إن مُجرد التفكير في مثل هذه
النقطة، أو التوقف أمام هذا التساؤل لا بد أن يصيبنا بالكثير، أو القليل من الحيرة
والتردد إلى حد ما؛ فمشاعر الاختلاف والهجر والفقد مع من نحبهم تصيبنا بالكثير من
الجراحات والألم والمشاعر القاسية؛ لذا فإذا ما خُيرنا بين حب من دون ألم، وآخر لا
بد أن يكون فيه بعض هذا الألم، لا بد لنا من اختيار الثاني، لكننا سنعيد التفكير
مرة أخرى؛ لأن العشق لا يمكن له أن يقوم ويكتسب معناه ورونقه، وجمال إحساسه من دون
التواصل الحميمي الذي سنكون محرومين منه في العلاقة الثانية؛ مما قد يصيبنا
بالتخبط في إجابتنا تجاه السؤال.
إن الإجابة على هذا التساؤل
لا يمكن لها أن تتوقف على احتياجات كل منا- ومن ثم لا بد لها أن تختلف- لأن جوهر
العلاقات العشقية هو التلامس الذي نعبر من خلاله عن هذا العشق، ومن ثم لا يمكن أن
تكون هناك علاقة من دونه؛ أي أننا بالتأكيد سنختار في النهاية امرأة حقيقية مهما
كانت العلاقة بيننا وبينها تحتمل الكثير من الخلافات أو النزاعات أو الهجر أو الألم والقسوة أحيانا؛ فالإنسان
كائن اجتماعي لا يمكن له أن يميل إلى العزلة مع جهاز كمبيوتر من أجل الدخول معه في
علاقة.
هذا التساؤل كان هو جوهر فيلم Her الذي ظل فيه مُخرجه يتأمل في الفكرة مُقلبا إياها من جميع جوانبها؛ ليؤكد لنا في النهاية أن حياة البشر مع أجهزة الكمبيوتر المتطورة، أو الفائقة الذكاء من الأمور المُستحيلة، بل هي من الأمور التي لا بد لها من تدمير وسحق البشرية لا سيما المشاعر الإنسانية التي لا يمكن لها أن تستمر من دون تبادلها مع غيرنا مع البشر، وليس مع الآلات التي قمنا بتصنيعها وتطويرها.
يقدم لنا المُخرج شخصية
ثيودور- قام بدوره المُمثل الأمريكي Joaquin Phoenix خواكين فينيكس- منذ المشهد الأول والتأسيسي للعالم الفيلمي، وهي
الشخصية المحورية التي ستظل الكاميرا تتابعها في كل مشاهد الفيلم تقريبا؛ نظرا لأن
الفيلم يقوم على هذه الشخصية بعينها، والعلاقة التي ستدخل فيها مع امرأة الحاسوب!
نعرف أن ثيودور يعمل في إحدى الشركات المُتخيلة في المُستقبل، وهي الشركة التي يقوم من خلالها بكتابة الخطابات نيابة عن الآخرين العاجزين عن التعبير عن مشاعرهم التي يشعرون بها، أو لأنهم لا يمتلكون من الوقت ما يسمح لهم بكتابة الخطابات التي لا بد من كتابتها- يبدو أننا في المُستقبل القريب سنحتاج إلى هذه الخدمات مما يدل على تقطيع أواصر العلاقات- لكن، إشارة المُخرج إلى مثل هذه الوظيفة التي بدأ بها فيلمه تؤكد لنا بالضرورة على وصول المُجتمع إلى حالة مُخيفة من حالات العجز عن التواصل الإنساني، والتعبير عن مشاعره المرهفة والعميقة، ولعل تأمل المُخرج فيما وصلت إليه الإنسانية من تقدم في مجال التكنولوجيا، وسيطرتها على كل ما يحيطنا هو ما جعله يتأمل في مثل هذه الافتراضية وما يمكن أن نصل إليه إذا ما سادت هذه التكنولوجيا في حياتنا بالكامل، كما لا يفوتنا أن اختيار المُخرج لهذه الوظيفة لشخصيته المحورية تدل في جانبها الحقيقي منها بأنه يمتلك الكثير من المشاعر المُرهفة الدافئة والقدرة على التعبير ما لم يعد يتأتى للآخرين، لكننا سنلاحظ أنه رغم امتلاكه لهذه الملكة المُهمة التي لا غنى للإنسان عنها إلا أنه يعجز عن التواصل الإنساني الحقيقي!
هذه العلاقات الإنسانية التي انبتت أواصرها سيجتهد المُخرج في التركيز عليها بشكل شديد العفوية في الكثير من مشاهد الفيلم للتأكيد عليها- أو على حالنا إذا ما وصلنا إليها- نلاحظ ذلك- على سبيل المثال- حينما يستقل ثيودور المترو ليضع سماعة دقيقة في أذنه مُتحدثا إلى حاسوبه، طالبا منه تشغيل أغنية كئيبة، أو تصفح بريده الإليكتروني الخاص، أو تصفح عناوين الأخبار، وكأنه لا يوجد بشر على الإطلاق من حوله رغم كثرتهم، لكننا سنلاحظ أيضا أن كل منهم مُنشغل في فعل ما يفعله ثيودور، أي أن الجميع قد تحولوا إلى مجموعة من الجزر المُنعزلة، أو لكأنما البشر أنفسهم قد تحولوا إلى ريبوتات بينما اكتسبت الريبوتات الصفات الإنسانية والمقدرة على الفعل. لا يتوقف الأمر هنا على مثل هذا الفعل الذي يفعله ثيودور أو غيره فقط، بل يتعداه إلى الوحدة العارمة التي يشعر بها ويعيش مُستغرقا فيها؛ فنراه دائما ما يسير وحيدا، فضلا عن عزلته الدائمة في منزله للعب ألعاب الفيديو جيم الثلاثية الأبعاد والتي نراها من خلال شاشة عملاقة تملأ جدار كامل في المنزل وكأنها حقيقة، أي أنه يظن بما يفعله بأنه هروب من الوحدة والعزلة، أو تغلب عليهما في حين أن هذا الفعل يوغل في العزلة أكثر مما يمكن تخيله!
هذه العزلة الاجتماعية القاسية- للمُجتمع ككل- يقدمها لنا المُخرج في مشهد آخر شديد التعبيرية حينما يتجه ثيودور إلى فراشه شاعرا بالوحدة القاتلة؛ ليأمر حاسوبه بالبحث عن امرأة في غرف الدردشة من أجل التواصل معها، وتدور بينهما علاقة جنسية شفهية مُصطنعة يعجز ثيودور عن إكمالها لإحساسه باصطناعها وعدم حقيقيتها من جهة، ولغرابتها من جهة أخرى؛ حيث ذوت الرغبة الجنسية من داخله حينما قالت له المرأة: اخنقني بهذا القط الميت، القط الميت المجاور للسرير، اخنقني به. إن التعبير الذي رأيناه مُرتسما على وجه خواكين فينيكس حينما استمع للمرأة تطلب منه هذا الطلب الغريب والشاذ فيه من التعبيرية والمقدرة على الأداء ما يؤكد موهبته وفهمه لشخصيته؛ حيث يفتح عينيه فجأة ناظرا في الفراغ بدهشة، كما تزول ملامح الرغبة التي كانت مُرتسمة على وجهه ليحل محلها الكثير من الانزعاج، ورغم أنه حاول الاستمرار معها فيما تطلبه إلا أنه لم يكن صادقا، بل كان مُضطرا للإكمال فقط وكأنما الأمر قد بات عبئا عليه، أو مُجرد كابوس يرغب في التخلص منه.
إذن فالوحدة الاجتماعية، وعدم
المقدرة على التواصل الإنساني لا بد لهما أن يؤديا إلى الكثير من التشوهات
الداخلية التي لا يمكن رأب صدعها الذي سيظل يتسع يوما بعد الآخر حتى يقع الإنسان
في نهاية الأمر داخل هوة سحيقة لن يعود منها مرة أخرى.
يرسم لنا المُخرج سبايك جونز
شخصيته الرئيسية بمهارة وتؤدة ومهل، وكأنه يستمتع برسم الشخصية؛ لذا لا يفوته
تقديم تاريخها لمعرفة السبب الرئيس في مثل هذه الوحدة العميقة والإعراض عن التعامل
مع الآخرين من البشر، هذا التاريخ الاجتماعي لشخصية ثيودور ومُعاناته السابقة يبثه
لنا المُخرج غير مرة من خلال تذكر ثيودور مُستخدما أسلوب الفلاش باك Flash Back، حيث لا يفتأ مُتذكرا ما كان بينه وبين حبيبته وزوجته السابقة من
عشق وحب واحتياج انتهى في النهاية بالانفصال والإعداد لإجراءات الطلاق بينهما، إن
تذكر ثيودور للعديد من المواقف التي كانت بينه وبين زوجته السابقة فيها الكثير من
الألم والحسرة اللذين يعتصرانه حتى النخاع، وهو ما يبدو دائما على ملامحه، والرغبة
في الإعراض عن مُخالطة الآخرين، بل تبدو هذه الحسرة والندم في حديثه دائما لا سيما
حديثه مع المرأة التي سيتعرف عليها في الحاسوب- المرأة المصنوعة غير الحقيقية- حيث
يخبرها غير مرة بأنه دائما ما يضبط نفسه مُتحدثا مع زوجته السابقة في خياله محاولا
أن يحل ما كان بينهما من خلافات حدثت وأدت بهما إلى مثل هذا المصير المُؤلم، كما
أنه يخبرها بأنه غير قادر على تصور أو إمكانية استكمال الحياة التي بدأها بها من
دونها، وكيف أنهما كبرا مع بعضهما البعض يوما بعد يوما، واكتسبا الكثير من الخبرات
والنضج مع بعضهما، ثم سرعان ما ابتعد كل منهما في اتجاه يخصه لتنقطع بينهما
الأواصر، ويستحيل الاستمرار رغم عشقه الحقيقي لها.
إذن، فهو فيلم عن الشعور العميق بالاغتراب والوحدة، فيلم يؤكد على أنه طالما كانت هناك حياة اجتماعية طبيعية؛ فلا بد لنا من الاختلاف، والنزاع، والعراك، لكن في مُقابل ذلك- ولأنه أمر طبيعي تبعا للطبيعة الإنسانية- لا بد لنا من التعقل والعمل على حل هذه الخلافات الطبيعية من أجل استمرار الحياة، ورعاية مشاعرنا ومشاعر من نحبهم؛ لأن عدم الانتباه إلى حل خلافاتنا سيؤدي بنا بالضرورة إلى مثل هذا الموقف العبثي، والحياة الخاوية القاتلة التي لا قيمة لها، والتي ستحولنا إلى مجرد روبوتوتات، أو كائنات بشرية فقدت أرواحها وباتت تتحرك في الحياة بشكل آلي لا معنى له، لمجرد أنهم مضطرون إلى الاستمرار فقط.
هذا الحل الضروري- حل
خلافاتنا مع من نحبهم من أجل استمرار الحياة والمشاعر- هو ما عبر عنه ثيودور بحسرة
وألم وإحساس عميق بالذنب تجاه انهيار علاقة زواجه حينما قال لسامانتا- قامت بدورها
الصوتي المُمثلة Scarlett
Johansson سكارليت
جوهانسون- امرأة الحاسوب: أظن إني أهملتها، وتركتها وحيدة في العلاقة. فتسأله:
لماذا لم تُطلقا بعد؟ ليرد: لا أعلم، الأمر بالنسبة لها مُجرد ورقة لا تعني أي
شيء. تسأل: وماذا عنك؟ يقول: لست مُستعدا، أحب كوني متزوجا. فتقول: حسنا، لكنك لست
كذلك، لم تتقابلا منذ أكثر من سنة؛ فيرد بحسرة: لا تعرفين ما هو شعور خسارة أحد ما
تهتمين لأمره، أظل أنتظرها، وأهتم لأمرها دائما. لتقول: هذا قاس.
