المُشاهد للفيلم الروسي The Fool الأحمق، أو Дурак حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة
الروسية للمُخرج والسيناريست Yuri
Bykov يوري بيكوف لا بد له، بالضرورة، أن يتذكر للوهلة الأولى الفيلم
الروماني 4 Months, 3 Weeks And 2 Dyas أربعة شهور وثلاثة أسابيع ويومان للمُخرج
والسيناريست الروماني Cristian
Mangiu كريستيان مونجيو، لكن ما وجه الشبه هنا بين الفيلمين كي نتذكر
الفيلم الروماني؟
إن بداية
فيلم الأحمق التي يصور فيها المُخرج باستخدام الكاميرا المحمولة غير الثابتة في
الممرات السكنية الجماعية الضيقة والخانقة والقذرة، التي تُدلل على المستوى
الاجتماعي والاقتصادي لمن يعيشون فيها، حيث يعانون من الفقر الشديد والحاجة تذكرنا
للوهلة الأولى بالفيلم الروماني الذي بدأ نفس البداية، وكان حريصا طول الوقت على
التصوير في هذه الأماكن البائسة والضيقة التي تعبر عن وضع المُجتمع الروماني
البائس والمُتداعي؛ فالمُخرج الروسي يوري بيكوف هنا يكاد أن ينقل لنا نفس الجو
الاقتصادي المُنهار مُستخدما الإضاءة الطبيعية الباهتة كنظيره الروماني- التي تلقي
بالمزيد من الظلال البائسة على المشهد- كما يعتمد على الأصوات الطبيعية والضجيج
ولغط الأصوات المُتناثرة هنا وهناك من نقاشات ومعارك كلامية بين السكان، فضلا عن
تصويره للمُجتمعات التي كانت تحت الحكم الشيوعي السابق وما تعانيه من فوضى حياتية.
إذن، رغم وجه الشبه بين الفيلمين من هذه الناحية- وهو ما يذكرنا بالفيلم الروماني الذي لا بد أن يلقي بظلاله على مُخيلتنا كمُشاهدين- إلا أنه لا يمكن له أن يعني أن المُخرج الروسي قد تأثر أو أخذ من المُخرج الروماني أي شيء، بل إن البيئة المُحيطة وتشابه المُجتمعين في الانهيار والبؤس هما ما جعلانا نفكر في الفيلم الروماني حينما شاهدنا مشاهد ما قبل التيترات التي بدأ بها المُخرج يوري بيكوف فيلمه المُختلف عن الفيلم الروماني وإن كان ينقل بيئة شبيهة تعاني ما يعانيه المُجتمع الروسي.
يبدأ يوري
بيكوف فيلمه الذي كتب له السيناريو ووضع له موسيقاه التصويرية في مشاهد ما قبل
التيترات Avant Titre مُستعرضا الحياة اليومية في أحد المباني
السكنية الضخمة التي تم بنائها عام 1950م، وهو المبنى الذي يضم عددا كبيرا من
الأسر يُقدر عددها بـ820 مواطنا روسيا، فتتجول الكاميرا المحمولة بحرية في الممرات
الضيقة الخانقة المُعتمة التي تتميز بفوضويتها وقذارتها؛ لنرى أحد الأزواج الذي
يسأل زوجته عن مالٍ ما كان قد أخفاه، لكنها تؤكد له أنها لا تعرف شيئا عن المال،
بل وتلومه بأنه يخفي مالا في حين أن البيت لا يوجد فيه أي طعام، لكنه يهددها
بلكمها في وجهها إن لم تخبره عن مكان وجود المال؛ فتؤكد له أنها لا تعرف مكانه
وتتوسل إليه ألا يضربها. يتركها الزوج لكننا نسمع صوته صارخا في فتاة ما ثم صراخ
الفتاة مما يدل على أنه يعتدي عليها، بل ونسمعه يهددها بخنقها. تسرع الزوجة إليه
لتراه يكاد أن يقتل الفتاة التي سنعرف أنها ابنتهما التي يظن بأنها من أخذت المال
الذي يريده من أجل تناول الكحول، تحاول الزوجة إنقاذ ابنتها من يديه، لكنه يعتدي
عليها بوحشية ويخبط رأسها في الحمام، وأثناء ضربه ولكمه الوحشي لها في وجهها ينفجر
أنبوب المياه الساخنة فيهما لتنتشر سحابة ضخمة من البخار الساخن.
ينتقل المُخرج
بعد بداية الفيلم إلى منطقة أخرى من هذه البلدة حيث بناية سكنية أخرى وإن كانت أقل
تهالكا من سابقتها لنرى فيها أسرة أخرى مكونة من أب وأم وابن وزوجته وطفلهما، نعرف
أن ديما/ الابن- قام بدوره المُمثل الروسي Artyom Bystrov أرتيوم بيستروف- يعمل كرئيس للسباكين في
صيانة التجمعات السكنية، لكنه في نفس الوقت يجتهد ليكون مُهندسا إنشائيا بدراسته
في الجامعة، ونلاحظ أن الأم التي كانت طبيبة سابقة غير راضية عن وضع الحياة التي
يعيشونها مُلقية باللوم دائما على زوجها الشريف الذي لا يقبل مُشاركة الآخرين في
السرقة أو النهب أو الرشوة مثلما يفعل جميع أفراد المُجتمع من حولهما؛ فنسمعها
تقول للزوج حينما يكسر مجموعة من المُراهقين المقعد الخشبي الذي أمام البيت ويرغب
في إصلاحه رغم أنه فعل ذلك مرارا: انس أمر هذا المقعد؛ لقد أصلحته مئة مرة،
الجيران يضحكون عليك؛ فيرد عليها ابنها ديما: بدلا من إصلاحه بأنفسهم تتجمد مُؤخراتهم
بجلوسهم على الأرضية الباردة، أليس هذا أمرا مُضحكا؟ فتقول أمه قاصدة المُراهقين
الذي يحطمون المقعد: هؤلاء الغوريلات سيدركون قوتهم يوما ما، والمرة القادمة
سيسحقون رؤوسكم، لكن ديما يقول لها: سنتصل بالشرطة حينها. هنا تتدخل زوجته ماشا-
قامت بدورها المُمثلة الروسية Darya Moroz داريا موروز- قائلة: أتظن أن الشرطة تهتم؟
إنهم لا يقومون بأي شيء حتى لإيقاف القتال.
