أظن أننا إذا ما ملنا إلى مثل هذا التوصيف سيكون من قبيل التعسف، وليّ عنق
النص الفني، ومن ثم قولبته، ومحاولة نمذجته في شكل صارم، ضيق النطاق يبتعد بنا
وبالعمل الروائي كثيرا عن الفن إلى الأيديولوجيا، وجفافها، أي إفقاد العمل الروائي
لفنيته، وجمالياته، وأسلوبيته، والعبور به إلى مجالات أخرى لا علاقة له به.
صحيح أننا نتقبل توصيف "الرواية التاريخية" على العمل الذي
يتناول التاريخ- سواء كما حدث تماما، أو تبعا لرؤية المُبدع الفنية- كما نتقبل
العديد من التوصيفات الأخرى "كالرواية الاجتماعية"، و"الرواية
الرومانسية"، وتعدى بنا الأمر إلى ما نُطلق عليه "الرواية
الإيروتيكية"، لكن ذهابنا إلى توصيف الرواية بكونها "سياسية" لن
يختلف كثيرا عن توصيف "الرواية الدينية"، وهو توصيف لا علاقة له بالفن،
وعملية الإبداع، تماما كتوصيف "الرواية السياسية" الذي يسلب النص
الروائي مغزاه الفني، إلى مغزى آخر لا علاقة حقيقية له بالفن. فضلا عن أن السياسة-
وفسادها من عدمه- قد باتت مُفردة من مُفردات حياتنا اليومية، قادرة على التأثير
فيها وتحريكها، وتشكيلها، والتدخل فيها حتى لو لم نتعاطَ معها، أو نحاول الانغماس
فيها؛ وبالتالي يصير تناول السياسة في أي عمل فني من قبيل مُمارسة الحياة
بمُفرداتها الطبيعية واليومية، والعادية، تماما مثل الاجتماع بالأصدقاء، أو تناول
الطعام، أو مُمارستنا للجنس.
إذن، فالانغماس في تناول القضايا السياسية في الأعمال الفنية لا يمكن له أن
يدفعنا إلى نسبة هذه الأعمال الفنية إلى السياسة، ومن ثم توصيفها بها؛ نظرا
للتشابك العميق بين كل دقائق حياتنا اليومية، ومُفردات عالم السياسة التي باتت
تحركنا، وتُشكل ردود أفعالنا.
هنا، لا بد للسؤال الجوهري من طرح نفسه: لِمَ حاولنا التفكير في مثل هذه
التوصيفات التي لا طائل من ورائها؟
إن القارئ للعالم الإبداعي الذي يحيكه الروائي الأردني زياد محافظة لا بد له من الانزلاق، بالضرورة، باتجاه هذا السؤال، ومن ثم السعي من خلفه؛ فمحافظة ما فتئ مُنذ عمله الروائي الأول، وحتى اليوم، مُنغمسا بكليته في عالم السياسة، وفساده، ودهاليزه الخطرة، ومُداهناته، ونفاقه التي تؤدي إلى تدمير العديد من الحيوات المُختلفة، ورصد أثر هذا الفساد على حيوات كل من الضحية/ المجني عليها، ومُرتكب الجريمة/ الجاني، حتى أن أثر هذه الأفعال على الجاني يكون وقعها أكثر قسوة، ومن ثم تُدمر حياته بشكل كلي، غير تاركة له أي فرصة للتكفير عن أفعاله التي اقترفها في حق الآخرين، أو التملص منها، فالأفعال سُرعان ما تتشيأ أمامه مُتضخمة، وتظل في حالة مُطاردة دائمة له حتى تقضي عليه تماما، وكأنها تنتقم للآخرين مما فعله معهم، ومصائرهم الدامية التي ساقهم إليها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ثمة مُلاحظة لا يمكن لها أن تفوت على قارئ العالم الروائي لمحافظة؛ فالفساد كامن دائما، وطوال الوقت في العاصمة الأردنية عمّان، ورغم أن الروائي يعيش بعيدا عن عمّان، ورغم أن الحيز المكاني في أعماله الروائية قد يبتعد كثيرا عن عمّان- كندا على سبيل المثال في روايته "حيث يسكن الجنرال"- إلا أن العالم الروائي لديه يظل مُنحصر طوال الوقت في العاصمة الأردنية وما يجول فيها- استخدام الذكريات وسطوتها على الشخصية الروائية- وهو دليل دامغ يؤكد لنا ما سبق أن ذهبنا إليه غير مرة من أن الفنان- طوال الوقت- ابن بيئته، وثقافته التي نشأ فيها؛ لذا فهو يهاجر إلى أقاصي العالم، ويبتعد آلاف الكيلو مترات عن المكان الذي نشأ فيه، لكنه يظل طوال الوقت مُثقلا بتاريخه وثقافته على كاهله، غير راغب في التخلي عنهما، مُصرّ على التفكير فيهما، وإعادة طرحهما، وتشكيلهما بأشكال مُختلفة، وكأنه قد بات حبيسا لهذه الثقافة التي لن ترحل عنه مهما حاول هو الرحيل لأقاصي هذا الكوكب المُتسع.
انغماس زياد محافظة- كروائي- في عالم السياسة في العاصمة الأردنية يؤكد لنا
أمرا آخر أكثر أهمية وجوهرية، يفيد بأنه من الروائيين أصحاب العالم الفني، بمعنى
أننا إذا ما حاولنا قراءة أعماله الروائية بالكامل سيتضح لنا أنها عبارة عن مشروع
روائي واحد، طويل ومُمتد، يكمل بعضه بعضا، حلقات مُنفصلة مُتصلة، أو بمعنى آخر: إن
الروائي هنا حريص على التنويع على عالم واحد بأشكال فنية مُختلفة، حتى لكأنه لديه
رواية واحدة يُعيد صياغتها، وإعادة تشكيلها بأشكال مُختلفة، وهو أهم ما يميز
الفنان في أي مجال من مجالات الفن.
العالم الفني الخاص هو الأسلوبية التي تُميز أي فنان عن غيره، هو البصمة
الجينية التي لا يمكن الخلط فيها بين مُمارس للفن وآخر، لذا فنحن عادة ما نقول:
هذا مُخرج صاحب عالم، أو روائي يمتلك عالم، أو غير ذلك من الجُمل التي تؤدي إلى
نفس المعنى، وهو ما يجعل هذا الفنان أكثر تميزا على غيره من الآخرين؛ فالروائي
المصري إدوار الخراط- على سبيل المثال- هو روائي يمتلك عالم، وإذا ما حاولنا قراءة
عالمه الروائي سيتبيّن لنا أن الخراط إنما كان ينوّع في رواياته على موضوع واحد،
وعالم واحد لم يختلف حتى مماته، وهو ما نُلاحظه في السينما أيضا، لذا فمع افتراض
مرورنا ذات مرة من أمام شاشة التلفاز، ورأينا مشهدا من فيلم للمُخرج المجري Béla Tarr بيلا تار- على
سبيل المثال- سنعرف بالضرورة أن هذا الفيلم يخص هذا المُخرج؛ فالعالم الفني هنا
يضحى بمثابة الأسلوبية، أو البصمة الجينية التي تميزه عن غيره، وتمنحه فرادته على
الآخرين.
إذن،
فانغماس زياد محافظة في عالم السياسة في عمّان لا يُقلل من أهمية العالم الروائي
لديه، بقدر ما يمنحه بصمته المُميزة على الآخرين، لا سيما أنه ماهر إلى حد بعيد في
حياكة هذا العالم، وتشكيله، وتعقيده، ومن ثم حُسن التخلص منه في نهاية الأمر بشكل
فني مُكتمل، لا يشوبه أي شكل من أشكال النقصان.
في روايته الأخيرة "تمهيد لعزلة طويلة" يُجابهنا محافظة بشكل جديد من أشكال الفساد السياسي الذي يُساهم إلى حد بعيد في إكساب عمّان شيخوختها، وإفقادها للكثير من عنفوانها الذي يلتمسه، ويراه فيها، ولعله لا بد لنا هنا من التوقف هنيهة أمام الفساد الدائر في العاصمة الأردنية؛ فالمُتأمل لما يدور فيها يتيقن تمام اليقين أنه صورة طبق الأصل من نفس الفساد الذي يدور في جميع العواصم العربية الأخرى، حتى أننا إذا ما أزلنا اسم "عمّان" من الرواية، وأضفنا مكانها "القاهرة"، أو "الجزائر"، أو "دمشق"، أو "بغداد"؛ فلن يختلف الأمر كثيرا، وسينطبق ما نقرأه- من ألاعيب وحيل مُقززة- على جميع هذه العواصم وغيرها من العواصم العربية الأخرى؛ فنحن في نهاية الأمر أبناء ثقافة واحدة، ومُتقاربة، تجذرت فيها حيل الفساد، والسُلطوية، وتعملق فيها الكثير من الطغاة، وسينشأ على مر التاريخ المزيد منهم ما دمنا مُنغمسين في هذا الفساد، وهذه الثقافة الخانعة باتجاه السُلطة، والتي لن تنتهي ما دامت الشعوب خاضعة في حالة داجنة لكل ما تمارسه السُلطة عليها، مُتجنبة لحريتها، خائفة منها، وهي الحرية التي من شأنها أن تُكسب هذه الشعوب كرامتها وإنسانيتها، وما يستحق أن يُعاش.
هذه الحالة
المُتكررة بشكل سيزيفي من الفساد، والتي تتشابه فيها جل دول المنطقة العربية
نُلاحظها في: "كانت صُحف ذاك النهار تتفق على عناوين واحدة وكأن شخصا بعينه
قد أعد لها مادتها أو أوعز لها ما تكتب، من بين العناوين الرئيسية التي كانت تتصدر
الصفحات الأولى تصريحات لرئيس الوزراء الجديد عايد النواف يقول فيها: "حرية
التعبير في بلدنا سقفها السماء"، "خدمة الوطن والمواطنين شرف لا يُضاهيه
شرف"، "سنمضي قُدُما بتحقيق الإصلاح السياسي الذي يضمن مُشاركة
المواطنين في صُنع القرار"، "مُستقبلنا مُشرق ومسيرتنا الديمقراطية نموذج
يُحتذى على مستوى المنطقة والعالم"".
إنها ذات
الجُمل، وذات الصياغة التي تتم صياغتها بنفس المُفردات في جميع الدول العربية،
وبالتالي فهي تنطبق على أي عاصمة عربية أخرى إذا ما أزلنا اسم عمّان، مما يُدلل
على الفساد المُستشري من حولنا، والذي نحاول طوال الوقت أن نغض الطرف عنه حتى لا
ننخرط فيه رغم أننا- شئنا أم أبينا- مُنخرطين حتى النخاع، بل ويعمل هذا الفساد على
تشكيل حيواتنا وتسييرها كيفما شاء هو، وليس كما شئنا نحن- لاحظ هنا أن الفساد لا
ابتكار فيه، فحتى السيطرة على وسائل الإعلام، وتوجيهها لمصلحة السُلطة وتحسين
صورتها الإعلامية، وإملاء ما يمكن أن يُكتب، وما لا يُكتب هو نفسه، لا اختلاف فيه
على الإطلاق؛ مما يؤكد لنا غباء السُلطة السياسة على الدوام، وابتعادها عن
الابتكار والتفكير، وربما كان هذا هو السبب الرئيس لكراهية السُلطة للمُبدعين،
ومحاولة النأي عنهم، والزج بهم على هامش المُجتمعات طوال الوقت.
هذه الفكرة- كراهية المُبدعين والمُثقفين- هي ما يؤكد عليه عامر- صديق الراوي علاء الدين- حينما يدعوه عامر إلى المُلتقى الفكري المسؤول عنه الدكتور جبران، والذي يعقده في مكتبه في الجامعة، فنقرأ قول عامر: "صحيح أنه مُلتقى فكري، لكن لا شيء تخافه السُلطة ورجالها أكثر من جيل واعٍ مُثقف، هذا المُلتقى يمكن أن يؤسس لشيء حقيقي وجاد صدقني، بعيدا كل البُعد عن الهياكل السياسية والثقافية والحزبية الكرتونية التي تمتلئ بها دكاكين عمّان وصالوناتها". فالسُلطة الفاسدة لا تخشى سوى الأجيال الواعية، والمُثقفة؛ لذا فالتفكير هو العدو الأول لهذه السُلطات الفاسدة، وهو أول ما تحاول السُلطة القضاء عليه وتهميشه، ومحاولة حصاره.
التفكير
المقولب، الخالي من الإبداع، والنمطي إلى أقصى أشكال النمطية في شكله هو ما تشترك
فيه السُلطة ورجالها؛ لذا فهم يفكرون بنفس الآلية، ويرون أن جميع الوطنيين ليسوا
إلا عداة للأوطان، يحاولون هدمها، وتشويه صورتها، رغم أن القائمين على الأمر في
هذه البلاد هم أول من يعملون على هدمها، ودمارها، وإسقاطها في القاع، أو حتى
محاولة إخراجها من التاريخ وصيرورته إلى عصور ما قبل التاريخ، وهو ما يمكن
مُلاحظته بجلاء من حديث موفق المبري الذي يعمل مع السُلطة في الخفاء، والذي ساعد
علاء الدين كثيرا حينما نزح من القرية إلى العاصمة- أي أنه كان حريصا على أن يكون
ذا فضلا عليه من أجل طواعية السيطرة عليه، وضمه إلى السُلطة الفاسدة بمُساعدتهم
على المزيد من الفساد فيما بعد- فيقول على لسان علاء الدين الذي يخبرنا بما كان:
قال لي ليلتها: "إن ثمة أنشطة غير بريئة تجري في الجامعات، قد يراها البعض
عادية أو لا يعيرونها أي أهمية، لكننا وجهات أخرى نرصد الأمر بدقة. هنالك أساتذة
يحاولون التأثير على الطلبة وتوجيههم، وغسل أدمغتهم، والتلاعب بوعيهم خدمة لأطراف
وأجندات مشبوهة. البلد اليوم على صفيح ساخن، ومُفترق طُرق، ولا بد من تفويت الفرصة
على من يريد تهديد أمننا أو العبث باستقرارنا. من الأساتذة من رفع لواء الدفاع عن
الدين ليستميل الطلبة، ومنهم من يستغل سذاجة الطلبة وطمعهم بالعلامات ليقوموا
بتنظيمهم لصالح جهات وأحزاب وتنظيمات وحتى دول إقليمية ومن ثم المُتاجرة بهم،
آخرون يهيّجون الطلبة ويذكون الخلافات والمُشاحنات والمُشاجرات الطلابية تحت ذرائع
مُتعددة، منهم من يستغل حماس الطلبة ويملؤون رؤوسهم بكلمات رنانة وعبارات ونظريات
جوفاء عن الفقر والكبت والفساد، ويلوحون لهم برايات الحرية والديمقراطية
والمُشاركة السياسية، ومثل هذه الترهات التي لا طائل من ورائها".
إنها نفس
العقلية، وذات الآلية، وعين المُفردات التي تستخدمها السُلطات الفاسدة في كل مكان،
فالتفكير هنا لا يختلف وكأنهم قد جُبلوا جميعا على نفس الشاكلة من الغباء، وعدم
المقدرة على الابتكار؛ لذا فجميع المواطنين لديهم خونة، وهم فقط الذين يتمتعون
بالوطنية، والخوف على الوطن، والملائكية التي يصدرونها في جميع وسائل الإعلام، في
حين أن الواقع يؤكد لنا عكس كل ما يتم تصديره طوال الوقت، وهو ما يجعلهم أيضا
يحاولون تشويه صور الوطنيين ممن يتميزون بالحرية والاستقلالية بنفس الآلية، ونفس
طريقة التشويه التي لا تختلف، لذا نقرأ قول موفق المبري لعلاء الدين عن الدكتور
جبران: "وصفه يومها بالرجل المُتغطرس إلى أبعد الحدود، الذي تحوم حوله شكوك
كثيرة، رجل، كما قال، ليبرالي شهواني وسكير، عربيد غارق في نزواته وملذاته
وعلاقاته النسائية المُتشعبة، يعمل ما بوسعه لاصطياد الطالبات والإيقاع بهن،
بالقدر الذي يعمل فيه مع سفارات أجنبية لتشويه سُمعة بلدنا، ونقل صورة سيئة عن الدولة
وقيادتها ورجالها، تلك كانت كلماته بدقة". رغم أن الدكتور جبران الذي يتحدث
عنه موفق المبري بعيد كل البُعد عن هذه الصفات التي حاول إلصاقها به، لكنها آلية
عمل السُلطة دائما من أجل تشويه الشرفاء من الوطنيين والتخلص منهم.
آلية
الاصطياد، وتلميع صورة السُلطة في نظر الآخرين باعتبارها سُلطة ديمقراطية تعددية،
سنُلاحظ أنها تتم أيضا في كل مكان من المنطقة العربية بنفس الآلية؛ فهم يحاولون مع
تلميع صورتهم وتجميلها اصطياد الشباب الغض- الذي بدأ يدخل فلك التفكير بحرية- من
أجل القضاء عليهم مُبكرا، حتى لو أدى ذلك إلى القضاء على مُستقبل هؤلاء الشباب
تماما، فهم لا يعنون السُلطة بقدر ما يعنيها التمكن من مُكتسباتها: "حسنا، ما
جرى حينها ببساطة، أن مجلة "شؤون أردنية" الصادرة عن مركز المُستقبل
للدراسات، والذي التحقت للعمل به كباحث، ومسؤول تحرير أول عن المجلة فيما بعد،
كانت قد أعلنت عن مُسابقة شبابية للكتابة الإبداعية، كانت مُسابقة في النصوص الحرة
موجهة إلى طلبة الجامعات على وجه الخصوص، ولعل ما بدا لافتا حينها، العنوان الذي
اختارته المجلة لهذه المُسابقة: تأملات شبابية في الحياة والحرية. يمكن لأي مُطلع
أو مُهتم بالشأن الإعلامي والثقافي، أن يُدرك أن هذا من المواضيع الحساسة، خصوصا
في مكان ترصد فيه السُلطة كل كلمة، وتتفنن في تكميم الأفواه ومُلاحقة أصحاب الصوت
الصادق، وتُحكم القبضة الأمنية سيطرتها على المنابر الإعلامية والثقافية
والإخبارية وتسوقها في اتجاه واحد، كان الغرض من وراء هذه المُسابقة على ما يبدو
من أن تكون منبرا آخر للمركز الذي لا تخفى توجهاته على أحد، لتمجيد القيادة وتعظيم
دورها ورؤاها المُستقبلية، من خلال مُسابقة يُراد لها أن تُقدم نماذج شبابية تدين
بالطاعة والولاء المُطلق، وتتغنى بالإنجازات والمسيرة الحافلة للدولة وقيادتها
حاضرا ومُستقبلا". فخطة السُلطة هنا تسير في اتجاهين: أولهما محاولة ضم
المزيد من الشباب إلى صفوفهم، لا سيما أن هناك الكثير من الشباب الراغبين في
السُلطة، وما تغدقه على من يعملون معها من مال وجاه ومنصب، ومن جهة أخرى فمثل هذه
المُسابقة ستكشف للسُلطة شكلا آخر من الشباب المُسلح بالثقافة والمعرفة، والذي
يحاول التفكير بحرية؛ ظانا أن هذه الأوطان من المُمكن لها السماح لهم بالدلو
بآرائهم بحرية وشجاعة- كما يروجون- ومن ثم تقوم السُلطة هنا بوضع هؤلاء الشباب تحت
أنظارهم، ومحاولة السيطرة والتضييق عليهم في كل ما يفعلونه، فمن الضروري والأهمية
القضاء على الفكرة في منبتها قبل نموها ونفاد الفرصة في السيطرة عليها.
