إن فلسفة القسوة، أو التشوه- إذا ما جاز لنا التعبير- هي المحور الجوهري،
والرئيس الذي يدور حوله الفيلم الإسباني ElHoyo الحفرة، أو المنصة تبعا
للعنوان الإنجليزي والتجاري للفيلم The Platform، للمخرج الإسباني Galder Gaztelu- Urrutia جالدر جاستلو أوروتيا، وهي
القسوة المُفرطة، والأنانية، وعدم الالتفات للآخرين الناتجين عن توحش الرأسمالية
في العالم. هذه الرأسمالية التي تؤدي بالجميع إلى الإيغال في الجريمة، وانتهاك
حقوق الآخرين، وتحول الجميع إلى مُجرد وحوش لمُجرد الرغبة في المزيد من المال
والثروة التي تؤدي بدورها إلى جذب بعض المثاليين والأخلاقيين إلى السقوط في مُستنقع
الجريمة بدورهم؛ نتيجة للضغط الاجتماعي والاقتصادي الفوقي عليهم؛ فيؤدي بهم ذلك
إلى التغير في أنماط سلوكياتهم، ويسقطون ما يتم مُمارسته عليهم على الآخرين ممن لا
ذنب لهم فيه، وتظل هذه السلسلة المُترابطة تمتد إلى ما لا نهاية؛ حتى يتحول العالم
بالكامل إلى غابة شاسعة من المُجرمين الذين لا يشعرون بالذنب لجرائمهم، بل يجدون
أمامهم دائما المُبررات لهذه الجرائم التي يرتكبونها برضى؛ لأنهم يرون أن الآخرين
هم السبب فيها؛ بما أنهم قد دفعوهم إلى ارتكابها!
هذه اللامُبالاة، أو اللااكتراث، أو البلادة التامة فيما يشبه اكتساب الحكمة هو ما نراه حينما يهبط جورنج- قام بدوره المُمثل الإسباني Iván Massagué إيفان ماساجي- إلى الحفرة، ففي الوقت الذي كانت تتملكه الدهشة من كل ما يدور من حوله مُنذ بداية الأمر، نجده، فيما بعد، يبدأ في التأقلم مع الأحداث التي تحدث أمامه رويدا، حتى أنه أصبح لا مُباليا تماما في نهاية الأمر، أو كأنه قد اكتسب من النضج الكافي ما يجعله يترك اندهاش النظرة الطفولية وبراءتها خلف ظهره.
يتناول الفيلم الجرائم البشعة التي يؤدي إليها المُجتمع الرأسمالي، ويؤكد
على أن الرأسمالية قادرة على خلق وحوش بشرية لا يمكن لنا تخيلها- ليس على مستوى
القمة التي تمتلك فقط، بل هي تخلق وحوشا أكثر قسوة في القاع الاجتماعي الذي تمارس
سطوتها عليه وتعمل على طحنه ليل نهار؛ الأمر الذي يجعلهم ينتقمون من بعضهم البعض،
أو بالأحرى يتغذون على بعضهم البعض حينما لا يجدون ما يمكن أن يسدون به جوعهم!
يتحدث الفيلم هنا عن مبنى رأسي ضخم يبلغ عددا لا مُتناهٍ من الأدوار/
المستويات، وفي كل مستوى من هذه المستويات يوجد سجينين اثنين فقط، بينما يوجد في
سقف وأرضية كل مستوى فتحة مُستطيلة ضخمة تهبط إليها منضدة/ منصة زاخرة بكميات
هائلة من الطعام مرة واحدة فقط كل أربع وعشرين ساعة؛ لتظل هذه المنصة لفترة وجيزة
من الوقت في كل مستوى، وعلى كل سجينين أن يستغلا فرصة وجودها لتناول وجبتيهما قبل
تحركها إلى المستوى الأسفل، وإذا ما احتفظ أي سجين من السجناء بأي طعام معه في
مستواه بعد هبوط المنصة فإن درجة الحرارة إما سترتفع تدريجيا حتى يتم احتراقهما
تماما، أو ستبدأ في الانخفاض التدريجي حتى يتم تجمدهما؛ لذلك لا بد لكل منهما
انتهاز فرصة وجود المنصة في مستواه لتناول طعامه قبل تحركها للمستوى الأقل.
سنُلاحظ أن هذه المنصة تتحرك زاخرة بالطعام الفاخر والهائل من المستوى صفر الذي يتم فيه إعداد الطعام، ثم لا تلبث في التحرك إلى المستوى الأول، فالثاني، وهكذا إلى كل المستويات المُنخفضة إلى ما لا نهاية، أي أن كل مستوى أقل من المستوى الذي سبقه يتناول، بالضرورة، بقايا الطعام التي يتركها المستوى الذي قبله، ومهما كان في المنصة من قئ، أو بُصاق على هذا الطعام؛ فالمستوى الأقل مُرغم على تناول وجبته الوحيدة، وإلا سيموت جوعا، لكن هل يكفي هذا الطعام لجميع المستويات المُنخفضة، أو بمعنى آخر: هل تصل هذه الأطعمة إلى المستويات السحيقة في الانخفاض؟
يبدأ المُخرج جالدر جاستلو فيلمه بمشهد الطعام في المستوى صفر أثناء
إعداده، ولعلنا نلاحظ مدى الاهتمام المُبالغ فيه من قبل المُشرف على إعداد الطعام
في دقة إعداده، ونظافته، وكأنه طعام ملكي؛ لذلك نرى الطباخين يصنعون الوليمة
الضخمة الفاخرة بدقة مُتناهية، واهتمام مُبالغ فيه، مع وجود عازفين للكمان يعزفون
على آلاتهم أثناء إعداد الطعام، ويبدو لنا الطباخين وكأنهم يقومون بعمل فني، أو
يرسمون لوحات فنية من الطعام؛ مما يُدلل على مدى عنايتهم بما يفعلونه في إسقاط مُهم
على الرفاهية المُطلقة التي تمارسها الطبقات الأعلى من المُجتمع.
إن بداية الفيلم بمثل هذا المشهد يكاد يكون من قبيل السُخرية السيريالية
إذا ما انتقلنا إلى المشاهد التالية من الفيلم؛ لأن هذا الاهتمام والدقة والنظافة
المُبالغ فيهم من أجل إعداد هذا الطعام سنرى في مُقابله، فيما بعد، مسجونين في
مستويات مُنخفضة لا يصلهم أي شيء من هذا الطعام؛ الأمر الذي سيؤدي بهم إلى أكل
لحوم بعضهم البعض!
يلي هذا المشهد السيريالي شاشة سوداء لنستمع إلى صوت يقول: هناك ثلاثة أنواع من الناس، من هم بأعلى، ومن هم بأسفل، ومن يسقطون. سنعرف فيما بعد أنه صوت تريماجاسي- قام بدوره المُمثل الإسباني Zorion Eguileor زوريون إجيلور- الذي يشرح الأمر لنزيل الحفرة الجديد جورنج؛ لتبدأ الأحداث الحقيقية للفيلم على استيقاظ جورنج في المستوى 48 ويرى تريماجاسي، زميله في المستوى، وهو رجل قد حُكم عليه ببقائه في الحفرة لمُدة عام؛ لأنه ألقى تلفاز من نافذته فهبط على رأس أحد المُهاجرين غير الشرعيين وقتله.
سنعرف أن جورنج هو شاب مثالي مُثقف، رغب في التوقف عن التدخين، والحصول على
شهادة ما؛ فقرر بنفسه الهبوط إلى الحفرة لمُدة ستة أشهر كاملة، يخرج منها بعدها
وقد حصل على شهادته، وتوقف عن التدخين، ولأن كل شخص يذهب إلى الحفرة له الحق في أن
يصطحب معه شيئا واحدا يرغب في اصطحابه؛ فلقد قرر جورنج أن يصطحب معه كتاب دون
كيشوت لقراءته!
يحاول جورنج التعرف على زميله في مستواه- تريماجاسي- لكن الرجل يتعامل معه
بتشكك وفظاظة، وحينما يسأله جورنج: سيد تريماجاسي، هل تعرف كيف تعمل الحفرة؟ يجيبه
الرجل بفتور: بطبيعة الحال، يتعلق الأمر بالأكل، أحيانا ما يكون غاية في السهولة،
وفي أوقات أخرى في قمة الصعوبة. يتوقف هذا على مستواك، لحسن الحظ أن المستوى 48
جيد. أي أن الحياة بالكامل في هذه الحفرة تتوقف على المستوى الذي يسكن فيه كل
سجين، وكلما كان المستوى مُرتفعا، كلما كان الأمر أجود مما لو كان أكثر انخفاضا؛
لأنه قد لا يصله أي شيء من الطعام.
يعمل المُخرج على استعارة ما يحدث في المُجتمع الرأسمالي الواقعي ويصوغه في شكل آخر ربما يكون أكثر إثارة وجذبا للمُشاهد العادي مما لو تحدث عن الأمر بشكل فيه من المُباشرة ما قد يفقده جانبه الفني أو الجمالي؛ لذلك حينما يحاول جورنج الحديث مع المسجونين في المستوى الأقل منه يحذره تريماجاسي: لا تنادهم، فيسأله مُندهشا: لماذا؟ فيخبره: لأنهم بالأسفل، ومن بالأعلى لن يجيبوا. هنا يندهش جورنج ليسأله عن السبب، فيقول تريماجاسي: بطبيعة الحال لأنهم في الأعلى.
ألا نُلاحظ هنا أننا أمام شكل من أشكال العُزلة الاجتماعية الكاملة بين كل
مستوى من المستويات، وهذه العُزلة الكاملة تُحددها الدرجة/ المستوى الذي يوجد فيه
كل سجين؛ الأمر الذي يجعلهم لا يتواصلون؟ إن من هم في الأعلى يرون أنفسهم أفضل
رتبة ممن هم في المستوى الأقل منهم؛ وبالتالي لن يتواصلوا مع من هم تحتهم، ومن هم
في المستوى الأقل سيرون من تحتهم كذلك لا يستحقون التواصل معهم، رغم أن فعل
الامتناع عن التواصل سبق مُمارسته عليهم ممن هم فوقهم، وبالتالي لا يجب عليهم أن
يعيدوا مُمارسته مع من هم أدنى منهم، لكنهم بالفعل يقومون بفعله رغم أن نفس الفعل
وقع عليهم ممن هم فوقهم، وهذا ما نراه في الواقع الاجتماعي وتشكيله التراتبي؛ فالأعلى
اجتماعيا واقتصاديا يتجاهلون من هم أدنى منهم؛ وبالتالي لا يمكن أن يكون بينهم أي
شكل من أشكال العلاقات؛ الأمر الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى تفسخ المُجتمع وتحويله
إلى مجموعة من الجُزر المُنعزلة التي لا يعني كل جزيرة فيها سوى مصلحتها الشخصية
فقط، وهو ما يؤدي في النهاية إلى انهيار المُجتمع ودفع بعض الطبقات باتجاه الجريمة
والعنف.
بما أن المُجتمعات الرأسمالية تكاد أن تتواضع على هذه القيم المُدمرة
للجميع، وهي في حقيقتها مجموعة من القيم العدمية؛ فهم يرون أن كل من يرغب في تخطي
هذه المواضعات القيمية شاذا، أو لا بد من اتهامه بجريمة ما، وهو ما نراه حينما
يلمح جورنج أن الطعام الذي يهبط إليهم لا يمكن أن يبقى منه شيئا للمستويات الأقل
التي تموت من الجوع؛ فيقول لتريماجاسي: يجب أن نتواصل مع من هم بالأعلى، فيسأله:
لماذا؟ يقول: يجب أن يحددوا حصصهم من الطعام، سيخبرون مستوى 46، وهؤلاء سيخبرون
مستوى 45 وهلم جرا؛ فيرد عليه تريماجاسي مُستنكرا: هل أنت شيوعي؟ ليقول جورنج: أنا
موضوعي، تحديد الحصص فيه عدالة، لكن تريماجاسي يرد من دون اقتناع: من بالأعلى لن
ينصتوا إلى الشيوعيين!
ألا نرى أن مُجرد رغبة جورنج في عدالة التوزيع من أجل إنقاذ من يموتون من
المساجين قد بات أمرا شاذا؛ ومن ثم تم اتهامه بالشيوعية؟ إنه اعتياد القبح، أو
القسوة، أو التشوه من طول ما بات يوميا واكتسب عاديته في حياة الجميع، وبالتالي
يصبح موت الملايين كل يوم بسبب الجوع هو أمر اعتيادي لا يجب علينا تأمله أو
التفكير فيه كثيرا؛ الأمر الذي يجعل من يفكر فيه أو يحاول تأمله بمثابة إنسان شاذ،
ولا بد من اتهامه بالعديد من الاتهامات من أجل تفسير خروجه عن الجماعة التي اعتادت
على الموت والقسوة.
إن هذه العزلة الاجتماعية بين الطبقات المُختلفة يؤدي بالضرورة إلى العداء المُتبادل بين طبقات المُجتمع المُتمثلة في مستويات الحفرة؛ فحينما يحاول جورنج الحديث مع المستوى الأقل منه يقول له أحدهم: اتركوا لنا مزيدا من النبيذ المرة القادمة أيها الأوغاد؛ فينهض تريماجاسي للتبول عليهم قائلا: ها هو نبيذكم أيها السفلة، من بالأسفل هم بالأسفل يا جورنج، وحينما يرد عليه جورنج قائلا: ربما سيصبحون في الأعلى الشهر القادم، يقول تريماجاسي بإقرار وطبيعية: نعم، وسيتبولون علينا!
هنا إقرار كامل بتفسخ العلاقات الاجتماعية، ويقين حقيقي بأن من يمتلك المال
اليوم لديه الحق في التصرف كيفما يشاء مع الطبقات الأخرى مهما كانت تجاوزاته، أو
جرائمه؛ فالمال يعطيه السُلطة والحقوق الكاملة في إبادة الطبقات الأخرى، أو مُمارسة
الجريمة، والإهانة على من هم أقل منه، وبما أن سجناء الحفرة يتغير مستواهم في
نهاية كل شهر بشكل عشوائي، أي أن من هم في المستوى الأعلى قد يجدون أنفسهم في
مستوى متوسط أو شديد الانخفاض في الشهر التالي؛ فلقد أجاب تريماجاسي هذه الإجابة
التي قد تبدو لنا لا عقلانية: نعم، وسيتبولون علينا، أي أن الطبقات الاجتماعية
الأدنى تؤمن بأنها ما دامت في مستويات أقل؛ فمن الطبيعي أن تُمارس معهم المُمارسات
التي يلاقونها ممن هم أعلى منهم، لكنهم في ذات الوقت لديهم يقين أنهم إذا ما صعدوا
في السلم الاجتماعي إلى مستويات أعلى مما هم فيه؛ فعليهم أن يمارسوا مع من لم يلحق
بهم نفس المُمارسات التي مُورست عليهم من قبل!
يحرص المُخرج جالدر جاستلو على محاولة توسيع عالمه المُنغلق تماما على نفسه
بتعدد الشخصيات فيه؛ فيقدم لنا شخصية ميهارو- قامت بدورها المُمثلة الإسبانية Alexandra Masangkay أليكسندرا ماسنكاي- التي تهبط
مع المنصة من مستوى أعلى، وحينما يبدي جورنج اندهاشه يخبره تريماجاسي ألا يقلق
حيالها ويتناول طعامه؛ فلكل سجين في الحفرة حرية التنقل في المستويات كيفما رغب،
وهي امرأة تبحث عن ابنها الذي فقدته في الحفرة ولا تعرف طريقه، لكنها قبل نزولها
تقتل شريكها في الزنزانة؛ لتحسين فرصتها في أن تكون مع ولدها في الشهر التالي، بل
ويخبره أن الجثة التي رآها تهبط من أعلى إلى أسفل في اليوم السابق كانت على الأرجح
لشريكها في الزنزانة!
يحاول جورنج التعامل بشكل كبير من الإنسانية مع ميهارو التي تألف إليه خلافا للآخرين الذين تنفر منهم بسبب محاولاتهم الدائمة في الاعتداء عليها واغتصابها حينما تهبط مع المنصة.
في نهاية الشهر يسأل تريماجاسي جورنج: هل تؤمن بالله؟ فيرد مُندهشا: لم
تسألني هذا السؤال؟ فيقول تريماجاسي: لو كنت تؤمن بالله؛ فادعِ لنا، هل تشم هذه
الرائحة؟ إنها رائحة الغاز، نحن في نهاية الشهر، وسننام بعد لحظات، ولن نفيق إلا
في مستوى جديد لا نعرفه. لكن رغم الصداقة القوية التي ربطت بين الاثنين؛ فحينما
يستيقظ جورنج يجد نفسه مُقيدا تماما، غير قادر على الحركة، وحينما يحاول جاهدا
التخلص من قيوده يخبره تريماجاسي أنهما قد انتقلا إلى المستوى 171 قائلا: هذا ليس
بالمكان الجيد، هل تفهم الآن؟ أنت أصغر مني، وأقوى مني، ربما لا تهاجمني اليوم أو
غدا، ولكن بمرور الوقت ستنظر إليّ بشكل مُختلف، الجوع يجلب الجنون، في هذه الحالات
إما أن تأكل أو تؤكل. بطبيعة الحال لا أريد أن أقتلك؛ سيتعفن جسدك سريعا، ولن تحصل
على أي طعام، كما أنني لن أشل حركتك على الفور كذلك، يمكن تحمل الصوم في الأسبوع
الأول!
أي أن المُخرج هنا يؤكد على أنه في عالم من المُعاناة والفقر والجوع لا
مكان فيه للصداقات أو المشاعر، أو القيم؛ هنا يصبح قانون البقاء هو الأجدى والمُسيطر
على كل شيء، وما دام المُجتمع بطبقاته الأعلى المُهيمنة على كل شيء قد وضعت
الطبقات الأخرى في مثل هذا الوضع البائس والكابوسي؛ فليس أمام أفراد هذه الطبقات
سوى محاولة البقاء على قيد الحياة بأي شكل، وهو الأمر الذي لا يكون إلا من خلال
الجريمة، والخديعة، والتخلي عن كل القيم من أجل هدف واحد فقط هو عدم الموت حتى لو
كان هذا البقاء من خلال أقرب الناس كالصديق، أو الأخ، أو الابن، المُهم هنا هو
القدرة على البقاء حيا؛ لذلك يبرر تريماجاسي فعله تجاه صديقه جورنج قائلا: ستتلاشى
صداقتنا ببطء، ستنتهي بعدم ثقة مُتبادلة تؤدي إلى الصراع والجريمة. أعرف، لقد
اختبرت ذلك فيما قبل، فيقول له جورنج: أنت قاتل لعين، لكنه يرد عليه: أنا خائف
فحسب!المُخرج الإسباني جالدر جاستلو أوروتيا
ألم نقل مُنذ قليل: إن الفقر والعوز، والحاجة، والجوع الذين تتسبب فيهم
الطبقات الأعلى لا بد لهم أن يؤدوا بالمُجتمع والطبقات الأدنى إلى الجريمة
المُبررة؟ إنها الجريمة التي يمارسونها برضى ضمير كامل؛ لأنهم يجدون المُبرر فيما
يفعلونه باعتبار أن الطبقات الأعلى هي المسؤولة عنه مسؤولية كاملة، وهو ما اتضح
حينما قال جورنج: ستكون الوحيد المسؤول عن موتي أيها الوغد، لكن تريماجاسي يرد
باطمئنان: لا، من بأعلى يجعلونني أفعل ذلك، الـ340 كلهم مسؤولون أمامي؛ وبالتالي
فإن التهام الطعام في المستويات الأعلى، وعدم التفكير فيمن هم أسفل يجعل تريماجاسي
وغيره يمارسون جرائمهم بضمير مُطمئن؛ لأن من التهموا الطعام وجعلوا المنصة تهبط
إليهم خاوية تماما حتى من العظام هم السبب في لجوء تريماجاسي وغيره إلى محاولة قتل
جورنج، وقطع لحمه من أجل التهامه.
يحاول تريماجاسي قطع شريحة من فخذ جورنج والتهامها، لكن في هذه الأثناء
تهبط المنصة الفارغة من الطعام ومعها ميهارو التي تهجم على تريماجاسي وتقتله وتنقذ
جورنج، هنا نرى ميهارو وهي تحاول الاعتناء بجورنج بينما تتناول لحم تريماجاسي مُتغذية
عليه في هذا المستوى المُنخفض الذي لا يصله الطعام، كما تُطعم جورنج من لحم
تريماجاسي وهو اللحم الذي لا يستسيغه في البداية، لكنه حينما يقرصه الجوع يعتاد
على الأمر ويبدأ بنفسه في تقطيع لحمه والتهامه، حتى أننا نراه يلتهم اللحم من بين
الدود بعد تعفن الجثة.
في الشهر التالي ينتقل جورنج إلى المستوى 33 وحينما يفيق يُفاجأ بوجوده مع
إيموجيري- قامت بدورها المُمثلة الإسبانية Antonia San Juan أنتونيا سان وان- وهي السيدة
التي كانت تأخذ بياناته في إدارة الحفرة، ومن ثم وافقت على هبوطه إليها، وحينما
يخبرها أن هذا المكان بمثابة جريمة لا يمكن التغافل عنها، ترد عليه مُقتنعة: نُفضل
تسميته المركز العمودي للإدارة الذاتية، فيسألها عن عدد مستويات الحفرة، لتخبره
بأنها 200 مستوى، هنا يقول لها: لا نحصل على طعام يكفي 200 مستوى؛ فترد: إذا أكل
كل شخص ما يحتاج إليه فقط؛ سيصل الطعام إلى أقل المستويات!الممثل الغاني الأصل الإسباني الجنسية إيميليو بيولي كوكا
أي أنها مُقتنعة تماما- بما أنها تعمل في إدارة هذا المكان مُنذ 25 عاما-
بأن المكان صالح للحياة، وأن كل مستوى لو اكتفى بحاجته فقط؛ فإن الطعام سيكفي
الجميع. بالتأكيد هذه نظرية اقتصادية صحيحة؛ فلو أخذ كل إنسان ما يكفيه من موارد
من دون ظلم، أو جشع، أو طمع؛ ستكفي هذه الموارد البشرية بالكامل، ولن نجد من يموت
من الجوع، أو يحاول السرقة أو القتل من أجل الطعام، لكن هذا الكلام على المستوى
النظري فقط، وهو ما لا يمكن أن نراه على أرض الواقع؛ حيث يحاول كل شخص الحصول على
القدر الأكبر مما أمامه مهما كان في غنى عنه، لكنها في النهاية غريزة التملك، وهي
الغريزة التي تجعل كل من هم في المستويات الأعلى يحصلون على كل ما لا يرغبونه لمُجرد
الحصول عليه.
إن إيمان إيموجيري بأن إدارة الحفرة على صواب فيما تفعله يجعلها تقول: يجب
أن يحدث شيئا في المركز العمودي في النهاية، شيئا يحفز التضامن العفوي؛ فيرد
عليها: هل لهذا السبب أسسوا هذه الحفرة اللعينة؟ التغيير لا يكون عفويا قط يا
سيدتي.
ربما كان في عبارة جورنج الأخيرة الكثير من الواقع والحقيقة، بل والحكمة
أيضا؛ فالتغيير، والتضامن العفوي الذي تتحدث عنه إيموجيري لا يمكن له بالفعل أن
يكون عفويا، ولا بد له من سُلطة ، وأدوات للتغيير من أجل الوصول إليه؛ لأن طبيعة
البشر تميل باتجاه التملك حتى لو لم يكونوا في حاجة ماسة إليه، وهو ما يؤكده المُخرج
حينما نرى مشهد السجناء في المستويات العليا، الذين يمثلون الطبقات الأعلى في المُجتمع،
حيث يتناولون طعامهم بجشع لا مثيل له، بل ويصعدون على المنصة الزاخرة بالطعام
بأرجلهم ليتراقصوا عليه ويبعثرونه مُلقين به هنا وهناك في إهدار واضح للموارد التي
لا تكفي المستويات الأقل، ورغم أن هؤلاء السجناء الذين يفعلون ذلك كانوا في
مستويات أخرى أقل، وعانوا الكثير من الجوع فيما قبل، إلا أنهم حينما وصلوا إلى
المستويات الأعلى تناسوا مُعاناتهم وكانوا سببا في مُعاناة الآخرين ممن هم أقل
منهم، وهو ما نراه في الحياة الواقعية تماما؛ فالناس الذين وصلوا إلى مستويات
اجتماعية واقتصادية مُتقدمة في المُجتمعات، بالضرورة، لم يكونوا كذلك، وبالتأكيد
عانوا الكثير قبل وصولهم إلى هذا الموقع الاجتماعي، لكنهم حينما يصلون إلى هذا
الموقع تسقط المُعاناة من ذاكرتهم، أو كأنهم يحاولون تعويض ما كان ينقصهم ويعانون
منه بإسقاط هذا النقص على غيرهم؛ لذلك رغم أن إيموجيري قد هبطت إلى الحفرة برغبتها
المُطلقة اقتناعا منها أن تجربة الحفرة هي تجربة مثالية؛ فإنها تُصاب في النهاية
بخيبة كبيرة، وتُدرك حجم المُعاناة، ومقدار الخديعة التي تعرضت لها هي وكل من يعمل
مع إدارة الحفرة حينما ترى ما يحدث أمامها، بل وحينما تتأكد أن كل المعلومات التي
أخبرتها بها الإدارة هي معلومات كاذبة لا صحة فيها، لا سيما أنها في الشهر التالي
انتقلت إلى المستوى 202 رغم أن الإدارة قد أخبرتها أن الحفرة لا تزيد عن 200
مستوى؛ وهو الأمر الذي يجعلها بمُجرد ما تفيق في المستوى 202 تشنق نفسها في محاولة
منها لتوفير الغذاء الكافي لجورنج الذي لا بد له أن يتعذى على جسدها هذا الشهر
لحين انتقاله إلى مستوى جديد!
في الشهر الخامس ينتقل جورنج إلى المستوى 6، وحينما يفيق يجد أمامه رفيقه
الجديد بهارات- قام بدوره المُمثل الإسباني الجنسية الغاني الأصل Emilio Buale Coka إيميليو بيولي كوكا- هنا يبدأ
جورنج في التفكير من أجل إرغام الجميع على الالتزام بحاجتهم من الطعام فقط من أجل
وصول الطعام لجميع المستويات المُنخفضة، ويقول لبهارات: ساعدني على الهبوط، لنخترع
أسلحة، سنصعد على المنصة ونوزع ما يكفي للأكل في كل مستوى، لكن بهارات يقول له: إن
الهبوط بمثابة انتحار، فيرد جورنج: إن أنزلنا الطعام حتى المستوى الأخير، نكون قد
خالفنا نظام الحفرة، إلا أن بهارات يقول بيأس: لا يوجد أي نظام في الحفرة، الحفرة
هي الحفرة، الحفرة هي سجن لعين، نحن حتى لا نعرف مدى عمقها.الممثل الإسباني إيفان ماساجي
يؤكد جورنج أن الحفرة تصل إلى حوالي 250 مستوى، وأنه حينما كان في المستوى
202 كان يحسب توقيت نزول المنصة حتى عودتها في الصعود مرة أخرى، ومن خلال عملياته
الحسابية لا يمكن لها أن تكون أكثر عُمقا من ذلك؛ فيوافق بهارات على مُساعدته في
التوزيع العادل للطعام، لكن جورنج يؤكد على أنه لكي يحققوا هذا التوزيع العادل؛
فلا بد للخمسين مستوى الأول أن يصوموا عن الطعام لمُجرد يوم واحد، ويبدأ هذا
التوزيع من المستوى 51، لكنهم من أجل تحقيق هذه العدالة يرتكبون الكثير من الجرائم
التي قتلوا فيها الكثيرين من السجناء!
ألا نُلاحظ أن تحقيق العدالة هنا لا بد له من ضحايا؟ إن حرمان سجناء
الخمسين مستوى الأول من الطعام لمُدة يوم من أجل إيصال الطعام للمستويات التي تلي
المستوى 51 ليس فيه أي منطق أو عقلانية، وهذا ما يقوله أحد السجناء: تبا، أنا في
المستوى السابع، ويحق لي أن آكل كيفما أشاء، كدت أموت في المستوى 114 الشهر
الماضي، أين كنتما وقتها أيها الوغدان؟ من أنت؟ المسيح، هل أنت هنا لتفتدينا؟
إن حديث السجين السابق يحمل قدرا كبيرا من المنطقية والعقلانية؛ فهو أيضا
كاد يموت في المستويات المُنخفضة، وليس من حق أحد أن يصوم تماما من أجل إعطاء
الطعام للآخرين؛ لذلك فإن محاولة تطبيق عدالة التوزيع بمنع الطعام عن المستويات
الـ50 الأولى، قد أدى إلى الكثير من الضحايا الذين قتلهم كل من جورنج وبهارات، أي
أن المثالية المُفتقدة على أرض الواقع لا سبيل للوصول إليها من دون ضحايا، وكأنما
المُخرج يرغب في التأكيد على أن المثالية لا مكان حقيقي لها على أرض الواقع، وأنها
مُجرد أضغاث أحلام؛ لأن تحقيقها يؤدي إلى المزيد من الدماء والضحايا؛ الأمر الذي
ينفي عنها صفة المثالية في نهاية الأمر.
لكن، أليس ثمة شبها عميقا بين ما قام به الاثنان من أجل تحقيق عدالة
التوزيع، وما نعرفه في الأدبيات الماركسية باسم ديكتاتورية البروليتاريا؟ إذن،
فالمُخرج هنا يقدم لنا مشهدا فيه العديد من الدلالات والإسقاطات التي تؤكد على
الفكر الاشتراكي الذي لا يمكن تحقيقه، ولا يمكن الوصول إليه إلا على جثث ودماء
الكثيرين من الضحايا من أجل تحقيق العدالة المطلوبة، أي أن الرأسمالية الجشعة لها
ما لا يُعد ولا يحصى من الضحايا، كذلك فإن الفكر الاشتراكي الذي يبتغي الوصول إلى
عدالة التوزيع له الكثيرين جدا من الضحايا بدوره! وهو ما نلحظه أيضا في رمزية
اصطحاب جورنج لكتاب "دون كيشوت" معه إلى الحفرة، فدون كيشوت ظل يحارب
طواحين الهواء في حياته باعتباره مُناضلا، أي أنه كان يحارب الفراغ، وهو ما يتواءم
تماما مع شخصية جورنج الذي يحاول تحقيق العدالة في عالم لا عدالة فيه، لكن، رغم
محاولتهما بالفعل توزيع الطعام بشكل عادل وكافٍ لكل مستوى من المستويات نلاحظ أن
الطعام ينتهي تماما بينما المستويات المُنخفضة لم تنته بعد، وهو ما نراه في
المستويات السحيقة؛ حيث الكثير من الجثث، والقتلى، والمستويات التي تخلو من
سجنائها بعد انتحارهم، والمستوى الذي نرى فيه سجينا يمتلك الآلاف من الدولارات،
لكنها لا تعني شيئا سوى مجموعة من الأوراق التي لا قيمة لها من دون توفير الطعام/
الموارد الكافية لاستكمال الحياة.
يلاحظ كل من جورنج وبهارات أن المنصة لا تتوقف في المستويات التي خلت من
سجنائها، أو مات من فيها، كما أن المستويات مُنخفضة بشكل لا يمكن أن يتخيله أحد
إلى أن توقفت بهم المنصة في المستوى 333، وهو المستوى الذي وجدوا فيه طفلة وحيدة-
ربما هي طفلة ميهارو- قامت بقتل بهارات أثناء نومه للتغذي على جسده.الممثل الإسباني زوريون إجيلور
يحرص المُخرج طيلة فيلمه على وجود حوار بين جورنج وتريماجاسي في ذهنه، وهو
الحوار الذي يمكن تفسيره باعتباره حوار الضمير، أو مُجرد هلاوس أدت إليها الظروف
الضاغطة التي يمر بها جورنج، لا سيما بعد تغذيته على جثة تريماجاسي، وفي المستوى
333 يرى تريماجاسي أمامه يحادثه، ويطلب منه عدم الصعود مع المنصة؛ لأن مهمته قد
انتهت، وعليه أن يبعث بالطفلة إلى المستوى صفر باعتبارها رسالة من السُجناء في
الحفرة؛ لتوضح لهم مُعاناتهم، والظروف التي يعيشون فيها، وبالفعل يقبل جورنج
اقتراح تريماجاسي ويظل معه في المستوى الأخير المُظلم بينما تصعد المنصة بالطفلة
ليسأل تريماجاسي جورنج: هل ستنجح؟ إنها الرسالة؛ ليرد عليه جورنج المُنهك تماما:
أجل إنها الرسالة، وكأنما المُخرج هنا يريد التأكيد على أن التغيير لا يمكن له أن
يتم من خلال الأجيال التي عانت مثل هذه الفوضى الاجتماعية وعاشتها، ومارستها؛
فهؤلاء مهما أرادوا التغيير فلقد اعتادوا على ما يدور من حولهم، لكن التغيير
الحقيقي لا بد له أن يأتي من الأجيال الجديدة المُمثلة في الطفلة الصغيرة؛ لتكوين
مُجتمعات جديدة لها قيمها ومُثلها الخاصة والمُختلفة عن هذه المُجتمعات القديمة
التي توحشت وقتلت بعضها البعض.
قد يبدو الفيلم الإسباني "الحفرة" للمُخرج جالدر جاستلو أوروتيا
من أفلام الرعب، أو الإثارة، أو العنف، أو من أفلام آكلي لحوم البشر على المستوى
الظاهري، لكن مع تأمل الفيلم بشكل أعمق؛ سيتأكد لنا أن المُخرج وكتاب السيناريو
يمتلكون من الحكمة والذكاء ما يجعلهم يتأملون ما يدور في المُجتمع، ومن ثم
استعارته في هذا الشكل من الأفلام التي يُقبل عليها الجمهور؛ الأمر الذي يجعلهم
يستطيعون نقاش الكثير من الأمور الاجتماعية، ومُهاجمة الرأسمالية العالمية الجشعة،
وتصوير جرائمها وما وصلت إليه من خلال شكل فيلمي مُثير، وجاذب للجميع باعتباره من
أفلام التسلية المُثيرة في الوقت الذي صنعوا من خلاله ما يرغبونه، وقالوا حقيقة ما
وصل إليه المُجتمع الرأسمالي العالمي من قسوة وجشع، كما لا يفوتنا الأداء المُتقن
للمُمثلين جميعا لا سيما المُمثل الإسباني إيفان ماساجي الذي أدى دوره ببراعة لا
يمكن تخيل غيره فيها، خاصة المشاهد التي تبدو فيها الكثير من اللامُبالاة على
ملامحه، كما أنه مال في النصف الثاني من الفيلم إلى تقمص دور المسيح تماما، بل
وشكله في إيحاء منه إلى أن ما يقوم به من مهمة هي افتداء لجميع المسجونين في هذه
الحفرة وكأنه المسيح، كما أن المُمثل الإسباني زوريون إجيلور قد قدم لنا دورا من
أهم الأدوار التي لا يمكن لها أن تنسحب من الذاكرة بسهولة؛ لإتقانه وطرافته،
وسهولته التي تعلق بالذهن.
إلا أن البطل الحقيقي في هذا الفيلم كانت هي الإضاءة التي استخدمها المُخرج
بذكاء وإتقان في مكانها وتوقيتها المُناسبين تماما؛ لذلك غلب اللون الأزرق الباهت
في العديد من المشاهد للدلالة على البرودة والثلجية والموت، بينما غلبت الإضاءة
الحمراء في مشاهد أخرى للتدليل على الجريمة والعنف والدماء، وهي الألوان التي كان
المُخرج يراوح بينها بذكاء في التوقيت الذي من المُمكن لها أن تعبر عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق