من مقدرتها على تجميد اللحظة، وإكسابها معنى الأبدية، من تسجيلها للحدث والاحتفاظ به بشكل مُطلق، حتى أنها تجعلنا نسبح معها في الزمن الماضي فيبدو لنا كأنه يحدث الآن؛ ونعيش معها في حالة من النوستالوجيا، والتوق إلى العودة بالزمن إلى هذه اللحظات التي لم نعشها، لكننا نراها في وقتنا الآني أمام أعيننا كأنها تحدث الآن.
السينما، بوجه عام، لديها القدرة على نقلنا إلى العديد من العوالم السحرية، لكن السينما الوثائقية قد تتميز على الروائية في أن الأخيرة مُجرد خيال كتبه سيناريست في سيناريو تتم تأديته تمثيليا، أما السينما الأولى فهي تنقل لنا وقائع سبق لها أن حدثت- يؤديها أفراد واقعيون لا علاقة لهم بالتمثيل أثناء وقوع الحدث- وهذه الوقائع بالتأكيد كان لها دورا مُهما، وإلا ما لجأ صانعها إلى توثيقها- مفهوم الدور المُهم هنا قد يختلف من شخص إلى آخر، فقد تكون مُجرد لحظات مع العائلة لا تهم سوى صانعها، أي لا تعني المُشاهد في شيء، لكنه يوثقها لأهميتها الخاصة بالنسبة له، وقد تكون أحداثا عظيمة تهم نطاق عريض من جمهور المُشاهدين، لكنها في النهاية بتوثيقها للحدث الواقعي تكتسب أهمية ما، لها سحرها الخاص.
هذا السحر الشبيه بآلة الانتقال والتجول في الزمن هو ما يسيطر على المُشاهد أثناء مُشاهدته للفيلم الوثائقي The Greatest Night in Pop أعظم ليالي البوب، للمُخرج الفيتنامي الأصل الأمريكي الجنسية Bao Nguyen باو نجوين، حيث ينقلنا إلى حقبة الثمانينيات من القرن الماضي؛ لنرى ملوك وأساطير المُوسيقى الأمريكية- البوب، والروك آند رول- وهم على طبيعتهم الإنسانية، بعيدا عن أي شكل من أشكال الادعاء، أو الغرور، ليقوموا بعمل إنساني بحت من أجل المجاعة في إثيوبيا.
بالتأكيد هناك الكثيرون الذين ما زالوا يذكرون الأغنية الشهيرة We Are The World نحن العالم، تلك الأغنية التي انتشرت من حول العالم، وكانت من أهم وأشهر الأغاني على الإطلاق في حينها، ولفترة طويلة من الزمن، من أجل إنقاذ ملايين الأرواح التي تموت في مجاعة إثيوبيا في الثمانينيات. إنها الأغنية التي اعتمد عليها المُخرج؛ فكانت العمود الفقري لفيلمه من أجل تنفيذه، حيث تناول المُخرج هنا فكرة نشأة هذه الأغنية، وكيف تم التحضير لها، ومحاولات جمع النجوم، وطريقة تنفيذها في ليلة واحدة- وهي الليلة الوحيدة المُتاحة التي يمكن تنفيذها فيها- أي أن هذه الليلة إذا ما مرت من دون تنفيذ الأغنية فلن تخرج للوجود مُطلقا. هنا ينقلنا المُخرج إلى ما وراء الكوليس، ونُشاهد معه الكثير من الوقائع التي حدثت من أجل تنفيذها في هذه الليلة.
في الثمانينيات من القرن الماضي، وبالتحديد ما بين عامي 1983م، و1985م، عانت إثيوبيا من المجاعة الواسعة والجفاف، بسبب الحرب الأهلية التي حدثت فيها. هذه المجاعة خلفت 1.2 مليون حالة وفاة، و400 ألف لاجئ هاجروا من بلادهم، و2.5 مليون مُشرد داخلي، وتيتم نحو 200 ألف طفل إثر المجاعة.
كانت الأمور هناك مأساوية، جحيمية، بائسة، في حاجة ماسة للتدخل والإنقاذ من قبل جميع دول العالم؛ وبما أن الفن هو أول المُتأثرين بالأحداث- فضلا عن كونه المُحرك الأول لها- فلقد دفع ذلك المُغني وكاتب الأغاني، والناشط السياسي الأيرلندي Bob Geldof بوب جيلدوف- بصفته جامعا للتبرعات- إلى كتابته لأغنية Do They Know It’s Christmas? هل يعرفون أنه عيد الميلاد؟ وهي الأغنية التي أدتها فرقته المُوسيقية الضخمة Band Aid، حيث نفذت مجموعة من الحفلات المُوسيقية الخيرية، وتم تسجيل الأغنية في نوفمبر 1984م، وصدرت في ديسمبر من نفس العام، وباعت مليون نسخة منها في الأسبوع الأول، وحوالي 2.5 مليون نسخة بحلول يناير 1985م، كما جمعت 8 ملايين جنيه استرليني لإثيوبيا في خلال العام.
في شهر ديسمبر 1984م كان المُغني والمُمثل والناشط الأمريكي في مجال الحقوق المدنية Harry Belafonte هاري بيلافونتي عائدا من جولة مُوسيقية، حيث مر على إثيوبيا، ورأى الأهوال الإنسانية التي تحدث هناك؛ مما جعله يتواصل مع الموزع والمُنتج المُوسيقي Ken Kragen كين كراجن عند عودته إلى أمريكا- محاولا استلهام التجربة التي قام بها بوب جيلدوف- وأخبره بما رآه هناك، عارضا عليه تنفيذ أغنية ضخمة تضم جميع نجوم البوب، والروك آند رول من أجل دفع، وتحريك العالم لإنقاذ الملايين في إثيوبيا، وهو الأمر الذي تحمس له بالفعل كين كراجن، فتواصل مع المُغني الأمريكي Lionel Richie ليونيل ريتشي من أجل كتابة كلمات الأغنية- مُنتج مُشارك في إنتاج الفيلم- كما عرضوا الأمر على المُنتج والموزع المُوسيقي Quincy Jones كوينسي جونز- باعتباره من أهم المُنتجين في عالم المُوسيقى، فضلا عن أن اسمه سيكون دافعا للكثيرين من النجوم للحماس، وعدم الرفض- حيث تحمس لإنتاج الأغنية، وقيادة الفريق الذي سيعملون على تكوينه بالكامل. ولعلنا لا نستطيع نسيان ما قاله بيلافونتي في هذا الشأن: يحاول بعض بيض البشرة إنقاذ السود- يقصد في ذلك بوب جيلدوف وأغنيته- لكننا لا نرى سودا ينقذون السود، هذه مُشكلة، يجب أن نُنقذ شعبنا من الجوع.
إذن، فلقد انبثق مشروع الأغنية التي يحاولون العمل عليها من أجل إنقاذ إثيوبيا بسبب تأثر هاري بيلافونتي بما رآه هناك، وبما أن أغنية بوب جيلدوف- هل يعرفون أنه عيد الميلاد؟- كانت لم تزل طازجة مُنذ أيام قليلة؛ فلقد حاولوا أن يحذوا حذوه، ليصنعوا نسختهم المُوسيقية الأمريكية لإنقاذ الملايين.
ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة من أجل تأمل الأمر؛ فصحيح أن أغنية "هل يعلمون أنه عيد الميلاد" هي السابقة على موضوع فيلمنا الذي نتحدث عنه، واستطاعت تحقيق الكثير من النجاح، وجمع التبرعات المالية لإنقاذ الإثيوبيين، فضلا عن أنها كانت الدافع الأساس، والمُحرك الأول لبيلافونتي من أجل الأغنية الأمريكية المُزمع تسجيلها إلا أن هذه الأغنية- هل يعلمون أنه عيد الميلاد- رغم دوافعها الإنسانية كانت تحمل قدرا ليس هينا من المعاني الاستعمارية، فضلا عن الغطرسة الإنجليزية! صحيح أن هذا المعنى الاستعماري ربما لم يكن مقصودا- وهو الأرجح- لكنه وصل إلينا- ولم نستطع تجاوزه- من خلال كلمات الأغنية التي تقول في أحد مقاطعها: Well, tonight thank God it’s them instead of you حسنا، الليلة، الحمد لله، أنهم هم بدلا منك!
إذن، فلقد اجتمع أربعة من أهم نجوم المُوسيقى الأمريكية في هذه الفترة- مُغنين، ومُنتجين- مُتحمسين من أجل فكرة أغنية يجتمع فيها أكبر عدد من نجوم المُوسيقى لإنقاذ أطفال إفريقيا، ولعل أهم من اجتمع فيهم كان كوينسي جونز الذي تحمس لإنتاج الأغنية، وقيادة الفريق الضخم الذي سيتم تكونيه، والذي كان بمثابة الدينامو الحقيقي حتى انتهى الأمر، ومُحللا نفسيا للنجوم على قدر غير هيّن من الذكاء.
حينما وافق ليونيل ريتشي على الأمر، اقترح كوينسي التواصل مع النجم المُوسيقي Stevie Wonder ستيفي وندر لمُشاركة ريتشي في كتابة كلمات الأغنية، لكن الاتصال بستيفي ليس بالأمر الهيّن، بسبب انشغاله في الكثير من الحفلات، ورغم أنهم حاولوا التواصل معه طوال الليل إلا أنه لم يكن يرد؛ مما جعلهم يتركون له رسالة بالأمر، ومن ثم اقترح ريتشي أن يشارك Michael Jackson مايكل جاكسون في كتابة كلمات الأغنية معه، وقد كان واثقا من موافقته على الأمر.
سنُلاحظ هنا أن المُخرج كان حريصا على تتبع كيفية انبثاق الفكرة، والخطوات التي تم اتخاذها من أجل تنفيذها، حتى تكوين الفريق الضخم من أشهر المُوسيقيين في القرن الماضي- بلغ عدد الفريق المُوسيقى 47 نجما من أهم نجوم الثمانينيات في أمريكا- وتركيزه على ضغط الوقت الذي يعانون منه طوال الوقت، حتى أننا سنشعر بوطأته علينا معهم أثناء المُشاهدة، إلى أن يصل بنا الفيلم إلى الليلة الموعودة من أجل تسجيل الأغنية بعد تجمعهم، لنعرف ما دار في هذه الليلة التي لم يكن يعرف عنها الجمهور أي شيء من قبل.
وافق مايكل جاكسون على مُشاركة ليونيل ريتشي في كتابة الأغنية، هنا يخبرنا ريتشي بالعديد من الأمور الخاصة بمايكل جاكسون- تمت استضافة ريتشي والتصوير معه في نفس الاستوديو الذي تم فيه تسجيل الأغنية- فنعرف أن جاكسون لم يقد سيارته على الطريق السريع إطلاقا؛ لأنه كان يخيفه، لذا كان يعرف كل الطرق الخلفية المُؤدية إلى منزل ريتشي، كما يخبرنا أيضا عن حياة مايكل جاكسون الخاصة في منزله: أحيانا ما كنت أسمع أصوات معارك في الطابق السُفلي، سألته عما يحدث في المطبخ، وقال لي: يتعارك طائر المينا مع الكلب فحسب، يستطيع الطائر التحدث، ويبدو أن الكلب غاضب من الطائر. فضلا عن أن مايكل كان يربي أفعي ضخمة ظهرت لريتشي مما أصابه بالكثير من الرعب، والرغبة في مُغادرة منزل مايكل، إلا أن مايكل طمأنه مُخبرا إياه بأنها كانت مفقودة في الغرفة مُنذ أيام، وحينما استمعت للمُوسيقى التي يقومان بها خرجت للاستماع لها والتعرف على ريتشي.
ألا نُلاحظ هنا أن سحر الفيلم الوثائقي يتأتى له من الكشف عن الكثير من الأمور الواقعية التي لم نكن نعرف عنها شيئا، فضلا عن إخبارنا بما كنا نجهله عن نجومنا الذين كثيرا ما تعلقنا بهم؟ إنه سحر هذا الفيلم على وجه الخصوص.
بدأت المجموعة في التواصل مع الآخرين من نجوم الغناء في ذلك الوقت، وإخبارهم بالمشروع المُزمع تنفيذه، وبما أن عدد هؤلاء النجوم كان ضخما، مما يتطلب الكثير من النفقات من أجل استضافتهم في لوس أنجلوس، وتوفير تذاكر الطيران الخاصة بهم، وبما أن ليونيل ريتشي كان هو المسؤول عن تقديم حفل American Music Awards جوائز المُوسيقى الأمريكية في 28 يناير 1985م، فلقد تم اقتراح أن يتم تسجيل الأغنية في نفس اليوم الذي سيُقام فيه حفل جوائز المُوسيقى الأمريكية، حيث سيحضر جميع نجوم المُوسيقى في هذه الليلة، ومن ثم يتم ضغط النفقات، وتوفير ثمن تذاكر الطيران، كما تم اقتراح دعوة العديد من نجوم المُوسيقى البيض أيضا للمُشاركة في تسجيل الأغنية.
تمت دعوة النجم الشهير Bob Dylan بوب ديلان المشهور بالعزلة، والابتعاد عن الزحام والصخب، والذي كان معروفا بجديته البالغة فيما يفعله، وحينما عرف Bruce Springsteen بروس سبرينجستين بموافقة ديلان على الأمر، وافق مُباشرة على المُشاركة، أي أن موافقة البعض كان يشجع الآخرين بدورهم على المُشاركة فيه.
هنا وجد كل من ريتشي ومايكل جاكسون نفسيهما في مأزق كبير، حيث الضغط الشديد للوقت الضيق، فلم يعد أمامهما سوى عشرة أيام تقريبا من أجل كتابة كلمات الأغنية وتلحينها، بل وتسجيل البروفات الأولى منها من أجل التسجيل الجماعي مع حشد النجوم الضخم، وهو الأمر الذي حرص المُخرج على التعبير عنه ببلاغة فنية حينما ركزت الكاميرا على عقرب الثواني- بمُجرد علم ريتشي بأن الأغنية لا بد من تسجيلها في ليلة الحفل- كدليل على تسرب الوقت منهما، فضلا عن تركيز الكاميرا طوال أحداث ليلة التسجيل على الساعة الرقمية التي كانت تتحرك بسرعة كبيرة مما يفيد نفاد الوقت، أي أن الجميع كانوا في حالة سباق حقيقي مع الزمن.
ابتكر مايكل جاكسون جملة "نحن العالم"، ومن ثم بدآ يبنيان عليها أغنيتهما التي استطاعا بالفعل الانتهاء من كلماتها، ورغم أن الكلمات لم ترق ريتشي كثيرا، أو لم يكن واثقا فيها، إلا أن كوينسي جونز ابتهج بها كثيرا، وأكد له على جودتها، هنا بدآ في وضع اللحن للأغنية، وكما يذكر ريتشي: لم يرد مايكل في البداية الغناء أو الظهور في الفيديو على الإطلاق؛ ظن أنه يبالغ في الظهور أمام الإعلام. أي أنه كان راغبا في الاكتفاء بكتابة كلمات الأغنية وتلحينها فقط، ولكن ريتشي أقنعه بالمُشاركة في الغناء، وهو ما تحقق في نهاية الأمر.
إن عدم رغبة مايكل جاكسون في المُشاركة بالغناء لم تكن تملصا من المسؤولية؛ فلقد كان أكثر هؤلاء النجوم عملا فيها، وإخلاصا لها بكل جوارحه، حتى أنه لم يذهب إلى حفل جوائز المُوسيقى الأمريكية في ليلة التسجيل رغم ترشحه للفوز بجائزة كمُنافس لبرينس، وفضل البقاء في ستوديو التسجيل عاملا على بروفات الأغنية.
نجحت المجموعة في إقناع عدد كبير من النجوم منهم: Sheila E. شيلا إي، التي كانت على علاقة عاطفية في ذلك الوقت بالنجم "برينس" المُنافس لمايكل جاكسون، وDiana Ross ديانا روس، وCyndi Lauper سيندي لوبر التي تم ترشيحها للمُشاركة بعد ترجيح كفتها بدلا من دعوة مادونا للاشتراك، وغيرهم من نجوم المُوسيقى الذين كانوا أساطير في ذلك الوقت؛ مما دفع ريتشي إلى القول: كان بعض هؤلاء الفنانين مُشاغبين، عُرف بعضهم بمحبتهم لإثارة المُشكلات مثل سيندي لوبر، وستيفي وندر أيضا. أي أنه كان يشعر بالكثير من القلق من كيفية السيطرة على هذا الفريق الضخم، مع وجود إحساس الشعور بالذات لدى كل منهم. أي أننا هنا أمام مهمة مُستحيلة قد تبوء بالفشل في أي لحظة، لا سيما مع اجتماعهم مع بعضهم البعض داخل الاستوديو.
يقوم كل من ريتشي ومايكل جاكسون بتسجيل الأغنية على 50 شريط كاسيت من أجل إرسال نسخة لكل نجم من النجوم قبل القدوم إلى حفل توزيع الجوائز في لوس أنجلوس؛ فهم لا بد أن يكون لديهم فكرة عن الكلمات واللحن، وكيفية أداء الأغنية، وقاموا بإرسال النسخ إليهم.
هنا، ومن خلال القطع المتوازي Cross Cutting، بدأ المُخرج ينتقل ما بين الحفل الضخم الذي يقدمه ريتشي، وما بين ستوديو A&M الذي وقع الاختيار عليه من أجل تسجيل الأغنية، حتى أنهم قد تعاملوا مع مكان الاستوديو الذي سيقومون بالتسجيل فيه باعتباره سرا من أسرار الدولة؛ فلو تم تسريب المكان الذي سيتم فيه الأمر ستحتشد الصحافة، مما سيجعل العديد من النجوم ينصرفون عن الذهاب إليه، لا سيما بوب ديلان الذي لا يحب الزحام والأضواء. فنرى مايكل جاكسون المُنعزل في الاستوديو مُهتما بالبروفات، وإعداد الاستوديو لاستقبال النجوم القادمين بعد ساعات قليلة.
إن شعور المُنتج كوينسي جونز بالكثير من القلق بسبب تجمع كل هؤلاء النجوم، وشعورهم بتضخم ذواتهم- مما قد يؤدي إلى كارثة صدام بينهم تؤدي إلى إجهاض المشروع بالكامل- وبما أنه على قدر غير هيّن من الذكاء، وكأنه مُحلل نفسي، فلقد كتب ورقة على باب الاستوديو تقول: Check Your Ego at the Door تحقق من غرورك عند الباب، أي أنه يرغب في التنبيه عليهم، كي يدخلوا إلى الاستوديو كمُجرد أناس قادمين من أجل عمل إنساني، وبالتالي فهم عليهم نسيان نجوميتهم، وذواتهم المُتضخمة لبضع من الساعات لحين الانتهاء من الأمر، كما أكد عليهم التوجه إلى الاستوديو وحدهم من دون حراستهم الخاصة، أو أي مُرافق آخر- السبب في ذلك أنه رأى أن ذواتهم المُتضخمة ستظل على حالها أمام من يعملون معهم، أما إذا ما تخلصوا من مُرافقيهم سيتعاملون بشكل طبيعي مع بعضهم البعض، ولن يشعروا بأي شكل من أشكال الحرج.
ينتهي حفل توزيع الجوائز الذي يفوز فيه ريتشي بست جوائز، ويخبر جميع النجوم باسم الاستوديو الذي لا بد أن يتوجهوا إليه- أي أنهم لم يعرفوا اسم الاستوديو إلا في اللحظة الأخيرة قبل تحركهم إليه- وحينما يتجمعون داخل الاستوديو مع بعضهم البعض، يعلق ريتشي بقوله: كأننا في اليوم الأول من الحضانة، اضطر كوينسي إلى ضبط هؤلاء الأطفال. أي أن اجتماعهم من دون مُرافقيهم داخل الاستوديو قد جعلهم يعودون إلى طبيعتهم البسيطة، وشكلهم الإنساني الأبسط، وهو ما خطط له كوينسي من قبل.
إن انتقال المُخرج إلى هذه المرحلة من تنفيذ الأغنية يكاد يكون هو الجزء
الأكثر حيوية، وحميمية في الفيلم؛
ففي هذا الجزء- الليلة التي تم تسجيل
الأغنية فيها- سنرى جميع هؤلاء النجوم كما لم نرهم من قبل، مُشاغباتهم، وضحكاتهم،
وملابسهم البسيطة، وعدم ادعائهم، وبساطتهم، وأخطاؤهم، ومخاوفهم من الفشل، أي أننا
في النهاية سنرى الإنسان الحقيقي لدى كل منهم، ولعلنا رأينا ذلك مثلا حينما رغب Ray Charles راي تشارلز الذهاب إلى الحمام؛
فقال له ستيفي وندر- وهو كفيف: دعني أقودك إليه، مما جعل النجوم يضحكون قائلين:
كفيف يقود كفيفا، كذلك رؤيتنا للنجم Al Jarreau أل جورو الذي فشل في تأدية
مقطعه الغنائي عدة مرات لأنه كان ثملا، حيث تناول الكثير من الكحول احتفالا
بالأغنية قبل انتهائها. أيضا بوب ديلان المُنعزل، الذي لم يعتد على العمل مع وجود
كل أولئك الناس؛ مما أدى إلى تجمده وفشله لعدة مرات في تسجيل مقطعه، مما جعل
كوينسي يقترح عليهم بترك الغرفة كي يشعر بالراحة، وبقي معه ستيفي وندر الذي عزف له
لحن الأغنية، وساعده على أدائها بأن قام بتأديتها بنفسه بصوت بوب ديلان، وبنفس
طريقته في الغناء- كان ستيفي وندر بارعا في تقليد الأصوات- كما نرى شيلا إي التي
شعرت بالكثير من الحرج لأنها لم يُخصص لها مقطعا مُنفردا من أجل الغناء في
الأغنية، وبما أنهم قد ألحوا عليها كثيرا في جلب برينس لإشراكه معهم في الأغنية؛
فلقد ظنت أنهم يحافظون على وجودها ليقينهم بأنها الوحيدة القادرة على جلبه إلى
الاستوديو، وهو ما لم يحدث لأن برينس لم يتخل عن ذاته المُتضخمة، ورغب في أن يقوم بالتسجيل
في غرفة مُنفردة بعيدا عن الآخرين، وهو ما يخالف الروح الجماعية للأغنية، فاضطروا
إلى التخلي عنه. كذلك نرى ستيفي وندر حينما اقترح بتضمين الأغنية بكلمات سواحيلية؛
مما دفع Waylon Jennings
وايلون جينينجز لمُغادرة الاستوديو مُعترضا بقوله: لم يغن أي فنان أمريكي أبيض
باللغة السواحيلية من قبل، من الأفضل أن أغادر، لا أريد الخوض في ذلك، لا أعلم
معنى هذه الكلمات؛ لذا لن أقولها. فضلا عن صوت الضوضاء الشديدة التي كان يستمع
إليها مُهندسو الصوت كلما أدت سيندي لوبر مقطعها، مما جعلهم يعيدون التسجيل أكثر
من مرة، وفشلهم في معرفة سبب هذه الضوضاء إلى أن انتبهوا بأنها ترتدي الكثير من
القلائد، والأساور، والأقراط التي تؤدي إلى هذه الضوضاء.
سنُلاحظ هنا أن رغبة ستيفي وندر في إضافة كلمات سواحيلية إلى الأغنية غير منطقية إطلاقا، وكان من شأنها أن تقضي على مشروع الأغنية، وانصراف الجميع، وهو ما علق عليه ريتشي بقوله: قال أحدهم: إنهم لا يتحدثون السواحيلية في إثيوبيا يا ستيفي، لا جدوى من التحدث إلى أولئك الذين يتضورون جوعا، نريد الوصول إلى من يملكون المال ويستطيعون تقديمه، وكما تعلم فهذه الكلمات قد تجذب البعض إلى الأغنية، لكنها ستبعد الكثيرين عنها، إنهم يتحدثون الأمهرية.
إن اجتماع كل هذا الجمع من أجل تسجيل الأغنية كان لا بد من السيطرة عليه، وبالتالي فلا يجب أن يدلي أحد منهم بدلوه في الكلمات أو اللحن، لأننا سنكون أمام 47 رأيا مُختلفا مما سيؤدي بالضرورة إلى إجهاض المشروع، أي أننا هنا في مأزق، ومهمة مُستحيلة بالفعل من أجل السيطرة على آراء هذا العدد الضخم، فضلا عن شعور كل منهم بذاته التي لم يتخلوا عنها تخليا تاما أمام باب الاستوديو؛ ومن ثم كانت العديد من المُشاغبات.
حينما تجمع النجوم في الاستوديو حرص كوينسي على ملئهم بالمزيد من الحماس حتى لا تفتر هممهم مع مرور الوقت- بدأوا التسجيل في العاشرة مساء، وانتهوا منه في الثامنة صباحا- لذا حرص على حضور بوب جيلدوف، كاتب أغنية هل يعلمون أنه عيد الميلاد؟ للحديث إليهم، فنستمع إلى كوينسي يقول لهم: أولا: أود منكم أن تقابلوا بوب جيلدوف الذي ألهم مشروعنا الحالي، هذا هو الرجل الذي أنشأ فرقة "باند آيد"، وقد عاد من إثيوبيا للتو، ويريد التحدث إليكم.
هنا يتقدم بوب جيلدوف مُتحدثا: بهدف نقلكم إلى جو الأغنية التي ستؤدونها بعد قليل، والتي نأمل أن تساعد في إنقاذ الملايين، يجب أن نتذكر أن سعر الحياة هذا العام هو قطعة بلاستيكية بعرض 20 سم، وتحتوي على ثقب في مُنتصفها- يقصد شريط الكاسيت- ولا أعلم إن كان بوسعنا كمجموعة أن نتصور معنى العدم، العدم هو عدم امتلاك الماء، في بعض المُخيمات يخصص 15 كيسا من الطحين لـ27500 شخص، سترون التهاب السحايا، والملاريا، والتيفوئيد تنتشر بكل سهولة بين الناس، وجثث البشر مُلقاة على الطريق، هذا سبب اجتماعنا، وأفترض أنه سبب قدوم الجميع اليوم، لا أريد إحباطكم بهذا الكلام، لكن، لعلها تكون الطريقة الأفضل لكي نفهم جميعا سبب وجودنا هنا الليلة، ولتظهر هذه المشاعر عبر الأغنية، لذا أشكركم جميعا، ولنأمل أن ننجح في مسعانا.
ربما من الأدعى لنا هنا تلقيب كوينسي جونز بلقب المُحلل النفسي القادر على السيطرة على الجميع، فهو ليس مُجرد مُنتج مُوسيقي، بل كان يعرف جيدا سيكولوجيات النجوم لطول عمله معهم، وبالتالي كان لا بد له من السيطرة عليهم؛ فكتب لوحته أولا على باب الاستوديو كي يتخلى كل منهم عن غروره، ثم استدعي بوب جيلدوف العالم جيدا بالظروف في إثيوبيا كي ينقلها إليهم؛ ومن ثم ينجح في شحنهم بالمزيد من الحماس والإصرار على إنجاح الأمر، بترك كل منهم خلافاته، وشغبه، وذاته المُتضخمة جانبا لحين انتهاء الليلة، وهو ما نجح فيه كوينسي بالفعل.
إنه ما لاحظه ريتشي، ومن ثم دفعه للقول: كوينسي داهية بحق، لقد استخدم خطاب جيلدوف لإجبار الناس على التركيز على الهدف.
نجح الجميع في تأدية المهمة التي اجتمعوا من أجلها، وتم تسجيل أغنية "نحن العالم" كما تم التخطيط لها تماما، رغم أننا كمُشاهدين انتابتنا الكثير من اللحظات التي أيقنا فيها من فشل المشروع، وأنهم سُرعان ما سينفضوا، ويخرجون.
إن اجتماع هذا الحشد الضخم من نجوم المُوسيقى في الثمانينيات من أجل المُشاركة في أغنية "نحن العالم" من أجل إنقاذ أطفال إثيوبيا من المجاعة، جعلنا نراهم في شكلهم الأكثر إنسانية، وتفاعلهم مع بعضهم البعض، وبساطتهم، واندماجهم حتى أن ديانا روس حينما انتهت الليلة في الثامنة صباحا انتحت أحد الأركان باكية، يقول ريتشي: بقيت ديانا روس بعد مُغادرة الجميع، وسمعتها تبكي، سألها كوينسي: أأنت بخير ديانا؟ فأجابته: لا أريد لهذه الليلة أن تنتهي، كان ذلك ألطف شيء سمعته في حياتي. مما يُدلل على أن جميع هؤلاء النجوم قد اشتركوا في تسجيل هذه الأغنية بكامل مشاعرهم، وجوراحهم، وهو ما وصل إلى العالم بالفعل، وما زال يصلنا كلما استمعنا إليها.
تمت إذاعة الأغنية في كل المحطات الإذاعية في العالم في نفس اللحظة- تمام الساعة 7:50- وباعت الأغنية مليون نسخة خلال أول عطلة أسبوع بعد إصدارها، كما نستمع إلى المذياع يقول: في الشهر الماضي جعل أطفال أمريكا هذه الأغنية المُهداة إلى أطفال إفريقيا أسرع الأغاني مبيعا في تاريخ الولايات المُتحدة. وهو الأمر الذي يؤكد عليه المُخرج بكتابته على الشاشة: بعد إصدارها حصلت على تقدير كبير، ونالت جائزة أغنية العام في حفل Grammy جرامي لعام 1986م، وجائزة في حفل جوائز المُوسيقى الأمريكية، كما جمعت الأغنية أكثر من 80 مليون دولارا، أي ما يُعادل 160 مليون دولارا في عام 2024م.
ربما كان أفضل ما في الفيلم الوثائقي الأمريكي "أعظم ليالي البوب" للمُخرج باو نجوين تلك الحكمة التي يقولها ليونيل ريتشي الذي كان يسجل مع مُخرج الفيلم في نفس الاستوديو الذي تم فيه تسجيل الأغنية، حيث يقول: أخبرني والدي بشيء مُنذ سنوات، قال: استمتع بالعودة إلى البيت؛ لأنه سيحين وقت لن تتمكن فيه من فعل ذلك. فسألته عما يقصده- بينما نرى كاميرا المُخرج تستعرض الاستديو الفارغ من حوله- قال: ستدخل إلى منزلك، ولن تجد الناس فيه. هذا ما تمثله تلك الغرفة، هذا هو لوح التحكم، إنه موجود، لكن أومبيرتو لا يجلس خلفه، وقف مايكل جاكسون هناك، في هذه الغرفة، وأدى سبرينجستين مقطعه في تلك الزاوية، ووقفت سيندي لوبر هنا، ما حدث كان مُميزا، أعتبر هذه الغرفة منزلي.
إن ليونيل ريتشي الذي يتحدث إلينا من خلال الفيلم باعتباره من القلائل الذين ما زالوا على قيد الحياة من هذا الفريق الضخم، كان من أهم من كانوا في هذا المشروع، أي أنه المرجل الحقيقي، والصب الأساس من أجل إنجاحه- فضلا عن كوينسي جونز الذي قام بقيادة الفريق بالكامل- حيث كان بارعا في أن نراه في كل مكان، ويعمل على حل الخلافات بين النجوم، وحكي الحكايات لهم، ومحاولة إضحاكهم، وتسليتهم، ومُساعدتهم، وحل الأمور والمشاكل التي قد تطرأ، أي أنه قام بدور البطولة في مشروع هذه الأغنية فضلا عن كتابة كلماتها مع مايكل جاكسون وتلحينها، بالإضافة إلى تقديمه لحفل جوائز المُوسيقى الأمريكية في بداية الليلة؛ لذا يقول: لم نختبر تجربة أكثر فوضوية من محاولة ضبط مجموعة المواهب هذه.
تأتي أهمية، وسحر الفيلم الوثائقي "أعظم ليالي البوب" من هدفه الذي نستخلصه بعد الانتهاء منه، فهو يؤكد لنا بيقين على مقدرة الفن- على اتساع مفهومه- على التغيير، والفعل، والخلق، يؤمن بأن الفن هو الوحيد القادر على تغيير وجه العالم، وأن المُمارسين للفن بمثابة السحرة القادرين ببساطة على سحر العالم، وتوجيهه إلى الوجهة التي يريدونها إذا ما رغبوا في ذلك، واتحدوا على تحقيق ما يرغبونه- وهذا هو الدور الحقيقي للفن، لذا نلمح هذا المعنى في إحدى خطب هاري بيلافونتي: نؤمن بامتلاك الفنانين لمنصب مُؤثر في المُجتمع بما أنهم من يكشف حقيقة المُجتمع أمام نفسه. وهو ما نجح فيه هذا الفريق الضخم، وما نجح الفيلم أيضا في التأكيد عليه.
محمود الغيطاني
مجلة "القافلة" السعودية
عدد مارس/ إبريل 2024م.