إذن، فكيف تناول الروائي زياد محافظة هنا هذا العالم وعمل على تشكيله، والوصول به إلى شكله النهائي؟
ثمة مُلاحظة
جوهرية لا بد من الالتفات إليها قبل التفرغ للآلية الفنية التي انتهجها محافظة
لبناء هذا العالم، وهي مُلاحظة لا تختلف كثيرا، ولا تقل أهمية عن أسلوبيته في
البناء؛ حيث لجأ الروائي هنا إلى الانتقال عبر الأزمنة بحرية وبساطة، أي ما بين
الماضي والزمن الآني، وهو ما جعل العمل الروائي أكثر تشويقا نظرا لعدم تراتبيته،
وهو ما يستدعي الانتباه من القارئ لمعرفة السبب الماضي الذي ترتبت عليه العديد من
الأوضاع فيما بعد، لا سيما أن الروائي قد بدأ من الزمن الآني ليجول فيما بعد في
الماضي القريب تارة، والبعيد تارة أخرى، ثم العودة إلى الزمن الآني مرات آُخر.
إن إحساس
الراوي بالذنب الذي يرهقه ويثقل عليه طوال الوقت، وهو الذنب الذي أدى به إلى تدمير
حياته، وحيوات كل من اقترب منه، ساقه إلى أن يبدأ مونولوجه الروائي الطويل
بالاعتراف بجريمته التي اقترفها في حق الجميع. إنه هنا يعترف دفعة واحدة، يلقي بكل
ما في جعبته للوهلة الأولى أمام القارئ، وسُرعان ما يبدأ في تفصيل الأمور وسوق
دقائقها بتمهل وروية لنفهم ما دار، لذا يقول في جملته الافتتاحية: "كذبت في
حياتي مرات كثيرة، وأخطأت مرة واحدة فقط، أما أوهن لحظات حياتي فسآتي على ذكرها
بعد قليل"، إنها نفس الآلية التي بدأ بها الروائي روايته السابقة "حيث
يسكن الجنرال"، وهو ما يردنا مرة أخرى إلى العالم الروائي المُميز لكل مُمارس
للفن.
يستمر
محافظة على لسان الراوي علاء الدين بقوله: "امرأتان فقط رحلتا قبل أن تعلما
سري، أمي التي رحلت مُنذ وقت طويل، وحنان التي مضت وتركتني عاجزا ووحيدا. وكلاهما
اليوم في عالم صامت وبعيد"، ثم يبدأ الراوي بسرد حلم يؤكد لنا على البراعة
التخييلية واللغوية في بناء حلم ما: "رأيت شبحا مُتربعا فوق الغيوم، حزينا،
وكان حزنه عميقا ومرئيا، كلما دققت النظر في هيئته، غابت ملامحه وتلاشت، أراه من
بعيد، يجلس صامتا وكأن على كتفيه عبء ثقيل، يمر بيمناه على حقول شاسعة ومليئة بالسنابل
وكأنه يمسد عليها، بينما تعصر يسراه غيمة مُكتنزة فينهمر من بين أصابعه النحيلة،
مطر غزير. لم أفهم شيئا من هذا المشهد الذي كان غارقا بالسكينة والغرابة! الجو
بارد ولا صوت سوى تمايل السنابل عن يمينه ووقع حبات المطر عن يساره. لا أعرف في أي
وقت من النهار كان هذا! ما أتذكره أن ضوءا بلون الحليب يغمر المساحة التي تُحيط
به، ونجوما صغيرة وبراقة تمتد لمسافة شاسعة وتُضيء حوله بكثافة. لا أعلم أيضا إن
كنت أقف حينها على غيمة أو فوق نتوء صخري حاد أو حافة تُشبه نهايات الأشياء! لكني
كنت مُتعبا، مُتعبا للغاية، حلقي جاف ولا أقوى على صعود الدرج الأملس الذي لمحته
بالقرب مني. كنت أشعر أن ثمة مسافة شاسعة بيني وبينه، لكأنه كان يبتعد ويقترب
بصورة لا تُصدق! هكذا خيّل إليّ. أما أنا فواقف في مكاني وفراغ عميق حولي أخشى
السقوط فيه. بقيت صامتا فترة طويلة، أراقب باندهاش ما يجري حولي، وأجول ببصري في
الأرجاء. كنت وحيدا ومُرتبكا وأنا أرى الأفق يتضاءل أمامي، ويكاد ينحشر في زاوية
أضيق من رأس دبوس. انتابني خوف مُفاجئ، رحت أصرخ بشدة لكن لا مُجيب، أفزع صراخي على
ما يبدو سرب حمام كان يحط بالقرب مني. طار الحمام وراح يصفق بأجنحته مُخلفا فوقي
شيئا من الريش الخفيف. عدت للصراخ مُجددا، لكن هذه المرة ناديت عليه. كان هذا آخر
أمل لي لتفكيك هذا المشهد الغريب الذي وجدت نفسي أسيرا له. لم أتوقع أن يسمعني أو يلتفت
نحوي. كنت أظنه مضى بعيدا في مسارات سحيقة وملتوية، لكنه فعل! التف عائدا بسرعة،
واقترب مني ثم حال بيننا شيء ما، لا أدري ما هو بالضبط! سحابة كثيفة من الدخان؟
غشاء لا نهائي من البياض الرقيق؟ أو فجوة يصعب الإحاطة بمداها! في تلك اللحظة
توقفت عن الصراخ، وبان الخوف والإجهاد على وجهي. تركني قليلا حتى هدأت، ثم تطلع
نحوي مليا وأشار لمكان قصي، وقال لي كلمة واحدة لا غير: عُد".
من أين تأتي أهمية هذا الحلم البديع الذي بدأ به الروائي روايته؟
من أمرين
جوهرين: أولهما استعراض براعته التخييلية في نسج العالم وبنائه بقدرة لغوية سلسة
قادرة على إشعارنا بالمُتعة في تكوين الجمل، أما الأمر الثاني- وهو الأهم- أن
العالم الروائي كله قد بني على هذا الحلم الذي رآه في الزمن البعيد، وإذا ما عرفنا
فيما بعد أن هذا الحلم الذي رآه إنما تمثل له في نفس الوقت الذي كان قد فارق فيه
الحياة ذات مرة بينما أمه تجلس إلى جواره غير مُصدقة رحيله؛ فسيتبيّن لنا جوهرية
هذا الحلم في البناء الروائي، فلولا كلمة "عُد" التي أطلقها الشيخ في
الحلم لما عاد علاء الدين فارس إلى الحياة، ولما تسبب في كل هذه المآسي، والفوضى
التي جلبها لكل من يحيطون به، لا سيما من يحبونه ويثقون فيه، مما يعني أن محافظة
هنا إنما يُعد لعالمه الروائي بتؤدة ومهارة، واهتمام بالتفاصيل التي يقوم بالبناء
عليها، وهو ما نُطلق عليه في السينما المشهد التأسيسي، أي المشهد الذي يؤسس من
خلاله المُخرج عالمه الفيلمي المُقدم عليه، والذي سيلي هذا المشهد التأسيسي، ويكون
نتيجة ضرورية له.
إن اهتمام
زياد محافظة بالتفاصيل الدقيقة التي تنبني عليها النتائج/ الأفعال فيما بعد تبدو
لنا جلية على طول النص الروائي، لا سيما أنه يسوق لنا هذه التفاصيل بشكل تلقائي،
لا عمدية فيه مما يجعلنا نستقي المزيد من المعلومات التي تجعل النتيجة ضرورية
ومنطقية فيما بعد؛ فعلاء الدين فارس، النازح من القرية، والفقر، والحاجة، والعوز
إلى المدينة في العاصمة عمّان، يعاني فيها مُعاناة ليس بالهينة، مما يجعله يعمل في
العديد من المهن الوضيعة، وهي مُعاناة مُشتركة لجل أهل عمّان من البُسطاء، نلحظ
ذلك على طول السرد الروائي في مونولوجه: "غريبة عمّان، إنها تشبه مزهرية
سحرية، كلما وضعت بها وردا مُتفتحا، ذبل على الفور"، وهي جملة مُوغلة في
دلالتها على الخراب المُحيط بعمّان، وحالة الموات التي تعاني منها.
يتبدى لنا
ذلك بشكل أكثر جلاء في: "عمّان التي تدفعنا للجنون مطلع كل نهار، بخلت عليّ
بهذا، أرادت لي هي الأخرى أن أدفع ثمن سقطاتي وحماقاتي بالقدر الوافي".
هذه الجُمل
التي يسوقها الراوي في مونولوجه الطويل، وحالة البوح النادمة التي لا تنتهي تمهد
لنا بتلقائية العالم الغائم المُثقل بالفساد وانسداد الأفق أمام الجميع؛ ومن ثم
تكون النتائج التالية فيما بعد منطقية لتناسبها مع واقعية ما يسوقه لنا، ومُعاناة
أهل عمّان مع ما يدور فيها، وهو ما يجعله يحاول إيضاح عبثية الحياة في عمّان
لتخمتها بالفساد: "ذات مرة كان يستمع- يقصد أبا الرائد، العسكري الذي أُحيل
للمعاش وافتتح سوبر ماركت للهروب من الفراغ الذي استشعره بعد الحياة العسكرية- باهتمام
لنشرة أخبار الظهيرة، وكنت أقف قريبا منه، أُعيد صف بعض المُعلبات على الرفوف،
يومها سمعت مُذيع النشرة يقول على لسان رئيس الوزراء: نحن جميعا في خندق واحد. لقد
نذرنا أنفسنا لخدمة بلدنا، ونعدكم بأن نعمل ليل نهار من أجل مُستقبل أفضل
لأبنائنا، أعدكم أن تلمسوا نتائج سياساتنا خلال فترة وجيزة، نحن اليوم على أعتاب
مرحلة جديدة، جديدة كليا، سنعمل على مُعالجة مُشكلتي الفقر والبطالة، وتوفير
الحياة الكريمة للجميع. بدون أن أشعر بنفسي خطوت نحو المذياع وضربت مفتاح التشغيل
بعنف وسط دهشته! بدت الصدمة جلية على وجهه، نظر لي باستغراب ثم دفعني بكوعه للوراء
وقبل أن يتفوه بأي كلمة، انفجرت بوجهه وقلت له: إنهم يبيعونكم الوهم، الوهم
صدقني".
من أين يأتي هذا اليقين لدى علاء الدين فارس حينما فعل ما فعله في الاقتباس السابق؟
إذا ما
عرفنا أن هذا الاقتباس كان بعد الخروج من العزلة التي استمرت خمسة عشر عاما داخل
منزله لا يبارحه، وإذا ما عرفنا أن سبب هذه العزلة الطويلة هو عذاب علاء الدين
وندمه على ما اقترفه في حياته من إيذاء لكل من اقتربوا منه، لا سيما حبيبته وزوجته
حنان، ووالدها الدكتور جبران، وغيرهما من الزملاء في الجامعة الذين وشى بهم إلى
السُلطة من خلال التقارير التي كان يكتبها عنهم مما أدى إلى تدمير مُستقبلهم
لمُجرد أنهم تحدثوا في السياسة وموضوع الحريات، بل وتعدى الأمر إلى تقارير أخرى عن
الأساتذة داخل الجامعة الذين تم تعطيل ترقياتهم، والتنكيل بهم؛ لعرفنا أن قول علاء
الدين فارس لأبي الرائد، ويقينه من أن كل ما يتم التصريح به مُجرد وهم، هو حقيقة
لا يمكن الهروب منها، لا سيما أن رئيس الوزراء الذي يدلي بمثل هذه التصريحات هو
العميد غازي الذي كان له يد طولى في تجنيد علاء مع الأجهزة، والسيطرة عليه- من أجل
الوشاية بكل من يفكر، أو يتحدث في السياسة- مُستغلا في ذلك فقره، وحاجته الماسة
للمال كي يستطيع الحياة في العاصمة الصعبة التي لا تشعر بآلام أي ممن يسكن فيها،
أي أن علاء الدين فارس هنا مُشارك عتيد في فساد هذه السُلطة؛ لذا فهو على هذه
الحالة من اليقين الذي لا ينتابه الشك.
إذن، فلقد
كان علاء الدين فارس- ومُنذ البداية- خامة طيّعة وسهلة، ومُهيأة من أجل استقطابه،
صحيح أنه لم يكن يفكر في مثل هذا الأمر من قبل- أن يكون ذراعا من أذرع السُلطة
القذرة- لكن الظروف الحياتية كان تهيؤه لمثل هذه الخطوة التي أقدم عليها، واستمر
فيها حتى النهاية التي دمر فيها كل من اقترب من مُحيطه؛ فالفقر والحاجة والعوز
الذين عانى منهم طوال حياته جعلوه مُستعدا لفعل أي شيء يخلصه من هذه المُعاناة
التي عاشها طويلا، فضلا عن أن الفقراء غالبا ما يكونوا على هامش المُجتمعات في أي
مكان، ويلاقوا الكثير من الإهمال، والتعالي، والتعامل معهم بقرف وكأنهم لا يستحقون
الحياة، وهو ما لاقاه علاء الدين طوال حياته مما أشعره في قرارة نفسه بالكثير من
الدونية.
إن
سيكولوجية تم تشويهها بمثل هذا الشكل نتيجة للحراك الاجتماعي، وموقعها من هذا
المُجتمع، لا بد لها أن تنساق بقوة- في الأغلب- للانتقام من هذا المُجتمع الذي عمل
على تشويهها، والإمعان في الحط من كرامتها، وتجاهلها، وهو ما مهد له الروائي
بمهارة لفهم هذه السيكولوجية التي قد تكون صنيعة المُجتمع، وجريمته التي اقترفها
أثريائه، لكننا في النهاية لن نستطيع التعاطف معها، أو التماس الأعذار لها بعدما
قامت بالعديد من الأفعال الخسيسة التي دمرت حيوات الكثيرين.
نلمح سيكولوجية علاء الدين فارس في: "كان شعور الفقر والنقص الذي ظل يتراكم في داخلي سنوات طويلة، أصعب من أن يتلاشى بين ليلة وضحاها، لذا كنت عازما على خلع ذاك الثوب البالي والتخلص منه للأبد"، وهو ما نراه أيضا بشكل أكثر جلاء حينما تم تكليفه من قبل عايد النواف- صاحب المركز الذي يعمل فيه، والذي يصدر مجلة "شؤون أردنية" التي بات مسؤولا عنها- بالإشراف على المُسابقة التي أعلنت عنها المجلة، وحينما تم إعلان النتيجة، فوجئ بأن العمل الفائز لا يستحق، وليس هو العمل الذي اختاره؛ مما دفعه إلى سؤال عايد النواف؛ فتعامل معه بسُلطوية، وتعالٍ، واحتقار كثيرا ما عومل به طوال حياته. سأله علاء الدين: "شيء ما يحيرني بخصوص نتائج المُسابقة معاليك. ألا ترى أن هنالك مُشاركات أكثر قيمة وإبداعا من النص الذي فاز! لم يكن النص الفائز بأي حال من الأحوال من النصوص التي لفتت نظري، أو تركت في داخلي أي أثر. أعلم أنك استدعيتني لأمر آخر اليوم، لكني أحببت أن أقول رأيي فيما جرى. يرد عايد النواف: رأيك؟ هل قلت تركت في داخلك أي أثر؟! من قال لك إن رأيك يهمني؟! ثم من أنت لتعلق على ما جرى؟! أي مُغفل قال لك أيضا إننا نبحث عن القيمة والإبداع؟! هنالك أشياء أكثر أهمية من هذا بكثير. أنا كلفتك بمهمة وقبضت عنها مُكافأة مُجزية وانتهى الأمر. إياك أن تُثير أمرا كهذا في المرات القادمة. أفهمت؟ يرد: لِمَ أنت غاضب معاليك؟! يقول النواف: لأنك عكرت لي مزاجي، ليس بحديثك السمج هذا فحسب، بل بغبائك أيضا".
ألا نلحظ
هنا مدى الاحتقار الذي يتعامل به رجال السُلطة مع من يرضخون للتعامل معهم،
والوشاية بالآخرين؟ إنهم لا يحترمونهم في قرارة أنفسهم، يرونهم مُجرد حشرات لا حق
لها في الحياة، ولا حتى لهم الحق في إبداء أي رأي فيما يدور من حولهم، أو يحدث لهم
أو لغيرهم، فهم مُجرد أدوات في يد السُلطة، تصل من خلالهم إلى مآربها، لكنهم يظلون
في زاوية الأشياء التي يتم استخدامها إلى أن تفقد أهليتها في فعل أي شيء نافع لهم؛
ومن ثم يقومون بالتخلي عنه في أقرب مقلب للقمامة وكأنهم لم يكونوا يوما، ولم
يقدموا خدماتهم الدنيئة لرجال السُلطة!
هذه
الأسلوبية المُحتقرة في التعامل مع علاء الدين فارس ومن هم على شاكلته؛ لا بد لها
بالضرورة أن توغر صدورهم، تعمل على تشويه سيكولوجياتهم، تجعلهم نافرين، كارهين
للمُجتمع من حولهم، راغبين في الانتقام منه ورد الكيل له كيلين باقتناع واطمئنان،
مما يعني أن هذه الطريقة المُحتقرة التي يتعامل بها المسؤولون مع من يتم استقطابهم
هي طريقة استراتيجية، مُتعمدة ومرسومة بدقة من أجل إيغال شعورهم في التدني! فكلما
زاد الشعور بالتدني؛ كلما تعاظمت الرغبة في الانتقام من المُجتمع بالكامل، وهو ما
يجعل هؤلاء الأشخاص مادة شديدة الطواعية في أيديهم، لا تبدي رأيها بقدر ما تُطيع؛
فما تقوم به من أفعال- الوشاية بالآخرين- هو شكل من أشكال الانتقام الاجتماعي،
وبذلك تكون أهداف السُلطة قد تحققت كما أرادت لها أن تكون.
الإحساس بالدونية والهوان، واللاقيمة هو ما نُلاحظه بشكل أوضح حينما يطلب موفق المبري بشكل مُباشر من علاء الدين أن يراقب الدكتور جبران، ويكتب عنه التقارير- رغم أن الدكتور جبران هو والد حنان، الفتاة المُرتبط بها عاطفيا، والتي ستصبح زوجته فيما بعد- فنقرأ: "أخبرني أن الرجل عاش فترة من حياته في بريطانيا، درس في كامبريدج، ثم عاد ليستقر في عمّان، حكى لي عن مكانته الواضحة في الوسط الاجتماعي والأكاديمي، والأهم من هذا ثراؤه الذي لا يخفى على أحد. فهو كما وصفه ينحدر من عائلة صغيرة تتمتع بالثراء والتقاليد العريقة. عائلة تتمتع بالثراء والتقاليد العريقة! هل أحتاج شيئا من هذا التعقيد في حياتي؟! انطويت على نفسي، وعدت مُجددا لتلك الهواجس التي تُصرّ على حشر نفسها في أعماقي. العبارات التي قالها عامر عن الرجل وحياته جعلتني أفكر مرات ومرات، شيء في داخلي راح يشعرني بالنقص، وأخذت الكثير من الأشياء تصغر في نفسي وتُشعرني بالنقص أيضا".
إذن، فهي
سيكولوجية النقص والتدني، والشعور بالفقر والهوان والضآلة التي تعتمد عليها
السُلطة من أجل استقطاب الآخرين للقيام بأعمالهم الدنيئة التي يرغبونها منهم، وبما
أن علاء الدين فارس كان مُهيأ لمثل هذه المهمة نتيجة عوزه المُبكر؛ فهو لم يستطع
رفض أي من العروض التي تم عرضها عليه، ومن ثم خان كل من كان في مُحيطه حتى الدكتور
جبران، وحبيبته التي تزوجته فيما بعد، والتي كان يشعر تجاهها بالكثير من المشاعر
التي لم تنجح في التغلب على دونيته.
إن الشعور
بالتدني واللاقيمة يجعل صاحب هذه المشاعر راغبا طوال الوقت في إسقاط مشاعر غضبه
المكبوت على الآخرين- مهما كان هؤلاء الآخرين- فشعور النقص، والحرمان، والظلم الذي
تمتلئ به نفسه يصبح كالمرجل الذي يحركه باتجاه المزيد من الشر والإسقاط والرغبة في
الانتقام من الإهانات التي عانى منها، بل ويقوي داخله الإرادة في إعادة تمثيل ما
لاقاه على الآخرين، وهو ما قام به علاء الدين حينما أمره عايد النواف أن يقوم-
بالنيابة عنه، أي كاتب الظل- بكتابة مقال يرد فيه على المقال الذي كتبه الدكتور
جبران، وهو المقال الذي فند فيه الدكتور جبران فساد السُلطة السياسية، وما آلت إليه
الحياة، والحريات في عمّان من انسداد الأفق، وعدم الأمل في أي شيء قادم؛ هنا قبل
علاء الدين المهمة، وانبرى للرد بقسوة على مقال الدكتور جبران، لا سيما أن عايد
النواف قد أمره بالبقاء في المركز بعدما ينتهي الدوام، وخصص له من يقوم بخدمته
لحين الانتهاء من كتابة الرد: "أمضيت تلك الليلة التي شعرت فيها وكأنني أملك
المركز والمجلة والعاملين بها، وربما أملك عمّان وكل ما فيها، أمضيت الليلة أقرأ
المقال المنشور في تلك الصحيفة كلمة تلو أخرى، وأنتقي مُفردات الرد بقسوة وعناية
فائقة. لو سألني أحد لماذا قمت بشيء كهذا لما وجد عندي إجابة مُقنعة! ربما هو
شعوري بالقرف من كل شيء، من نفسي وحياتي البائسة، من عمّان ورجالها وصالوناتها
وسياسييها، من هذا السجال العبثي الذي يدفع البسطاء دوما ثمنه دون أن يكون لهم دور
فيه، من قريتي وعمي وتجاربي القاسية معه، من موفق المبري وعايد النواف والعميد
غازي وكل من خضت معه في هذه الحياة تجارب قاسية ومريرة، من أصحاب المقاهي والنوادي
الليلية والمطاعم الذين أذاقوني كل أنواع القهر، من فقري وضيقي وشعوري بالحاجة، من
قصور عمّان وسياراتها الفارهة وقصص المحرومين الذين يعيشون على حافة الحياة فيها،
من الدكتور جبران واستعلائيته وعنجهيته، من كل أولئك الصامتين الذين تتبخر الحياة
من أمامهم وهم يجلسون على أرصفة الشوارع ببلاهة مُنتظرين مُعجزة من السماء. لعلها
رغبة دفينة لفتح النار على الجميع والقصاص منهم، ربما نما شيء عميق في داخلي
ودفعني لاقتناص هذه الفرصة التي رماها لي عايد النواف، محاولا جني أكبر قدر من
المكاسب من ورائها، أو لعلي حاولت استعراض عضلاتي ومقدرتي على القيام بمهمة أدركت
لاحقا مدى أهميتها وحساسيتها لدى مُختلف الجهات".
لاحظ هنا أن المونولوج المُستمر فيه الراوي إنما يؤكد لنا على التشوه الشديد الذي نال من سيكولوجيته، وهو التشوه الذي بات كقنبلة موقوتة تنتظر الانفجار في الجميع في أي لحظة تحين لها لتغرق مُحيطها بالمزيد من التشوهات، والخراب الذي لا علاج له، ولا إمكانية لإصلاحه أو التراجع عنه.
هذا الفقر
الذي عانى منه علاء الدين فارس على طول سنوات حياته، والذي خرج منه إلى الثراء عن
طريق عمله في المركز مع عايد النواف كذراع من أذرع السُلطة الفاسدة، جعله في حالة
خشية دائمة من فقدان ثرائه، والعودة مرة أخرى إلى الفقر الذي عانى منه؛ لذا حينما
تأكد الدكتور جبران من جدية العلاقة التي تربط علاء الدين فارس بابنته حنان، رغب
الدكتور جبران- الذي لم يكن يعرف شيئا عن حقيقة علاء الدين- أن يبعده عن شبهات
العمل في المركز وعلاقته بالسُلطة السياسية، ومن ثم وفر له عملا آخر أكثر احتراما،
لكن علاء الدين رفض الانصياع لما قدمه له الدكتور جبران مُبررا ذلك لنفسه بقوله:
"لم أفكر في عرض الدكتور جبران لسببين اثنين: الأول أن قراري ترك المركز
وعايد النواف وزمرته لا يخصني وحدي، أما الثاني فكان تمسكي الشديد بهذه الدجاجة
التي تبيض لي ذهبا، والتي استطعت من ورائها وخلال فترة وجيزة، تعويض نفسي عن كل
سنوات الفقر والحرمان التي عشتها في عمّان". مما يعني تفضيله العمل كواشٍ
للسُلطة، قادرا على تدمير حيوات الآخرين على أن يعود إلى الفقر مرة أخرى.
إنه العمل
الذي جعله شديد التدني في التعامل مع الجميع، حتى مع أصدقائه، ومن يثقون فيه ثقة
عمياء، من دون أي شعور بالندم، أو بأثر ما يقوم به على غيره، وهو ما نعرفه حينما
حاول التمرد على عايد النواف ذات مرة، ظانا أنه قد اكتسب مكانة وقوة تُمكنه من أن
يكون له القرار أو الرأي؛ فانبرى كل من موفق المبري وعايد النواف بتذكيره بكل
وساخاته التي قام بها معهم: "كانا يتبادلان الأدوار باستمتاع. حشراني في
زاوية ضيقة وصفعاني بكلماتهما القاسية، لكأني كنت أسمع هذا الحديث لأول مرة!
لكأنها الحقيقة التي حاولت مرارا التواري منها! حقيقة تقاريري التي قدمتها خلال
سنوات دراستي الجامعية على وجه الخصوص، المُكافآت والأعطيات التي كنت ألهث وراءها
كالكلب العطش، المعلومات والأسماء التي زودت الجهات الأمنية بها، تذللي على أبواب
المسؤولين وركضي وراء سياراتهم، هجومي الشرس في جلسات المسؤولين وسهراتهم الخاصة
على كل من ينتقد الدولة وسياستها، قوائم الطلبة الذين اقتيدوا للتحقيق وتعرضوا
للمُضايقة والفصل من الدراسة بسبب آرائهم وأحلامهم ونشاطهم السياسي، أعضاء هيئة
التدريس الذين كانت تعييناتهم وترقياتهم تتوقف على ما يرد في التقارير التي تُرفع
عنهم، الدعم الوفير الذي حظيت به، المكاسب والهبات التي تنعمت بها، وما زلت أرفل
لليوم بنعيمها".
كل هذه الأفعال
المُثيرة للغثيان والقرف من شخصيته لا بد أن تترك بأثرها عليه هو شخصيا حينما يقوم
باستعراضها أمامه، ومحاولة تأملها؛ لذا فهو يشعر بتدنيه في قرارة نفسه، لكنه غير
قادر على اتخاذ القرار بالتوقف: "مرة أخرى ما الذي أريده أكثر من هذا؟! ربما
لو سُئلت الآن هذا السؤال، لقلت على الفور: أريد أن أكسب ذاتي، أريد أن أنظر في
المرآة وأحدق لدقائق في هذا الوجه البائس، دون أن تملأني الرغبة في أن أبصق عليه
كل اللعاب الذي يتجمع الآن في حلقي. أريد أن أكون جديرا بهذه المرأة التي راهنت
عليّ، ووقفت بجانبي، ومنحتني كل شيء، ولم تأخذ بالمُقابل سوى التعاسة
والألم".
إن بداية شعور علاء الدين فارس بدونية وحقارة ما يقوم به من أفعال، ورفع التقارير عمن يحيطونه كان السبب الرئيس فيه هو مشاعره الصادقة تجاه حنان، وهي المرأة التي رغم هيامه بها إلا أنه قد غدر بها وبأبيها مما أدى إلى تدمير حياتهما، وانتهائهما نهاية دموية؛ لذا حينما حاول إنقاذ الدكتور جبران من بين براثنهم في الليلة التي اختفى فيها من دون أي أسباب مُعلنة أو معروفة، وأسرع للعميد غازي لمعرفة مصير الدكتور جبران، قوبل بقسوة شديدة رغب من خلالها العميد إعادته إلى حجمه الطبيعي كشيء مُحتقر على الدوام: "قابلني يومها ببرود شديد، لعله تفاجأ أصلا من قدومي لمكتبه الخاص الذي لا يعلم كثيرون مكانه، وما أن بدأت أسئلتي تنهال عليه والرجفة تعتلي صوتي، حتى استوقفني وشهر يده بوجهي وقال لي: شو، بتفهمش إنت عشان تحكي معي بهيك موضوع؟ جاي لهون ونازل تسأل فيني هيك أسئلة؟ باشتغل عندك أنا؟! شيل هاظ التفكير الأهبل من راسك وقوم انقلع برا، الله أعلم وين بيكون سكران ونايم صاحبك اللي خايف عليه! بديش أشوف وجهك هون مرة تانية، مفهوم؟! مسحت رذاذ لعابه عن وجهي، وجرجرت نفسي بعيدا عن مكتبه".
لكن، رغم
هذه المحاولات النادرة في التخلص من قيوده التي وافق عليها بمحض إرادته، ورغم ندمه
الشديد على ما قام به بعد النهاية الدموية للدكتور جبران، ولحاق حنان به مُباشرة
بعد شهور قليلة لاكتشاف إصابتها بالسرطان، وحالة الحزن الدائمة التي سيطرت عليها
حتى وفاتها إلا أن شخصية علاء الدين فارس، وكل ما حدث لها من مآسٍ فيما بعد،
وعزلته الطويلة التي عاقب بها نفسه على كل ما اقترفه، لم تُساهم في استمالتنا إلى
التعاطف معه وما آلت إليه حياته: "كثيرة هي المرات التي بكيت فيها وحيدا، في
سنوات العزلة الطويلة وما تلاها، ليس لشعور الفقد الذي صبغ حياتي بعد رحيلها، بل
لأني ما زلت أختنق بالكلمات التي تمنيت لو قلتها لها، ولليوم لا أجد غير طعم
الخسارات المالح في فمي. أمشي في غرف المنزل فلا ألتقط سوى رائحة جسدها، والقليل
من صدى الكلمات. أقف عند النوافذ فلا أرى أمامي غير مدينة مُتهالكة تسيدها الأسى،
وما تزال تتردد في طرقاتها صرخات المُعذبين. أتذكر كل من عرفت فلا أجد غير أرواح
مُنهكة بلا أمل. لم أتوقع أن يستقوي عليّ الحزن بتلك الطريقة التي يفعلها
الآن".
إن عدم
التعاطف مع الشخصية هنا مآلها الأساس والجوهري يعود إلى براعة زياد محافظة في رسم
شخصية علاء الدين فارس القميئة، ووصف كل الأفعال المُتدنية التي اقترفها لصالح
السُلطة الفاسدة في حق أناس لا يستحقون ما ساقهم إليه من أقدار قاسية، وهو ما يعني
أن الروائي هنا قد نجح إلى حد بعيد في استقطابنا، نحن كقراء، إلى جانبه، ومن ثم
أخذ موقف مُضاد من الراوي البطل الذي يعاني مُنذ السطر الأول في الرواية، وهو موقف
ما كان يستطيع محافظة الوصول إليه لو لم يهتم بالتفاصيل الدقيقة لشخصية علاء
الدين، وتتبعها بروية، وبراعة.
هنا، لا بد
أن يتبادر سؤال جديد إلى أذهاننا: ما شكل الحياة التي عاشها علاء الدين فارس في
سنوات عزلته الطويلة التي بلغت خمسة عشر عاما، وهي العزلة التي دخلها بمُجرد موت
زوجته حنان؟
إن براعة الخيال الروائي لدى محافظة جعلته يسوق بطله إلى أن يعيش في الخيال، في عالم آخر موازٍ لا علاقة حقيقية تربطه بالعالم الواقعي المُحيط، وهو عالم كان دافعه الأساس له شعوره بالحسرة، والندم الشديد على ما قام به تجاه الجميع؛ لذا سعى من خلال الخيال إلى إصلاح الكوارث التي تسبب فيها، والفجائع التي ساق الآخرين إليها، لكنه رغم هذه المحاولات الدائبة لم يكن يكفر عن ذنبه، ولم يكن يفعل شيئا حقيقيا على أرض الواقع، فلقد كان يُصحح أخطائه- وأخطاء القدر- في الخيال، أي أنه الوحيد الذي يُدرك ما يقوم به، بينما الواقع لا يتغير، ولا يتحرك قيد أنملة.
نُلاحظ هذه
المحاولات الدائبة مثلا في محاولة إصلاح الحزن الشديد الذي دخل إليه صديقه عامر
بموت ابنه في حادث طريق؛ ولأنه يشعر برغبته في تغيير العالم إلى ما هو أجمل وأكمل
بدلا من القبح الذي ساد من حوله بسببه؛ فلقد انطلق خياله في رسم السيناريوهات التي
تُعيد إحياء ابن صديقه مرة أخرى، بمعنى أنه كان يقول في قرارة نفسه ماذا لو لم
يحدث هذا، وحدث بدلا منه هذا؟ ثم يبدأ في بناء العالم الخيالي المُفترض الذي
يتخالف مع الواقع القاسي: "قبل أيام كنت هائما على وجهي، لم يكن ثمة شيء
مُحدد يدور في عقلي، كان الوقت مساء على ما أظن، وعند رأس الشارع في الحي المجاور
للحي الذي كنا نقطن فيه، ثمة سيارة تاكسي تسير بسرعة جنونية. الشارع الضيق والمليء
بالحفر يقضي بأن يُخفف السائق سرعته، لكنه لم يفعل. ظل على ما يبدو يراقب زبونا
مُحتملا يؤشر له من بعيد. في شارع فرعي يفضي لساحة ترابية واسعة، صبي في العاشرة
من عمره يلاحق كرة يلعب بها مع أصدقائه. تقفز الكرة فجأة لوسط الشارع، ويندفع
الصبي للإمساك بها غير آبه بشيء. سيموت الصبي بلا شك!". هذا هو الحدث الذي
حدث في الحياة الواقعية لابن صديقه عامر الذي فقد ابنه، ولأنه يرغب في إخراج عامر
من حزنه الذي بات عليه، وبما أنه يرغب في إصلاح العالم من أحزانه وسقطاته،
وأخطائه، والكثير من الفواجع التي سبق له أن تسبب فيها، فلقد رغب في تعديل
السيناريو بشكل آخر، ومن ثم انطلق بخياله في أحداث مُغايرة تنطلق من بداية الحدث
الواقعي: "وسط صراخ المارة وهياجهم، وبينما سيارة الإسعاف تغادر المكان وصوت
صفاراتها يصم الأذان، جلست على رصيف قريب وأخرجت ورقة وقلما ورحت أكتب: على غير
العادة، يقرر سائق التاكسي العودة لبيته مُبكرا هذا اليوم. مُنذ مُدة طويلة لم
يتناول طعام العشاء مع أطفاله. قبل أن يدلف الشارع، يبطئ سرعة السيارة قليلا،
ويفتح الشباك لينعم بشيء من الهواء البارد، ثم يمد يده ليرفع صوت مذياع السيارة
الذي يبث أغنية طربية لملحم بركات، يكمل السائق طريقه ويتجه لشارع آخر بعيدا عن
الحي، ثم يقف قرب مطعم شعبي ويترجل ليشتري لعائلته صحن حمّص والكثير من أقراص
الفلافل. يطيل الحديث والابتسام مع صاحب المطعم، ثم يودعه ويعاود الصعود لسيارته
وهو يقضم بتلذذ قرص فلافل ساخن، ومقرمش، يقود السيارة بهدوء، ويمضي على الفور
لبيته لتناول العشاء مع زوجته وأطفاله. أما الصبي- الذي قررت بيني وبين نفسي أن
أسميه ليو- والذي يبدو مولعا بكرة القدم ويلبس قميصا كالحا لنادي برشلونة ، فيلتقط
الكرة بمهارة لافتة قبل أن تجتاز الشارع، ويعود مع فريقه لبناء هجمة سريعة
ومُرتدة، فيراوغ عددا من لاعبي الفريق الخصم مُقلدا حركات ليونيل ميسي، ثم يصوب
قذيقة من مسافة بعيدة، يُسجل بها هدفا ساحرا يضمن به الفوز لفريقه. في الوقت الذي
كان فيه سائق التاكسي يتناول طعام العشاء سعيدا مع أسرته، يعود ليو لبيته مملوءا
بالبهجة، ومحمولا على أكتاف أصدقائه اللاعبين، بعد أن حقق لهم نصرا ثمينا على فريق
الحارة المجاورة، فيهرع والده لاحتضانه ويقرر أن يحتفظ بالقميص الذي كان يرتديه
ليو في ذلك اليوم إلى الأبد".
بالتأكيد مع
قراءة هذا السيناريو الخيالي المُفترض يتضح لنا الحالة الهذيانية التي بات يعيش
فيها علاء الدين فارس بعد رحيل حنان عن حياته، وشعوره الشديد بمدى الآلام التي
سببها للجميع من حوله، ولعل المُفارقة في هذا السيناريو المُتخيل تكمن في نهايته،
فالأب- في الحياة الواقعية- بالفعل ما زال يحتفظ بقميص ابنه الذي كان يرتديه بعد
لعب كرة القدم، لكنه اختفظ به غارقا بدماء الصبي الذي مات بعدما صدمه التاكسي الذي
حُبس سائقه، ولم يتناول العشاء مع أسرته في واقع الأمر.
إنه الخيال الذي انغمس فيه علاء الدين فارس، ويؤكد عليه بشكل جلي في قوله: "عندما يضيق صدري من هذا العالم الكئيب، أضع أمامي رزمة من الورق وعددا من الأقلام الملونة وعلبة سجائر رخيصة الثمن، وأبدأ بنسج عوالم مُتشابكة ومُتداخلة، كلمات أزعم أن باستطاعتي من خلالها أن أطل على الحياة من جديد، أو أعمد إلى تغيير مصائر البعض والتلاعب بها، أو إعادة رسمها وتشكيلها بصورة أخرى مُتخيلة. لا لشيء، بل لأهب الآخرين شيئا من البهجة الزائفة، لنقل بصورة أدق تجنيبهم لحظات قاسية أو موتا مُحتما، أو منحهم المزيد من الوقت، علهم يعثرون على شيء من الطمأنينة المنشودة. ربما هي محاولة مُتأخرة للتكفير عن زلاتي والتطهر من كل ما علق بروحي من سقطات! من يدري؟ لعلها طريقة ساذجة للاعتذار منك عن تلك الخيبات التي كنت سببا فيها!".
إذن، فعلاء
الدين فارس يحاول محاولاته المُستميتة من أجل إعادة تشييد العالم بشكل يسوده
الكثير من السعادة والبهجة والابتعاد به عن المآسي والحزن، وهو ما يعني في واقع
الأمر أن الرجل قد بات يهذي، تحول إلى رجل يعيش في عالم آخر موازٍ، عالم غير واقعي
يشعر فيه بالسعادة الزائفة النابعة من محاولته لإسعاد الآخرين ممن يرى أحزانهم، ومآسيهم،
وهو الأمر الذي أكسبه شعور القوة الإلهية؛ فهو يسيّر العالم كيفما شاء في خياله،
لذا حينما رأى الحالة النفسية السيئة التي يعيش فيها أبو الرائد- الرجل العسكري
الذي أُحيل على المعاش- فكر في إراحة الرجل من مُعاناته النفسية، وحالة اللاقيمة
التي تلبسته: "للوهلة الأولى راقت لي فكرة قتله، لطالما راودتني هذه الفكرة
في بداية علاقتي به، لا لشيء، بل لإراحته وتجنيبه مصيرا قادما سيؤلمه. سيعفيني هذا
أيضا من صدامات يومية معه، وسيُعد خلاصا مُبكرا له هو الآخر. ربما يصحو ذات يوم
على حقيقة هو في غنى عنها، ربما يقرر في يوم عمّاني مُضجر ومُمل أن يستسلم، ويُقدم
من تلقاء نفسه على وضع حد لحياته البائسة التي لا يلوح في أفقها أي أمل، ربما هو
من سيفعل هذا، من يدري؟ ففي كل مرة يكتشف فيها فداحة الخسارات التي تتسرب لداخله
وتتراكم ببطء شديد، سيكون قريبا بلا شك من الإقدام على خطوة كهذه. رغم ميلي لشيء
كهذا في بداية علاقتي به، إلا أنني لم آخذ هذه الفكرة على محمل الجد. ليست هذه
المهمة التي نذرت نفسي من أجلها يا حنان. أليس كذلك؟".
إن علاء
الدين فارس غير راغب في التخلص من حياة أبي الرائد هنا لمُجرد تخليصه من شعور
اللاقيمة الذي انتابه وسيطر عليه، بل هو راغب في المقام الأول في فعل ذلك للتخلص
من خلافاتهما الدائمة، وصداماتهما اليومية؛ مما يعني أن علاء الدين فارس يحمل في
داخله قدرا من الشر، والرغبة في التخلص من الآخرين بشكل يكاد أن يكون فطريا- رغم
انتفاء فطرية الشر في الحياة الواقعية- وهو ما يؤكد أنه رغم شعوره بالمشاعر
الجميلة تجاه حنان، ورغم حبه الجم لها، إلا أن هذا الحب، وشعوره بالندم لم يستطيعا
التغلب على ما جُبل ونشأ عليه من تدني مع الجميع. فهو هنا، ومن خلال عالمه
التخييلي الذي يلجأ إليه لا يفعل ذلك لمُجرد رغبته العارمة في إسعاد الآخرين بقدر
رغبته في التخفف من شعور التدني، والإثم الذي يستشعره طوال الوقت بسبب موت حنان
التي أساء إليها: "إنه لعمل شاق أن يحكي الواحد منا عن عذاباته، لكن، ما من
طريقة لتذويب تلك العذابات أجدى من السماح لها بالخروج. لذا قررت مُتأخرا أن أواجه
الحياة بالكتابة، أن أداوي جراحي النازفة بشيء من الورق، والكثير من الكلمات.
الكتابة كفيلة بإزالة نصف الوجع، ويبقى أن نجيد التعايش مع النصف الآخر الذي يصر
على مُرافقتنا بصمت وصلافة".
إذن، فهو يحاول التغلب على عذاباته، وشعور الندم والتدني من خلال الكتابة وخلق عوالم تخييلية أجمل، وهو في هذا الفعل إنما يقوم به من أجل ذاته هو، وليس من أجل إسعاد الآخرين أو إكسابهم شيئا من البهجة، رغم أن الظاهر الشكلاني قد يوحي لنا للوهلة الأولى- وكما يدعي هو لنفسه- بأنه يقوم بذلك من أجل إسعاد الآخرين.
هذه الرغبة
في التخيل جعلته يبتكر بحرا مُتخيلا في عمّان من أجل تغيير مصير جارته أم شادي
التي تعيش في حالة من الأسى والحزن طوال الوقت، ومن ثم ابتكر لها اسما جديدا-
أروى- وتخيل وجود بحر في عمّان بين جبالها، وجعلها تذهب إلى البحر كل يوم إلى أن
التقت هناك بطلال الذي وقعت في عشقه وعاشت معه سعيدة أجمل أيامها.
لكن، هل فعل
علاء الدين فارس هذا بالفعل من أجل إسعاد أم شادي/ أروى؟
بما أننا
نُدرك جيدا، ونعي، السيكولوجية التي يعيش بها علاء الدين فارس؛ فنحن هنا لا بد أن
نكون واثقين من أنه فعل ذلك من أجل ذاته هو، وليس من أجل إسعاد أم شادي، وهو ما
يتأكد لنا من قوله: "ظننت أن إنقاذي الطفل ليو من حادث السيارة الأليم ذاك،
والأخذ بيده ليعيش حياة سعيدة وهانئة، وتجنيب سائق التاكسي مأساة سيظل نادما عليها
طيلة حياته، سيبعثان السكينة داخلي. توهمت أن جلبي بحرا لعمّان سوف يبهجك أنت على
وجه الخصوص، ويعيد للمدينة ألقها، ويبعث شيئا من البهجة والحيوية في مفاصلها
المُنهكة! تخيلت أن انتشالي أروى من محنتها وبؤسها والأخذ بيدها لتعيش تجربة جميلة
وصادقة مع طلال الذي أعدته ليكون الرجل الذي يداوي جراحها، كل هذا سيمنحني بعض
الهدوء. اعتقدت أن شروعي في رسم مسار آخر لحياة أبي الرائد سيخفف من قسوة الحياة
عليه، وسيعيد القليل من المسرة لروحه المُنطفئة، هذا الرجل الذي اكتشفت مُتأخرا،
طيبته وشهامته وخوفه الكبير عليّ، والذي كثيرا ما لمحته يضع النقود خفية في جيوب
معطفي دون أن يُشعرني بهذا، والأكثر من ذلك أنني كثيرا ما استفقت من نوبات الألم
والصداع التي كانت تعصف بي، لأجده قريبا مني، يمسح بيده الطيبة جبهتي المُتعرقة،
وفي عينيه حزن دفين. حسبت أن نسجي عشرات الحكايا والقصص الجميلة لعامر وإن لم
أتطرق لها كثيرا، يمكن أن يأخذ بيده ويعينه على تجاوز حادث دهس ابنه ليو الذي حطم
حياته، وكتب لها واحدا من أقسى فصولها". وهو ما يعني أن علاء الدين فارس حتى
مع رغبته في تغيير جميع مصائر الحزن، والأسى، والفجائع، فهو لا يفعل ذلك من أجل
الآخرين، بل إما لمحاولة إسعاد نفسه بالخروج من إحساسه القاسي بالذنب، أو لمحاولة
إرضاء وإسعاد حنان التي ماتت وقد نالها منه ما نالها- ابتكار البحر من أجل إشعارها
بالبهجة.
لكن، رغم
فعله لهذا التخييل من أجل ذاته، إلا أنه كاد أن يعيش في هذا الخيال باعتباره واقعا
لا مناص منه، وبدأ في تصديقه تماما وكأنه حقيقة، مما يعني أنه على مشارف لوثة
حقيقية، ولعلنا نُلاحظ ذلك في قوله: "بوسعي إذن تركهما والعودة مُجددا
لتفاصيل حياتي التي علّقت الكثير منها على حبال الوقت. أول شيء عليّ فعله هو
معاودة الذهاب للسوبر ماركت، فقد تغيبت عدة أيام لانشغالي بأروى وحكايتها،
ومُراقبة طلال للتأكد من صدقه وطيبته"، وهو ما يعني أنه يعيش الخيال كالواقع
تماما لا يستطيع التفريق بينهما، وهو ما جعله يتغيب عن السوبر ماركت لعدة أيام
لأنه يراقب طلال الذي ابتكره لأروى/ أم شادي كي يقعا في العشق، ويطمئن عليها!
إن الإيغال
في الحياة داخل الخيال- وهي حالة مرضية بالتأكيد- جعلت علاء الدين فارس يتعامل مع
عمّان العاصمة الأردنية باعتبارها امرأة جميلة، يحاول مُراقبتها في ذهابها وغدوها،
بل وتتبع خطواتها: "لسنوات طويلة وأنا أراقب عمّان وهي نائمة، كانت تلك واحدة
من مُتعي القليلة في هذه المدينة العصية على الفهم! أستيقظ قبلها بهمة، وأمضي
لأجلس بتأدب قرب سريرها الواسع، وأسمع صوت أنفاسها الهادئة. كثيرا ما كانت تتأخر
في نومها، لتصحو وقد توّرد خداها، وتبللت بيوتها وشوارعها وأشجارها بغيم عابر
وأحلام ساحرة. تتأخر بالنوم فلا يقلق عليها أحد، فقد أدت ما عليها ونامت مُتأخرة
بعد أن أطفأت النجوم وأسدلت الستائر، وتفقدت الجميع واطمأنت عليهم. أراها تتمطى
هادئة ومُطمئنة في سريرها قبل أن تنهض بساقين مصقولتين، وقميص نوم فاتن وشفاف
لتغتسل وتتعطر، تُعد فنجان قهوتها الصباحي. أراها تُصفف شعرها بتأنٍ، وتتزين
بأساور فضية لتجلس بحكمة مطلع كل نهار على واحد من جبالها، تُراقب الجميع باهتمام،
وتكمل بهدوء وأناقة حياكة أسطورتها القديمة المليئة بالدهشة والألوان"، أي أنه
سعى إلى أنسنة العاصمة عمّان، ووقع في عشقها والرغبة في تتبعها أينما ذهبت،
ومُلاحظة التغيرات الدقيقة التي تحدث معها لدرجة أنه لاحظ شيخوختها، وذبولها فيما
بعد: "أنا حزين اليوم لأنني قلما أراها تستيقظ والبهجة على محياها. أجدها في
مرات كثيرة وقد استفاقت قبلي، والقلق بادٍ على وجهها الذي كان أشهى من فطيرة
مخبوزة للتو. مُثقلة بالمخاوف، وفي عينيها حزن عميق وارتباك لا يدرك كثيرون سره
وقسوته. لم يعد لديها على ما يبدو مُتسع للحياة، تنام ساعات قليلة وتصحو على عجلة
من أمرها، تنهض من سريرها بارتباك ومن غير ذنب اقترفته، تمضي جل وقتها في اشتباك
مع الحياة لتصل آخر النهار مُنهكة وقد أقعدها التعب. أبناؤها كثر، لكن أحباءها
قلة. الكل يتشبث بثوبها ويشدها نحوه بغير رأفة، في حضنها يجلس البسطاء الذين لم
يعرفوا أما غيرها، أما على أكتافها فيستقر قساة وغرباء ما تزال آثار تسلقهم
وخدوشهم على ظهرها، واضحة للعيان".
كل هذه
الخيالات لا بد لها أن تؤكد لنا بأننا أمام شخصية ذهانية مريضة، شخصية تعيش قي
عالم آخر موازٍ دفعها إليه أفعالها التي اقترفتها في حق الجميع على طول سنوات
طوال، ونتيجة لأن أفعاله الدنيئة أدت في النهاية إلى فقدانه أهم ما يربطه بالحياة/
حنان؛ فلقد لجأ إلى العزلة الطويلة، وحبس نفسه لخمسة عشر عاما داخل بيته، مُتأملا
لقبر زوجته الذي أصر على أن يدفنها معه في حديقة بيتهما ليظل مُطلا عليها كل يوم: "قررت
أن أواري جسدك في حديقة المنزل، لا أريد دفنك في مقبرة جماعية موحشة، حيث خوف
الموتى وقلقهم، توجسهم غير المفهوم، هوياتهم الضائعة، شكواهم وندمهم، وقصصهم
الحزينة. في الحديقة، تظلين قريبة مني، أطل على قبرك كل صباح، السماء فوقك كما
ترين بلا وصيفات، وحدها تتسيد الجهات بزرقتها، وتُظللك من شمس حارقة لا يسر لهيبها
أحد. قال لي عامر وهو يحاول ثنيي عن دفنك في حديقة المنزل: أنت بهذا تُعذب نفسك،
المقابر أقدر مني ومنك على امتصاص الحزن وإذابته. مثلك لا يحتاج شاهدة قبر لتذكرك
بها، فلماذا تصر على ذلك؟ حاولت دفع الكلمات من حلقي بصعوبة، فقلت له: المقابر
ملاذ من يبحثون عن خلاص سريع، وأنا لست من هؤلاء. هنا أريد لها أن تتوسد تراب
الحديقة الرطب، وتأخذ وقتها الكافي في تأمل هذا العالم. الماء البارد في الخابية
المُتعرقة قريب منها، ما تبقى من المكتبة وقفير النحل المُكتنز في متناول يدها.
أريدها أن تبتعد قدر ما تستطيع عن هذا الفائض من البؤس والجنون". أي أنه رغم
رحيلها ظل مُتعايشا معها، يتعامل مع قبرها في حديقته وكأنها على قيد الحياة، وليست
مُجرد جثة مدفونة.
إن أثر رحيل
حنان عليه لم يكن بالأثر الهيّن، قوى من هذا الأثر شعوره البالغ بالدناءة والذنب
لما اقترفه في حقها وحق والدها الدكتور جبران بعد ثقتهما التامة فيه، لذا نُلاحظ
هذا الأثر في: "لا أعرف كيف مرت الليلة الأولى، والثانية وآلاف الليالي التي
تلت رحيلك! ما أعرفه جيدا أنني أصحو كل يوم وشيء ما حولي مشوب بالنقص. بعينين
مدعوكتين، أقص كل صباح شريط النهار بغير اكتراث. أتحسس الجانب الأيمن من السرير
فأجده فارغا. كل يوم أفعل الشيء ذاته، ما الذي أنتظره إذن؟ أن أصحو من النوم فأجدك
جانبي مُستسلمة لنوم لذيذ! أو أتحسس ذراعك اليسرى وهي تطوقني بخدر! لا شيء من هذا
سيحصل على ما يبدو، لا شيء".
إنه الفراغ التام الذي وقع فيه بمُجرد موتها للدرجة التي جعلته يستعيد ذكراها طوال الوقت، ويستمرئ الحديث عنها مع نفسه كل الوقت؛ لذا يقول: "لا وصف دقيق لما أنا فيه سوى أنني حزين في أوقات النهار، وفي ساعات الليل أكثر حزنا. وحيد في أوقات النهار أيضا، وفي ساعات الليل أكثر عزلة".
بالتأكيد أن
هذه الحالة من الخراب النفسي الكامل التي دخلها علاء الدين فارس كان السبب الرئيس،
والجوهري فيها هو الفساد السياسي، والانخراط مع السُلطة الفاسدة التي جرته إلى مثل
هذا الطريق؛ مما جعله يقترف العديد من الجرائم في حق الكثيرين من الشرفاء الذين لا
يستحقون المصير الذي دفعهم إليه، ومن ثم فلقد دفعه كل ذلك إلى محاولات التخلص من
حياته أثناء سنوات العزلة الطويلة التي اختارها: "مُنذ رحيلك، قطعت كل صلة لي
بالحياة. هذا أقل ما يمكنني فعله لأعاقب نفسي. ظن كل من يعرفني أنني جُننت، ربما
عاهدوا أنفسهم على أنني سأتجاوز عتبة البيت بعد أيام أو أسابيع على أبعد تقدير.
ظنوا أنني تحت تأثير صدمة رحيلك، وأن عزيمتي ستفتر، لكن شيئا من هذا لم يحصل. ما
حصل حينها أنني حاولت أكثر من مرة التخلص من هذه الحياة، لكنني فشلت حتى في هذا،
ولم تُسفر تلك المحاولات المُتكررة سوى عن ارتجاجات في الدماغ، وخلل في الخلايا
العصبية، علاوة على نوبات تشنج، وفقدان الوعي والتركيز والشرود".
ربما نُلاحظ
هنا أن الروائي زياد محافظة يمتلك عالمه وتفاصيله امتلاكا تاما، وهو ما يجعله لا
يفوّت هذه التفاصيل لإدراكه ويقينه أهمية هذه التفاصيل في السرد الروائي، ولأنه
سيبني عليها فيما بعد ما سيحدث بالضرورة، وهذا إن دل فهو يدل على براعته في حياكة
عالمه الروائي، وعدم إفلات أي من خيوطه من بين يديه؛ فإذا ما كان في المقطع السابق
قد وصف لنا الحالة التي بات عليها، ومحاولات الانتحار التي لجأ لها، وأثر هذه
المحاولات على صحته النفسية، بل وعلى تركيزه، وخلاياه العصبية؛ فهذا يفسر لنا
الطريقة التي حاول بها الروائي إغلاق روايته، وهي أسلوبية فنية تتناسب تماما مع كل
ما ساقه على طول السرد الروائي السابق: "عندما استيقظت في ذاك الصباح، كان
ثمة نهاية وشيكة تلوح في الأفق، كنت أشعر بهذا، تأملت سقف الغرفة بغير اكتراث، تململت
في السرير ونهضت بخدر أجرجر هذا الجسد المُتهالك، ثم نظرت كعادتي من النافذة
المُطلة على الحديقة بعد أن ملت بجذعي قليلا للأمام، دققت النظر جيدا، بيد أني لم
أر لقبرك أي أثر. ليس لبقية ما جرى في حياتي بعد ذلك أي أهمية".
إن الفقرة السابقة التي أنهى بها الروائي زياد محافظة عالمه الروائي إنما
تُدلل لنا على أثر ما دار في حياته على قواه العقلية أيضا؛ فهو لم يدفن حنان في
حديقة منزله كما خُيل له، وكما أوهمنا مُنذ بداية السرد الروائي، وهي لم تكن معه
في كل هذا العالم الذي عشناه معه، وهو لم يكن يحكي لها بقدر ما كان يحكي لنفسه، بل
إن هذه النهاية التي تخيرها الروائي قد تُشككنا في أغلب أحداث الرواية التي قد
تكون مُجرد عالم مُتخيل، لا علاقة له بالواقع والحقيقة، وبالتالي تصبح جميع
الأحداث هنا محض تخيلات وهذيان لشخص أصابته حالة عقلانية مُهتزة وغير مُستقرة، وهو
الاحتمال الذي قد يُسانده لجوئه الدائم إلى بناء عوالم من الخيال تتناقض مع
الواقع، فضلا عن محاولته الدائمة لأنسنة الأشياء الاعتبارية كالعاصمة الأردنية
عمّان التي كاد أن يغازلها كامرأة حقيقية.
إن رواية "تمهيد لعزلة طويلة" للروائي الأردني زياد محافظة من
الأعمال المُهمة التي أصدرها مُؤخرا استكمالا لمشروعه الروائي المُمتد في عالم
السياسة، ودهاليزها، ونفاقها، وخداعها، ودمويتها، فسادها، وهو العالم الذي يجيد
محافظة التعبير عنه، وتتبع تفاصيله، مما يجعله قادرا على بناء عالم روائي مُحكم،
يمتلك بنيانا مُتسقا ومُكتملا، يتمتع بلغة وصفية فيها الكثير من الشاعرية،
والسلاسة، والمقدرة على التخييل، فضلا عن مقدرة الروائي على الإتيان بالعديد من
التشبيهات البليغة التي لا بد لها أن توقفنا أمامها لبرهة من أجل تأمل جماليتها،
وليس أدل على ذلك- على سبيل المثال- من جملته البليغة في: "أراحني حديثها
كثيرا، بدد الكثير من المخاوف والأسئلة الجارحة التي تضع رأسها معي كل ليلة على
ذات الوسادة"، وهي الجملة التي تؤكد لنا على امتلاك الروائي للغته؛ الأمر
الذي يجعله قادرا على التعبير ببلاغة وسلاسة وجمالية خاصة عما يرغب في قوله.
مجلة "نقد 21"
عدد يونيو 2025م