفة لونها أحمر داكن، وقد رسم على جانبها شعار ما. يداي مقيدتان إلى هيكلها بسلاسل من حديد، وجسدي في قمة تهيجه، يناضل، ويناضل، ولكن لا شيء سوى الألم والدم. بجواري الأمني موسى وعشرات آخرون يشبهونه، ويحملون الأسلحة، وأجهزة اللاسلكي التي تنطق بشفرة عن هطول المطر أخيرا، وعودة الخضروات إلى السوق، وسقوط فرعون في قبضة موسى. كان حي غائب ممتلئا بالفوضى، والتساؤل. رأيت لافتات محلات البيع كلها تسقط، وترتفع مكانها لافتات أخرى.. بقالة كاتيا.. ملحمة كاتيا.. مغسلة كاتيا.. إيجار الدراجات.. كاتيا.. خياط الفساتين، كاتيا، وحين عبرنا بجوار بيت حليمة المرضعة، شاهدت زينة من الورد والفوانيس الخضراء معلقة عليه، وسيارة حكومية سوداء تقف فجأة ويهبط منها رجل طويل نصف وجهه مشوه، يرتدي الثوب والعمامة، وبرفقته فتاة أوروبية شقراء، ترتدي فستانا أزرق، ولم أستطع تأملها جيدا، لأن عينيّ أظلمتا، وسقط رأسي على كتف الأمني موسى خاطر".
بهذا الاقتباس الأخير يحرص الروائي السوداني أمير تاج السر على إنهاء روايته القيمة "العطر الفرنسي" بذكاء وتمكن من روائي يعرف جيدا كيف يصوغ عالمه الروائي- حتى لو كان كلاسيكي الشكل والبناء- باقتدار وتمكن؛ فيجتذب القارئ معه حتى آخر سطر من سطورها وقد انغمس فيها وشعر مع جرجار بالحب الحقيقي تجاه كاتيا التي لم تكن سوى خيالا يسوقه لنا الروائي، ونتواطأ معه كقراء على هذا الخيال المحبب لنا إلى أن يصدمنا في النهاية بوصول كاتيا التي كان ينتظرها الجميع بعد تدمير حياة علي جرجار تماما.
إن رواية "العطر الفرنسي" من الروايات المهمة سواء على مستوى اللغة، أو الموضوع، أو البناء، نجح الروائي في صياغتها بشكل يمسك بتلابيب القارئ حتى الكلمة الأخيرة.
محمود الغيطاني
مجلة مصر المحروسة
عدد فبراير 2022م