الأحد، 29 يونيو 2025

مونت المُباركة: ثنائية الخضوع والهيمنة!

إن مُشاهدة الأفلام الروائية القصيرة التي قام المُخرج والسيناريست الدانماركي Lars Von Trier لارس فون ترير بصناعتها في مرحلة مُراهقته- مُنذ عام 1967م حيث كان يبلغ من العمر إحدى عشر عاما حينما قام بصناعة فيلمه الروائي القصير الأول The Trip to Squash Land رحلة إلى أرض اليقطين، حتى تخرجه في المدرسة الوطنية للسينما في الدانمارك National Film School of Denmark بصناعة فيلم التخرج Images of Liberation  صور التحرير 1982م- من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن الاستغناء عن تأملها ودراستها والعمل على تفكيكها بتأنٍ؛ من أجل الوصول إلى كيفية تكوّن أسلوبية المُخرج فيما بعد، بل والوقوف على تشكل ثقافته وأيديولوجيته وأفكاره التي سنراها مُستقبلا بشكل أكثر تطورا واكتمالا ونُضجا في أفلامه الروائية الطويلة، أي أنها من الأمور التي لا يمكن لنا تجاوزها بأي حال من الأحوال، نظرا لأن فون ترير لا يقوم بصناعة الأفلام السينمائية في واقع الأمر بقدر ما يقوم بالتفكير بصوت عالٍ من خلال السينما، أي أنه يمكن لنا القول- إذا ما جاز لنا التعبير- بأنه يقدم تفكيرا محضا مُتمثلا في مجموعة من الأفكار الكبرى- سياسية، وجودية، فلسفية، دينية، سيكولوجية، اجتماعية- في شكل سينمائي، أو أنه دائما ما يتابع الفوضى الفكرية المُزدحمة التي تعتمل داخل ذهنه، والمُنشغلة بالكثير من القضايا الكبرى؛ فيعبر عنها في شكل سينمائي ذي أسلوبية شديدة الخصوصية لا يمكن لها التشابه مع غيرها من المُخرجين، بل يحرص لارس على إكسابها المزيد من الخصوصية الأسلوبية التي يرى أنها الأفضل من أجل صناعة الأفلام- سواء من خلال مرحلته الأسلوبية الأولى، أو من خلال اتباع بيان Dogme 95 دوجما 95، أو من خلال التخلي عن بيانه الثوري فيما بعد- فالأهم عند ترير هو امتلاك أسلوبيته التي ينجح من خلالها في التعبير عن أفكاره المُختلفة، والمُثيرة للكثير من الدهشة، والاختلاف، والرفض من حول العالم، سواء من خلال النقاد، أو من صُناع السينما أنفسهم، أو حتى المُشاهدين!

لارس فون ترير المُنشغل بالكثير من الأفكار يرغب دائما في التعبير عنها بالطريقة التي يرى أنها صالحة للخروج إلينا كي تكون واضحة، وبما أنه يمتلك خصوصيته في التعبير عن أفكاره مهما كانت غريبة بالنسبة للمُتلقي؛ فهو يقدمها كيفما يرى حتى لو كانت ستثير الكثير من العواصف، والرفض، والأكثر من الاتهامات الموجهة له شخصيا- سواء كانت هذه الاتهامات هي مُعاداة المرأة، أو الشذوذ النفسي، أو الاكتئاب الذي يعاني منه ويفرضه على الآخرين، أو السادية، أو غير ذلك من الاتهامات العديدة التي كثيرا ما واجهها بلا مبالاة وسُخرية من طرفه وكأنها لا تعنيه!


لعل هذه اللامبالاة من رأي الآخرين فيما يقدمه من سينما ذات خصوصية هو ما أكسبه الكثير من التميز والاختلاف عن غيره من صُناع السينما الآخرين؛ لذا رأينا في عام 1977م فيلمه الروائي القصير The Orchid Gardener بستاني الأوركيد الذي تناول فيه بشكل غامض ومُفكك قصة حياة بطله فيكتور مارس، أو كما كتب بعد عنوان الفيلم مُباشرة عنوانه الشارح "جزء من قصة فيكتور مارس"، وهو ما جعله ناجحا في تقديم فيلم مُفكك بشكل عمدي بما أنه يقدم لنا أجزاء من قصة البطل الذي يعاني من الكثير من الاضطرابات النفسية منها عدم الثقة في الذات، والميل نحو العبور الجنسي، والبيدوفيلية، بالإضافة إلى المازوخية والرغبة في الخضوع لحبيبته إليزا التي تمارس عليه ساديتها، فضلا عن كونها سحاقية لا يمكنها التخلي عن علاقتها مع حبيبتها!

بما أن لارس فون ترير من المُخرجين الذين يفكرون بصوت عالٍ من خلال السينما، وبما أنه يظل يتأمل في الأفكار التي تدور في رأسه فيعمل على تقديمها في أكثر من فيلم على شكل ثلاثيات- لا سيما في مرحلته الروائية الطويلة- حتى يستنفد الفكرة التي يقدمها تماما- وهو ما يجعل أفلامه قابلة لرؤيتها مُنفردة وليس بشكل مُتتالٍ- ومن ثم يبدأ في تقديم فكرة جديدة من خلال ثلاثية أخرى ومُختلفة- وهذا هو نهج المُخرج مُنذ بدأ مرحلته الروائية الطويلة- فلقد قام في عام 1979م بصناعة فيلمه الروائي القصير Menthe- La Bienheureuse أو مونت المُباركة وهو الفيلم الناطق بالفرنسية والذي لم تتعد مُدة عرضه 31 دقيقة- أي أن فكرة صناعة الأفلام على أجزاء مُتتالية ومُنفصلة ومُنشغلة بالفكرة فقط كان يحمل بذورها الأولى مُنذ فترة مُبكرة.

بالنظر إلى تاريخ صناعة الفيلم الأخير سيتبدى لنا أن فون ترير كان قد بلغ من العمر 21 عاما، وهو نفس العام الذي تم فيه قبوله في المدرسة الوطنية للفيلم في الدانمارك National School Film od Denmark كطالب مُخرج، ويبدو لنا من خلال هذا الفيلم الأخير أن ترير لم يكن قد استنفد تماما أفكاره التي كانت تدور في ذهنه حينما قام بصناعة فيلمه "بستاني الأوركيد" عام 1977م؛ الأمر الذي حدا به إلى الاستمرار في التفكير والتأمل فقام بصناعة فيلمه الأخير "مونت المُباركة" 1979م الذي يكاد أن يكون هو الجزء الثاني لفيلمه الأول، حيث يتناول الفيلم نفس الأفكار بشكل قد يكون أقل تطورا من الفيلم السابق، وإن كان يتناول نفس الأفكار بشكل أكثر اختلافا، أو من زاوية ووجهة نظر مُختلفة عن الأولى.

ثمة عناصر فيلمية من المُمكن للمُشاهد الانتباه إليها للتأكد من أن ثمة صلة بين الفيلمين المذكورين، أول هذه العناصر هو بطلة الفيلم المُمثلة الدانماركية Inger Hvidtfeldt إنجر هفيتفيلدت التي قامت بدور إليزا في فيلم "بستاني الأوركيد"، بينما قامت بدور المرأة السادية في فيلم "مونت المُباركة".


إذا ما تأملنا في فيلم "بستاني الأوركيد" سيتضح لنا أن إنجر هفيتفيلدت/ إليزا كانت امرأة سحاقية، كما أنها كانت تستمتع بمُمارسة السادية والتعذيب على بطل الفيلم الذي يعشقها والخاضع لها "فيكتور مارس"، وهو نفس ما نراه في فيلم "مونت المُباركة" مع القليل من الاختلاف، فالمُمثلة هي نفس المُمثلة، كما أنها سحاقية أيضا واقعة في عشق "مونت"، فضلا عن أنها تستمتع بمُمارسة ساديتها وهيمنتها، لكنها في الفيلم الأخير تمارس هذه السادية على "مونت" حبيبتها الخاضعة لها تماما، مع غياب "فيكتور مارس" عن هذا الفيلم.

الرابط الثاني بين الفيلمين هو أسلوب السرد الفيلمي، وهو الأسلوب الذي كان يتبع إلى حد بعيد المونولوج الذي رأيناه في "بستاني الأوركيد" حيث كان فيكتور مارس يحكي من خلال المونولوج بينما نرى ما يحكيه على الشاشة من أمامنا، وهو ما رأيناه أيضا في فيلم "مونت المُباركة" حيث سمعنا صوت امرأة يحكي قصة المرأة السحاقية السادية مع مونت التي قامت بدورها المُمثلة الدانماركية Annette Linnet آنيت لينيت- أدى الصوت النسائي للمونولوج Brigitte Pelissier برجيت بيليسير- حيث كانت المرأة/ إنجر هفيتفيلدت تحاول تذكير "مونت" دائما بالعلاقة السادية المازوخية السابقة التي كانت بينهما من أجل استعادتها، من خلال سرد الكثير من التفاصيل السابقة، التي يستعرضها ترير أمامنا على الشاشة.

الرابط الثالث الذي لا بد من الانتباه إليه بين الفيلمين هو البستاني اليهودي الذي رأيناه في نهاية فيلم "بستاني الأوركيد"، والذي غرس الصليب في إيحاء منه إلى موت فيكتور مارس، أو عدم وجوده في الحياة الواقعية، وهو نفس المُمثل Carl- Henrik Trier كارل هنريك ترير الذي سنراه غير مرة في فيلم "مونت المُباركة" باعتباره الرجل اليهودي صديق مونت في الفيلم الأخير، هذا فضلا عن أن الفيلمين تم تصويرهما بالأبيض والأسود ويكادا أن يتطابقا في مُدة عرضهما- بستاني الأوركيد 37 دقيقة، بينما مونت المُباركة 31 دقيقة.

إذن، فثمة روابط جلية بين الفيلمين تعمل على التأكيد بأن لارس فون ترير حينما انتهى من فيلمه "بستاني الأوركيد" 1977م لم يكن قد استنفد الفكرة التي تدور في ذهنه تماما؛ الأمر الذي جعله ما زال مشغولا بها، مُنكبا عليها، وبالتالي قام بصناعة فيلمه "مونت المُباركة" 1979م من أجل استنفاد الفكرة تماما، وهي الفكرة التي تدور في عالم العلاقات المثلية من خلال مُمارسة السادية/ الهيمنة، والمازوخية/ الخضوع بين أطراف العلاقة العاطفية، أو الجنسية، أي أن الأمر لم يكن قاصرا على الروابط الثلاثة السابقة فقط، بل كان الرابط الأهم بين الفيلمين هو عالم العلاقات وما يدور فيه من رغبات ومُمارسات قد تبدو حادة، أو مُغالية في حدتها!

ثمة العديد من النقاد يذهبون إلى تأثر فون ترير في هذا الفيلم وغيره من أفلامه التالية بالرواية الفرنسية Story Of O قصة أو، أو كما جاء عنوانها باللغة الفرنسية Histoire d’O، وهي الرواية التي كتبتها الروائية الفرنسية Anne Desclos آن ديكلوس تحت اسمها المُستعار Dominique Aury دومينيك أوري عام 1954م، والتي فازت في فبراير 1955م بجائزة الأدب الفرنسي Prixdes Deux Magots، لكن السُلطات الفرنسية ما زالت توجه تُهم الفحش ضد الناشر، كما وصف Eliot Fremont Smith إليوت فريمونت سميث من صحيفة "نيويورك تايمز" نشرها بأنه حدث بالغ الأهمية.


تتحدث رواية "قصة أو" عن Odile أوديل، التي يتم اختصارها في حرف O، وهي حكاية خضوع أنثى، مصورة أزياء باريسية جميلة تُدعى O، يتم تعليمها لتكون مُتاحة باستمرار للجماع الفموي، والمهبلي، والشرجي، وتقدم نفسها لأي رجل ينتمي إلى نفس المُجتمع السري الذي ينتمي إليه عشيقها، كما يتم تجريدها بانتظام من ملابسها وعصب عينيها وتقييدها بالسلاسل وجلدها، فضلا عن توسيع فتحة شرجها باستخدام المقابس الكبيرة بشكل مُتزايد، وتتميز بوسم على ردفيها.

تبدأ القصة حينما يحضرها حبيبها رينيه إلى القصر في Roissy رواسي، حيث تدربت على خدمة أعضاء نادي النخبة، لكن بعد هذا التدريب الأوليّ كدليل على رباطهم يسلمها رينيه لشقيقه الأكبر غير الشقيق "السير ستيفن"، وهو سيد أكثر قسوة. يرغب رينيه من O أن تتعلم خدمة أشخاص لا تحبهم ولا يحبونها بشكل جنسي، أي لا رابط بينهم، وخلال هذا التدريب تقع O في حُب السير ستيفن وتعتقد أنه أيضا يحبها، لكن خلال فصل الصيف يرسل السير ستيفن O إلى قصر قديم في ساموا تسكنه النساء فقط من أجل الحصول على تدريب مُتقدم، وتعديلات الجسم المُتعلقة بالتقديم، وهناك توافق على الحصول على علامات دائمة لملكية السير ستيفن على شكل علامة تجارية، وعلامة فولاذية مُعلقة من ثقب في الشفرين لجرها بسلسلة منها!


في هذه الأثناء شجع رينيه O على إغواء جاكلين، عارضة أزياء، وتشعر جاكلين بالصدمة حينما ترى لأول مرة سلاسل وندوب O رغم أن O نفسها فخورة بحالتها كعبد مرغوب، لكن أخت جاكلين الصغرى غير الشقيقة تصبح مفتونة بـO. في ذروتها يتم تقديم O باعتبارها جارية جنسية عارية لكنها دائما ما ترتدي قناعا يشبه البومة، ومقود دائما ما ينتهي بثقب شفريها أمام مجموعة كبيرة من الضيوف الذين يعاملونها كشيء فقط، بعد ذلك يشاركها السير ستيفن ومُساعده الذي يُشار إليه فقط باسم القائد. لكن السير ستيفن يتخلى في النهاية عن O مما يجعلها تشعر بالذهول من خطر هذا التخلي لدرجة أنها تصر على تفضيل الموت، وتطلب منه الإذن بالانتحار.

ذكرت الروائية آن ديكلوس بعد أربعين عاما من نشر الرواية واعترافها بأنها كاتبتها، بأنها قد كتبتها على شكل سلسلة من رسائل الحُب لعشيقها Jean Paulhan جان بولهان الذي أُعجب بعمل Marquis de Sade ماركيز دو ساد.

إذا ما تأملنا لهنيهة الحكاية المُختصرة السابقة للرواية لاستطعنا فهم رمزية الحرف O الذي كان اختصارا لاسم أوديل؛ فلقد تم اختصار الفتاة- باعتبارها مُجرد شيء يتم اللهو الجنسي به كعبد- في الحرف O الذي يُدلل من خلال شكله وسيميائية كتابته على أن الفتاة قد تحولت إلى مُجرد مفهوم جنسي يعبر عن أي ثقب، أو أي فتحة! أي أن أوديل بالنسبة للجميع مُجرد فتحة جنسية يتم استخدامها من قبل الجميع، وبذلك يسقط عنها اسمها- أوديل- ليتم اختصارها في رمزية الفعل وتصبح مُجرد O!

بالتأكيد لا يمكن لنا إغفال قسوة وسادية العمل الروائي الذي كتبته الروائية الفرنسية آن ديكلوس في شكل رسائل لحبيبها المُعجب بالأفعال الجنسية السادية المازوخية، أو بعلاقات الهيمنة والخضوع في مُمارسة الفعل الجنسي، وهو العمل الذي تم تحويله إلى العديد من الأفلام السينمائية فيما بعد، لكن هل تأثر لارس فون ترير بالفعل بهذا العمل الروائي في هذا الفيلم وغيره من الأفلام التي قام بصناعتها فيما بعد؟


إذا ما تأملنا فيلم "مونت المُباركة" لوجدنا بونا شاسعا بين الرواية التي كتبتها ديكلوس وبين ما قدمه ترير في فيلمه؛ فالفيلم ينحصر في علاقة مثلية بين امرأة سادية/ مُهيمنة، وبين مونت المازوخية/ الخاضعة، كما أنه يقوم على محاولة المرأة السادية بتذكير مونت بالعلاقة الجنسية التي كانت بينهما في الماضي من خلال المونولوج بينما نرى ما تسرده المرأة على الشاشة أمامنا، أي أن المرأة الخاضعة/ مونت- O في الرواية- لم يكن لها أي سيد جنسي/ رجل تحبه وتتبعه من أجل إرضائه في رغباته الجنسية، بل بامرأة فقط، صحيح أنها كان يتم تقديمها للآخرين باعتبارها لعبة/ عبد جنسي للغير، وتم تدريبها من أجل هذا الفعل، لكنها لم تُقدم على الانتحار في نهاية الأمر، بل ترهبنت وهجرت حبيبتها السادية.

ثمة مُقاربات وتشابهات بين الرواية والفيلم- ولعل هذه التشابهات هي ما أوهمت البعض بتأثر فون ترير بالرواية السابقة الذكر- منها سفرهما معا إلى رواسي في الجنوب، لكن بعيدا عن هذا الشبه بين الرواية والفيلم لن نستطيع إيجاد أي تشابه آخر بينهما، وبالتالي يكون تناول فون ترير لقصة مثلية سادية مازوخية بين امرأتين لا علاقة له بالرواية التي يحاول النقاد نسبتها للفيلم، والادعاء بأنه قد تأثر بها في أفلامه التالية. وعلى فرضية تأثر المُخرج بهذه الرواية في هذا الفيلم- باعتبار وجود هذا الشبه وسفرهما إلى رواسي، وتدريبها على أن تكون عبدا جنسيا للآخرين- فلقد حرص ترير في هذه الحالة على قلب الرواية تماما، وتغيير إطارها وشكلها بما يتناسب مع عالمه الفني الذي يراه؛ ومن ثم تصبح الصلة بينه وبين الرواية تكاد أن تكون مُنبته، وبناء على ذلك إما أن يكون قد تأثر بالعديد من الأعمال الروائية التي تناولت مثل هذه العلاقات مما أدى إلى تداخلها في ذهنه، أو يكون قد ابتكرها بنفسه.

إن تركيز ترير في هذا الفيلم، والفيلم السابق عليه- بستاني الأوركيد- الذي يكاد أن يكون هو الجزء الأول لهذا الفيلم لا بد من فهمه في سياقه الفكري للمُخرج حينما نرى أفلامه الروائية الطويلة المُستقبلية، حيث يتناول ترير- غالبا- العلاقات الاجتماعية وما يشوبها من زيف وأنانية وشكلانية، حيث لا يعنيها الشعور بالآخرين أو التعاطف معهم بقدر رغبة المرء في الشعور بنفسه فقط مُتجاهلا في ذلك مشاعر غيره؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى إيذاء الآخرين حتى الموت، أو الاستمتاع الفردي المُتميز بالأنانية على حساب الآخرين، وهو ما رأيناه في على سبيل المثال في ثلاثيته Golden Heart Trilogy القلب الذهبي، لا سيما الجزئين الأول والثالث، حيث رأينا في الفيلم الأول Breaking the Waves كسر الأمواج 1996م بيس التي قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية Emily Watson إميلي واتسون، الفتاة الرقيقة الساذجة التي تقع في عشق يان وتناضل من أجل زواجها منه مُخالفة في ذلك رغبة أهل قريتها ورجال الكنيسة في عدم الزواج من الأجانب، لكن حينما يُصاب يان أثناء عمله ويصبح عاجزا عن الحركة يبدأ في دفعها من أجل مُمارسة الجنس مع الآخرين ممن لا تعرفهم من أجل أن تعود إليه وتحكي له بالتفصيل مُمارساتها الجنسية مع غيره، واهما إياها بأن هذا هو السبيل الوحيد من أجل شفائه، وبما أنها تعشقه بشكل لا يمكن وصفه؛ فإنها تخضع تماما لرغباته الشاذة وتفعل ما يطلبه منها إلى أن يقوم أحدهم بتعذيبها جنسيا حتى الموت- الخضوع الجنسي باسم الحب، وأنانية يان وسيطرته للاستمتاع برغباته الشاذة مُتجاهلا مشاعر زوجته.


في الفيلم الثاني- الجزء الثالث- Dancer in the Dark راقصة في الظلام 2000م يوغل ترير في مفهوم الكآبة من خلال شكل رومانسي يؤكد فيه على أن البقاء في هذا العالم للأسوأ، والأكثر انحطاطا، ونفعية، وليس للأكثر مثالية، أو نقاء، بل يشتط في ذلك كي يدفعنا إلى اليقين بأن لا عدالة في الأرض؛ ومن ثم فمفهوم الخلاص المسيحي في حقيقته مُجرد وهم؛ لأنه، بالضرورة، لا فردوس أيضا في السماء! فيقدم لنا سيلما التي قامت بدورها المُمثلة الأيسلندية Björk بيورك، الهاربة من تشيكوسلوفاكيا والحُكم الشيوعي إلى أمريكا، الضعيفة البصر والمُصابة بمرض نادر سيؤدي إلى فقدانها للبصر تماما قريبا، كما أنها تعول طفلها الذي ورث عنها هذا المرض الذي سيؤدي إلى فقدانه لبصره بدوره، ولأن سيلما فقيرة فهي تعمل في أحد المصانع ليل نهار من أجل توفير المبلغ الكافي من أجل إنقاذ ابنها من فقدان البصر، لكن جارها- رجل الشرطة المسؤول عن القرية- يسرق مالها وحينما تحاول استعادته منه يرغمها على قتله؛ فيتم سجنها بتهمة القتل من أجل السرقة، بل والحُكم عليها بالإعدام- لاحظ هنا المرأة الخاضعة، وعدم اهتمام الآخرين بها وأنانية رجل الشرطة المُهيمن الذي يسرق مالها لتسديد ديونه رغم أنه يعرف جيدا بأن هذا المال من أجل إنقاذ بصر طفلها.

إنها العلاقات الاجتماعية الزائفة والسادية والقاسية والشديدة الأنانية التي تتميز بها المُجتمعات كما يراها لارس فون ترير ويعبر عنها في جل أفلامه- ثمة مُلاحظة أن الطرف الخاضع في مُعظم أفلام ترير هو المرأة المغلوبة على أمرها دائما، وهو السبب الرئيس لاتهامه بإهانة المرأة ومُعاداتها!

هذه العلاقات غير الطبيعية- الهيمنة والخضوع- يعود ترير ليقدمها لنا في ثلاثيته الثالثة غير المُكتملة USA:The Land of Opportunity Trilogy ثلاثية أمريكا: أرض الفرص في الجزئين اللذين قدمهما؛ ففي الجزء الأول Dogville دوجفيل 2003م سنري جريس التي قامت بدورها المُمثلة الاسترالية الأصل الأمريكية الجنسية Nicole Kidman نيكول كيدمان الهاربة من أبيها رجل العصابات، والتي تتميز بالكثير من السمات الملائكية، فنراها تلجأ إلى إحدى القرى للاختباء فيها، ولأنها ترغب في أن ترد الجميل لأهل القرية، فلقد بدأت في مُساعدتهم في حياتهم اليومية حتى قاموا فيما بعد باستعبادها واعتبارها خادمة لهم جميعا، بل وتناوب رجال القرية في الاعتداء الجنسي عليها باعتبارها حق من حقوقهم- لاحظ هنا تحول المُجتمع واهتمامه بذاته فقط رغم أنها قدمت إليهم الكثير، وبالتالي تتحول العلاقة إلى علاقة هيمنة من قبل أهل القرية، وخضوع مازوخي من قبل بيس، التي ستتحول في نهاية الفيلم إلى مُهيمنة سادية بحرق القرية وأهلها جميعا بمُساعدة أبيها/ رجل العصابات!

في الجزء الثاني من الثلاثية Manderlay ماندرلاي 2005م يصر ترير على تقديم الثنائية الاجتماعية المُختلة مرة أخرى من خلال بيس التي قامت بدورها المُمثلة Bryce Dallas Howard بريس دالاس هوارد، والتي تكتشف بالصدفة إحدى المزارع التي ما زالت مالكتها تستعبد فيها السود رغم انتهاء العبودية، وهنا تحاول تعريفهم بحقوقهم، وإعادة تأهيلهم لكي يكونوا مواطنين أمريكيين أحرارا رغم رفضهم للحرية واعتيادهم للعبودية، إلا أنهم في نهاية الفيلم يحاصرونها مُهددين إياها بالقتل إذا لم تمارس عليهم دور السيد/ المُسيطر بينما يظلون هم كعبيد تحت إمرتها/ الخاضع؛ الأمر الذي يجعلها خاضعة لرغبتهم لمُمارسة دور المُسيطر- أي أن بيس هنا خاضعة لهم من أجل مُمارسة دور المُهيمن، بينما هم مُهيمنين عليها من أجل مُمارسة دور الخاضع!


هذا الخضوع الطوعي سنراه مرة أخرى في الجزء الثالث من ثلاثية The Depression Trilogy الاكتئاب أو الكآبة؛ ففي فيلمه Nymphomaniac شبق 2013م الذي قدمه ترير على جزئين سنرى جو التي قامت بدورها المُمثلة الفرنسية الأصل الإنجليزية الجنسية Charlotte Gainsbourg تشارلوت جينسبورج المُصابة بالشبق الجنسي، والمُدمنة لمُمارسة الجنس مع أي كائن بشكل هستيري، وبكل تنويعاته، التقليدية منها والشاذة، حيث تذهب إلى أحد الرجال المعروف عنه مُمارسة السادية الجنسية على النساء من دون مُمارسة الجنس معهن، وتخضع له بمحض إرادتها تماما من أجل جلدها وتعذيبها ومُمارسة العديد من المُمارسات السادية على جسدها؛ الأمر الذي يؤدي بها إلى تشوهات كثيرة في جسدها من فرط التعذيب السادي الطوعي، لا سيما تشوه فرجها، وتقرحات عميقة على ردفيها- جو هنا خاضعة بينما الرجل مُهيمن- كما لا يفوتنا بأن جو ستتحول في نهاية الجزء الثاني من الفيلم إلى مُهيمنة حينما تقوم بقتل سليجمان الذي ساعدها وآواها في بيته وقدم لها الكثير من الحماية والدعم النفسي، بينما سيتحول سليجمان إلى خاضع بقتله.

لعلنا لا يفوتنا كذلك الجزء الأول من ثلاثية الكآبة Antichrist عدو المسيح 2009م حيث نرى "هي" التي قامت بدورها المُمثلة الفرنسية الإنجليزية الأصل Charlotte Gainsbourg تشارلوت جينسبورج التي تطلب من زوجها "هو" ضربها بقسوة أثناء العلاقة الجنسية، وحينما يرفض الانسياق لرغبتها تخرج عارية إلى الغابة غاضبة لتمارس عادتها السرية؛ الأمر الذي يجعله خاضعا لرغبتها فيقوم بضربها وإكمال العملية الجنسية بينهما- هي هنا خاضعة لفعل الضرب، ومُهيمنة بإرغامه على مُمارسة فعل الضرب، بينما هو مُهيمن من خلال ضربها، لكنه خاضع بسبب انسياقه إليها! فضلا عن أنها فيما بعد عكست الثنائية بينهما حينما ثقبت سمانته بالمثقاب لتعلق فيها حجر الطحين وتغلقه بالقفل بسبب خشيتها من تركه لها وحيدة- هو هنا في حال الخضوع، بينما هي المُهيمنة!

إن ثنائية الخضوع والهيمنة في سينما لارس فون ترير- سواء كانت على المستوى الاجتماعي/ العلاقات الاجتماعية، أو المستوى الجنسي/ مُمارسة الفعل- هي شكل من أشكال الفلسفة الأيديولوجية التي يرى من خلالها ترير المُجتمعات من حوله؛ فهي مُجتمعات زائفة مريضة، لا يعني كل فرد فيها سوى نفسه ورغباته، ومصالحه فقط، وبالتالي يُسقط ترير كل الأقنعة من على وجوه الأفراد في المُجتمعات ليمارس عليهم- من خلال ساديته الشخصية الموغلة والمُتعمدة- حالة السُخرية والفضح الدائم، والإمعان في كشف الزيف- ترير هنا مُهيمن كصانع سينما، والمُجتمع خاضع كمُتلقٍ!


إنها لعبة تبادل الأدوار الاجتماعية الشائهة التي يؤمن بها ترير ويرى من خلالها أن المُجتمع من حوله مريض بها، ومن ثم فهو يفلسفها ويطيل النظر والتأمل فيها من خلال ما يقوم بصناعته من أفلام سينمائية قد تكون شديدة الصدمة للمُتلقي نتيجة إصرار المُخرج على تعرية المُشاهد والمُجتمع أمام نفسه! لكننا لا يمكن لنا هنا إنكار أن المُخرج إنما يمارس اللعبة ذاتها على نفسه، لكنه دائما ما يأخذ دور المُهيمن/ المُخرج السادي الفاضح لما يدور من حوله في مُقابل الجمهور/ المُجتمع الخاضع والمازوخي الذي يستقبل أفلامه!

هل يمكن لنا هنا إطلاق الأحكام والادعاء بأن لارس فون ترير الذي يُهاجم المُجتمع المُزيف/ المزدوج المعايير عاملا على فضحه بشكل دائم وتعريته أمام نفسه قد أصابته العدوى فبات ساديا، مُمارسا لأحد هذه الأدوار في ثنائيته؟

لا يمكن إنكار أن ترير من أكثر صُناع السينما في العالم سادية، بل هو يوغل في ساديته عن عمد دائما من أجل تقديم وجهة نظره التي يتبناها تجاه المُجتمعات، لكننا لا يفوتنا أنه يقع أحيانا في الدور الثاني/ المازوخي/ الخاضع حيث يتهمه الكثيرون بالعديد من الاتهامات التي لا يعيرها انتباها ويعمل على تجاهلها بصمته التام!

في فيلم "مونت المُباركة" يحاول ترير الإيغال في تصوير هذه الثنائية من خلال المرأة المُسيطرة/ السادية المُمارسة لفعلها المُهيمن على حبيبتها الخاضعة/ المازوخية والتي يحلو لها أن تُطلق عليها اسم "مونت"؛ فتذكرها من خلال المونولوج الذي نستمع إليه من خلال شريط الصوت: هل تذكرين يوم اشترينا بعض "البروتشن" من مخابز "باكري إمباير"، وقدموا لنا كعكات "يوجين" كبيرة ومُستديرة خارجة مُباشرة من الفرن؟ هل تتذكرين ذلك؟ لا أستطيع سماعك. ليأتي لنا صوت مونت الخاضع والضعيف: نعم، نعم أتذكر. فتستمر المرأة في تذكيرها: كانت هناك أيضا بعض الأشياء التي اكتشفتيها عن نفسك، هذا صحيح، كانت هناك أشياء لا أعرف عنها شيئا. هل تذكرين اليهودي؟ ذلك البستاني الذي سيصير صديقك. أتذكرين الذهاب إلى البحر والريف؟ كم كان الجو حارا. لم تُمانعي في أن أسميك مونت، هل ما زلت تقضمين أظافرك؟


ألا نُلاحظ هنا أن المرأة المُسيطرة تكاد أن تكون مُتملكة تماما لحبيبتها مونت؟ إنها حريصة على تذكيرها بالتفاصيل الدقيقة التي دارت بينهما سابقا، هذه التفاصيل التي من شأنها أن تجعل من مونت خاضعة بشكل أكبر من خلال الحنين إلى ما كان بينهما، أي أن المرأة التي تمارس دور المُسيطر تعرف ما تفعله من خلال استغلال الذكريات بينهما، ويقينها بعشق مونت لها واستسلامها لرغبات رفيقتها السادية التي تجعل منها راضية بالخضوع لها!

تستمر المرأة المُهيمنة في تذكيرها بقولها: أنت تشبهين نفسك، كيف أمكن لنا جمع كل هذه الذكريات معا؟ عام واحد، لقد مر عام الآن، في ذلك الوقت لم يكن لديك مانع في أن أناديك مونت، لا أفهم ذلك، يبدو أنك نسيت الكثير. ليلتك الأولى في رواسي، تتذكرينها، أليس كذلك؟ نعم، جئت لآخذك معي، ألا تريدين ذلك؟ يمكنني إقناعك، كما يمكنني أن أريك بعض الصور، وسوف تتذكرين حينها وتفهمي. في ذلك الوقت كنت تحلمين بسفرنا معا نحو الجنوب، أتتذكرين ذلك؟ نحن في الشمال، مكان الأفكار الذهبية والخوف الشديد من الموت. أما زلت تحلمين بالرمان والتين؟ ذات صباح جميل ستستيقظين في مدينة أجنبية.

ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة لتأمل أسلوبية لارس فون ترير في تقديم فيلمه؛ فهو حينما يصل بالمونولوج الذي نسمعه من خلال شريط الصوت إلى هذه النقطة نشاهد مونت مع حبيبتها المُسيطرة حينما تذهبان معا إلى الجنوب، حيث نرى مونت في فراشها عارية بينما تقترب المرأة المُهيمنة من فراشها في الصباح بملابسها الداخلية محاولة إيقاظها من نومها وقد حملت بين يديها فطور مونت الذي قامت بإعداده وتقديمه لها في الفراش ومونت لا زالت نائمة عارية، أي أن المشهد يوحي لنا بليلة ساخنة كانت بين العشيقتين حينما اتجهتا إلى الجنوب؛ وبالتالي يكون إعداد المرأة المُهيمنة لفطور مونت وتقديمه لها في الفراش بمثابة المُكافئة لها على خضوعها لها جنسيا في الليلة الماضية، كما لا يفوتنا حركة الكاميرا المُتلصصة على علاقتهما في هذا المشهد، حيث نرى الكاميرا تحرص على تصوير المشهد بزاوية جانبية وكأنها تتلصص عليهما من إحدى زوايا باب الغرفة، ولعل حرص ترير على استخدام هذه الزاوية للكاميرا المُتلصصة يرغب منه في إكساب العلاقة بينهما خصوصية وسرية ربما لغرابتها، بحيث لا تفضحهما الكاميرا باقتحام العلاقة، بل هي تتلصص معنا كمُشاهدين على ما يدور بينهما، وهو أمر إن دل فهو يدل على أسلوبية ترير المُبكرة وحساسيته تجاه ما يقدمه من علاقات بحيث يتناسب معه الشكل/ الأسلوب مع المضمون/ القصة.


تستمر المرأة في مونولوجها التذكيري: بمُجرد إخباري بأن ألوان غرفتك قد جعلتك تشعرين بالجوع لتناول الآيس كريم باللوز والقشدة الحامضة، شعرت بأن طلبك للآيس كريم مُرضٍ. يمكنني أن أخبرك عن بلاط الحمام في الجنوب، برودته مثل أي مكان في العالم، بمُجرد مرضك، أردت بعض الضوء لمعرفة ما إذا كان ظلك لا يزال موجودا. في ذلك الوقت كنتِ خائفة من فقدانه، أما زال لديك ظل يا مونت؟ لكن الشفاء سهل للمُسافر، نذهب إلى فيشي للكبد، إلى ماليتي للبشرة، إلى إيكس ليبان للقلب، لماذا نذهب إلى رواسي؟

ربما يبدو لنا هنا من خلال سرد هذه التفاصيل على لسان المرأة المُسيطرة أنها مُدركة تماما لسيكولوجية مونت؛ ومن خلال هذا الإدراك فهي تتلاعب بها نفسيا وعاطفيا لإعادتها إليها، وامتلاكها الكامل بسرد تفاصيل الماضي التي تحفظها عن ظهر قلب، وهي التفاصيل التي من شأنها حينما تُذكرها بها أن تُدلل لها على مدى اهتمام المرأة المُهيمنة بها، وبتفاصيل حياتها، ومشاعرها، واحتياجاتها، أي أنها قادرة على السيطرة عليها من كافة النواحي لا سيما الجانب النفسي والعاطفي، وهو ما يفسر لنا سيطرتها التامة على مونت، بل ومقدرتها على استعادتها إذا ما حاولت مونت الابتعاد عنها وقطع علاقتها غير التقليدية بها.

لذلك توغل المرأة في سردها لهذه التفاصيل المُهمة: ما الذي لا ترغبين في فهمه؟ هل خدعت شخصا آخر غير نفسك بفخرك الطفولي بالعلامة؟ لماذا هي على نهاية الجذع؟ لأن الأحرف الأولى يجب أن تكون مرئية. اعتادوا القول: لا تنسي أنه يجب ألا تلمسي نفسك أبدا، عندما تُحمل السلاسل الخاصة بك، أسموك بكلمة "غير مُقيدة"، قدموا لك هذه السلاسل المُباركة التي أخذتك بعيدا عن نفسك. سألنا: هل تفتحين نفسك جيدا للعميل من دون النظر إلى وجه سيدك؟ تجدين صعوبة في تفسير ما يخبرك به المرء دائما، فكري فيما عشناه معا، القوارب ذات الأشرعة، قبعة القش التي لا تناسبنا، الحوض البسيط الذي كان يتألف من حمامنا أثناء إقامتنا بالفندق، لعبة الورق التي كنا مُتعبين جدا على إنهائها.

إن تركيز المرأة العشيقة المُهيمنة على الذكريات التي عاشتها مع مونت من الأهمية بمكان ما يجعلها شديدة التحكم فيها، مُوغلة في السيطرة عليها واستعادتها؛ فهي تلعب على وتر مشاعرها وذكرياتها الجميلة التي عاشتها معها من قبل، وبالتالي تستطيع استعادتها مرة أخرى لإحكام هذه السيطرة العاطفية والجنسية؛ لذا تستمر في تذكيرها بإصرار: جميعنا يمتلك قوانين للعب. تُفضلين مُغادرة هذا المكان، عندما غادرت أعطيتني وشاحا صغيرا، طلبت مني ارتدائه كثيرا، أنت على حق، كان يجب عليّ ارتدائه اليوم، أؤكد لك ذلك. أتذكر قصته، لقد كان موروثا، غارقا في دماء الإعدام لجلب الحظ السعيد. تتذكرين الطائرة، لكنك لا تتذكري الرجل الذي قادها، تتذكرين السيارة وقبعة السائق، لكنك لا تتذكري السائق نفسه. يقول صديقك: اخلعي سروالك الداخلي، ولا تجلسي على تنورتك، وشعرت به باردا وناعما لأنه كان عالقا على فخذيك. مونت، كما يقولون: لم تعودي بحاجة إلى حقيبتك بعد الآن؛ فنحن ذاهبتان إلى رواسي، لكن احرصي على مُقارنة رواسي بصداقتنا، بالأشياء التي عشناها معا، بالرحلات التي خططنا لها إلى الجنوب عبر البحر. عندما كنتِ في الخامسة عشر من عمرك أردت عقدا مثل ذلك الذي رأيتيني أرتديه مع نفس الفصوص الصغيرة المُرفقة، في وقت لاحق عندما التقينا في رواسي فكرت أن لا أحد في حاجة إلى تعليمها أي شيء، ولا أن يكون هادئا، ولا أن يبقي يديه مفتوحتين على جانبيها.


إن المونولوج السابق يؤكد لنا أن المرأة المُهيمنة إنما تعود علاقتها بمونت مُنذ فترة مُبكرة من عمر الفتاة، فهي تسيطر عليها عاطفيا وجنسيا مُنذ كانت في الخامسة عشر من عمرها، وهو ما يُفسر لنا خضوعها العاطفي والجنسي الكامل لها، أي أنها امتلكتها وشكلتها بالشكل الذي رغبته مُنذ طفولتها؛ ومن ثم نشأت مونت شديدة الخضوع لها.

لذا فهي تستمر في الإمعان بتذكيرها بالتفاصيل، حتى بالرغبات الجنسية السابقة التي كانت بينهما: هذا الخريف في رواسي كانت الرغبة في كل مكان تغلي في كل مسام بشرتك وأنت لا ترغبين في الاعتراف بذلك، أعرف ذلك، ستقولين لي: لماذا نسمح لأناس نكرههم أن يحركوننا إذا ما استطعنا الخضوع لمن نحبه ونحترمه؟ في ذلك الوقت كنتِ ساذجة، لقد قبلتك على ظاهرك، لكنك لم تكوني صادقة، أنت تعرفين جيدا كيف تكذبين. هل تتذكرين حينما احتجتِ إلى كسر كل صورة تمثلك؟ أتتذكرين كيف جرحتِ نفسك، ندوبك، هل ما زالت لديك؟ لقد طلبت من أحدهم أن يخيط لك بعض الملابس الجديدة حتى لا يتعذر الوصول إلى أي مكان من جسدك. ما هي ضرورة الذهاب إلى صانع الكورسيه عارية الثدي تحت البلوزة أو السترة؟ نعم، كان عليك الذهاب إلى صانع الكورسيهات الخاص بك بهذه الطريقة. أتتذكرين التفاح الذي أسقطته الريح من الأشجار؟ هل هو طعام أرضي الآن؟ هل تساءلت؟ أتتذكرين الباب الضيق؟ لكن الباب الضيق كان أنت، كانت فتحتك ضيقة جدا، فتحة تشتركين فيها مع الرجال، كان عليك وضع عصا في فتحة شرجك تشبه قضيبا مُنتصبا. التعلق على ثلاث سلاسل صغيرة كانت مربوطة بحزام جلدي ترتدينه من حول جذعك.

إن انتقال الساردة/ المُهيمنة إلى التفاصيل الجنسية/ تفاصيل الخضوع الجنسي من شأنه أن يُضعف إرادة مونت الراغبة في هجرها، أو التي هجرتها بالفعل؛ لذا فهي تحدثها عما كان بينهما من ذكريات سواء على مستوى المشاعر أو الجنس من أجل محاولة استعادتها مرة أخرى، وهو ما يجعلها توغل في تفاصيل ما دار بينهما علها تنجح في استعادة الهيمنة عليها: مونت، هل تتذكرين ذلك؟ عليك التركيز فيما أقوله، فكري في، أنت محبوبة بكل بساطة. لا تئني، لا تتوسلي، لا تطلبي الرحمة أو المغفرة عندما كانوا يجلدونك، لكنك ستصرخين، وتبكين، وتتوسلي الرحمة والمغفرة، وتحاولي تقبيل أيديهم مع أول ضربة، سيقولون لك: خمس دقائق فقط، عليك التحمل لخمس دقائق. كانت هناك أيام تتركين الناس فيها ينزعون عنك ملابسك. كانت هناك أيام أخرى لا يمكن أن يكون فيها الماكياج على الحلمات والشفرين غامقا بدرجة كافية؛ حيث ترك لك السوط بعض الخطوط الطويلة الجميلة التي لم تختف بسهولة. هل تتذكرين صداعك؟ كنت تلتقطينه حينما يكون الطقس رطبا.


في رواسي لا تنتمي إليك أي فتحة من فتحاتك، أنت تحت التصرف، لكن هل تعتقدي أن جملة "الانفتاح على شخص ما" قد تعني شيئا آخر؟ هل فكرت فيما يمكن أن تعنيه أيضا؟ أشعر بالحب. هل تتذكري مجموعة الحشرات النافقة للرجل الإنجليزي؟ أتتذكرين حينها عندما أمسك بك لفتحك، واعتقدتي يومها بأنك مُجرد سمكة في السوق؟ شرح ذوقه في العادات والطقوس، قال لك: إني مُغرم بالعادات والحقوق. أتتذكري شعر الفتاة الميتة؟ ذات مرة كنت خائفة من الغابات الكبيرة، كنتِ خائفة من الجبال؛ ما جعلها تُشكل تهديدا. عيونك تتوسل إليّ أن أتوقف عن الغوص في الذكريات، كل ذلك يعود إليّ الآن مثل ظلال اليهودي الذي ادعيت بأنه صديقك، لم يكن يوما، ولن يكون، صديقك. هل سبق لك الشك؟ أعلم أنك شككت، ألا تفهمي ذلك؟ لم يكن لك أحد سواي.

ربما يتبين لنا من خلال المونولوج في الفقرة السابقة أن المرأة المُهيمنة تُمارس قدرا مُغاليا فيه من السادية من خلال التذكير على مونت من أجل استعادتها مرة أخرى؛ ولعل هذه السادية تتضح لنا جلية في قولها: "عيونك تتوسل إليّ أن أتوقف عن الغوص في الذكريات"؛ فسرد المرأة للذكريات بمثل هذه التفاصيل الدقيقة من شأنه أن يزيد عذاب مونت وشعورها بالذنب المُطلق مما قد يعيدها إلى خضوعها للمرأة مرة أخرى؛ لذا فالمرأة تُمارس دورها بشكل ناجح بما تسرده عليها/ علينا، وهي تعرف جيدا مدى مقدرتها في السيطرة على مونت، وهو ما يتبين حينما تقول لها: لم يكن لك أحد سواي. قولوها أيضا: كل ذلك يعود إليّ الآن.

إن المرأة المُهيمنة هنا تمارس حربا شعواء من أجل إعادة السيطرة على مونت المارقة التي ترهبنت وهجرت المرأة المُسيطرة، حيث نجحت في الهروب من دائرتها؛ لذا فهي تعمل على إعادة فرض سطوتها بكل الطرق المُتاحة أمامها، حتى لو كانت هذه الطريقة أكثر قسوة وسادية من الناحية الشعورية على مونت، فتخبرها: عبر البحر باتجاه الجنوب تكون الفاكهة حلوة، لا مزيد من التفاح البارد في الشمال، سنسير معا في الحدائق، نستحم في البرك، نلعب في النوافير، الموانئ التي سنقوم بزيارتها مليئة بالأشخاص والبضائع الغريبة، سنقوم بزيارة بعض القلاع، لا حصون، نأكل السمك، ولا مزيد من اللحم، سنتجه لأكثر من ذلك باتجاه الجنوب حيث تكون الأرض حمراء، وحمراء للغاية، حيث تكون الرمال بيضاء مع تفكك المرجان، وحيث تصبح أعيننا بنية، وفي الصباح يمكننا النظر إلى الشعاب المُرجانية عراة ومُتابعتها خلال ساعات. الأسماك الصغيرة المُرتبكة في البرك، والتي لم تفلت في الوقت المُناسب، سنجد الحلزونات والأصداف التي يتعيّن علينا دفنها في الرمال لنخرجها لاحقا عندما تصبح نظيفة ولامعة. من المُضحك النظر إلى السرطانات تختفي في جحورها.


في الشوارع يبيع السُكان الأصليون بضائعهم، ولديهم أيضا بعض القذائف أكبر بكثير من تلك التي يمكن لنا أن نجدها. في الظهيرة يكون الجو حارا جدا للعمل، سنجلس في الشرفة ونتوج بالزهور الحمراء والزرقاء التي ما زالنا لا نعرف أسماءها، ومن حول المنزل يمكننا قطف الليمون الحامض والموز ونلتقي بالأشخاص المُميزين الذين يعيشون هنا. مونت، فكري في السود.

هنا يتضح لنا بشكل جلي أن المرأة السادية تعد مونت بالكثير من الوعود، والأكثر من الأحلام التي تحلم مونت أن تعيشها وتُحققها، وبما أن المرأة تعرف عن مونت كل شيء من تفاصيل حياتها- السيكولوجية منها والمادية بما أنها على علاقة جنسية وعاطفية بها مُنذ كانت طفلة- فهي تلعب على وتر أحلامها، ومشاعرها، ورغباتها، واحتياجاتها الجنسية في حربها من أجل عودة مونت تحت إرادتها وسيطرتها مرة أخرى.

هنا، يلجأ لارس فون ترير إلى رسالة أرسلتها مونت إلى حبيبتها السادية، كانت قد كتبتها لها بعد هجرها لها، وتعرفها على السيدة العجوز- قامت بدورها المُمثلة Jenni Dick جيني ديك- التي كانت السبب في ترهبن مونت، وهجر حياتها السابقة، ومن خلال هذه الرسالة يكشف لنا ترير النقاب عن ذلك الغموض الذي ساد الفيلم، حيث المرأة التي تحكي من خلال المونولوج بينما نرى على الشاشة ما تحكيه وتحاول تذكير مونت به، وهو ما يدعو المُشاهد للتساؤل طوال الوقت: لم تحكي هذه المرأة عن ذكريات الماضي في شكل خطاب موجه إلى مونت، ولم تحاول استعادتها بينما نراهما معا أمامنا على الشاشة؟ لكن من خلال قراءة الخطاب يتجلى لنا السبب في اتباع ترير مثل هذه الأسلوبية السينمائية في تقديم فيلمه، حيث نقرأ مع المرأة المُهيمنة في الرسالة: من المُحتمل أن كل ما فعلته قد جعلك تشعرين بالرضى، وأنا سعيدة بذلك، لكني لست مُندهشة، اسمي ليس مونت، وأنا لست الشيء الخاص بك، لن أتحدث إليك عن الأمان الذي يتمثل في وضع المرء لنفسه تحت تصرف شخص ما، ولا عن الشخص الذي تنتظره، وهل هو سيد بالفعل، ثم من نتوقعه، أنت تعرفين ذلك، وهو ما أعرفه.


لقد قلتِ لي ذات مرة: إنه لأمر مُخيف الوقوع في يد الله الحي، لكني أعتقد أنه من الأسوأ أن يتم رفضك من قبل هذا الإله الحي، أولئك الذين يحبهم والذين يتخلى عنهم مُذنبين، وخاطئين لأنهم هجروا، أتمنى استمرار المُعجزة، ونرجو ألا تختفي الرحمة أبدا.

إن هذه الرسالة المُهمة التي أرسلتها مونت إلى حبيبتها السابقة المُهيمنة عليها توضح لنا الكثير مما خفي علينا طوال مُدة الفيلم، لا سيما السؤال الأهم: لم يستعرض ترير فيلمه بمثل هذه الأسلوبية المونولوجية التذكيرية الغامضة التي تجعل الفيلم مُلتبسا لنا كمُشاهدين طوال مُدة عرضه؛ فمونت كانت قد هجرت حياتها مع حبيبتها المُسيطرة، واتجهت إلى طريق الله/ الرهبنة بعيدا عن البشر بفضل المرأة العجوز التي قابلتها ذات مرة مع حبيبتها، كما أن الرسالة التي كتبتها مونت من الأهمية بمكان ما يؤكد لنا الرؤية السينمائية والأيديولوجية والاجتماعية التي يؤمن بها ترير ويلح دائما عليها في جل أفلامه التي قام بصناعتها؛ هذه الرؤية نُلاحظها في قول مونت من خلال رسالتها: من المُحتمل أن كل ما فعلته قد جعلك تشعرين بالرضى، وأنا سعيدة بذلك، لكني لست مُندهشة.

لعل هذه الجملة الافتتاحية في الرسالة تذكرنا "ببيس" في فيلمه Breaking the Waves كسر الأمواج 1996م، وسيلما أيضا في فيلمه Dancer in the Dark راقصة في الظلام 2000م حيث رأينا الفتاتين اللتين تتسمان بالكثير من المثالية تجاه المُجتمع، بل والسذاجة أيضا، وما دام ما يحدث لهما في حياتهما يُسعد الآخرين ويجعلهم يشعرون بالراحة فهما راضيتين مُتقبلتين كل ما يحدث معهما حتى لو كان مُؤذيا ويؤدي بهما إلى الهلاك- بيس التي قدمت نفسها للرجال تحت ضغط استغلال زوجها لعشقها له حتى أدى بها ذلك إلى الموت على يد أحدهم، وسيلما التي سرقها رجل الشرطة، وأرغمها على قتله بينما تستعيد أموالها التي ادخرتها من أجل إنقاذ طفلها من العمى، ورغم ذلك لم تسرد حكايتها على القضاة لأنها كانت قد وعدت رجل الشرطة بعدم إفشاء سره في أنه مديون للبنوك؛ الأمر الذي أدى إلى إعدامها في نهاية الأمر!

إنها المثالية المُغرقة في الصفات الملائكية، وهو ما لا يصلح في المُجتمع الكريه، القاسي، الأناني الذي نعيش فيه والذي يعمل ترير طوال الوقت على فضحه وكشف زيفه.

المُخرج والسيناريست الدانماركي لارس فون ترير

إذا ما عدنا للرسالة مرة أخرى مع الوضع في الاعتبار الحالتين اللتين سبق لنا الحديث عنهما مُنذ قليل- بيس وسيلما- لكانت مونت هي نفس الشخصيتين المثاليتين اللتين رضيتا بكل ما يقع عليهما من أذى نفسي وشعوري وجسدي لمُجرد إسعاد الآخرين؛ فهي راضية وسعيدة ومُتسامحة مع كل ما حدث لها على يد حبيبتها السابقة المُهيمنة، والتي أوقعت عليها الكثير من الإيذاء الجسدي والنفسي، وسعيدة أيضا لأن هذا الإيذاء قد حقق لحبيبتها فيما قبل الكثير من السعادة، لكنها تدعوها إلى العودة إلى الله الحي الذي آمنت به وبطريقه.

لعل النهاية التي اختارها فون ترير لفيلمه تؤدي بنا إلى الكثير من الدهشة رغم مُناسبتها مع سياق الأحداث؛ فهو من المُخرجين الساخرين من الأديان ووجود فكرة الله، بل هو يتعمد دائما السُخرية من هذه الأفكار، لذا يكون تجاه مونت إلى هذا الطريق من الأمور المُدهشة للمُتابع للسينما التي يقدمها ترير، ولعله في جانب آخر يعمد إلى السُخرية أيضا باعتبار مونت قد ترهبنت، أي أنه يكاد أن يقول لنا إن الإنسان، عادة، ما يتجه من أقصى النقيض إلى أقصى نقيضه، وهو ما رأيناه في حياة مونت التي اتجهت من أقصى حالات المادية- الجنس والمثلية والاستعباد المازوخي- إلى أقصى حالات الروحانية- الترهبن- ومن خلال هذا المفهوم يكون تجاه مونت للرهبنة من قبيل السُخرية التي تخص لارس فون ترير أيضا من الأديان ومفاهيمها. وهو ما تؤكده الجملة الأخيرة في الفيلم: عندما تموت تصعد أرواحنا إلى الجنة مثل طائر أبيض عظيم!

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد يونيو 2025م.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق