الاثنين، 23 ديسمبر 2024

ترامبو: الجانب المُخجل لهوليوود ووهم المكارثية!


ثمة حالة من الصراع الفني والأخلاقي يعاني منها المُبدع المُقبل على تحويل الأحداث التاريخية إلى عمل فني إبداعي، هذه الحالة تجعله يقع بين مطرقة التاريخ كما حدث حرفيا، وسندان رؤيته الفنية في تحويل الحدث التاريخي إلى عمل فني من دون الالتزام الحرفي بأحداث التاريخ، لا سيما في السينما- فالالتزام بالأحداث التاريخية أحيانا ما يسلب العمل الفني روحه، ويتركه جافا لا حياة فيه، وبالتالي يفقد المُشاهد شغفه بمُشاهدته، أو مواصلة المُشاهدة حتى النهاية نتيجة للملل!

لكن، ما علاقة الأخلاق بهذا الأمر، ولم نحاول نسبته للأخلاق؟

إن السينما في جوهرها فن ترفيهي، جماهيري، أقرب إلى الشعبوية منها إلى النُخبوية؛ وبالتالي فالقطاع الأكبر من جمهور السينما ليس بالضرورة جمهورا مُطلعا، أو مُثقفا، أو مُتعلما، بل هو يضم العدد الأكبر من العامة الذين قد لا يكون لهم أي علاقة بالثقافة والاطلاع، وهو ما يجعل السينما- في غالب الأمر- المصدر الأساس والأول لاستقاء معلوماتهم وتراكمها في أذهانهم، وبالتالي إذا ما أغفل المُخرج حرفية الحدث التاريخي، أو ذكر ما لم يرد في التاريخ الفعلي- تبعا لرؤيته الفنية في فيلمه، وبما يخدم أحداثه- ستكون النتيجة هي إيمان القطاع الأكبر من المُشاهدين، واعتقادهم بواقعية الحدث الفيلمي وصحته، الأمر الذي قد يؤدي في النهاية إلى تزييف التاريخ عند قطاع كبير من المُشاهدين الذين يعتمدون على ما يشاهدونه في تراكم معارفهم، وبذلك يكون المُخرج قد ساهم في تزييف التاريخ، وتصدير معلومات كاذبة- قد تسود فيما بعد، نافية للحدث الفعلي لتصبح هي الحقيقة عند قطاعات أكبر- من دون عمدية أو قصدية لمثل هذا التزييف، بل اعتمادا على الرؤية الفنية لصانع العمل.


هذه الحالة من الصراع يقع فيها الغالبية ممن يقومون بتحويل التاريخ إلى أفلام سينمائية، منهم من ينتصر لرؤيته السينمائية في نهاية الأمر، ومنهم من يلتزم بالأحداث التاريخية كما حدثت تماما، وهي إشكالية كثيرا ما تمت إثارتها ومُناقشتها، والاعتراض عليها، أو الموافقة عليها، لكن يبقى للمُخرج- صانع العمل- في نهاية الأمر رؤيته هو في صناعة فيلمه كيفما يرى من دون إرغامه على الالتزام بالتاريخ حرفيا.

هذه الأفكار حول الصراع الفني ومدى أخلاقيته كانت هي المُسيطرة على ذهني أثناء مُشاهدتي للفيلم الأمريكي Trumbo ترامبو للمُخرج الأمريكي Jay Roach جاي روتش، وهو الفيلم الذي كتب له السيناريو السيناريست الأمريكي John Mcnamara جون مكنمارا مُعتمدا على الكتاب غير الروائي Dalton Trumbo دالتون ترامبو للمُؤلف Bruce Cook بروس كوك، الذي يتناول حياة السيناريست الأمريكي دالتون ترامبو، ومُعاناته الصعبة بسبب أفكاره، وإيمانه بالشيوعية، والدفاع عن حقوق العمال في الاستوديوهات السينمائية؛ الأمر الذي أدى إلى نبذه، والتنكيل به، وسجنه لمُدة عام بتهمة ازدراء الكونجرس، بل وحرمانه من العمل في هوليوود- رغم أنه كان من أنجح كتاب السيناريو في ذلك الوقت، وأعلاهم أجرا، وأغزرهم إنتاجا- مما جعله يتغلب على الحصار الذي تم إحكامه من حوله بكتابة العديد من السيناريوهات بأسماء مُزيفة، بل وكتابة أفلام تجارية، تصنيف B لشركة King Brothers Productions كي يستطيع كسب المال، والإنفاق على عائلته وإنقاذهم من الجوع، رغم أنه حاز على جائزة الأوسكار عن فيلم Roman Holiday عطلة رومانية 1953م، وفيلم The Brave One الشجاع 1956م، وهما الفيلمان اللذان كتبهما ترامبو بأسماء غير حقيقية؛ فذهبت الأوسكار الأولى إلى الشخص المكتوب اسمه على السيناريو- أحد أصدقائه- بينما ذهبت الأوسكار الثانية إلى الشركة؛ نظرا لأنه لم يكن هناك شخص حقيقي يحمل الاسم المكتوب على السيناريو!


إذن، فالمُخرج جاي روتش يتناول من خلال فيلمه فترة شديدة الأهمية والإظلام في تاريخ السينما الأمريكية، مُتخذا من دالتون ترامبو نموذجا واحدا لما حدث في تلك الفترة التي نالت من العديدين من العاملين في مجال السينما الأمريكية المُؤمنين بالشيوعية، والتي حوّلت حياتهم جميعا إلى شكل من أشكال الجحيم، وهو ما عُرف حينها بـHollywood Ten أي القائمة السوداء التي ضمت عشرة أسماء من أهم العاملين في صناعة السينما الأمريكية، والمحظور عليهم العمل مع أي شركة إنتاج سينمائية، من أجل تجويعهم، وتشريدهم بسبب أفكارهم الأيديولوجية واعتقاداتهم اليسارية، حيث كان ترامبو على رأس هذه القائمة!

من أين يأتي إذن عدم الالتزام بالتاريخ، أو ما رأينا أنه تزييف لأحداث التاريخ الحرفية في الفيلم؟

هذه الفترة المُظلمة في تاريخ الولايات المُتحدة الأمريكية هي ما عُرفت باسم المكارثية- نسبة لـJoseph McCarthy جوزيف مكارثي، الذي كان عدوا لدودا للشيوعيين الأمريكيين، ومُطاردا لهم، وتسبب في مجموعة موسعة من التحقيقات بشأنهم باعتبارهم أعداء للديمقراطية، والحرية الأمريكية المزعومة، ورغم أن مكارثي بالفعل تسبب في الكثير من الجرائم ضد الحريات في هذه الفترة مُترصدا جميع الشيوعيين في المُجتمع الأمريكي، ومُصعدا ضدهم، إلا أنه في حقيقة الأمر لم يكن له أي علاقة بسعي الكونجرس لتحقيقات هوليوود، أي أنه كان بعيدا كل البُعد عما حدث في هوليوود والتنكيل بصُناعها، ومنهم دالتون ترامبو، وقائمة Hollywood Ten ومنعهم من العمل، وإحكام الحصار من حولهم، لكن الفيلم الذي رأيناه لا يشير إلى ذلك؛ مما يؤدي إلى الالتباس والاعتقاد بأن جوزيف مكارثي كان له اليد الأولى في الكارثة الهوليوودية التي حدثت في هذه الفترة نتيجة لأن الفيلم أشار إلي مكارثي في أحداثه بشكل واسع وفضفاض؛ الأمر الذي سيلقي بظلاله على الحدث الرئيس، وهو التنكيل بصُناع السينما، ناسبا- من دون عمدية- هذه الأحداث إليه- وربما بعمدية تبعا لرؤية المُخرج السينمائية.


يبدأ روتش فيلمه بشاشة مُظلمة بينما نقرأ: خلال عام 1930م بالاستجابة إلى الكساد الاقتصادي الكبير، وتفشي نظام الفاشية؛ التحق الآلاف من الأمريكيين بالحزب الشيوعي الأمريكي بعد تحالف الولايات المُتحدة مع الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية. انضم الكثيرون إلى الحزب الشيوعي. كاتب السيناريو دالتون ترامبو- بطل حقوق العمال- أصبح عضوا في الحزب عام 1943م، لكن الحرب الباردة أدخلت بعض الشك في قلوب الشيوعيين الأمريكيين.

نُلاحظ هنا أن المُخرج كان حريصا من قبل أن يبدأ أي مشهد من مشاهد فيلمه على تقديم هذه المعلومات التاريخية الواقعية والصحيحة للمُشاهد الذي تتم تهيئته لما سيلي ذلك من أحداث، وهو ما سيجعل المُشاهد- غير المُطلع، والمُعتمد على السينما في تكوين معارفه وتراكمها- يعتمد على ما سيراه في الفيلم باعتباره حقيقة حرفية للتاريخ وما حدث فيه، وهو ما قصدناه حينما ذهبنا إلى الجانب الأخلاقي في الصناعة الفنية، لا سيما السينمائية، وبالتالي إذا ما اختلق صانع الفيلم هنا أي حدث يخص قصته مُنساقا خلف رؤيته السينمائية، أو لأنه يرى أن هذا الاختلاق سيخدم قصة فيلمه، والدفع بأحداثها إلى الأمام؛ سيكون من قبيل التزييف غير المُتعمد، والمُضلل للمُشاهد العادي بمفهومه الشعبوي.


إذن، فانضمام دالتون ترامبو إلى الحزب الشيوعي الأمريكي، هو وغيره من الأمريكيين، لم يكن أمرا مُخالفا للقانون، أو ضد الديمقراطية والحرية الأمريكية المزعومة؛ فالتقارب الحادث بين أمريكا والاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت قد جعل وجود أحزاب شيوعية في أمريكا أمرا قانونيا مُرحبا به، ولكن لأن السياسة لا مبادئ لها، ولأنها غير مُستقرة تبعا للمصالح، فحينما بدأت الحرب الباردة بين الدولتين؛ بدأ الاضطهاد الأمريكي للشيوعيين الأمريكيين رغم عدم عمالتهم، أو تجسسهم لصالح السوفيت، أو مُخالفتهم للقوانين الأمريكية، أو فقدانهم للانتماء الوطني لأمريكا!

يبدأ الفيلم- في مشهده الأول- عام 1947م في شمال لوس أنجلوس بترامبو- قام بدوره المُمثل الأمريكي Bryan Cranston بريان كرانستون- في حوض الاستحمام غافيا، وسُرعان ما يستيقظ لاستكمال كتابته لأحد سيناريوهاته، حيث نراه يضع الآلة الكاتبة أمامه على عارضة خشبية فوق حوض الاستحمام، بينما سجائره وزجاجة الويسكي مُلازمين له دائما أثناء الكتابة في أي مكان، لنعرف أن أفضل مكان كان يشعر فيه ترامبو بالراحة والانطلاق من أجل كتابة أفلامه كان في حوض الاستحمام المُمتلئ بالماء! ولعل أداء المُمثل الأمريكي بريان كرانستون يستحق عليه العديد من الجوائز؛ لقدرته على تقمص شخصة ترامبو حتى أننا لا يمكن لنا تخيل ترامبو إلا في الدور الذي أداه كرانستون، لا سيما انحناءه ظهره المُلازمة له، والتي توحي بأنه منحني طوال الوقت على الآلة الكاتبة لكتابة المزيد من السيناريوهات، وهو ما يُدلل على عكوفه الدائم والطويل على كتابة سيناريوهاته، مما ترك بأثره على تكوينه الجسدي.


يبدو لنا الفيلم في حقيقته بمثابة السُخرية من القيم الأمريكية التي كثيرا ما تشدقت بها باسم الديمقراطية والحرية، وهو ما نراه في المشهد التالي، حيث يحضر ترامبو تصوير أحد أفلامه ليسأله أحد المُمثلين في الفيلم: ما هو سطري الرائع يا ترامبو؟ ليرد عليه: الآن، إذا لم نُحارب هؤلاء الرجال، بالطبع ربما تحظى بالحياة الطويلة والسعيدة التي نريدها جميعا. فيسأله المُمثل: إذن، ما الذي تريدني أن أحارب من أجله؟ ليرد ترامبو: حسنا، بث السلام، والنية الحسنة تجاه البشر. فيقول المُمثل ساخرا: حسنا، لا يمكنك فعل هذا، هذه أمريكا. لكن ترامبو يقول ساخرا: حسنا، ماذا عن الجنس والمال؟ فيقول المُمثل: ها أنت مُحق، شيئان نحبهما جميعا!

بالتأكيد كلنا نحب الجنس والمال، ولا يمكن لنا إنكار ذلك، لكن المُفارقة الجوهرية في هذا الحوار السابق بين كل من المُمثل وترامبو تأتي من أن الجنس والمال هما الدعامتان الرئيسيتان اللتان تنشأ عليهما القيم الأمريكية، وتتشكل بناء عليهما، وبالتالي تبدو لنا أمريكا- من خلال الحوار- تتمتع بقدر من الجشع، واللاقيمية، بل والعدمية، واللاإنسانية في مُقابل إنسانية وقيمية، ومبادئ الاشتراكية المُمثلة للاتحاد السوفيتي- التي تشجع مبادئها، ولو على المستوى النظري على الأقل، بالحقوق، والإنسانية، والسلام، والنية الحسنة تجاه البشر.


يوغل المُخرج جاي روتش في فضح الألاعيب السياسية والحكومية التي تتبعها أمريكا من أجل السيطرة على الجميع، وغسل أدمغتهم، واستغلال كل شيء صالح للاستغلال من أجل مصالحها ورؤيتها السياسية ببراجماتية واضحة لا يمكن إنكارها؛ فنراهم يستخدمون وسائل الإعلام من أجل غسيل أدمغة العامة والغوغاء من الجماهير، أي القطاع الأكبر من المواطنين الأمريكيين- القطيع وسُلطته المُخيفة على المُجتمع- فنرى من خلال فيلم تسجيلي موجه عضو الكونجرس جاي بارنيل توماس- قام بدوره المُمثل الأمريكي James DuMont جيمس دومونت- يقول في لقاء إخباري: الشيوعية لا تُشكل تهديدا بعيدا، إن أكثر عملائها الخطرون هنا يسيطرون على الإذاعة والسينما، يستولون على موظفيها ونقاباتهم، عليهم أن يكشفوا كما يفعل الأعداء. لينطلق صوت المُعلق الإخباري في الفيلم بقوله: هدف الشيوعيين هو الهيمنة على العالم، الخط الأمامي لحرب جديدة، حرب باردة، التآمر على قيم الديمقراطية، والعمل على إطاحة بهذه الأمة! أي أن السياسة الأمريكية تعمل من خلال استغلال الآلة الإعلامية- التليفزيون، والإذاعة، وصناعة الأفلام، والصحافة- على شيطنة الشيوعيين جميعا، في مُقابل تصوير القيم الأمريكية باعتبارها الفردوس النموذجي والمثالي على الأرض، رغم أن العكس هو الأقرب إلى الحقيقة.


في هذا الفيلم التسجيلي الموجه الذي تم عرضه على الجماهير، نرى أنه يعرض جانبا من المُظاهرات والاحتجاجات التي قام بها الشيوعيون، ومنهم دالتون ترامبو- الجالس وسط الجماهير لمُشاهدة العرض- للدفاع عن حقوق العاملين في صناعة السينما، والمُطالبة بزيادة الأجور لهم باعتبار أنهم هم الأساس في الصناعة السينمائية من فنيين، وبنائين وغيرهم، بينما المُنتجين يحصدون الكثير من المال الذي لا بد من تقاسمه، أو إعطاء جزء منه للعمال، ونتيجة لهذا العرض حينما ينتهي الفيلم، ويخرج الجمهور، يشاهد أحد الحاضرين دالتون ترامبو خارجا مع زوجته وأبنائه؛ فيسأله: هل هو الذي كان في الفيلم مُدافعا عن حقوق العمال؟ وحينما يرد عليه ترامبو بالإيجاب، يلقي الرجل بكوب الكولا الذي في يده في وجه ترامبو واصفا إياه بالخائن!

إنها سُلطوية القطيع الذين تحرص السُلطة السياسية على غسيل أدمغتهم، وبما أن الفيلم الذي عُرض لتوّه قد وصف الشيوعيين بالمُخربين، والخونة، فلقد أتى الفيلم أكله بسرعة كبيرة بالنسبة للقطاع العريض من المُجتمع الذين باتوا يعتقدون فيما تبثه وتُصدره لهم السُلطة السياسية، ومن هنا كان وصف الخيانة من قبل الرجل الذي لا يعرف ترامبو، والاعتداء عليه.


تتطور الأمور بسرعة كبيرة ضد الحزب الشيوعي الأمريكي؛ فنرى جاي بارنيل توماس في مُؤتمر صحفي يقول: لقد صدرت مُذكرة استدعاء بحق هؤلاء الذين يظنون معرفة أن الشيوعية الجارية تُشكل تهديدا في هوليوود. فيسأله أحد الصحفيين: أي نوع من التهديد هذا؟ ليرد: التآمر على القيم الديمقراطية، والسعي للإطاحة بهذه الأمة. لكن الصحفي يسأله ساخرا: عن طريق الأفلام؟ هل هناك أي فيلم مُحدد؟ لكن بارنيل يقول: إن الأفلام تحظى بتأثير أقوى، كما أنها مُمتلئة بالخونة المُختبئين- بالفعل الأفلام تحظى بتأثير أقوى على الغوغاء، وهو ما تستغله الحكومة الأمريكية من أجل تأليب الجميع على الشيوعيين، في حين أن الشيوعيين العاملين في مجال السينما لا يفعلون ذلك.

إذن، فالأمور في تصاعد لمُجرد أن ترامبو وزملاءه من أعضاء الحزب الشيوعي الأمريكي طالبوا بحقوق العاملين في مجال السينما من خلال اعتراضاتهم، واحتجاجاتهم السلمية التي لم يكن فيها أي شكل من أشكال التخريب، وهو ما سيؤدي بالفعل إلى استدعاء الكونجرس لترامبو وزملائه من العاملين في مجال السينما، والمُنتمين للحزب الشيوعي من أجل التحقيق معهم، وكأنهم ارتكبوا جريمة مُخالفة للقانون، رغم أنهم لم يخالفوا القانون، ولا يدعون للتخريب، بل يؤمنون بأفكار، وهو ما لا يجرمه الدستور الأمريكي في جوهر الأمر، بل إن مُحاربتهم والتنكيل بهم بسبب مُعتقداتهم هو ضد الحرية والديمقراطية التي تتشدق بها أمريكا طوال الوقت، كما أن التحقيق معهم أيضا إنما يعمل على تقويض المبادئ والقيم الأمريكية التي تنادي بها!


يضطر ترامبو للخضوع للتحقيقات أمام الكونجرس الأمريكي مثل الكثيرين الذين تم استدعاؤهم، حيث نرى رونالد ريجان الذي كان في ذلك الوقت رئيسا لنقابة المُمثلين يقول في التحقيقات التي يتم بثها إعلاميا: لقد تم تشكيل لجنة كشف عن الأنشطة الشيوعية غير الأمريكية للتحقيق في عمل الشيوعيين المزعومة في هوليوود، وهي اللجنة التي عُرفت باسم HUAC- لجنة مجلس النواب الأمريكي للأنشطة غير الأمريكية.

حينما يخضع ترامبو للتحقيق في الكونجرس يطلب منه جاي بارنيل توماس الإجابة على أسئلته بنعم أو لا فقط، وهو الأمر الذي يرفضه ترامبو، راغبا في الإجابة المُفصلة وتوضيح الأمور، وهو ما يوضحه في قوله: يمكن الإجابة على العديد من الأسئلة بنعم أو لا فقط من قبل المعتوه أو العبد. ثم يعود ليسأل المُحقق: هل أنا مُتهم بارتكاب جريمة؟ لكن المُحقق يرد بصرامة: أنت لا تطرح الأسئلة!


إن الأمر هنا يبدو لنا عبثيا تماما؛ فترامبو بالفعل غير مُتهم بأي جريمة، وهو يتم التحقيق معه من أجل آرائه ومُعتقداته، وهما في حقيقة الأمر ليسا بجريمة في أي قانون في العالم، فضلا عن أن المُحققين هنا لا يرغبون في إعطائه الفرصة في شرح الأمور، أو الدفاع عن نفسه، بل وليس من حقه طرح الأسئلة فيما يخصه، وهو ما يجعله يؤكد لهم بأن هذا مُخالف للقانون، والدستور، والقيم الأمريكية؛ الأمر الذي يعتبره الكونجرس إهانة له، وامتناع من ترامبو وزملائه عن التعاون معهم في التحقيقات، وبالتالي يتعرضون لتُهمة ازدراء الكونجرس، والتي ستكون عقوبتها قضاء عام كامل في السجن!

هنا تتصاعد الأمور بشكل جنوني خوفا من لجنة الكونجرس المُشكلة، وأنصارها، حيث تقوم الصحفية هيدا هوبر- قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية Helen Mirren هيلين ميرين- صاحبة عمود القيل والقال الشهير، والمُناصرة للجنة الكونجرس ضد الشيوعيين، بتهديد لويس بي ماير- قام بدوره المُمثل الأمريكي Richard Portnow ريتشارد بورتنو-  صاحب استوديوهات ماير الشهيرة، واتهامه إذا لم يقم بطرد ترامبو وزملائه، ومنعهم من العمل في هوليوود بأنها ستقود حملة مُؤكدة النجاح على استوديوهات ماير؛ مما سيجعل الجميع يعرض عن مُشاهدة أفلامه، وسيؤدي الأمر إلى إفلاسه، بل واتهامه بأنه ضد القيم الأمريكية باعتباره يهوديا قادما من أوروبا، الأمر الذي يجعله مُضطرا لتحقيق ما طلبته منه مُرغما، وخوفا على مُستقبل عمله، بل ونشاهد على شاشة التلفاز عنوانا لأحد الأخبار يقول: استوديوهات الأفلام تطرد الشيوعيين. لنرى لويس بي ماير يقول: جميع الاستوديوهات توافق بالإجماع على طرد عشرة من نجوم هوليوود بدون تعويض بشكل فعال على الفور، لن توظف الاستوديوهات أي عنصر ينتمي للحزب الشيوعي، أو أي أحد يرفض التعاون في نضالنا ضد هذا الخطر الفظيع الجديد.


إذن، فلم يصدر بالفعل على أرض الواقع أي قرار بشكل رسمي من قبل الكونجرس بمُحاصرة وإيقاف ترامبو وزملائه عن العمل، ومحاولة تجويعهم وتشريدهم، بل تم الأمر ضمنيا من خلال التهديد والوعيد من قبل أعضاء لجنة التحقيقات، ومن يناصرهم من الصحفيين والإعلاميين، فضلا عن الغوغاء الذين تم غسل أدمغتهم. هذا التهديد والوعيد لأصحاب شركات الإنتاج الكبرى في هوليوود دفعهم إلى الرضوخ لمُناصري الاتجاه الذي يقوده الكونجرس ولجنته؛ مما أدى إلى طرد ترامبو وزملائه، وحرمانهم من العمل تماما؛ فالضغط هنا كان في مُقابل رأس المال واستمرار الشركات في العمل والمزيد من الإنتاج، ورغم أن ماير قد أخبر هيدا هوبر بأنه لا يستطيع طرد كل من يعمل في شركته لمُجرد أنه لا يحبه، أو لا يروق له، إلا أنه اضطر لطرد ترامبو مُرغما، وإنهاء التعامل معه رغم أنه أفضل كتاب السيناريو في هوليوود، وهو ما يؤكد أيضا أن الأمر كان بعيدا عن جوزيف مكارثي الذي لم يكن له أي علاقة بتحقيقات هوليوود وما حدث فيها.


لقد تم الحصار بشكل مُحكم على ترامبو وزملائه، بل وتم إيداعهم في السجن لمُدة عام بتهمة ازدراء الكونجرس، ورغم أنهم كانوا قد عقدوا الأمل على تبرئتهم من هذه التهمة الموجهة إليهم زورا في الاستئناف- نظرا لأن قضاة الاستئناف من الليبراليين، وهم أغلبية- إلا أن قاضيين من قضاة الاستئناف قد ماتا قبل انعقاد الجلسة؛ الأمر الذي رجح من اتهام الكونجرس لهم.

إن المُفارقة الكبرى التي يستعرضها المُخرج هنا، أن نائب الكونجرس المُتحمس، جاي بارنيل توماس، والعدو الأول للشيوعيين تم اتهامه بالتهرب الضريبي؛ الأمر الذي جعله نزيلا في نفس السجن المسجون فيه ترامبو، ولعل المشهد الذي رآه فيه ترامبو من المشاهد المُهمة حينما قال له بارنيل: انظر لحالنا، ها نحن مُجرد مساجين. لكن ترامبو يرد عليه بثقة وشموخ: إلا أنك سُجنت لجريمة ارتكبتها فعلا.

بعدما يتم سجن قائمة العشرة السوداء، يتم التضييق على العديدين من العاملين في مجال صناعة السينما الأمريكية ممن كان لهم صلة صداقة أو معرفة بترامبو وزملائه، ومنهم المُمثل إدوارد جي روبنسون- قام بدوره المُمثل الأمريكي Michael Stuhlbarg مايكل ستولبارج- الذي كان يُساند ترامبو في أفكاره، بل ودفع له مبلغا باهظا من أجل استئناف الحُكم في قضية ازدراء الكونجرس قبل حبسه، لكن إدوارد يتوقف عن العمل في السينما لمُدة عام كامل بعد سجن ترامبو بشكل مُتعمد، فلا تُقدم له أي عروض، ولا يؤدي أي مشهد؛ الأمر الذي دفعه للموافقة على إدانة ترامبو وزملائه في تحقيق صوري تم بثه على الهواء، واعترف على ترامبو ومن معه بأنهم كانوا شيوعيين مُخربين في هوليوود، وبأنه لم يكن يعرف شيئا عن أنشطتهم، لذا كان يستضيفهم في بيته لعدم علمه بأنشطتهم، ونتيجة لهذا الاعتراف والإدانة لترامبو أمام الرأي العام عادت العروض التمثيلية مرة أخرى تنهال على إدوارد بعدما فعل ما طُلب منه من أجل المزيد من الإدانة لجميع الشيوعيين العاملين في هوليوود.


إنه الأمر الذي يوضحه إدوارد لترامبو حينما يلتقيان بعد خروج ترامبو من السجن، فيقول إدوارد: بعدما دخلت السجن لم أعمل لمُدة عام، لا عروض، ولا حتى تجربة أداء واحدة، كان الناس يرونني قاطع طريق، أناس أحببتهم، أناس جعلتهم أثرياء، لم جلست أمام تلك الهيئة؟ لأني لم أقترف أي شيء، لم يرتكب أينا أي شيء، كنا جميعا أطفال حمقى، بلا دخل في أي من ذلك، أردت أن تعود إليّ حياتي فحسب، كان بحوزتهم أسماء الجميع، أنت وأرلين والجميع، لم أفصح لهم بأمر لم يمتلكوه أصلا، وضعت حدا له، وضعت حدا فحسب، فعلت ما اضطررت إليه.

إن الحصار الناري الكامل، واتهامهم، وازدرائهم، وحرمانهم من حقوقهم في الحياة، والعمل، والكسب تتم من خلال الإرغام، والتهديد لجميع من حولهم بحرمانهم بدورهم من العمل وكسب العيش، وبالتالي يضطر عدد منهم إلى الخضوع للجنة تحقيق الكونجرس الكارهة لجميع الشيوعيين، والتخلي عنهم.

يخرج ترامبو من السجن بعد عام ليجد زوجته كليو- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Diane Lane ديان لين- مُنتظرة إياه لحين خروجه، قادرة على لمّ شمل أسرتها- فتاتان وشاب- محاولة مواجهة الحياة، حتى أننا سنلحظ بأنها قد عرضت البيت للبيع من أجل القدرة على مواصلة الحياة التي توقف فيها الدخل تماما، غير مُعترضة على أفكار ومُعتقدات زوجها التي لا تعتقد فيها أو تتبعها، وإن كانت تعتقد في الرجل الذي تحبه، وتحترم ما يراه من قرارات، وهو ما جعلها تنجح في الحفاظ على الأسرة من التفرق، أو الانهيار.


يُفاجأ ترامبو بابنته نيكولا- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Elle Fanning إيل فانينج- قد تركت الطفولة لتخطو باتجاه الأنوثة، كما يعرف بأنها مُنضمة لإحدى الجمعيات التي تدافع عن حقوق الأقليات، ومُناهضة العنصرية في المُجتمع الأمريكي- أي أن البنت اكتسبت من أبيها مقدرته على القتال والوقوف إلى جانب الأقليات، وكأنها صورة مُصغرة منه، وهو الأمر الذي ستؤكد عليه فيما بعد حينما تخبره بأنها طالما أرادات أن تكون مثله، وتأكيد أبيها لها بأنها قد نجحت في ذلك، وربما فاقته.

يحاول ترامبو جاهدا، وبإصرار على مواصلة حياته وكسر الحصار المُحكم من حوله هو وزملائه من الشيوعيين المُدرجين على القائمة السوداء، والممنوعين من العمل في هوليوود؛ وبالتالي يتجه إلى فرانك كينج- قام بدوره المُمثل الأمريكي John Goodman جون جودمان- صاحب شركة الإنتاج السينمائي King Brothers Productions التي تقوم بإنتاج أفلام تجارية من الفئة B ولا يعنيها الارتقاء بالأفلام السينمائية إلى أي مستوى فني، ويطلب منه أن يكتب له، لكن فرانك يخبره بأن مستوى أفلامهم لا يرقى لما يكتبه، كما أن سعره أعلى بكثير مما تدفعه الشركة، هنا يخبره ترامبو بأنه في حاجة للعمل كي يستطيع الحياة هو وأسرته، ولكي يكون لديه دخل يضمن لهم الحياة، فيخبره فرانك بأنهم يدفعون في السيناريو الواحد 1200 دولار فقط؛ فيوافق ترامبو على ذلك- رغم أنه كان الأعلى أجرا فيما قبل- ويكتب لفرانك في خلال ثلاثة أيام فقط مجموعة كبيرة من السيناريوهات التجارية المُناسبة للشركة، حيث يشتري بثمنها بيتا جديدا بدلا من البيت الذي تم بيعه.

لقد نجح ترامبو إلى حد بعيد في تحدي الحصار المعيشي المفروض عليه بعدم العمل مع أي شركة إنتاج في هوليوود من خلال تعاونه مع الأخوين كينج لكتابة أفلام تجارية من دون وضع اسمه على الأفلام التي يقوم بكتابتها، بل وضع مجموعة من الأسماء الوهمية التي لا وجود لها على أرض الواقع، وهو ما جعله يجند أسرته بالكامل من أجل ما يفعله، فتعلم أولاده الكتابة على الآلة الكاتبة، والطباعة من أجل تصحيح السيناريوهات التي يقوم بكتابتها، بل وعرفهم عناوين شركات الإنتاج والمُمثلين الذين يتعامل معهم من أجل إيصال السيناريوهات في سرية كاملة، وأخبرهم بأنه يكتب بأسماء مُستعارة مُتعددة، وبالتالي فعليهم ألا يذكروا لأحد بأنه هو من يقوم بكتابة الأفلام، وإذا ما اتصل أحدهم من خلال الهاتف طالبا أحد الأسماء المُزيفة التي يكتب بها فعلى من يتلقى المُهاتفة أخذ رسالة فقط من المُتصل، أي أنه قد أنشأ مُعسكرا في بيته من خلال أسرته كي ينجح في نهاية الأمر في كسر الحصار المفروض عليه، وإخراجه من القائمة السوداء للممنوعين من العمل في هوليوود، ومن أجل كسب العيش أولا وأخيرا كي يستطيع الحياة هو وأسرته، والإنفاق عليها في نفس المستوى الذي اعتادوا عليه.


بالتأكيد أن الوضع الذي فُرض على ترامبو هو وضع مُثير للأعصاب، دافع للجنون، يجعل صاحبه على حافة الثورة على الجميع في أي لحظة، مُنفجرا فيهم؛ لذا- وبما أن كليو زوجته تعرفه جيدا- فلقد كانت حريصة على احتماله، لا سيما وأنه قد بات مشحونا دائما، لا يفعل أي شيء سوى العزلة والكتابة لمُدة 18 ساعة في اليوم من أجل كتابة المزيد من السيناريوهات الرخيصة السعر، بل وبات يلقي بالأوامر فقط من دون اعتبار لأي شيء، وفرض إرادته على الجميع حتى لو كان مُخطئا.

لكن، بما أن نيكولا قد باتت امرأة ناضجة، لها رأيها المُستقل فلقد اصطدمت بأبيها في يوم عيد ميلادها، حيث كان في حوض الاستحمام مُنهمكا في كتابة أحد سيناريوهاته، بينما تجتمع مع إخوتها وأمها حول قالب عيد ميلادها، وطلبت من أمها أن تخبر أباها، لكن أمها نصحتها بعدم فعل ذلك، إلا أن نيكولا أصرت على الأمر وفتحت عليه الحمام؛ مما جعله يثور عليها موبخا، مُخبرا إياها بأنه ممنوع على أي كان أن يقاطعه أثناء قيامه بالكتابة، فترد عليه بينما الدموع في عينيها، وماذا إذا ما احترق البيت مثلا، لكنه يؤكد لها بأنه لا يعنيه احتراق البيت لأنه يجلس في حوض استحمام مليء بالماء.


إن اصطدام نيكولا بأبيها كان من المشاهد المُهمة في الأحداث؛ فهو لم يكن قد أدرك بأنها قد باتت شابة لها قراراتها وإرادتها، ورأيها المُستقل، وكان يتعامل مع الجميع بسُلطوية مُفرطة- ربما بسبب الضغط العصبي الشديد عليه، والحصار المفروض على المستوى المعيشي والعمل- وهو ما جعل كليو/ زوجته تنبهه إلى الأمر وبأنه نتيجة للحصار المفروض عليه، وفي خضم محاولاته المُستميتة من أجل إنقاذ حياة الأسرة ومستواها المعيشي؛ فإنه مُنذ خرج من السجن يخسر أسرته بعدم الاهتمام بها من دون أن ينتبه إلى ذلك؛ الأمر الذي جعله يتجه إلى نيكولا، محاولا أن يشرح لها وجهة نظره، والسبب الذي دفعه إلى ذلك، مُؤكدا لها بأنها وأشقائها أهم لديه من أي شيء، وأن ما يقوم به من أجلهم في المقام الأول.

هل ما يقوم به ترامبو بالفعل من أجل أسرته في المقام الأول؟

لا يمكن إنكار أن كل المجهود الذي يقوم به ترامبو من أجل فك الحصار المفروض عليه، كانت عائلته جزءا منه، لكن ترامبو كان يتميز بالكثير من الغرور، والصلابة، والتحدي، والصلف، والقوة، ورفض الهزيمة، وهذه الأمور كانت السبب الرئيس- غير المُعلن، والكامن في لاشعوره- المُحرك له في كل ما يقوم به مُنذ خرج من السجن، وكليو/ زوجته هي الوحيدة المُدركة لذلك. إنه رجل لا يقبل الهزيمة، ولن يقبلها يوما حتى لو اتضح له خطأ كل ما فعله في حياته، حتى لو اجتمع الجميع على أنه مُخطئ، فسيظل في طريقه قدما كي لا ينهزم، وهو ما قام به بعد خروجه من السجن، وإصراره وتمسكه بالمبادئ الشيوعية، واعترافه بأنه ما زال مُناصرا لها، ومحاولته الدؤوبة في كتابة المزيد والمزيد من السيناريوهات في الخفاء، ورغم أن فيلمين من الأفلام التي قام بكتابتها قد فازا بالأوسكار أحسن سيناريو وتمت نسبتهما لغيره إلا أنه لم يشعر بالخسارة، بل بالنجاح والمزيد من التقدم رغم أنه مُجرد خيال ظل، لا وجود له أمام المُجتمع السينمائي.


يحاول أعضاء لجنة الكونجرس للتحقيقات الضغط على فرانك كينج لطرد ترامبو من العمل لديه بعدما تم تسريب الأمر، وعُرف أنه ما زال يقوم بكتابة الأفلام تحت اسم مُزيف، ويقوم عضو الكونجرس بتهديد فرانك بأنه سيقوم بحملة ضد شركته لأنه يعمل مع شيوعي، وسيمنع الناس من دخول الأفلام التي تقوم شركته بإنتاجها، كما سيشيع بأنه شيوعي مثل ترامبو، وهو ما يجعل فرانك يثور عليه غاضبا، ليمسك بعصا ضخمة محاولا ضربه بها وإيذائه بينما  يقول له: أتريد منعي من نقابة التشغيل؟! سأقصد وسط البلد، وأستأجر مجموعة من السكيرين والمومسات، ليس أمرا مُهما؛ فأنا صانع النفايات، أتود أن تنعتني باليساري في الصحف؟! لك ذلك، لا أحد ممن يشاهدون أفلامي يمكنه القراءة، أنا في هذا المجال من أجل المال والجنس، والاثنان يتهاويان عليّ بغزارة.

يهرب رجل الكونجرس من فرانك الذي كاد أن يفتك به، فهو بالفعل لا تعنيه صناعة الأفلام بقدر ما يعنيه المزيد من الجنس والمال من خلال هذه الصناعة، وهو رجل صادق تماما مع نفسه، ويعرف أنه لا يقدم سينما ذات أهمية فنية- أنا صانع النفايات- ويُدرك جيدا أنه يقدم أفلامه لجمهور جاهل من الغوغاء غير المُتعلمين- لا أحد ممن يشاهدون أفلامي يمكنه القراءة- ومن ثم كان فرانك كينج هو المُنقذ الحقيقي لترامبو من خلال تمسكه به، وعدم الاستغناء عما يكتبه، وعدم خوفه أو رهبته من تهديد أعضاء الكونجرس.

يقدم ترامبو سيناريو "الشجاع" لفرانك كينج، وهو فيلم جيد على المستوى الفني؛ مما يجعله يفوز بجائزة الأوسكار، ولكن حينما يتم ترشيحه يجتمع الأخوان كينج مع ترامبو في حيرة مُتسائلين عمن سيتسلم جائزة الأوسكار إذا ما فاز الفيلم بها، لا سيما أن اسم السيناريست المكتوب على سيناريو الفيلم لا وجود له، بل هو مُجرد اسم وهمي، لكنهم يصلوا إلى حل بإرسال أحد مندوبي الشركة بالنيابة عن السيناريست المزعوم من أجل استلام جائزة الأوسكار.


يلجأ المُمثل الأمريكي Kirk Douglas كيرك دوجلاس- قام بدوره المُمثل والمصور النيوزيلندي Dean O’Gorman دين أوجورمان- إلى ترامبو مُصطحبا معه سيناريو فيلم Spartacus سبارتاكوس 1960م، طالبا منه أن يعمل على إعادة كتابة السيناريو مرة أخرى وتحريره؛ فثمة قصة جيدة داخله، لكنه مُهلهل، ولن يستطيع أحد أن يجعله سيناريو جيدا مُتماسكا سوى ترامبو، يوافق ترامبو على الأمر، ويقوم بإعادة كتابة السيناريو بالفعل، وحينما تنتشر الشائعات بأن ترامبو هو من قام بكتابة فيلم سبارتاكوس، تحاول الصحفية هيدا هوبر- بمُساعدة أحد أعضاء لجنة التحقيق- تهديد كيرك دوجلاس إذا لم يقم بطرد ترامبو، لكنه يظل مُتمسكا به، غير خاضع للتهديدات، ورغم أن صاحب شركة الإنتاج يحاول إرغامه على التخلي عن ترامبو إلا أنه يرفض، ويخبره بأنه سينسحب من الفيلم إذا ما تم التخلي عن ترامبو.

في ذات الوقت يصل إلى ييت ترامبو المُخرج والمُنتج السينمائي النمساوي الأصل الأمريكي الجنسية Otto Preminger أوتو بريمينجر- قام بدوره المُمثل الألماني Christian Berkel كريستيان بيركل- حاملا سيناريو سبارتاكوس بمُجرد انتهاء ترامبو منه وتسليمه، راغبا في مُقابلة ترامبو، طالبا منه أن يقوم بكتابة قصة فيلم Exodus نزوح 1960م الذي يتحدث عن تأسيس دولة إسرائيل، والمأخوذ من رواية تحمل نفس الاسم للكاتب Leon Uris ليون يوريس، مُخبرا ترامبو أن ثمة قصة جيدة داخل الرواية، وهو يرغب منه أن يحولها إلى سيناريو سينمائي. يوافق ترامبو على القيام بالأمر، لا سيما أن أوتو يطلب منه أن يستمر في كتابة السيناريو، وأنه يعده بأن يكون اسمه الحقيقي عليه وعلى تيترات الفيلم في تحد صارخ للجنة التحقيق في الكونجرس، ومن يناصرها من الإعلاميين، وغيرهم من شركات الإنتاج السينمائي في هوليوود.


يقوم ترامبو بالفعل بكتابة السيناريو الذي يروق لأوتو، وحينما يفوز فيلم الشجاع لترامبو بالأوسكار تقترح عليه ابنته نيكولا أن يقلب المنضدة على الجميع ويعقد مُؤتمرا صحفيا للإعلان بأنه صاحب الأفلام التي فازت بالأوسكار، في محاولة منه لكسر الحصار المفروض عليه، وبالفعل يقوم ترامبو بعقد مُؤتمر صحفي يعلن فيه بأنه صاحب الأفلام الفائزة بالأوسكار، وأن عمل لجنة التحقيقات كان مُجرد وهم، لم يفعل سوى محاولة حصاره وتشريده هو وزملائه وأسرهم، في حين أنهم قاموا بأعمال جيدة ومُهمة للسينما الأمريكية.

في الوقت نفسه يُعلن أوتو من خلال الصحافة بأن دالتون ترامبو هو كاتب فيلمه الجديد، بل ويقوم كيرك دوجلاس بإخبار الصحافة بأن ترامبو هو كاتب فيلم سبارتاكوس، أي أن الحصار الناري المفروض من حول دالتون ترامبو قد نجح في كسره تماما بالفعل، بل وأعلن للعالم بأنه صاحب جائزتي الأوسكار اللتين نُسبتا إلى غيره.

تشاهد هيدا هوبر الشاعرة بالكثير من الغضب، تقريرا تليفزيونيا يقول: الرئيس كينيدي استمتع بليلة نادرة بحضور فيلم كيرك دوجلاس الجديد سبارتاكوس- كان كينيدي من قبل رئيس نقابة المُمثلين المُحاربين للشيوعيين في هوليوود- ونحن على الهواء مُباشرة بانتظار تعليقات الرئيس.


حينما يخرج الرئيس كينيدي من دار العرض يسأله المُذيع: سيدي الرئيس: إنه فيلم جدلي للغاية، ما هو رأيك؟ ليرد كينيدي: أعتقد أنه فيلم جميل، وأظن أنه سيمثل نجاحا ضخما. ليعلق المُذيع: الكلام المُضمن في موافقة كينيدي على الفيلم ذي مفهوم واسع؛ فالقصة كتبت بواسطة الشيوعي الأسبق، والتعديل إلى نص سينمائي كذلك، وهذا يفيد بأن القائمة السوداء قد انتهت.

يحصل دالتون ترامبو على جائزة نقابة المُؤلفين الأمريكيين، حيث نراه يقول في كلمته: القائمة السوداء كانت فترة لعينة، لا أحد نجا منها خرج من دون أن يمسه الشر، كل شخص تصرف وفق طبيعته، بحاجته وباقتناعه، وظروفه المُعينة التي أجبرته على ذلك، كانت فترة خوف، ولم يعف أحد، العديدون من الناس فقدوا منازلهم، تفتتت عوائلهم، تاهوا، حتى أن البعض خسروا حياتهم، لكن حينما تجولون بأنظاركم في ذلك الوقت المُظلم- كما أرى أنه ينبغي ذلك بين الفينة والأخرى- لن يعود عليكم بفائدة البحث عن أبطال أو أشرار، فلم يكن هناك أيا منهم، كان هناك ضحايا فحسب، ضحايا لأن كل واحد منا أحس بالقهر ليقول أو ليفعل شيئا، أنظر إلى عائلتي جالسة هناك، وأدرك الذي عرضتهم له، وهو غير مُنصف، زوجتي، تمكنت بطريقة ما من المُحافظة على الترابط، إنه يدهشني.


يغلق جاي روتش فيلمه بكتابته على الشاشة: تسلم ترامبو الأوسكار أخيرا عن فيلم The Brave One الشجاع عام 1975م، ومات عام 1978م عن عمر 70 عاما. كليو قبلت جائزة أوسكار ترامبو عن فيلم Roman Holiday عطلة رومانية عام 1993م. ماتت كليو عام 2009م عن عمر 93 عاما، ولم تتزوج مُجددا. المئات تم وضعهم في القائمة السوداء في هوليوود، والآلاف عوملوا بظلم في أرجاء أمريكا، مُعلمون، وجنود، وموظفو حكومة، وعوائلهم كانوا من أولئك الذين عانوا من فقدان الوظائف. لجنة أنشطة الأمريكيين غير المُخلصين استمرت في التحقيق مع المواطنين حتى عام 1975م.

يستفيد المُخرج الأمريكي حاي روتش في فيلمه كثيرا من العديد من التسجيلات القديمة التي وثقت لهذه الفترة المُظلمة في تاريخ أمريكا، والسينما الأمريكية، وهي ما ضمنها في فيلمه المُهم في العديد من المشاهد، أي أن اعتماد المُخرج على التسجيلية كان من أهم مُبررات نجاح فيلمه الذي قدمه، وهو الفيلم الذي نرى أنه كان صالحا لأن يكون مُسلسلا تليفزيونيا، وإن كان المُخرج قد نجح في تقديمه كفيلم سينمائي، ولعل هذه التسجيلات القديمة قد تدفع المُشاهد غير المُطلع إلى تصديق كل ما جاء في الفيلم حتى لو كان فيه أي مُغالطات أو لجوء إلى الخيال لخدمة السيناريو وأحداث الفيلم، ولعله يتبين لنا من خلال ما قدمه المُخرج أن فترة المكارثية لم تكن في حقيقتها سوى وهم ضخم- سواء بالمفهوم الواقعي لتحقيقات هوليوود- حيث لم يكن للمكارثية أي علاقة مُباشرة بما حدث في هوليوود وصُناع السينما فيها- أو بالمفهوم الأوسع- حيث لم تنجح المكارثية وعدائها للشيوعية، رغم كل ما قامت به أن تقضي على الأفكار ومُعتقدات الآخرين الذين استمروا فيها في نهاية الأمر.


يستمر المُخرج في استثمار التسجيلات القديمة بعدما ينتهي من تيترات النهاية حيث نرى تسجيلا مع دالتون ترامبو يسأله فيه المحاور: لو تسلمت الأوسكار، ماذا تنوي أن تفعل بها؟ ليجيب ترامبو: لدي ابنة في عمر الثالثة عشرة. تم وضعي في القائمة السوداء مُنذ كانت في الثالثة من العمر، إنها تعرف عنوان كل فيلم كتبته في هذا المجال، وحفظت العناوين سرا، لقد كانت جندية. عندما قال لها أصدقاؤها- كما هي عادة الأطفال: أبي فعل كذا وكذا، فماذا فعل والدك؟ جعلها هذا تواجه مُشكلة حقيقية جدا، وبما أنها كانت في الثالثة، فمن يكون أباها، وما الذي فعله والدها؟ أعتقد إني سأمنح هذا الأوسكار إذا ما حصلت عليها لتلك الفتاة، أعتقد بأني سأخبرها: إليك سر آخر، هو أنك لست بحاجة لأن تكترثي به، سأخبرها: لقد حصلنا على أسمائنا مُجددا.


إن إغلاق المُخرج فيلمه بهذا التسجيل الواقعي والحقيقي مع دالتون ترامبو الواقعي كان خير استثمار للتسجيلات التي حصل عليها المُخرج، للتعبير عن فداحة الفترة المُظلمة التي عانى منها ترامبو وغيره من الشيوعيين الأمريكيين الذين لم يرتكبوا أي جرم، أو مُخالفة للقانون، لمُجرد اعتناقهم ما يؤمنوا به من أفكار أيديولوجية، فضلا عن فضح تلك الفترة الكارثية في تاريخ الولايات المُتحدة الأمريكية التي كانت طالما تتشدق بمبادئ الحرية والديمقراطية في حين أنها كانت دولة بوليسية ضد كل القيم التي تنادي بها، عاملة على هدمها، بتشريد الجميع، وتهديدهم، وقطع أرزاقهم لمُجرد اعتناقهم للأفكار التي تدافع عن حقوق الآخرين!

 

 محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد ديسمبر 2024م.

 

 

 

الخميس، 12 ديسمبر 2024

لا إجازة اليوم: مُجرد تمرين دعائي!

في الفيلم التليفزيوني السوفيتي- الفيلم الطلابي الثاني لتاركوفسكي- There Will Be No Leave Today لا إجازة اليوم الذي اشترك في إخراجه كل من المُخرجين الروسيين Andrei Tarkovsky أندريه تاركوفسكي، وAleksandr Gordon ألكسندر جوردون في ثاني تعاون إخراجي لهما بعد فيلمهما الطلابي الأول The Killers القتلة 1956م سنُلاحظ أننا نجد اسم تاركوفسكي على الفيلم، لكننا لن نجد فيه تاركوفسكي الذي نعرفه!

كان الفيلم بمثابة واجب، أو تمرين طلابي حينما كان أندريه تاركوفسكي ما زال طالبا في VGIK معهد الدولة للتصوير السينمائي تحت إشراف أستاذه المُخرج الروسي Mikhail Romm ميخائيل روم، ورغم أن تاركوفسكي كان قد قام بفيلم طلابي من قبل مع زميله ألكسندر جوردون، وماريكا بيكو، وهو فيلم "القتلة"، بمعنى أن المعهد قد تكفل بإنتاجه بميزانية شديدة الضآلة مما أدى إلى أن جميع العاملين في الفيلم، والمُمثلين أيضا كانوا زملاءه في المعهد، إلا أن معهد VGIK هذه المرة قد منح الطالبين ميزانية أكبر من الميزانية السابقة، كما ساهم التليفزيون المركزي السوفيتي Soviet Central Television بالجزء الأكبر من هذه الميزانية؛ مما سمح للمُخرجين بالاستعانة هذه المرة بمُمثلين مُحترفين مثل المُمثل السوفيتي Oleg Borisov أوليج بوريسوف الذي تقمص شخصية النقيب جاليتش- أي أنه أدى دور البطولة في الفيلم- فضلا عن بث الفيلم على التليفزيون السوفيتي في يوم النصر في 9 مايو 1959م، وهي الذكرى التي انسحب فيها الجيش الألماني من الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى مُساهمة الجيش العسكري السوفيتي في الفيلم باعتباره فيلما دعائيا للجيش السوفيتي!

إذن، فلقد توافرت للفيلم الثاني للمُخرج أندريه تاركوفسكي الكثير من الموارد والإمكانات المُساعدة له في صناعة فيلم سينمائي، صحيح أن المشروع لم يكن يهدف إلى صناعة فيلم فني في المقام الأول بقدر صناعة فيلم جماهيري من المُمكن إقبال الجميع عليه، فضلا عن دعائيته، ومحاولة تقليد السينما التشويقية الأمريكية، إلا أننا لا نعدم فيه بعض المشاهد واللقطات الجيدة، بل والانتقادات غير المُباشرة التي تؤكد لنا على أن بصمة تاركوفسكي المُبكرة كانت فيه.


يعتمد المُخرجان على حادث واقعي حدث في إحدى المُدن السوفيتية، حيث تم اكتشاف مجموعة من القنابل والصواريخ المدفونة في إحدى هذه المُدن؛ مما أدى إلى تدخل الجيش من أجل محاولة إنقاذ المدينة، وتخليصها من هذه المُتفجرات، صحيح أن المُخرجين لم يحاولا الاعتماد على هذا الحادث فقط، بل أدخلا بعض الخطوط الدرامية، الأخرى الموازية للحدث الرئيس- مثل المُصاب الذي وصل إلى المُستشفى أثناء إجلاء السُكان عن المدينة- لكن الفيلم انصب اهتمامه وتركيزه بالكامل على عمل قوات الجيش السوفيتي من أجل محاولة إنقاذ المدينة من الصواريخ، والحفاظ على سلامة ساكنيها- أي الدعاية للقوات العسكرية السوفيتية، والتأكيد على وطنيتها، وشموخها، وأهميتها، والفخر بها.

يفتتح تاركوفسكي فيلمه على جرافة في أحد شوارع إحدى المُدن السوفيتية، حيث تقوم بحفر الطريق من أجل إصلاحه، وإعاده رصفه، وبينما يقوم العامل بالحفر يتوقف فجأة بعدما لاحظ وجود صواريخ مدفونة في باطن الأرض من المُمكن لها تدمير المدينة بمن فيها.

يسرع أحد عمال الحفر للاتصال باللجنة البلدية، بينما تنتقل كاميرا المُخرج من خلال القطع المُونتاجي إلى أحد الاجتماعات التي نرى فيها نقاشا حادا داخل اللجنة البلدية ورئيسها فيرشينين- قام بدوره المُمثل السوفيتي Pyotr Lyubeshkin بيوتر ليوبشكين- فنستمع لأحدهم يقول بحدة: الجميع يرغب في أن تكون المدينة جميلة، لكن كيف؟ فلنأخذ شارع كيروف مثالا، لقد تم رصفه، شهرين من العمل، كان الإسفلت ساخنا عندما وصل لواء من البلدية، وتتحدثون عن التخطيط؟


ثمة مُلاحظة مُهمة لا يمكن التغاضي عنها في هذا المشهد، حيث كان القطع المُونتاجي هنا ما بين مشهد الجرافة التي تقوم بحفر الطريق، وما بين الانتقال إلى مكتب رئيس البلدية مُترتبا كل منهما على الآخر بشكل وثيق الصلة، أي أن ثمة علاقة عضوية وفنية بين المشهدين؛ فالعامل حينما اكتشف وجود الصواريخ المدفونة تحت الأرض مُنذ أيام الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية أسرع باتجاه الهاتف للاتصال بفيرشينين/ رئيس اللجنة البلدية، لكننا سنُلاحظ في مشهد مكتب رئيس البلدية فيرشينين جالسا خلفا مكتبه، مُنصتا للمُجتمعين معه، والذين يتناقشون نقاشا حادا، وحينما يرن هاتف مكتبه يرفع السماعة من دون اهتمام، أو حتى النظر إلى الهاتف، وسُرعان ما يعيدها إلى مكانها، أي أنه غير راغب في استقبال المُكالمة، رغم أنه موظف عام، ولا بد من الرد على جميع المُكالمات التي ترده لأنها بالضرورة ستكون من أجل الصالح العام.

إنها عين أندريه تاركوفسكي الناقدة التي جعلته يصنع مثل هذا المشهد بشكل قد يبدو تلقائيا، بعيدا عن العمدية في الحديث عن بيروقراطية الدولة السوفيتية وموظفيها، لكنه بالتأكيد مقصود من المُخرج، وهي العين الناقدة التي لاحظناها فيما بعد بدقة مُتناهية في فيلمه الروائي الأول Ivan’s Childhood طفولة إيفان 1962م، وإدانته للحرب، وعدم الرغبة في الدعاية للجيش السوفيتي، بقدر رغبته في انتقاد الحرب، وأثرها المُدمر على الجميع- سواء كان مُنتصرا، أو مهزوما- أي أن ثمة موقفا للمُخرج في الفيلم الأخير يختلف عن موقفه في الفيلم الأول من حيث الدعائية للجيش السوفيتي.


يلح عامل الحفر في الاتصال بمكتب فيرشينين مرة أخرى مما يجعله يرد في إحدى المرات، ولكن حينما يخبره العامل بما وجده يشعر فيرشينين بالكثير من الانزعاج، ليقول غير مُصدق بعد انتهاء المُكالمة: أيها الرفاق، في شارع سوفيتسكايا، بالقرب من المدرسة 34، عثروا على صواريخ.

تنقلب الغرفة بالكامل، ويحاول الجيش التدخل من أجل إنقاذ الأمر، ورغم أن القواعد العسكرية تؤكد على أنه إذا ما وُجدت أي صواريخ أو مُتفجرات في أي مكان؛ فلا بد من تدميرها، والتخلص منها- أي تفجيرها- في مكانها الذي عُثر عليها فيه، إلا أن هذا سيعني- في واقع الأمر- تدمير المدينة بالكامل، مما جعل محاولة إنقاذ المدينة، وإدخال الجيش من أجل التخلص من الصواريخ، وإخراجها خارج نطاق المدينة، ومن ثم تفجيرها بعيدا عنها ضرورة لا بد منها، وليس أمامهم خيار غيره.

يشعر الكولونيل جفيليسياني- قام بدوره المُمثل السوفيتي Aleksey Alekseev أليكسي ألكسيف- بالكثير من التردد والقلق من مهمة تدخل الجنود العسكريين من أجل محاولة استخراج الصواريخ المدفونة من تحت الأرض، ثم نقلها إلى خارج المدينة؛ فالمهمة محفوفة بالكثير من المخاطر، وإمكانية التضحية بأرواح الجنود بالانفجار فيهم في أي لحظة، لكن هذا التردد يزول حينما يلح عليه فيرشينين؛ فالمدينة كلها مُهددة بالتفجير، كما أن الكولونيل لا يجد أمامه حلا بديلا من أجل إنقاذ المدينة.


يسأل فيرشينين الكولونيل بعد تدخل جنوده، وفرض كردون أمني حول مكان الصواريخ، ومنع المدنيين من الاقتراب: هل الصواريخ التي تم إيجادها بنفس خطورتها السابقة قبل دفنها؟ ليرد الكولونيل: إذا ما انفجرت؛ فسيكون لها نفس قوة الانفجار الذي كانت عليه قبل خمسة عشر عاما. يسأله فيرشينين: هل من الضروري تفجيرها في مكانها؟ يرد الكولونيل: هذا ما تقوله التعليمات. يسأله فيرشينين: إذن؟ يقول الكولونيل: هل تعرف ما معنى تفجيرها في المدينة؟ ثلاثون طنا من المُتفجرات؟ يرد فيرشينين: الشيء الوحيد الذي يجب فعله هو نقلها بعيدا. ليقول الكولونيل: سيكون ذلك مُخاطرة بحياتنا.

سنُلاحظ هنا مع تتالي المشاهد أن ثمة توترا يسود جميع المشاهد الفيلمية، هذا التوتر يظل في تصاعد طوال الوقت، أي أن تاركوفسكي قد نجح إلى حد بعيد في الحفاظ على وتيرة التوتر التي من شأنها أن تجذب المُشاهد، وتجعله راغبا في مُتابعة الفيلم، وتلاحق أنفاسه، وشعوره بالخطر في كل لحظة، والاستمرار في ذلك حتى اللحظة الأخيرة منه، وهي أسلوبية ناجحة لا يمكن إنكارها، فلقد جعلنا تاركوفسكي في حالة انتظار دائم لما سيحدث في المشهد التالي، وقد امتلأنا بالتساؤلات: هي سينجح الجنود في هذه المهمة، هل ستتنفجر الصواريخ فيهم، هل سيذهب أحدهم ضحية لأحد الصواريخ؟


إن المُحافظة على توتر المُشاهد، وجعله في حالة من التساؤل والانتظار الدائمين هي أسلوبية سينمائية تشويقية ناجحة وقادرة على الحفاظ على انتباه المُتلقي حتى اللحظة الأخيرة؛ مما يؤكد لنا على أن المُخرجين قد نجحا إلى حد بعيد في صناعة فيلم جماهيري كما كان مُحددا لهما، فضلا عن دعائية الفيلم للجيش السوفيتي.

تبدأ القوات العسكرية في تنبيه سُكان المدينة من أجل مُغادرتها، وتركها للجنود من أجل تأدية عملهم، وإخراج الصواريخ ونقلها خارج المدينة، ولعل تاركوفسكي قد قدم هذا الأمر بفنية عالية، فهو يعرف جيدا الزاوية، والمكان اللذين من المُمكن له أن يضع فيهما الكاميرا داخل المشهد- وهو ما رأيناه في فيلمه الطلابي السابق، وتحدثنا عنه بشكل مُفصل- لذا فهو هنا يستخدم العديد من اللقطات الفوقية/ المُرتفعة المنسوب من أجل نقل أكبر قدر من المجاميع التي يقوم بتصويرها داخل الكادر باعتبارهم سُكان المدينة أثناء الخروج منها، بينما نستمع إلى أحد الجنود في مُكبر الصوت: انتبهوا أيها الرفاق، في هذه المرحلة الصعبة والحاسمة التي نُغادر فيها مدينتنا ندعوكم للهدوء والتنظيم والانضباط، في الثامنة صباحا لا يبقى شخص واحد في المدينة، وسيتم حشد وسائل النقل لإجلاء المرضى والمُعاقين والأطفال، يجب على الجميع البقاء خارج حدود المدينة بالقرب من بلدة ليبياجي برودي.

يخرج سُكان المدينة منها بالفعل، ونُشاهد النقيب جاليتش- المسؤول الأول عن مهمة نقل الصواريخ- يقوم بتوديع زوجته قبل خروجها من المدنية- قامت بدورها المُمثلة السوفيتية Nina Golovina نينا جولوفينا- كما يبدأ الجنود العسكريون في مهمتهم الصعبة، التي تتمثل في إخراج الصواريخ من مخبأهم تحت الأرض، ثم نقلها لمنطقة آمنة من أجل تفجيرها، وهي المهمة التي يزيد من صعوبتها، وإمكانية انتهائها في أي لحظة بانفجار الصواريخ في الجنود أن أشعة الشمس تزيد من إمكانية انفجار الصواريخ؛ لذا فالجنود يسمعون بعض الصواريخ تُصدر صوتا إيذانا بانفجارها نتيجة لسخونتها تحت أشعة الشمس.


يصور لنا تاركوفسكي بتمهل، وبشكل دقيق فيه الكثير من التفصيل، مهمة الجنود العسكريين في إخراج الصواريخ، ثم نقلها، وتجميعها في إحدى الشاحنات العسكرية التي ستقوم بإخراجها من البلدة، وهي الصواريخ التي بلغت 58 صاروخا، ولعلنا في هذا التفصيل نلمح المزيد من التوتر والتشويق الذي ينتاب المُشاهد، أي أن المشاهد التفصيلية في مُتابعة المهمة العسكرية لم يشبها أي شكل من أشكال الملل، أو التطويل والمط بقدر ما ساعدت المُخرجين على المزيد من جذب المُشاهد الذي يحبس أنفاسه بين اللقطة والأخرى تحسبا لخطر انفجار أحد الصواريخ في الجنود.

يكتشف جاليتش أحد الكابلات المجاورة لأحد الصواريخ، مما يعني أن هذا الصاروخ قابل للانفجار في حالة محاولة التخلص من الكابل، لذا فهو يتجه إلى فاسين- قام بدوره المُمثل السوفيتي Vladimir Marenkov فلاديمير مارينكوف- الذي كان يُهاتف الكولونيل جفيليسياني ليسأله: ماذا يجب على المرء فعله إذا ما كان هناك كابل؟ يرد فاسين: أوقف العمل، وفجر الترسانة على الفور.

لكن النقيب جاليتش/ رئيس مهمة الإنقاذ لا يقتنع بالتعليمات، ويقترب من الكابل المُلاصق للصاروخ مُمسكا بكماشته في يده، ثم يقوم بقطع الكابل بحذر شديد، لنعرف فيما بعد أنه ليس أحد الكابلات الخاصة بالصواريخ، بل كان أحد كابلات التليفونات.


ربما كان هذا المشهد من المشاهد البارعة في توترها وتشويقيتها، الذي نجح تاركوفسكي كثيرا في نقله باعتماده على وتيرة التوتر المُتصاعدة، فضلا عن الاعتماد على المُونتاج الذي كان أهم مُفردات ووسائل المُخرج في هذا المشهد؛ فالنقيب جاليتش حينما اكتشف وجود الكابل أسرع باتجاه فاسين، حيث قطع المُخرج على مشهد فاسين جالسا في كابينة الهاتف، وقد طلب الحديث مع الكولونيل جفيليسياني، وأثناء انتظاره توصيل الخط للكولونيل وصل جاليتش إلى فاسين واستدعاه حيث يقف؛ مما جعل فاسين يترك كابينة الهاتف، والسماعة مُعلقة في الهواء في انتظار رد الكولونيل، يدور الحديث بين فاسين وجاليتش، ويتابع فاسين جاليتش فيما يفعله بخوف، وترقب بينما الكولونيل جفيليسياني قد رد على الهاتف، ونستمع إلى صوته يطلب من فاسين الرد عليه، يقوم جاليتش بقطع الكابل بحذر شديد وبطء، والجميع من العسكريين يتابعونه، بينما يصلنا صوت الكولونيل على الهاتف الذي يتساءل عما يدور، بل ويطلب من فاسين إيقاف المهمة متخوفا، لكن بمُجرد ما يقطع جاليتش الكابل ينقطع صوت الكولونيل من على الهاتف، والمُكالمة بدورها مما يجعلنا نُدرك بأن الكابل هو أحد كابلات التليفون، وليس كابلا خاصا بالصواريخ.


إنها مقدرة كل من المُخرجين على صناعة فيلم جماهيري، قادر على الحفاظ على التوتر وتصعيده لأقصى درجة مُمكنة من أجل الحفاظ على يقظة وانتباه المُشاهد.

ينجح الجنود تحت قيادة النقيب جاليتش في إخراج الصواريخ بالكامل، ونقلها إلى إحدى المُدرعات ويبدأون في التوجه بها خارج حدود البلدة من أجل تفجيرها في منطقة آمنة بينما يحمل جاليتش صاروخين بين يديه، ضاما إياهما إلى صدره لأنهما يصدران صوتا حينما يتعرضا لأشعة الشمس. يجلس جاليتش بحذر إلى جوار الجندي الذي يقود المُدرعة ليخرجوا خارج حدود البلدة، فنرى الجندي يقود المُدرعة ببطء وحذر شديدين، بينما سُكان المدينة يتابعونهم من بعيد، وحينما يصلا إلى إحدى المناطق غير المأهولة بالسُكان يهبط جاليتش لأن الصواريخ التي بين يديه تُصدر صوتا أكثر إزعاجا، مما يجعل أحد المواطنين الذي كان راغبا في التطوع مع القوات العسكرية من أجل مُساعدتهم وإنقاذ المدينة يُسرع بأخذ أحد الصواريخ من جاليتش، ويركض به ليفجره بعيدا.

ينجح الجنود في إنقاذ المدينة، ليعود السُكان إليها مرة أخرى شاعرين بالكثير من الفخر بالجنود السوفييت الأبطال الذين أنقذوا المدينة من الدمار الكامل.


إن الفيلم السوفيتي "لا إجازة اليوم" للمُخرجين الروسيين أندريه تاركوفسكي، وألكسندر جوردون فيلم مشوق إلى حد بعيد، ورغم أنه كان أحد الأفلام الطلابية إلا أننا سنُلاحظ من خلاله مقدرة كل من المُخرجين ومهارتهما في صناعة فيلم روائي من شأنه أن يجذب اهتمام المُشاهد، ويجعله مُتمسكا بمقعده، فضلا عن بعض اللقطات الفنية التي تهتم بالتفاصيل الدقيقة، والتي نلمح فيها بصمة أندريه تاركوفسكي التي نعرفها عنه، مثل المشاهد القريبة من أيدي الجنود أثناء محاولة استخراج الصواريخ من مخابئها، واللقطات العلوية للجماهير الغفيرة المُغادرة للمدينة من أجل إخلائها، فضلا عن مشهد قطع جاليتش للكابل.

صحيح أن الفيلم قد ركز بالكامل على مهمة إخراج الصواريخ ونقلها، لكن السيناريو الذي كتبه المُخرجان كان فيه قدرا مُهما من محاولة التنويع، أو إيجاد خط درامي موازي للحدث الرئيس، وهو ما رأيناه في أحد المواطنين الذي صدمته إحدى السيارات أثناء محاولة إخلاء المدينة، ونقله إلى مُستشفى المدينة في حالة خطرة بينما كان يتم إخلاء المشفى في نفس اللحظة، ولم يعد فيها سوى طبيب، وثلاثة مُساعدين، حيث نرى الطبيب يصر على البقاء داخل المشفى أثناء عملية إخراج الصواريخ بعد إخلاء المدينة بالكامل من أجل محاولة إنقاذ المُصاب.


كما لا يفوتنا العديد من اللقطات الذكية التي حرص تاركوفسكي على تصويرها، ومنها مشهد اجتماع الكولونيل مع رئيس اللجنة البلدية، وغيرهما من المسؤولين في أحد المكاتب بعد إخلاء المدينة، حيث نراهم جميعا في حالة صمت، وتأهب كاملين، وحينما يرتطم أحد أكواب الماء ينتفض الجميع ظنا منهم أن أحد الصواريخ قد انفجرت أثناء استخراجها، وهو شكل نقدي من تاركوفسكي، لا يختلف كثيرا عن مشهده النقدي حينما رأينا فيرشينين/ رئيس اللجنة البلدية في بداية الفيلم لا يهتم بالرد على الهاتف، ويقوم بقطع الخط كلما تم الاتصال به.

لكن، رغم ذلك فالفيلم يخلو تماما من أي جانب فني، فضلا عن أنه كان يضع نصب عينيه الأفلام الأمريكية التشويقية، والرغبة في الدعاية للجيش السوفيتي العظيم في حالات السلم، ودوره في الحفاظ على حياة المواطنين، أي أننا في النهاية رأينا فيلما روائيا قصيرا لتاركوفسكي، لكننا لم نر فيه تاركوفسكي الذي نعرفه.

 

 

 محمود الغيطاني

مجلة "الشارقة الثقافية"
عدد ديسمبر 2024م