الثلاثاء، 19 نوفمبر 2024

أن تكون جون مالكوفيتش: كابوسية السيريالية وجماليات الخيال!

ماذا لو افترضنا أن ثمة طريقة ما تُمكننا من الدخول إلى عقل شخص آخر، واحتلاله، والسيطرة عليه؛ ومن ثم يصبح بإمكاننا أن نشعر بما يشعر به هذا الشخص، ونحس بما يحس به جسده، ونفكر بما يفكر فيه، أي رؤية العالم والتعامل معه من خلاله، أو نرغمه على اختيار أفكارنا ورغباتنا لتنفيذها باعتبار أن جسد هذا الشخص هو الوعاء الذي قمنا باحتلاله، والسيطرة عليه، وتملكه لنفعل به ما نشاء، ونطرح عليه تخيلاتنا مهما كانت درجة جموحها؟!

بالتأكيد تبدو الفكرة جامحة في سيرياليتها، وبما أن الإنسان بشكل عام يمتلك في لا شعوره رغبات في السيطرة على الآخرين يعمل على كبحها وإبقائها دائما في اللاشعور؛ ستبدو له فكرة طريفة، فهي من قبيل الذهاب بالخيال إلى حده الأقصى والخطير الذي قد ينقلب إلى عالم كابوسي بالنسبة للعقل/ الجسد/ الإنسان/ الوعاء المُحتل الذي لن يعود أبدا إلى ماهيته الأولى، ولن يكون قادرا على امتلاك أفكاره وحريته إلا إذا ما قرر المُحتل الخروج من عقل الوعاء مرة أخرى!

لنتأمل الفكرة بسيرياليتها وجنونها الفني بشكل آخر: ثمة شعور ما ربما ينتاب الكثيرين منا بأننا غير راضين عن حياتنا، وما نحن عليه في الواقع، وهو ما يدفع البعض منا للتفكير في تقمص شخصيات الآخرين، لا سيما المشاهير في عالم ضربه جنون الشهرة. بالتأكيد هذا الشعور بعدم الرضى عن الذات يمكن رده إلى ضعف الشخصية، وعدم الثقة في النفس، والعجز عن التحقق فيما نرغبه، وهو ما يجعلنا نحاول تمثل الآخرين من المشاهير الذين نرى أنهم قد حققوا ذواتهم، أو وصلوا إلى المثال، أو النموذج الذي تصدره لنا الآلة الإعلامية. ألا نُلاحظ أن هذا الشعور في جوهره إنما يعبر عن مأزق وجودي للفرد، وهو المأزق الوجودي الذي يكاد أن يحياه العالم اليوم؟ السؤال الأساس هنا: مع افتراض وجود إمكانية للدخول إلى عقل أحد المشاهير للسيطرة عليه، ولنكونه هو- باعتبار جسد الشخص المشهور هو الوعاء- هل من المُمكن أن يكون هذا الأمر بمثابة الحل للأزمة الوجودية الطاحنة التي يشعر بها الشخص المُحتل لعقل الآخر؟ وهل هذا سيشعره بالراحة والتحقق رغم أنه في الحياة الواقعية- أمام الآخرين- ليس هو نفسه، بل يرتدي قناع/ جسد شخص آخر؟! إنه الإيغال في المرارة والتعاسة واليأس!


قد تبدو الفكرة برمتها شطح في الخيال، والتحول به إلى عالم سيريالي شديد العبثية يجعلنا نفكر في العديد من الأفكار الفلسفية، ونطرح المزيد من الأسئلة عن ماهية الروح، وإمكانية حلولها في غيرها من الأجساد.

هذه الفكرة- الفلسفية في جوهرها- هي الفكرة التي سيطرت على كاتب السيناريو الأمريكي والروائي Charlie Kaufman تشارلي كوفمان؛ ليذهب بها إلى حدها الأقصى من الخيال، ويصوغها في صورة سيناريو فيلم Being John Malkovich أن تكون جون مالكوفيتش، الذي أخرجه المُخرج الأمريكي Spike Jonze سبايك جونز في تجربته الإخراجية الأولى، لتكون من أفضل التجارب السينمائية التي من المُمكن لمُخرج ما أن يقدم بها نفسه في عالم صناعة السينما.


لم يقتصر جنون الفكرة هنا على الدخول إلى عقل شخص ما، ورؤية العالم من خلاله، والسيطرة عليه في تجربة فنية سيريالية جديدة يتم تقديمها من خلال السينما، بل تعدى الأمر ذلك إلى شكل أكثر جسارة وجرأة؛ حيث جعل كل من المُخرج والسيناريست المُمثل الأمريكي John Malkovich جون مالكوفيتش[1]- الذي له وجود واقعي- هو الأداة من أجل تنفيذ فكرتهما السينمائية، فحمل الفيلم اسمه، ومثل فيه أيضا دور الوعاء/ الحامل للشخصيات الأخرى- باسمه ووجوده الواقعي- الذي تقتحم الشخصيات الفيلمية عقله للسيطرة عليه، وتحريكه كيفما شاءت، أي أن الفيلم كان في جوهره مُغامرة فنية كبرى ما كان لها أن تكتمل لولا موافقة مالكوفيتش على المُغامرة باسمه وشخصيته من أجل صناعة السيناريو السيريالي الذي كتبه تشارلي كوفمان.

يتناول المُخرج فكرته الفنية من خلال تقديم كريج- قام بدوره المُمثل الأمريكي John Cusack جون كوزاك- وحياته البائسة التي لم يستطع فيها التحقق، أو الوصول إلى أي من آماله وأحلامه رغم موهبته الفريدة في تحريك الدمى واللعب بها في العديد من الاستعراضات الفنية، وهي الاستعراضات التي يكتفي بتقديمها لنفسه في منزله، أو للمارين في الشارع كفنان متجول؛ حيث لا يجد طريقة لتقديمها على المسرح لعدم اهتمام الناس بهذا الفن. إن إخلاصه لفن اللعب بالدمى جعله يعيش أزمة اقتصادية طاحنة، وتعطل عن العمل رغم زواجه من لوت- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Cameron Diaz كاميرون دياز- ولعلنا نُلاحظ أن الدمية التي يحركها كريج دائما في استعراضاته الفنية هي دمية على هيئته تماما؛ مما يُدلل على رغبته في أن يحيا حياة أخرى بديلة عن حياته البائسة، وبالتالي فهو يقول ما يحلم به، ويعيش خياله وآماله من خلال حكايات الدمية التي يقدمها في هذه الاستعراضات.


إننا هنا أمام شخصية فشلت في تحقيق طموحاتها في الحياة الواقعية؛ ومن ثم فهي تُحقق هذه الطموحات من خلال الخيال- استعراض تحريك الدمى- أو كما يقول هو بأنه يرغب الحياة من خلال شخص آخر، وهو ما لاحظناه حينما وقع في حب ماكسين- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Catherine Keener كاثرين كينر- فقام بصُنع دمية على شكلها تماما، ثم قام بوضعها أمام الدمية التي هي على هيئته ليدور بينهما هذا الحوار: أخبرني كريج، لماذا تُحب تحريك العرائس؟ فيرد كريج الدمية: حسنا ماكسين، لست مُتأكدا بالضبط، ربما هي فكرة أن تصبح شخصا آخر لفترة قليلة، أن تكون داخل الجلد الآخر، تفكر بشكل مُختلف، تتحرك بشكل مُختلف، تشعر بشعور مُختلف. فتقول ماكسين الدمية: هذا مُثير كريج، أتحب أن تكون داخل جلدي، تعتقد ما أعتقده، وتشعر بما ألمسه؟ لتقول دميته: أكثر من أي شيء ماكسين.

إن الحوار الدائر هنا بين الدميتين- وهو حوار خيالي ابتكره كريج حينما صنع دمية ماكسين التي وقع في حبها- إنما يعبر بصدق عن شخصية كريج، ويرسمها بمهارة، ودقة موغلة، بل ويُدلل على أنه يعي تماما الأزمة الوجودية التي يحياها؛ فهو شخصية شديدة البؤس، لم ينجح في تحقيق أحلامه في حياته لدرجة أنه سيفعل أي شيء ليكون شخصية أخرى، يعيش من خلالها، ككائن طفيلي على شخص آخر.


هذا البؤس والشعور بالنقص والتعاسة وغيرها من المشاعر التي يشعر بها كريج تتبدى لنا بشكل أوضح حينما يرى في التلفاز تقريرا إخباريا حول أحد مُحركي العرائس والاحتفاء به؛ فيقول للقرد الذي ترعاه زوجته: أنت لا تعرف أنك محظوظ لأنك قرد؛ لأن الوعي لعنة فظيعة، أنا أعتقد، أشعر، أعاني. أي أنه يشعر بالبؤس الشديد لامتلاكه الموهبة الحقيقية، وعدم مقدرته على التحقق، وهو ما جعل السيناريست يرسم شخصيته كشخصية ناقصة لا تكتمل بأي شكل من الأشكال؛ فهو غير مُكتمل في حياته الشخصية- الفشل في تحقيق طموحاته- وحياته الاجتماعية والزوجية- الفتور الذي يسود حياته مع زوجته- غير مُكتمل في علاقاته، حتى أنه حينما ينجح في الحصول على وظيفة في إحدى الشركات، LesterCorp ليستر كورب، يكون مكان وظيفته بين طابقين- الطابق سبعة ونصف، أي طابق بين الطابقين السابع والثامن!

لكن، ألا نلمح في حديثه إلى القرد عن مفهوم الوعي، وأثره على الإنسان الكثير من الأفكار الفلسفية التي تدور- في جوهر الأمر- داخل أذهان صُناع الفيلم أنفسهم؟


إن هذا الوعي بالأفكار والتساؤلات الفلسفية الكبرى كانت هي البذرة الأساس التي توّلد عنها كل هذا الخيال السيريالي الذي سنشاهده في أحداث الفيلم، وهو ما يؤكد على ارتباط الخيال غالبا بالوعي الثقافي للفرد- فلا خيال من دون وعي- ومن ثم تنطلق أولى شرارات هذا الخيال من لدن الوعي والإدراك أولا ليتحول في النهاية إلى عالم سحري من المُمكن له أن يأخذنا معه إلى المدى الأقصى من هذا الخيال، وهو ما نُطلق عليه في نهاية الأمر السيريالية.

يدفع تعطل كريج عن العمل إلى البحث عن وظيفة من خلال إعلانات الصحف، وبالفعل يجد وظيفة في شركة "ليستر كورب" الواقعة في إحدى ناطحات السحاب، لكن مكان وظيفته يكون في الدور السابع والنصف من البناية، وهو دور يقع بين الطابقين السابع والثامن، ذو أسقف شديدة الانخفاض؛ تجعل جميع العاملين فيه مُنحنيي الظهور أثناء وقوفهم، أو سيرهم. حينما يذهب للقاء دكتور ليستر- صاحب الشركة- قام بدوره المُمثل الأمريكي Orson Bean أورسون بين- سنُلاحظ أن سكرتيرته فلوريس- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Mary Kay Place ماري كاي بلاس- دائما ما تنطق الكلمات بشكل خاطئ، لكنها توحي لمن أمامها بأنه هو الذي ينطق بشكل خاطئ، وهو ما سيتأكد لنا من خلال دكتور ليستر الذي يعتذر لكريج لأن كلامه قد يكون غير مفهوم بسبب عائق النطق لديه، فنسمعه يقول لكريج عن فلوريس: امرأة لطيفة ملعونة، لا أعرف كيف تتحمل عائق النطق عندي. فيرد كريج مُندهشا: لا يوجد عندك عائق نطق دكتور ليستر. ليقول الرجل: التملق ستجده في كل مكان يا ولدي، أنا مُضطر أن أئتمن فلوريس على ذلك السر.


ثمة شر دفين هنا تمارسه فلوريس على مالك الشركة التي تعمل فيها، وهي الرجل الذي تجاوز المائة عام من عمره؛ فهي توهمه بأنه غير قادر على النطق بشكل صحيح، وهو ما يجعل الآخرين غير قادرين على التعامل معه أو فهم ما يرغبه، وبالتالي فهو يعتمد عليها اعتمادا كاملا في حياته العملية لأنها الوحيدة القادرة على التعامل مع هذا العائق. هذا الشر داخل الشخصيات الفيلمية سنلمحه مع تقدم الأحداث لدى الجميع، وهو ما يرغب المُخرج في تمريره للمُشاهد بعفوية تامة بعيدة عن أي قصدية أو مُباشرة، أي أنه يرغب في القول: إن الشر يتملكنا جميعا كبشر، أو أنه طبيعة إنسانية لا يمكن الهروب منها، ورغم اختلاف درجات الشر لدينا، إلا أنه في النهاية يسكن نفوسنا بدرجاته المتفاوتة.

يسأل كريج دكتور ليستر مُندهشا: لماذا الأسقف مُنخفضة؟ فيرد عليه: تكاليف قليلة، نحن ننقل المُدخرات إليك. رغم أن رد الدكتور ليستر قد يكون منطقيا إلى حد ما، وهو توفير النفقات من أجل دفعها للموظفين، إلا أننا سنعرف أن السبب في انخفاض الأسقف يعود إلى قصة أخرى هي أقرب إلى قصص الأطفال. نعرف ذلك حينما يجتمع الموظفون الجُدد في الشركة في إحدى الغرف لرؤية فيلم يفسر لهم السبب في انخفاض الأسقف، وسر الطابق السابع والنصف. حيث نرى إحدى الشخصيات على الشاشة يقول- بينما الشاشة تستعرض ما يحكي عنه: قبل عدة سنوات في أواخر عام 1800م، جيمس ميرتين، قائد السفينة ريتش جاء إلى هذه البلدة، وقرر بناء بناية مكاتب، دعا هذه البناية بناية ميرتين فليمير على اسمه، واسم شخص آخر يُعتبر أسطورة في بلاده يدعى فليمير، في يوم ما النقيب المُسن ميرتين استقبل زائرا غير متوقع، وهي فتاة تبدو صغيرة، وحينما سألها النقيب عما ترغبه؛ تخبره بأنها تشعر بالكثير من الظلم في هذا العالم لأنها ليست فتاة صغيرة، بل امرأة ناضجة، لكنها قصيرة تماما، وهو ما يجعل مقابض الأبواب بعيدة عنها، والمقاعد شديدة الثقل، والأسقف مُرتفعة بالنسبة إليها بشكل كبير، وكل هذه الأمور تُشعرها بأن العالم لا يهتم بها هي ومن هم مثلها، وبالتالي فالعالم يظلمها؛ لأنه لم يهتم بوجود أمثالها فيه، فيرد عليها النقيب المُسن بأن قصتها قد أثرت فيه بشكل لم يحدث من قبل، وهو ما جعله يقرر أن يتزوجها، ويبني لها طابقا مُناسبا لها في بنايته بين الطابقين السابع والثامن، وهو الطابق السابع والنصف.


قد تبدو لنا قصة الطابق السابع والنصف شديدة السذاجة تتناسب مع قصص الأطفال، لكنها تتناسب أيضا تماما مع المنطق الفيلمي السيريالي الذي تدور فيه أحداث الفيلم الذي تواطأنا على الدخول فيه. يلمح كريج ماكسين جالسة معه في غرفة العرض فيخبرها أن قصة الطابق السابع والنصف مُؤثرة، لكنها ترد عليه بلا مبالاة بأنها قصة تافهة لا قيمة لها.

يشعر كريج بالكثير من الاهتمام والإعجاب بماكسين التي لا تعيره أي اهتمام، ويحاول جذب انتباهها؛ فيتفق معها على أن يخمن اسمها في ثلاث محاولات، وإذا ما نجح في فعل ذلك فعليها أن تخرج معه في موعد، توافق ماكسين على التجربة، وبالفعل ينجح كريج في تخمين اسمها. حينما تلتقي به ماكسين في أحد البارات تسأله: هل أنت متزوج؟ ليرد عليها: نعم، لكن بما يكفيني.


إن إجابة كريج على سؤال ماكسين تُدلل على مدى اهتمامه بها، ورغبته فيها، وهو ما سيخبرها به بعد دقائق من لقائهما حيث يخبرها بأنه مُعجب بها، ويرغب بالفعل في مُضاجعتها، لكنها حينما تعرف أنه مُحرك دمى تطلب الشيك، لتغادره غير مُهتمة به.

سنُلاحظ أن شخصية ماكسين تعبر عن امرأة لعوب، ثلجية المشاعر، براجماتية، من المُمكن لها أن تفعل أي شيء، وتتلاعب بأي شخص من أجل الوصول إلى ما ترغبه، وهو ما سنراه مع تقدم أحداث الفيلم، حيث ستتلاعب بجميع من يقع في طريقها من أجل مصالحها ورغباتها.

قد يبدو العالم الفيلمي الذي يقدمه المُخرج سبايك جونز طريفا إلى حد كبير حتى الآن، فيه قدر من الخيال، لكنه ما زال الخيال المقبول لأي منا، وهو ما يجعلنا كمُشاهدين مُنجذبين لأحداث الفيلم غير راغبين في تشتيت انتباهنا عما يدور أمامنا على الشاشة، لكن، أثناء ترتيب كريج لبعض الملفات، يقع منه أحد هذه الملفات خلف الخزانة؛ مما يجعله مُضطرا إلى تحريكها بعيدا عن الحائط لاستعادة الملف، لكنه حينما يفعل ذلك يكتشف بابا صغيرا في الحائط، وحينما يفتح هذا الباب يجد خلفه دهليزا/ ممرا طويلا لا يعرف إلام يؤدي. يدخل كريج زاحفا داخل الممر الذي سُرعان ما ينغلق بابه، ويجد نفسه مُنزلقا فيه بسرعة كبيرة ليستقر في عقل جون مالكوفيتش.


إذن، فهو ممر يؤدي إلى الدخول في عقل المُمثل الشهير جون مالكوفيتش، وهو ما يجعل كريج يرى العالم من خلال عيني مالكوفيتش، ويشعر بما يشعر به، ويتنقل معه؛ فيرى سائق التاكسي الذي يتعرف على مالكوفيتش ويذكر له اسم فيلم من أفلامه، لكنه يخطئ في الشخصية التي أداها، لكن كريج لا يستمر داخل عقل مالكوفيتش أكثر من 15 دقيقة فقط، ليسقط فجأة من السماء بجوار بوابة نيوجيرسي.

إن الممر السحري المُؤدي إلى عقل جون مالكوفيتش يسمح لأي شخص بالدخول إلى عقل المُمثل لمُدة 15 دقيقة فقط، وسُرعان ما يسقط من السماء بجوار بوابة نيوجيرسي. يسرع كريج بالعودة إلى الشركة مُتجها إلى ماكسين التي لا تعيره اهتماما، ويخبرها بسره: هناك باب صغير جدا في مكتبي ماكسين، هو بوابة، ويأخذك داخل جون مالكوفيتش، تري العالم من خلال عيون جون مالكوفيتش، وبعد حوالي 15 دقيقة تخرجي منه إلى خندق بجوار بوابة نيوجيرسي. هذا شيء غريب جدا، هو خارق، أعني يثير كل أسئلة الفكر الفلسفي حول طبيعة النفس، حول وجود روح، هل أنا هو أنا؟ هل مالكوفيتش هو مالكوفيتش، لا أعرف كيف يمكن لي أن أستمر في حياتي كما كنت من قبل.


إن الدخول إلى رأس مالكوفيتش، أو غيره من الأشخاص، ورؤية العالم بعينيه، ومُشاركته في أحداث حياته لا بد له أن يكون تجربة فريدة بالفعل تثير الكثير من الأسئلة والمشاعر والأحاسيس الفريدة، أو الكثير من أسئلة الفكر الفلسفي كما سبق أن أخبر كريج ماكسين، وهو ما جعل حياته تتغير، أي أن لحظة خروجه من رأس مالكوفيتش كانت بمثابة اللحظة المفصلية في حياته التي لن يعود بعدها إلى حياته السابقة الطبيعية، بل سيظل يعاني على المستوى الفكري، والوجودي، فضلا عن انقلاب حياته رأسا على عقب في فوضى كاملة، ورغم عدم اهتمام ماكسين بما أخبرها به كريج للوهلة الأولى، إلا أنها ستعاود الاتصال به بعد تفكيرها في الأمر بمنطقها البراجماتي لتخبره بأنهما من المُمكن لهما استثمار هذا الممر المُؤدي إلى عقل مالكوفيتش لربح الكثير من المال، بأن يجعلا من رأسه مزارا لمن يرغب في أن يعيش تجربة جديدة في مُقابل 200 دولار للمرة. يشعر كريج بالقلق للوهلة الأولى، لكنها من خلال سيطرتها الأنثوية عليه، ومعرفتها بمدى رغبته فيها تنجح في إقناعه بالشراكة في الاستثمار في رأس مالكوفيتش!


ربما تأتي أهمية تجربة دخول كريج إلى عقل مالكوفيتش من أنه بالفعل شخص راغب في حياة أخرى من خلال الآخرين، ومعرفة كيف يفكرون، وبما يشعرون، أي تمثل الآخرين- لاحظ قوله السابق لماكسين عن السبب في أنه مُحرك دمى- ومع تحقق هذه التجربة، ومرور كريج بها بشكل واقعي؛ سيكون ذلك دافعا لأن يفعل أي شيء من أجل البقاء داخل عقل مالكوفيتش والبقاء فيه.

يخبر كريج زوجته لوت بأنه سيتأخر في الأيام القادمة في العمل؛ لأنه سيعمل في الفترة المسائية مع شريكته ماكسين من أجل ربح المال بالسماح بدخول الآخرين إلى عقل مالكوفيتش. تطلب لوت من زوجها تجربة الأمر؛ فيأخذها إلى الشركة للمرور بالتجربة، حيث ترى مالكوفيتش أثناء استحمامه، وهو ما يشعرها بالكثير من الإثارة، وحينما تخرج من عقله تخبر زوجها مُستثارة برغبتها في العودة مرة أخرى، لكنه يخبرها بأنهما قد أصبحا بعيدا عن الشركة، كما أنهما لديهما موعد مع دكتور ليستر لتناول العشاء في بيته.

ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة لتأمل تجربة لوت في عقل مالكوفيتش لأهميتها، فهي حينما خرجت من عقل مالكوفيتش أخبرت زوجها: دخولي هناك فعل بي شيئا غريبا، عرفت من أنا، كأن كل شيء أصبح مفهوما، عرفت من أنا. فيرد عليها: لكنك ما كنت أنت، لقد كنت جون مالكوفيتش. ألا نُلاحظ هنا عقلانية كريج في الرد على زوجته، وأنه ما زال مُدركا بأن التجربة هي مُجرد تمثل شخص آخر ليعيش معه حياته بشكل مُشارك؟ رغم عقلانية كريج في وعيه للأمر إلا أن لوت لم تع الأمر مثل زوجها، بل تمثلت مالكوفيتش تماما، وهو ما أشعرها بأن ثمة تغيّر جوهري في حياتها، ومشاعرها، وإحساسها، أو اكتشافها لحقيقتها التي كانت خافية عنها. هذا الاكتشاف الجوهري الجديد هو ما سنفهمه من قول لوت لكريج: أعتقد أنه شيء جنسي، أن يكون مالكوفيتش عنده بوابة، نوع مثل مهبل، نوع مهبلي مثل أن يكون عنده قضيب ومهبل، هو مثل جانب مالكوفيتش الأنثوي، أحب ذلك.


إن مرور لوت بالتجربة داخل عقل مالكوفيتش لم يثر لديها العديد من التساؤلات الفلسفية بقدر ما أثار لديها الكثير من التساؤلات عن الهوية الجنسية، فتفسيرها لهذا الممر الذي يؤدي إلى عقل مالكوفيتش باعتباره مهبلا يخص مالكوفيتش يجعله شخصا مزدوج الهوية الجنسية، أي أنه يمتلك العضوين الجنسيين معا، وهو ما استقر في وعيها اللاشعوري حينما تمثلت مالكوفيتش؛ مما أدى إلى شعورها بأنها في حقيقتها ليست أنثى، وأنها حينما مرت بهذه التجربة فلقد اكتشفت حقيقة جوهرها، وبأنها عاشت حياتها بالكامل تظن بأنها أنثى في حين أنها في الحقيقة ذكر على شكل أنثى، وهو ما يثيرها كثيرا، أي أنها من خلال تفكيرها الأنثوي، وتركيبيتها السيكولوجية والفسيولوجية كأنثى رأت أن دخولها إلى عقل مالكوفيتش من خلال هذا الممر/ المهبل يتطابق تماما مع دخولها إليه من خلال قضيبها الذكوري من خلال مهبله الممر، وهو ما أكسبها الإحساس بالذكورية وكأنها تمتلك قضيبا يمكنها من دخوله.

إذن، فالخيال- الذي بدأ من التساؤلات المعرفية لدى كل من السيناريست والمُخرج- يؤدي إلى المزيد من التأملات والتساؤلات المعرفية والوجودية، وهو ما يجعل لوت تشك في هويتها الجنسية، وترى أنها كرجل أفضل من كونها أنثى؛ لأن هذه الهوية- كما تظن- هي حقيقتها في واقع الأمر، وهي الحقيقة التي كانت خافية عنها في اللاشعور! بل إن هذا التساؤل الهوياتي من الوارد جدا أن يرد على ذهن الكثيرين منا لنتساءل: ماذا لو كنت أمتلك عضوا جنسيا يخص الجنس الآخر، ما هو إحساسي الذي سأحس به في هذه الحالة، وهل سيكون مُمتعا، وهل تمتلك التجربة الفرادة؟ إن إدراك السيناريست للنفس البشرية وغرابتها، وما يرد على ذهنها، وافتراضاتها الدائمة باتجاه التوقعات جعل لوت تشعر باختلال هويتها الجنسية؛ لأنها عاشت لمُدة 15 دقيقة كرجل، وهو ما سيجعل إحدى السيدات المُسنات- من أصدقاء دكتور ليستر- تقول للوت حينما يخبرها الدكتور ليستر بأنه سيأخذها معه إلى داخل مالكوفيتش: تساءلت دائما كيف سيكون الشعور بامتلاك قضيب! أي أن السيناريست والمُخرج يحاولان اعتصار الفكرة وإمكانياتها للوصول بها إلى الحد الأقصى بمثل هذه التساؤلات السيكولوجية.


هذه التساؤلات عن الهوية لدى لوت هي ما يدفعها للذهاب إلى الشركة في اليوم التالي، راغبة في الدخول إلى عقل مالكوفيتش مرة أخرى، مُخبرة زوجها: لقد فكرت مرارا في تجربتي ليلة أمس كريج، كانت مُدهشة، قررت بأني مُخنثة، للمرة الأولى كل شيء بدا صحيحا، يجب أن أتأكد، لكن إذا ما ظل ذلك الشعور؛ سأتكلم مع الدكتور فيلدمان حول جراحة تغيير النوع، لا تقف في طريق تحققي كرجل.

سنُلاحظ هنا أن الأمور تتحول برهة بعد أخرى إلى شكل من أشكال الفوضى السيريالية التي لا يمكن خضوعها للعقل المنطقي؛ فلوت ترفض هويتها الجنسانية بعد خوضها لتجربة الدخول إلى عقل مالكوفيتش والحياة لمُدة 15 دقيقة كرجل، إن حياتها كرجل، والإحساس بمشاعر الرجل من خلال مالكوفيتش جعلها تشعر بإحساس غريب جديد عليها، وهذا الإحساس الجديد أشعرها بالكثير من الانتشاء؛ مما جعلها راغبة في أن تعيشه بشكل دائم، ومن ثم تحولها إلى رجل، وهو ما سيجعل ماكسين/ اللعوب التي تستمع إلى حوارهما تطلب من كريج أن يدع لوت "يعيد التجربة"- مُخاطبة إياها بضمير المُذكر- لتدخل لوت مرة أخرى إلى عقل مالكوفيتش، وتراه أثناء تأديته الصوتية لأحد النصوص التي يعمل عليها؛ فتشعر بالانتشاء لقوة صوته الذكوري، راغبة في أن تمتلك مثل هذا الصوت الذكوري القوي، لكن مُهاتفة تليفونية تأتي لمالكوفيتش فيرد عليها، وتخبره المرأة على الطرف الآخر بأنها مُعجبة به، وبأنها تشعر بأن حلماتها مُنتصبة، وتطلب منه اللقاء في أحد المطاعم في المساء، ذاكرة له اسم المطعم. ينهي مالكوفيتش المُحادثة غير مُهتم بالأمر، لكنه حينما يعود إلى تدريباته الصوتية يلح صوت لوت عليه في أن يقابلها في المساء، الأمر الذي يجعله يدوّن اسم المطعم والموعد للقاء المرأة.

ألا نُلاحظ هنا أن لوت قد باتت مُتقمصة لشخصية مالكوفيتش، راغبة في أن تحياها، شاعرة بالنفور من هويتها كأنثى، مُتجهة بمشاعرها باتجاه الذكورية؟ إنها لم توحِ لمالكوفيتش بقبول لقاء المرأة إلا لأنها لديها الرغبة في المُغامرة مع امرأة أخرى من خلال جسد مالكوفيتش- أي مُمارسة التجربة الذكورية بالكامل بشكل عملي- وهو ما يجعلها تخبر زوجها بأنها لا بد لها من العودة مرة أخرى في الثامنة مساء.


تعود لوت بالفعل إلى عقل مالكوفيتش في المساء بينما هو جالس في المطعم مُنتظرا للمرأة التي سنعرف أنها ماكسين المُتلاعبة بالجميع، وحينما ترى لوت ماكسين تحاول إغواء مالكوفيتش؛ تشعر بالكثير من الانتشاء والإثارة الجنسية تجاه ماكسين، وتنظر إليها- من خلال عيني مالكوفيتش- نظرات الرغبة اللاهفة، لكن المُدة المسموحة لها- 15 دقيقة- للبقاء في عقل مالكوفيتش تنتهي سريعا لتعود إلى الواقع.

إن تجربة لوت الجنسانية في جسد مالكوفيتش كرجل تجعلها تعيش في حالة من الاضطراب على مستوى المشاعر، والهوية، والأحاسيس، بل وتقع في عشق ماكسين والرغبة الجنسية فيها؛ مما يجعلها تقترح على زوجها كريج بأن يدعوا ماكسين على العشاء في بيتهما، وهو المشهد الذي نرى فيه ماكسين جالسة بينهما على منضدة الطعام بينما تتلاعب بهما معا ليقينها من رغبتهما وإعجابهما بها، وحينما ينتهي العشاء وأثناء جلوسها بينهما على الأريكة لا يستطيع الاثنان- كريج ولوت- كبح جماح رغباتهما في ماكسين فيقبلانها في نفس اللحظة راغبين في مُمارسة الجنس معها؛ مما يجعل ماكسين تصفع كريج على وجهه مُخبرة إياه بأنها لا تشعر بأي انجذاب تجاهه، بينما تنظر إلى لوت بحنو لتخبرها بأنها تشعر تجاهها بانجذاب جنسي، ولكن حينما تكون في جسد مالكوفيتش فقط، وأن نظراتها إليها أثناء تواجدها في مالكوفيتش قد أثارتها، لكنها لن تسمح لها بالاقتراب من جسدها إلا حينما تكون في جسد مالكوفيتش فقط: أنا مُغرمة بك، لكن فقط عندما تكوني مالكوفيتش، عندما نظرت في عيونه ليلة أمس أمكنني أن أحس بك، وراء العضو البارز جدا، والحاجب، وصلع الشكل الذكوري أحسست بأنوثتك تندفع، وهي تديرني!


ربما نُلاحظ هنا أن كل من المُخرج والسيناريست قد نجحا إلى حد بعيد في الإيغال في سيريالية الحدث، حتى أنه يكاد أن يتحول إلى أحداث عبثية لا يمكن خضوعها إلى العقل، بل إن الأحداث تكاد أن تكون فوضوية بشكل فني، وهو ما يقلب حياة كل من لوت وكريج إلى فوضى حقيقية، حيث يبدأ كل منهما في التنافس على ماكسين، ليشعر كل منهما بالنفور من الآخر، هذه الفوضى تمتد بآثارها على مالكوفيتش نفسه الذي بات كل من عقله وجسده مُستباحين لأي شخص، بل ويبدأ في عدم القدرة في السيطرة على قراراته وجسده بشكل كابوسي.

إن رفض ماكسين لكريج، وميلها لزوجته يجعله يشعر بالكثير من الإهانة، لكنها تخبره: هل لديك أي فكرة أن يكون لديك شخصان ينظران إليك بالرغبة والولاء الكلي من خلال نفس زوج العيون؟ إنها مُنتهى الإثارة كريجي. أي أن التجربة للدخول إلى عقل شخص آخر هنا قد انحرفت من مُجرد تجربة مُثيرة للكثير من التساؤلات، وتجربة شيء طريف، إلى تساؤلات جدية عن الهوية الجنسية؛ الأمر الذي جعل لوت تعيش بالفعل في حالة ذكورية صادقة من خلال جسد مالكوفيتش، بل وفي الحياة الواقعية، وهو ما نلمحه حينما يهجم عليها كريج مُهددا إياها بمُسدس ليمنعها من الذهاب إلى عقل مالكوفيتش فتقول له: Suck my Dick مص قضيبي! أي أنها تشعر في قرارة نفسها بالفعل بذكوريتها، ورغم عدم امتلاكها لقضيب ذكوري بعد إلا أنها تشعر بامتلاكها له على المستوى السيكولوجي.


تتفق كل من ماكسين ولوت على اللقاء الجنسي من خلال جسد مالكوفيتش، وأثناء اللقاء الجنسي تُخاطب ماكسين مالكوفيتش باعتباره أنثى، وتناديه باسم لوت؛ الأمر الذي يجعله مُندهشا مُتسائلا، لكنها- لسيطرتها الجنسية عليه- تسأله: هل لديك مانع؟ فيضطر إلى الموافقة على أن تعامله كامرأة، وتمارس معه الجنس بالفعل بينما لوت في عقله مُستخدمة لجسده، شاعرة بمُضاجعتها لماكسين من خلال جسد مالكوفيتش!

يعرف كريج بالأمر؛ مما يحوله إلى حالة من الجنون الحقيقي، والنفور، والكراهية باتجاه زوجته لوت، فيهددها بمُسدس، ويرغمها على الاتصال بماكسين، طالبة منها اللقاء في جسد مالكوفيتش، ثم يقوم بربط يديها وحبسها في قفص القرد مُتجها للقاء ماكسين من خلال جسد مالكوفيتش.

أثناء اللقاء الجنسي الجديد مع ماكسين يحاول كريج السيطرة على عقل مالكوفيتش، ويطلب منه أن يعبث بنهديها أثناء مُمارستهما للجنس، بينما ماكسين تعتلي عضوه الذكري، وهو ما يجعل مالكوفيتش يفقد المقدرة على أفعاله وقراراته، ويشعر بشيء ما غريب يملي عليه تصرفاته؛ الأمر الذي يشعره بالخوف من ماكسين ويهرب منها بعد لقائهما الجنسي.


يلجأ مالكوفيتش إلى صديقه تشارلي- قام بدوره المُمثل الأمريكي Charlie Sheen تشارلي شين- شاعرا بالكثير من الرعب بسبب يقينه بأن ثمة شيء ما يسيطر على تصرفاته، ويمليها عليه، بل ويظن بأن ماكسين مُجرد ساحرة؛ فيقول له خائفا: ماكسين تحب أن تدعوني لوت. فيرد تشارلي: هذا مُثير، ربما تستعملك كفتاة توصيل مع ميتة مثلية، تبدو مثل نوعي المُفضل. أنت معتوه لتترك فتاة تدعوك لوت، أخبرك ذلك كصديق. لكن مالكوفيتش يقول: تشارلي، أنا لا أعرف أي شيء حول البنت، يمكن أن تكون ساحرة، أو أي شيء آخر. ليرد تشارلي: ذلك أفضل، ساحرات مثليات حارات، فكر في الموضوع، إنه عبقري.

إن حياة مالكوفيتش لم يقتصر تحولها هنا إلة مُجرد فوضى عارمة فقط، بل تحولت إلى شكل من أشكال الرعب والهلع الشديدين؛ نتيجة لشعوره بأن ثمة قوى خارجية مجهولة لا يعرف عنها شيئا تتحكم فيه، وتملي عليه قراراته وأفعاله. إن الأمر في حقيقته كابوس حقيقي إذا ما تخيلناه، أي أن حياة مالكوفيتش الذي لا ذنب له في أي شيء قد تحولت بالفعل إلى كابوس يجثم على صدره، يكاد أن يخنقه، مُصيبا إياه بالرعب والهلع.


يحاول مالكوفيتش فهم ما يحدث له؛ فيبدأ في مُراقبة ماكسين، حيث يراها مُتجهة إلى الشركة مساء مُصطحبة معها عدد كبير من الناس فيندس بينهم، وحينما يجد طابورا طويلا من الناس مُنتظرا يسأل أحدهم عن السبب في انتظارهم؛ فيخبره الرجل بأنهم في انتظار دورهم للدخول إلى عقل جون مالكوفيتش في مُقابل 200 دولار. يثور مالكوفيتش ثورة كبيرة ويتخطى دوره في الطابور ليدخل الغرفة على ماكسين وكريج، يشعر بالاهتياج الشديد طالبا تفسير الأمر، ,حينما يفسره له كريج يطلب أن يخوض التجربة بنفسه، فتوافق ماكسين طالبة من كريج أن يتركه. هنا يتساءل كريج تساؤلا مُهما: ماذا يحدث عندما يمر رجل ببوابته الخاصة؟

ألا يبدو لنا تساؤل كريج شديد العمق، مُثيرا للمزيد من الأسئلة الفلسفية؟ إن السؤال ذاته في سياق الفيلم يجعل المُشاهد مُنتبها تماما لما سيحدث نتيجة دخول جون مالكوفيتش إلى عقله، وهو مشهد "مالكوفيتش مالكوفيتش" الذي كان من أهم المشاهد في الفيلم وأكثرها تأثيرا من الناحية السيكولوجية، ومدعاة للتعاطف الشديد مع جون مالكوفيتش وما صارت إليه حياته الكابوسية.


فبمُجرد دخول مالكوفيتش إلى عقله سيشاهد نفسه جالسا في أحد المطاعم في موعد مع مسخ منه على شكل أنثى بصدر مُمتلئ، وسيرى جميع رواد المطعم من رجال ونساء على هيئته، والنادل أيضا هو مالكوفيتش، بل إن كل شيء من حوله في العالم هو عبارة عن مالكوفيتش؛ مما يجعله ينظر إلى قائمة الطعام التي سيجد أن كل ما هو مكتوب فيها هو "مالكوفيتش" فقط، بل والراقصة التي تغني على المسرح هي مسخ منه أيضا؛ الأمر الذي يكاد أن يصيبه بالجنون، ويجعله يصرخ مُرتعبا: مالكوفيتش. ويحاول الهروب من المطعم، لكن المُدة المُتاحة له في التواجد داخل عقله- 15 دقيقة- تكون قد انتهت ليسقط من السماء عند بوابة نيوجيرسي.

ربما لا بد لنا من التوقف هنا أمام هذه المشهد المُهم لتأمله؛ فدخول مالكوفيتش إلى عقله قد جعله لا يرى أي شيء سواه- مالكوفيتش في مواجهة مالكوفيتش- وهو التساؤل المُهم والوجودي الذي لا بد أن يسأله المرء لنفسه: ماذا لو هيئت لي طريقة للدخول إلى عقلي من أجل التجول فيه، ما الذي يمكن لي أن أراه؟ بالتأكيد لن أرى سوى ذاتي، أي أنني سأقابل نفسي المُتعددة فقط، وسيكون العالم من حولي مُجرد مجموعة من المرايا التي لا تعكس سواي لنفسي، وهو بالتأكيد التساؤل الذي تساءله كل من المُخرج والسيناريست أثناء إعداد الفيلم، وهو التساؤل الذي دفع بهما إلى المزيد من الشطط السيريالي من أجل تجربة مالكوفيتش للدخول في عقله. إنها تجربة تحمل في طياتها، وعمقها الكثير من الرعب الحقيقي؛ لأني لن أواجه سوى ذاتي في نهاية الأمر بشكل فيه الكثير من المسخ المُثير للهلع، كما أن أغلبنا عادة ما يحاول الهروب من مواجهة الذات المُتعددة لكل منا بتغييبها في اللاشعور، وهو ما يشعرنا في النهاية بالطمأنينة، والاتزان.


ألا نرى هنا أن الفيلم يتجه بخطى ثابتة باتجاه العبثية الكابوسية؟ إنها الكابوسية في شكلها الفني الخالص، لكنها تثير داخل نفوسنا الكثير من الشعور بالضيق، وكأنما العالم بأكمله يجثم على صدورنا خانقا إيانا، وهو ما شعر به مالكوفيتش بالفعل ليقول لكريج بمُجرد الخروج من عقله: تلك البوابة لي، ويجب أن تُغلق إلى الأبد حبا في الله. فيرد كريج: لكن سيد مالكوفيتش، مع كل الاحترام، أنا من اكتشف تلك البوابة، إنها مصدر رزقي، هل تفهم؟ ليقول مالكوفيتش غاضبا: إنها رأسي، سأراك في المحكمة. لكن كريج يرد: ما الذي يجعلك تعتقد بأني لن أرى ما سترى في المحكمة؟

إن الحوار السابق بين كل من كريج ومالكوفيتش يحمل الكثير من الكابوسية المُرعبة التي لا يمكن احتمالها؛ فكريج يتعامل مع رأس مالكوفيتش باعتبارها استثمارا، وسبيلا للحياة لا يمكن له التخلي عنه- تشييء مالكوفيتش وسلبه الحياة والإرادة، واعتباره جمادا- حتى أنه يؤكد له بأنه لن يستطيع الشكوى في المحكمة؛ لأنه سيكون داخل رأسه يرى كل شيء، بل ومُسيطرا عليه. بينما مالكوفيتش يرى العالم بالكامل قد بات من حقه العبث برأسه ودخولها، ومحاولة السيطرة على أفعاله وقراراته- التحول إلى شيء مسلوب الروح، والخروج من جسده مُرغما من أجل الخضوع للآخرين- إنها العبثية في صورتها الخالصة، وكابوس سنشعر جميعا- كمُشاهدين- برغبتنا في توقفه، والخروج منه إذا ما تخيلنا أنفسنا في مكان مالكوفيتش.


يسرع كريج إلى لوت الحبيسة في القفص مع القرد، ويرغمها على مُهاتفة ماكسين لتطلب منها اللقاء مرة أخرى من خلال مالكوفيتش؛ فتوافق ماكسين قائلة: سأراك في مالكوفيتش بعد ساعة!

إن رد ماكسين الذي بدا تلقائيا بسيطا على لوت: سأراك في مالكوفيتش بعد ساعة، هو رد مُخيف في جوهره، يحمل داخله الكثير من الدلالات المُرعبة؛ فالجميع قد بات يتعامل مع جسد وعقل مالكوفيتش باعتباره مُجرد شيء قابل للعبث به وقتما شاؤوا، أي أنهم قد اتفقوا- جميعا- ضمنيا على أن مالكوفيتش لم يعد يمتلك إرادته، وأنهم قد سلبوا روحه بالفعل من أجل مصالحهم ورغباتهم الشخصية، وأن مالكوفيتش مُجرد أداة للهو بها من قبل من يمتلك المقدرة على الدخول إلى الممر المُؤدي إلى عقله!

تحاول لوت التخلص من قيودها ليراها قردها الذي يتذكر طفولته ووقوعه هو وأسرته في أيدي مجموعة من الصيادين، ولجوئهم إلى تقييد أبويه مثل لوت تماما، وطلب أبواه منه أن يسرع بفك قيدهما قبل عودة الصيادين، هنا يتحرك القرد عاملا على فك لوت وينجح في ذلك.


ربما كان هذا المشهد السابق يمتلك الكثير من الخيال والفنية والإبداع على المستوى الفيلمي؛ فكاتب السيناريو يذهب بالخيال إلى حده الأقصى مرة أخرى بدخوله إلى عقل القرد، والعودة بالماضي من خلال Flash Back الفلاش باك، ورؤيتنا لعائلة القرد التي تحاول الهروب من الصيادين، بل وحديثهم- عبارة عن صرخات- الذي يحرص المُخرج على ترجمته وكتابته على الشاشة- باعتبار أنهم يمتلكون لغة مفهومة- مما يُدلل على مدى الخصوبة الفنية، والخيال الجامح الذي يتمتع به الفيلم، وصُناعه.

تُسرع لوت بمُهاتفة ماكسين لتخبرها بأنها قد تم إرغامها على الحديث إليها، وأنها لم تكن في عقل مالكوفيتش في آخر لقاء، وتطلب منها عدم الذهاب في الموعد لأن كريج هو الذي سيكون داخل مالكوفيتش، هنا تتحرك البراجماتية الخالصة داخل ماكسين- حيث نجحت المُمثلة كاثرين كينر إلى حد بعيد في إقناعنا بامرأة خالصة البراجماتية، شديدة التلاعب بكل من حولها، تمتلك الكثير من الملامح الأنثوية الجميلة، لكنها ملامح حادة، لا توحي لنا سوى بالكثير من الشر، والثلجية الكاملة، وهو الشر الخالص الذي جعلها لم تفكر مرة واحدة في الدخول إلى عقل مالكوفيتش لخوض التجربة، بل استخدامه فقط من أجل مصالحها- فترد ماكسين على لوت: لو أن كريج يمكن أن يسيطر على مالكوفيتش، وأنا يمكن أن أسيطر على كريج؛ فالأمر مُثير.

المُخرج الأمريكي سبايك جونز

إذن، فماكسين لا يعنيها أي شيء في حياتها سوى نفعيتها، بعيدا عن المشاعر التي لا تمتلكها في حقيقة الأمر، ورغم أنها تؤكد للوت بأنها بالفعل تشعر تجاهها بالكثير من المشاعر، وأنها تحبها، لكنها لا يعنيها هذا الحب في شيء أمام مصلحتها الشخصية، وما ترغبه؛ لذلك تنهي المُكالمة مع لوت للذهاب إلى موعدها مع كريج في جسد مالكوفيتش.

يحاول مالكوفيتش التهرب من ماكسين، لكنها تقنعه بأنها ذاهبة إليه من أجل توضيح أمر البوابة وحقيقتها؛ مما يجعله يوافق على لقائها، لكن كريج يكون قد دخل إلى عقله، ويبدأ كل من ماكسين وكريج- داخل جسد مالكوفيتش- في مُمارسة الجنس، بل والسيطرة الكاملة على جميع أفعاله، وكلما حاول مالكوفيتش المقاومة يرغمه كريج على طاعته، والخضوع له إلى أن يسلبه إراداته بالكامل، هنا تطلب ماكسين من كريج أن يظل داخل جسد مالكوفيتش للأبد، وحينما يخبرها بأنهما سيفقدان مصدر رزقهما- الاستثمار من خلال مالكوفيتش- ترد عليه بأنهما ليسا في حاجة إلى الاستثمار من خلال مالكوفيتش؛ لأن أمواله بالكامل في البنوك ستكون ملكا لهما.

إنه القضاء الكامل على التواجد الحقيقي لمالكوفيتش، وبالفعل يظل كريج داخل مالكوفيتش، ويخبر وكيله الفني برغبته في تغيير نشاطه من مُمثل إلى مُحرك دمى، ولأنه جون مالكوفيتش أمام الآخرين؛ ينجح نجاحا مُنقطع النظير كفنان مُحرك للدمى، وتتحدث عنه جميع وكالات الأنباء، ويقدم الكثير من الحفلات الفنية الناجحة كمُحرك للدمى، ويتحدث عنه الكثيرون من النقاد باعتباره أعجوبة فنية لم تتكرر من قبل، وأنه يمتلك الكثير من الجرأة لتغيير نشاطه الفني رغم أنه كان ناجحا إلى حد بعيد كمُمثل، وبعد مرور ثمانية أشهر من وجود كريج داخل مالكوفيتش، تكون ماكسين قد تزوجته، وفي انتظار مولودها من جون مالكوفيتش، مُحرك الدمى- كريج في حقيقة الأمر!

المُمثل الأمريكي أورسون بين

نعرف أن دكتور ليستر الذي تخطى المائة عام من عمره يعرف بشأن الممر الذي يؤدي إلى عقل مالكوفيتش، وأنه يستخدمه طوال عمره من أجل الحياة بشكل دائم- فكرة الخلود- أي أنه ينتقل من جسد/ وعاء إلى آخر كل فترة ليظل حيا في تجدد دائم، وأنه كان ينتظر بلوغ جون مالكوفيتش لعمر 44 عاما كي يدخل إلى جسده كوعاء جديد أكثر شبابا ونضجا، وحينما تلجأ إليه لوت يتعاطف معها، ويخبرها بكل شيء، بل ويعرفها على مجموعة من أصدقائه المهووسين بفكرة الخلود، والذين عقد العزم على أن يصطحبهم جميعا داخل جون مالكوفيتش معه؛ لأنه قد بات يشعر بالوحدة، كما وعدها بأن يأخذها معه، وحينما تطلب منه الدخول إلى مالكوفيتش لطرد كريج، يرد عليها بأنهم لا يستطيعون فعل ذلك؛ لأن كريج سيطردهم في لاشعور مالكوفيتش وسيظل مُسيطرا عليه، أي أنه لا بد من خروج كريج أولا كي ينجحوا في احتلال مالكوفيتش.

يختطف دكتور ليستر ومجموعته من المُسنين ماكسين، ويهددونه بأنهم سيقومون بقتلها إذا لم يخرج من جسد مالكوفيتش. يتردد كريج في ترك مالكوفيتش مُخبرا دكتور ليستر بأنه لو خرج من مالكوفيتش فلن يجد عملا، أو مورد رزق، ويغلق الخط. هنا تُصاب لوت بحالة من الجنون الحقيقي بسبب غيرتها من ترك ماكسين لها، وتحاول قتلها بمُسدس في يدها؛ مما يجعل ماكسين تهرب إلى الممر المُؤدي إلى عقل مالكوفيتش وتتبعها لوت مُصرّة على قتلها؛ فيحذرها دكتور ليستر من فعل ذلك؛ لأنها تحمل جنين مالكوفيتش الذي سيكون وعاء مُستقبليا لهم، لكن لوت لا تهتم بقوله، وتستمر في مُطاردة ماكسين.

إن دخول كل من ماكسين ولوت لعقل مالكوفيتش يجعلهما في منطقة اللاوعي، أو اللاشعور بسبب السيطرة الكاملة عليه من قبل كريج، وبالتالي نرى لوت تُطارد ماكسين داخل لاوعيه مُتنقلتان بين العديد من الذكريات والحقب الزمنية المُختلفة التي سبق لمالكوفيتش أن عاشها، فتارة نراه وهو يمارس الجنس مع إحداهن، وتارة أخرى نراه في طفولته بينما يشعر بأنه طفل سيء، ويردد ذلك على نفسه، وتارة ثالثة نراه بينما يسخر منه الأطفال بسبب تبوله على نفسه، لكن مُدة الـ15 دقيقة المُتاحة لهما تنتهي وتسقطا من السماء، لتعترف ماكسين للوت بأنها تحبها كثيرا: إنه طفلك أنت، الطفل هو ابنك، ابننا، حبلت به عندما كنتِ في مالكوفيتش، أبقيته لأني عرفت بأنك كنت الأب، الأم الأخرى، أيهما، لأنه كان لك. فترد لوت سعيدة: إذن نحن الآباء سوية؟

المُمثل الأمريكي تشارلي شين

إن فكرة مُطاردة لوت لماكسين داخل لاشعور مالكوفيتش تحمل من السيريالية، والانطلاق بالخيال الفني إلى مداه ما لم نكن ننتظره كمُشاهدين للفيلم، أي أن السيناريست هنا يترك لخياله العنان مُعبرا عنه بطلاقة وجرأة لا يمكن تخيلها، هذه الجرأة في الخيال جعلت من لاشعوره مكانا صالحا للمُطاردة ومُشاهدته في فترات زمنية مُختلفة- التشيؤ التام لمالكوفيتش، حتى ذكرياته.

يشعر كريج بالخوف الشديد على ماكسين، ويهاتف دكتور ليستر مُخبرا إياه بأنه مُستعد للخروج من مالكوفيتش في مُقابل عدم إيذاء زوجته ماكسين، وحينما يخرج بالفعل من جون مالكوفيتش يشعر مالكوفيتش بالكثير من السعادة والبهجة لأنه قد عاد حرا طليقا، لكن في نفس اللحظة يبدأ دكتور ليستر ومجموعته بالدخول إلى عقل مالكوفيتش لاحتلاله بدلا من كريج، ليدخل مالكوفيتش كابوسه مرة أخرى، ولكن هذه المرة للأبد، مُحتلا من قبل مجموعة كبيرة، وليس من فرد واحد!

بعد مرور سبع سنوات نرى دكتور ليستر الذي أصبح جون مالكوفيتش، وقد تزوج من سكرتيرته السابقة فلوريس، بينما يخبر صديقه تشارلي بأنه يمتلك فكرة تجعلهم جميعا يستطيعون الحياة بشكل أبدي، ويأخذه إلى إحدى الغرف التي يعلق فيها صورا تتابع النمو الطبيعي لإيميلي- طفلة كل من ماكسين ولوت- التي ستكون الوعاء القادم لهما، بينما ينتقل المُخرج من خلال القطع المُونتاجي إلى ماكسين ولوت اللتين تعيشان مع بعضهما وطفلتهما بسعادة، بينما إيميلي تخبرهما برغبتها في النزول لحمام السباحة، لنعرف أن كريج لم يجد وعاء جديدا له سوى إيميلي كي يكون قريبا طوال الوقت من ماكسين الموتور بحبها ورغبته فيها! أي أن صُناع الفيلم هنا رأوا الاستمرار في الكابوس إلى ما لا نهاية، وأن الجميع سيظلون يتنقلون من مضيف لآخر مُحتلين لأجساد الآخرين، سالبين إياهم لأرواحهم!

المُمثلة الأمريكية كاثرين كينر

إن الفيلم الأمريكي "أن تكون جون مالكوفيتش" للمُخرج سبايك جونز من الأفلام السينمائية الفريدة التي تنطلق بالخيال إلى آفاق لا يمكن لها أن تتوقف عند حد مُعيّن، وهو فيلم يستخدم فيه السيناريست- البطل الحقيقي للفيلم- قوة الجموح الخيالي التي لا حدود لها، أي أنه يتميز بجرأة فنية لا يقدم عليها الكثيرون من كتاب السيناريو؛ الأمر الذي جعل الفيلم فريدا في أحداثه، وما يمكن أن تذهب إليه الأحداث من أمور غير متوقعه، لا يمكن لها الخضوع إلى العقل المنطقي، بل تحيل الفيلم بالكامل إلى فوضى وعبثية حقيقة، لكنها عبثية الفن التي قد نراها أحيانا تجثم على صدورنا ككابوس حقيقي، مانعا إيانا من التنفس أثناء مُشاهدتنا لما يدور أمامنا على الشاشة، لكننا بالتأكيد سنشعر بالكثير من المُتعة الفنية الشبيهة بحالة من حالات الأورجازم، حتى لكأننا قد تقمصنا جون مالكوفيتش ومارسنا الجنس مع ماكسين؛ فانتفت الخيوط الفاصلة بين الواقع والخيال لدينا كمُشاهدين.

 

 

 محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".
عدد نوفمبر 2024م.

 

 

 



[1]  John Malkovich جون مالكوفيتش هو مُمثل أمريكي من مواليد 9 ديسمبر 1953م، حصل على العديد من الجوائز بما في ذلك جائزة Primetime Emmy Award بالإضافة إلى الترشيحات لجائزتي Academy Awards، وجائزة British Academy Film Award جائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام، وجائزتي Screen Actors Guild Awards نقابة مُمثلي الشاشة، وثلاث جوائز Golden Globe Awards جولدن جلوب، وقد ظهر مالكوفيتش في أكثر من 70 فيلما سينمائيا منها The Killing Fields حقول القتل 1984م، وEmpire of the Sun امبراطورية الشمس 1987م، وغيرها من الأفلام.

الاثنين، 14 أكتوبر 2024

نوفمبر الحلو: فكرة مُبتذلة لصناعة فيلم رومانسي!

هذا فيلم مبني بالكامل على مجموعة من الأكاذيب، والسلوكيات المرضية التي تبدو لنا وكأنها لا علاج لها، لكن صُناع الفيلم يرغبون، بإصرار، في الإيحاء لنا بأن ما يدور أمامنا هو في واقع الأمر النعيم الرومانسي الذي لا بد أن يتمناه، ويرغبه كل منا، وبالتالي سنحلم بأن نعيشه بتبادل الأدوار بيننا وبين المُمثلين في الفيلم- أي الرغبة في تمرير الأمراض السيكولوجية باعتبارها نعيما.

نحن أمام فيلم، في واقع الأمر، يتلاعب بالمُشاهد، وهو تلاعب يكاد أن يقترب من السُخرية منه، والاستهانة به وبمقدرته على التفكير ومنطقة الأمور. إنه الإحساس الطبيعي الذي لا بد أن ينتاب كل من يشاهد الفيلم، وبالتالي تبدأ مشاعر الغضب تتصاعد في داخله حينما يكتشف هذه الخدعة التي وقع ضحية لها؛ مما سيترك أثرا عكسيا، وشديد السلبية على الفيلم من قِبل من شاهده!

سبق أن تم تقديم هذا الفيلم فيما قبل بنفس العنوان Sweet November نوفمبر الحلو عام 1968م للمُخرج الأمريكي Robert Ellis Miller روبرت إليس ميلر، بطولة المُمثلة الأمريكية Sandy Dennis ساندي دينيس، والمُمثل الإنجليزي Anthony Newley أنتوني نيولي، ولعل كل من شاهد الفيلمين يُدرك جيدا أن الفيلمين يتطابقان في كل شيء، الأحداث، والمغزى، والشخصيات، والحبكة، حتى أن اسم المُمثلة في كلا الفيلمين كان هو "سارة"، أي أنه ليس ثمة اختلاف بين النسختين في عام 1968م، و2001م اللهم إلا في نوع المرض الذي تُعاني منه سارة، حيث كان في الفيلم الأصلي مرض نادر جدا لا يمكن الشفاء منه، ثم تطور الأمر في الفيلم الحالي إلى نوع من أنواع السرطانات التي أهملتها سارة، وفقدت الأمل في شفائها.


تطابق الفيلمين بهذا الشكل، وعدم اختلافهما في أي شيء من أحداثهما، أو شخصياتهما لا بد له أن يثير الكثير من الحيرة والتساؤل في نفس المُشاهد: لِمَ أقدم المُخرج الأيرلندي Pat O’connor بات أوكونور على إعادة إصدار الفيلم مرة أخرى رغم أنه لم يضف إليه أي جديد اللهم إلا مُمثلين جُدد فقط؟! وهل معنى إعجاب المُخرج بفيلم ما، أيا كان مستواه، يُعد مُبررا له من أجل إعادة صناعته مرة أخرى بنفس تفاصيله؟! أليس من الأجدى له أن يقوم بصناعة فيلم جديد ومُختلف قد يحمل نفس الروح والثيمة المُعجب بهما، لكنه يحمل في نفس الوقت بصمة المُخرج الخاصة، ومقدرته على صناعة سينما مُختلفة وذات خصوصية؟!

بالتأكيد ليس معنى حديثنا هنا أننا نرفض إعادة صناعة بعض الأفلام العلامات في تاريخ السينما العالمية، لا سيما أن هناك العديد من الأفلام التي من المُمكن لنا إعادة صناعتها في كل سينمات العالم، لكن مثل هذه الأفلام الصالحة للإعادة تحمل في جوهرها إمكانية صلاحيتها لكل الثقافات والأزمنة، فضلا عن قيمتها الفنية، ومُفارقتها عن غيرها من الأفلام، بمعنى فرادتها، مثل فيلم ChungKing Express للمُخرج الهونج كونجي Wong Kar Wai وونج كار واي، وهو الفيلم الذي أعلن المُخرج الأمريكي Quentin Tarantino كوينتين تارانتينو بحماس عن رغبته في إعادة إصداره في نسخة أمريكية، كما أعلن أنه فيلم لا بد من إصداره بنسخ مُتعددة في كل مكان من العالم، وكما رأينا أيضا مع الفيلم الإيطالي Perfect Strangers غرباء تماما 2016م، وهو الفيلم الذي تم تقديم نُسخ مُتعددة منه في الكثير من دول العالم نظرا لفرادته، وأهمية تيمته التي قام عليها.


إذن، فهذه الأسئلة، وغيرها من التساؤلات الخاصة بالصناعة، في جوهرها، لا بد لها من الانسيال على ذهن المُشاهد المُدقق، لا سيما من يعمل في مجال السينما، بمُجرد انتهائه من مُشاهدة فيلم Sweet November نوفمبر الحلو 2001م للمُخرج الأيرلندي بات أوكونور؛ نظرا لضعف الفيلم، وتهافته، وتلفيقيته التي انبنى عليها مُنذ المشهد الأول.

قد يبدو لنا فيلم "نوفمبر الحلو" فيلما رومانسيا ساحرا من الناحية الظاهرية- وهذا ما حرص عليه صُناعه جاهدين- وبالتالي سينجح في جذب المُشاهد في هوة لا قرار لها، مُستمتعا بالكثير من المشاعر الجميلة، والأحاسيس الدافئة، لكنه بمُجرد انتهاء الفيلم نهايته المُفاجئة؛ لا بد أن تنتابه حالة من الإفاقة الغاضبة، ومشاعر الانزعاج نتيجة للتلاعب به وبعقله.


يبدأ المُخرج فيلمه على صوت تأوهات جنسية مُلتذة، بينما تحدق الكاميرا في المنبه الذي سُرعان ما سينطلق صوته، لتمتد يد من خارج الكادر بعصبية محاولة إيقافه، ثم تنتقل الكاميرا إلى مُتابعة نيلسون- قام بدوره المُمثل الكندي Keanu Reeves كيانو ريفز- الذي يُشارك الفراش مع حبيبته أنجيليكا- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Lauren Graham لورين جراهام- فنراه ينهض من الفراش بمُجرد انتهائه من الجنس بينما هو في عالم آخر تماما، لنسمعه يقول ببرود: كان هذا جيدا. ثم يبدأ في الحديث إلى نفسه بينما يتجه نحو الحمام، غير مُهتم تماما بأنجيلكا التي كان يمارس معها الجنس مُنذ برهات.

إن بداية المُخرج لفيلمه بهذا المشهد لم يكن من قبيل المُصادفة؛ فهو يُدرك جيدا كيف يقدم لنا شخصيته المهووسة بالعمل حتى أنها تبدو دائما ذاهلة عن كل ما يدور من حولها، اللهم إلا العمل الذي تدمنه.


دعنا نتأمل مُفردات المشهد الفيلمي السابق بروّية للتدليل على ما ذهبنا إليه: منبه تقترب عقاربه من تمام الساعة، صوت تأوهات جنسية لزوجين في الفراش، ثم يدق المنبه في نفس اللحظة التي ينتهي فيها نيلسون من الجنس مع شريكته، نهوض نيلسون بمُجرد انتهائه ليقول عبارته: كان هذا جيدا. عدم الالتفات إلى أنجيلكا وكأنها غير موجودة، أو كأنه لم يكن يمارس معها فعلا حميميا مُنذ لحظة، انغماسه الكامل في ذاته أثناء اتجاهه للحمام بينما يُحادث نفسه عن حملته الإعلانية التي يقوم بها عن أحد مُنتجات "الهوت دوج".

إن تقديم المُخرج لنيلسون مُنذ المشهد الأول بهذا الشكل يؤكد على أن المُخرج يُدرك جيدا كيفية تقديم شخصيته المُدمنة للعمل، وهو ما يجعل الشخصية غير مُنتبهة، أو مُهتمة بكل ما يدور من حولها، وهو ما يجعله أيضا غير مُهتم بأنجيلكا، مما يجعلنا نؤكد على أن عبارته: كان هذا جيدا. بمُجرد انتهائه من الجنس، هو مُجرد مفهوم يخصه، أو اعتقاد داخلي لديه هو فقط بأن هذه الجولة الجنسية كانت جيدة، لكنها في واقع الأمر- إذا ما تأملنا المشهد جيدا- لم تكن جيدة بالنسبة لشريكته أنجيلكا التي يبدو على وجهها التبرم، وعدم الرضى أو السعادة. إنها جيدة بالنسبة له فقط، وفي عالمه الخاص به، في ذهنه، أي أن المُخرج هنا قدم لنا المشهد التأسيسي الأول بشكل يجعلنا نُحيط تماما بشخصية نيلسون التي لا يعنيها أي شيء في الحياة سوى عملها.

هذا الإدمان للعمل، والانغماس في الذات سيؤكد عليه المُخرج مرة أخرى حينما تطلب منه أنجيلكا أن يهدأ لأنها في حاجة إلى الحديث معه عن حياتهما، فنعرف أن والديها سيزوران سان فرانسيسكو، وأنها تطلب منه أن يقابلهما لأنها الزيارة الثالثة لهما، وهو لم يقابلهما من قبل، لكنه يتعلل لها بأنه لا يمتلك الوقت لذلك؛ فتقول: أتعلم، هناك بشر لا يعملون 24 ساعة في اليوم، هم يتوقفون، يرتاحون، لديهم حياة. ليرد عليها من دون أي اهتمام: أنا لدي حياة أنجيليكا، وأنا مُتأخر عليها!


هذا الرد من نيلسون لرفيقته لا يحمل في جوهره إلا الاستهانة، وعدم العناية أو الاهتمام بها، وربما السُخرية من حديثها ومُعتقداتها، أيا كانت، وهو ما من شأنه بالتأكيد أن يؤثر على أي علاقة بين رفيقين إذا ما كان هذا هو التعامل بينهما.

إدمان نيلسون لعمله سنُلاحظه حينما يخرج من حمامه، ويُعد فنجال القهوة، الذي يشربه سريعا أثناء وقوفه أمام عشر شاشات تلفاز مُختلفة تنقل لنا الأخبار، والعديد من الإعلانات، فضلا عن هاتفه المحمول الذي يتحدث فيه بسرعة مع شريكه في العمل فينس- قام بدوره المُمثل الأمريكي Greg Germann جريج جيرمان- أي أن نيلسون شخصية غير صالحة للحياة، بل هو مُجرد ماكينة من أجل إنتاج المزيد من الإعلانات التي يعمل في مجالها، وناجح فيها إلى حد بعيد.


إذن، فالمُخرج هنا ناجح في تقديم المشاهد التأسيسية لتعريفنا بنيلسون الذي ستتابعه الكاميرا في الذهاب إلى عمله، وانهماكه كلية في حملته الإعلانية التي يعدها عن أحد مُنتجات "الهوت دوج"، حتى أنه لم يهتم بالجائزة التي حصل عليها حينما حاولت السكرتيرة تقديمها له، وتركها لشريكه في العمل/ فينس ليستلمها، بينما ذهنه مُنشغل في الحملة. لكن إحدى مُساعداته تخبره بأنه لا بد له من الذهاب إلى المرور من أجل تجديد رخصة قيادته، وحينما يطلب منها إعادة جدولة موعده مع المرور؛ تخبره بأنه إذا لم يذهب سيفقد رخصته، وبالتالي لن يستطيع قيادة سيارته، وإذا ما قادها من دون رخصة سيتم سجنه، وهو بالتأكيد لا يمتلك الوقت الكافي لكل ذلك، مما يرغمه على الذهاب إلى اختبار المرور.


إن اضطرار المُخرج للجوء إلى تجديد رخصة القيادة كان لا بد منه- حسب المنطق الفيلمي الذي رأيناه- من أجل اللقاء بسارة هناك- وإلا ما استمرت الأحداث كما رسمها صُناع الفيلم- أي أنه كي يلتقي بسارة- قامت بدورها المُمثلة الجنوب إفريقية الأصل الأمريكية الجنسية Charlize Theron تشارلز ثيرون- ويكتمل الفيلم كما خطط له صُناعه كان لا بد من ذهابه إلى المرور، لكننا نعرف جيدا أن تجديد رخصة القيادة لا يتطلب اختبارا تحريريا في ورقة من أسئلة وإجابات، ومُراقب لمُراقبة المُمتحنين- قد نقبل ذلك إذا ما كانت هذه هي المرة الأولى لاستخراج رخصة القيادة، وليس تجديدها- لكن، لأن سارة لا بد لها من اللقاء بنيلسون، وكي يخلق المُخرج الحبكة التي تجعلهما يشتبكان، قام بإعداد لجنة تحريرية للاختبار من أجل تجديد رخصة القيادة، مُتجاهلا في ذلك واقعية الأمور ومنطقيتها!

تدخل سارة إلى لجنة الامتحانات مُحملة بأكياس بقالة كثيرة تقع منها أثناء محاولة تحركها مما يثير الكثير من الفوضى، وتجلس بالقرب من نيلسون، وأثناء الاختبار يحاول أن يعرف منها إجابة أحد الأسئلة مما يجعل المُراقب ينتبه إلى حديثهما، ويطردها من اللجنة بعد تمزيق ورقة إجابتها، مُخبرا إياها بأنها من المُمكن لها أن تُعيد الاختبار مرة أخرى بعد 30 يوما.


سنُلاحظ أن نيلسون في هذا المشهد لم يهتم أي اهتمام بطرد سارة بسببه رغم أنها لم تفعل أي شيء، بل هو الذي حاول سؤالها، فرأيناه يضع وجهه في ورقة الأسئلة الخاصة به، ولم يعرها اهتماما حتى حينما قالت له أثناء خروجها أنها ستخرج بعدما تم إلغاء اختبارها بسببه، مما يُدلل على عدم اهتمامه بالآخرين، أي أن اهتمامه الوحيد متمحور هنا حول ذاته فقط. هذه الأنانية في التعامل هي ما سبق لنا أن رأيناه بمُجرد انتهائه من مُمارسة الجنس مع رفيقته، وهو ما سنراه مرة أخرى حينما يخرج من اختباره ليجد سارة جالسة على مُقدمة سيارته، لتخبره بأنه مدين لها بتوصيلة لأنه قد حرمها من رخصتها وقيادة سيارتها لمُدة شهر، فنراه يجيبها بغير اهتمام: كم تكسبين في الشهر؟ لا يبدو أنه مبلغ كبير، أنا سأغطي نفقاتك. ثم يخرج بطاقته الشخصية ليمد يده بها إليها قائلا: خذي، اتصلي بسكرتيرتي، وسوف نعالج الأمر. أي أنه لا يعنيه البشر، وما قد يحدث لهم بسببه، ولا يمتلك أي شكل من أشكال التعاطف. نتأكد من ذلك حينما تسأله سارة: هل هذا بدافع الندم أم أنك خائف من أن جلوسي على السيارة سيسبب لها انبعاجا؟ ليقول بلا اهتمام: الانبعاج. لكن سارة تقول: هذا ما اعتقدته.


تستطيع سارة التوصل إلى عنوان بنايته التي يسكن فيها، وتصل إليه طالبة منه إيصالها إلى أحد الأماكن، وحينما يرفض بسبب ضيق الوقت لديه، ويبدأ في التعامل معها بصلف تقول له غاضبة: أعتقد إني لم أقابل وغد مثلك في حياتي، أتعرف أمك بأنك تعامل النساء كأنهن عاهرات أم أنها جعلتك تصدق أنه لكي تكون مُهذبا يجب أن تحتقر باقي العالم؟

هنا يكون المُخرج قد رسم لنا بالفعل السمات الشخصية بالكامل لشخصية نيلسون المُدمن لعمله، المُنغمس في ذاته، الذي يتعامل مع العالم بالكامل من دون اهتمام أو تعاطف، بل هم بالنسبة له مُجرد أشياء لا قيمة لها، فلا قيمة إلا لما يقوم به من عمل فقط.

لكن سارة تبدأ في إثارة الكثير من الضجيج أمام جيرانه في البناية، وتحرجه أمامهم؛ مما يجعله يرضخ لرغبتها في إيصالها إلى المكان الذي ترغب فيه، حيث تأخذه إلى مكان بعيد هو في حقيقته مُختبر حيوانات، وتقوم باقتحام المكان لسرقة كلبين صغيرين يخصانها، كان سيتم إجراء بعض التجارب عليهما، وتطلب منه الهروب من المكان بسرعة.


حينما يوصل نيلسون سارة إلى منزلها تطلب منه مُرافقتها للداخل لمُشاركتها في كوب من الكاكاو، لكنه يرفض، فتعرض عليه اتفاقا: أن يشاركها في كوب الكاكاو في مُقابل عدم الذهاب إليه من أجل إيصالها لأي مكان آخر، لكنه يؤكد لها على أنه لا يمتلك الوقت لذلك؛ مما يجعلها تهبط من السيارة مُخبرة إياه بأنها ستلقاه في الصباح من أجل إيصالها إلى أي مكان ترغب فيه، وهو ما يجعله يرضخ لطلبها بالدخول إلى منزلها ومُشاركتها.

لعلنا نُلاحظ هنا أن سارة تحاول الضغط على نيلسون بكل ما تستطيع من أجل إنشاء علاقة معه- ربما هي مُعجبة به- لكننا نُلاحظ أنها تقول له: أنت مُدمن عمل، وفي مثل هذه الحالة المُتقدمة كل علاقاتك العاطفية تذبل وتتحول إلى لا شيء، لو تُركت بدون علاج ستصبح مُنعدم العاطفة. ثم تقترح عليه أن تقوم هي بعلاجه باعتباره مسجونا في صندوق، وأنها هي الوحيدة القادرة على فتح هذا الصندوق ليرى أشعة القمر. وتطلب منه أن ينتقل إلى منزلها للإقامة معها لمُدة شهر بالكامل- لا أكثر ولا أقل- بشرط أن يتخلى عن أي شكل من أشكال العمل طوال هذا الشهر، لكنه يرفض، ويخبرها بأنه لديه حبيبة، لكنها تخبره بأنها تشفق على هذه الحبيبة، وتحاول إقناعه بقبول عرضها إلا أنه يرفضه ويغادر منزلها.


هل ما قالته سارة لنيلسون كان صحيحا؟ بالتأكيد هو صحيح؛ فهو مُدمن عمل، لا يرى في الحياة أي شيء سوى عمله، حتى أنه لا يرى حبيبته، لكن العرض الذي قدمته له هو المُثير للكثير من الحيرة والتساؤلات: ما معنى أن ينتقل للإقامة في بيتها لمُدة شهر، وهل هي طبيبة، وما الذي يدعوها لذلك، ولِمَ تُضيع وقتها لمُدة شهر من أجل علاجه- إذا ما كانت ترى أنه مريضا- ولِمَ تُصر على أنه في حاجة إلى المُساعدة، وما السبب في أنها مُصرة على أن تكون هي الوحيدة في هذا العالم التي لا بد لها من مُساعدته رغم أنه كان السبب الذي حرمها من رخصة قيادتها، بل وعاملها بالكثير من الصلف، والتعالي، والفظاظة؟

بالتأكيد هذه الأسئلة، وغيرها الكثير لا بد لها أن تتبادر على الذهن أمام هذا الموقف غير المنطقي، لكن نيلسون لا يهتم بها، ويمضي في طريقه الوحيد الذي يعرفه، إلا أنه في اليوم التالي حينما يعرض حملته الإعلانية على العميل، يقوم العميل برفضها، وهو الأمر الذي يثير الكثير من الدهشة داخل نيلسون الناجح في مجاله، وأكثرهم تقدما في هذا المجال، مما جعله الأكثر سعرا، فيشتبك مع العميل مُهينا إياه مما يجعل رئيس الوكالة الإعلانية التي يعمل بها يطرده من العمل، وحينما يعود إلى منزله يُفاجأ بأنجيليكا تحمل حقيبة ملابسها، وقد قررت هجره لعدم مقدرته على الإحساس بها. أي أنه كان يوما كارثيا بالنسبة له على كل المستويات، مما يجعله يجلس وحيدا يحتسي زجاجة من البيرة، لكن حارس البناية يصعد إليه مُخبرا إياه بأن السيدة الغريبة/ سارة قد أرسلت له طردا وطلبت منه تسليمه إياه، وحينما يفتح الطرد يُفاجأ بأحد كلاب سارة وفي رقبته مفتاح شقتها، أي أنها ما زالت مُصرة بكل الطرق على أن تقوم بعلاجه ومُساعدته كما تدعي، وبما أن نيلسون كان في حالة نفسية وعملية بائسة بعدما فقد عمله وحبيبته معا؛ فلقد ذهب إليها طالبا منها أن تبتعد عن طريقه، وألا تقوم بإرسال أي شيء إليه مرة أخرى، لكنها تحاول إقناعه بالبقاء، فيوافق لهذه الليلة فقط.


إن موافقة نيلسون هنا على البقاء مع سارة تبدو لنا منطقية إلى حد بعيد، وليست مُصطنعة؛ فلقد مر بيوم عصيب من أسوأ أيام حياته، ومن ثم كان من المنطقي له أن يستسلم لإلحاحها بعدما فقد كل شيء، لكنهما حينما يتبادلا القبلات ويحاول تنحية ملابسها عنها تتملص منه، طالبة منه المزيد من الوقت مما يجعله يستشيط غضبا لإحساسه بأنه يتم التلاعب به من قبلها، ومن ثم يرتدي ملابسه ويسرع بالخروج، لكن سارة تلحقه طالبة منه العودة، وتحاول إقناعه، وبالفعل حينما يصعدان تقترب من الفراش الذي يجلس على حافته لتقول له بصوت هامس: أتريد أن تكون ملكي في نوفمبر؟ فيومئ لها برأسه موافقا، مما يجعلها تمنحه جسدها بالكامل.

إن موافقة نيلسون هنا على أن يكون ملكية خاصة لسارة في شهر نوفمبر منطقية ومقبولة إلى حد بعيد في مثل هذا الموقف الذي هو فيه؛ فهو يائس من كل شيء بعد خسارة حبيبته وعمله، وهو في حالة كاملة من الاستثارة بعد المُداعبة الجنسية التي حدثت بينهما مُنذ قليل؛ ومن ثم لا يمكن لنا هنا أخذ قبوله وموافقته على مأخذ الجد، بل هو قبول لحظي وسريع من دون أي إعمال للعقل، أي أن رغباته هي التي أجابت بالنيابة عنه، وليس عقله. إذن، فلقد نجحت سارة في الوصول إلى ما ترغبه، وأقنعته- مُستغلة الظروف التي مر بها- بالبقاء معها لمُدة شهر- ساعدها في ذلك إغوائها الجسدي له، وضعفه أمام رغبته فيها.


لكن، هل معنى ذلك أن نيلسون الذي يتعامل مع الجميع باستعلاء وصلف وعدم اهتمام سيتوقف عن أسلوبيته في الحياة؟

ليس الأمر بهذه السهولة، فحينما تبرعت سارة في اليوم التالي بملابسه إلى أحد المُشردين، وجلبت له ملابس أخرى لا تناسبه، وحينما عرف أن هذه الملابس هي ملابس جارها الذي دخل البيت وقبلها أمامه حاول ترك المنزل؛ فأسرعت خلفه محاولة استعادته، لكنه قال لها بفظاظة: إن خطتك هذه تشعرني بأنك تبحثين عن سبب كي أضاجعك. مما جعلها تشعر بالكثير من الحزن لتتركه عائدة إلى منزلها، لكنه يلحق بها محاولا الاعتذار لها، مُخبرا إياها بأنه لا يستطيع البقاء إلا يوما واحدا فقط، فتوافق.

تأخذ سارة نيلسون في جولة على الشاطئ مُصطحبة معها مجموعة من الكلاب التي تبدأ في اللهو معها، وحينما يعودان من الشاطئ يسألها نيلسون: لماذا فعل الأشياء التافهة أفضل من أن أحيا حياة مسؤولة، الملل كما يبدو لك؟ ومن جعلك الخبيرة الدكتورة، المُرشدة الروحية؟ لماذا لديك كل الأجوبة؟ لكنها تخبره بأن معرفة هذه الأمور في حاجة إلى المزيد من الوقت، وهو يخبرها دائما بأنه لا وقت لديه، لذا لن يستطيع أن يعرف.


سنعرف أن سارة لديها مجموعة من القوانين التي لا تحيد عنها في حياتها، مثل أن تستدعي كل شهر رجلا جديدا للإقامة معها في بيتها تحت دعوى أنه في حاجة إلى المُساعدة، وأنها لا بد لها أن تقوم بمُساعدته، وهو ما تخبر به نيلسون: ميتش كان أكتوبر، كان خجولا جدا، أعتقد أنه كان أكثر الرجال الذين قابلتهم خجلا؛ لذا ركزنا على تعزيز ثقته. أي أنها المرأة الخارقة القادرة على علاج كل مُشكلات الرجال في العالم بالإقامة معها، ومُمارسة الجنس معهم، والحياة من دون عمل، وهدر الوقت من دون طائل، وهكذا يكون الرجل قد تخلص من كل مُشكلاته التي يعاني منها- يبدو لنا الأمر هنا أنها مُجرد امرأة مُصابة بالهوس الجنسي، وتغيير الرجال الذين يمارسون معها الجنس، والرغبة في مُضاجعة جميع رجال العالم تحت دعوى مُساعدتهم، أي أنها، في واقع الأمر، الشخص الذي يحتاج إلى مُساعدة نفسية عاجلة لعلاجها من الإدمان الجنسي، وليس من تتصيدهم.


لذا يسألها نيلسون: ولكن، لماذا شهر؟ لترد بثقة: إنه طويل بما يكفي ليكون ذو معنى، وقصير بما يكفي لأبقى بعيدا عن المشاكل.

يحاول نيلسون في نهاية اليوم المُغادرة، لكنه حينما يذهب إلى منزله يشعر بالكثير من الملل، ويبدأ في التفكير في سارة، ومن ثم يعود إليها مرة أخرى، أي أن الأمر هنا قد تحول إلى نوع من الإدمان النفسي، والاتكال على وجودها من أجل إخراجه من حالته النفسية السيئة، والفراغ اللذان يمر بهما نتيجة فقدانه لعمله الذي يدمنه، فضلا عن الجنس معها، والبهجة التي تضفيها على حياته، فهي شخصية مُبهجة إلى حد بعيد.

لكننا سنُلاحظ أيضا شكلا من أشكال السيطرة من قبل سارة، أي أنها ترغب في أن تكون هي المرأة المُسيطرة، المُتملكة للعالم، الراغبة في أن تكون كل خيوط الأمور في يدها، ومن ثم لا بد أن يقبل شريكها بكل ما تمليه عليه، وهو ما سيتضح لنا جليا حينما يخرجان ليركبا المترو، فيسألها نيلسون: أنا لا أفهم لماذا لم نأخذ تاكسي؟ لترد: لأني أنا من يضع القواعد نيلسون، القواعد التي يجب أن تمتثل لها بالتمام والكلية. ألا نُلاحظ هنا رغبة حقيقة في السيطرة على شريكها؟ أي أن سيطرتها على كل شيء هو أمر يمنحها شكل من أشكال القوة التي هي في حاجة إليها.


لعل ما يؤكد لنا ما سبق أن ذهبنا إليه قول تشاز- قام بدوره المُمثل الإنجليزي Jason Isaacs جيسون إسحاق- جار سارة المثلي الجنس لنيلسون: يجب أن تفهم شيئا، إنها معدومة القوة تماما، بهذه القواعد، أنت تعرف، إنها تعطيها الأحلام والأمل في التحكم، إنها تبقيها حية، أخبرتني أنها إذا لم تكن تستطيع أن تعيش حياة طبيعية، فهي مُصممة على أن تعيش حياة فوق العادة بأحسن طريقة تستطيع.

إذن، فنحن أمام امرأة لا يمكن إنكار أنها مُدمنة للجنس أولا، كما أنها مُدمنة لحُب السيطرة على شركائها، وامتلاك القوة من خلال التحكم في حيواتهم ما داموا معها!

لا يمكن إنكار أن حياة نيلسون قد بدأت في التغير بالفعل بفعل إقامته الدائمة مع سارة، فلقد بدأ يبتهج، ويستمتع بالحياة معها، بل وتغيرت طريقة تعامله مع الآخرين إلى الكثير من التواضع، وبدأ يتعاطف مع الغير، لا سيما جارهما الصغير أبنر- قام بدروه المُمثل الأمريكي Liam Aiken ليام أيكن- الذي يضطهده أقرانه من الصغار، ويصفونه بالأنوثة، ويحاولون عزله اجتماعيا، حيث نرى نيلسون في إحدى السباقات التي يشترك فيها أبنر مع رفقائه من أجل سباق لسُفن صغيرة يقوم برشوة أحدهم بمئة دولار من أجل هزيمة الأطفال الآخرين ليفوز أبنر، وحينما تخبره سارة بأن ما فعله كان جيدا، لكنه لن يجعل أبنر قادرا على التغلب على صعوبات الحياة، يرد عليها بأنه كان لا بد له أن يقوم بذلك لأن الأطفال جميعا قاموا بالسُخرية منه. أي أنه بات أكثر تعاطفا مع الآخرين. كما أن الطفل يطلب منه أن يتبناه، وحينما يخبره نيلسون بأنه لا يستطيع تبنيه، يخبره بأنه يرغب في ذلك لأنه لا يعرف أباه، ويرغب في وجود أب له في يوم الأب في المدرسة، فيوافق نيلسون على أن يصطحبه في يوم الأب باعتباره مُمثلا لأبيه.


هذا التغير نحو الأفضل يجعل نيلسون يرفض فرصة عمره في مجاله العملي، حينما يسعى مع شريكه بكافة الطرق لأخذ موعد مع أحد أكبر مالكي الوكالات الإعلانية، وحينما يلتقيان معه من أجل عقد صفقة يحدث أن تقترب النادلة من المنضدة لوضع بعض الأكواب، لكن قدمها تتعثر مما يؤدي إلى انزلاقها ووقوع الأكواب، فينظر إليها الرجل بقسوة قائلا ببرود: أتدرين جميلتي، نحن نكون بقدر ما نفعله في هذا العالم، وأنت نادلة، كل ما هو مطلوب منك أن تحضري الطعام والشراب من وإلى المائدة بدون أي فوضى، هذا كل شيء، لذا عندما تدمرين شيئا بسيطا إلى درجة لا تُصدق مثل هذا، لا يمكن أن يدل على أي شيء جيد فيك، أليس كذلك؟ فتنصرف النادلة باكية بينما يتابعها نيلسون، ليقول فينس لمالك وكالة الإعلانات: إذا أعطيتها أي كلمة جيدة يمكن أن تحصل على تغيير. ليرد الرجل ببرود: يجب أن يفصلوها، أنا دائما ما أقول: إن المُستخدم السيئ يزيد من شدة المُنافسة، القائد الجيد يقضي على مُنافسه.


هنا نُلاحظ أن نيلسون لا يشترك في الحوار، لكنه يظل مُتأملا للنادلة التي انتحت أحد الأركان للبكاء بسبب ما قاله الرجل، وحينما يعرض عليهما صاحب الوكالة عرضا باهظا لم يتلقيا مثله في حياتهما العملية من قبل، ينظر نيلسون إلى العرض بفتور ليخبره بأنه لا يعنيه، وحينما يسأله رجل الأعمال عما إذا لم يعجبه العرض، يرد عليه بأنه هو الذي لم يعجبه وليس عرضه، وسُرعان ما ينصرف تاركا إياهما مُتجها إلى منزل سارة.

إنها الأسلوبية اللاإنسانية التي يتعامل بها رجال الأعمال والأثرياء مع البشر، وهو ما سبق لنا أن رأيناه أيضا من خلال فينس- شريك نيلسون في العمل- حينما قابل نيلسون وسارة في أحد المطاعم، وحينما رغب في تقديم رفيقته لم يتذكر اسمها؛ مما جعل سارة تندهش مُتسائلة عما إذا كان لا يتذكر اسم رفيقته ليرد عليها ببساطة: إنها لا تهتم طالما إني أتذكر دفع الشيك، أليس صحيحا؟ أي أنهم يتعاملون مع النساء في النهاية من دون عاطفة باعتبارهن أشياء من المُمكن لهم شرائها وتغييرها وقتما رغبوا في ذلك، وهو نفس السلوك الذي كان نيلسون يتعامل به مع جميع البشر قبل تغيره مع سارة.


يقع نيلسون في حب سارة رويدا، ولا يستطيع التخلي عنها، وهو ما يجعله يشعر بأن الحياة بمثل طريقتها هو الشكل الأمثل والأكثر سعادة وبهجة للإنسان، ومن ثم يعرض عليها الزواج، لكنها رغم وقوعها في حبه بدروها ترفض الأمر، مُخبرة إياه بأنها لا تستطيع لظروف تخصها. يلح نيلسون أكثر من مرة على الزواج لكنها ترفض بإصرار إلى أن يكتشف نيلسون- ونحن معه- أن سارة مُصابة بالسرطان، وأنها قد انقطعت عن العلاج مُنذ عام حينما أيقنت أنها لا تستطيع هزيمته، وتأخذ فقط مجموعة من المُسكنات حينما تشعر بالآلام؛ لذا فلقد قررت الاستمتاع بحياتها إلى أقصى درجة مُمكنة قبل الموت، وهو ما جعلها تضع مجموعة القواعد التي تعيش من خلالها، أي صحبة رجل جديد كل شهر باعتبار أنها تقوم بمُساعدته رغم أنها في جوهر الأمر تقوم بمُساعدة نفسها هي.


ربما لا بد لنا من التوقف هنيهة هنا أمام ما تقوم به سارة، وإعادة النظر للأمور بشكل جديد بناء على المُعطيات الجديدة التي كشف لنا الفيلم عنها؛ فسارة فاقدة للأمل في الحياة التي سُرعان ما ستنتهي، وتنفلت منها بسرعة؛ لذا فهي ترى أن الطريقة الأمثل لها- بما أنها عاشقة لهذه الحياة التي تنسرب منها- أن تستمتع بها بأقصى درجة مُمكنة، وهذا الاستمتاع- تبعا لمفهومها- يكون بمُصاحبة العديد من الرجال واستبدالهم كل شهر، من خلال إيهامهم بأنهم في حاجة ماسة إلى المُساعدة، وأنها هي من سيقوم بمُساعدتهم وشفائهم من أمراضهم!

ألا نرى في هذا السلوك المرضي الكثير من الأنانية والإيذاء للآخرين؟ إنها تؤذيهم أكثر مما تُساعدهم، وإذا ما كانت قد نجحت بالفعل في مُساعدة نيلسون على تغيير حياته إلى شكل أكثر إنسانية إلا أنها أوقعته في مأزق عشقه لها، ثم تخليها عنه برغبتها في الابتعاد، أي أنها قد دمرت حياته العاطفية والنفسية، وتركته يعاني من جحيم مشاعره، كما لا يفوتنا أن جارها تشاز حينما أخبرته برغبة نيلسون في الزواج منها رد عليها مهونا من الأمر: وماذا في ذلك؟ لقد عرض عليك الآخرون الزواج أيضا. أي أن سارة هنا مُجرد امرأة مُتلاعبة، تُدمر حيوات الآخرين بما تفعله، وتعلقهم العاطفي بها، أكثر مما تساعدهم كما تدعي، تقوم بغشهم، ولا تقول لهم حقيقة وضعها وتتركهم يقعون في مأزقهم العاطفي الخاص.


صحيح أننا نستطيع النظر إلى الأمر من وجهة نظر أخرى مُخالفة، وهي وجهة النظر التي سبق لتشاز أن أخبر بها نيلسون: يجب أن تفهم شيئا، إنها معدومة القوة تماما، بهذه القواعد، أنت تعرف، إنها تعطيها الأحلام والأمل في التحكم، إنها تبقيها حية، أخبرتني أنها إذا لم تكن تستطيع أن تعيش حياة طبيعية، فهي مُصممة على أن تعيش حياة فوق العادة بأحسن طريقة تستطيع. أي انها تحاول من خلال هذه العلاقات الشعور بالمزيد من القوة التي تفتقدها- بما أن المرض يزيدها وهنا نفسيا وجسديا- ومحاولة السيطرة على الاتزان النفسي، لكنها محاولة مُؤذية للآخرين.

من جهة ثالثة، ربما يمكن لنا النظر إلى هذا السلوك باعتباره مُجرد محاولة منها لإثراء حياتها بحيوات الآخرين، ومن ثم تكون- من خلال فعلها- قد عاشت عدة حيوات مُكثفة ومُختلفة وثرية في حياة قصيرة واحدة ما دامت تعرف أنها ستموت، أي أنها تنهل من الحياة بإضافة حيوات أخرى متوازية إلى حياتها والانخراط فيها، وهذا شكل من أشكال عشق الحياة والتمسك بها، لكنه شكل لا أخلاقي مرضي يحاول صُناع الفيلم إقناعنا بأخلاقيته، واعتباره سبيلا إلى الفردوس العاطفي الذي وقع فيه نيلسون، والذي سُرعان ما تحول إلى جحيم حقيقي بمُحرد معرفته بمرض سارة، ورفضها له، ورغم أنه أبدى لها رغبته بالارتباط بها، والعناية بها حتى النهاية إلا أنها أصرت على الرفض، بل وطلبت منه مُغادرة منزلها تحت دعوى أنها غير راغبة في أن يراها هكذا رغم حبها له بدورها!


لقد حاول صُناع الفيلم بكافة الطرق المُمكنة إقناع المُشاهد برومانسية علاقة الحب التي نشأت بين كل من نيلسون وسارة، ورغبوا منا أن نذرف الدموع على مشهد اكتشاف مرضها، ورفضها للزواج من نيلسون لأنها مريضة- مفهوم التضحية الزائف- وتناسوا تماما أن الفيلم قد تم بنائه من الأساس على مجموعة من السلوكيات المرضية، والخداع، والزيف، وهو ما لا يمكن لنا التعاطف معه، أو التغاضي عنه من أجل قصة الحب المُلتهبة التي يرغب المُخرج منا التعاطف معها. فكيف لنا أن نتعاطف مع سارة باعتبارها تحب نيلسون، وترفض الارتباط به حتى لا يراها في لحظات ضعفها وموتها ومرضها، رغم أنها قد أوقعته في هذا المأزق عامدة وهي تعرف حقيقة مرضها، وكيف لنا أن نقتنع بهذا الحب العظيم كما يرغب الفيلم في تصويره رغم أنهما لم يمر على معرفتهما سوى ثلاثة أسابيع، ولم نر في حقيقة الأمر أي رومانسية بينهما اللهم إلى مُمارسة الجنس الكثيف بينهما، وكيف نستطيع الاقتناع بأن امرأة تحب رجلا ما من المُمكن لها أن تتخلى عن علاقتها به بمثل هذه السهولة والبساطة لمُجرد أن الأمور قد بدأت تسوء معها؟ إذن فالعلاقة هنا في جوهرها مُجرد علاقة شديدة السطحية، غير حقيقية، وإلا ما تم التخلي عنها ببساطة.


يبدو لنا الأمر هنا أن المُخرج قد قاد نفسه إلى هذه الفوضى الكاملة بيده لأنه بنى الفيلم مُنذ البداية على مجموعة من الأكاذيب الفوضوية، والكثير من المُخادعات، وهو ما جعله في مثل هذا المأزق مع المُشاهد.

يعود نيلسون مرة أخرى إلى سارة رغم أنها قد طلبت منه الرحيل، لنراه يصعد إليها من النافذة مُرتديا ملابس "بابا نويل"، حاملا معه حقيبة كبيرة مُنتفخة ليقدم لها العديد من هدايا رأس السنة، رغم أنهم ما زالوا في عيد الشكر، هنا لا بد من التوقف أمام الهدايا الاثنتى عشرة التي كانت في الحقيبة، والتي لن نتوقف أمامها جميعا، وإن كنا سنتوقف أمام غسالة الأطباق فقط!


فكيف يمكن لنيلسون أن يضع في حقيبة بابا نويل غسالة أطباق، ثم يتسلق بها للدخول من نافذتها؟! هل من المُمكن لنا تخيل ذلك أو تصديقه؟ بالتأكيد يمكن تصديق ذلك في الأفلام الكرتونية! نحن نعرف أن الفن هو شكل من أشكال التواطؤ بين صانع الفيلم والجمهور، وبالتالي من المُمكن للمُشاهد أن يتقبل أشياء لاعقلانية باعتبارها أشياء عادية من المُمكن لها أن تحدث رغم استحالتها في العالم الواقعي، ولكن ذلك يعتمد على شكل الاتفاق الذي يفرضه المُخرج مُنذ بداية فيلمه مع الجمهور، أي أنه يُحدد له بأنه يقدم فيلما سيرياليا، أو فيلما ساخرا، أو فيلما كوميديا يستدعي الكثير من الاصطناع، والأشياء غير المنطقية، أو فيلما أسطوريا- وهو ما يجعلنا نتغاضى عن الكثير من العقلانية- لكن الكارثة هنا أن مُخرجنا قد قدم لنا فيلمه مُنذ البداية باعتباره فيلما رومانسيا واقعيا، ومن ثم لا بد له من الالتزام بمثل هذا الاتفاق الضمني الذي عقده بينه وبين المُشاهد، أما أن يقدم لنا في سياق الفيلم أشياء غير منطقية، ولا يمكن لها أن تحدث في الواقع أو يتقبلها العقل، فهذا إخلال بالعقد، وعيب خطير في الفيلم يتحمل نتيجته صانع الفيلم، ومن ثم يصبح رفض المُشاهد للمشهد طبيعيا، وليس من قبيل التعسف مع المُخرج.


يحاول نيلسون البقاء مع سارة مرة أخرى، ويغطي جدران الشقة بالكامل بتقويمات حائط تشير إلى شهر نوفمبر فقط ليقول لها: كل شهر هو نوفمبر، وأنا أحبك كل يوم. لكن، رغم ذلك تُصر سارة في اليوم التالي على رحيل نيلسون، والابتعاد عنها، فنراهما متواجهين على أحد الجسور لتقول له: نيلسون، إذا ما رحلت الآن، كل شيء كان بيننا سيظل كاملا إلى الأبد، فيقول: الحياة ليست كاملة. لكنها ترد بإصرار: كل ما لدينا الآن هو كيف ستذكرني، وأنا أريد لهذه الذكرى أن تظل جميلة وقوية، ألا ترى؟ إذا ما عرفت إني سأظل مذكورة بهذه الطريقة، عندها سأستطيع مواجهة أي شيء. ثم تغطي عينيه بشالها، وسُرعان ما تنصرف عنه، لتتركه وحيدا يعاني في جحيمه الخاص الذي أدخلته إليه بإصرار كامل مُنذ بداية الفيلم.

إن الفيلم الأمريكي "نوفمبر الحلو" للمُخرج الأيرلندي بات أوكونور هو فيلم مبني مُنذ المشهد الأول على مجموعة من الأكاذيب، والأمراض النفسية، والسلوكيات اللاأخلاقية من أجل إيهام المشاهد بصناعة فيلم رومانسي لا بد له أن يتعاطف معه ويذرف الدموع في النهاية على مصير الحبيبين اللذين لم يستطيعا البقاء مع بعضهما البعض، ومن خلال ذلك حاول المُخرج بذل الكثير من الجهد من أجل إقناعنا بمشروعية كل هذا الخداع، والتغاضي عن كل هذه الأمراض النفسية التي رأيناها في فيلمه، لكنه لم ينجح في ذلك؛ لأن المُشاهد في النهاية لا بد أن ينتابه شعور بالخداع الشديد والتلاعب به؛ الأمر الذي يجعله يشعر بالنفور الشديد من الفيلم وليس التعاطف معه أو مع قصته الرومانسية المُصطنعة بطريقة موغلة في الابتذال. فنحن من زاوية أخرى- أكثر عملية- إذا ما تأملنا الفوضى العبثية التي قامت بها سارة في حياة نيلسون سيتبين لنا أنها قد قامت بتدمير حياته بالكامل سواء على المستوى العملي، أم على المستوى العاطفي، صحيح أن حياته كانت شديدة الجفاف، فيها الكثير من الأمور غير الصائبة، لكنها بدخولها إليها ساهمت في إفسادها، وخسرانه لعمله وفرصته التي نالها، ورفضها، فضلا عن أنه سيظل يعيش في جحيمه الخاص الجديد الذي أدخلته إليه.

 

 

 

 محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"
عدد أكتوبر 2024م.