الأربعاء، 27 أغسطس 2025

الحفرة: فلسفة التشوه!

في الوقت الذي يكون فيه الإنسان جاهلا بحقيقة أو طبيعية صيرورة الأمور، وكيفية مسيرتها على أرض الواقع يكون أكثر اندهاشا وانفعالية تجاهها حينما تحدث أمامه؛ ومن ثم نراه غير مُصدق لها، أو يشعر بالكثير من الدهشة والذهول أمام ما يراه؛ لأنه في الحقيقة غير مُدرك لطبيعة الواقع بسبب تخيلاته التي يظنها في ذهنه، لكنه حينما يعايش الواقع بقسوته ورداءته، وسطوته وكابوسيته، ويمارسه بشكل يومي يتحول يوما بعد آخر إلى شخص مُعتادٍ لما يدور من حوله، وبالتالي يفقد الكثير من دهشته وانفعاله ويبدأ في اكتساب الكثير من اللامُبالاة والفتور وعدم الاهتمام، وربما شيئا من الحكمة، أو شيئا من القسوة وفقدان التعاطف تجاه كل ما يدور من حوله من أمور قد تبدو غرائبية ومُدهشة رغم واقعيتها المُفرطة التي لا يمكن تغييرها بسهولة، أو مد يد العون لمن يعانون منها.

إن فلسفة القسوة، أو التشوه- إذا ما جاز لنا التعبير- هي المحور الجوهري، والرئيس الذي يدور حوله الفيلم الإسباني ElHoyo الحفرة، أو المنصة تبعا للعنوان الإنجليزي والتجاري للفيلم The Platform، للمخرج الإسباني Galder Gaztelu- Urrutia جالدر جاستلو أوروتيا، وهي القسوة المُفرطة، والأنانية، وعدم الالتفات للآخرين الناتجين عن توحش الرأسمالية في العالم. هذه الرأسمالية التي تؤدي بالجميع إلى الإيغال في الجريمة، وانتهاك حقوق الآخرين، وتحول الجميع إلى مُجرد وحوش لمُجرد الرغبة في المزيد من المال والثروة التي تؤدي بدورها إلى جذب بعض المثاليين والأخلاقيين إلى السقوط في مُستنقع الجريمة بدورهم؛ نتيجة للضغط الاجتماعي والاقتصادي الفوقي عليهم؛ فيؤدي بهم ذلك إلى التغير في أنماط سلوكياتهم، ويسقطون ما يتم مُمارسته عليهم على الآخرين ممن لا ذنب لهم فيه، وتظل هذه السلسلة المُترابطة تمتد إلى ما لا نهاية؛ حتى يتحول العالم بالكامل إلى غابة شاسعة من المُجرمين الذين لا يشعرون بالذنب لجرائمهم، بل يجدون أمامهم دائما المُبررات لهذه الجرائم التي يرتكبونها برضى؛ لأنهم يرون أن الآخرين هم السبب فيها؛ بما أنهم قد دفعوهم إلى ارتكابها!

هذه اللامُبالاة، أو اللااكتراث، أو البلادة التامة فيما يشبه اكتساب الحكمة هو ما نراه حينما يهبط جورنج- قام بدوره المُمثل الإسباني Iván Massagué إيفان ماساجي- إلى الحفرة، ففي الوقت الذي كانت تتملكه الدهشة من كل ما يدور من حوله مُنذ بداية الأمر، نجده، فيما بعد، يبدأ في التأقلم مع الأحداث التي تحدث أمامه رويدا، حتى أنه أصبح لا مُباليا تماما في نهاية الأمر، أو كأنه قد اكتسب من النضج الكافي ما يجعله يترك اندهاش النظرة الطفولية وبراءتها خلف ظهره.


يتناول الفيلم الجرائم البشعة التي يؤدي إليها المُجتمع الرأسمالي، ويؤكد على أن الرأسمالية قادرة على خلق وحوش بشرية لا يمكن لنا تخيلها- ليس على مستوى القمة التي تمتلك فقط، بل هي تخلق وحوشا أكثر قسوة في القاع الاجتماعي الذي تمارس سطوتها عليه وتعمل على طحنه ليل نهار؛ الأمر الذي يجعلهم ينتقمون من بعضهم البعض، أو بالأحرى يتغذون على بعضهم البعض حينما لا يجدون ما يمكن أن يسدون به جوعهم!

يتحدث الفيلم هنا عن مبنى رأسي ضخم يبلغ عددا لا مُتناهٍ من الأدوار/ المستويات، وفي كل مستوى من هذه المستويات يوجد سجينين اثنين فقط، بينما يوجد في سقف وأرضية كل مستوى فتحة مُستطيلة ضخمة تهبط إليها منضدة/ منصة زاخرة بكميات هائلة من الطعام مرة واحدة فقط كل أربع وعشرين ساعة؛ لتظل هذه المنصة لفترة وجيزة من الوقت في كل مستوى، وعلى كل سجينين أن يستغلا فرصة وجودها لتناول وجبتيهما قبل تحركها إلى المستوى الأسفل، وإذا ما احتفظ أي سجين من السجناء بأي طعام معه في مستواه بعد هبوط المنصة فإن درجة الحرارة إما سترتفع تدريجيا حتى يتم احتراقهما تماما، أو ستبدأ في الانخفاض التدريجي حتى يتم تجمدهما؛ لذلك لا بد لكل منهما انتهاز فرصة وجود المنصة في مستواه لتناول طعامه قبل تحركها للمستوى الأقل.

سنُلاحظ أن هذه المنصة تتحرك زاخرة بالطعام الفاخر والهائل من المستوى صفر الذي يتم فيه إعداد الطعام، ثم لا تلبث في التحرك إلى المستوى الأول، فالثاني، وهكذا إلى كل المستويات المُنخفضة إلى ما لا نهاية، أي أن كل مستوى أقل من المستوى الذي سبقه يتناول، بالضرورة، بقايا الطعام التي يتركها المستوى الذي قبله، ومهما كان في المنصة من قئ، أو بُصاق على هذا الطعام؛ فالمستوى الأقل مُرغم على تناول وجبته الوحيدة، وإلا سيموت جوعا، لكن هل يكفي هذا الطعام لجميع المستويات المُنخفضة، أو بمعنى آخر: هل تصل هذه الأطعمة إلى المستويات السحيقة في الانخفاض؟


يبدأ المُخرج جالدر جاستلو فيلمه بمشهد الطعام في المستوى صفر أثناء إعداده، ولعلنا نلاحظ مدى الاهتمام المُبالغ فيه من قبل المُشرف على إعداد الطعام في دقة إعداده، ونظافته، وكأنه طعام ملكي؛ لذلك نرى الطباخين يصنعون الوليمة الضخمة الفاخرة بدقة مُتناهية، واهتمام مُبالغ فيه، مع وجود عازفين للكمان يعزفون على آلاتهم أثناء إعداد الطعام، ويبدو لنا الطباخين وكأنهم يقومون بعمل فني، أو يرسمون لوحات فنية من الطعام؛ مما يُدلل على مدى عنايتهم بما يفعلونه في إسقاط مُهم على الرفاهية المُطلقة التي تمارسها الطبقات الأعلى من المُجتمع.

إن بداية الفيلم بمثل هذا المشهد يكاد يكون من قبيل السُخرية السيريالية إذا ما انتقلنا إلى المشاهد التالية من الفيلم؛ لأن هذا الاهتمام والدقة والنظافة المُبالغ فيهم من أجل إعداد هذا الطعام سنرى في مُقابله، فيما بعد، مسجونين في مستويات مُنخفضة لا يصلهم أي شيء من هذا الطعام؛ الأمر الذي سيؤدي بهم إلى أكل لحوم بعضهم البعض!

يلي هذا المشهد السيريالي شاشة سوداء لنستمع إلى صوت يقول: هناك ثلاثة أنواع من الناس، من هم بأعلى، ومن هم بأسفل، ومن يسقطون. سنعرف فيما بعد أنه صوت تريماجاسي- قام بدوره المُمثل الإسباني Zorion Eguileor زوريون إجيلور- الذي يشرح الأمر لنزيل الحفرة الجديد جورنج؛ لتبدأ الأحداث الحقيقية للفيلم على استيقاظ جورنج في المستوى 48 ويرى تريماجاسي، زميله في المستوى، وهو رجل قد حُكم عليه ببقائه في الحفرة لمُدة عام؛ لأنه ألقى تلفاز من نافذته فهبط على رأس أحد المُهاجرين غير الشرعيين وقتله.


سنعرف أن جورنج هو شاب مثالي مُثقف، رغب في التوقف عن التدخين، والحصول على شهادة ما؛ فقرر بنفسه الهبوط إلى الحفرة لمُدة ستة أشهر كاملة، يخرج منها بعدها وقد حصل على شهادته، وتوقف عن التدخين، ولأن كل شخص يذهب إلى الحفرة له الحق في أن يصطحب معه شيئا واحدا يرغب في اصطحابه؛ فلقد قرر جورنج أن يصطحب معه كتاب دون كيشوت لقراءته!

يحاول جورنج التعرف على زميله في مستواه- تريماجاسي- لكن الرجل يتعامل معه بتشكك وفظاظة، وحينما يسأله جورنج: سيد تريماجاسي، هل تعرف كيف تعمل الحفرة؟ يجيبه الرجل بفتور: بطبيعة الحال، يتعلق الأمر بالأكل، أحيانا ما يكون غاية في السهولة، وفي أوقات أخرى في قمة الصعوبة. يتوقف هذا على مستواك، لحسن الحظ أن المستوى 48 جيد. أي أن الحياة بالكامل في هذه الحفرة تتوقف على المستوى الذي يسكن فيه كل سجين، وكلما كان المستوى مُرتفعا، كلما كان الأمر أجود مما لو كان أكثر انخفاضا؛ لأنه قد لا يصله أي شيء من الطعام.

يعمل المُخرج على استعارة ما يحدث في المُجتمع الرأسمالي الواقعي ويصوغه في شكل آخر ربما يكون أكثر إثارة وجذبا للمُشاهد العادي مما لو تحدث عن الأمر بشكل فيه من المُباشرة ما قد يفقده جانبه الفني أو الجمالي؛ لذلك حينما يحاول جورنج الحديث مع المسجونين في المستوى الأقل منه يحذره تريماجاسي: لا تنادهم، فيسأله مُندهشا: لماذا؟ فيخبره: لأنهم بالأسفل، ومن بالأعلى لن يجيبوا. هنا يندهش جورنج ليسأله عن السبب، فيقول تريماجاسي: بطبيعة الحال لأنهم في الأعلى.


ألا نُلاحظ هنا أننا أمام شكل من أشكال العُزلة الاجتماعية الكاملة بين كل مستوى من المستويات، وهذه العُزلة الكاملة تُحددها الدرجة/ المستوى الذي يوجد فيه كل سجين؛ الأمر الذي يجعلهم لا يتواصلون؟ إن من هم في الأعلى يرون أنفسهم أفضل رتبة ممن هم في المستوى الأقل منهم؛ وبالتالي لن يتواصلوا مع من هم تحتهم، ومن هم في المستوى الأقل سيرون من تحتهم كذلك لا يستحقون التواصل معهم، رغم أن فعل الامتناع عن التواصل سبق مُمارسته عليهم ممن هم فوقهم، وبالتالي لا يجب عليهم أن يعيدوا مُمارسته مع من هم أدنى منهم، لكنهم بالفعل يقومون بفعله رغم أن نفس الفعل وقع عليهم ممن هم فوقهم، وهذا ما نراه في الواقع الاجتماعي وتشكيله التراتبي؛ فالأعلى اجتماعيا واقتصاديا يتجاهلون من هم أدنى منهم؛ وبالتالي لا يمكن أن يكون بينهم أي شكل من أشكال العلاقات؛ الأمر الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى تفسخ المُجتمع وتحويله إلى مجموعة من الجُزر المُنعزلة التي لا يعني كل جزيرة فيها سوى مصلحتها الشخصية فقط، وهو ما يؤدي في النهاية إلى انهيار المُجتمع ودفع بعض الطبقات باتجاه الجريمة والعنف.

بما أن المُجتمعات الرأسمالية تكاد أن تتواضع على هذه القيم المُدمرة للجميع، وهي في حقيقتها مجموعة من القيم العدمية؛ فهم يرون أن كل من يرغب في تخطي هذه المواضعات القيمية شاذا، أو لا بد من اتهامه بجريمة ما، وهو ما نراه حينما يلمح جورنج أن الطعام الذي يهبط إليهم لا يمكن أن يبقى منه شيئا للمستويات الأقل التي تموت من الجوع؛ فيقول لتريماجاسي: يجب أن نتواصل مع من هم بالأعلى، فيسأله: لماذا؟ يقول: يجب أن يحددوا حصصهم من الطعام، سيخبرون مستوى 46، وهؤلاء سيخبرون مستوى 45 وهلم جرا؛ فيرد عليه تريماجاسي مُستنكرا: هل أنت شيوعي؟ ليقول جورنج: أنا موضوعي، تحديد الحصص فيه عدالة، لكن تريماجاسي يرد من دون اقتناع: من بالأعلى لن ينصتوا إلى الشيوعيين!

ألا نرى أن مُجرد رغبة جورنج في عدالة التوزيع من أجل إنقاذ من يموتون من المساجين قد بات أمرا شاذا؛ ومن ثم تم اتهامه بالشيوعية؟ إنه اعتياد القبح، أو القسوة، أو التشوه من طول ما بات يوميا واكتسب عاديته في حياة الجميع، وبالتالي يصبح موت الملايين كل يوم بسبب الجوع هو أمر اعتيادي لا يجب علينا تأمله أو التفكير فيه كثيرا؛ الأمر الذي يجعل من يفكر فيه أو يحاول تأمله بمثابة إنسان شاذ، ولا بد من اتهامه بالعديد من الاتهامات من أجل تفسير خروجه عن الجماعة التي اعتادت على الموت والقسوة.

إن هذه العزلة الاجتماعية بين الطبقات المُختلفة يؤدي بالضرورة إلى العداء المُتبادل بين طبقات المُجتمع المُتمثلة في مستويات الحفرة؛ فحينما يحاول جورنج الحديث مع المستوى الأقل منه يقول له أحدهم: اتركوا لنا مزيدا من النبيذ المرة القادمة أيها الأوغاد؛ فينهض تريماجاسي للتبول عليهم قائلا: ها هو نبيذكم أيها السفلة، من بالأسفل هم بالأسفل يا جورنج، وحينما يرد عليه جورنج قائلا: ربما سيصبحون في الأعلى الشهر القادم، يقول تريماجاسي بإقرار وطبيعية: نعم، وسيتبولون علينا!


هنا إقرار كامل بتفسخ العلاقات الاجتماعية، ويقين حقيقي بأن من يمتلك المال اليوم لديه الحق في التصرف كيفما يشاء مع الطبقات الأخرى مهما كانت تجاوزاته، أو جرائمه؛ فالمال يعطيه السُلطة والحقوق الكاملة في إبادة الطبقات الأخرى، أو مُمارسة الجريمة، والإهانة على من هم أقل منه، وبما أن سجناء الحفرة يتغير مستواهم في نهاية كل شهر بشكل عشوائي، أي أن من هم في المستوى الأعلى قد يجدون أنفسهم في مستوى متوسط أو شديد الانخفاض في الشهر التالي؛ فلقد أجاب تريماجاسي هذه الإجابة التي قد تبدو لنا لا عقلانية: نعم، وسيتبولون علينا، أي أن الطبقات الاجتماعية الأدنى تؤمن بأنها ما دامت في مستويات أقل؛ فمن الطبيعي أن تُمارس معهم المُمارسات التي يلاقونها ممن هم أعلى منهم، لكنهم في ذات الوقت لديهم يقين أنهم إذا ما صعدوا في السلم الاجتماعي إلى مستويات أعلى مما هم فيه؛ فعليهم أن يمارسوا مع من لم يلحق بهم نفس المُمارسات التي مُورست عليهم من قبل!

يحرص المُخرج جالدر جاستلو على محاولة توسيع عالمه المُنغلق تماما على نفسه بتعدد الشخصيات فيه؛ فيقدم لنا شخصية ميهارو- قامت بدورها المُمثلة الإسبانية Alexandra Masangkay أليكسندرا ماسنكاي- التي تهبط مع المنصة من مستوى أعلى، وحينما يبدي جورنج اندهاشه يخبره تريماجاسي ألا يقلق حيالها ويتناول طعامه؛ فلكل سجين في الحفرة حرية التنقل في المستويات كيفما رغب، وهي امرأة تبحث عن ابنها الذي فقدته في الحفرة ولا تعرف طريقه، لكنها قبل نزولها تقتل شريكها في الزنزانة؛ لتحسين فرصتها في أن تكون مع ولدها في الشهر التالي، بل ويخبره أن الجثة التي رآها تهبط من أعلى إلى أسفل في اليوم السابق كانت على الأرجح لشريكها في الزنزانة!

يحاول جورنج التعامل بشكل كبير من الإنسانية مع ميهارو التي تألف إليه خلافا للآخرين الذين تنفر منهم بسبب محاولاتهم الدائمة في الاعتداء عليها واغتصابها حينما تهبط مع المنصة.


في نهاية الشهر يسأل تريماجاسي جورنج: هل تؤمن بالله؟ فيرد مُندهشا: لم تسألني هذا السؤال؟ فيقول تريماجاسي: لو كنت تؤمن بالله؛ فادعِ لنا، هل تشم هذه الرائحة؟ إنها رائحة الغاز، نحن في نهاية الشهر، وسننام بعد لحظات، ولن نفيق إلا في مستوى جديد لا نعرفه. لكن رغم الصداقة القوية التي ربطت بين الاثنين؛ فحينما يستيقظ جورنج يجد نفسه مُقيدا تماما، غير قادر على الحركة، وحينما يحاول جاهدا التخلص من قيوده يخبره تريماجاسي أنهما قد انتقلا إلى المستوى 171 قائلا: هذا ليس بالمكان الجيد، هل تفهم الآن؟ أنت أصغر مني، وأقوى مني، ربما لا تهاجمني اليوم أو غدا، ولكن بمرور الوقت ستنظر إليّ بشكل مُختلف، الجوع يجلب الجنون، في هذه الحالات إما أن تأكل أو تؤكل. بطبيعة الحال لا أريد أن أقتلك؛ سيتعفن جسدك سريعا، ولن تحصل على أي طعام، كما أنني لن أشل حركتك على الفور كذلك، يمكن تحمل الصوم في الأسبوع الأول!

أي أن المُخرج هنا يؤكد على أنه في عالم من المُعاناة والفقر والجوع لا مكان فيه للصداقات أو المشاعر، أو القيم؛ هنا يصبح قانون البقاء هو الأجدى والمُسيطر على كل شيء، وما دام المُجتمع بطبقاته الأعلى المُهيمنة على كل شيء قد وضعت الطبقات الأخرى في مثل هذا الوضع البائس والكابوسي؛ فليس أمام أفراد هذه الطبقات سوى محاولة البقاء على قيد الحياة بأي شكل، وهو الأمر الذي لا يكون إلا من خلال الجريمة، والخديعة، والتخلي عن كل القيم من أجل هدف واحد فقط هو عدم الموت حتى لو كان هذا البقاء من خلال أقرب الناس كالصديق، أو الأخ، أو الابن، المُهم هنا هو القدرة على البقاء حيا؛ لذلك يبرر تريماجاسي فعله تجاه صديقه جورنج قائلا: ستتلاشى صداقتنا ببطء، ستنتهي بعدم ثقة مُتبادلة تؤدي إلى الصراع والجريمة. أعرف، لقد اختبرت ذلك فيما قبل، فيقول له جورنج: أنت قاتل لعين، لكنه يرد عليه: أنا خائف فحسب!

المُخرج الإسباني جالدر جاستلو أوروتيا

ألم نقل مُنذ قليل: إن الفقر والعوز، والحاجة، والجوع الذين تتسبب فيهم الطبقات الأعلى لا بد لهم أن يؤدوا بالمُجتمع والطبقات الأدنى إلى الجريمة المُبررة؟ إنها الجريمة التي يمارسونها برضى ضمير كامل؛ لأنهم يجدون المُبرر فيما يفعلونه باعتبار أن الطبقات الأعلى هي المسؤولة عنه مسؤولية كاملة، وهو ما اتضح حينما قال جورنج: ستكون الوحيد المسؤول عن موتي أيها الوغد، لكن تريماجاسي يرد باطمئنان: لا، من بأعلى يجعلونني أفعل ذلك، الـ340 كلهم مسؤولون أمامي؛ وبالتالي فإن التهام الطعام في المستويات الأعلى، وعدم التفكير فيمن هم أسفل يجعل تريماجاسي وغيره يمارسون جرائمهم بضمير مُطمئن؛ لأن من التهموا الطعام وجعلوا المنصة تهبط إليهم خاوية تماما حتى من العظام هم السبب في لجوء تريماجاسي وغيره إلى محاولة قتل جورنج، وقطع لحمه من أجل التهامه.

يحاول تريماجاسي قطع شريحة من فخذ جورنج والتهامها، لكن في هذه الأثناء تهبط المنصة الفارغة من الطعام ومعها ميهارو التي تهجم على تريماجاسي وتقتله وتنقذ جورنج، هنا نرى ميهارو وهي تحاول الاعتناء بجورنج بينما تتناول لحم تريماجاسي مُتغذية عليه في هذا المستوى المُنخفض الذي لا يصله الطعام، كما تُطعم جورنج من لحم تريماجاسي وهو اللحم الذي لا يستسيغه في البداية، لكنه حينما يقرصه الجوع يعتاد على الأمر ويبدأ بنفسه في تقطيع لحمه والتهامه، حتى أننا نراه يلتهم اللحم من بين الدود بعد تعفن الجثة.

في الشهر التالي ينتقل جورنج إلى المستوى 33 وحينما يفيق يُفاجأ بوجوده مع إيموجيري- قامت بدورها المُمثلة الإسبانية Antonia San Juan أنتونيا سان وان- وهي السيدة التي كانت تأخذ بياناته في إدارة الحفرة، ومن ثم وافقت على هبوطه إليها، وحينما يخبرها أن هذا المكان بمثابة جريمة لا يمكن التغافل عنها، ترد عليه مُقتنعة: نُفضل تسميته المركز العمودي للإدارة الذاتية، فيسألها عن عدد مستويات الحفرة، لتخبره بأنها 200 مستوى، هنا يقول لها: لا نحصل على طعام يكفي 200 مستوى؛ فترد: إذا أكل كل شخص ما يحتاج إليه فقط؛ سيصل الطعام إلى أقل المستويات!

الممثل الغاني الأصل الإسباني الجنسية إيميليو بيولي كوكا

أي أنها مُقتنعة تماما- بما أنها تعمل في إدارة هذا المكان مُنذ 25 عاما- بأن المكان صالح للحياة، وأن كل مستوى لو اكتفى بحاجته فقط؛ فإن الطعام سيكفي الجميع. بالتأكيد هذه نظرية اقتصادية صحيحة؛ فلو أخذ كل إنسان ما يكفيه من موارد من دون ظلم، أو جشع، أو طمع؛ ستكفي هذه الموارد البشرية بالكامل، ولن نجد من يموت من الجوع، أو يحاول السرقة أو القتل من أجل الطعام، لكن هذا الكلام على المستوى النظري فقط، وهو ما لا يمكن أن نراه على أرض الواقع؛ حيث يحاول كل شخص الحصول على القدر الأكبر مما أمامه مهما كان في غنى عنه، لكنها في النهاية غريزة التملك، وهي الغريزة التي تجعل كل من هم في المستويات الأعلى يحصلون على كل ما لا يرغبونه لمُجرد الحصول عليه.

إن إيمان إيموجيري بأن إدارة الحفرة على صواب فيما تفعله يجعلها تقول: يجب أن يحدث شيئا في المركز العمودي في النهاية، شيئا يحفز التضامن العفوي؛ فيرد عليها: هل لهذا السبب أسسوا هذه الحفرة اللعينة؟ التغيير لا يكون عفويا قط يا سيدتي.

ربما كان في عبارة جورنج الأخيرة الكثير من الواقع والحقيقة، بل والحكمة أيضا؛ فالتغيير، والتضامن العفوي الذي تتحدث عنه إيموجيري لا يمكن له بالفعل أن يكون عفويا، ولا بد له من سُلطة ، وأدوات للتغيير من أجل الوصول إليه؛ لأن طبيعة البشر تميل باتجاه التملك حتى لو لم يكونوا في حاجة ماسة إليه، وهو ما يؤكده المُخرج حينما نرى مشهد السجناء في المستويات العليا، الذين يمثلون الطبقات الأعلى في المُجتمع، حيث يتناولون طعامهم بجشع لا مثيل له، بل ويصعدون على المنصة الزاخرة بالطعام بأرجلهم ليتراقصوا عليه ويبعثرونه مُلقين به هنا وهناك في إهدار واضح للموارد التي لا تكفي المستويات الأقل، ورغم أن هؤلاء السجناء الذين يفعلون ذلك كانوا في مستويات أخرى أقل، وعانوا الكثير من الجوع فيما قبل، إلا أنهم حينما وصلوا إلى المستويات الأعلى تناسوا مُعاناتهم وكانوا سببا في مُعاناة الآخرين ممن هم أقل منهم، وهو ما نراه في الحياة الواقعية تماما؛ فالناس الذين وصلوا إلى مستويات اجتماعية واقتصادية مُتقدمة في المُجتمعات، بالضرورة، لم يكونوا كذلك، وبالتأكيد عانوا الكثير قبل وصولهم إلى هذا الموقع الاجتماعي، لكنهم حينما يصلون إلى هذا الموقع تسقط المُعاناة من ذاكرتهم، أو كأنهم يحاولون تعويض ما كان ينقصهم ويعانون منه بإسقاط هذا النقص على غيرهم؛ لذلك رغم أن إيموجيري قد هبطت إلى الحفرة برغبتها المُطلقة اقتناعا منها أن تجربة الحفرة هي تجربة مثالية؛ فإنها تُصاب في النهاية بخيبة كبيرة، وتُدرك حجم المُعاناة، ومقدار الخديعة التي تعرضت لها هي وكل من يعمل مع إدارة الحفرة حينما ترى ما يحدث أمامها، بل وحينما تتأكد أن كل المعلومات التي أخبرتها بها الإدارة هي معلومات كاذبة لا صحة فيها، لا سيما أنها في الشهر التالي انتقلت إلى المستوى 202 رغم أن الإدارة قد أخبرتها أن الحفرة لا تزيد عن 200 مستوى؛ وهو الأمر الذي يجعلها بمُجرد ما تفيق في المستوى 202 تشنق نفسها في محاولة منها لتوفير الغذاء الكافي لجورنج الذي لا بد له أن يتعذى على جسدها هذا الشهر لحين انتقاله إلى مستوى جديد!

في الشهر الخامس ينتقل جورنج إلى المستوى 6، وحينما يفيق يجد أمامه رفيقه الجديد بهارات- قام بدوره المُمثل الإسباني الجنسية الغاني الأصل Emilio Buale Coka إيميليو بيولي كوكا- هنا يبدأ جورنج في التفكير من أجل إرغام الجميع على الالتزام بحاجتهم من الطعام فقط من أجل وصول الطعام لجميع المستويات المُنخفضة، ويقول لبهارات: ساعدني على الهبوط، لنخترع أسلحة، سنصعد على المنصة ونوزع ما يكفي للأكل في كل مستوى، لكن بهارات يقول له: إن الهبوط بمثابة انتحار، فيرد جورنج: إن أنزلنا الطعام حتى المستوى الأخير، نكون قد خالفنا نظام الحفرة، إلا أن بهارات يقول بيأس: لا يوجد أي نظام في الحفرة، الحفرة هي الحفرة، الحفرة هي سجن لعين، نحن حتى لا نعرف مدى عمقها.

الممثل الإسباني إيفان ماساجي

يؤكد جورنج أن الحفرة تصل إلى حوالي 250 مستوى، وأنه حينما كان في المستوى 202 كان يحسب توقيت نزول المنصة حتى عودتها في الصعود مرة أخرى، ومن خلال عملياته الحسابية لا يمكن لها أن تكون أكثر عُمقا من ذلك؛ فيوافق بهارات على مُساعدته في التوزيع العادل للطعام، لكن جورنج يؤكد على أنه لكي يحققوا هذا التوزيع العادل؛ فلا بد للخمسين مستوى الأول أن يصوموا عن الطعام لمُجرد يوم واحد، ويبدأ هذا التوزيع من المستوى 51، لكنهم من أجل تحقيق هذه العدالة يرتكبون الكثير من الجرائم التي قتلوا فيها الكثيرين من السجناء!

ألا نُلاحظ أن تحقيق العدالة هنا لا بد له من ضحايا؟ إن حرمان سجناء الخمسين مستوى الأول من الطعام لمُدة يوم من أجل إيصال الطعام للمستويات التي تلي المستوى 51 ليس فيه أي منطق أو عقلانية، وهذا ما يقوله أحد السجناء: تبا، أنا في المستوى السابع، ويحق لي أن آكل كيفما أشاء، كدت أموت في المستوى 114 الشهر الماضي، أين كنتما وقتها أيها الوغدان؟ من أنت؟ المسيح، هل أنت هنا لتفتدينا؟

إن حديث السجين السابق يحمل قدرا كبيرا من المنطقية والعقلانية؛ فهو أيضا كاد يموت في المستويات المُنخفضة، وليس من حق أحد أن يصوم تماما من أجل إعطاء الطعام للآخرين؛ لذلك فإن محاولة تطبيق عدالة التوزيع بمنع الطعام عن المستويات الـ50 الأولى، قد أدى إلى الكثير من الضحايا الذين قتلهم كل من جورنج وبهارات، أي أن المثالية المُفتقدة على أرض الواقع لا سبيل للوصول إليها من دون ضحايا، وكأنما المُخرج يرغب في التأكيد على أن المثالية لا مكان حقيقي لها على أرض الواقع، وأنها مُجرد أضغاث أحلام؛ لأن تحقيقها يؤدي إلى المزيد من الدماء والضحايا؛ الأمر الذي ينفي عنها صفة المثالية في نهاية الأمر.

لكن، أليس ثمة شبها عميقا بين ما قام به الاثنان من أجل تحقيق عدالة التوزيع، وما نعرفه في الأدبيات الماركسية باسم ديكتاتورية البروليتاريا؟ إذن، فالمُخرج هنا يقدم لنا مشهدا فيه العديد من الدلالات والإسقاطات التي تؤكد على الفكر الاشتراكي الذي لا يمكن تحقيقه، ولا يمكن الوصول إليه إلا على جثث ودماء الكثيرين من الضحايا من أجل تحقيق العدالة المطلوبة، أي أن الرأسمالية الجشعة لها ما لا يُعد ولا يحصى من الضحايا، كذلك فإن الفكر الاشتراكي الذي يبتغي الوصول إلى عدالة التوزيع له الكثيرين جدا من الضحايا بدوره! وهو ما نلحظه أيضا في رمزية اصطحاب جورنج لكتاب "دون كيشوت" معه إلى الحفرة، فدون كيشوت ظل يحارب طواحين الهواء في حياته باعتباره مُناضلا، أي أنه كان يحارب الفراغ، وهو ما يتواءم تماما مع شخصية جورنج الذي يحاول تحقيق العدالة في عالم لا عدالة فيه، لكن، رغم محاولتهما بالفعل توزيع الطعام بشكل عادل وكافٍ لكل مستوى من المستويات نلاحظ أن الطعام ينتهي تماما بينما المستويات المُنخفضة لم تنته بعد، وهو ما نراه في المستويات السحيقة؛ حيث الكثير من الجثث، والقتلى، والمستويات التي تخلو من سجنائها بعد انتحارهم، والمستوى الذي نرى فيه سجينا يمتلك الآلاف من الدولارات، لكنها لا تعني شيئا سوى مجموعة من الأوراق التي لا قيمة لها من دون توفير الطعام/ الموارد الكافية لاستكمال الحياة.

يلاحظ كل من جورنج وبهارات أن المنصة لا تتوقف في المستويات التي خلت من سجنائها، أو مات من فيها، كما أن المستويات مُنخفضة بشكل لا يمكن أن يتخيله أحد إلى أن توقفت بهم المنصة في المستوى 333، وهو المستوى الذي وجدوا فيه طفلة وحيدة- ربما هي طفلة ميهارو- قامت بقتل بهارات أثناء نومه للتغذي على جسده.

الممثل الإسباني زوريون إجيلور

يحرص المُخرج طيلة فيلمه على وجود حوار بين جورنج وتريماجاسي في ذهنه، وهو الحوار الذي يمكن تفسيره باعتباره حوار الضمير، أو مُجرد هلاوس أدت إليها الظروف الضاغطة التي يمر بها جورنج، لا سيما بعد تغذيته على جثة تريماجاسي، وفي المستوى 333 يرى تريماجاسي أمامه يحادثه، ويطلب منه عدم الصعود مع المنصة؛ لأن مهمته قد انتهت، وعليه أن يبعث بالطفلة إلى المستوى صفر باعتبارها رسالة من السُجناء في الحفرة؛ لتوضح لهم مُعاناتهم، والظروف التي يعيشون فيها، وبالفعل يقبل جورنج اقتراح تريماجاسي ويظل معه في المستوى الأخير المُظلم بينما تصعد المنصة بالطفلة ليسأل تريماجاسي جورنج: هل ستنجح؟ إنها الرسالة؛ ليرد عليه جورنج المُنهك تماما: أجل إنها الرسالة، وكأنما المُخرج هنا يريد التأكيد على أن التغيير لا يمكن له أن يتم من خلال الأجيال التي عانت مثل هذه الفوضى الاجتماعية وعاشتها، ومارستها؛ فهؤلاء مهما أرادوا التغيير فلقد اعتادوا على ما يدور من حولهم، لكن التغيير الحقيقي لا بد له أن يأتي من الأجيال الجديدة المُمثلة في الطفلة الصغيرة؛ لتكوين مُجتمعات جديدة لها قيمها ومُثلها الخاصة والمُختلفة عن هذه المُجتمعات القديمة التي توحشت وقتلت بعضها البعض.

قد يبدو الفيلم الإسباني "الحفرة" للمُخرج جالدر جاستلو أوروتيا من أفلام الرعب، أو الإثارة، أو العنف، أو من أفلام آكلي لحوم البشر على المستوى الظاهري، لكن مع تأمل الفيلم بشكل أعمق؛ سيتأكد لنا أن المُخرج وكتاب السيناريو يمتلكون من الحكمة والذكاء ما يجعلهم يتأملون ما يدور في المُجتمع، ومن ثم استعارته في هذا الشكل من الأفلام التي يُقبل عليها الجمهور؛ الأمر الذي يجعلهم يستطيعون نقاش الكثير من الأمور الاجتماعية، ومُهاجمة الرأسمالية العالمية الجشعة، وتصوير جرائمها وما وصلت إليه من خلال شكل فيلمي مُثير، وجاذب للجميع باعتباره من أفلام التسلية المُثيرة في الوقت الذي صنعوا من خلاله ما يرغبونه، وقالوا حقيقة ما وصل إليه المُجتمع الرأسمالي العالمي من قسوة وجشع، كما لا يفوتنا الأداء المُتقن للمُمثلين جميعا لا سيما المُمثل الإسباني إيفان ماساجي الذي أدى دوره ببراعة لا يمكن تخيل غيره فيها، خاصة المشاهد التي تبدو فيها الكثير من اللامُبالاة على ملامحه، كما أنه مال في النصف الثاني من الفيلم إلى تقمص دور المسيح تماما، بل وشكله في إيحاء منه إلى أن ما يقوم به من مهمة هي افتداء لجميع المسجونين في هذه الحفرة وكأنه المسيح، كما أن المُمثل الإسباني زوريون إجيلور قد قدم لنا دورا من أهم الأدوار التي لا يمكن لها أن تنسحب من الذاكرة بسهولة؛ لإتقانه وطرافته، وسهولته التي تعلق بالذهن.

إلا أن البطل الحقيقي في هذا الفيلم كانت هي الإضاءة التي استخدمها المُخرج بذكاء وإتقان في مكانها وتوقيتها المُناسبين تماما؛ لذلك غلب اللون الأزرق الباهت في العديد من المشاهد للدلالة على البرودة والثلجية والموت، بينما غلبت الإضاءة الحمراء في مشاهد أخرى للتدليل على الجريمة والعنف والدماء، وهي الألوان التي كان المُخرج يراوح بينها بذكاء في التوقيت الذي من المُمكن لها أن تعبر عنه.

 

 

 محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".
عدد أغسطس 2025م.

 

 

 

الجمعة، 15 أغسطس 2025

العطش: رؤية غاضبة للعالم نتيجة لسوء الفهم!

هل من المُمكن لسوء الفهم أن يؤدي بنا إلى التعامل مع العالم بشيء غير قليل من الغضب، راغبين في تدميره، وتدمير الآخرين، وربما الرغبة في تدمير أنفسنا أيضا؟

لا يمكن إنكار أن سوء التفاهم- لا سيما مع المُقربين منا- من شأنه أن يحوّل مشاعرنا تجاه كل الأشياء إلى قنبلة موقوتة، شحنة هادرة من الغضب المُندفع قادرة على الانفجار في أي لحظة لتدمير كل المُحيط الذي يحيط بنا، خاصة الحلقة المُقربة منا من الأشخاص، حتى لكأنما الأمر يكاد أن يشبه عملية انتحارية، نقوم فيها بتدمير ذواتنا أولا، قبل تدمير الآخرين فيها! معنى ذلك أن الغضب هو الكابوس الحقيقي القادر على تشويه أرواحنا ورؤيتنا باتجاه العالم والأشياء، والأشخاص. حينها تتحول الرؤية إلى مُجرد رؤية انتقامية، لا دخل للعقل فيها بقدر الرغبة في الانتقام من الجميع، الإحساس بأن العالم بالكامل قد أساء إلينا، الذهاب إلى إسقاط مشاعرنا السلبية العميقة على كل من يحيط بنا، وعلى أنفسنا أيضا، وبالتالي يصبح هذا الشخص الغاضب مُجرد أداة للهدم، والانتقام، والتدمير، والإقصاء لكل شيء، ولأي مشاعر إيجابية، رغم أنه مع زوال هذا الغضب يعود العالم إلى طبيعته، ومن ثم يستطيع المرء العودة إلى التصالح مع كل ما يحيطه، بل والتصالح مع ذاته، ومن ثم- بالضرورة- الاندهاش من الحالة الغاضبة التي كانت تتلبسه، وتُغيّر من منظور الأشياء في عينيه بشكل مشوه، وتدفعه إلى مثل هذه الحالة التخريبية.

هذه الحالة الغضبية قد تكون كامنة داخل بعض الأشخاص، لا يبدو عليهم إطلاقا أنهم يحملونها، لكنها في استتارها داخلهم- ورغم هدوئهم الظاهري- تنمو مُتعاظمة كمرض خبيث، تتعملق فيه كالخلية وتنقسم انقسامات جنونية إلى أن تظهر آثارها فجأة على هذا الشخص الغاضب مما يُهدد استقرار حياته، وحياة من يحيطون به بسبب خروجها على السطح وبداية ترك آثارها على كل ما يقوم به.

إن نشأة الغضب بسبب سوء الفهم يعود في المقام الأول إلى عدم اللجوء إلى المواجهة الصريحة والمُباشرة مع الأشخاص الشاعرين بالغضب منهم، أي أن السبب الرئيس في مثل هذه الحالة المُدمرة يعود إلينا في المقام الأول، لأننا إذا ما حاولنا المواجهة بمُجرد الشعور بالإساءة المُؤدية إلى الغضب لاستطعنا ببساطة تفادي هذه الحالة المشوهة لكل ما يحيطنا، ولظلت الأمور هادئة كما هي من دون أي رغبات سلبية، أو مُدمرة.

الغضب، وسوء الفهم هما ما تتأمل فيهما بعمق الروائية الهولندية إستير خيريتسين، وتحاول الإبحار فيهما حتى النهاية في روايتها "العطش"، حتى أنها تحولهما إلى ركيزتين أساسيتين للعالم، ولولاهما لانهار العالم الروائي الذي لجأت إلى بنائه بأكمله.

تبدأ إستير خيريتسين روايتها باقتحام العالم الروائي من قلبه مُباشرة، أي من دون أي مُقدمات أو تمهيدات للدخول إلى عالمها الروائي التي هي بصدد روايته، وهي من خلال هذه الأسلوبية المُقتحمة تكون قد استطاعت امتلاك قارئها بمهارة حتى نهاية سردها، لأنه سيجد نفسه داخل الأحداث مُباشرة- رغم عدم معرفته بالإرهاصات السابقة على هذا الحدث الذي بدأت منه- أي الإرهاصات التي شكلت الشخصيات الروائية ودفعتها إلى سلوكياتها- الإيجابية منها أم السلبية- مما يستدعي بالضرورة خلق العديد من التساؤلات داخل نفس القارئ الذي سيظل في حالة دائمة من انتظار الإجابات التي ستتوالى عليه مع استمرارية السرد والتلقي؛ لذا تبدأ إستير روايتها بكتابتها لهذا المقطع: "لأول مرة في حياتها تلتقي إليزابيث بابنتها مُصادفة وعلى غير توقع. تخرج من الصيدلية في شارع "أوفرتوم"، وتكاد تعبر الطريق إلى محطة الترام عندما ترى ابنتها تقود دراجتها ماضية على الجانب الآخر من الشارع، وتراها ابنتها كذلك. تتوقف إليزابيث عن المشي، وتتوقف ابنتها عن التبديل، لكنها لا تكبح الفرامل بعد. يفصلهما اتساع شارع "أوفرتوم" بأكمله: مساران للدراجات، وحارتان للسيارات، وخط ترام مزدوج. تُدرك إليزابيث على الفور أنها يجب أن تُخبر ابنتها بأنها تموت، وتبتسم كشخص على وشك أن يحكي نكتة".

إن بداية الروائية لروايتها بمثل هذا الموقف الذي لاحظناه في الاقتباس السابق من شأنه أن يثير فينا العديد من التساؤلات: لِمَ تلتقي إليزابيث بابنتها مُصادفة، وما السبب الذي سيجعلها تموت، وكيف لا تعرف ابنتها شيئا عنها؟ وغير ذلك من التساؤلات التي لا بد لها من البزوغ في أذهاننا، مما يجعلنا راغبين في الاستمرار ومُتابعة السرد للنهاية من أجل الحصول على الإجابات لمثل هذه الأسئلة، وغيرها من التساؤلات التي لا بد لها أن تُترى على أذهاننا في متوالية كبيرة، لا سيما أن الروائية هنا لا تكشف عن عملها الروائي بسهولة، بل هي تُمارس فعل الكتابة بتمهل، واستمتاع، وروية مما يجعل لحظات الكشف نادرة، ولا تأتي إلا بعد تمهل كبير، ومرور الكثير من التفاصيل الروائية.

هذه الرغبة في امتلاك القارئ امتلاكا كليا؛ فلا يفلت من تفاصيل روايتها- حتى لكأنها تحاول عدم إعطائه الفرصة لالتقاط أنفاسه- تجعلها تستمر في الغموض، أو عدم منح الأسباب لردود فعل الشخصيات الروائية إلا بعد فترة كافية- بالنسبة لها- من السرد؛ وبالتالي نُلاحظ استمرارية هذا الغموض في الفقرة التالية مُباشرة: "غالبا ما تجد صعوبة في الحديث مع ابنتها، لكن الآن لديها بالفعل شيء تقوله لها. بعد جزء من الثانية يخطر على بالها أنك لا يجب أن تنقل أخبارا كهذه بحماسة أكبر من اللازم، وربما ليس هنا أيضا. قي تلك الأثناء تعبر شارع "أوفرتوم" وتفكر في طبيبها، وكيف يظل يسألها: هل تخبرين الناس؟ وكم سيكون لطيفا أن تتمكن من تقديم الإجابة الصحيحة في موعدها القادم. تعبر بين سيارتين. تفرمل ابنتها وتنزل عن دراجتها. تقبض إليزابيث على الكيس البلاستيكي من الصيدلية الذي يحوي لصقات المورفين وتركيبة السعال. الكيس دليل مرضها، وكأن كلماتها وحدها لن تكون كافية. والكيس أيضا عذرها؛ لأنها لم تكن تريد بالفعل أن تتحدث عن هذا الأمر هنا، هكذا بشكل غير لائق في الشارع، لكن الكيس قد كشف سرها. أليس كذلك؟ نعم، والآن، على نحو مُفاجئ هكذا، تعبر إليزابيث شارع "أوفرتوم"، وتنزلق خلف ترام؛ لأنه ليس لائقا، ابنتها على جانب من الشارع وهي على الجانب الآخر. ليس من اللائق أن تلتقي بابنتك مُصادفة، وعلى غير توقع".

إذن، فاقتحام الحدث الروائي من قلبه كان آلية سردية جيدة وذكية من الكاتبة من أجل إثارة الكثير من التساؤلات، واستمرارية القارئ معها إلى أقصى قدر مُمكن من السرد، أي حتى نهايته.

ربما سنُلاحظ هنا أن ثمة جفاف في العلاقات بين الشخصيات الروائية، وهو الجفاف الذي يجعل الحوار بينهم يكاد أن يكون أشبه بالجزر المُنعزلة، حتى لكأنما كل شخصية روائية تتحدث إلى ذاتها حديثا منولوجيا أكثر من كونه حديثا مُشتركا ما بين شخصين أو أكثر، أي انعدام العلاقات والمُشاركة الشعورية ما بين الشخصيات، وهو ما يُدلل على وجود قطيعة، وصدع كبير في العلاقات ما بين الشخصيات جميعها، لكن وجود مثل هذا الصدع ما بين الأم وابنتها من شأنه أن يثير فينا المزيد من التساؤل: لِمَ هذا الصدع العميق، وما هو السبب فيه، وكيف وصلت العلاقة بين الأم وابنتها إلى هذا الشكل؟ وهي أسلوبية تختارها الكاتبة بمهارة في سردها الروائي، ولنتأمل: "تُلاحظ إليزابيث على الفور أن ابنتها قد زاد وزنها، وتقول دون تفكير: هل قصصت شعرك مرة أخرى؟ لأنها مرعوبة من أن تتمكن ابنتها من قراءة الفكرة الأخيرة عن وزنها. إليزابيث تحب أن تتكلم عن شعرهما؛ فلديهما نفس الحلاق. "لا" تقول ابنتها. "لون مُختلف إذن؟". "لا". "لكنك ما زلت تذهبين إلى نفس الكوافير؟". "نعم". "وأنا أيضا" تقول إليزابيث. تومئ ابنتها برأسها. يبدأ رذاذ في السقوط".

مع تأمل الاقتباس السابق تتأكد لنا فكرة القطيعة، أو الصدع العميق في العلاقة ما بين الأم والابنة؛ فكل منهما لا تعرف شيئا عن الأخرى، ورغم أن كلتيهما تذهبان إلى نفس الكوافير، إلا أنهما لا تلتقيان هناك، ولا في أي مكان، ولعلنا نُدرك هذه القطيعة بشكل أكبر من إجابات الابنة المُقتضبة وكأنما الأم هنا تجر ابنتها من لسانها من أجل الحديث، فهي لم تزد على الإجابة بالإيجاب، أو الإجابة بالنفي فقط من دون أي زيادة على ذلك، حتى لكأنها غير راغبة في الحديث مع الأم، أو أنها تتحدث مع شخص غريب عنها، نُلاحظ هذه القطيعة بشكل أعمق مرة أخرى حينما تعلم الفتاة بالمُصادفة من أمها بأنها على وشك الموت بسبب إصابتها بالسرطان، وهو ما يجعل الفتاة تُفكر مليا بالانتقال إلى منزل والدتها من أجل الإقامة معها؛ لكنها حينما تحاول إخبار الأم برغبتها في الانتقال، نقرأ حوارا عجيبا بينهما: "أنا قادمة لأعيش معك يا ماما. تبتسم إليزابيث وكأنها قد سمعت كلمة غريبة جديدة: أعيش معك يا ماما. وهذا لأن صوت ابنتها مُختلف عن العادي. عادة ما يبدو صوتها خشنا، وأبطأ من اللازم قليلا، والآن صوتها أوضح وأسرع. لا أريدك أن تكوني وحيدة، حيث أنك مريضة الآن. يقول الصوت الواضح. تسمع إليزابيث ما تقوله ابنتها، لكن ما تسمعه بشكل أفضل هو صوت جميل لا تريده أن يبتعد. هكذا تقول الآن. بنفس العذوبة وبنفس السرعة تماما: لكن هذا ليس ضروريا على الإطلاق، أشكرك جدا، هذا لطف منك فعلا، لكن ليس من الضروري. هل هناك أي شيء آخر كنت تتصلين بشأنه؟ في الصمت الذي يلي تشعر بالخوف من أن يكون صوت ابنتها الواضح قد مضى من جديد".

لاحظ هنا أن الابنة قد تحولت بالنسبة لأمها في هذه المُحادثة الهاتفية إلى مُجرد صوت، وهي في تحولها/ تجريدها إلى صوت إنما يعود إلى أن ابنتها عادة ما تتحدث معها بصوت خشن بطيء، أي بلا مُبالاة أو اهتمام، لكنها الآن تتحدث مع الأم بصوت مُختلف تماما لم تعتده الأم، صوت واضح وسريع، ويحمل دفقة شعورية تجاه الأم- ربما هي الشفقة، ربما هو الحب، ربما هو الخوف من الموت القادم بخطوات ثابتة باتجاه الأم- المُهم هنا أن ثمة دفقة شعورية لمحتها الأم في صوت ابنتها، ومن ثم تحولت الفتاة بالكامل إلى مُجرد صوت بالنسبة لإليزابيث، لكن المُثير للدهشة هو أسلوب الحوار المُتقطع الجاف بينهما، فرغم أن الفتاة راغبة في الانتقال إلى بيت الأم من أجل الإقامة معها إلا أن الأم ترد عليها وكأنها تتحدث مع شخص غريب عنها تماما لا تربطها به أي رابطة، وهو ما قرأناه في "لكن هذا ليس ضروريا على الإطلاق، أشكرك جدا، هذا لطف منك فعلا، لكن ليس من الضروري. هل هناك أي شيء آخر كنت تتصلين بشأنه؟".

لا شك أن رد الأم هنا مُثير للكثير من الدهشة والتساؤل؛ فهي تشعر أن رغبة ابنتها في الانتقال للإقامة معها مُجرد لطف لا يوجد داعٍ من أجل تكلف عناء فعله، بل وتُمرر هذا الأمر غير راغبة في التوقف أمامه لتسألها عما إذا ما كان هناك شيء آخر قد دفعها للاتصال؟ وهو ما يوحي لنا بالرغبة العارمة في إنهاء هذه المُحادثة وكأنها عبء ثقيل على الأم، أي أن رغبة الابنة التي أخبرتها بها تبدو هنا غير جوهرية، وغير ضرورية، ولا قيمة لها عندها. إنها هنا تبدو وكأنها تتحدث مع شخص ما التقته بالمُصادفة؛ فعرض عليها شيئا من باب البروتوكولات والمُجاملة الاجتماعية، وهي تقوم بشكره ببرود من لا يوجد بينه وبين من يحادثه أي علاقة سابقة!

إذا ما عدنا مرة أخرى إلى لقاء كوكو/ الابنة بأمها في الطريق مُصادفة سنعرف أن كوكو تعيش بمُفردها، وأنها على علاقة جيدة بأبيها ويلبرت، وزوجته ميريام؛ فالكاتبة هنا ماهرة إلى حد بعيد في الانتقال ما بين العوالم بطريقة القطع المتوازي الذي نراه في عالم السينما Cross Cutting، مما يتيح لها الانتقال بسلاسة ما بين المشاهد الروائية المُختلفة، ونقل عوالم الشخصيات ببراعة، وهو ما رأيناه أيضا حينما انتقلت إلى كيفية تعرف كوكو على هانز، ونشوء علاقة غرامية بينهما رغم أنها في بداية العشرينيات بينما هو في مُنتصف العمر، وفي انتظار الطلاق من زوجته، ورغم أن الفارق العمري، والنفسي، والفكري بين كل من كوكو وهانز يبدو لنا واضحا جليا في الكثير من المواقف، إلا أنها تتمسك بالعلاقة بينهما غير راغبة لها في الانتهاء أو القطيعة رغم أن كل المُؤشرات تُدلل لنا على أن هذه العلاقة لا بد لها أن تنتهي، لكنها تناضل بكل ما تستطيع من أسلحة- أنثوية أو غيرها- من أجل المزيد من السيطرة على هانز، والاحتفاظ به، وتأخير هذه النهاية المُرتقبة بين لحظة وأخرى، نُلاحظ ذلك في: "في مساء اليوم الذي عرفت فيه أن أمها ستموت، تجلس وحدها وتأكل قوالب كراميل "كاراماك" و"توفي كابس" في الفراش. هذه هي الحلويات التي تأكلها عندما لا يراها لأنها تُفضل أن تُخفي ذوقها الطفولي. هي تعرف أنه سيتركها. لم يعد يستطيع أن يتحمل إلى أي حد هي راضية. لم يحتج أبدا إلى أن يُطاردها. كانت هناك ببساطة ذات يوم واستطاع أن ينالها. مضت الأمور على نحو جيد لفترة. كان قد طُلق للتو، ولفترة أحب الأشياء غير الغامضة. سنة من هذا كانت كافية. لكن الآن هناك أم مريضة، أشياء مثل هذه تستفزه، ستبقيه مشغولا لفترة. لن تموت بهذه السرعة. ربما أثناء حدوث ذلك سيتمكنون من إنقاذ شيء ما، كوكو لا تعرف كيف، كل ما تعرفه أنه ما زال هناك وقت، وهذا هو الشيء الأساسي".

إذن، فنحن هنا أمام شخصية لامُبالية/ هانز، غير راغب في استمرار العلاقة، ولكن الأحداث الطارئة أو الغريبة تجذب انتباهه، وبما أن كوكو يوجد في حياتها أشياء تحدث من شأنها أن تجذب انتباهه فهذه الأشياء تعمل كمُحرك له من أجل التمسك بها لفترة أخرى مُضافة إلى أن تفقد أهميتها بالنسبة له ويعود إلى حالة الرغبة الأولى في إنهاء العلاقة، وفي المُقابل فكوكو تحاول السيطرة التامة والكاملة عليه بكافة الطرق المُتاحة لها، وبالاعتماد على ما تعرفه عنه من طباع أدركتها خلال الفترة التي قضياها معا، وبالتالي فهي هنا تعمل على استغلال مرض أمها بالسرطان من أجل كسب المزيد من الوقت في علاقتها به وتأخير انتهائها، هي غير راغبة في الخسارة- أي خسارة- لا ترضى بأن يتركها رجل، لذا فهي تحاول السيطرة عليه كيفما اتفق لها، مُستغلة كل أحداث حياتها من أجل ذلك.

سنرى ذلك مرة أخرى حينما يذهب إليها هانز في بيت أمها لينفرد بها في الحجرة التي قضت فيها طفولتها، ويحاول إخبارها بأنه قد اكتفى من هذه العلاقة ويرغب في إنهائها، فتبدي كوكو عدم الاهتمام ظاهريا رغم البركان الذي يمور بداخلها، يقول لها: "عليكِ أن تعيشي. تسمعه يقول، لكنها لا تريد أن تعيش، تريده هو. ولا تستطيع أن تقول هذا بصوت عالٍ كذلك؛ سيجعله ذلك يرحل بعيدا بشكل أسرع. تنظر إلى قنطرة شفته العليا ورسمتها الجميلة، العينان الغامقتان اللتان تومضان دائما، والأنف بمنحنياتها الرقيقة شديدة الفخامة. على البُعد هو رجل أصلع، بدين قليلا، وفي مُنتصف العمر، لكن عن قرب توجد هاتان العينان، وهاتان الشفتان، وهذان الحاجبان، وهاتان اليدان النحيلتان. يجب عليك أن تظل قريبا. عن قرب كل شيء طيب وهذا هو ما تريده. أن تكون قريبة جدا من أحد ما حتى لا تعرف بعد ذلك أين تنتهي وأين تبدأ. لقد توقف عن الكلام، تومض العينان أكثر من المُعتاد. هو خائف. لا يمكنه أن يكون وحيدا. هذا هو السبب في أنها تمكنت من اصطياده. هي تعرف ذلك الآن. حتى طلاقه لم يكن قد تم. "أنت لست شخصا لا يُطاق. الشخص الذي لا يُطاق لا يدعو نفسه أبدا شخصا لا يُطاق". يبتسم بحذر. "يجب عليّ أن أتركك تذهبين" يقول. "أنا أحبكَ". يقول: "أنا لا أحترمكِ". هو الآن لا يبتسم. إنه يعني ما يقول. تشعر بالغضب يزداد داخلها. لكنها تظل هادئة وتُراجع خياراتها بسرعة. لن تتركه يذهب هكذا، هي تريد أن تهزمه مرة أخرى، لا أحد يهجرها، ألا لعنة الله! تجلس بجواره على السرير. "هذا ليس رائعا" تقول. تترك نفسها تسقط إلى الخلف، وتتطلع إليه من أسفل. تبتسم. تضع يدا على فخذه، أقرب من اللازم. الأمر لا يحتاج إلى الكثير، فهي شابة. سمينة، لكنها شابة، وهذا يناسبها. "أمك" يهمس بينهما هي تفك أزراز لسان بنطاله. "لست مُهتمة بأمي" تقول كوكو. تُنزل بنطاله على فخذيه". أي أن كوكو هنا لا يعنيها من العلاقة سوى الاحتفاظ بهانز لحين رغبتها هي في هجره، فهي- كما قرأنا- لا أحد يهجرها، وهو التفكير الذي تُفكر فيه غالبية النساء، حيث يرين أن رغبة الرجل في إنهاء العلاقة لا معنى له لديهن سوى الإهانة، وليس الاكتفاء، أو عدم المقدرة على الاستمرار؛ لذا فهن كثيرا ما يحاولن الاحتفاظ بالعلاقات- رغم يقينهن بأنها لها لا بد أن تنتهي- لمُجرد أن الرجل هو الذي بادر بالحديث في إنهائها، ومن ثم فهي هنا تحاول السيطرة عليه، والاحتفاظ به لفترة أطول من خلال الجنس- نقطة ضعف الرجل أمام الأنثى- ورغم أنه يعترض هامسا مُترددا بأنهما في بيت أمها التي تجلس في الخارج على مقربة منهما، إلا أنها لا يعنيها شيئا سوى المزيد من السيطرة عليه، والاحتفاظ به؛ لذا تقول له: لست مُهتمة بأمي.

إن كوكو هنا تبدو لنا شخصية استحواذية، أنانية، امرأة تحاول استغلال كل شيء في حياتها من أجل تحقيق ما ترغبه فقط، فهي تستغل مرض أمها تارة من أجل اكتساب الوقت في هذه العلاقة- بما أن هذا المرض سيثير بعض الفضول لدى هانز- وهي تستغل رغبة هانز الجنسية فيها، وضعفه أمام إغرائها الجنسي من أجل المزيد من الوقت، وهو ما نلحظه بجلاء بعد مُمارستها للجنس معه في بيت أمها والسيطرة مرة أخرى عليه: "ارتديا ملابسهما. لم يقل هانز شيئا. ابتسمت كوكو. لم يكن من حُسن الأدب أن يضاجعها وبعد ذلك يتركها. لقد تم الفوز بمزيد من الوقت"!

سيتبيّن لنا أن كوكو بالفعل شخصية طفيلية، تتغذى على الجميع بامتصاصهم حتى الرمق الأخير من أجل الاستفادة منهم، والاستمرار في حياتها كما يتراءى لها، بمعنى أنها تبدو لنا هنا من دون أي مشاعر، فرغبتها في الحياة بطريقتها التي تراها هي الأهم من الآخرين ومشاعرهم وعلاقاتها بهم؛ لذا فهي حينما تُقرر الذهاب إلى بيت أمها من أجل الإقامة معها فهى لا تفعل ذلك في حقيقة الأمر بسبب خوفها على أمها، أو لحبها لها، أو لأنها في اللحظات الأخيرة من حياتها في مواجهة الموت القادم بالضرورة، بل لأنها قد فقدت مسكنها، وطلب منها صاحب السكن الرحيل- وإن كانت قد أبلغت أمها والجميع بأنها قد فعلت ذلك لخوفها على أمها ولحبها لها- وإذا ما حاولنا العودة إلى المشهد الافتتاحي الذي افتتحت به الروائية لروايتها حيث مُقابلة الأم لابنتها في الشارع بالمُصادفة، والحوار الذي دار بينهما للاحظنا ذلك من خلال جملة عابرة لم تتوقف أمامها الأم كثيرا، وربما لم تُلاحظها في حينها، حينما قالت لها الأم: "ظننتك كنت تعيشين في الجانب الآخر من المدينة". لترد الابنة عليها: "يجب عليّ أن أنتقل قريبا، أعطاني المالك إنذارا". "أوه" تقول إليزابيث "لم أكن أعرف". "وكيف كان يمكن أن تعرفي؟". "أنا.. أنا لا أعرف". "لقد عرفت بالأمر للتو أنا نفسي"".

إنه ما يتضح للأم بشكل واضح لا شك فيه حينما تشعر بالعبء الشديد بسبب تواجد ابنتها معها في نفس المنزل، فلا تفاهم بينهما، والابنة لا يمكن احتمال تصرفاتها في حقيقة الأمر؛ لذا تقول لها أمها ذات مرة: "أريدك أن ترحلي. لقد قيلت. لقد تمت. لا تحاربيها. الفشل. انتظري الآن الكلمات، كل شيء يمر. فقط دعي القصة تصبح: لم يتم حل الأمور أبدا بين الأم والابنة. تظل كوكو هادئة. "أرحل" ستصرخ ابنتها في النهاية. الصمت باقٍ. هيا. "ليس لدي أي مكان لأعيش فيه حاليا". ماذا يحدث؟ أين هو الصراخ، العويل، الدبدبة؟ "ليس لدي أي مكان لأعيش فيه حاليا". "نعم، هذا هو ما قلتيه". "حجرتي، كان لا بد أن أنتقل منها". "لا بد أن تنتقلي؟". "أنا بالفعل خارجها، كنت مُضطرة بالفعل للرحيل. أخبرتك، أليس كذلك؟ أني كنت مُضطرة للانتقال من حجرتي"". صحيح أن كوكو هنا تستمر في حديثها لإيهام أمها بأنها كان من المُمكن لها الانتقال للإقامة مع أبيها وزوجته ميريام من أجل الإقامة معهما، لكنها في حقيقة الأمر لم تنتقل للحياة مع الأم لمُجرد أنها مريضة وعلى شفا الموت، أو لأنها تحبها، بل لمُجرد أنها لم تعد تمتلك مكانا تعيش فيه، فضلا- وهذا هو الأهم- عن رغبتها في تحدي الجميع- أبيها وزوجته وهانز الذي ترى أنه يفرض عليها وصايته- وإشعارهم بالغضب، وإثبات أنها قادرة على فعل ما يحلو لها، لا سيما إذا ما كان يتعارض مع رغباتهم، وكأنها تريد أن تثبت للجميع حريتها، ومقدرتها على فعل أي شيء من دون أي وصاية، وبحرية تامة!

إن كوكو حينما قالت لأبيها وزوجته وهانز: إنها من المُمكن لها الانتقال للعيش مع أمها، لم تكن تقصد ذلك، بل قالته على سبيل المزاح، والسُخرية، ولكن حينما وجدت الرفض والاعتراض منهم جميعا على هذا القرار الساخر، حولته إلى قرار جاد، وتمسكت به، ورغبت في تحقيقه مهما كان الأمر لمُجرد أن تُشعرهم بالمزيد من الغضب، وتتحداهم: "يمكنني أن أذهب وأعيش معها. تقول كوكو مازحة. وعندئذ سأكون لطيفة وقريبة من الجامعة. "كوكو" يقول هانز، "لست مسؤولة عن سعادتها". كوكو على وشك أن تأخذ قضمة، لكنها تترك الملعقة المليئة بالأرز والساتاي تحوم في مُنتصف المسافة. لا تعجبها نغمة صوت هانز، ولا تريد أن تضطر لأن تقول إنها كانت تمزح. تقولها مرة أخرى وهي جادة تماما الآن: يمكنني أن أذهب وأعيش معها، إنه بيت كبير. "كوكو" تقول ميريام، "أمك امرأة ناضجة". تتحدث بصوت عالٍ. "أنت لست مدينة لها بشيء" يقول والدها مُشيرا بإصبعه نحوها. "استمعي إليهما" يقول هانز برقة. يميل والدها وزوجته إلى الأمام نحوها، ويضع هانز يدا على ساقها. وكوكو مُندهشة من تعصب عائلتها الأعمى. هل هذا صنيعها؟ إنها تحب أن تتكلم بالسوء عن أمها، لكن هناك حدود. هي لا تفكر في أمها عندما تتحدث، كل ما تعرفه هو أنها لا تريد أن تكون واحدة من هؤلاء الناس. "إنها أمي" تقول بهدوء، "وهي تموت". "إنها أمك؟!" يصيح أبوها، "لقد ربتك ميريام أكثر بكثير مما فعلت هي!"".

ربما لاحظنا في هذا الاقتباس الدليل على ما ذهبنا إليه؛ فكوكو لا يعنيها أمها في الحقيقة بقدر ما يعنيها تحدي الجميع، إثارة عاصفة من الغضب وتحقيق إرادتها حتى لو كانت خاطئة، هي تسعى للاختلاف أيا كان مُنطلق هذا الاختلاف، ولعلنا تأكدنا من ذلك من جملة "هي لا تفكر في أمها عندما تتحدث، كل ما تعرفه هو أنها لا تريد أن تكون واحدة من هؤلاء الناس"؛ لذا فلقد ادعت بأنها تُشفق على الأم التي تسير بخطى ثابتة باتجاه الموت.

هذه الحالة العارمة في إثارة غضب الجميع، والإصرار عليها، تكاد أن تتحول إلى شكل من أشكال السلوكيات الانتقامية لدى كوكو، بمعنى أنها تنتقم من كل من يحيط بها لسبب لا نعرفه- وهو دليل دامغ على الغضب الشديد من الجميع، من الحياة بأكملها- بل يصل انتقامها إلى ذاتها أيضا، وهو ما لمحناه حينما استبد بها السُكر في بيت هانز، وتناولت الكثير من الكحول معه، ومارسا حينها الكثير من الجنس، لكنها سيطرت عليها حالة جوع كبير للوصول بالرغبة إلى آفاق أخرى لم تعهدها، وهو ما جعلها تترك بيت هانز بعدما سقط في النوم مُباشرة بعد مُمارستهما، لتذهب إلى إحدى الحانات في الطريق، وهناك تحاول إغواء أي رجل لا تعرفه، وتقدم بها الأمر إلى التقبيل، ومُمارسة الجنس مع غريب، حتى أنها أخبرت هانز فيما بعد بأنها قد ذهبت إلى إحدى الحانات وهناك قبلت فيها غريبا لا تعرفه!

إنها الرغبة في الإيذاء المادي لنفسها أيضا، الشعور بالألم الجسدي، وليس إيذاء الآخرين فقط، أي الوصول بالإيذاء إلى أقصاه، وهو ما لاحظناه حينما ذهبت إلى هانز في بيته، وتناولت معه الكثير من الكحول لتمارس معه بعد ذلك الجنس، ولنتأمل: "تفرغ الكأس الأخيرة، وتسير نحوه، وتقول: اغزوني. ترى أن هذا يضايقه، لكنها ترى أيضا حدقتيه تتسعان، ويُقبلها. لا، يأكلها. يلتهمها. لا فرق بين فم، وأنف، ووجنة، وأذن، هو يلتهمها. وهي لا تقول في نفسها فقط: اغزوني، بل تقول: أكثر، أبعد. تفكر فيما لا يجب أن تفكر فيه. اصفعني، اضربني بحق الله، اضربني بلا إحساس. الشراب بالفعل يجعل التفكير يعمل، لقد نسيت هذا. يجعل الأفكار الشيقة فقط تظهر على السطح، الأفكار غير المعقولة، لكن الواضحة. هي سيئة جدا في التفكير العقلاني، وهذا هو السبب في أن الآخرين يرونها بليدة وغبية، لأنها لا تعرف الحجج الصحيحة للأفكار المعقولة. لكنها تعرف أن بإمكانها التحدث لفترة طويلة عن "اضربني بلا رحمة" التي تجرؤ بالكاد على أن تفكر فيها، تشعر بها، ويوما ما سيكون هناك شخص ستجرؤ على أن تقولها له بملء صوتها. في الوقت نفسه يستمر هو في التهامها، لا يمكنك فعلا أن تسميه تقبيلا، إنه يبتلعها، وهي تفكر في تلك الفتاة- هل كانت في انجلترا؟- التي أرادت أن تنتحر وتناولت عددا كبيرا جدا من الحبوب حتى أنها لم تُدرك أن كلبها كان يأكل وجهها. تلك هي الطريقة التي كان يمضغها بها، وكل ما يجب عليها أن تفعله هو أن تترك نفسها لكي يتم التهامها، وتقضمه بدورها بأسرع ما يمكن، تُجاريه، لا تأكل أقل منه". أي أن كوكو هنا وصلت بها رغبتها الانتقامية من كل ما يحيط بها إلى الرغبة في الانتقام من ذاتها، إلى التعرض للضرب القاسي من هانز أثناء مُمارستهما للجنس، إنها الرغبة التي تؤكد لنا على هشاشة كوكو النفسية في واقع الأمر، ورغم أنها تُحيط نفسها دائما بهالة من الاستقلالية المُتحدية التي توحي بالقوة البالغة والسيطرة لمن يراها، إلا أنها في حقيقة الأمر شديدة الهشاشة، وتشعر بالكثير من الضعف، وهو ما يُفسر لنا محاولة إحاطة نفسها بتلك الهالة المُتحدية القوية طوال الوقت، بل ومحاولة إغضاب كل من يحيط بها، فمن المعروف- على المستوى النفسي- أن الأشخاص الذين يتمتعون بالقوة الظاهرية والسيطرة الكاملة في المُجتمعات، ويصرون على تصدير هذا الشكل للآخرين، تكمن في داخلهم رغبة أخرى مُضادة ومُستترة للسيطرة عليهم، وإخضاعهم من الآخرين، لكن هذه الرغبات تظل مكبوتة، مُمتنعة عن الظهور اللهم إلا في حالات نادرة، والتي كانت منها هذه الحالة التي مرت بها كوكو أثناء سُكرها الشديد، أي أن كوكو ليست في جوهر الأمر إلا طفلة صغيرة- غاضبة من المُجتمع، وتحاول إغضابه وتحديه- في جسد أنثى مُكتملة.

الروائية الهولندية إستير خيريتسين 

هذا الغضب الشديد هو ما يجعلها أيضا ذات مرة تترك بيت هانز بعدما تُثير غضبه، لتتوجه إلى حانة ما بين بيته وبيت أمها، وهي الحانة التي كانت فارغة إلا من البارمان وزبون واحد، لذا حاولت أن تغوي الزبون، وأخبرته أمام البارمان أنها راغبة في مُمارسة الجنس معه في وسط الحانة، ومن دون إغلاق بابها حتى يتمكن أي راغب في الدخول من دخولها وهما يمارسان الجنس، لكن الرجل يشعر بالدهشة، ومحاولة التلاعب به، أو السُخرية منه رغم أن كوكو كانت جادة تماما في عرضها، وحينما تعرض على الرجل أن تمص قضيبه في وسط الحانة ويرفض؛ ينطق البارمان الذي كان يتابع الحديث فجأة مُخبرا إياها بأنه يرغب منها في ذلك، وبالفعل تُصر على فعل هذا مع إبقاء باب الحانة مفتوحا لإمكانية ولوج أي شخص منه أثناء مُمارستها للجنس الفموي معه، وأمام الزبون الموجود.

ربما نُلاحظ هنا أن كوكو تمارس مجموعة من الأفعال الانتقامية، هي تنتقم من المُجتمع في فعل ما لا يمكن توقعه، لكنها في واقع الأمر تنتقم من ذاتها بما تفعله؛ لذا نقرأ: "عندما تستيقظ قبل وقت طويل من انبلاج الصبح، وتتذكر اليوم السابق، لا تشعر بأي خزي. على العكس، تبقى معها فكرة أنها تستطيع أن تفعل كل شيء، وتعرف أنه من السهل أن تستمر في الحوار مع أمها وهي مخمورة إلى هذه الدرجة. لا شيء سيوقفها الآن، لا حرج، ولا خوف، ولا حب"، وهذا ما يفسر لنا إخبار أمها حينما تعود مخمورة بما فعلته: "مصصت لغريب في حانة"، تستمر أمها في المحاولة بأصابعها مع الربطة الثانية. "خلف البار"". إن محاولة كوكو إخبار أمها بما فعلته في الحانة لا يعود إلى رغبتها في الحديث، أو الإفضاء إليها بشيء يثقل كاهلها، بل إلى رغبتها العارمة في التحدي وإثارة مشاعر الغضب- رغم أن أمها لم تغضب من الأمر، وتعاملت معه بهدوء.

لكن، هذه الحالة من الغضب العارم الذي تتعامل به كوكو مع الحياة بالكامل من حولها، لا بد لها أن تُثير داخلنا الكثير من التساؤل: فما هو السبب في هذه السلوكيات التي باتت تقترب من العنف حتى مع نفسها، وليس مع الآخرين فقط، ولِمَ تسعى كوكو إلى إثارة غضب الجميع من حولها؟

إن سوء الفهم بينها وبين الأم- وهو السوء الذي غذاه أبوها فيها، وعمل على رعايته لفترة طويلة- وتفسير الأفعال على غير حقيقتها هو ما أدى إلى رؤية كوكو للعالم من حولها، ومن ثم تعاملها معه بمثل هذا الغضب، وهو السبب الرئيس كذلك لحالة الغربة، والاغتراب، والصدع الناشئة بين كوكو وأمها؛ فلقد حرص ويلبرت دائما على إخبار كوكو بأن أمها كانت تقوم بحبسها في غرفتها وهي صغيرة لم تتعد العامين من العمر، ورغم أن كوكو لم تكن تتذكر أي شيء من هذا الأمر، إلا أن إلحاح أبيها عليها في إخبارها بالأمر، وتأكيده داخلها، قد أدى بها إلى هذه الحالة التي تعيشها من الغضب، والنفور من الأم- فمعنى حبسها وهي صغيرة لا يحمل سوى معنى الرفض، والرغبة في التخلص منها- كما أنه كان يُحمّل الأم دائما المسؤولية في الحادث الذي وقع للفتاة وهي صغيرة حينما سقطت بدراجتها من النافذة، وكادت أن تموت، واحتاج الأمر إلى بقائها في المشفى لفترة ما، وهو الحادث الذي ترك بالعديد من الندوب على جسدها، ورقبتها، ورغم أن ويلبرت حينها لم يهتم بالبقاء مع ابنته في المشفى، أو الاطمئنان عليها حتى لا يغلق متجره، إلا أنه يلقي بالمسؤولية كاملة على الأم، أي أن ويلبرت هنا كان يحاول أن يبدو كأب مثالي أمام ابنته على حساب الأم التي انفصل عنها من أجل الزواج بميريام التي قامت فيما بعد برعاية الابنة وتربيتها، ومن ثم لم تكن الفتاة ترى أمها إلا يوما واحدا في الأسبوع، نزولا على رغبه الأب وميريام، وصادف أن وجدت هذه الرغبة هوى ومُناسبة لدى إليزابيث التي كانت تعشق عملها، وتتواجد فيه طوال الوقت، مما يعني أنها وافقت على ألا ترى طفلتها سوى يوم واحد في الأسبوع لارتباطها الوثيق بعملها الذي تشعر تجاهه بعدم المقدرة في الحرمان منه.

تقول كوكو لأمها محاولة مواجهتها وفهم الأمر: "هل تعلمين أن بابا قال إنك حبستيني في حجرة نومي عندما لم أكن قد بلغت ثمانية عشر شهرا من العمر؟ تسمع إليزابيث ابنتها وهي تحاول أن تبدو مرحة. لذلك ترد بنفس المرح بالضبط: "هل قال هذا؟". "نعم، قال هذا". "أبوكِ هذا". إنها تبذل قصارى جهدها كي تتواءم مع كوكو، مرة بعد مرة. حتى أنها في الليلة السابقة حاولت أن تأكل أكثر، فقط لتبيّن لها أنهما ليستا مُختلفتين إلى هذه الدرجة في نهاية الأمر، رغم أنها تعرف العكس. "هذا ليس صحيحا، أليس كذلك؟"، تنظر ابنتها إليها. لا ترد بالسرعة الكافية. لا تراجع الآن. "لم يكن والدك ليختلق شيئا كهذا. لماذا كان والدك ليختلق شيئا كهذا؟". "أنت حبستيني؟". هل تتذكرين أي شيء من هذا؟". "إذن هو صحيح؟". "لكن، هل يمكنك تذكره؟". "ماما، أنت حبستيني في غرفتي عندما كان عندي عام ونصف؟". "كان الزمن مُختلفا، كما تعلمين"، تقول إليزابيث محاولة أن تبدو مثل الحلاق. "أنت لا تحبسين طفلا عمره عام ونصف". "لم تكوني تصرخين بصوت أعلى عندما كنتِ في غرفتك، فعلا لم تفعلي، لم يصنع الأمر أي فارق"".

إذن، فويلبرت كان هو السبب الأساس في تدمير العلاقة بين كوكو وإليزابيث، وهو الذي ملأها بالكثير من الغضب تجاه العالم بالكامل؛ فشعور كوكو بالرفض من الأم ليس بالأمر الهيّن، ومن ثم كان غضبها الذي لا ينتهي، وهو الغضب الذي تُعبر دائما عنه بسلوكياتها الغريبة التي تؤذي من خلالها نفسها، والآخرين ممن يحيطونها فقط، فضلا عن الرغبة في تحديهم وإثارة غضبهم.

لكن، دائما ما يؤدي الخلاف في وجهات النظر إلى العديد من الخلافات، والتفسيرات الخاطئة؛ فإليزابيث حينما فعلت ذلك مع كوكو لم تكن رافضة لها، أو كارهة، بل كانت تحاول إلى حد بعيد الحفاظ على الفتاة من الأذى، لا سيما أن الفتاة لم تكن تهدأ لدرجة أن إليزابيث كانت تُشبهها بالوحش، كما أنها كانت مُرهِقة إلى حد لا يُحتمل بالنسبة لأم عاملة- أو حتى غير عاملة- ولنتأمل: "تنظر إليزابيث إلى المنشفة المُبللة على الكرسي الخشبي. يعتريها إحساس مألوف بالاستسلام. الشيء الذي دعته فيما مضى بالأمومة. أن تكوني أما كان هو أن تراقبي بينما الطفل يُلطخ كل شيء في البيت، جزءا جزءا، وتتركي ذلك يحدث. في وقت مُبكر من حياتها بدت كوكو وكأنها تستمتع بتحريك الأشياء التي لم تكن تريد أن تتحرك. الخبز بين قطع البازل، الجبن موزع على الكتب، الخرز في شقوق الأريكة. كانت كوكو تلعق زجاج النوافذ، وأبواب الخزانة، وأرجل الكراسي، وكانت تدعك شرائح كعك الجنزبيل في الحوائط كأنها تستخدم اسفنجة. وكانت إليزابيث هي الشاحنة التي تكسح الطريق. مُرتبة، ومُنقذة ما ظل من المُمكن إنقاذه. لم تكن تعرف كيف توجه طفلة، ما كانت تعرفه هو أن تُعيد كل شيء إلى مكانه بأسرع ما يمكن. وعندما كان ويلبرت يعود إلى البيت، كانت تريد للبيت أن يكون هادئا، ولنفسها أن تكون نظيفة، ولنفسها أن تكون فتاته، وله أن يكون قادرا على الحصول على زجاجة بيرة من الثلاجة وهو مُغمض العينين؛ لأنها كانت دائما في نفس المكان، مُعادة التخزين بدقة، وباردة تماما".

ألا نُلاحظ في الاقتباس السابق الفوضى التي كانت تعيثها الطفلة في كل مكان؟ إنها الفوضى التي كان على إليزابيث أن تتحملها مُتأملةـ صامتة، فلا تنهر الطفلة، أو تكبتها، أو تمنعها، ومن ثم كان على الأم أن تعيد ترتيب هذه الفوضى عشرات المرات في اليوم الواحد، وقبل عودة الزوج كي يجد البيت مُرتبا، وزوجته جاهزة له كزوجة يرتاح معها، ويُسر بشكلها- ربما علينا ألا ننسى أيضا أنها امرأة عاملة، تعمل كل أيام الأسبوع- لذا نقرأ: "كانت تُطعم زوجا وطفلة، وتأخذ الطفلة للفراش، وتقضي وقتا طويلا بعد ذلك في تنظيف الآثار، وتسكب له الشراب. وكانت زجاجة جن "جنيفير" في الخزانة، فوق الثلاجة لا تفرغ أبدا كذلك. كان يجلس هناك ويتفرج على السنوكر أو كرة القدم. وكانت تُعيد ملء كأسه. كان من المُستحيل ألا يطلب أن يخمد عطشه. كانا في حالة مساوية من التعب عندما يأويان إلى الفراش في الساعة العاشرة". إن التأمل المُتأني لكل هذه الفوضى التي تقوم بها كوكو كطفلة، وأعباء إليزابيث كزوجة، وأم، وامرأة عاملة يقع على كاهلها كل شيء في البيت وحدها لا بد أن يدفعها بالتأكيد إلى ابتكار حل ما ليخفف عنها هذا العذاب الذي يُحدثه وجود طفل- هو في حقيقته ليس إلا وحشا صغيرا يتغذى علينا حتى يكبر، ولكن بعدما يكون قد استهلكنا تماما.

من هنا يبزغ الحل في ذهن إليزابيث، وهو حل بسيط كما رأته؛ فهي لم تر في لجوئها إليه أي رغبة في حبس الطفلة، أو قهرها، أو إيذائها بقدر ما رأت أن هذا الحل سيحمي الطفلة من إيذائها لنفسها أولا، لا سيما أنها كثيرا ما تتجه باتجاه المدفأة، أو النافذة مما يعرضها للخطر، ويجعل إليزابيث لا بد أن تكون مُنتبهة لها، وعيناها عليها طوال الوقت- وهو أمر مُستحيل على أي أم- ومن ناحية ثانية فهذا الحل سيخفف عن كاهل إليزابيث إلى حد ما بجعل الفوضى التي تُحدثها الطفلة محصورة في مكان واحد فقط، وهو غرفتها، وليس في كل أنحاء المنزل، ولنتأمل: لكن ذات يوم، كانت إليزابيث مُتعبة بالفعل في الساعة الثالثة بعد الظهر. راقبت وهي مُتجمدة كوكو وهي تفرد مرة أخرى بركا من هرس البرتقال بكفيها على مائدة المطبخ ذاتها التي يجلسان عليها الآن. مع تأوه من طبقة عالية وكأن هذا كان يتسبب لها في أن تعاني هي أيضا، وكأنها كانت تأمل في أن ينقذها شخص ما من فعلها. عندئذ أدركت إليزابيث أن هذا لم يكن يمنح ابنتها أي مُتعة. لم تكن ابنتها تخلق شيئا، بل تدمره، كانت تلطخ وتكسر وتُمزق. إذا كان هذا السلوك يجلب لابنتها مُتعة قليلة هكذا، وهي نفسها كان لديها ما هو أكثر بكثير كي تكسبه لو توقفت الطفلة عن هذا، فقد كان من المعقول أن تُصر على أن تُغيّر ابنتها سلوكها. أو على أقل القليل، كان بإمكانها أن تُقصر هذا على غرفة واحدة. قبل وقت طويل من بلوغ الطفلة عامها الثاني، كانت إليزابيث تحبسها، في حجرة النوم فقط. لم تكن تبكي بصوت أعلى، ولا لمُدة أطول مما كانت تفعله عندما كانت مع أمها. لقد تأكدت إليزابيث". ممنا يعني أن إليزابيث حينما لجأت إلى هذا الحل لم تكن لديها أي رغبة في التخلص من ابنتها، أو رفضها، أو تشعر تجاهها بالضيق، كل ما هنالك أنها أرادت حصر هذه الفوضى في مكان واحد، وحماية الطفلة من الخطر الذي تتعرض له باقترابها من النوافذ والمدفأة، فضلا عن أن الطفلة حينما كانت تتواجد في غرفتها وحدها، وقد وفرت لها أمها كل ما تحتاج إليه من أجل إلهائها لم تكن تبكي، أو تصرخ مثلما كان هو الحال حينما كانت الفتاة باقية مع أمها، أي أن تواجد الطفلة في الغرفة قد جعلها أكثر هدوءا، وليس أكثر غضبا ونشاطا، وبكاء.

ربما كان الدليل الدامغ على أن إليزابيث لم تكن راغبة في إيذاء طفلتها بمثل هذا الفعل هو: "توقفت عن حبس طفلتها عندما بلغت الثانية والنصف من عمرها. عرفت إليزابيث أن الناس يمكن أن يتذكروا خبرات من هذا العمر فصاعدا"، أي أن الأم بمُجرد ما انتبهت إلى أن الطفلة قد بلغت مرحلة عمرية من المُمكن لها أن تجعلها تتذكر هذه الخبرات، أو تترك فيها هذه الخبرات أي شعور سلبي، كانت المُحافظة على صحة ابنتها النفسية أهم بالنسبة لها؛ لذا توقفت عن تركها وحدها في غرفتها، رغم أن ذلك سيعيدها للحياة في الفوضى التي تعيثها الطفلة في كل مكان مرة أخرى.

إن إليزابيث كانت في واقع الأمر حريصة على سلامة ابنتها إلى أقصى درجة حينما فكرت في هذا الحل، وهو ما تؤكد عليه لابنتها حينما تتواجها أثناء مرض إليزابيث: "وضعت وسائد في كل مكان في حجرتك، كل الوسائد من الأريكة، والوسائد الكبيرة من المقاعد القديمة المُريحة. استخدمت أحزمة لربط الوسائد بزوايا الدواليب حتى لا تصطدمي بها. تركت لك ثلاث زجاجات، اثنتان فيهما ماء، وواحدة فيها عصير برتقال طازج. أعجبك هذا. كسرتُ البسكويتات إلى قطع صغيرة ووضعتها في أكياس بلاستيكية. في ذلك الوقت كنت لا تأكلين جيدا إلا إذا تمكنتِ من إخرج الطعام بنفسك من أكياس بلاستيكية صغيرة. أعجبك ذلك. لا تقول ابنتها أي شيء. "وكانت هناك لعب". تقول إليزابيث. مكعبات من الورق المقوى، من الكبيرة إلى الصغيرة التي تدخل في بعضها البعض. منارة خشبية بحلقات ملونة. كتاب حيوانات كان يُصدر أصواتا. بقرة كبيرة كانت تخور عندما تضغطين على بطنها"، أي أن الأم هنا كانت حريصة كل الحرص على راحة طفلتها مع لجوئها إلى مثل هذا الحل من أجل الحد من الفوضى؛ وهو ما يؤكد لنا على أن ويلبرت حينما حاول إيهام ابنته بالأذى الذي لاقته كطفلة على يديّ أمها لم يكن هذا الادعاء حقيقيا، بل كان بمثابة محاولة تجميل نفسه كأب مثالي في عينيّ ابنته من ناحية، ومن ناحية أخرى محاولة اكتسابها الدائم وإبعادها عن الأم بما أن ميريام تحب الفتاة، وترغب في تربيتها والاعتناء بها، فضلا عن رغبته في تبرئة نفسه أمام الابنة، لا سيما أنه حينما وقع لها حادث النافذة لم يهتم ببقائه معها، بل فضل البقاء في محله بدلا من الذهاب إلى المشفى لرؤية الابنة، ورغم أن إليزابيث لم تحاول إخبار كوكو بأي شيء من هذه الأشياء إلا أن ويلبرت كان يعمل على تشويه صورة أمها في عينيها لصالحه ولصالح زوجته ميريام.

لكن الذكريات الحقيقية المُتسببة في كل هذه الأزمة التي تعيش فيها كوكو نقرأها في: "كانت في الحديقة وسمعت بالفعل جرس دراجة ابنتها. كانت المُثبتات قد رُفعت للتو، وكانت الدراجة في الصالة. للأسف كانت كوكو تعلم جيدا أنه من غير المسموح لها أن تقود الدراجة داخل البيت. كانت إليزابيث واقفة وظهرها للبيت عندما سمعت صوت تكسر الزجاج. بدا مثل فرقعة، طلقة. وعندما التفتت، كانت ابنتها هناك، في الهواء، بين كسر الزجاج والدراجة، مُحققة ما كانت إليزابيث تخشاه. لقد كانت على حق. صح. راقبت إليزابيث المشهد، وتركت كوكو والزجاج والدراجة مُجمدين في الهواء، وأخذت نفسا عميقا وزفرت. بعد خمس سنوات شهقت وزفرت من جديد. إذن هذا هو الأمر، هكذا فكرت. لقد سقطت أخيرا. لم يكن لإحساسها بالارتياح أي علاقة بالسعادة، لكنه كان كذلك في نفس الوقت، وهي لم ترغب أبدا في تفسير هذا لأي إنسان". ربما لا بد لنا عند قراءتنا لهذا الحدث أن نعي جيدا أنه قد حدث وكوكو قد بلغت الخامسة من عمرها، أي أننا لا يمكن لنا أن نلوم الأم بظننا أن هذا الحادث كان نتيجة لحبس الطفلة وتركها وحدها في غرفتها، كما يجب ألا يفوتنا كذلك بأن إليزابيث كانت قد توقفت عن ترك الطفلة وحدها في غرفتها حينما بلغت الثانية من عمرها، ورغم تحذيرات الأم الدائمة لطفلتها بألا تلعب بدراجتها داخل المنزل إلا أنها فعلت ذلك؛ مما أدى إلى حدوث هذا الحادث.

مع استمرار حكي إليزابيث لابنتها عن حادث وقوعها من الشرفة، تخبرها بأنها حاولت إصلاح زجاج النافذة المكسور قبل اللحاق بها في المشفى، فتقول: "وبعد ذلك ركبت الترام إلى المُستشفى. "لماذا لم تأخذي عربة أجرة؟". تود إليزابيث أن تفرد ساقيها، لكن كوكو تعترض طريقها. "لماذا لم تأخذي عربة أجرة؟". لا بد أني كنت في حالة صدمة عميقة". قلت للتو أن ذهنك كان صافيا جدا". "أنت تتذكرين أغرب الأشياء، نعم". ثم تفرد ساقيها بحرص قليلا، لكنها تحس بكوكو بالفعل، فتضمهما إليها مرة أخرى. "ركبتِ الترام". "كان هناك خط مُباشر". "لماذا لم تركبي عربة أجرة؟ لماذا لم تأخذي شيئا أسرع؟ ألم تريدي أن تكوني معي؟". "لا بد أني كنت في حالة صدمة عميقة". تصمت كوكو". ربما نُلاحظ هنا أن إحساس كوكو باللامُبالاة من أمها تجاه الحادث الذي وقع لها يصيبها بالكثير من الغضب. إنها تريد تفسيرا لهذا السلوك من الأم حتى تستطيع أن تسامحها، كي تستطيع إيجاد العذر لها وتعود العلاقة بينهما إلى علاقة طبيعية بين أي أم وابنتها، لكن عدم مقدرة الأم على تفسير سلوكها إلا بأنها كانت في حالة صدمة عميقة يؤدي إلى المزيد من الألم للفتاة، ويدعوها للمزيد من التساؤل عن السبب؛ لذا فالجملة تظل تتردد لفترة طويلة في ذهن كوكو، تعمل على استعادتها طوال الوقت حتى بعدما خرجت للقاء هانز في الخارج، ومحاولة عودتها إلى البيت مرة أخرى، نقرأ: "عندما يصل الترام الذي يذهب إلى بيتها تركبه. كلمات أمها التي كانت قد عرفتها مُنذ زمن طويل تتردد أصداؤها حول رأسها: لا بد أني كنت في حالة صدمة عميقة. لا بد أني كنت في حالة صدمة عميقة". أي أن الجملة المُفسرة لفعل الأم، لم تكن بمثابة جملة مُفسرة بالنسبة لكوكو، بل هي جملة تزيد من مُعاناتها، وتكسبها المزيد من الصعوبة في رأب الصدع الحادث بينها وبين أمها، مما يجعل كوكو تطيل التأمل في الأمر، وتظل متوقفة أمامه لفترة طويلة: "إذن هكذا يبدو الأمر. تستمر هذه الجملة في التردد. مثل هذه الجملة الأخرى بالضبط. لا بد أني كنت في حالة صدمة عميقة. لا بد أني كنت في حالة صدمة عميقة. بالطبع، هذا هو ما ليس صحيحا. لقد كانت الحقيقة هناك أمام أنفها لسنوات، لكنها لم ترها. فهي لم تر أمها أبدا في حالة ذعر. أمها لا تُصاب بالذعر. هذه هي الكذبة. لم تكن مُصابة بالذعر، بل اعتقدت أن ابنتها تموت ولم تكن مُصابة بالذعر. هذه هي القصة كلها. هذا هو الأمر كله"، وهو ما يعني بالنسبة لكوكو اللامُبالاة وعدم الاهتمام بها حتى وهي مُهددة بالموت بسبب وقوعها بدراجتها من النافذة.

لكن، هل كانت إليزابيث بالفعل غير مُهتمة بطفلتها التي قد تموت في أي لحظة نتيجة لهذا الحادث؟

لم تنظر إليزابيث إلى الأمر بلامُبالاة في الواقع، لكنها انتابها ظن ما بأن ابنتها على وشك الموت، وحينما تمكن منها هذا الظن، أو الشعور وبدأت في تصديقه؛ ارتاحت إليه، واستسلمت له، ومن ثم فلقد باتت مُستعدة لموت الطفلة في أي لحظة، وهي وسيلة نفسية دفاعية تماما تعمل على حماية صاحبها من الانهيار النفسي والعصبي بسبب حدث من الصعب التعامل معه: ""ظننت بأنك كنتِ تموتين"، تقول إليزابيث. "أجد من الغريب أن تقولي هذا". كوكو تبدو هادئة. إليزابيث تعرف أنها لم تكذب، ليس بشأن هذا. "أقسم، ظننت أنك كنت تموتين". "كان لدي ساق مكسورة وبعض الجروح، لا يموت المرء بسبب هذا". "ظننت ذلك!". لماذا ظننت هذا؟". "عندما اصطدمت بالنافذة". "نعم، أفهم هذا، ربما ظننت هذا وقتها. لكن لماذا ظننت هذا في المُستشفى؟". "كسر الزجاج في العنق يمكن أن تكون خطيرة جدا". "هيا، أنت كنتِ تعرفين بالفعل أني لم أكن أنزف حتى الموت، هذا هراء". "لا أفهم. ماذا تريدين؟ لا أفهم". "لا، أنت تعرفين يا ماما، أنت تعرفين جيدا. أنا أعلم كيف هي ذاكرتك، ولكنك تتصرفين بطريقة غامضة تماما"".

إن الأم والفتاة هنا تحاولان أن تصلا معا إلى نقطة تفاهم من شأنها أن تُعيد العلاقة بينهما إلى طبيعيتها بعد سنوات من الانقطاع الكامل، ورغم أن إليزابيث لم تكن مُذنبة في حق ابنتها، ورغم أنها لم تُقصر بالفعل في تربيتها والاهتمام بها- حتى لو كانت قد استسلمت لشعورها بأن ابنتها بالتأكيد ستموت وجهزت حالها لهذا الموت على المستوى النفسي- إلا أن ويلبرت/ الأب كان هو السبب الرئيس في تغذية هذا الشعور السلبي في نفس ابنته كي يبدو هو الأب المثالي، فضلا عن إخفاء تغيبه عن الطفلة حينما حدث لها الحادث: "عندما كانت كوكو في المُستشفى، بعد سقوطها من النافذة، وجد صعوبة في أن يجد وقتا لزيارتها. واتخذت إليزابيث نغمته القلقة. "أين زوجك؟"، كان الطبيب قد سأل. "في محله، كما تعرف"، قالت إليزابيث، وكأنه كان أمرا خطيرا جدا. "أي نوع من المحلات؟"، تساءل الطبيب. "ما نبيعه" إليزابيث التي لم تبع أبدا أي شيء بدأت: "هو كل الأشياء التي تحتاجها للمطبخ، لكنك لا تراها على المائدة. لذلك لدينا سكاكين كبيرة، وليس أدوات مائدة عادية، لدينا مقالٍ، وليس لدينا أطباق. ألواح تقطيع، وليس صحونا". "محل أدوات مطبخ؟"، تساءل الطبيب. "لا، محل أدوات طهي"".

إذن/ فمثل هذا الغضب الشديد الذي تشعر به كوكو بإزاء أمها بسبب المشاعر السلبية التي حرص أبوها طوال حياته على أن يبثها في داخلها تجاه الأم، كانت لا بد أن تتوجه بها باتجاه الأب، وليس باتجاه الأم، فهو الذي تجاهلها، ولم يهتم بها، وأهملها، ولم يفكر فيها، بينما فعلت الأم العكس تماما، ولكن لأنه يخشى أن تتعامل معه كوكو بغضب أو أن تقاطعه، وينشأ بينهما صدع قوي أشبه بالصدع الذي نشأ بينها وبين أمها، فلقد حوّل الحقائق، وحرص على قلبها، وأضافها إلى الأم بدلا منه، مُستغلا في ذلك الحل الذي فكرت فيه إليزابيث حينما كانت كوكو طفلة، بوضعها داخل غرفتها من أجل حمايتها، والتقليل من فوضاها.

ربما كانت هذه القطيعة الطويلة الحادثة بين الأم وابنتها سببا رئيسا في رغبة إليزابيث الدائمة، وتوقها للتواصل مع الآخرين، فقط لمُجرد التواصل، وهي تفعل ذلك حينما تحين لها الفرصة؛ فتنتهزها، مُستغلة إياها، وتبدأ في الحديث، والثرثرة لتشبع حاجتها إلى الحديث مع الآخرين، والتواصل المُفتقد معهم، وهو ما نراه حينما تنتقل كوكو للحياة مع أمها: "عندما استيقظت أدركت إليزابيث على الفور أنها لم تكن وحدها في البيت. بدا الأمر مثلما كان عندما اعتادت أن تشعر بجسد زوجها بجوارها، شخص ليس عليها إلا أن تتقلب وتواجهه، شخص يمكنها أن تبدأ في الكلام معه، أن تواصل الكلام معه، كما لو كانت تتابع بعد توقف قصير. كانت تحب الناس الذين يمكنها الحديث معهم. لم يكن على هؤلاء الناس أن يستمعوا إليها بالضرورة، لم يكن هذا هو المُراد، لكن ينبغي أن يكونوا هناك. لم تكن تتحدث مع نفسها، لم تكن غريبة الأطوار. في السنوات الأخيرة من زواجهما، بدأ ويلبرت يشكو من أنها تحكي له الأشياء أكثر من مرة: مرتين، ثلاث مرات، بل وأربع مرات"، إنها الحاجة الماسة إلى التواصل الإنساني، الرغبة في التعبير عن الذات، ما تشعر به، ربما هو الشعور العميق أيضا بالوحدة، هو ما يدفعها إلى مثل هذه الثرثرة بمُجرد أن تتهيأ لها الفرصة لذلك.

لكن، رغم محاولة هذا التواصل مع كوكو- مع عدم اتفاقهما ووجود القطيعة العميقة بينهما- فإليزابيث لم تستطع التوافق مع ابنتها بسهولة، بل شعرت بالكثير من الغرابة لتواجد ابنتها معها في بيتها، وحاولت ذات مرة أن تقنعها بالرحيل، فوجود كوكو في البيت يُشعر إليزابيث بالضيق، فضلا عن اختلافهما البيّن في طباعهما، بالإضافة إلى أن إليزابيث كانت قد اعتادت على الوحدة، وبالتالي فالحياة مع شخص آخر مرة أخرى يحتاج إلى فترة طويلة من الاعتياد حتى يصبح الأمر طبيعيا كما كان من قبل، ولنتأمل: "تراقب إليزابيث كوكو وهي تجر الحقيبة صاعدة السلالم، درجة درجة، وهي تحكها في الخشب، كأن البيت ينقصه الكسر. ثقل كبير يصعد على السلالم، لكن إليزابيث تراقبه بالطريقة التي تراقب بها شيئا يسقط. شيء خارج عن تحكمك. كأس ليس مكسورا، لكنه سينكسر قريبا"، إنه الشعور بالضيق من سلوك كوكو الذي يعيث الفوضى في كل مكان تذهب إليه، وهو ما نراه مرة أخرى حينما تُقرر كوكو أن تأتي بمكتبها الخاص إلى البيت كي يمكنها العودة إلى الدراسة: "أشعر بالأسف بالفعل لأن مكتب كوكو قادم إلى هنا"، ومرة ثالثة حينما تشعر الأم بالتبرم من الابنة: "ستحتاج إلى قهوة بالتأكيد. يالها من كمية كبيرة من القهوة تلك التي تشربها هذه الطفلة. كل شيء ينفد بشكل أسرع مع وجودها في البيت. أين سيصل بها الحال؟".

إذن، فوجودهما في بيت واحد لم يؤد إلى الشعور بالارتياح، أو يساعد على رأب الصدع بينهما للوهلة الأولى بقدر ما باعد بينهما أكثر في بداية الأمر إلى أن استطاعتا- من خلال المحاولة والنقاش- تفهم بعضهما البعض، وإنهاء الالتباس، وسوء الفهم الذي كان بينهما والذي كان يؤدي بكوكو إلى الكثير من الغضب، ومن ثم التعامل مع العالم، ورؤيته من خلال رؤيتها الغاضبة، وهي الرؤية التي كانت تدفعها في الكثير من الأحيان إلى إيذاء نفسها، وإيذاء كل من يحيط بها أيضا، ولعلنا نتأمل مثلا تعويض هذا الغضب العارم الذي تشعر به بالشبق الجنسي، والإقبال الفوضوي عليه، وهو ما تفعله حينما تشك في أن هانز لديه علاقة ما مع مُساعدته لورا: "هناك رجل وسيم في الكشك الزجاجي أمام الكازينو، وبجواره شجرة لبخ. "هل ترغب في مُضاجعتي؟"، تسأل كوكو. يقطب ويقول: "لدي استراحة في الساعة الثانية عشرة"، وعندئذ يبدأ إحساس كوكو بالذعر. بسبب تلك اللحظة المُستقبلية المُحددة جدا في الزمن، عندئذ تُدرك أن هذه الخفة لن تدوم. هي حتى لا تعرف إذا كانت الخفة ستدوم اثنتى عشرة ساعة. يجب أن تستمر في التحرك، يجب أن تستمر الأشياء في الحدوث. "الثانية عشرة مُتأخرة زيادة عن اللزوم"، تقول "لا بد أن يكون الآن، أنا لا أعرف كيف ستكون الأشياء في الثانية عشرة، هذه فترة طويلة جدا". تحاول أن تعد الساعات. يبتسم. "آسف يا قطة، العمل يأتي قبل السيدات". "العمل؟ أنت تحب عملك؟". "وماذا تعتقدين يا قطة؟". "أنت تجد عملك مُرضيا؟". "هه؟". تنظر كوكو حولها بحثا عن رجال آخرين. "أنا أريد الرضى أيضا"، تقول"، مما يعني أن كوكو هنا لا تمارس الجنس العشوائي لمُجرد رغبتها في العشوائية، بل لمُجرد تفريغ طاقات الغضب المكبوتة في داخلها، وهي الطاقة التي تكاد أن تجعلها تنفجر، لكن هذا السلوك الذي تمارسه في ذات الوقت يعرضها للكثير من الإهانات كما رأينا في هذا الموقف، كذلك موقفها في البار حينما امتصت للبارمان قضيبه.

لكن، بمُجرد ما تبدأ كوكو في مُسامحة أمها، والتعاطف معها، حتى أن كل منهما قالت للأخرى: أحبك لأول مرة، يتقدم الموت بثبات للقضاء على تواجد إليزابيث، وبما أن إليزابيث لديها شعور عميق بأنها ذاهبة بالفعل، فهي لا ترغب في أن تراها ابنتها في مثل هذا الموقف العصيب، بمعنى أنها تخشى على مشاعر كوكو إذا ما رأتها أثناء احتضارها، مما جعل إليزابيث تتحامل على ذاتها، وتُصر على الصعود إلى الطابق الأعلى من أجل إغلاق غرفة باب كوكو عليها لحين احتضارها.

ألا يبدو لنا الأمر هنا وكأن التاريخ يُجدد نفسه مرة أخرى، فلقد كانت إليزابيث تحبس كوكو في غرفتها وهي طفلة صغيرة لم تتعد العامين لخوفها الشديد عليها من إيذاء نفسها، ولتحد من الفوضى التي تقوم بها، وهو ما جعل كوكو تشعر تجاهها بالكثير من الغضب الذي أدى إلى الصدع الناشيء بينهما طوال الوقت، والآن تفكر إليزابيث مرة أخرى في حبس كوكو داخل غرفتها- أيضا لخوفها على مشاعرها، ولحبها الشديد لها- أي أن الأم في الحالتين اللتين لجأت إليهما من أجل حبس كوكو في الغرفة كانتا بسبب حبها الجم لها، وإذا ما كانت كوكو في المرة الأولى غير مُدركة لمثل هذا الفعل، والسبب فيه، فهي الآن بالتأكيد ستكون مُدركة للفعل، وأن الحب هو السبب الرئيس فيه: "باب كوكو. برقة الآن يا ليز. تريح رأسها عليه. لعبة خاسرة. يمكن اكتشافها في أي لحظة. ساعتها ستأتي الدراما التي تحاول تجنبها. أسئلة. دموع. أحضان، لخاطر المسيح. انهضي في جلستك الآن. المفتاح ما زال مُعلقا على خطاف في إطار الباب، يتدلى هناك بشكل لطيف، لم تخبئه أبدا، لم تكن مُتشددة أبدا بشأن هذا. تستند على إطار الباب، ترفع جسدها لأعلى، تأخذ المفتاح من الخطاف، تضعه في القفل، تُديره، وتهبط عائدة إلى الدور الأرضي. تحس بشعور يشبه العناق. ذراعاها يفعلان ما يقدران عليه. أنت أكثر أمانا هنا، يا فتاة، كوني هنا، يا وحشي الصغير، كوني آمنة. تسمع أغنيات حب داخل رأسها. "كيف يمكن لشيء خاطئ كهذا أن يثير إحساسا سليما كهذا؟"".

إن إليزابيث لا ترغب الموت أمام ابنتها، تحاول الحفاظ على صورتها أمامها في ذهنها كما هي، لا ترغب أن تُلاحق كوكو صورتها وهي تحتضر: "من الصعب الإبقاء على عينيها مفتوحتين، لكنها خائفة من إغلاقهما، هي لا تريد أن تموت وكوكو تشاهدها. لا تريد أن ترحل كامرأة غريبة، بلا زبائن ينتظرون في الصالون، بلا شهود، بلا دراما. تفتح عينيها بقدر ما تستطيع من اتساع، النصف الآخر من الصورة يتحرك الآن، تحاول أن تنهض جالسة"، أي أن إليزابيث هنا تحاول التحامل على نفسها، وإظهار غير ما تشعر به من أجل أن تظل صورتها جميلة أمام الابنة، ورغم أنها لا تستطيع فتح عينيها بشكل جيد بسبب الصداع الشديد في رأسها نتيجة لانتقال الأورام إلى الدماغ، إلا أنها تدعي بأنها قادرة على رؤية الابنة بشكل جيد، بل وتحاول الاعتدال في جلستها إلى أن تنصرف كوكو إلى حجرتها الخاصة.

لذا حينما تكتشف كوكو أن أمها قد نجحت في التحامل على نفسها، واستطاعت الصعود وحدها إلى الطابق الثاني من أجل حبسها في غرفتها لا تشعر هذه المرة بالغضب الذي كان يتملكها طوال حياتها، بل تشعر بحاجتها الشديدة إلى الاهتمام بها، إلى الحديث مع الآخرين، إلى إخبارهم عن نفسها وعن أمها: "تحدق في القفل لوقت طويل وفمها مفتوح، دهشتها هائلة ولا تترك أي مساحة للتفكير. وعندما تخف الدهشة ببطء، تُخرج هاتفها من جيب بنطالها وتنظر إلى هذا الشيء، وكأنها لا تستطيع أن تفعل حياله أكثر مما تستطيع أن تفعل حيال الباب الموصد. عندئذ تبكي، ليس لأن أمها حبستها، لكن لأنها تريد بشدة أن تُخبر أحدا بأن أمها قد فعلت هذا، ولا تعرف من تُخبر. بالطبع تفكر في هانز، لكن هانز يريدها أن تغضب من أمها، وكوكو لا تشعر بأي غضب. هي تريد أن تحكي هذا لشخص سيصبح غاضبا منها، والذي يمكنها عندئذ أن تنظر إليه وتقول: اهدأ، ليس الأمر بهذا السوء. شخص يهتم لأمرها، شخص يمكنها أن تريحه".

إن عدم شعور كوكو بالغضب من أمها هذه المرة، وإحجامها عن إخبار هانز بالأمر، لأنه يريد دفعها للغضب، وهي لا تريد أن تشعر بهذا الشعور مرة أخرى، يُدللان بشكل يقيني أن كوكو قد شُفيت من غضبها العارم الذي عاشت معه طوال حياتها بسبب سوء الفهم الذي تسبب فيه أبوها ويلبرت، مما يعني أنها، أخيرا، استطاعت أن تفهم أمها، وتقترب منها، وتشعر تجاهها بالحب، ومشاعر البنوة، لكن بعد فوات الأوان، فحينما يصل الحلاق إلى البيت بعدما كانت كوكو قد استدعته للقدوم كمُفاجأة لأمها، تُحادثه من غرفة نومها، مُخبرة إياه بأن أمها قد أغلقت الباب عليها، ربما بسبب الورم في رأسها الذي يؤدي بها إلى أفعال غريبة، وحينما تقذف إليه بمفتاح الباب الخارجي، يُفاجأ بوجود إليزابيث على فراشها وقد فارقت الحياة، مما يجعله يصعد إلى الطابق العلوي لفتح الباب لكوكو آسفا، كما يصل مارتين- رئيس إليزابيث في العمل، والذي كان دائم الاهتمام بها، والمسؤول عن جنازتها بعد موتها- ليبدأ في الإعداد لإجراءات الجنازة.

إن رواية "العطش" للروائية الهولندية إستير خيريتسين هي رواية مُهمة تتأمل في مشاعر الغضب، وما يمكن أن تؤدي إليه هذه المشاعر من دمار لصاحبها، ولكل من يحيطون به، لذا تحاول الاهتمام بالكثير من التفاصيل التي مرت بها كوكو في رحلتها الغاضبة حتى وصولها إلى حالة الهدوء الكامل، والتصالح مع نفسها، وأمها، وكل ما يحيط بها، ورغم أن هذا الغضب الذي نشأت عليه الرواية في المقام الأول لم يكن له ما يبرره على أرض الواقع، إلا أن الأب ويلبرت كان قد تسبب في هذه الحالة بسبب أنانيته المُفرطة، ورغبته في تبرئة نفسه من عدم اهتمامه بطفلته، فضلا عن رغبته في الاستحواذ على كوكو هو وزوجته وإبعادها عن أمها. ولعلنا لاحظنا أن الروائية قد نجحت إلى حد بعيد في استغراقنا في التفاصيل التي أدت إليها هذه الحالة الغاضبة ورؤية العالم من خلالها، بالإضافة إلى امتلاكها لزمام أمرنا كقراء حتى اللحظة الأخيرة التي تنكشف فيها الرواية انكشافا كاملا، أي أن الروائية هنا لديها المهارة التي جعلتها تحافظ على خصوصية وغموض روايتها حتى اللحظة الأخيرة، ومن ثم لم تمنحنا الرواية نفسها إلا مع الصفحات الأخيرة منها، وهي آلية سردية، ومهارة تتميز بها الروائية إلى حد بعيد.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد أغسطس 2025م.