بالتأكيد لا يمكن لنا نفي حقيقة أن الفن بأكمله- وليست الرواية فقط- هو
مجال واسع للتجريب، وإلا ما استطاع أن يتطور، ويأخذ أشكالا وبنى أسلوبية تختلف من
فنان لآخر؛ فالسير على منهاج واحد في ابتكار الفن من شأنه أن يجعل جميع التجارب
مُتشابهة، لا فضل فيها، ولا تميز لواحد على غيره، ومن ثم نصبح أمام نُسخ مُتشابهة
لا يتقدم فيه أحد على الآخر، بل ويؤدي بالضرورة إلى تشابه الأسلوبيات المُختلفة،
وهي الأسلوبيات التي يقوم عليها الفن في جوهره، وتجعل أحد الفنانين أكثر تميزا على
الآخر، وبالتالي يُفضله المُتلقي على غيره ممن يمارسون العملية الفنية، هذا فضلا
عن أن الفن في جوهره هو عملية ابتكارية، بمعنى أن مُمارس هذا الفن يبحث عما لم
يطرقه أحد من قبل، أو يحاول النأي بنفسه عما يمارسه الآخرون إلى ما يراه جديدا،
وأكثر تميزا.
لكن، رغم هذه الإمكانية التي يتيحها لنا الفن من أجل التميز على الآخرين-
بشكل فني مُستقل ومُبتكر- إلا أن التجريب الروائي من خلال الأفكار المُجردة يكاد أن
يكون من أصعب أشكال التجريب؛ فأن تُجرب بناء عمل روائي بالكامل على الأفكار
المُضطربة، المُتداخلة، الهادرة، الثائرة في ذهن مُؤلفها من شأنه أن يخلق لنا عملا
روائيا ساكنا، شديد التجريد، بمعنى أن كاتبه هنا إنما يسير على الحافة ما بين
النجاح في هذه التجربة، أو الفشل- الذي هو أقرب للتحقق- مما يجعل الروائي في هذه
الحالة يُغامر بعمله الروائي؛ لأنه في حاجة ماسة إلى قارئ مُدرب، لديه الكثير من
الصبر والأناة لفهم ما يرغب الروائي في الوصول إليه، وما ستؤدي إليه كل هذه
الأفكار والمعلومات المُتزاحمة التي يصبها، ويسبكها في شكل أدبي يحتاج إلى أسلوبية
ماهرة، ومقدرة على التحكم في العمل الروائي الذي يقوم بنسجه حتى لا يفلت منه، لا
سيما أن العمل هنا يعتمد اعتمادا كليا على التداعي- تيار الوعي- وهو ما قد يجعله
سائرا من خلف إحدى الأفكار، مُنساقا لها، وهي الأفكار التي تتولد منها بالضرورة
غيرها من الأفكار الأخرى التي تجعل الكتابة في هذه الحالة ليست إلا متاهة
مُتشابكة، مُتداخلة من انسيال هذه الأفكار المتوالدة، وبالتالي قد يفقد الروائي
سيطرته على نسيجه في نهاية الأمر.
هذه الأسلوبية، أو الآلية الموغلة في التأمل لا تعتمد في جوهرها على حبكة
روائية أو قصصية بشكلها التقليدي المعهود في الأعمال الأدبية، بل ينطلق فيها
الروائي من نقطة ما، لتظل نقطة الانطلاق تلك ثابتة لا تتحرك إلا ببطء شديد- قد
يكون غير ملحوظ للقارئ- أي أنها تمتلك آلية حركتها، والاحتفاظ بها بشكل داخلي، مما
يعني أن الحركة الحدثية في العمل الروائي هنا تأتي من داخله- عالمه الخاص، أو
المنطق الداخلي للفن- خلافا لخارجه- العالم الواقعي، أو المنطق الخارجي للمُتلقي-
حتى أنه من المُمكن لنا في نهاية الأمر أن نصف ما نقرأه ونحن مُطمئنين إلى ما
نقوله: لا شيء يحدث تقريبا!
هذه الآلية الروائية، أو الأسلوبية الخاصة هي ما لجأ إليه الروائي الإماراتي عبيد بوملحة في روايته "أحدٌ ما يطرق الباب"، ولعلنا هنا لا بد لنا من التوقف والتأمل قليلا أمام ما حاول بوملحة أن يصنعه بعمله الروائي؛ لأنه سبق له فيما قبل أن قدم روايته "طقوسٌ للموت" التي اعتمد فيها على هذه الآلية الروائية الذهنية، والتي كانت ناجحة إلى حد كبير، ولكن، يبدو أنه قد استهوته هذه الآلية الصعبة في كتابة الرواية؛ فرغب في إعادة التجربة مرة أخرى بشكل أكثر استغراقا في الذهنية، وأعمق إحكاما وإدراكا لما يقوم به، ومن ثم نجح إلى حد بعيد في تقديم عمل روائي فيه الكثير من الإتقان، والتلاعب بالقارئ والعمل الروائي معا، أي أن الكاتب هنا يمارس شكلا من أشكال اللعب الفني الماهر إلى حد بعيد- ربما ليؤكد لنا على مقدرته على امتلاك ناصية سرده الروائي الذي يمارسه كفعل عادي، ومُفردة من مُفردات حياته اليومية- لا سيما أنه يقوم بسرد روايته الذهنية المُتشابكة هنا بنفس سردي واحد وطويل من دون وجود أي توقفات، أو ترقيمات، أو اللجوء إلى الفصول المُتتالية، مما يعني أن الرواية قد كُتبت كدفقة شعورية واحدة، وكأنه يكتب قصة قصيرة ليست في حاجة إلى أي شكل من أشكال التوقفات لالتقاط الأنفاس.
ينطلق الراوي- وهو كاتب روائي أيضا داخل الرواية يتماهى معه بوملحة- من
نقطة ثابتة تتكرر على طول العمل الروائي: "طاخ طاخ طاخ"، أي أنه يحاول
هنا تقليد صوت الطرق على الأبواب، فالراوي داخل الرواية يكتب عملا روائيا- هو في
جوهره الرواية التي بين أيدينا- ويحاول العزلة داخل غرفته من أجل الانتهاء من هذا
العمل الروائي، لكن رغم نزوعه إلى هذه العزلة إلا أن ثمة شخص ما يحاول إقلاقه
دائما بالطرق على الباب، ورغم أن الروائي يحاول طوال الوقت تجاهل هذه الطرقات التي
تهبط على ذهنه ككارثة مُدمرة لتركيزه فيما يقوم به، إلا أنها من الناحية الفنية
كانت أداة روائية- -حيلة فنية- من أجل الانتقال من فكرة إلى أخرى جديدة، بمعنى أن
الطرقات المُتتالية والمُلحة على الباب كانت هي الفواصل التي تُمكِن الكاتب هنا،
وتُساعده على التقاط أنفاسه، وإعادة تأمل ما كتبه، وترتيب أفكاره من أجل المزيد من
الكتابة بسلاسة أسلوبية جلية لا بد أن يلمحها القارئ بسهولة.
يكتب بوملحة في المقطع الافتتاحي لروايته: "طاخ طاخ طاخ، أحد ما يطرق
الباب، أُدرك أن أحد النقاد- ما أن يقرأ الصفحة السابقة- سيقول: إن عتبة الرواية
التي وضعتها، فصلت الرواية عن جسدها. أحد وأحد، أحد يطرق الباب، وأحد النقاد.
تكرار للكلمة في سطرين مُتتالين. أحدٌ أحد. ليستا الكلمة السابقة. أستنجد وصخرة
على بطني وسياطٌ على ظهري. بخطوات مُتسارعة وصلت إلى مُنتصف الغرفة، الظلام
يحيطني، بقعة من الضوء مُسلطة عليّ، أفتح يدي وكأنما أقف على مسرح، أعجبتني كأنما،
ويجب أن أضيف ريثما مُستعرضا ثقافتي. المُهم سأقول: تمعنوا في جمال اللغة العربية.
وسيصفق الجمهور ويصفرون، وتفقد السيدات الجميلات صوابهن، أو على أقل تقدير يفعلن
مثلما فعلن مع صديقي الروائي محمد سليمان الفكي الشاذلي في لندن، أو كما يطيب لي
أن أسميه الفقيه".
ربما نُلاحظ في هذا المقطع الافتتاحي للرواية أن الروائي هنا يكتب ساخرا من
العديد من المُسلمات التي استقر وعينا عليها؛ فهو يسخر من النقاد ووقوفهم أمام
تكرار المُفردات في سطرين روائيين مُتتالين، وهي السُخرية التي تجره مُباشرة إلى سُخرية
أخرى مُستقرة في وعينا من خلال السينما التي كانت تُصور المُسلمين أمام أعدائهم في
العصور البائدة حينما كانوا يعذبونهم، بينما يرددون في يقين وإصرار قولهم: أحدٌ
أحد، وهو ما يجره بالضرورة إلى السُخرية أيضا من اللغة ذاتها تحت دعوى استعراض
الثقافة- كأنما، وريثما- الأمر الذي يفضي إلى فكرة أخرى جديدة تماما قد تبدو لنا
للوهلة الأولى لا علاقة شكلانية وعضوية لها بما سبق أن قرأناه- علاقته بصديقه
الروائي السوداني- وحكايته التي حدثت له في لندن، أي أن بوملحة هنا من خلال راويه
إنما يعمل مُباشرة على كسر الإيهام الفني مع مُفردته الروائية الأولى، ومن ثم تصبح
الفواصل ما بين الفني/ الخيالي، والعادي/ الواقعي مُنبتة تماما ليخلق لنا ثنائية
ستتناوب علينا طوال العمل الروائي ما بين الخيال من جهة، والواقع الذي يعيشه
الروائي في الحقيقة من جهة أخرى، وهو ما سيمنحه الكثير من الحرية لسرد الكثير من
تجاربه الشخصية الواقعية داخل بنيان عمله الروائي، وأفكاره التي يفكر فيها،
وتأملاته في الواقع الثقافي من حوله.
إذن، فلقد رأى بوملحة أن يبتكر عملا روائيا مُعتمدا في المقام الأول على الواقع الثقافي الذي يحيط بنا، وهو ما يجعله يقول في إحدى فقرات روايته بشكل مُوغل في السُخرية: "شغلت موقع "اليوتيوب" في هاتفي، وجلست أستمع لمُقابلة مع إحدى الكاتبات. تتحدث عن وحي الكتابة، شخرت مُستهزءا بها".
هذه السُخرية من كل شيء- حتى لو كانت من نفسه كروائي- ستظل مُلازمة له على
طول الرواية بشكل فيه الكثير من التأمل والإدراك لما يقوم بفعله، ليكشف لنا الكثير
من التناقضات التي تحيط بعالم الثقافة والمُثقفين وما يدور فيهما.
إن إدراك الروائي لآلية السرد التي اختارها لروايته تجعله ماهرا في
المُلاحظة، قادرا على خلق المزيد من المُفارقات كلما انتقل من مقطع روائي إلى آخر،
مما يعني أنه يكاد أن يصرح لنا بأنه يقوم باللعب الفني، مُستمتعا بما يفعله وكأنما
يقوم بالكتابة لنفسه، أو الكتابة فقط من أجل مُتعة الكتابة التي لا تعنيها القارئ
وشكل تلقيه، ولنتأمل المقطع التالي مُباشرة على المقطع السابق: "طاخ طاخ طاخ.
الباب يطرق بالفعل هذه المرة. انتفضت في مكاني. يبدو أن ما أكتبه يتحقق على أرض
الواقع، ثلاث طرقات كما في مسودتي، هرعت إلى جهاز الحاسب الآلي، وكتبت: طرق الباب
بكل قوة. دوم دوم. الباب يهتز. ابتسامة علت وجهي، أخيرا سأتحكم بالعالم وأحركه كما
أريد، أنا الروائي، رفعت عينيّ أتأمل السقف، وأتخيل مُستقبل العالم، سأصنع عالما
موازيا يعيشه أبطال الروايات، جريجور مسخ كافكا، عجوز الشيخ والبحر، مسخ الدكتور
فرانكشتاين، ودراكولا برام ستوكر"، فإذا ما كان المقطع السابق- المقطع
الروائي الأول في الرواية- هو مقطعا تخييليا داخل العمل الروائي، أي مقطع تخيله
الكاتب- الذي في داخل الرواية- في ذهنه وكتبه على الأوراق، فالمقطع التالي عليه
مُباشرة هو مقطع يحمل في داخله الكثير من المُفارقة؛ لأن ما سبق أن كتبه الروائي
تحقق بمُجرد كتابته، ومن ثم تم طرق الباب بالفعل ثلاث طرقات كما كتب، وهو ما يجعل
الروائي ينطلق في أفكاره، ويتخيل أنه قادر على تحويل الخيال إلى عالم واقعي بالفعل
يستطيع التحكم فيه، وإدارته كإله له مُطلق السطوة والحرية فيما يرغبه. ألا نُلاحظ
في الذهاب إلى مثل هذا المذهب رغبة الكتّاب العارمة في تسيير العالم كما يرونه من
خلال رؤيتهم الفنية، أو الثقافية التي ينطلقون منها؟
هو يحاول نقاش هذه الفكرة المُلحة على الكتّاب في واقع الأمر بشكل غير
مُباشر، أي تحويل الخيال إلى واقع، ومن ثم إعادة خلق الواقع بشكل أكثر جمالا،
واتساقا مع ما يراه، وليس كما هو في حقيقة الأمر حيث تسوده الكثير من التشوهات،
والعوائق، والصعوبات، والترهات، وربما الأكثر من البؤس.
إن اعتماد الكاتب اعتمادا كليا على تيار الوعي، أي انثيال الأفكار على
الذهن؛ تجعله ينتقل بسلاسة وحرية من فكرة إلى أخرى من دون ترتيب أو انتظام؛
فالأفكار تجر بعضها بعضا بما يشبه الواقع السيريالي أو الحلمي لمُجرد أن ثمة رابط-
حتى لو كان رابطا واهيا- بينها، وهي إمكانية تتيحها الآلية الفنية التي اعتمدها
الروائي كمُنطلق لكتابة روايته مُنذ البداية، نُلاحظ ذلك على سبيل المثال حينما
كان يتحدث عن فتاة ما أوقفته ذات مرة في إحدى المكتبات للحديث معه، لكن الكاتب
سُرعان ما ينتقل من هذا الحدث إلى حدث آخر له علاقة به، وإن كان مُختلفا تماما عما
كان يتحدث فيه: "تذكرت حوارا ضمنته إحدى مسودات رواياتي التي لم تُنشر بعد، حيث
يخاطب فيها كاهن أحد تلاميذه: الأنثى يا جلجكيدو كائن حساس ورقيق، ويجب عليك أن
تعرف كيف تُسعدها. لا توجد في العالم امرأة قبيحة، كلهن جميلات، وفروجهن رمز
الحياة والاستمرارية. الأرض أنثى لا تُروى إلا بماء السماء؛ فتُزهر وتخضر، وتنتشي،
والأنثى لا تُزهر إلا بماء الرجل. جميلة يُفرحها التغزل بفتنتها والثناء على
جمالها، ويُخرج الكاهن لسانه ويضع سبابته عليه، ويقول: بالكلام المعسول. ثم يخرج
الكاهن لسانه من فمه ويدخله، ويُكرر الفعل بحركة سريعة فيفهم جلجكيدو
المغزى".
مع قراءة الاقتباس السابق لا بد أن ينتابنا التساؤل: ما الداعي لانتقال الروائي من موقفه مع الفتاة التي قابلته إلى هذا المقطع الذي كتبه في إحدى مسوداته؟
إنها أسلوبية تيار الوعي الحلمية، أو السيريالية، التي تحيل الأفكار في
الذهن إلى مجموعة من الحلقات المتجاورة رغم انتفاء العلاقة بينها من الناحية
الشكلانية، لكنها في جوهرها ذات صلة تجر بعضها بعضا، وبالتالي تكون قادرة على بناء
الصلة المُفتقدة للوهلة الأولى، أي أن العمل الروائي هنا يكون قادرا على خلق
الصلات تبعا لمنطقه الداخلي، خلافا للمنطق الخارجي الذي لا تسري عليه الآليات
الفنية للعمل الروائي، ومن ثم قد تبدو لنا هذه الانتقالات لا نسق فني يجمعها
للوهلة الأولى، ولكن مع التأمل في العمل الروائي، والاستمرار في مُتابعة السرد
تتبيّن لنا الصلات الوثيقة بينها في نهاية الأمر، وهي صلات فنية في جوهرها. وهو
ذات الأمر الذي يجعله فجأة ينتقل إلى السرد التاريخي رغم أنه كان لتوه يتحدث عن
كيفية كتابة عمل روائي في: "أصمت قليلا حتى أشد الجماهير كما يفعل المُدربون
في دورات التحفيز العقلي، تبدأ الهمهمة ثم أردف: يتخلصون من أسرهم بمُجرد جلوسهم
على العرش. أبحلق في أعينهم واحدا تلو الآخر، أدرك عدم فهمهم، أتبع: الأسرة هنا
أشبهها بالماضي، أو العادات والتقاليد، والأفكار المُترسبة في العقل. لم تكن
عروشهم تُرتقى بالسن، أو أية معايير أخرى بقدر ما كانت تُرتقى بالقوة، الأقدر على
التخلص من جميع الأشخاص المُحتمل مُطالبتهم بالعرش، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك
السُلطان محمد الثالث الذي وصل إلى العرش عام 1595م؛ فقتل تسعة عشر أخا له، قتل
إخوته الذكور كلهم، واثنتى عشرة امرأة شك بأنها تحمل ابنا لوالده".
هنا لا بد لنا من التساؤل: كيف انتقل الروائي فجأة من حديثه عن آليات كتابة
الرواية إلى هذا الحدث التاريخي الذي قد تنتفي الصلة بينهما مما قد يخلق فجوة
عميقة في جسد السرد؟
إنها جملة واحدة، هي التي أدت إلى هذا الانتقال بسلاسة اعتمادا على تيار الوعي، حيث قال في الجملة السابقة لهذا المقطع: "لا يتأتى لكم ذلك إلا بتكنيك عقلي أُسميه طريقة السلاطين العثمانيين"، أي أن "السلاطين العثمانيين" هو المفتاح الذي ساعد على هذا الانتقال الفني ما بين الحديث عن الرواية إلى الحديث عن التاريخ، والسُلطان محمد الثالث، مما يعني أن الكاتب هنا يعي جيدا الآلية الفنية التي يعتمد عليها، ويستغلها خير استغلال لبناء عالمه الروائي بالشكل الذي تخيله مُنذ البداية، وهو أيضا ما نراه بوعي منه هذه المرة في: "يبدو أنني شطحت كثيرا. من أجل تفسير كلمة عيايز أوردت قصة وقصيدتين، يجب أن أتمالك، أممم، فكري وقلمي، عمّاذا كنت أتحدث، انتظروني قليلا لأعود وأراجع ما كتبت"، أي أنه يعي انتقاله غير العقلاني للوهلة الأولى، وشردوه من خلف الأفكار المتنوعة والمُختلفة التي قد تُبعده كثيرا عما كان يتحدث فيه- لكنها ذات صلة به- وهو ما يجعله ينتبه ويعود مرة أخرى إلى ما سبق أن كتبه ليُعيد للسرد انسجامه كما يبدو في مُخيلة القارئ العادي.
إن استغراق بوملحة الكامل في أفكاره المُنثالة على ذهنه تجعله يستعيد
العديد من المواقف التي حدثت له في حياته الواقعية، ويسبكها في الجسد الروائي
باعتبارها ضرورة لا يمكن اكتمال السرد الروائي من دونها؛ لذا فهو يتحدث عن القاص
الجزائري عبد الرزاق بوكبه بقوله: "كنت في معرض للكتاب أعاين الكتب في إحدى
دور النشر، وأشار عليّ البائع باقتناء أحد الكتب الأكثر مبيعا، وعض شفته السُفلى،
وحرك رأسه يمينا ويسارا دلالة على روعة الكتاب. أعجبتني الحركة التي قام بها،
لأنني أحب الجنون وأعشق الغرابة. حينها قفز إلى مُخيلتي الشاعر والأديب الجزائري
عبد الرزاق بوكبة بملابسه الأمازيغية، وعصاه الصغيرة التي تُرافقه أينما ذهب وفي
نهايتها تستقر ريشة تجعلك تتساءل عما إذا كانت الريشة تتبعه أم أنه هو الذي
يتبعها- أعتقد بأنني قرأتها في مكان ما- أتساءل: هل استقرت الريشة هناك لأنها تحب
القرب من بوكبة، أو أنه هو الذي وضعها في نهاية العصا لغرض ما في نفسه؟ ما أن
أهديه كتابا لي حتى يفتح صفحاته، ويُقرب أنفه منها، ويشمها وهو مُغمض العينين، ثم
يقوم بتقبيل الكتاب واحتضانه وتحريك يده عليه بنعومة، إلى أن يفتح عينيه فجأة.
القراءة عنده فعل جنسي بامتياز، هكذا أخبرني".
ما ذكره الروائي هنا عن بوكبه هو واقع نعرفه جميعا، ورأيناه بالفعل في سلوك
عبد الرزاق، ولكن ما علاقته هنا بالسرد الروائي؟
العلاقة هنا تبدو لنا واضحة جلية حينما ننتبه مرة أخرى إلى أن تيار الوعي
يجعل الروائي يلجأ إلى هذا الموقف الذي مر به من قبل، وبما أن الرواية هنا لا
فواصل تفصلها عن الواقع- تماهي التخييلي مع الواقعي وتداخلهما بما أن الراوي داخل
العمل هو روائي بدوره، وسنعرف فيما بعد أن الروائي داخل الرواية هو عبيد بوملحة
ذاته، أي الإمعان في إسقاط الفواصل بين التخييل والواقع حتى لكأنما الروائي هنا
يكتب رواية عن نفسه- فلقد كان من الطبيعي ذكر ما دار بينه وبين بوكبه، بل وما يفكر
فيه بالفعل وتأمله للواقع الثقافي وما يدور فيه من تناقضات مُثيرة للكثير من
الدهشة، وربما هي تناقضات تقترب بالواقعي من التخييلي، بمعنى أنها صالحة لأن تكون
أحداثا روائية أكثر من كونها أحداثا واقعية.
تداعي الحدود ما بين الخيالي والواقعي هنا يتبدى لنا في أكثر من موقف يسرده
الروائي في روايته، فهو كلما أزعجته الطرقات الثلاث- في الغالب- التي تنتظم بين
الفينة والأخرى على باب الغرفة المُنعزل فيها؛ يُسارع بالانتقال بسلاسة من فكرة
إلى أخرى، أو من موقف حياتي إلى موقف آخر صالح للمُساهمة في البنيان الروائي- بما
أن الروائي في الرواية متوحد تماما مع الروائي في الواقع- فنقرأ: "لا أعرف ما
هو السبب الذي يدعوهم إلى طرق الباب مرة واحدة فقط هذه المرة، مرة مُرة. غالبني
النعاس، لذلك السبب لا أحب الكتابة في المنزل، وأفضل المقهى، هدوء المنزل يجعلني
أشعر بالكسل، إذا استبعدنا الطرقات التي سمعتموها: طاخ طاخ طاخ. نعم هذه هي. أما
عندما أكتب في المقهى فإن الصخب والإزعاج يجعلانني أركز في الكتابة فقط، وأعيش
عالمي الخاص، ومن جانب آخر فإن المقاهي، خصوصا الشعبية منها، هي أفضل مكان يبدأ
منه اختيار شخصيات الرواية. أجلس أغلب الوقت في مقهى الفنانين، والذي يقع بالقرب
من مسرح جمعية دبي للفنون الشعبية. عندما يسألني أحدهم عن المكان الذي أرتاده،
وأجيب بأنه مقهى الفنانين يرجوني بأن آخذه إليه، أو أن أتصل به حين أكون متواجدا
فيه. تتغير نظرة الآخر نحوي، ولا أعرف إن كانت نظرة إعجاب أو استغراب؛ فشخص معروف
مثلي لن يجلس في مكان شعبي يرتاده أناس عاديون. حينها أقول بأن المكان يروقني لأنه
مليئ بالنساء والشابات والمُمثلات والفنانات الباحثات عن الشهرة؛ فيصر الآخر على
الحضور، وما أن يدخل حتى يُصاب بخيبة الأمل، فأرحب به بكل حب في المقهى السوداني
الوحيد في إمارة دبي".
هذه الفقرة الروائية السابقة تكاد أن تكون مُطابقة تماما للواقع الذي يعيشه
الروائي عبيد بوملحة، فهو بالفعل لا يرتاد سوى هذا المقهى السوداني الذي تحدث عنه،
وهو مقهى شعبي تماما غاص بالصخب غير المُحتمل من السودانيين الذي يرتادونه، كما
أنه خالٍ تماما من النساء إلا نادرا، فضلا عن أن الروائي في العالم الواقعي لا
يروق له الكتابة أو القراءة إلا فيه، أي أن الكاتب هنا يزيل تماما الحدود ما بين
الروائي والواقعي ليحيل الواقعي إلى روائي داخل عالمه الروائي، ويستفيد منه أيما
استفادة في المزيد من السرد الحكائي.
نلحظ ذلك مرة أخرى في: "مر بجواري أبيض وسلم عليّ، ثم ذهب ليجلس على طاولته، وأبيض صديق من الجنسية السودانية تعرفت عليه في المقهى، شدتني حركاته وشخصيته واسمه؛ فقررت أن أجعله إحدى شخصيات روايتي "سوق نايف". كنت أتعمد أن يكون كرسيي مُقابلا له، وأبدأ بالكتابة وأنا أراقب أفعاله وحركاته وأدونها، فأصبح أبيض شخصية مُساندة لبطل روايتي".
![]() |
الروائي الإماراتي عبيد بوملحة |
الروائي هنا يتماهى واقعه تماما مع عالمه الروائي، ومن ثم فهو يصرح بجلاء
بأنه هو نفسه الراوي داخل روايته من خلال ذكر هذا الموقف، واسم روايته السابقة
"سوق نايف"، مما يعني أن الروائي يكتب رواية عن نفسه داخل روايته أثناء
قيامه بكتابة رواية ما، وهي الرواية التي ستكون بين أيدينا في نهاية الأمر، ولعلنا
نتأمل قوله: "تذكرت تعليقا لإحدى السيدات على روايتي "الذبابة":
الثراء لا يصنع كاتبا. نعم، كنت أنتظر بقية حديثها. خلل في السرد أو أي أمر آخر،
سألتها: وبعدين؟ راغبا في سماع المزيد منها. قالت: بس، وغادرت. كان بودي أن أستوقفها،
وأسمعها قصيدة من كتاب "أوراق العشب" للشاعر الأمريكي "والت
وايتمان""!
ثراء الكاتب الواقعي هنا قد تحول روائيا إلى سبة، وتُهمة تطارده في أهم فعل
وجودي يقوم به: الكتابة. حتى أن هذا الثراء بات من شأنه أن يسلبه وجوده، وموهبته،
وثقافته، ومقدرته على صياغة عالم روائي. بات من شأنه أن يميته، ولعلنا نلحظ ذكره
أيضا لروايته "الذبابة" في مزيد من التأكيد على تماهي الواقعي مع
المُتخيل وتداخلهما.
لعل تأملا أخير في هذا الشأن يؤكد لنا على ما نذهب إليه من استغلال الكاتب
لحياته اليومية في الكتابة الروائية وإحالتها إلى تخييل صالح للسرد والقراءة
المُمتعة في نهاية الأمر، فهو حينما يتحدث عن النمل، ويذكر قول الروائي المصري
أشرف الخمايسي عن أنه يقضي ساعات من يومه مُراقبا للنمل، ينتقل مُباشرة إلى:
"من نمل الخمايسي اقتبست فكرة روايتي "طقوسٌ للموت"".
إنه التأكيد على زوال الحدود، أو الفارق ما بين العالمين- الواقعي
والتخييلي- في الرواية التي بين أيدينا. ولكن، ألا يلجأ الغالبية العظمى من
الروائيين بالفعل إلى الاستفادة من المواقف الحياتية التي يمرون بها، ومن ثم
يعملون على نسجها داخل أعمالهم الروائية بتماهيها مع الخيال؟
لا يمكن إنكار أن الغالبية العظمى- إن لم يكن جميع- الروائيين يقومون
بالفعل باستغلال المواقف الحياتية التي يعيشونها في أعمالهم الروائية، وإن كانوا
لا يصرحون لنا بذلك، لكن عبيد بوملحة هنا يُصرح بوضوح مُنذ بداية عمله بأنه يقوم
ببناء عمله الروائي بناء على تجاربه الحياتية اليومية، وهو من خلال هذه التجارب
يخرج لنا بعمل روائي فيه الكثير من الإيهام والتداخل، والالتباس ما بين العالمين
بشكل قد لا يُدرك فيه القارئ ما هو الفارق الشفيف ما بين الروائي والواقعي.
بوملحة هنا يعي جيدا ما يقوم به، ويطرحه في سرده الروائي باعتباره شيئا
عاديا، بل ويقوم بتفسيره لنا أيضا، وكأنه يخاطبنا في أمسية ما، أي أنه ينشئ بيننا
وبينه حوارا لا ينتهي على طول السرد الروائي وكأننا جالسون معه في مقهاه السوداني
في دبي: "فتطويع المعلومات والأفكار والقصص في العمل الأدبي مهمة بسيطة عندما
يعرف الروائي طبيعة الرواية، ويُدرك مدى قدرته على ترويض أفكاره في القالب
الروائي، وصعبة إذا كانت انسيابا وإفاضة من غير روية تحتاج إلى أدوات، كحدث أو
شخصية تتبناها. كتبت هذا المقطع في روايتي "طقوسٌ للموت"، والآن أقع في
نفس الفخ ولا أستطيع الفكاك منه".
لاحظ هنا أنه يكاد أن يتحدث بلسان الناقد المُفسر، والمُبرر لآليته الفنية
التي ارتآها صالحة كآلية فنية من أجل بناء الرواية التي بين أيدينا، أي أنه يعي
التساؤلات التي قد ترد على ذهن المُتلقي، ومن ثم فهو لا يترك له المجال للتفسير،
أو انتظار الإجابة، بل سُرعان ما يطرحها عليه، وبأسلوبية روائية تبدو لنا شديدة
التلقائية من دون تصنع، أو عمدية الإجابة على تساؤلات القارئ.
هذا الأسلوب الروائي يمنح بوملحة هنا المزيد من الحرية بالتلاعب بالقارئ، بل واللعب معه أيضا- فالروائي هنا يمارس شكلا فنيا خاصا من المُتعة يستطيع الخروج منه بعمل روائي يخصه- وبما أن الطرق الدائم على باب غرفته يمنحه المقدرة على الانتقال من فكرة إلى أخرى؛ فهو في إحدى هذه الفواصل يبدأ في هذا التلاعب: "طاخ طاخ طاخ. لقد نسيت أن أفتح الباب. قد يظن أحدهم بأنني قد أقدمت على الانتحار. ضحكت بأعلى صوتي، فقد وجهت أنظاركم إلى نقطة مُعينة وأنا في داخلي شيء آخر، نظرية النعال البلاستيكية في المدرسة، بالتأكيد سيحسبني القارئ نائما، ألم أذكر لكم مُنذ قليل بأنني أعاني من ثقل النوم؟ قد يقول أحدكم بأنك ذكرت بأن الروائي لا ينام، سأنظر إليه بغيظ، وأرد: عقله فقط. لم أخبركم عن قصص المُبدعين الذين أقدموا على الانتحار حتى لا تقلقوا عليّ، هذا إن كنت أهمكم، أستبعد هذا الأمر. لنعد إلى المُنتحرين، إرنست هيمنجواي مثلا الذي أطلق النار على رأسه من بندقية، أو سيليفيا بلاث التي استنشقت الغاز، أو فنسنت فان جوخ، أترك لكم المجال للبحث عن كيفية انتحاره". لاحظ هنا في نهاية فقرته السابقة بأنه يتلاعب بالقارئ، ويذكر له المعلومة ناقصة، ويطلب منه الذهاب للبحث عن بقيتها في شكل يميل باتجاه الطرافة، وليس السُخرية؛ فهو لا يؤمن بمجانية منح المعرفة لمن يشعر بالكسل في البحث، أي أن الكاتب هنا يعمل على تسلية نفسه أثناء قيامه بكتابة روايته، وهي التسلية التي لم يعثر على من يفعلها معه سوى قارئه.
لكن اللعب الروائي الساخر يتبيّن لنا في بعض مقاطع روايته أحيانا، وليس أدل
على ذلك من هذا المقطع السيريالي الذي ابتكره في روايته: "ضغطت على القلم
بقوة، راودتني رغبة في كتابة قصة سيريالية، لتُفهم كما تُفهم، "خذوا من كلامي
ما يتناول فهمكم" كما قال الحلاج. عنونتها "بالسيد عاقل"، تعالوا
معي في رحلتي لتقرأوها. خذوا نفسا عميقا، وابلعوا ما استطعتم واستطعمتم من حبوب
اللافندر، بدأت حين استيقظ السيد عاقل من صحوه لاهثا، بعد كمية غير معروفة من
الوقت تُقدر بلترين وخمسة أمتار، ليلة أشرقت فيها الشمس، لم يغلق فيها المصابيح الأمامية
لوجهه، انفجر الهاتف انفجارات مُتتالية، ورقص السامبا على جثث الأحياء، أطعم
الطيور المرسومة في اللوحات الزيتية، ثم ركض السيد عاقل على رموشه التي خرقت
السيراميك المُعلق على السقف. طاخ طاخ طاخ. سمع السيد عاقل طرقا شديدا على باب
جيرانه، ركض بأقصى سُرعته ساكنا في مكانه، والمنديل يسيل من قطرات العرق، وجبينه
جاف كسيل، فتح النافذة: أنت السيد عاقل؟ فيل كبير بجناحي بعوضة يقف أمامه، زحف
السيد عاقل على ظفر إصبع رجله السابعة إلى الخارج، دار خمسة مُثلثات، ومُربعين،
وخط مُستقيم حول الأرض، ومن ثم تسلق البناية نزولا على ظهره، الريح صامتة، شعر
رأسه الأصلع يخرج من المجاري ليلتف على أسطح المنازل، جلس على الهواء بعيدا عن
الفيل، مد سرّته وحركها للترحيب بالسيد فيل: نعم، أنا السيد عاقل. مد السيد فيل
لسانه إليه من وراء ظهره يرد التحية: وقع هنا، هنالك رسالة لشخص آخر، لا تستلمها.
وأخرج السيد فيل أذنه من وراء قلم، وسلمها للسيد عاقل ليبصم. فتح السيد عاقل عينه
وبصق منها على أذن السيد فيل: شكرا لمن لم يوقع. قالها السيد فيل بعد أن تحرك
مِفصلا كوعه، ومن ثم أخرج الفيل كنغرا يبكي من الجوع من جيب في بطنه: آسف، هذا
ابني. وضعه على الكرسي واقفا وعاد وبحث كثيرا، أخرج منازلا، عمودا فقريا، صناديق
قمامة، دماغا، سلحفاة صفراء بأربعة وأربعين رجلا، وخرطوما مليئا بريش ملون: أعتقد
بأنها ابنتك، انتظر تماما سأتأخر. وبعد ثانيتين أخرج السيد عاقل حذاءه من النافذة
لتلتهمه السلحفاة، اقتربت منه السلحفاة لتقبله فالتهمت رأس السيد عاقل الذي بكى
ضاحكا. نامت السلحفاة بهدوء وهي تتقلب وتصرخ وتبكي وتركل السيد فيل بسبورتها إلى
أن أعادها من جيبه مرة أخرى. أخرج السيد فيل شاطئا وسلمه للسيد عاقل. استلم السيد
عاقل رسالة فيها زجاجة تتقلب على الشاطئ فاختفى السيد فيل الذي ما زال في مكانه،
خرج السيد عاقل مُسرعا إلى بيته، وأغلق الأبواب، وأطفأ الأنوار حتى يراه الجميع،
بصمت صرخ: لدي رسالة". وهكذا يستمر عبيد بوملحة في سرد هذه الحكاية الهزلية
التي لا يهدف من ورائها إلا التلاعب، والسُخرية، وإعطاء نفسه فسحة من السرد
باعتماده على التناقضات التي تخلقها المُفردات المُتقابلة، مما قد يفيد بأن
الروائي هنا- فضلا عن هزليته المُتعمدة- يسعى إلى السُخرية من بعض الأعمال الأدبية
التي تدعي السيريالية في حين أنها في حقيقتها ليست إلا لغوا لا معنى له.
لذا فهو يذكر لنا بعض الحكايات المتداولة ما بين الناس، وهي حكايات مُعتادة
ومُبتذلة لفرط تداولها وبساطتها الساذجة، لكنه هنا في ذكرها إنما يميل إلى
السُخرية منها، ومن بساطة من يقومون بتداولها: "لقد نسيت نفسي وتغير لون
الإشارة الضوئية إلى الأخضر، تذكرت التعليقات السخيفة التي لطالما سمعتها من
أصدقائي، وقولهم إنني يوما ما سأجن بسبب القراءة والكتابة، وأن الروايات ستقودني
في النهاية إلى مُستشفى المجانين. أرد عليهم مُستشهدا بكل هؤلاء الروائيين الذين
يكتبون الروايات، والذين لم نسمع يوما عن إصابة أحدهم بالجنون. لماذا أكون أنا
الحالة الشاذة بينهم؟ يقنعهم ردي ويسكتون، وفي داخلي تضطرب مشاعر الخوف. قد أكون
مجنونا بالفعل، وهناك الكثير من الروائيين والمُبدعين الذين أُصيبوا بالجنون، لكن
أصدقائي لم يسمعوا- ولحسن حظي بهم. منهم الأمريكي إدجار ألان بو، والذي شاهدوه
يمشي في الشوارع وهو يهذي ويردد اسم "رينولدز". لم يتمكن أحد حتى الآن
من معرفة من هو "رينولدز"، أو لماذا كان ألان بو يُردد اسمه".
إن ذكر بوملحة لمثل هذه المواقف والحكايات في روايته إنما يُكسبها المزيد
من التشويق والمُتعة والطرافة؛ فالعمل الروائي هنا يتحول إلى عمل معرفي، ثقافي،
يستطيع منه القارئ استقاء العديد من المعلومات الثقافية الطريفة التي ينقلها لنا
الكاتب بأسلوب جذاب يبدو لنا تلقائيا أكثر من لجوئه إلى العمدية في إدخاله داخل
نسيج الرواية، لذا فهو أحيانا ما يلجأ إلى الكتابة الجادة بأسلوب هزلي يُكسب السرد
المزيد من المرح والطرافة لإدراكه الواعي أن لجوئه إلى هذا الشكل الروائي الذي انتهجه
لروايته قد يجعل القارئ ينصرف عنه أحيانا، وبالتالي نقرأ: "أدرك بأن الرواية
سحبت البساط عن باقي أجناس الأدب، مع هذا لا يمكن إنكار الأجناس الأخرى مثل الشعر
والقصة القصيرة. وهنالك العديد من المُبادرات الجيدة كالجوائز التي تعني بالإبداع
وتُكرم المُبدعين في مُختلف المجالات. ومنها جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع. لا
أريد أن يكون ذلك المثال غزلا صريحا مني للجنة تحكيم الجائزة. إذ أنني بدأت بكتابة
روايتي لغرض المُشاركة في الجائزة، وأخشى أن تتسبب هذه الجملة في استبعاد روايتي
من المُشاركة، أو في خلاف بين أعضاء لجنة التحكيم مثلما حدث مع رواية "السيدة
من تل أبيب" لربعي المدهون في مُشاركته في جائزة البوكر العربية عام 2009م،
حيث انسحبت عضو لجنة التحكيم، الدكتورة شيرين أبو النجا من الجائزة بعد استبعاد
رواية "اسمه الغرام" للروائية اللبنانية علوية صبح من القائمة القصيرة،
واختيار رواية ربعي المدهون التي استفزها فيها مقطع ذكر فيه بطل الرواية مروره
بمشروع للشيخ زايد بن سُلطان آل نهيان رحمه الله، ما اعتبرته مدحا واضحا لحاكم ما،
وهو ما يُضعف الرواية بحسب قولها".
من أين تنشأ الطرافة الهزلية، أو الساخرة في المقطع الروائي السابق؟
من ذكره لجائزة راشد بن حمد الشرقي التي عمد إلى كتابة هذه الرواية التي
بين أيدينا خصيصا كي يشترك فيها، بل ومُخاطبته للجنة التحكيم مُؤكدا عليهم أنه لا
يحاول مُغازلتهم هنا، وإذا ما عرفنا أن هذه الرواية التي نقرأها قد فازت بالفعل
بالمركز الثالث في هذه الجائزة المذكورة، يتبيّن لنا قدر الطرافة في هذا المقطع،
لكن هذه الطرافة، والاعتماد على تيار الوعي الذي يؤدي إلى الانسياق من خلف الأفكار
التي لها علاقة ببعضها البعض يفضي به في نهاية الأمر إلى ذكر الروائي ربعي المدهون
وفوز روايته بجائزة البوكر العربية، وهو الأمر الأساس الذي أدى ببوملحة إلى
الانسياق من خلف تأملاته حول فوز هذا العمل المُتهافت فنيا، واعتراض ربعي المدهون
على كل من انتقد روايته بإصداره لكتاب فيما بعد بعنوان "سوبر نميمة"،
وهو الكتاب الذي سب فيه كل ما تجرأ على انتقاد روايته، فضلا عن سب كل من ظن أنه
وقف في وجه فوزه بالجائزة في عام 2010م.
إن بوملحة في هذا الاتجاه إنما يحرص على تحويل ما هو معرفي وإخباري، غير
روائي، إلى روائي يمتلك المقدرة على الخلق والإدهاش، ولنتأمل: "اكتشفت أن
المدهون في كتابه يفصح عن وجه ناقم على الخليج، حاقد على الآخرين، حاسد لكل ناجح،
طماع جشع لا يشبع، ما بالي أشعر وكأنكم تنظرون إليّ باستغراب؟ يجب أن أفند ما قلته
حتى ترتاحوا. المدهون في "سوبر نميمة" خلع قناعه عن وجه بشع، عقل
مُتحجر، جنون عظمة، وفكر ضئيل وثّقه بمصداقية في الصفحة 19 كاشفا نفسه:
"الأدباء يمّه وأنا منهم، يصير عقلهم أحيانا أصغر من مخ العصفور"، وهذا
ما لمسته في الكتاب من حقد كبير، ورغبة في الانتقام ممن يظن أنهم وقفوا في طريقه
للفوز بجائزة البوكر 2010م، وحصر ذلك في شخص الروائي الكويتي طالب الرفاعي الذي
كان رئيس لجنة التحكيم وقتها، وتلميحات إلى الروائي السعودي عبده خال تستشف من بين
السطور عدم اقتناعه بأحقيته بالفوز، حيث أنه لم يُشد بروايته أو قوتها طوال السرد،
وكان ما صرح به عند فوزه: صحفي مُحترم، بس حاله مش أحسن من حالنا"، صحيح أن
بوملحة هنا يُضمن رأيه الشخصي في كتاب المدهون داخل سرده الروائي، لكنه من خلال
آلية السرد الخاصة به يحيل ما هو غير روائي إلى روائي صالح للتخييل السردي، وهو ما
يعود إليه غير مرة بشكل مُتقطع، غير مُتتال، وكأنما هو يبث حديثه عن المدهون كنتف
مُتناثرة داخل الرواية، فيقول: "لأعود إلى المدهون الذي بيّن بأنه لا يقبل أي
رأي مُشكك في روايته الفائزة، ويسلب ذلك الحق، فكما ذكر في الصفحة 97: بأي حق وطني،
أو أخلاقي، أو قانوني، أو إنساني، أو أي نوع من الحقوق يوظف فلسطيني ما، أو عربي
ما، أو حتى مخلوق هابط من الفضاء حديثا، نفسه قاضيا يأخذ القانون بقلمه، أو بلوحة
مفاتيح كمبيوتره، ويصدر بحق عمل أدبي إبداعي وصاحبه ما شاء من أحكام واتهامات؟
استغربت مما ذكره، وتساءلت: إن كان يصادر هنا حق إبداء الرأي على الأعمال
الإبداعية، ليتبع ذلك ويُسمي من انتقد عمله "هراء شعبويا" ليثبت من جديد
جنون العظمة الذي يعاني منه، ولتتأكدوا من ذلك لننتقل إل الصفحة 223: كل من لا
يقول: إن رواية مصائر أفضل رواية عربية خلال سنة 2016م مُخطئ تماما".
بالتأكيد حينما سنقرأ ما يسوقه الروائي هنا من كلام المدهون لا بد سنبتسم
سُخرية من هذا الروائي- المدهون- الذي لا يثق في مقدرته الكتابية، وكرس عامين
كاملين من حياته بعد فوزه بجائزة البوكر كي يكتب هذا الهراء الذي أسماه "سوبر
نميمة" لمُجرد الرد على النقاد الذين فندوا روايته، وأكدوا على ضعفها
وتهافتها، ومن ثم سبهم، واتهامهم بكافة الاتهامات المُمكنة. كان من المُمكن له أن
يسعد بفوزه بالجائزة، ويستمتع بهذا الفوز بعيدا عن أي ناقد كتب عنه، لكنه فضل على
تلك السعادة الشعور بالبؤس والحقد على الآخرين بما كرسه من وقت من أجل كتابته، وهو
ما يدفع بوملحة في روايته إلى تأمل هذا الوضع متسائلا: "لا أعرف السبب الذي
جعل المدهون لا يسعد بفوزه بالجائزة، ويكرس نفسه لبيان أحقيته بالفوز، عليه أن
يفعل مثلما قال "موغام": من أكبر أخطائي أنني كنت أمر على لحظات الفرح
مرورا عابرا، وأعيش الحزن بكل مشاعري. شعرت بالأسى نحوه وأنا أقرأ صفحات كتابه،
وأجده يقرن سعادته بالانتقام، بالطبع لم تكن سعادته تلك من أجل السعادة ذاتها:
ضحكت حتى أسمعت غزة ضحكي، وهمست لي وحدي ساخرا: تستحق ذلك يا طالب الرفاعي، يا
رئيس لجنة تحكيم دورة 2010م. يا للغرابة! عند عدم فوز روايته "السيدة من تل
أبيب" بجائزة البوكر 2010م صرح قائلا: فوز عبده خال عن روايته "ترمي
بشرر" بالجائزة، جاء تعبيرا عن ذائفة لجنة التحكيم، وأنت اعذريني يمه لا
تعرفين لجان التحكيم، ولا الذائقة التي يتحدث عنها المُثقفون. والتي وصفها في الصفحة
22 على لسان أمه رحمها الله: أضرط من لجان التموين. وعندما فازت روايته مصائر قال:
لأنها فعلا الأفضل وفقا لذائقة لجنة تحكيم الجائزة التي اختارتها في الدورة
التاسعة عام 2016م".
إن ما يسوقه بوملحة هنا في روايته هو أقرب إلى الرأي النقدي، لكنه استطاع
ببراعة إدخاله داخل النسيج الروائي باعتباره سردا روائيا- بما أن الراوي هنا هو
الروائي نفسه، وبما أنه في حديث متواصل معنا كقراء- مما أتاح له مثل هذا الحديث
الذي أمكن تماهيه مع نسيج العمل الروائي، ولنتأمل تناقض المدهون الذي اعتبر أن كل
من كان في لجنة تحكيم الجائزة في دورة 2010م، لا سيما رئيسها طالب الرفاعي، هو عدو
شخصي له، مُتحامل عليه وعلى روايته، ومن ثم لم يسلم من بغضه، وكراهيته له!
هذه الآلية السردية الخاصة جعلت الروائي مُنتبها لما يقوم به، ومن ثم
التحاور الدائم مع قارئه بأسلوبية فنية مقبولة، وطبيعية، وهو ما نقرأه في:
"أعلم بأن بعضكم سيقولون ما هذا الكلام، وسيصورون مقاطع من روايتي وينشرونها
على مواقع التواصل الاجتماعي. سيسن دعاة الفضيلة سكاكينهم ويبدأون بالهجوم عليّ:
ما هذا الكلام المنشور؟ أين أجهزة رقابة الكتب؟ حماية المُجتمع من الروائيين، أو
الروائيون، الأولى هي الصحيحة، ولكنني كتبتها حتى يعلم الروائيون بأن الروائي ليس
مُدققا لغويا، ولكن هذا لا يعني أن يكون الروائي لا ناقة له ولا جمل من
اللغة".
لاحظ هنا أن الروائي إنما كتب هذا المقطع السابق على سبيل السُخرية مما يدور في المُجتمعات العربية الثقافية منها، حتى أن سُخريته من الأفعال التي يقومون بها، والتي تُطالب بالمزيد من الرقابة، والخنق الإبداعي، تتعدى ذلك إلى سُخريته من إحاطة الروائيين باللغة الصحيحة من عدمها.
مع شيء من التأمل في الآلية الفنية، والأسلوبية التي انتهجها عبيد بوملحة
لكتابة عمله الروائي- وهو ما جعل الراوي في الرواية هو الروائي في الواقع في تماهٍ
مُتكامل لا ينفصل- نستطيع أن نفهم لماذا سعى الروائي إلى تجريد الكاتب داخل
الرواية وانقسام ذاته على نفسها في: "طاخ طاخ طاخ- لاحظ أن هذه اللازمة من
الطرق على الباب هي الحيلة الفنية التي يستطيع من خلالها الانتقال من مجموعة أفكار
إلى مجموعة أخرى- لم يكن طرقا على الباب، بل كنت أضرب رأسي بقوة على الجدار، أصوات
مُتعددة تصرخ في عقلي، يجب أن أبدأ بتفريغها على الأوراق، عدت بذاكراتي إلى مقطع
قرأته في رواية "الحب في المنفى" للروائي المصري بهاء طاهر: "أتكلم
طوال الوقت، ولكن مع نفسي، في رأسي حوار لا ينقطع". نهضت من مكاني، أردت
الكتابة، ولكن يجب عليّ أن أبدأ بفرز الأصوات قبل ذلك، بدأت أدور في الغرفة وأنا
أتحدث بكلام مُتداخل وغير مفهوم، كنت أخرج الأصوات التي تزعق في عقلي، وسُرعان ما
تلبستني، أرفض وأبدأ بإقناع نفسي، غضبت كثيرا فلكمت وجهي، وعند محاولة اللكمة
الثانية دافعت عن نفسي، وأمسكت بيدي اليسرى قبضة يدي اليمنى بقوة، وفجأة فلتت يدي
وأمسكت برقبتي، اختنقت، أكاد أفقد حياتي، سقطت على الأرض، وبكل قوة عضضت يدي إلى
أن تركت رقبتي، بقيت على الأرض بلا حراك، يجب أن ألجأ إلى هدنة بعد أن اكتشفت أنني
أقوى مني وبإمكاني أن أُفقدني حياتي، حضنت نفسي، وقبّلت الهواء، ومن ثم حركت يدي
وأنا أُسلم عليّ".
إن انقسام ذات الروائي في روايته قد يكون سببها الرئيس هو تماهي الروائي
الواقعي مع الروائي داخل الرواية، لكن الأمر غير مُقتصر على هذا السبب فقط، بل
يتعداه إلى أن الكاتب- أي كاتب- هو بالفعل عبارة عن شخصيات مُتداخلة ومُتناقضة في
حالة صراع دائم مع بعضها البعض، ومن خلال هذا الصراع يتولد داخله الإبداع،
والمقدرة على الخلق- ربما علينا أيضا الانتباه إلى أن هذه الحالة المُنقسمة للذات
تنتاب الكثيرين منا في الحياة العادية، وليس الكتاب فقط.
إن تماهي عبيد بوملحة مع راويه داخل الرواية يذكره لنا بشكل صريح ومُباشر،
أي أنه لا ينكر بأن الروائي داخل الرواية هو نفسه الكاتب الذي يكتبها في الواقع،
صحيح أنه أشار إلى ذلك عدة مرات من خلال ذكر أسماء أعماله الروائية السابقة، ولكنه
يعود ويذكر ذلك مرة أخرى بشكل لا شك فيه حينما نقرأ: "توقفت عن الكتابة
لانشغالي بالضحك، اعذروني على ذلك، فقد تذكرت حوارا نُشر لي في إحدى المجلات، وتمت
عنونته "عبيد بوملحة: يشبهونني بنجيب محفوظ"، لأواجه بسيل من الانتقادات
ونظرات الاستنكار ليحصلوا مني على الشفقة لغبائهم، فقلت في نفسي: آن لي أن أمد
رجليّ، إذ أنهم لم يتعبوا أنفسهم بقراءة الحوار، ومعرفة السبب الذي جعل المجلة
تختار ذلك العنوان، ولن أذكره في الرواية أيضا، لأنني أحب القارئ الشغوف والذي
يبحث عما يريد قراءته، ولا يتأثر بنظرية القطيع، حيث بتنا نرى في الآونة الأخيرة
أن القراء يتبعون فقط الكتب الأكثر مبيعا، أو كتاب تحدث عنه أحد المشاهير، أو كان
الكاتب معروفا، ولا يجشمون أنفسهم عناء البحث عن الكتب ولذة الاستكشاف، نظرية
القطيع"، أي أن الكاتب هنا داخل الرواية هو نفسه عبيد بوملحة ذاته الذي يكتب
الرواية في العالم الواقعي، ولعلنا لا بد لنا من الالتفات في هذا المقطع إلى إصرار
الكاتب غير مرة في ذكر بعض الأمور غير المُكتملة، داعيا القارئ إلى البحث بنفسه عن
كيفية استكمال المعلومة، أو معرفة سبب ما، فهو لا يحترم العقلية غير البحثية التي
تميل إلى الكسل بدلا من البحث.
استغراق الرواية التي بين أيدينا في عالم الثقافة، والمعرفة، والمُثقفين،
والكتاب من شأنها أن تستدعي بالضرورة الحديث عن آليات الكتابة المُختلفة، وما
يواجه الكتّاب- غالبا- من عوائق قد تعطلهم، أو تقف لهم بالمرصاد عن مواصلة
الكتابة، وهو ما سعى الروائي إلى ذكره في روايته؛ فهو إن تجاهل هذا الأمر، ولم
يذكره، سنستشعر بأن ثمة نقص ما ينتاب الرواية المُنغمسة كلية في عالم الكتابة وما
يدور فيه؛ لذا فبوملحة يلتفت إلى أثر فعل الكتابة على ذاته- وربما هو ذات الأثر
على غيره من الكتّاب- في: "اعتدت الكتابة في ميونيخ التي أعتبرها مكان عزلتي،
أسافر إليها في نهاية ديسمبر من كل عام، وأجلس هناك لمُدة شهرين تقريبا، أختفي عن
العالم ووسائل التواصل الاجتماعي، وأتفرغ للقراءة والكتابة فقط، أتذكر حديث علي
أبو الريش إذ قال في إحدى المرات: إذا كنت تكتب لساعتين فعليك، وعلى أقل تقدير، أن
تقرأ لأربع ساعات. لذلك أسافر وأنتقل بين ضرتين، وهما الكتابة والقراءة، عندما
أنتهي من كتابة الرواية أنكب على القراءة، أشعر بأن الرواية تستهلكني وتُفرّغ عقلي
مما فيه، إذ أن الرواية المكتوبة تكون خلاصة وعصارة فترة ماضية من القراءة
والتعامل مع الناس والمُشاهدات والتحليل، وجمع المعلومات، وأهم ما أنتظره هو
التوصل إلى ابتكارية سردية تجعلني جاهزا للإقدام على الخطوة الأولى في الكتابة،
والتي أنتظرها أن تحين بومضة في حلم".
في هذا الاقتباس السابق يحاول الروائي وصف المُعاناة التي يعانيها الكاتب
من عملية الكتابة، وتفريغه بالكامل للدرجة التي قد تُشعره بالخواء الكلي بمُجرد
الانتهاء من كتابته، أي أن فعل الكتابة هو فعل مُرهق على كل المستويات، لكننا
سنُلاحظ أيضا أن الروائي- بوملحة- هنا إنما يذكر مجموعة من الأشياء الواقعية التي
يقوم بها بالفعل في حياته الواقعية، منها كتابته في شقته الخاصة في ميونيخ لمُدة
شهرين من كل عام، وانعزاله تماما عن العالم، وربما لا يفوتنا حرصه على ذكر العديد
من الأشخاص الواقعيين على طول العمل الروائي، وهو ما رأيناه في هذا المقطع بذكره
للروائي الإماراتي علي أبو الريش وما دار بينهما من حوار.
هذه المُكابدة التي يلاقيها الكتّاب مع كتاباتهم، لا سيما اللغة التي قد تصيبهم بالجنون من أجل البحث عن مُفردة مُناسبة من أجل التعبير عما يريدون أن يقولوه، أو يقوموا بوصفه، وهو ما لا يفوت الروائي، ومن ثم يقوم بوصفه على لسان إحدى الألمانيات: "دخلت مرة مقهى في ميونيخ يقع في "مارين بلاتز" وجلست أقرأ، اقتربت مني نادلة شابة يعلو ملامحها الاستغراب، وأخبرتني بأنها تعمل مُنذ سنوات في هذا المكان، وهذه ثاني مرة لها ترى عربيا يقرأ. صوتي ليس أجشا لأقف وأعطيها مُحاضرة عن أمة اقرأ. في الواقع لم أستطع الرد. ثم سألتني عن طبيعة عملي فأخبرتها بأنني أكتب الروايات، وما إن قلت ذلك حتى تغيرت ملامحها، وعبس وجهها، وقالت بحزن: إنكم ترهقون أنفسكم من أجل جملة، تتكبدون عناء كبيرا من أجل أن تبيّنوا لنا الحقيقة، تبنون قصصا لغرض إمتاعنا وبذلك تسعدوننا، قالت كلمات كثيرة لامستني بذلك الوجه المُتعاطف، فقليل من يشعر بنا، وددت أن أقف وأحتضنها، وأبكي على صدرها". هذا التعاطف ومحاولة وصف ما يعانيه الكاتب من أجل انتقاء مُفرداته للتعبير عن الحالة الراغب في التعبير عنها هو ما يؤكد عليه الروائي غير مرة في روايته، ولنتأمل: "قد يكون لسان الكاتب مقالا يُطبع في صحيفة تُوزع برميها على الأبواب، تضرب الأبواب بصمت، وتسقط على الأرض كجثة هامدة تواجه البرد والعراء، وتقلّب صفحاتها الرياح أو الريح، جمعها كمُفردها، في النهاية هي هواء ثائر، أو هواءات، أو أهوية، لأضع "إس الجمع" في نهاية الكلمة، هواء s، لم أنجح في ذلك حتى باستخدام قاعدة الجمع في لغة أخرى. إذن هي لا تُجمع، الأصل لا يُجمع وتفرعاته يجوز لها ذلك، هذا إن كان الهواء أصلا للرياح من الأساس. على العموم هكذا هو الكاتب، لا أُلمح إلى الرياح أو الهواء، وإنما أتحدث عن كتبه ومقالاته، أو حروفه. هي ليست حروفا وإنما أفكار تُصاغ بطريقة الكتابة حتى تصل".
لاحظ هنا حالة الجنون التي قد تنتاب أي كاتب من أجل البحث عن مُفردة
مُناسبة، أو جمعها، أو مُفردها، أو ما يخص اللغة التي يكتب بها، حتى أنه يحاول
الجمع هنا باستخدام قواعد لغة أخرى لا يمكن لها أن تنطبق على اللغة التي يكتب بها،
لكنه اليأس الذي يشعر به حينما لا يستطيع الوصول إلى الاختيار المُناسب لما يقوم
بكتابته لغويا، لذا فهو يصف الكتابة- مُستعيرا في ذلك قول كافكا- بأنها المُحافظة
على الذات، أي أن الكتابة في جوهرها هي فعل وجودي لا غنى عنه بالنسبة لأي كاتب:
"سوف أكتب رغم كل شيء، سوف أكتب على أي حال، إنه كفاحي من أجل المُحافظة على
الذات. إنها مقولة لفرانز كافكا، والذي لم تذع شهرته إلا بعد مماته، لم ينشر إلا
أقل القليل في حياته، وأوصى صديقه "ماكس برود" بأن يحرق جميع المسودات
التي كتبها بعد موته. لم يُنفذ صديقه وصيته، ونشر كتبه كلها. لم يثق بكتاباته،
وعندما قرأ ماركيز رواية "المسخ" التي كتبها "فرانز كافكا" قال
عنها: لم أعرف من قبل أن أحدا يُسمح له بأن يكتب شيئا كهذا، ولو كنت أعلم هذا
لبدأت الكتابة مُنذ زمن طويل".
هذا الالتفات إلى حال الكُتّاب والكتابة وما يكابدونه، لا يجعله ينسى
انتقاد العديد من الظواهر التي يراها داخل الأوساط الثقافية العربية، حتى أنه يصل
به الحال إلى الظن بأنه لا يوجد قراء في الحقيقة بقدر وجود كتاب يقرأون لكُتّاب
آخرين، حتى لكأنما عالم الكتابة قد تحوّل إلى عالم وهمي، يوهم فيه الكُتّاب بعضهم
البعض بأن ثمة قارئ يكتبون له، في حين أنهم لا يكتبون سوى لأنفسهم، حيث يتداولون
الكتب، ويتبادلونها فيما بينهم: "بحضوري معرض الشارقة الدولي للكتاب 2019م
رأيت حفل أكبر توقيع في العالم للكُتّاب، فتجاوز عدد الكُتّاب الـ1500 كاتب، كان
المعرض مُزدحما وقتها بالناس، لم يسبق له أن كان كذلك في الأيام التي قبله.
راودتني فكرة وجدتها مُخيفة بعض الشيء، لكن طريفة: أن تصبح معارض الكتاب في
المُستقبل للكُتّاب فقط، يشترون كتب بعضهم، ويهدون بعضهم، ويقرأون لبعضهم
البعض"!
إنه ما نراه في الأعم الأغلب من المعارض، حيث يُهيأ لنا أحيانا بأن عدد
الكُتّاب في الواقع أكثر من عدد القراء، مما يدهشنا من هذه الوفرة العددية ممن
يقبلون على الكتابة، وهو ما يجعل الروائي يُعرج على بداياته الروائية، وما حدث له
مع أول تجربة روائية كتبها وحاول نشرها: "عندما انتهيت من كتابة أول رواية لي
"رجل بين ثلاث نساء"؛ حسبت أن الوسط الأدبي سيتلقفها بكل حفاوة، سنتان
وأنا أبحث عن ناشر للرواية، خاطبت 47 دار نشر"! ربما تنتابنا الدهشة هنا
للرقم الكبير من دور النشر التي عرض الكاتب عليهم نشر روايته، ولم تقبلها- رغم
موهبة الروائي- وهو تعبير صادق لما يعانيه الكثيرون من الكتاب المُبتدئين الذين
يخطون خطواتهم الأولى في عالم النشر، وبما أن دور النشر لا تحب- في الأغلب الأعم
منها- المُغامرة؛ فهم إما يرفضون نشر أعمال الكتاب الجُدد، أو يطلبون منهم مبالغ
مالية طائلة للموافقة على نشر ما يكتبونه، وبالتالي يكون الناشر قد ضمن عدم خسارته
إذا ما نشر هذا العمل الجديد، ولم يقبل عليه أحد.
يستمر عبيد بوملحة في روايته في الانتقال من فكرة إلى أخرى، ومن تأمل فيما
يدور حولنا إلى تأمل آخر، وهو في هذه الانتقالات المُتتالية يبرع كثيرا في ربطها
ببعضها البعض لصناعة رواية "لاحدثية" بامتياز، وإن كانت تمتلك مقوماتها
الروائية داخلها، بأسلوب روائي بارع، وسلاسة لغوية لافتة، وخيال خصب قادر على
ابتكار الحكايات المُتعددة التي قد تبدو مُنفصلة عن بعضها البعض شكلانيا للوهلة الأولى،
وإن كانت مُرتبطة ببعضها البعض ارتباطا وثيقا، حتى أن هدير السرد الروائي لديه،
والآلية التي لجأ إليها يسمحان له بالاستمرار في السرد إلى ما لانهاية، لكنه يُدرك
أن هذا قد يفسد عليه فنية الرواية التي يكتبها؛ لذا ينتبه إلى هذا الفخ الفني؛ مما
يجعله يلجأ إلى إقفال عالمه الروائي الخصب بكتابته: "طاخ طاخ طاخ. الطرق لم
يتوقف، ركضت إلى الباب، فتذكرت بأنني كنت وحيدا في المنزل، التفت إلى الخلف، ورأيت
الشبح ينظر إليّ. طاخ طاخ طاخ. فتحت الباب، رأيت الشبح يقف في الخارج أيضا. وقبل
أن يقترب مني أريد أن أخبركم بأن الفتاة التي كنت أنتظرها في كل معرض كانت طيفا.
جلست على الأرض أرتل ما قاله أفلاطون في محاورته مع فيدروس: الإنسان الذي يقرع
الباب ظانا أنه سيتمكن من دخول الهيكل بعون من الفن، دون أن تكون روحه قد أُصيبت
بطائف من ذلك الجنون الذي تجود به ربات الشعر، أقول: إن هذا الإنسان لن يُسمح له،
ولا لشعره بالدخول، فالإنسان العاقل لا يستطيع أبدا أن يجاري الإنسان المجنون في
حلبة المُنافسة. طاخ طاخ طاخ. أنا مجنون".
أي أن الكاتب هنا إنما يلجأ إلى هدم الكثير من الحقائق التي مال القارئ إلى
تصديقها في العمل الروائي الذي بين يديه حينما يصرح له الروائي بأن مُعظم ما انبنت
عليه الرواية لم يكن حقيقيا، إنما كان خيالا، وتصورا من الكاتب أثناء كتابته
لروايته، فصحيح أن الرواية بالكامل مبنية على أن ثمة من يطرق باب غرفته المُنعزل
فيها من أجل الكتابة، لكنه يصرح في فقرته الأخيرة بأنه قد انتبه إلى أنه كان وحيدا
في المنزل، ومن ثم فوجود من يطرق الباب عليه لا يوجد في واقع الأمر سوى في خياله
هو فقط الذي صور له أن ثمة من يطرق الباب، ويحاول إقلاقه وتشتيت انتباهه، وهو ما
قد نرجعه إلى خوف الكاتب من فقد تركيزه الكتابي، ونتيجة لهذا الخوف فلقد تشيأ له
خوفه في مثل صوت الطرق الذي لا ينتهي، كما أن الكاتب هنا قد أصابته حالة ما من
الضلالات، أو الهلاوس والتخيلات التي تجعله يرى شبحا داخل الغرفة، وخارجها في آن،
فضلا عن أنه يؤكد على جنونه، بما أن أفلاطون قد أكد بأن من يصيبه مسا من الجنون
فقط هو من يدخل هيكل الفن، أي أن الروائي هنا يبدو لنا مُتماهيا تماما مع الحالة
الفنية التي يسعى من أجل التعبير عنها مما أوقعه في شركها وبات يعيش فيها بالكامل.
إن رواية "أحدٌ ما يطرق الباب" للروائي الإماراتي عبيد بوملحة من
الأعمال الروائية المُتميزة في اعتمادها على اللاحدث، فلا قصة تقليدية بشكلها
الكلاسيكي، ولا حبكة روائية، إنما يعتمد الروائي هنا على الأفكار، سواء منها
المُجردة، أو الحكايات والأحداث التي حدثت له بالفعل في حياته الواقعية، مما يؤدي
إلى التماهي المُتشابك ما بين الخيالي والواقعي في شكل روائي مُتميز برع فيه
بوملحة إلى حد بعيد، ووصفه لنا بشكل فيه الكثير من التمهل، والروية، والمُتعة، لا
سيما أن الروائي هنا كان يمارس شكلا من أشكال المُتعة، واللعب الخاص به. صحيح أنه
قد مال إلى المُخاطرة بالرواية بالكامل بالاعتماد على الأفكار، والتحصيل الثقافي،
وذكر المواقف، ومُناقشة الكثير من الأفكار النقدية منها، وغير النقدية، إلا أنه
نجح إلى حد بعيد في صياغة كل هذه الحصيلة الثقافية في شكل روائي مُتماسك، مُستخدما
في ذلك لغة روائية شديدة السلاسة والانسيابية، باعتماده على آلية سردية مُهمة
ساعدته كثيرا في اجتياز هذا النص بنجاح، وهي آلية تيار الوعي المُعتمد على التداعي
الدائم والمطول للأفكار مما يحيل السرد الروائي إلى شكل حلمي، أو سيريالي يحكمه في
النهاية واقع الأحلام أكثر من عالم الواقع.
مجلة "نقد 21"
عدد إبريل 2025م.