يبدو الأمر هنا بالفعل موغلا في القسوة، وهو ما نراه في عزلته وشكل حياته، فضلا عن تذكره الدائم واستعادة ما كان بينهما في حياتهما من حب وعشق وسعادة كانت تحيطهما، لكن رغم هذه الحسرة التي تعتصره إلا أنه غير قادر على استعادة زوجته الراغبة في الطلاق؛ ليقع هو في هوته الساحقة رغم اعترافه بأخطائه معها.
يرى ثيودور أحد الإعلانات الذي يعمل على الترويج لحاسوب جديد، أو برامج تشغيل بذكاء اصطناعي OS1، وهي عبارة عن برامج تتحدث بصوت رجل أو امرأة تبعا لما يرغبه مالك البرنامج، يساعده في كل ما يرغبه من أمور، فضلا عن أنه يتحدث معه كالبشر تماما في أي شيء، وهي برامج لديها القابلية للنضوج والتطور الذاتي كل دقيقة. يقتني ثيودور أحد هذه البرامج، ويختار صوت امرأة، لكنه يفاجأ معها أنها كالبشر تماما ولا يمكن لها الاختلاف عنهم، أي أن الخلاف هنا ينحصر في أنها من دون جسد فيزيقي من المُمكن رؤيته أو لمسه فقط، أما ما هو غير ذلك؛ فهي تتمتع بالموهبة في فعل كل شيء، والحديث اللبق، وتفهم الأمور، والنصيحة، بل وتتطور لديها قدراتها إلى إدراك مفهوم المشاعر والحزن والسعادة، بل والعشق أيضا، والرغبة في امتلاك جسد إنساني؛ مما يجعلها تقع في عشق ثيودور ويبادلها بدوره عشقها بعشق!
تعرف سامانتا عن ثيودور كل
دقائق حياته وأسراره وتبدي له الكثير من الإعجاب بالرسائل التي يتفنن في إبداعها
من خلال عمله للآخرين، كما تقوم بترتيبها، بل وإرسالها إلى أحد الناشرين الكبار من
دون إخباره لجعل الأمر مُفاجأة له حينما يقبل الناشر بنشر الكتاب، كما تشجعه على
مواعدة امرأة أخرى بدلا من هذه الوحدة والحزن العميقين اللذين يعيش داخلهما، لكنه
حينما يحاول الاستماع إلى نصيحتها ويذهب بالفعل في موعد مع امرأة- قامت بدورها
المُمثلة الأمريكية Olivia Wilde أوليفيا
وايلد- يفشل في الاستمرار في المواعدة، ولا يكملها قبل الذهاب معها إلى منزلها، أي
أنه يزداد فشلا في التواصل الإنساني العميق الذي بات غير قادر عليه، أو أنه قد
تحول بالنسبة له إلى مُجرد عبء لا يمكن له احتماله أو فعله؛ لتأكده بأنه، لا
محالة، سيفشل في الاستمرار مثلما سبق أن حدث بينه وبين زوجته السابقة.
ربما كان مشهد مواعدته للفتاة التي لم يكمل الليلة معها من أهم المشاهد السينمائية في الفيلم، والمُعبرة عن فقدان التواصل الإنساني لمحتواه وتحوله إلى مُجرد كلمة جوفاء لا مضمون لها، ولا مقدرة بشرية على الإتيان بها حينما نرى ثيودور مع المرأة في مشهد تقبيل وتلامس حميمي فتسأله من خلال أنفاسها المُتهدجة اللاهثة: لن تضاجعني ولا تتصل بعدها مثل الأشخاص الآخرين، أليس كذلك؟ في سني هذه أشعر أنه لا يمكنني أن أدعك تضيع وقتي إذا لم تكن قادرا على أن تكون جديا. هنا يفضل ثيودور الانسحاب صادقا وعدم إكمال الليلة معها؛ لعدم مقدرته، وعجزه عن الالتزام بعلاقة إنسانية كاملة ودائمة وطبيعية؛ فترد عليه دامعة مُتحسرة: أنت شخص غريب حقا.
إن الحاجة الماسة من الفتاة
للتواصل الإنساني المُستمر بدلا من وحدتها، والحاجة نفسها في الجانب المُقابل لدى
ثيودور- رغم عجزه عنها- يدلان على أن المُجتمع بالكامل يقع في العزلة الكاملة،
والشعور العميق بالاغتراب، أي أنه يتشوه بعمق غير قادر على الحفاظ على هويته الإنسانية
وطبيعيته.
حينما يعود ثيودور إلى منزله؛
تسأله سامانتا عن اللقاء إلا أنه يؤكد لها فشله فيه، وهو ما يشعرها بشيء من الراحة
رغم أنها هي من دفعه للمضي فيه قدما.
رغم أن حياة ثيودور لا تخلو
من الأصدقاء لا سيما صديقته المُقربة إيمي- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Amy Adams إيمي آدامز- وزوجها، إلا أنه حريص على ندرة اختلاطه بهما، لكن من
خلال هذه الصداقة يؤكد لنا المُخرج مرة أخرى بشكل أعمق أن الخلافات الطبيعية بين
البشر- والتي لا بد منها طالما كانت هناك حياة بشرية وعلاقات- لا بد بها أن تؤدي
بنا إلى الكثير من الوحدة والحسرة والتمزق والألم النفسي إذا لم نحرص على حلها،
وأننا إذا ما حاولنا تأمل هذه الخلافات بعقلانية لتأكد لنا في النهاية أنها لا
تستحق الفراق والألم اللذين تسببانه، لكننا نتسرع دائما في الحُكم على ظواهر
الأشياء ونتخذ خطوات كثيرة الانفعالية؛ مما يؤدي في النهاية إلى خسراننا مشاعرنا
وعشقنا وحياتنا مع من نحبهم لنستغرق في آلامنا إلا ما لا نهاية. وهو ما رأيناه مرة
أخرى بين إيمي وزوجها حيث اختلفا عدة مرات على أمور تافهة لا معنى لها نتيجة
لاختلاف أسلوب كل منهما في طريقة الحياة؛ فهو يرغب في بيت مُرتب نظيف، لذلك حينما
يدخل إلى البيت معها يكون حريصا على تنبيهها بضرورة وضع الحذاء بجانب الباب حيث
توضع الأحذية، ولأنها ترغب في الراحة أولا بمجرد دخولها للبيت؛ ترجئ خلع حذائها مما
أدى إلى الكثير من النقاشات والخلافات بينهما في هذه الأمور الصغيرة التي لا معنى
لها، ورغم أنها بالفعل أمور وخلافات لا تعني شيئا، إلا أن الزوج يراها أمورا
ضرورية وبديهية من أجل الحفاظ على بيت مُرتب، بينما ترى إيمي أنه يحاول دائما فرض
أسلوبه على حياتها؛ الأمر الذي يشعرها بالتقصير الدائم؛ مما أدى في نهاية الأمر
إلى اتخاذ قرار الانفصال ليغرق كل منهما في الألم والحسرة القاسية، ويتجه هو إلى
الرهبنة، بينما تعض هي أصابعها من الندم على ما فعلته، فضلا عن الشعور بالذنب،
وبأنها امرأة سيئة، وتجد نفسها في نهاية الأمر وحيدة لا معنى لحياتها بعدما فعلته
مع زوجها.المُخرج الأمريكي سبايك جونز
إذن، فالخلافات التافهة
والصغيرة، والتي لا تعني شيئا هنا هي اللب الحقيقي لفكرة الفيلم، أي أن المُخرج
يتأمل في أسباب انهيار العلاقات والتواصل الإنساني، ويؤكد لنا أننا لا نتناول هذه
الهراءات بالجدية اللازمة مما يوقعنا جميعا في نهاية الأمر في هذه العزلة القاسية،
بل وتدمير كل علاقاتنا الإنسانية؛ الأمر الذي يحولنا إلى مُجرد كائنات لا حياة أو
روح فيها رغم أنها ما زالت تسعى على قدميها!
تخبر سامانتا- امرأة الحاسوب-
ثيودور بوصول بريد إليكتروني من كاثرين- قامت بدورها المُمثلة Rooney mara روني مارا- زوجته السابقة تخبره فيه برغبتها في توقيع أوراق
الطلاق، ويذهب ثيودور بالفعل للقائها، وحينما تسأله عما إذا كان قد واعد امرأة أم
لا يخبرها بأنه يواعد امرأة بالفعل، لكنها حينما تطلب منه أن يصفها لها يخبرها عن
سامانتا؛ الأمر الذي يشعرها بالكثير من الاستياء، ويعمق داخلها إحساس الشعور
بالألم والذنب، بل وتتهمه بأنه غير قادر على التواصل الإنساني مع مشاعر حقيقية،
وبأنه يرغب في إيهامها بأنها السبب في ذلك نتيجة لأنها كانت امرأة شديدة السوء
معه.
تتطور العلاقة بين ثيودور
وسامانتا حتى أنهما تدور بينهما علاقة جنسية شفهية في إحدى الليالي، وربما تأتي
براعة المشهد الذي تواصل فيه كل من ثيودور وسامانتا جنسيا في أن المُخرج كان حريصا
على الإظلام الكامل للشاشة والاكتفاء بصوتيهما فقط في الخلفية السمعية؛ مما يعني
إدراكه لما يفعله، وأن هذا المشهد لا يمكن له أن يكون مُعبرا عن هذه المأساة
التواصلية بالصورة؛ بل إن الشكل الأبلغ لها من أجل وصولها إلى المُشاهد هو الإظلام
مع الإبقاء على الصوت فقط، وسُرعان ما يقطع المُخرج بمُجرد وصولهما للأورجازم على
لقطة عامة بانورامية كبيرة لمدينة لوس أنجلوس في الظلام، حيث ناطحات السحاب
الكثيرة العملاقة المتلألئة بالأضواء؛ ليُدلل من خلال هذه اللقطة على ضآلة وضحالة
الوجود الإنساني الحالي في هذا الاتساع الشاسع، كما لا يفوتنا الإحساس بالتصحر
الكامل والحقيقي للمشاعر البشرية حينما نرى هذه اللقطة البانورامية للوس أنجلوس.
إن تطور مشاعر سامانتا تجاه
ثيودور يجعل لديها الرغبة العارمة في إتمام التواصل الجسدي معه في شكل شبه كامل،
وبما أنها لا تمتلك جسدا، وبما أنها مُجرد برنامج على الحاسوب؛ فإنها تتواصل مع
إحدى السيدات وتحكي لها ما يدور بينها وبين ثيودور ورغبتها الحقيقية في إتمام هذه
العلاقة الجسدية. هنا توافق هذه المرأة على أن تكون وسيطا بين كل من سامانتا
وثيودور في هذه العلاقة لرغبتها في خدمتهما وإنجاح مشاعرهما، أي أنها ستكون مُجرد
وسيط جسدي بين ثيودور والصوت الإليكتروني من دون التواصل بأي صوت أثناء التواصل
الجنسي، بمعنى أنها ستكون مُجرد عروس باربي بينهما. تعرض سامانتا رغبتها في الأمر
على ثيودور، ورغم رفضه وعدم اقتناعه بالعرض إلا أنه يضطر لقبوله لإلحاح سامانتا؛
فتطلب منه أن يضع الميكروفون في أذنه وأذن الفتاة، مع وضع كاميرا شديد الصغر على
وجهها وأخرى لديه من أجل مُراقبتهما ورؤيتها بنفسها كيفية سير العلاقة الجسدية
بينهما، بينما يستمعان إليها وكأنها تمارسها بالفعل من خلال جسد الفتاة!الممثل الأمريكي خواكين فينيكس
تذهب الفتاة بالفعل إلى بيت
ثيودور، ورغم أنه يقطع فيها شوطا إلا أنه يعجز عن الاستمرار فيها، ويرفض إكمالها
مُخبرا سامانتا بأنه غير مُقتنع بما يفعله؛ الأمر الذي يجرح مشاعر الفتاة التي
تنصرف باكية.
إن هذا المشهد فيه من القسوة
واللاعقلانية ما لا يمكن أن يتخيله الإنسان إذا ما انبتت أواصر العلاقات الإنسانية
بمثل هذا الشكل؛ فالفتاة الوسيطة في حاجة فعلية إلى تواصل جسدي أو عاطفي؛ الأمر
الذي جعلها تقبل مثل هذه الفكرة اللاعقلانية، كما أن ثيودور الذي يعيش في عمق
أزمته وعجزه عن التواصل؛ مما حدا به إلى علاقة مع حاسوبه يعاني من نفس الأمر بقسوة
لا متناهية، أي أن العالم بأكمله قد بات موحشا لا يصلح للحياة من دون مشاعر حقيقية
وتواصل إنساني.
يبدأ ثيودور في التعامل بشكل
مُرتبك مع سامانتا، وذات يوم تغلق البرنامج على نفسها من أجل تحديث نفسها، وهو
الأمر الذي يجعل ثيودور غير قادر على التواصل معها مما يصيبه بالكثير من الجنون
لاعتقاده بأنه قد فقدها للأبد. إن هذا المشهد يكاد يكون من أكثر المشاهد إيغالا في
القسوة التعبيرية عما يتحدث عنه الفيلم حينما نرى جميع البشر من حول ثيودور
مُنشغلين عن العالم المُحيط بهم بحديث كل واحد منهم إلى حاسوبه الشخصي! أي أن
العالم بالكامل قد تقطعت أواصره الإنسانية، وباتت علائقه مُنبتة، وغرق الجميع في
الجفاف والوحدة وموت أرواحهم ليتم الاستغناء عن هذه المشاعر الطبيعية بعلائقهم مع
أجهزة الكمبيوتر التي لا تحمل أي مشاعر حقيقية، بل تسهم بعمق في تفريغهم من
إنسانيتهم وأرواحهم!
يتم انتهاء برنامج الذكاء
الاصطناعي OS1 وهو البرنامج الذي يرتبط به ثيودور من خلال
سامانتا، كما حاولت صديقته إيمي تعويض فقدانها لحياتها الزوجية وحبها بالارتباط بنفس
البرنامج؛ الأمر الذي أسقطهما في الانهيار النفسي الكامل؛ مما جعل حياتيهما تتصدع
بشكل حقيقي بعد زوال البرنامج المصنوع الذي كان يوهمهما بالقوة النفسية والقدرة
على مواجهة مُشكلاتهما، لينتهي الفيلم نهاية تقليدية بكل من إيمي وثيودور مُستندين
إلى بعضهما البعض وقد بديا وكأنهما مُجرد كومة من الحطام البشرية التي لا يمكن لها
أن تنهض مرة أخرى، مُتأملين مدينة لوس أنجلوس العملاقة من فوق سطح ناطحة سحاب
كبيرة.الممثلة الأمريكية إيمي آدامز
إن الفيلم الأمريكي Her للمُخرج
الأمريكي سبايك جونز من الأفلام المُهمة الحريصة على تأمل الحياة البشرية وما يدور
فيها، هو فيلم يدق ناقوس الخطر بأننا إذا لم نعمل على حل مُشكلاتنا البسيطة
والعفوية والطبيعية والتافهة مع شركائنا من البشر، أو شركائنا ممن نعشقهم ونحبهم؛
فإن الأمر سيتحول بنا إلى مثل هذا الخراب النفسي الذي سينتهي بنا جميعا إلى مُجرد
كومة من الخراب، كما يحذر الفيلم من أثر التكنولوجيا الرقمية وتطورها وتدخلها في
كل دقائق حياتنا، وبأن هذه الوشائج الدقيقة التي باتت تربط بين البشر والروبوتات؛
ستؤدي بنا في نهاية الأمر إلى تحولنا نحن إلى مُجرد روبوتات تتحكم فيها روبوتات
أخرى خلقها البشر، لكن هذه الروبوتات المصنوعة ستفرغ الإنسان من بشريته وإنسانيته
لتتركه في نهاية الأمر وحيدا، مُمزقا، مُحطما، خاوي الروح تماما وكأنه غير موجود!
محمود الغيطاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق