"إنه اليوم الأكثر حرارة في السبع سنوات الماضية، سماء صافية، وحتى الآن يبدو أنها سوف تُمطر".
جملة قد تبدو عادية لا قيمة لها بدأ بها المُخرج والسيناريست الألماني Sergej Moya سيرجي مويا فيلمه الروائي القصير Hotel Desire فندق الرغبة قبل النزول بتيترات الفيلم، لكن أثناء عرض التيترات نُشاهد حرص المُخرج من خلال التصوير البطئ Slow Motion على سقوط قطرات غزيرة من الماء على قدمين عاريتين، وسُرعان ما تتابع الكاميرا الجسد بهدوء لنكتشف أنه جسد أنطوينا- قامت بدورها المُمثلة الألمانية Saralisa Volm ساراليزا فولام- العاري التي تقوم بالاستحمام في هذا اليوم الشديد الحرارة، بينما الكاميرا تتابع زوايا جسدها الذي تهطل عليه قطرات الماء وكأنها هطول الأمطار في مثل هذا اليوم القائظ.
إذن، فالمُخرج هنا مُنتبه بشكل واضح للمواءمة ما بين الجملة التي كتبها قبل نزول التيترات- اليوم الشديد الحرارة- وبين مشهد الاستحمام الذي رأيناه أثناء نزول التيترات بعد كتابة الجملة مُباشرة، وكأنما مشهد الاستحمام هو سقوط الأمطار المُنعشة على جسد أنطونيا في هذا اليوم الشديد الحرارة.
في المشهد الأخير من الفيلم نشاهد أنطونيا عارية بين ذراعي يوليوس- قام بدوره المُمثل الألماني Clemens Schick كليمنس شيك- بينما يقومان بتدخين سيجارة في غرفة الفندق الذي تعمل فيه أنطونيا كعاملة غرف. تتابع الكاميرا دخان السيجارة المُتصاعد لأعلى والذي يصل إلى إنذار الحريق؛ مما يؤدي إلى هطول المياه على جسديهما العاريين في الفراش، في مشهد يعبر عن الهطول الغزير للأمطار في نفس هذا اليوم القائظ ليشعر كل منهما بالانتعاش والسعادة بهطول المياه عليهما، وبين هذين المشهدين المُعبرين عن الهطول الغزير للأمطار والشعور العميق بالانتعاش تدور أحداث الفيلم القصير.
ثمة مشهد وسيط في الفيلم لا بد لنا من التوقف أمامه لارتباطه الوثيق بمشهدي البداية والنهاية حينما قال لوكا- ابن أنطونيا- لأمه حينما كان يودعها للذهاب إلى أبيه في فرنسا: لا تدخني، أو أنها ستبدأ تُمطر.
ربما لا يمكن لنا تجاوز هذه الجملة التي قالها الطفل لأمه بتلقائية قد تبدو لنا غير مُهمة ولا علاقة لها بأي شيء، وكأنها مُجرد جملة عارضة يقولها طفل لأمه بسبب خوفه عليها من إصابتها بالسرطان، ولكن إذا ما تأملنا المشهد الأخير من الفيلم الذي تناولت فيه أنطونيا السيجارة من بين أصابع يوليوس لتقوم بالتدخين بعد توقفها عنه، سيكون الربط بين جملة الطفل لأمه، وبين المشهد الختامي ضروريا في السياق الفيلمي؛ فهي بمُجرد ما عادت للتدخين حتى أمطرت السماء بالفعل- سماء غرفة الفندق، إنذار الحريق- مما يُدلل على أن المُخرج يعي جيدا كل مشهد، وجملة يضعها في السياق الفيلمي لفيلمه الذي لم يتجاوز 40 دقيقة.
يبدأ الفيلم بأنطونيا التي تقوم بالاستحمام في هذا اليوم القائظ بينما تتابع الكاميرا تفاصيل جسدها بحنو، لكن طفلها، لوكا، يشعر بالكثير من القلق ويحاول أن يحثها على الانتهاء من حمامها؛ لتأخرهما على موعد إقلاع الحافلة التي ستتجه من برلين إلى باريس لتنقله إلى والده هناك، حيث وعده بزيارة "كوت دازور".
يخبر لوكا أمه أنه لم يبق أمامهما سوى عشرين دقيقة فقط على تحرك الحافلة؛ الأمر الذي يجعلها تنتهي من حمامها بسرعة وتنطلق بسيارتها الصغيرة بسرعة هائلة في شوارع برلين من أجل اللحاق بحافلة ابنها. أثناء الانطلاق بالسيارة نشاهد لوكا يتناول علبة سجائر أمه ليلقيها من نافذة السيارة، طالبا منها التوقف عن التدخين لخوفه عليها من إصابتها بالسرطان، وحينما تسأله كيف عرف عن السرطان، يخبرها بأنه قد عرف ذلك من خلال الإنترنت. تعده أنطونيا بالتوقف عن التدخين، وتقوم بتوديعه للذهاب إلى باريس.
تعود أنطونيا إلى سيارتها مُسرعة للحاق بعملها في أحد الفنادق الفاخرة، حيث تعمل كعاملة غرف، تغلق أنطونيا مذياع سيارتها مُتعجلة والذي نسمع من خلاله صوت المُذيعة تتحدث مع زميلها: هل يوليوس باس رسم صورا لأشخاص لا يراهم؟! فيرد عليها: صحيح، إنه يستخدم إحساسه باللمس مُستكشفا ملامحهم بيديه، واليوم هو افتتاح معرضه.
أي أن المُذيعان يتحدثان عن فنان شديد الحساسية يعتمد على حاسة اللمس اعتمادا كاملا. لا تنتبه أنطونيا للحديث الذي ينطلق من المذياع، لتنطلق بسيارتها بسرعة هائلة إلى عملها الذي تأخرت عليه، حينما تصل أنطونيا للفندق تترك سيارتها أمام بابه طالبة من عامل الاستقبال مُساعدتها في إدخال سيارتها لجراج الفندق بسبب تأخرها، لكنها تواجه عاصفة غاضبة من مُديرها المُباشر مارسيل- قام بدوره المُمثل الألماني Jan Gregor Kremp جان جريجور كريمب- الذي قول لها مُؤنبا: لهذا السبب على الفنادق ذات الإدارة الجيدة أن توظف المثليين جنسيا فقط، إنني لا أستطيع إنجاب الأطفال واستخدامهم كذريعة لتخريب الأمور، حسنا، أنت أم وحيدة، وتعملين في هذا الفندق، إذن؟ هل هذا يمنعك من الاستيقاظ وتوصيل ابنك إلى الحافلة، وأن تأتي للعمل في الوقت المُحدد؟
رغم هذا التوبيخ الشديد من مارسيل لأنطونيا إلا أنه يبدو في نهاية الأمر رحيما بها، شديد الود واللطف، فرغم أنه يخبرها بأن هذا التأخير سيجعله يطردها في المرة القادمة، إلا أنه سُرعان ما يهدأ مُبتسما ليحتضنها قائلا لها: الآن تخلصي من ملابسك اليومية المُثيرة للشفقة هذه، وارتدي زي الحكاية الخيالية "سندريلا".
لا يتوقف الأمر على ذلك، بل يحاول مارسيل الدفاع عن أنطونيا وإنقاذها الفعلي من الطرد من وظيفتها حينما يشي بها موظف الاستقبال لمُدير الفندق- قام بدوره المُمثل الألماني Herbert Knaup هربرت كناوب- الذي يقوم بتوبيخها على تأخيرها وترك سيارتها أمام الباب الرئيسي للفندق، لكن مارسيل يدعي بأنها كانت تجوب شوارع برلين للبحث عن مناديل مزدوجة تنقص الفندق.
ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة لتأمل الحياة التي تحياها أنطونيا، والأحداث المُتلاحقة التي مرت بها مُنذ بداية أحداث الفيلم لأهميتها في السياق الفيلمي الذي يقدمه المُخرج بدقة ملحوظة؛ فهي مُنذ المشهد الأول تحاول اللحاق بالوقت الذي يجعلها لاهثة مُتعرقة في مثل هذا اليوم القائظ، إنها مُتأخرة على موعد حافلة طفلها، ولن تستطيع اللحاق بعملها في الموعد المُحدد، وهي تعاني من حاجتها للمال والعمل المُهددة بالطرد منه، وتعول ابنها الوحيد، وتعيش كامرأة وحيدة بعد انفصالها عن زوجها، وملابسها تبدو بسيطة مزرية بسبب العرق الغزير الذي يغطيها في مثل هذا اليوم الحار- لاحظ قول مارسيل لها: تخلصي من ملابسك المُثيرة للشفقة.
إذن، فالمُخرج هنا ماهر في رسم شخصية أنطونيا التي يقصد بها في حقيقة الأمر "سندريلا"- اللاهثة، المُتأخرة، التي تعاني، التي يوبخها الجميع على ما لا يد لها فيه- ولعل قول مارسيل لها: ارتدي زي الحكاية الخيالية "سندريلا"، كان من أبلغ الجُمل التي تُدلل على أن المُخرج راغب في تقديم أنطونيا على صورة سندريلا، الفتاة الرقيقة، الفقيرة، التي تحاول اللحاق بالوقت، والتي لا بد لها أن تتم مُكافأتها في نهاية الأمر.
حينما تتجه أنطونيا إلى غرفة تبديل الملابس لارتداء ملابس العمل تجلس وحيدة باكية بسبب مُعاناتها والتوبيخ الذي لاقته من مُديرها، لتدخل عليها زميلتها جوليا- قامت بدورها المُمثلة الروسية الأصل الألمانية الجنسية Palina Rojinski بالينا روجينسكي- مُتسائلة عما يبكيها، لكن أنطونيا تحاول التملص من الاعتراف ببكائها مُخبرة جوليا بأنها تتعرق بسبب اليوم الحار، لكن حينما تظن جوليا بأن أنطونيا تبكي بسبب علاقة ما مع رجل، تخبرها أنطونيا بأنها لم تدخل علاقة مع رجل مُنذ سبع سنوات، أي مُنذ انفصلت عن والد ابنها لوكا؛ الأمر الذي يجعل جوليا تشعر بالكثير من الاندهاش، وتؤكد لها أنها ستحاول ترتيب لقاء لها مع رجل، بل وتنصحها بانتهاز أي فرصة من أجل الدخول في علاقة: اعتبارا من الآن سوف تبدأين في فعل ذلك. فتسألها أنطونيا: فعل ماذا؟ لتقول جوليا: الخفة، خذي الأمور بخفة، وقومي ببعض المخاطر، دعيه يجلبك للفراش، ربما سيغني لك. ثم تقترب جوليا من أنطونيا لتقوم بتقبيل شفتيها مُؤكدة لها على أنها لا بد لها أن تخوض المُغامرات من أجل التمتع بحياة أيسر من تلك الحياة الجافة التي تحياها.
تخرج أنطونيا للقيام بعملها في غرف الفندق، وهو ما شاهدناه من خلال اهتمام المُخرج بكتابة الكثير من أرقام الغرف على الشاشة بينما الكاميرا تتابعها في التنقل بين الغرف كتدليل منه على عملها الشاق الذي تقوم به، إلى أن تدخل للغرفة الأخيرة التي لا تجد فيها نزيلها.
تتجول أنطونيا مُتأملة في الجناح الواسع الذي دخلته، لكنها أثناء تجوالها تسمع صوت كوب زجاجي يسقط أرضا لينكسر، وسُرعان ما يخرج نزيل الجناح من الحمام مُبتلا للرد على هاتفه المحمول. تُفاجأ به أنطونيا عاريا، لتدرك أنه كفيف؛ ومن ثم تتجمد في مكانها خشية إحساسه بوجودها. يرد الضيف/ يوليوس على الهاتف مُؤكدا لمن يحادثه على الطرف الآخر بأنه في المصعد للحاق بالمعرض الذي لا بد له أن يلحق افتتاحه. نعرف أن يوليوس فنان كفيف يقوم برسم بورتريهات لأشخاص لا يراهم مُعتمدا على حاسة اللمس في استكشاف ملامحهم- هل ما زلنا نذكر حديث المُذيع والمُذيعة في مذياع سيارة أنطونيا حينما أغلقته عن فنان كفيف يرسم الآخرين مُعتمدا على حاسة اللمس وأن افتتاح معرضه سيكون اليوم؟
إنه الربط الذكي بين أحداث الفيلم؛ الأمر الذي يُدلل على أن المُخرج يعي جيدا كيفية رسم الأحداث والشخصيات بشكل عفوي تماما من خلال السيناريو الذي قام بكتابته، وقدمه بشكل فيه الكثير من التماسك والابتعاد عن الترهل.
بعدما ينهي يوليوس مُحادثته التليفونية التي يحاول من خلالها الهروب من مُحدثه على الطرف الآخر لشعوره بالكثير من السأم يقوم بارتداء ملابسه، وحينما يبدأ في البحث عن حذائه تصطدم يده بحذاء أنطونيا المُتجمدة في مكانها خشية اكتشاف وجودها، لكن يوليوس يصعد بكفه ببطئ مُتحسسا ساقها، ويستمر بكفه إلى أن يصل إلى وجهها- حاسة اللمس هي أهم ما تميز الرجل- ما أن تصل يده إلى وجه أنطونيا حتى تقوم بإمساكها لوضعها على وجهها برغبة لاهفة حيث يتلمسه بشيء غير قليل من الاهتمام بالتفاصيل بينما الكاميرا تتابع تفاصيل المشهد بانتباه غير قليل وكأنها تشاركهما التفاصيل الدقيقة للفعل.
ربما كان المشهد الحسي الذي دار بين أنطونيا ويوليوس هنا من أهم المشاهد المُؤسسة للفيلم والمُعبرة عما يرغب المُخرج في إيصاله، فرغم أن المشهد بالكامل- الذي استمر 10 دقائق من زمن الفيلم- اعتمد على الحسية الكاملة مما قد يجعل البعض يظن بأنه مشهد أقرب إلى البورنوغرافيا إلا أن المُخرج قد نجح إلى حد بعيد في إنقاذ فيلمه من الوقوع في التصوير البورنوغرافي رغم التفاصيل الحسية الدقيقة، وطول مُدة عرض المشهد للقاء الجنسي بينهما.
لعل السبب الرئيس في إنقاذ الفيلم من الوقوع في التصوير البورنوغرافي يعود في المقام الأول إلى أداء المُمثل الألماني كليمنس شيك، الذي بدا لنا أداء شديد الرهافة والحساسية، مُعتمدا فيه على حاسة اللمس، فضلا عن الكاميرا التي تمتعت بالكثير من الحساسية والتورط في تصوير المشهد الرومانسي وتقطيعه إلى لقطات ركزت فيها على المشاعر والإحساس- الكاميرا هنا تشعر وتفكر وتتأمل- وهو ما رأيناه حينما أمسكت أنطونيا بكف يوليوس لوضعه على وجهها، وتلمس أطراف أصابعه لوجهها بحساسية شديدة- الاعتماد على اللمس- تنسمه لرائحتها بعمق- الاعتماد على الشم- اقترابه بوجهه من وجهها، ثم تقبيلها، التركيز على خلعهما لثيابهما برومانسية راغبة، انتفاء الحوار في المشهد إلا من لغة الجسد والتلامس، مُتابعة الكاميرا للتفاصيل، ووعيها بها، ولكن من دون إصرار على التحديق والفضح، حتى حينما مرت الكاميرا على عانة المُمثلة التي يتحسسها المُمثل بأصابعه لم تُحدق فيها بجرأة وإصرار، تقطيع المشهد الطويل إلى كادرات تضج بالمشاعر والأحاسيس بدلا من الفعل الجنسي المُجرد، فضلا عن المُوسيقى التصويرية المُعبرة للموسيقي الألماني Stefan Maria Schneider ستيفان ماريا شنايدر التي ساهمت إلى حد بعيد في التخفيف من حسية المشهد وتحويله إلى مشهد يضج بالمشاعر.
إن تركيز الكاميرا على تفاصيل الحواس- الشم واللمس- بدلا من التفاصيل الجنسية- رغم طول المشهد الجنسي- هو السبب الرئيس في إنقاذ المشهد من الوقوع في البورنوغرافيا، ورغم مرور الكاميرا على الأعضاء الجنسية لكلا المُمثلين أكثر من مرة، ووضوحها البيّن، إلا أنها حرصت على ألا تكون مُحدقة في التفاصيل، كاشفة، صادمة، بل كانت تمر على تلك التفاصيل بانسيابية تتناسب مع الحسية التي يرغب المُخرج في إيصالها، والتي تؤكد على أن سندريلا/ أنطونيا قد حصلت في نهاية يومها الشاق، وبعد حرمانها لمُدة سبع سنوات من أي لقاء جنسي أو حسي على مُكافأتها التي تستحقها، وهي المُكافأة العادلة التي لا بد لها من الحصول عليها.
يغلق المُخرج الألماني سيرجي مويا فيلمه الروائي القصير "فندق الرغبة" على أنطونيا ويوليوس عاريين في الفراش بعد الانتهاء من مُمارسة جنسية ناعمة، بينما يقومان بتدخين سيجارتيهما لتهطل عليهما المياه من سقف الغرفة وكأنها الأمطار التي لا بد من هطولها في نهاية يوم قائظ لتخفف من وطأة اليوم، أو كأنها الأمطار التي لا بد لها أن تهطل بسبب تدخين أنطونيا- كما سبق لطفلها لوكا أن أخبرها. ليؤكد المُخرج من خلال فيلمه مهارته الإخراجية في كتابة وتقديم فيلم شديد التماسك والفنية، رغم أنه قد يبدو لنا للوهلة الأولى مُجرد فيلم بورنوغرافي، أو أن جميع الأحداث قد تمت كتابتها وتلفيقها من أجل المشهد الجنسي الطويل، لكنه من خلال مقدرته على صياغة فيلمه- سواء من الجانب الكتابي أو الإخراجي- نجح إلى حد بعيد في تقديم فيلم فني، مُرهف، مُستلهما حكاية سندريلا التي نعرفها جميعا من خلال وجهة نظر فنية خاصة به.
محمود الغيطاني
مجلة "نقد 21"
عدد ديسمبر 2023م.