ألا نلاحظ من خلال هذا الحوار السريع بين الأسرة نقدا واضحا للمُؤسسة الأمنية التي لا يعنيها الأمن وتتراخى عن مسؤولياتها لدرجة أن المواطنين قد باتوا يرون أن تراخي الشرطة عن القيام بمهامها من الأمور الطبيعية؛ ومن ثم فعلى كل مواطن أن يقوم بحماية نفسه، أو تجنب الآخرين حتى لا يؤذيه أحد؟
نلاحظ كذلك
أن الأم ترغب من ابنها وزوجها الانخراط فيما يدور في المُجتمع من فساد؛ كي
يستطيعوا جميعا أن يحيوا حياة كريمة بدلا من الفقر أو الحاجة التي يعانون منهما،
أي أنها ترى ما دام المُجتمع بالكامل فاسد يعيش على النهب والسرقة والرشوة بينما
الصالحين يعجزون عن الحياة الكريمة؛ إذن فعلى الجميع أن يشارك في الفساد كي يحيوا
حياة أفضل؛ لذلك تخبر ابنها أن جارهم يبيع المرآب الخاص به، وأنها ترى أن يطلب
ديما قرضا من أجل شرائه واقتناء سيارة مُستعملة أيضا، لكنه يرد عليها: أمي، أخبرتك
إني أحتاج المال لدفع مصاريف الفصل الدراسي، لكنها ترد غاضبة: لن تصل إلى أي مرتبة
مرموقة في الحياة هكذا مُطلقا، أباك قضى كامل حياته باستقامة، والآن ابني يخطط
للقيام بالشيء نفسه، فيقول لها: أمي، لا يزال لدي عامين مُتبقيين وسأشتري المرآب
بعدها. فيستمر تذمرها: يمكن لجميعكم العيش كما تودون، الآخرون لديهم كل شيء، أنا
خجولة من النظر في وجوههم، حتى أننا نفتقر الصحة، والدك يعاني من ظهره وضغط دمه
المُرتفع، وقدماي بالكاد توصلانني للمطبخ، ثم تتوجه بحديثها لزوجها: إيفان، هل حقا
فكرنا بأن الثروة ستبتسم لنا؟ قضيت 20 عاما أكدح بعيدا كطبيبة في المشفى، والآن
أمسح الأرضيات في مكتبي القديم، لكني لا أملك خيارا، أحاول العيش على راتب
التقاعد، ووالدك لديه رجل بالقبر، كان يتنفس الرماد على تلك الرافعة لما يقارب
الـ30 عاما، رئتاه مسدودتان ويسعل، هل أصبنا بكل هذه الأمراض من دون سبب؟ أصبنا
بها كي تصبح رجلا وتعيش الحياة كما يُفترض أن تُعاش.
تعود الزوجة لتوجيه لومها وحديثها للزوج: أنت فقط تقول: لا نحتاج ما لا ينتمي إلينا، ولا شيء على الإطلاق ينتمي إلينا؛ لذلك ها أنت ذا، مُستقيم وصالح لكن تعيش في القذارة طول حياتك، انظر لحالك جالس هنا تجمع الغبار، الجميع هنا سأموا منك؛ فيرد عليها الزوج: الناس يسرقون يمينا ويسارا، لكن أنا لا. لكنها تسخر منه: بالضبط، لم تحضر قط شيئا إلى البيت، الأنابيب تتسرب ولا تبالي، حتى الجيران غيروا خاصتهم، فيؤكد لها: إنهم سرقوها من المستودع، لترد عليه: غارق بشدة هنا مع صلاحك، الناس يأخذون الأغراض لأنفسهم، لم لا تفعل مثلهم؟ حتى لا يمكن لأحد توجيه إصبعه نحوك؟ في النهاية الجميع يفعلون، يتجنبونك مثل الأبرص، لا أحد يريد أن تكون له بك أي علاقة.
إن الحوار
السابق بين الأم والزوج وابنهما يوضح لنا أن ثمة أفراد شرفاء في المُجتمع، لكنهم
لا يرغبون في الاستمرار في الحياة الشريفة؛ بسبب مُعاناتهم في حياتهم، بل إن
اعتياد الفساد الضارب بجذوره في كل مكان حولهم قد جعلهم يعتادون وجوده وكأنه
الأساس والمتن في الحياة، بينما بات الشريف هو الهامش والغريب؛ لذلك فهي تطلب من
زوجها وابنها أن يكونا مثل الآخرين ويشاركونهم فسادهم وسطوهم وسرقاتهم ورشاويهم من
أجل أن يحيوا بشكل أفضل كالآخرين.
إن
السيناريو الذي كتبه المُخرج يوري بيكوف لفيلمه يكاد أن يكون هو البطل الرئيس في
هذا الفيلم؛ حيث استطاع المُخرج/ السيناريست تحريك الأحداث وتوليدها وإجراء جراحة
قاسية للمُجتمع الروسي من خلال الحوار في السيناريو الذي كتبه، أي أن الحوار كان
هو المُحرك الأساس لجميع الأحداث وكشف الكثير مما يدور في المُجتمع الروسي، ولولا
بلاغة وقسوة، وكشف الحوار لما استطاع أن يقدم فيلمه بمثل هذه القوة الفنية التي
رأيناها في النهاية.
يتم استدعاء ديما في مُنتصف الليل للعمل بعدما انفجرت أنابيب الماء الساخن في البناية السكنية 32 في المنطقة "أ"، وهي البناية التي رأيناها في مشاهد ما قبل التيترات، ورغم أنها ليست منطقة عمله، إلا أنهم يستدعونه نتيجة لأن المسؤول عن المنطقة في حالة صعبة من السُكر بعد تناوله الكثير من الكحوليات؛ كما أن العمال لا يعرفون هل عليهم أن يقطعوا المياه عن البناية بالكامل أم لا. حينما يصل ديما إلى البناية يُفاجأ بأن ثمة شرخ عميق وطولي في الحمام الذي انفجر فيه الأنبوب، ويلاحظ أن الشرخ يبدأ من الأرضية حتى السقف؛ فيشعر بالكثير من القلق ويسرع إلى خارج البناية ليبدأ في الدوران حولها، وهنا يلاحظ أن الشرخ يبدأ من أساسات العمارة ويمتد حتى الدور التاسع والأخير منها، هنا يتجه إلى الجهة المُقابلة من العمارة ليجد أن نفس الشرخ يوجد في الجدار المُقابل أيضا، مما يعني أن الشرخ الذي يبدأ من الأساس حتى الدور الأخير ليس مجرد شرخ ظاهري في الجدار فقط، بل هو يتوغل داخل الجدران الداخلية مما يؤكد أن البناية تكاد أن تكون قد انقسمت إلى جزئين وبالتالي فإنها على وشك الانهيار مُنقسمة إلى جزئين اثنين. يعاين ديما أساسات البناية؛ فيتأكد له أنها على وشك الانهيار حينما يلاحظ أن الأساسات مُتهالكة تماما ومُتآكلة، كما أن البناية يوجد بها ميل واضح، أي انها لا يمكن لها الصمود كثيرا. يسرع ديما إلى الداخل قلقا، ليأمر العمال بقطع المياه تماما لحين مُقابلته فيدوتوف رئيس قطاع الإنشاءات في المدينة في الغد- قام بدوره المُمثل الروسي Boris Nevzorov بوريس نيفزوروف- وإخباره بحالة البناية المُتهالكة والتي هي على وشك الانهيار.
حينما يعود
ديما إلى منزله يحاول النوم، لكنه لا يستطيع صرف ذهنه عن البناية التي لا يمكن لها
الصمود واقفة حتى الصباح؛ ومن ثم يسرع إلى حاسوبه الخاص للتأكد من إمكانية صمود
البناية بناء على درجة الميل التي لاحظها؛ فيتأكد أن البناية لا يمكن لها الصمود
بالفعل حتى الصباح حيث أن أقصى درجة ميل من المُمكن احتمالها هي خمس درجات بينما
البناية التي رآها تميل عشر درجات كاملة!
يسرع ديما
بارتداء ملابسه بعد منتصف الليل، وحينما يسأله والديه عن وجهته يؤكد لهما أنه لا
بد له من مُقابلة أحد المسؤولين الآن؛ لأن البناية لا يمكن لها البقاء حتى الصباح؛
فيخبره والده أن أمه تعرف سكرتيرة مكتب العمدة، فيتصل بها ديما طالبا اللقاء لأمر
خطير لا مزاح فيه، لكنها تخبره أن جميع رؤساء القطاعات يحتفلون الآن بعيد ميلاد
عمدة المدينة السيدة نينا- قامت بدورها المُمثلة الروسية Natalya Surkova ناتاليا
سوركوفا- في أحد الفنادق وتخبره بالعنوان الذي يسرع إليه.
ثمة سخرية مريرة نلاحظ أن المُخرج حريص على سوقها في الأحداث هنا بشكل ضمني لا مُباشرة فيه حينما يصل ديما إلى مكان الحفل الذي يرى فيه كل المسؤولين في المدينة يترنحون من السُكر المُفرط، ويشاهد الموائد المُتخمة بالولائم وكمية ضخمة من الخمور المُختلفة؛ ففي الحين الذي يسود فيه الفقر الشديد والحاجة للمدينة بالكامل؛ حتى أن الكثيرين منهم ينتحر يأسا، ويلجأ الشباب للمُخدرات من أجل التغيب عن واقعهم المُزري ومُستقبلهم المجهول، ينعم مجلس المدينة ورؤسائه في كل هذا البذخ الذي لا نهاية له، بل ويتساقطون أرضا من فرط تناول الكحول، لكن السخرية الأعمق تكون حينما يقول مُقدم الحفل مُتحدثا للجميع عن نينا/ العمدة: جميعنا يدين لها بالشكر؛ لأجل مدينتنا المُزدهرة التي تنمو وتصبح أفضل كل عام! الحياة التي يستمتع بها كل ساكن يعود فيها الفضل كاملا لنينا!
إذن، فالمُخرج/
السيناريست يمتلك من الوعي والخبرة والفنية المُحكمة ما يجعله يسخر مما وصل إليه
حال المدينة المُتهالكة بشكل عفوي لا قصدية فيه؛ مما يجعل المُشاهد نفسه يبتسم
ساخرا بمأساوية على ما يراه أمامه.
يخبر ديما
العمدة بما لديه شارحا لها بعجالة خطورة الأمر، ويطلب منها ضرورة اجتماع جميع
رؤساء القطاعات الآن لمُناقشة الأمر. توافقه نينا قلقة طالبة من سكرتيرها جمع
الجميع الآن في صالة الاجتماعات المجاورة لصالة الحفل، وحينما يخبرها أن بعضهم قد
انصرف ثملا غير قادر على الاتزان، والآخرين لا يستطيعون الحفاظ على اتزانهم من فرط
تناولهم للكحول؛ تطلب منه استدعائهم جميعا حتى لو كانوا يقيئون ما في بطونهم.
مع وصول
الجميع تطلب نينا منه أن يشرح لهم وضع البناية الخطير، لكن فيدوتوف/ رئيس قطاع
الإنشاءات يسخر منه، ويخبره أنه مُجرد سباك، وهذا الأمر لا يمكن الجزم به إلا من
خلال لجنة مكونة من عشرة من كبار المهندسين، لكنه يخبره بأنه يدرس الهندسة
الإنشائية في الجامعة، ويعرف ما يدلي به من حقائق، هنا يثور ماتيوجين/ رئيس قسم
الإطفاء- قام بدوره المُمثل الروسي Kirill Polukhin كيريل بولوخين- على فيدوتوف قائلا: سلبت
أموال التصليحات، وأنا لم يسبق لي تفقد المكان، كلانا سينتهي أمره، لكن فيدوتوف
يرد عليه: أنا سلبت المال؟ فيرد مؤكدا: أجل، فيتدخل رئيس المشفى بالقول: هل منزل
ابنتك بنى نفسه؟ أو ساعدتها براتبك؟ فيقول فيدوتوف: انظر من يتحدث، ماذا عن بيتك،
أو بيته- مُشيرا إلى رئيس قسم الشرطة- لم لا نخبر الفتى هنا من سلب مال من، أو كيف
نقاوم هنا تبرئتنا لبعضنا البعض؟
إن تصاعد الموقف بهذا الشكل وبداية تبادل الاتهامات وفضح بعضهم البعض أمام ديما يمثل مقدرة من السيناريست على تطويع السيناريو من خلال الحوار، وجعل الحوار هو المُحرك للحدث في فيلمه، وهو ما يؤكد أن الحوار في الفيلم هو البطل الأساس قبل أي شيء.
تطلب نينا
من فيدوتوف الذهاب مع ديما إلى البناية للتأكد مما يقوله، ويذهب معهما ماتيوجين/
رئيس قسم الإطفاء، وهناك حينما يرى فيدوتوف الشرخ العميق الذي يقسم العمارة إلى
قسمين يهون من الأمر ويخبره بأنه قد رأى هذا الصدع منذ عامين، وأنه لا يمثل شيئا؛
فيسرع ديما ليريه الأساس المُنهار للبناية، لكنه يؤكد له أن البنايات تتآكل في فصل
الشتاء، هنا يطلب منه ديما أن يصطحبه داخل البناية، وحينما يصل إلى الشقة التي حدث
فيها انفجار أنبوب المياه، يدخل إلى حمامها ليريه أن الصدع الذي رآه في الخارج
يمتد داخل جميع جدران البناية، وأنها مُنقسمة بالفعل إلى قسمين، وليس مجرد صدع
ظاهري في الخارج، كما يصعد معه إلى سطح البناية ليضع أمامه إحدى زجاجات البيرة
الفارغة على جانبها ويتركها فتتحرك الزجاجة باتجاه الميل الذي تميل فيه البناية؛
مما يؤكد ميلها غير الهين، هنا يطلب ديما منهما مُتابعته فيما يفعله، ويقترب من
سور السطح ليترك الزجاجة تهوى بشكل عمودي بجانب الجدار تماما.
من المعروف
أن الزجاجة إذا ما تُركت لتهوى بشكل عمودي؛ فهي لا بد لها أن تسقط بجانب الجدار
تماما، لكنهم يلاحظون أنها قد سقطت بعيدا عن الجدار بمسافة ثلاثة أمتار؛ الأمر
الذي يعني أن درجة ميل البناية كبيرة وخطيرة بالفعل مما يعني ضرورة انهيارها.
إن السخرية التي يحرص عليها المُخرج يوري بيكوف في فيلمه نراها غير مرة طوال أحداثه؛ فحينما يدخل فيدوتوف إلى البناية يقول بينما يتأمل المكان من حوله: المكان هنا نتن؛ فيرد عليه ماتيوجين: أصلح أنابيب الصرف عندها لن يكون نتنا، فيرد فيدوتوف: هؤلاء الناس بحاجة لأن يتم إصلاح عقولهم لا الأنابيب؛ لهذا السبب المكان نتن هنا.
هذه
السخرية، أو الكوميديا السوداء التي تجعل المُتابع يضحك ضحكا أشبه بالبكاء نلحظه
مرة أخرى حينما يقول أحد السكان الذي يجتمع مع مجموعة منهم ليلعبوا الورق وقد
غابوا عن العالم من فرط تناولهم للكحول: إن كان المبنى ينهار فأنا لا أهتم؛ هذه
ليست حياة بأية حال، صحيح؟! وهو ما نراه أيضا حينما تصل الشرطة للبناية بعدما ضرب
الرجل ابنته وزوجته؛ فيسأل الضابط الزوجة: أتريدين اعتقاله؟ لكنها ترد: عليه أن
يكون في العمل غدا، وإلا لن يحصل على علاوته! أي أن هؤلاء الفقراء المساكين رغم
معاناتهم الشديدة، ورغم أن الزوج هنا مُدمنا للكحول، ومُعتاد على ضرب الزوجة
والابنة بقسوة إلا أنها تتنازل عن حقوقها من أجل ذهابه للعمل والإتيان بالقليل من
المال الذي لا يكفيهم من أجل الطعام، أو الحياة بشكل آدمي حتى أن ابنتيهما لا
تمتلك حذاء تلبسه في قدميها رغم البرودة القارسة. مع استمرار المشاهد الساخرة
اللاذعة نرى أحد السكان يسأل ديما حينما يراه مع فيدوتوف وماتيوجين يتفقدون
البناية بعد منتصف الليل: اضطرابات بنومك؟ الوقت مُتأخر، لم تهتم بحياتنا
التعيسة؟! حنون، ألست كذلك؟
كل هذه المشاهد المُتناثرة هنا وهناك تؤكد مدى التعاسة والهوان الذي يحيا فيه سكان المدينة بالكامل وليس سكان هذه البناية فقط، فهي في حقيقة أمرها مجرد صورة مُصغرة للمدينة وما تعاني منه، والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن البناية بالكامل مجرد صورة رمزية يرغب من خلالها المُخرج التعبير، ونقل صورة واقعية لحال المُجتمع الروسي بالكامل؛ فالصدع العميق الذي تم اكتشافه في البناية والذي يجعلها على وشك الانهيار تمثل في الواقع المُجتمع الروسي المُعاصر الذي أُصيب بصدع عميق يجعله يكاد أن ينهار تماما، أي أن المُخرج هنا يطلق من خلال فيلمه صرخة تحذيرية لما يدور في المُجتمع الروسي من فساد، وهو الفساد الذي يُبشر بالانهيار الكامل لروسيا على جميع مستويات قطاعاتها ومُؤسساتها.
حينما يعود فيدوتوف وماتيوجين إلى نينا القلقة يخبرها بأن المبنى بالفعل على وشك الانهيار وأنه لا بد من إجلاء جميع السكان بأقصى سرعة من أجل إنقاذهم، وهنا يثور فيدوتوف عليها قائلا: أخبرتك، يجدر بك أن تكوني حذرة مع المنطقة "أ"، لقد تم بناءها بتعجل على تربة غير مُستقرة، كان يجدر بنا إعادة تسكين الجميع وهدم المبنى منذ سنوات، لكنها ترد عليه: نعيد تسكينهم أين أيها الذكي؟ أعطني مبنيين بمئة وحدة لكل منهما، لكنه يرد: كان يفترض بنا بنائها عندما كنا نمتلك المال، لكنك كنت طماعة جدا؛ فتقول غاضبة: نصف الميزانية تذهب للرشاوي في المكتب الإقليمي، الجميع هناك يعيشون في المُنتجعات، جميعهم يمتلكون السيارات، والبيوت، وزوجات مُزينات بالذهب بالكامل، وإن رفضت لن يعطونا فلسا، كم من المال حصلنا هذه السنة؟ القليل كافي لقطرنة بعض الأسقف واستبدال القليل من الأنابيب، المتقاعدون جائعون، ثلاث حالات انتحار في السنة، المعاقون ينتظرون أن يُعالجوا من قبل الدولة، ماذا عن اليتامى وتراخيص العائلات الكبيرة؟ بنيت مستشفى ولادة جديد، أتظن إني مصنوعة من المال؟ وكيف يُفترض بي أن أقاوم وأربي أطفالي؟ أنا دائما تحت الضغط، عشت في حالة من الخوف منذ التسعينيات، أنا مسؤولة عن كل شيء، عن الضرائب، عن التجنيد العسكري، عن الانتخابات، هم إما سيرسلونني إلى السجن أو يربتوا على رأسي، أريد أن أعيش مثل أي شخص عادي، لدي ثلاث ندوب على رأسي، ارتفاع ضغط الدم، القرحة، وحالتيّ طلاق، أنا امرأة، أم وزوجة، أريد العيش كشخص عادي، وأنت كذلك؛ لهذا تختلس حصة لنفسك من دون التفكير في الآخرين، لا تهتم بجدران تتهدم، أو سقف يتسرب؛ لأنه عليك إنهاء وضع سقفك الخاص، بيتك ليس أصغر بكثير من بيتي، ارتفاعه أربعة طوابق، ابنك مُدلل، شقي، مُغتصب، ومُدمن للمُخدرات مع ستة اعتقالات عليه، وقضيتين معروضتين أمام المحاكم، هو في شقة في موسكو، ويرتاد مدرسة خاصة. ثم تتوجه بحديثها لمُدير المشفى قائلة: وهذا من سيحظى قريبا بأشخاص يموتون بسبب عدوى بسيطة بينما يسرق كل المخزون وصولا إلى المُطهرات؟ أنا اشتريت مُعدات جديدة للمُستشفى، وهو باع نصفها، إن لم أكن أساعد لكنت تعالج الناس بالأعشاب المتواجدة على جانب الطريق، وتنتقل بحديثها لرئيس قسم الشرطة/ سايابين- قام بدوره المُمثل الروسي Maksim Pinsker مكسيم بنسكر- وهذا حول قسم الشرطة إلى مكان للتهريب، وتقول لرئيس قسم الإطفاء: لا أدري ماذا تفعل، جالس طوال اليوم توقع الأوراق، لم يشب حريق في المدينة منذ عشرة أعوام، لكننا لا زلنا نُخصص الأموال لاقتناء خراطيم المياه، المُعدات، من يدري ماذا أيضا، أجل أحصل لنفسي على حصة من كل صفقة، لكن يد من هنا نظيفة؟
لكن
بوجاتشيف- قام بدوره المُمثل الروسي Yuri Tsurilo يوري تسوريلو- يقاطعها غاضبا: إن لم تأخذ ما
تحتاج؛ ستعيش مثل دودة في القذارة، هذا الحديث الغير مُنتهي عن الفساد، البلدة
بأكملها تعيش على الرشاوي، حتى في أيام السوفيت عندما كانت أمي تموت بسبب السرطان
كان علينا أن نرشو البعض؛ لنحصل لها على الدواء، والآن لا يمكنك فعل أي شيء من دون
المال.
إن هذا
الانفجار الكاشف الذي انتاب نينا بسبب غضبها وخوفها من انهيار البناية كان لا بد
منه ليحرك الحدث الفيلمي، والتأكيد على أن جميع المؤسسات الحكومية والأمنية في المُجتمع
الروسي قد اهترأت تماما وأصابها الفساد حتى النخاع بشكل لا يمكن معه التراجع أو
الإصلاح، وهو الفساد الذي انتقل بدوره إلى المُجتمع/ المحكومين الذين استمرأوا
الفساد الذي يدور حولهم من قبل السلطة، ورغم انتزاع السلطة لكل حقوقهم، إلا أنهم
يشعرون بأنهم لا بد لهم من أجل أن يعيشوا حياة مقبولة أن يمارسوا نفس الأمر بمُمارسة
السرقة، والسطو، والرشوة؛ مما جعل المُجتمع الروسي بالكامل، أو مُجتمع فلاديمير
بوتين مجرد مُجتمع من الفساد المُتداعي مما يعني أن روسيا بكاملها تنهار انهيارا
خطيرا لا يمكن لها أن تنهض من بعده إذا ما استمر الحال على ما هو عليه.
تحاول نينا البحث عن مخرج لها من إجل إجلاء السكان من البناية قبل انهيارها وتورطهم جميعا وانكشاف ما قاموا به من رشاوي واختلاسات ضخمة، لكنها تكتشف أن العجز في ميزانية الإصلاح قد وصل إلى 120 مليون روبل، كما لا تجد مكانا من المُمكن لها أن تأوي السكان فيه؛ فتطلب من جميع رؤساء القطاعات الاستعداد من إجل إجلاء السكان، وبينما يحاولون الاستعداد تفكر في التواصل مع أحد المسؤولين الذي يبني مجموعة كبيرة من البنايات كي ينقذها في إيواء السكان، وبالفعل تتوجه لمُقابلته طالبة من رؤساء القطاعات انتظارها في الحفل لحين عودتها، وتتجه مع بوجاتشيف لمُقابلته، لكنه يتملص من مُساعدتها ويؤكد لها أنه لا يمكنه منحها أي بناية من بناياته التي انتهى من بنائها؛ لأن البنايات قد بيعت قبل البناء، وهناك تفتيش أسبوعي عليها، وإذا ما ساعدها في إيواء السكان لفترة مُؤقتة كما تريد؛ فسيؤدي ذلك به إلى السجن، لكنها تخبره أنها من المُمكن أن تُسجن إذا ما انهارت البناية، إلا أنه يؤكد لها بأنهم لن يسجنونها ولن يمسها أحد؛ لأنها ترشوهم جميعا، فتخبره: أو يقتلونني، لكنه يقول لها: أنا ومن أعمل معهم نستطيع أن نقتل أيضا.
حينما ينصرف
الرجل رافضا مُساعدتها ليتركها في الطريق يقول لها بوجاتشيف: لا يمكنك إجلاء أي
شخص من ذلك المبنى، فتتساءل: إذن، ماذا عليّ أن أفعل؟ أدفنهم تحت الأنقاض؟ ماذا عن
الناس؟ أناس على قيد الحياة يتنفسون أيها الحقير، إلا أنه يقول غاضبا: اقفلي فمك
أيتها العاهرة، متى بدأت تشعرين بالقلق حيال الناس؟ عندما قد يهلك منهم 800 دفعة
واحدة فقط؟ هل كنت قلقة حيالهم عندما كانوا يموتون واحدا تلو الآخر؟ عندما أخذت
حصة لنفسك من كل ميزانية؟ الطرق سيئة، مليئة بالحفر، وفوق كل شيء حوادث كل يوم،
الناس يسكرون حتى الموت، يقتلون بعضهم البعض؛ لأنه لا توجد أعمال لائقة هنا،
الأجور لا يمكن لها أن تُناسب المتسولين، الأطفال يضيعون حياتهم ويتعاطون المُخدرات
في الطوابق السفلية، المدارس فوضوية، المعلمون والأطباء لا يتحملون تكلفة شراء
الطعام، العجائز والمعاقون بحال أفضل لو ماتوا؛ فتقول: أنا وأنت عبرنا من كل هذا،
كم من الخدمات أسديت لك؟ وكنت تتغذى على ما لدي طوال حياتك، لكنه يقول بصرامة: من
دوني لكنت لا زلت سكرتيرة؛ لأنك نكرة، وأنا شخص مُهم، والطبقات العالية تعرف هذا،
استجمعي ذهنك، هنا إما أن تعيشي كإنسانة أو مثل الماشية، لا يوجد ما يكفي من الحياة
الجيدة في الأرجاء، قسميها بالتساوي، ولن يحصل أي أحد على أي شيء، الجميع سيكونون
فقراء بالتساوي، فكري في الأمر بروية وتمعن، هل أنت معهم أم معنا؟
حينما ينتهي بوجاتشيف من جملته الأخير تتجول الكاميرا في المكان لنرى أحد المواطنين الذي يلتحف العراء في الشارع وسط الرياح الشديدة والثلج الذي يهطل ليغطي الأرض في إشارة منه إلى حديث بوجاتشيف، أي أنها لا بد لها أن تختار إما أن تكون مع هؤلاء الفقراء الذين ينامون في العراء ولا يجدون ما يسد جوعهم أو سقفا ينامون تحته، أو تكون مع الفاسدين الذين ينعمون بكل مقدرات الدولة وأموالها؛ لذلك حينما تسأله: ماذا سنفعل؛ يخبرها بأنهم سيجدون حلا.
ينتقل بنا
المُخرج إلى الحفل الذي لم يتوقف حيث يجلس رؤساء القطاعات يسكرون في انتظار نينا،
ونرى فيدوتوف ينظر إلى ديما غاضبا ليقول له: هل أنت من كوكب آخر؟ أي شخص آخر لكان
قد ألقى نظرة وعاد إلى سريره في بيته، لم تهتم؟ فيقول ديما: يوجد هناك بشر، فيرد
فيدوتوف غاضبا: أي بشر؟ قمامة، ومنبوذون، ربما يفترض أن يموتوا، لكن ديما يسأله:
الأطفال أيضا؟ ليقول فيدوتوف بانفعال أكبر: الأطفال الذين يدخنون المُخدرات
ويمارسون الجنس بالعلية؟ ماذا سيصبحون حينما يكبرون؟ أخبرني.
ألا نلاحظ
هنا أن الحديث الذي يدور بينهما هو إمعان أكبر في التأكيد على الفساد والإصرار على
التمسك به حتى النهاية؟ إن فيدوتوف الفاسد، السارق، المُرتشي يُصرّ على أن الآخرين
من البشر لا قيمة لهم ولا يستحقون الحياة من أجل إنقاذهم، بل هو يرى أن فسادهم
وانحلالهم أدعى للتخلص منهم رغم أن فساد السلطة في المقام الأول كان هو السبب
الأساس والمُباشر في فساد المواطنين وانحلالهم واتجاههم للمُخدرات والجريمة كي
يتخلصوا من حيواتهم الصعبة.
تصل لساباين/ رئيس قسم الشرطة مُكالمة حينما ينهيها يطلب من فيدوتوف وماتيوجين الاتجاه لمُقابلة نينا، وحينما يحاولان الاتجاه إلى سياراتيهما يخبرهم ساباين أنهما لا يمكنهما القيادة وهما في هذه الحالة من السُكر؛ لذا سيذهبان إلى نينا ومعهما ديما في سيارة الشرطة، لكن فيدوتوف يلاحظ أن السيارة تتجه بهم إلى طريق غير مألوف، ويدرك أن نينا قد قررت التخلص منهما وعدم إخلاء البناية؛ لإلقاء المسؤولية عليهما فقط في نهاية الأمر. بالفعل يصلون إلى منطقة غير مأهولة، لكن فيدوتوف يطلب من الضابط أن يدع ديما يذهب لحل سبيله: دعه يرحل؛ إنه مُجرد سباك ولن يفشي بأسراركم، هنا يسمح له الضابط بالرحيل آمرا إياه بجمع أشيائه هو وأسرته والرحيل من البلدة الليلة، وعدم العودة إليها، وحذره أنه إذا ما أفشى ما يعرفه فسيجدونه ويقتلونه، ثم يقومون بقتل فيدوتوف وماتيوجين بينما يهرب ديما إلى منزله ليسرع بجمع حاجياته هو وزوجته والهروب خارج المدينة.
تحاول ماشا
لومه على حماقته وما فعله، وتؤكد له أنه لا يمكن له أن يصلح العالم ويقضي على
الفساد الذي يدور فيه، لكنه يؤكد لها أنه ما كان له أن يتخلى عن حياة هؤلاء البشر
وهو يعرف أنهم سيموتون، ويخبرها أنه على الأقل قد دفع المسؤولين للتحرك من أجل
إنقاذهم، لكنهم حينما يمرون من أمام البناية تقول له ساخرة: أي إنقاذ؟ الجميع
ينامون هانئين بينما تهرب أنت. هنا يتوقف ديما بالسيارة أمام البناية غير مُصدق
أنه لا يتم إخلائها، ويطلب من زوجته الرحيل مع ابنهما خارج المدينة وتركه؛ لأنه لن
يستطيع أن يغادر، وحينما تعترض يقول: ألا تفهمين؟ نحن نعيش مثل الحيوانات ونموت
مثلها؛ لأننا لا أحد بالنسبة لبعضنا البعض.
يعود ديما
إلى منزله؛ ليخبر والده بما حدث، هنا يشير عليه الأب أن يذهب لإخبار السكان،
وبالفعل يسرع إلى البناية ويحاول إخلائها بالكامل، وحينما ينتهي من ذلك يهبط ليجد
السكان يقفون أسفلها؛ فيطلب منهم الابتعاد لأنها ستنهار، لكنهم يلتفون حوله وقد
ظنوا أنه يعبث معهم ويخادعهم لينهالوا عليه بالضرب جميعا ثم يصعدون مرة أخرى إلى
البناية المُتداعية، بينما تستقر الكاميرا بلقطة عين الطائر على ديما المكوم على
الأرض في وضع الجنين.
إن فيلم
الأحمق للمُخرج الروسي يوري بيكوف ليس مجرد فيلم عادي من المُمكن له أن يمر من دون
التوقف أمامه طويلا والانتباه إليه؛ فهو بمثابة الصرخة القوية والتحذيرية للمُجتمع
الروسي الذي يكاد أن ينهار تماما مثله في ذلك مثل البناية المُتداعية التي كانت
تمثل هذا المُجتمع في الفيلم، ولعل المخرج كان يمتلك من البصيرة والخبرة والجرأة
ما جعله ينتقد المُجتمع ويعمل على تشريحه بمثل هذه القسوة والأناة والصبر من خلال
السيناريو الذي قام بكتابته بنفسه، ولا يمكن تجاهل مقدرته الفنية وذكائه اللذين
جعلاه يحجم عن تصوير انهيار البناية في نهاية الفيلم ويغلقه على مشهد ديما في وضع
الجنين بعد الاعتداء عليه، فرغم انتظارنا طوال أحداث الفيلم لانهيار المبنى في أي
لحظة، إلا أن المُخرج حرص على عدم تصوير هذا الانهيار الذي سيحدث لا محالة ويقتل
جميع السكان، بل كان أكثر حرصا على رد فعلهم على من رغب في إنقاذ حيواتهم وكادوا
أن يقتلونه، أي أنه يكاد أن يقول: إن الفساد المُستشري في روسيا اليوم قد جعل
الجميع يعتادون هذا الفساد باعتباره الحياة الطبيعية، حتى أن من يحاول مُحاربة هذا
الفساد يكون مصيره في النهاية هو القضاء عليه من الجميع.
إن المُشاهد
حينما يخرج من هذا الفيلم لا بد أن يكون لديه يقين بأن البناية ستنهار وتقتل كل من
فيها، والعمدة ومعاونيها لن يصيبهم أي شيء بعدما قتلوا مُدير الإنشاءات ومُدير
الإطفاء من أجل أن يحملونهم المسؤولية فيما حدث، كما أن ديما مصيره في النهاية هو
القتل من قبل رجال الشرطة الذين سيعرفون بأنه لم يغادر المدينة وقام بمحاولة إخلاء
البناية، لكن رغم أننا نعرف أن هذا هو ما سيحدث فإن بلاغة الاقتصاد دفعت المُخرج
إلى ترك النهاية مفتوحة أمام المُشاهد؛ لأنه يدرك أن ما يرغب في قوله قد وصل إليه.
لكن ألا
نلاحظ أن ثمة تشابه ما بين فيلم الأحمق وفيلم Leviathan ليفياثان للمُخرج الروسي Andrey
Zvyagintsev أندري
زفياجينتسيف؟
المُخرج الروسي يوري بيكوف
إن وجه التشابه بين الفيلمين
ينحصر في التأكيد على أن المواطن لا يمكن له أن يقف في وجه السلطة السياسية أو
التنفيذية، وإذا ما حاول الوقوف أمامهما؛ فمصيره المحتوم في النهاية هو السحق
الكامل له والقضاء عليه- رأينا ذلك في بطل فيلم ليفياثان الذي حاول الوقوف أمام
فساد السلطة السياسية والتنفيذية والقضائية والدينية لكنه قضي عليه في النهاية
وتمت مُصادرة أرضه، وحبسة لمدة خمسة عشر عاما بتهمة جائرة باعتباره قتل زوجته- أي
أن كل من الفيلمين يؤكدان على أن السلطة مهما كان فسادها لا يجب الوقوف أمامها كما
ذهب الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في كتابه ليفياثان.
ثمة مُلاحظة أخرى في السينما
الروسية المُعاصرة التي نراها اليوم، تكمن هذه المُلاحظة في أن المُخرجين الشباب
لديهم من الرغبة في الكشف والفضح للفساد الذي يسود روسيا ما يجعلهم يقومون بصناعة
أفلام مُهمة تعمل على التركيز على هذا الفساد والتحذير منه باعتباره مُقوض حقيقي
للمُجتمع الروسي لا يمكن له أن يؤدي في نهاية الأمر سوى إلى الفوضى العارمة
والكاملة على كل المستويات، رأينا ذلك في فيلمنا هذا، كما رأيناه كذلك في الفيلم
السابق لمُخرجنا يوري بيكوف حينما قدم فيلمه The Major 2014م، ورأيناه مرة أخرى لدى المُخرج Andrey
Zvyagintsev أندري
زفياجينتسيف في فيلمه ليفياثان، وفيلمه السابق Elena 2011م، حيث
يحرص المُخرجون الروس الشباب على تأمل المُجتمع الروسي بعمق وتصوير ما يدور فيه من
فوضى قد تؤدي إلى الانهيار الكامل.













ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق