كان الفيلم بمثابة واجب، أو تمرين طلابي حينما كان أندريه تاركوفسكي ما زال
طالبا في VGIK معهد الدولة للتصوير السينمائي تحت إشراف أستاذه المُخرج الروسي Mikhail Romm ميخائيل روم، ورغم أن
تاركوفسكي كان قد قام بفيلم طلابي من قبل مع زميله ألكسندر جوردون، وماريكا بيكو،
وهو فيلم "القتلة"، بمعنى أن المعهد قد تكفل بإنتاجه بميزانية شديدة
الضآلة مما أدى إلى أن جميع العاملين في الفيلم، والمُمثلين أيضا كانوا زملاءه في
المعهد، إلا أن معهد VGIK هذه المرة قد منح الطالبين ميزانية أكبر من الميزانية السابقة،
كما ساهم التليفزيون المركزي السوفيتي Soviet Central Television بالجزء الأكبر من هذه
الميزانية؛ مما سمح للمُخرجين بالاستعانة هذه المرة بمُمثلين مُحترفين مثل المُمثل
السوفيتي Oleg Borisov أوليج بوريسوف الذي تقمص شخصية النقيب جاليتش- أي أنه أدى دور
البطولة في الفيلم- فضلا عن بث الفيلم على التليفزيون السوفيتي في يوم النصر في 9
مايو 1959م، وهي الذكرى التي انسحب فيها الجيش الألماني من الاتحاد السوفيتي بعد
الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى مُساهمة الجيش العسكري السوفيتي في الفيلم
باعتباره فيلما دعائيا للجيش السوفيتي!
إذن، فلقد توافرت للفيلم الثاني للمُخرج أندريه تاركوفسكي الكثير من الموارد والإمكانات المُساعدة له في صناعة فيلم سينمائي، صحيح أن المشروع لم يكن يهدف إلى صناعة فيلم فني في المقام الأول بقدر صناعة فيلم جماهيري من المُمكن إقبال الجميع عليه، فضلا عن دعائيته، ومحاولة تقليد السينما التشويقية الأمريكية، إلا أننا لا نعدم فيه بعض المشاهد واللقطات الجيدة، بل والانتقادات غير المُباشرة التي تؤكد لنا على أن بصمة تاركوفسكي المُبكرة كانت فيه.
يعتمد المُخرجان على حادث واقعي حدث في إحدى المُدن السوفيتية، حيث تم
اكتشاف مجموعة من القنابل والصواريخ المدفونة في إحدى هذه المُدن؛ مما أدى إلى
تدخل الجيش من أجل محاولة إنقاذ المدينة، وتخليصها من هذه المُتفجرات، صحيح أن
المُخرجين لم يحاولا الاعتماد على هذا الحادث فقط، بل أدخلا بعض الخطوط الدرامية،
الأخرى الموازية للحدث الرئيس- مثل المُصاب الذي وصل إلى المُستشفى أثناء إجلاء
السُكان عن المدينة- لكن الفيلم انصب اهتمامه وتركيزه بالكامل على عمل قوات الجيش
السوفيتي من أجل محاولة إنقاذ المدينة من الصواريخ، والحفاظ على سلامة ساكنيها- أي
الدعاية للقوات العسكرية السوفيتية، والتأكيد على وطنيتها، وشموخها، وأهميتها،
والفخر بها.
يفتتح تاركوفسكي فيلمه على جرافة في أحد شوارع إحدى المُدن السوفيتية، حيث
تقوم بحفر الطريق من أجل إصلاحه، وإعاده رصفه، وبينما يقوم العامل بالحفر يتوقف
فجأة بعدما لاحظ وجود صواريخ مدفونة في باطن الأرض من المُمكن لها تدمير المدينة
بمن فيها.
يسرع أحد عمال الحفر للاتصال باللجنة البلدية، بينما تنتقل كاميرا المُخرج من خلال القطع المُونتاجي إلى أحد الاجتماعات التي نرى فيها نقاشا حادا داخل اللجنة البلدية ورئيسها فيرشينين- قام بدوره المُمثل السوفيتي Pyotr Lyubeshkin بيوتر ليوبشكين- فنستمع لأحدهم يقول بحدة: الجميع يرغب في أن تكون المدينة جميلة، لكن كيف؟ فلنأخذ شارع كيروف مثالا، لقد تم رصفه، شهرين من العمل، كان الإسفلت ساخنا عندما وصل لواء من البلدية، وتتحدثون عن التخطيط؟
ثمة مُلاحظة مُهمة لا يمكن التغاضي عنها في هذا المشهد، حيث كان القطع
المُونتاجي هنا ما بين مشهد الجرافة التي تقوم بحفر الطريق، وما بين الانتقال إلى
مكتب رئيس البلدية مُترتبا كل منهما على الآخر بشكل وثيق الصلة، أي أن ثمة علاقة
عضوية وفنية بين المشهدين؛ فالعامل حينما اكتشف وجود الصواريخ المدفونة تحت الأرض
مُنذ أيام الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية أسرع باتجاه الهاتف
للاتصال بفيرشينين/ رئيس اللجنة البلدية، لكننا سنُلاحظ في مشهد مكتب رئيس البلدية
فيرشينين جالسا خلفا مكتبه، مُنصتا للمُجتمعين معه، والذين يتناقشون نقاشا حادا،
وحينما يرن هاتف مكتبه يرفع السماعة من دون اهتمام، أو حتى النظر إلى الهاتف،
وسُرعان ما يعيدها إلى مكانها، أي أنه غير راغب في استقبال المُكالمة، رغم أنه
موظف عام، ولا بد من الرد على جميع المُكالمات التي ترده لأنها بالضرورة ستكون من
أجل الصالح العام.
إنها عين أندريه تاركوفسكي الناقدة التي جعلته يصنع مثل هذا المشهد بشكل قد يبدو تلقائيا، بعيدا عن العمدية في الحديث عن بيروقراطية الدولة السوفيتية وموظفيها، لكنه بالتأكيد مقصود من المُخرج، وهي العين الناقدة التي لاحظناها فيما بعد بدقة مُتناهية في فيلمه الروائي الأول Ivan’s Childhood طفولة إيفان 1962م، وإدانته للحرب، وعدم الرغبة في الدعاية للجيش السوفيتي، بقدر رغبته في انتقاد الحرب، وأثرها المُدمر على الجميع- سواء كان مُنتصرا، أو مهزوما- أي أن ثمة موقفا للمُخرج في الفيلم الأخير يختلف عن موقفه في الفيلم الأول من حيث الدعائية للجيش السوفيتي.
يلح عامل الحفر في الاتصال بمكتب فيرشينين مرة أخرى مما يجعله يرد في إحدى
المرات، ولكن حينما يخبره العامل بما وجده يشعر فيرشينين بالكثير من الانزعاج،
ليقول غير مُصدق بعد انتهاء المُكالمة: أيها الرفاق، في شارع سوفيتسكايا، بالقرب
من المدرسة 34، عثروا على صواريخ.
تنقلب الغرفة بالكامل، ويحاول الجيش التدخل من أجل إنقاذ الأمر، ورغم أن
القواعد العسكرية تؤكد على أنه إذا ما وُجدت أي صواريخ أو مُتفجرات في أي مكان؛
فلا بد من تدميرها، والتخلص منها- أي تفجيرها- في مكانها الذي عُثر عليها فيه، إلا
أن هذا سيعني- في واقع الأمر- تدمير المدينة بالكامل، مما جعل محاولة إنقاذ
المدينة، وإدخال الجيش من أجل التخلص من الصواريخ، وإخراجها خارج نطاق المدينة،
ومن ثم تفجيرها بعيدا عنها ضرورة لا بد منها، وليس أمامهم خيار غيره.
يشعر الكولونيل جفيليسياني- قام بدوره المُمثل السوفيتي Aleksey Alekseev أليكسي ألكسيف- بالكثير من التردد والقلق من مهمة تدخل الجنود العسكريين من أجل محاولة استخراج الصواريخ المدفونة من تحت الأرض، ثم نقلها إلى خارج المدينة؛ فالمهمة محفوفة بالكثير من المخاطر، وإمكانية التضحية بأرواح الجنود بالانفجار فيهم في أي لحظة، لكن هذا التردد يزول حينما يلح عليه فيرشينين؛ فالمدينة كلها مُهددة بالتفجير، كما أن الكولونيل لا يجد أمامه حلا بديلا من أجل إنقاذ المدينة.
يسأل فيرشينين الكولونيل بعد تدخل جنوده، وفرض كردون أمني حول مكان
الصواريخ، ومنع المدنيين من الاقتراب: هل الصواريخ التي تم إيجادها بنفس خطورتها
السابقة قبل دفنها؟ ليرد الكولونيل: إذا ما انفجرت؛ فسيكون لها نفس قوة الانفجار
الذي كانت عليه قبل خمسة عشر عاما. يسأله فيرشينين: هل من الضروري تفجيرها في
مكانها؟ يرد الكولونيل: هذا ما تقوله التعليمات. يسأله فيرشينين: إذن؟ يقول
الكولونيل: هل تعرف ما معنى تفجيرها في المدينة؟ ثلاثون طنا من المُتفجرات؟ يرد
فيرشينين: الشيء الوحيد الذي يجب فعله هو نقلها بعيدا. ليقول الكولونيل: سيكون ذلك
مُخاطرة بحياتنا.
سنُلاحظ هنا مع تتالي المشاهد أن ثمة توترا يسود جميع المشاهد الفيلمية، هذا التوتر يظل في تصاعد طوال الوقت، أي أن تاركوفسكي قد نجح إلى حد بعيد في الحفاظ على وتيرة التوتر التي من شأنها أن تجذب المُشاهد، وتجعله راغبا في مُتابعة الفيلم، وتلاحق أنفاسه، وشعوره بالخطر في كل لحظة، والاستمرار في ذلك حتى اللحظة الأخيرة منه، وهي أسلوبية ناجحة لا يمكن إنكارها، فلقد جعلنا تاركوفسكي في حالة انتظار دائم لما سيحدث في المشهد التالي، وقد امتلأنا بالتساؤلات: هي سينجح الجنود في هذه المهمة، هل ستتنفجر الصواريخ فيهم، هل سيذهب أحدهم ضحية لأحد الصواريخ؟
إن المُحافظة على توتر المُشاهد، وجعله في حالة من التساؤل والانتظار
الدائمين هي أسلوبية سينمائية تشويقية ناجحة وقادرة على الحفاظ على انتباه
المُتلقي حتى اللحظة الأخيرة؛ مما يؤكد لنا على أن المُخرجين قد نجحا إلى حد بعيد
في صناعة فيلم جماهيري كما كان مُحددا لهما، فضلا عن دعائية الفيلم للجيش
السوفيتي.
تبدأ القوات العسكرية في تنبيه سُكان المدينة من أجل مُغادرتها، وتركها
للجنود من أجل تأدية عملهم، وإخراج الصواريخ ونقلها خارج المدينة، ولعل تاركوفسكي
قد قدم هذا الأمر بفنية عالية، فهو يعرف جيدا الزاوية، والمكان اللذين من المُمكن
له أن يضع فيهما الكاميرا داخل المشهد- وهو ما رأيناه في فيلمه الطلابي السابق،
وتحدثنا عنه بشكل مُفصل- لذا فهو هنا يستخدم العديد من اللقطات الفوقية/ المُرتفعة
المنسوب من أجل نقل أكبر قدر من المجاميع التي يقوم بتصويرها داخل الكادر باعتبارهم
سُكان المدينة أثناء الخروج منها، بينما نستمع إلى أحد الجنود في مُكبر الصوت:
انتبهوا أيها الرفاق، في هذه المرحلة الصعبة والحاسمة التي نُغادر فيها مدينتنا
ندعوكم للهدوء والتنظيم والانضباط، في الثامنة صباحا لا يبقى شخص واحد في المدينة،
وسيتم حشد وسائل النقل لإجلاء المرضى والمُعاقين والأطفال، يجب على الجميع البقاء
خارج حدود المدينة بالقرب من بلدة ليبياجي برودي.
يخرج سُكان المدينة منها بالفعل، ونُشاهد النقيب جاليتش- المسؤول الأول عن مهمة نقل الصواريخ- يقوم بتوديع زوجته قبل خروجها من المدنية- قامت بدورها المُمثلة السوفيتية Nina Golovina نينا جولوفينا- كما يبدأ الجنود العسكريون في مهمتهم الصعبة، التي تتمثل في إخراج الصواريخ من مخبأهم تحت الأرض، ثم نقلها لمنطقة آمنة من أجل تفجيرها، وهي المهمة التي يزيد من صعوبتها، وإمكانية انتهائها في أي لحظة بانفجار الصواريخ في الجنود أن أشعة الشمس تزيد من إمكانية انفجار الصواريخ؛ لذا فالجنود يسمعون بعض الصواريخ تُصدر صوتا إيذانا بانفجارها نتيجة لسخونتها تحت أشعة الشمس.
يصور لنا تاركوفسكي بتمهل، وبشكل دقيق فيه الكثير من التفصيل، مهمة الجنود
العسكريين في إخراج الصواريخ، ثم نقلها، وتجميعها في إحدى الشاحنات العسكرية التي
ستقوم بإخراجها من البلدة، وهي الصواريخ التي بلغت 58 صاروخا، ولعلنا في هذا
التفصيل نلمح المزيد من التوتر والتشويق الذي ينتاب المُشاهد، أي أن المشاهد
التفصيلية في مُتابعة المهمة العسكرية لم يشبها أي شكل من أشكال الملل، أو التطويل
والمط بقدر ما ساعدت المُخرجين على المزيد من جذب المُشاهد الذي يحبس أنفاسه بين
اللقطة والأخرى تحسبا لخطر انفجار أحد الصواريخ في الجنود.
يكتشف جاليتش أحد الكابلات المجاورة لأحد الصواريخ، مما يعني أن هذا
الصاروخ قابل للانفجار في حالة محاولة التخلص من الكابل، لذا فهو يتجه إلى فاسين-
قام بدوره المُمثل السوفيتي Vladimir Marenkov فلاديمير مارينكوف- الذي كان
يُهاتف الكولونيل جفيليسياني ليسأله: ماذا يجب على المرء فعله إذا ما كان هناك
كابل؟ يرد فاسين: أوقف العمل، وفجر الترسانة على الفور.
لكن النقيب جاليتش/ رئيس مهمة الإنقاذ لا يقتنع بالتعليمات، ويقترب من الكابل المُلاصق للصاروخ مُمسكا بكماشته في يده، ثم يقوم بقطع الكابل بحذر شديد، لنعرف فيما بعد أنه ليس أحد الكابلات الخاصة بالصواريخ، بل كان أحد كابلات التليفونات.
ربما كان هذا المشهد من المشاهد البارعة في توترها وتشويقيتها، الذي نجح تاركوفسكي كثيرا في نقله باعتماده على وتيرة التوتر المُتصاعدة، فضلا عن الاعتماد على المُونتاج الذي كان أهم مُفردات ووسائل المُخرج في هذا المشهد؛ فالنقيب جاليتش حينما اكتشف وجود الكابل أسرع باتجاه فاسين، حيث قطع المُخرج على مشهد فاسين جالسا في كابينة الهاتف، وقد طلب الحديث مع الكولونيل جفيليسياني، وأثناء انتظاره توصيل الخط للكولونيل وصل جاليتش إلى فاسين واستدعاه حيث يقف؛ مما جعل فاسين يترك كابينة الهاتف، والسماعة مُعلقة في الهواء في انتظار رد الكولونيل، يدور الحديث بين فاسين وجاليتش، ويتابع فاسين جاليتش فيما يفعله بخوف، وترقب بينما الكولونيل جفيليسياني قد رد على الهاتف، ونستمع إلى صوته يطلب من فاسين الرد عليه، يقوم جاليتش بقطع الكابل بحذر شديد وبطء، والجميع من العسكريين يتابعونه، بينما يصلنا صوت الكولونيل على الهاتف الذي يتساءل عما يدور، بل ويطلب من فاسين إيقاف المهمة متخوفا، لكن بمُجرد ما يقطع جاليتش الكابل ينقطع صوت الكولونيل من على الهاتف، والمُكالمة بدورها مما يجعلنا نُدرك بأن الكابل هو أحد كابلات التليفون، وليس كابلا خاصا بالصواريخ.
إنها مقدرة كل من المُخرجين على صناعة فيلم جماهيري، قادر على الحفاظ على
التوتر وتصعيده لأقصى درجة مُمكنة من أجل الحفاظ على يقظة وانتباه المُشاهد.
ينجح الجنود تحت قيادة النقيب جاليتش في إخراج الصواريخ بالكامل، ونقلها
إلى إحدى المُدرعات ويبدأون في التوجه بها خارج حدود البلدة من أجل تفجيرها في
منطقة آمنة بينما يحمل جاليتش صاروخين بين يديه، ضاما إياهما إلى صدره لأنهما
يصدران صوتا حينما يتعرضا لأشعة الشمس. يجلس جاليتش بحذر إلى جوار الجندي الذي
يقود المُدرعة ليخرجوا خارج حدود البلدة، فنرى الجندي يقود المُدرعة ببطء وحذر شديدين،
بينما سُكان المدينة يتابعونهم من بعيد، وحينما يصلا إلى إحدى المناطق غير
المأهولة بالسُكان يهبط جاليتش لأن الصواريخ التي بين يديه تُصدر صوتا أكثر
إزعاجا، مما يجعل أحد المواطنين الذي كان راغبا في التطوع مع القوات العسكرية من
أجل مُساعدتهم وإنقاذ المدينة يُسرع بأخذ أحد الصواريخ من جاليتش، ويركض به ليفجره
بعيدا.
ينجح الجنود في إنقاذ المدينة، ليعود السُكان إليها مرة أخرى شاعرين بالكثير من الفخر بالجنود السوفييت الأبطال الذين أنقذوا المدينة من الدمار الكامل.
إن الفيلم السوفيتي "لا إجازة اليوم" للمُخرجين الروسيين أندريه
تاركوفسكي، وألكسندر جوردون فيلم مشوق إلى حد بعيد، ورغم أنه كان أحد الأفلام
الطلابية إلا أننا سنُلاحظ من خلاله مقدرة كل من المُخرجين ومهارتهما في صناعة
فيلم روائي من شأنه أن يجذب اهتمام المُشاهد، ويجعله مُتمسكا بمقعده، فضلا عن بعض
اللقطات الفنية التي تهتم بالتفاصيل الدقيقة، والتي نلمح فيها بصمة أندريه
تاركوفسكي التي نعرفها عنه، مثل المشاهد القريبة من أيدي الجنود أثناء محاولة
استخراج الصواريخ من مخابئها، واللقطات العلوية للجماهير الغفيرة المُغادرة للمدينة
من أجل إخلائها، فضلا عن مشهد قطع جاليتش للكابل.
صحيح أن الفيلم قد ركز بالكامل على مهمة إخراج الصواريخ ونقلها، لكن السيناريو الذي كتبه المُخرجان كان فيه قدرا مُهما من محاولة التنويع، أو إيجاد خط درامي موازي للحدث الرئيس، وهو ما رأيناه في أحد المواطنين الذي صدمته إحدى السيارات أثناء محاولة إخلاء المدينة، ونقله إلى مُستشفى المدينة في حالة خطرة بينما كان يتم إخلاء المشفى في نفس اللحظة، ولم يعد فيها سوى طبيب، وثلاثة مُساعدين، حيث نرى الطبيب يصر على البقاء داخل المشفى أثناء عملية إخراج الصواريخ بعد إخلاء المدينة بالكامل من أجل محاولة إنقاذ المُصاب.
كما لا يفوتنا العديد من اللقطات الذكية التي حرص تاركوفسكي على تصويرها،
ومنها مشهد اجتماع الكولونيل مع رئيس اللجنة البلدية، وغيرهما من المسؤولين في أحد
المكاتب بعد إخلاء المدينة، حيث نراهم جميعا في حالة صمت، وتأهب كاملين، وحينما
يرتطم أحد أكواب الماء ينتفض الجميع ظنا منهم أن أحد الصواريخ قد انفجرت أثناء
استخراجها، وهو شكل نقدي من تاركوفسكي، لا يختلف كثيرا عن مشهده النقدي حينما
رأينا فيرشينين/ رئيس اللجنة البلدية في بداية الفيلم لا يهتم بالرد على الهاتف،
ويقوم بقطع الخط كلما تم الاتصال به.
لكن، رغم ذلك فالفيلم يخلو تماما من أي جانب فني، فضلا عن أنه كان يضع نصب
عينيه الأفلام الأمريكية التشويقية، والرغبة في الدعاية للجيش السوفيتي العظيم في
حالات السلم، ودوره في الحفاظ على حياة المواطنين، أي أننا في النهاية رأينا فيلما
روائيا قصيرا لتاركوفسكي، لكننا لم نر فيه تاركوفسكي الذي نعرفه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق