الخميس، 11 ديسمبر 2025

فتاة من فيتنام: رحلة بانورامية لاكتشاف الذات

 تأتي أهمية الترجمات من اللغات الأخرى وضرورتها- التي لا غنى عنها- من معرفة ثقافات الشعوب، وعاداتها، وطرائق تفكيرها، وأسلوبيتها في الحياة، وربما مآسيها- إذا ما كان الكتاب يتحدث عن حرب، أو كارثة، أو نزاع، وصراع ما- ومدى التطور الفكري الذي وصلت إليه الشعوب، أي أن ترجمات الكتب تكاد أن تُشكل البصمة الجينية لكل دولة، أو عرق، أو لغة، وهو ما يجعلنا- كقراء- في رحلة بانورامية لاكتشاف حيوات أخرى لم نكن نعرف عنها شيئا، وما كان لنا أن نعرفها لولا هذا الوسيط- الترجمة- الذي يُمثل في جوهره نافذة مُهمة نتأمل من خلالها ثقافات الآخرين وحيواتهم.

هذه الرحلة- من خلال الكتاب- تعمل على توسيع مداركنا، التقارب بيننا وبين الآخرين، محاولة فهمهم، ومعرفة السبب في تصرفاتهم، أو اعتقاداتهم، مما يجعل التعامل مع الشعوب الأخرى أكثر يسرا، وسلاسة لاكتسابنا المعرفة بمُعتقداتهم، وعاداتهم، وربما تاريخهم، وغيرها من الأمور التي تتأسس عليها طريقة تصرفاتهم في الحياة.

إذن، فالترجمة، والاطلاع على ثقافات الآخرين ضرورة لا مناص منها، ومن خلالها فهمنا الكثير من الثقافات التي تلقفناها عبر الترجمات التي وصلت إلينا، فلولا هذه الترجمات، على سبيل المثال، لما استطعنا فهم اتجاه اللامعقول في الأدب الأوروبي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، والأسباب التي أدت بالكتاب هناك أن يلجأوا إلى هذا الشكل التعبيري الذي قد يبدو غريبا ومُستغلقا للوهلة الأولى، ولولاها لما استطعنا فهم طبيعة الصراع بين أعراق وشعوب دول يوغوسلافيا السبع السابقة، والتي استقلت كل منها فيما بعد إلى دول سبع ذات سيادة سياسية، وإن بقيت ذكريات الصراع الدموي الذي كان بينهم عالقة في الذاكرة لا تنمحي بسهولة، لا سيما بين كل من صربيا، وجمهورية البوسنة والهرسك، ولولا الترجمة أيضا لما فهمنا كيف نشأت الاتجاهات الفنية، ومنها فن السينما الذي تبنى مجموعة من الاتجاهات السينمائية الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل، فرأينا- على سبيل المثال- الواقعية الإيطالية الجديدة التي نشأت بسبب الحرب العالمية، والضغوط الاقتصادية الهائلة التي عانت منها إيطاليا؛ مما دفع جميع العاملين في السينما إلى اللجوء للتصوير في الشوارع والبيوت، والابتعاد عن الاستوديوهات بسبب ارتفاع التكلفة الباهظ نتيجة للحرب، وهو ما من شأنه أن يُهدد صناعة السينما، ويدفع بها إلى التوقف في هذه الفترة التاريخية الحرجة، ولفشلنا في فهم موجة "الهادئون الجُدد" السينمائية في روسيا، والتي مثلت مجموعة من المُخرجين الروس الشباب الذين قاموا بصناعة العديد من الأفلام التي تُمثل الاحتقان الذي يشعر به المواطن الروسي على ما يدور من حوله من سياسات، وهو ما أكسب أفلامهم شكلا غير هيّن من الكآبة التي تسود هذه الأفلام، لكن، رغم هذه الأفلام المُعارضة، كان مُخرجوها حريصين كل الحرص على عدم الحديث المُباشر في السياسة الروسية، أو الانخراط فيها، نتيجة لضغط النظام السياسي البوتيني- نسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين- الذي يستشعرونه جاثما على صدورهم، وهم المُخرجون الذين تنصب موضوعات أفلامهم على الانهيار البطيء الحادث للنسيج الاجتماعي في روسيا وخطر هذا الانهيار الاجتماعي على المُجتمع الروسي بالكامل، لا سيما أنه نتيجة مُباشرة للفساد السياسي الذي تتم مُمارسته بمنهجية صارمة، بالتعاون مع طبقة الـOligarchy الأوليجارشية[1]، وسيطرتها على المُجتمع.

كل هذه الأمور وغيرها الكثير- مما كانت خافية علينا لولا الترجمة- تؤكد لنا على ضرورة الترجمة من اللغات الأخرى، وأهميتها لاكتساب المزيد من المعارف والخبرات، وهو ما يتأكد لنا بشكل جلي مع قراءتنا لرواية "فتاة من فيتنام[2]" للروائية الفيتنامية الكندية الجنسية كيم توي.

تكتب توي روايتها كما لو كانت مُذكراتها التي تدونها، مُتابعة فيها جدودها لأمها وأبيها، وشكل حياتهما، ثم التقاء الأبوين وطريقة زواجهما، وما عانته أمها مع الأب اللاهي عنها وعن أطفاله، ومُعاناة الأسرة بالكامل في مُجتمع يتصارع بشكل دموي في حرب أهلية قادرة على القضاء على الجميع بسبب اعتناق الشمال للأيديولوجية الشيوعية، خلافا للجنوب المُختلف عنه، والمُعتنق للرأسمالية، وهو ما أدى إلى حرب أهلية طويلة وطاحنة تدخلت فيها العديد من الأطراف، لا سيما روسيا في الشمال، والولايات المُتحدة الأمريكية في الجنوب كأطراف في هذا الصراع الدموي الذي قضى على الملايين من الأسر الفيتنامية، وحوّل الدولة بالكامل إلى جحيم يحاول المواطنون النجاة منه، بالهروب إلى الدول المجاورة تمهيدا للجوء، والهجرة إلى دول أخرى من حول العالم. لتتابع المُؤلفة روايتها بالحديث عن هجرتها إلى كندا، واستقرارها في كيبيك، وما حدث لها فيما بعد.

نحن هنا لسنا أمام سيرة ذاتية للروائية بقدر ما تركت حياتها، وهجرتها إلى كندا بالكثير من الأثر على تجربتها الحياتية والفنية؛ مما دفعها إلى تأملها والاستفادة منها في نصها الروائي الذي جاء في شكل الرحلة، وما دار فيها؛ لذا فهي تفتتح روايتها من نقطة جوهرية انطلقت منها إلى عالمها الروائي، وهي النقطة المفصلية التي ستُشكل السبب الرئيس في هجرتها، والتفكير فيها، والتخطيط لها من قبل الأم: "كنت في الثامنة من عمري عندما خيّم الصمت المُطبق على بيتنا. أتذكر أن تحت المروحة المُعلقة على إحدى الجدران عاجية اللون بغرفة الطعام، كان هناك لوح من الكرتون المقوى الأحمر، مُثبت مُباشرة على الحائط، وعليه دفتر ورقي مكون من ثلاثمئة وخمس وستين ورقة، كل منها يشير إلى اليوم والشهر والسنة، لكن بتاريخين مُختلفين؛ أحدهما يوافق التقويم الشمسي والآخر يوافق التقويم القمري. وبمُجرد أن تمكنت من الوقوف على الكرسي، استحوذت عليّ مُتعة انتزاع أوراق هذه النتيجة في كل صباح. عينت نفسي حارسة للوقت. لكن هذه السعادة لم تدم؛ فقد سُلبت مني هذه المُتعة يوم أن أتم أخواي الأكبر سنا "لونج"، و"لوك" عامهما السابع عشر. فمُنذ حلول عيد ميلادهما الذي لم نستطع الاحتفال به، لم تكف أمي عن الانتحاب أمام هذه النتيجة الورقية. أظن أن قلبها كان ينفطر كلما مزقت ورقة منها كل صباح. أما صوت دقات الساعة، الذي كان يُهدهدنا عادة حتى نغط في النوم في أثناء غفوة الظهيرة، فقد أصبح يشبه فجأة وقع قنبلة موقوتة. كنت أصغر أفراد عائلتي، الأخت الوحيدة للإخوة الثلاث، كنت أنا الصغيرة التي يحافظ عليها الجميع كما يحافظون على زجاجات العطر الصغيرة داخل الفترينات الزجاجية، وعلى الرغم من ابتعادي عن أخبار العائلة نظرا لصغر سني، علمت أن أخويّ الأكبر سنا سيضطران للانضمام إلى صفوف القتال فور بلوغهما الثامنة عشرة، وسواء تم استدعاؤهما إلى كمبوديا لمُحاربة "بول بوت"[3]، أو إلى حدودنا مع الصين، كانا سيلاقيان المصير ذاته، والميتة ذاتها في كل الأحوال".

ربما نُلاحظ في هذه الافتتاحية مهارة الروائية في اجتذاب اهتمام القارئ، والسيطرة عليه لمُتابعة العمل الروائي حتى نهايته؛ فمثل هذه الافتتاحية لا بد لها أن تثير العديد من الأسئلة التي سينتظر القارئ إجابة الكاتبة عليها، وعن مصير أخويها، وما حدث لهما، ولعلنا نُلاحظ مهارتها في التعبير عن ذكريات طفولتها التي وصفت فيها "تقويم الحائط" الذي ما أن بدأت في الاستمتاع به، وبقطع أوراقه يوما بعد آخر، إلا وحرمتها أمها من لمسه مرة أخرى- لاحظ هنا أن تقويم الحائط بالنسبة للفتاة "في" ليس إلا لعبة جديدة اكتشفتها، وبدأت في الاستمتاع بها، بينما هو بالنسبة للأم- الشاعرة بالكثير من الخشية على مُستقبل ولديها- ليس إلا عدا تنازليا نحو إمكانية فقدها لابنيها اللذين باتا على مشارف الخدمة العسكرية الإجبارية.

إن براعة الروائية في التعبير عن هذه الحالة التي دخلتها الأم لا تتمثل لنا في اهتمام الأم بمُراقبة "تقويم الحائط" اليومي فقط، بل تتبدى لنا بشكل أكثر جلاء في أسلوبية تعبير الروائية عن مرور الزمن في: "أما صوت دقات الساعة، الذي كان يُهدهدنا عادة حتى نغط في النوم في أثناء غفوة الظهيرة، فقد أصبح يشبه فجأة وقع قنبلة موقوتة"، فصوت الساعة الذي كان يساعدهم كأطفال على نوم الظهيرة استحال إلى مُؤقت للعد التنازلي باتجاه انفجار قنبلة تجنيد الأخوين في الجيش، ومن ثم سوقهما إلى حتفهما.

لكن، مع مُتابعة الأحداث التي تسوقها الروائية يتأكد لنا أن تجنيد الأخوين في الخدمة العسكرية لم يكن هو السبب الرئيس لدفع الأم في التفكير في الرحيل، فثمة جحيم حقيقي يعيشه الفيتناميون لا يمكن التعايش معه، ولا بد من الهروب منه، وإلا أدى بمن بقي فيه إلى السجن أو الموت، وكليهما مُر: "لم تفصح أقفال الأبواب عن أسرار الأحاديث التي كانت تدور خلفها، ولم تحمل لنا الرياح أي من هذه الأسرار، ولا أي أنغام مُوسيقية حتى، لم تحمل لنا الرياح سوى الأوامر التي تبثها الحكومة عبر المذياع، تذكيرا لنا بحلول يوم التنظيف الأكبر الذي كان يتعيّن فيه على كل سُكان الحي الخروج بمكانسهم الخشبية وتنظيف الشوارع في آن واحد. وكانت مُكبرات الصوت تبث لنا أخبارا شتى، كخبر مُحاكمة أحد المُحامين القدامى من قبل جيرانه الثلاث، فقط لأنه تجرأ وأشار في إحدى مُناقشاته إلى قانون نابليون[4]، أو خبر مُحاكمة عائلات أفرطت في ابتهاجها بعرس أحد أفرادها، أو في انتحابها على خسارة أحد أفرادها. لم أعلم أن أمي كانت تنتهز فرصة بث هذه الأخبار في المذياع لتسر لـ"ها" بعنوان مُهرب يمكنه أن يدبر لنا رحلة فرارنا من فيتنام".

لاحظ هنا أن مُجرد الإفراط في البهجة أو السعادة، أو حتى الحزن قد بات جريمة يعاقب عليها القانون! وهو الحال الكابوسي الذي تؤكد عليه الروائية في: "لولا هذه الغفوة لارتعبت من الشرطي الذي طلب من "ها" وأخي "لونج" الجالسين وراءنا على بُعد صفين، أن يتحقق من بطاقاتهما الشخصية. قبل أن أنعس رأيت والد "ها" يدس في جيب هذا الشرطي مبلغا من المال ليتغاضى عن تعنيف أخي "لونج" بسبب إطالته لشعره كالرأسماليين، وهو ما كان يُعد آنذاك مظهرا من مظاهر التمرد الذي يمكن أن يودي بصاحبه إلى السجن"! مما يعني أن الحياة قد باتت مُستحيلة في فيتنام في هذه الفترة التاريخية التي تتناولها الروائية في روايتها، ولنتأمل مدى قسوة الواقع الفيتنامي حينها في: "بمُجرد اجتياح مُدرعات الشيوعيين لمدينة سايجون؛ أمرنا جدي بإحراق الكتب ذات الطابع السياسي كافة، وعلى مدار الأسابيع التالية مزقنا الكتب التاريخية أيضا، بالإضافة للروايات ومُؤلفات الشعر لتبرئة أسرتنا من أي تُهمة خيانة قد تُنسب لها لحيازتها لأدوات مُعادية للثورة. علمت حينها أنه في أوقات الفوضى، يتمنى الفيلسوف لو كان عامل نظافة، ويتمنى القاضي لو كان نجارا. فذات مساء، جاءت الشرطة وألقت القبض على جدي بينما كان يلعب الشطرنج مع أخي "لونج"، لكنهم أفرجوا عنه بعد ثلاثة أيام، ربما لأنه كان قد أصدر أحكاما في صالح أصدقائه المُناصرين لحركة المقاومة عندما كان قاضيا"، وهو ما يعني أن أي شيء قد يبدو لنا وللآخرين عاديا، قد يؤدي إلى الاعتقال أو القتل في نظر الشيوعيين الفيتناميين في تلك الفترة، فالجد الذي كان قاضيا مُهما في الجنوب، وتعلم تعليما فرنسيا، وعانى كثيرا مع الفرنسيين في صغره قد بات بدوره عرضة للاعتقال على يد الشيوعيين.

تلك العنصرية التي لاقاها الجد قديما تصفها الكاتبة في: "كان جدي لأبي حاصلا على ليسانس الحقوق من جامعة هانوي، وكانت شهادته هذه تحمل إشارة إلى أنه من "السُكان الأصليين". وإحقاقا للحق كانت فرنسا تحرص على تعليم الطلاب المُلتحقين بمُؤسساتها التعليمية، لكن لم يكن للشهادات التي تُمنح لهم داخل المُستعمرات القيمة نفسها التي تحملها الشهادات التي تُمنح على الأراضي الفرنسية"، أي أن حصول الفيتناميين على الشهادة الفرنسية، والتي تُمنح من مُؤسسات تعليمية فرنسية لا تعطيهم الحق في التساوي مع رفقائهم ممن حصلوا على نفس الشهادة، ولكن على الأراضي الفرنسية، تتضح هذه العنصرية الفرنسية أكثر إذا ما علمنا كيفية حصول الجد على اسمه، والتصاقه به: "لم يعترض جدي قط على الأسماء الفرنسية التي أطلقها عليه معلموه. ومن ناحية أخرى لم يكن قد سجله والداه بأي اسم فرنسي، ربما لجهلهم بهذا الإجراء، أو لإصرارهم على مقاومة شكل من أشكال الاستعمار، ومن ثم حمل جدي أسماء عديدة ومُختلفة كانت تتغير من عام إلى عام، ومن مُعلم إلى آخر، فسُمي "بهنري لي فان آن"، و"فيليب لي فان آن"، و"باسكال لي فان آن"، ومن بين كل هذه الأسماء أبقى لنفسه على اسم "أنطوان"، وجعل من "لي فان آن" لقبا للعائلة"، أي أن الالتحاق بالمدارس الفرنسية في المُستعمرات الفرنسية كان من شروطه إطلاق أسماء فرنسية على أبناء المُستعمرات الأصليين، وهو ما جعل المُعلمين يطلقون عليه العديد من الأسماء المُختلفة التي تقبلها في النهاية لتشبعه بثقافة المُستعمر الفرنسية.

تُعرج كيم توي على نشأة أبيها- ابن القاضي الذي بات من أهم القضاة في الجنوب الفيتنامي، وأكثرهم ثراء- لتُبرر لنا فيما بعد أسلوب حياته، ومُعاناة أمها معه؛ فنقرأ: "نشأ أبي بين يديّ جدتي وأصابعها الذهبية، وتدلل على يديها، وعلى أيدي أخواته الفتيات الست، وعلى يد ست وعشرين مُربية ومُرضعة وخادمة وطباخة، علاوة على ستمئة امرأة أخرى استقبلنه واحتوينه بين أذرعهن، وتأملن وجهه وملامحه الناعمة، وكتفه العريض، وساقيه الرياضيتين، وضحكته الساحرة. كان بإمكانه أن يدرس ما يحلو له من العلوم، أو أن يدرس القانون كأخواته، غير أن الحب والحنان الذي أغدقه عليه كل من حوله صرف انتباهه عن الكتب، وأطفأ فيه شغفه للعلم. كيف له أن يتوق لشيء وهو ينعم بكل شيء؟ لم يلبث أن يستيقظ ويفتح جفنيه، حتى تكبس إحداهن قنينة الرضاعة المملوءة باللبن الدافئ بين شفتيه، وذلك حتى سن الخامسة أو السادسة. ولم يجرؤ أحد قط على إيقاظه ليلحق بفصوله المدرسية، لأن أمه كانت تُحذر الجميع من تعكير صفو أحلامه، وكانت مُربيته ترافقه على مقاعد الصف بالمدرسة، حتى أنها تعلمت القراءة معه".

هذه النشأة الأرستقراطية المُستغرقة في الدلال أدت إلى إفساد الابن الوحيد للجد/ القاضي؛ ومن ثم جعلته غير قادر على التعاطي مع الحياة، ومُشكلاتها، وما يمكن أن يتعرض له في حياته، فضلا عن إفقاده للشعور بالمسؤولية تجاه أي شيء، أو أي شخص، فهو المُدلل المُعتمد على الآخرين طوال الوقت: "على هذا النحو شب أبي في هذه الأجواء السعيدة، وفي هذا الفراغ المُستمر، لم يكن وقته يُحسب بعدد الساعات، بل بعدد البيادق التي كان يحركها على لوحة الشطرنج الصينية، أو بعدد العقوبات التي كانت توقعها أمه على من تُسقط من يدها صحنا، أو عصا مكنسة في أثناء فترات غفوته، أو بعدد الرسائل الغرامية التي كانت تشق طريقها سرا إلى صندوق بريده"!

لكن، ما هو السبب الرئيس في مثل هذا التدليل المُبالغ فيه الذي أفقده مقدرته على التعاطي مع الحياة، ومن ثم فشل في الحفاظ على أسرته في نهاية الأمر ليظل وحيدا في فيتنام؟

يتبيّن لنا مع الاستمرار في القراءة أن السبب الجوهري لهذا الإفساد بالتدليل أن الأم لم تكن تُنجب سوى الإناث، ومن ثم حينما أنجبت الذكر بعد ست إناث تحوّل الابن إلى كنز بالنسبة لها، تحاول الحفاظ عليه من أي شيء قد يمسه: "كانت جدتي تتمزق بين رغبتها في أن تظل الزوجة الوحيدة لجدي، وواجبها الذي يُحتم عليها أن تختار زوجة أخرى له، لكن لحُسن حظها، لم يتزوج جدي بامرأة أخرى، ربما لأنه سار على النظام الفرنسي في الزواج القائم على الزواج من امرأة واحدة فقط، أو ربما لأنه ببساطة عشق هذه المرأة التي كانت معروفة في إقليم "الصين كوتشين" بحُسنها وجمالها الساحر"، ربما نُلاحظ في هذا الاقتباس السابق العادات والتقاليد الفيتنامية التي ترى أن من واجب الزوجة التي لا تُنجب لزوجها الذكور اختيار زوجة جديدة له من أجل إنجاب الذكر.

الاطلاع على هذه العادات المُختلفة، التي تميز ثقافة عن أخرى، تحرص الروائية على الحديث عنها غير مرة على طول روايتها، ولنتأمل: "في الحقيقة، وعلى عكس الثقافة الغربية التي تحث المرء على التعبير عن مشاعره، وعن آرائه بحرية تامة، كان الفيتناميون يحتفظون بمشاعرهم لأنفسهم، ولا يعبرون عنها إلا في أضيق الحدود، وبكثير من التحفظ؛ لأن خصوصية الفرد ليست مشاعا للجميع، أما بقية الموضوعات، بدءا من نتائجنا في الاختبارات المدرسية، مرورا بقيمة المُرتبات، ووصولا إلى عدد ساعات النوم وقصص الحب والغراميات، فكانت مشاعا للجميع"، وهو ما يُدلل على نشأة الفيتناميين على عدم التعبير عن أنفسهم، خلافا للثقافات الغربية، وهو الإحجام عن التعبير عن الذات المُتشابه إلى حد كبير مع ثقافة الشرق الأوسط.

لكن، بما أن لكل ثقافة خصوصيتها المُختلفة فيها عن غيرها من الثقافات؛ فلقد كان من الجوهري حديث الروائية عن خصوصية ثقافتها الفيتنامية، وهو ما يمنح السرد الروائي هنا ثراء معرفيا، ويكسبه المزيد من العمق: "لا أعلم إن كان تطفل الفيتناميين على بعضهم بعضا يعود إلى الطقس الاستوائي الذي كان يثنيهم عن إغلاق النوافذ والأبواب، وعن بناء الجدران، ويدفع جيلين أو ثلاثة أجيال من الأسرة نفسها إلى أن يقيموا جميعا تحت سقف واحد. هذا الطقس كان يجعلنا نقدس الروابط الأسرية، ونقدس سيرة الأسرة التي يتوارثها كل فيتنامي بفخر وامتنان، أو بخزي وأسى. فنجاح الأطفال بالاختبارات المدرسية كان يُنسب تلقائيا لعائلاتهم بأكملها ولأجدادهم. وكل فرد بالعائلة كان يتكاتف مع باقي أفراد أسرته، والأقوى يدعم الأضعف دوما وهكذا. وعلى هذا النحو سارت الأمور، فلم يكن للنجاح الشخصي أي قيمة إن لم يضطلع الفرد بمسؤوليتة تجاه عشيرته. كل فرد كان يشارك الآخرين في دفع ثمن أخطائهم. أتذكر أنه ذات مرة، جاء رجل بصحبة ابنه وابنته، وركع أمام أمي طالبا منها أن تعفو عن زوجته التي سرقتها. جاؤوا ليردوا السلسلتين الذهبيتين المزودتين بجرس، واللتين كانت أمي تعلقهما حول كاحلي حتى تتعقب تحركاتي بالمنزل. أخذت أمي السلسلتين وربطتهما حول كاحل الطفلين اللذين كانا لا يزالا راكعين أمامها. لم أر هذه المُرضعة التي سرقتنا مرة ثانية أبدا، فهي التي اجترت على نفسها وعلى أسرتها هذا العار، وهذه الفعلة المشينة، ودائما ما كانت أمي تردد علينا أننا محظوظون؛ لأننا وُلدنا لأم وأب لا يسرقان، ولا يفجران".

ربما نُلاحظ هنا ثمة تشابه ما بين الثقافتين الفيتنامية والعربية فيما تذهبان إليه، وهو تشابه يتأكد لنا بشكل أوقع حينما نعرف نظرة المُجتمع الفيتنامي إلى سلوك الفتاة قبل زواجها، وضرورة حرصها على عدم التصرف في جسدها من دون زواج رسمي حتى لا تتسبب في العار لأسرتها بالكامل؛ فحينما تعرفت "في" على "تان"- المُهاجر بدوره وأسرته إلى كندا- وانخرطت معه في علاقة عاطفية؛ أثار هذا الفعل غضب أسرته، وأسرتها أيضا، مما أدى إلى الكثير من التوبيخ لها من كلا الجانبين: "أثار غياب "تان" المُتكرر والمُتتالي غضب أهله، وقد استدعياني ذات مرة ولقناني درسا في العادات والتقاليد الفيتنامية، وقالا لي بحسم شديد: كان يجدر بك أن تُشرفي أمك، وأن تكوني على قدر الأمانة التي حملتك إياها، بدلا من إهانتها إلى هذا الحد. كنت آمل في أن يدافع "تان" عني أو عنا، أو عن نفسه حتى، لكنه صدمني عندما أعرب هو الآخر عن قناعته بأن الفتاة الشريفة لا تسلم نفسها لرجل بهذه السهولة أبدا. لكنه بدافع الكسل ربما، أو ربما بدافع التعود والاستسهال، لم يتركني"! أي أنه يراها فتاة غير شريفة لمُجرد أنها انساقت للمشاعر التي تربط بينهما، ووافقت على مُمارسة حبهما معا، ورغم هذه الرؤية باعتبارها غير شريفة إلا أنه فضل الاستمرار معها، ربما لسهولة الحصول عليها من وجهة نظره، وتبعا لثقافته التي يؤمن بها.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

إنها نفس النظرة الثقافية التي تؤمن بها جل المُجتمعات العربية، والتي ترى أنه ليس من حق الأنثى التصرف في جسدها مهما كانت الظروف، وإلا تم اعتبارها عاهرة، غير صالحة لأن تكون زوجة، أو أما؛ فجسد المرأة تبعا للثقافة العربية- والفيتنامية أيضا- ليس ملكا لها بقدر ما هو ملك للأسرة والمُجتمع المُحيط بها! نُلاحظ ذلك مرة أخرى حينما يسافر "تان" إلى ألمانيا ليشهد عن قرب زوال جدار برلين بعد اتحاد الألمانيتين، ويرسل إلى "في" كي تلحقه في ألمانيا، وهو ما تقوم به بالفعل، وهناك، تحاول الاحتفاظ بمجموعة من أحجار جدار برلين- على سبيل الذكرى- وحينما تعود إلى كيبيك مرة أخرى وتعرض هذه الأحجار على أمها تقوم بلومها على شرف العائلة: "عند عودتي "لكيبيك" لم تبتهج أمي من رؤية قوالب الطوب التي انتزعتها من الحائط كتذكار لهذا اليوم، ولا إخوتي أيضا. هذه القوالب كانت بالنسبة لهم دليلا قاطعا على لحاقي "بتان" في برلين، وكانت في نظرهم دليلا إضافيا على عدم اكتراثي بشرف العائلة، وعلى أنني ضربت عرض الحائط بثقافتنا وهويتنا، وبتضحيات أمي ومجهوداتها"!

هذه العادات والتقاليد الثقافية تحاول الروائية غير مرة التأكيد عليها للتعبير عن مدى مُعاناتها منها رغم أنها تعيش في مُجتمع غربي لا يعنيه مثل هذه الطريقة في التفكير، ولا يرى في جسد المرأة ملكية مشاعية له، بل هو ملكية خاصة لها، من حقها التصرف فيه كيفما شاءت، وعليها أن تمنحه لمن تراه يستحق ذلك؛ لذا حينما يبدأ "تان" في التشكك في سلوكياتها، ويصفها هي وزملاءها في العمل بالعديد من الصفات المشينة، ترى أن علاقتهما قد باتت غير صالحة للاستمرار بما أنه ينظر إليها مثل هذه النظرة، ورغم أن أمها قد استسلمت لعلاقتها "بتان" مما دفعها- هي وأسرته أيضا- إلى السعي لخطبتهما كي تكتسب علاقتهما شكلا رسميا، ويحاولا التقليل من أثر العار الذي يريان أنها قد تسببت فيه، إلا أن "في" حينما استشعرت إهانته، ونظرته الدونية لها؛ فضلت الابتعاد عنه، وإنهاء هذا الارتباط الرسمي، وهو ما جعلها تذهب إلى أسرته وحدها لرغبتها في إنهاء العلاقة، فنقرأ: "اعتذرت لهم عن غياب أمي معي، ولكنهم فهموا بالطبع أنني أردت أن أجنب أمي هذه اللحظة القاسية وهذا العار. اختتمت والدة "تان" هذه المُقابلة، وأكدت لي أن كل ما حدث، حدث بسبب تمردي وطيشي، وأنه كان يجدر بي أن أبتعد عن ابنها وألا أرافق سوى أصدقائه. أما هو فقد أغلق الباب خلفي متمتما بأنه عرف مُنذ اللحظة التي سلمته نفسي فيها عندما قبلني لأول مرة في سيارته، أن عقليتي غربية ومُنفتحة أكثر من اللازم. أفسدت سُمعة العائلتين النبيلتين بتصرفاتي الهوجاء، واضطرت أمي لأن تواجه انتقادات السيدات الأخريات وسخافاتهن، وعبارات من قبيل: "كيف سمحتِ لها بأن تُقيم بمُفردها؟"، "لقد أفسدت "ها" أخلاق ابنتك "في""، "أي شاب سيرضى بها بعدما حدث؟"، وعلاوة على كل ذلك أفسدت علاقتي بأمي وحطمت قلبها".

إذن فالمُجتمع الفيتنامي هنا لا يختلف عن المُجتمع العربي في رؤيته للفتاة التي كانت على علاقة بأحد الأشخاص من دون زواج بأنها قد باتت مُستخدمة، ومن ثم فهي لم تعد صالحة لرجل آخر بعدما تم استخدامها، أي أنهم يعملون على تشييئها، وتسليعها، ورؤيتها باعتبارها أداة للاستخدام- تفسد باستخدامها وتفقد صلاحيتها- وليست كائنا بشريا حرا، لها كامل حريتها فيما تقوم به، ولنتأمل نظرة "تان" نفسه لها، فرغم أنه كان مُرتبطا بها- تحت دعوى مشاعره وحبه لها وتعلقه بها- ورغم أنه وافق على خطبتها له، إلا أنه كان ينظر إليها طوال الوقت وكأنها عاهرة، غير صالحة كزوجة، بل صالحة فقط لمتعته ومُمارسة الجنس معها، أي أن هذه المُجتمعات رغم محاولاتها لفعل المُستحيل من أجل ترك مُجتمعاتها، والنأي عنها إلى مُجتمعات أخرى أكثر حرية وانفتاحا وأمانا، إلا أنها حينما تنجح في هجرتها التي خططت لها طويلا؛ تحاول فرض ثقافتها، وعاداتها على المُجتمعات التي تقبلتها، وحاولت حمايتها ومنحها رعايتها، رغم أن العكس هو الذي من المُفترض له أن يحدث، لكن منطق المُهاجرين من هذه المُجتمعات دائما ما يكون منطقا مغلوطا، حتى لكأنهم قد هاجروا إلى المُجتمعات الأخرى من أجل إصلاحها، أو هدايتهم من الضلال الذي يغرقون فيه!

لكن، رغم ذلك لا يفوت الروائية التأمل في فارق الثقافات ونظرتها باتجاه جسد الأنثى حينما تكتب: "لو لم يفارقنا جدي مُبكرا لأقنع أمي بأن توافق على إقامتي بمدينة جامعية بالولايات المُتحدة، حتى وإن كانت آرائي حول حصص الثقافة الجنسية بالمدرسة تفزعها بعض الشيء. في الحقيقة كان أمي قد وقّعت بالموافقة على حضوري لمثل هذه الحصص، لكنها ظلت تُذكرني بقدسية عذرية الفتيات. ولطالما خُيل لي أن هرمونات المُراهقة هي التي كانت تدفعني لقول عبارات من قبيل "الجسد ليس جمادا يا أمي، لا يمكن أن نصفه بالجديد أو المُستهلك، الجسد لا يُستهلك يا أمي"، لكنني مع الوقت أدركت أنني بالتأكيد تأثرت بآراء "ها"، وبمقالة كنت قد قرأتها في مجلة "ريدرز دايجيست" الأمريكية، والتي كانت ترصد الاعتداءات الجسدية التي يتعرض لها سُكان القوارب الفيتناميين أو Boat People".

لا تنسى الروائية كيم توي في خضم أحداث روايتها مُتابعة أسرة أمها كما سبق لها أن تابعت أسرة أبيها، ولعل اهتمامها بمُتابعة أسرة الأم كان من الأهمية بمكان ما لا يمكن لها تجاهله؛ فإذا ما كانت الروائية قد تابعت أسرة الأب للوقوف على كيفية بناء شخصيته المُنسحبة، وما أصابها من اتكالية وعدم مسؤولية، ولبيان مُعاناة الأم معه بعدما تزوجته، فمُتابعة حياة الأم كان له نفس الضرورة الروائية؛ نظرا لأن "في" سلكت في بداية حياتها، وعلاقتها مع الرجال الذين ارتبطت بهم نفس سلوك الأم الذي سبب لها هذه المُعاناة في حياتها، وبما أن الأم لم تكن راغبة لابنتها أن تسلك نفس سلوكها في علاقاتها العاطفية لتجنيبها المرور بنفس مُعاناتها في حياتها؛ فلقد تركت أمر "في" في الكثير من الأحيان لصديقتها "ها"- صديقة الأم- نظرا لانفتاح "ها" على الحياة، ومقدرتها على إكساب الابنة الكثير من الاختلاف، والجرأة، وتحمل المسؤولية في حياتها الشخصية- رغم تمسك الأم بالتقاليد، ولوم الابنة في الكثير من الأحيان على تصرفاتها في حياتها.

لذا تنسج الروائية قصة والدها وتدهور أحوال أسرته المالية بالتداخل مع قصة حياة الأم قبل زواجها، وبيان كيفية معرفتها بالأب، وهو الأمر الذي انتهى بالزواج وبداية المُعاناة: "تدهورت أحوال أسرة "لي فان آن" بشكل ملحوظ من جراء الإصلاحات السياسية، ورغم أنه كان يبدو غير مُبالٍ على الإطلاق، كان أبي في حقيقة الأمر يتخوف من احتمالية تلاشي هذا النعيم الذي ترعرع فيه. كان صوت تصدع القلعة الحصينة التي نشأ فيها ينذره بأنه سيصبح أميرا بلا سُلطة ولا جاه. ودفعه خوفه من فقد كل شيء إلى التفكير في أمي، واقتناص هذه الفرصة السانحة، فلم ينبس إلا بكلمة واحدة "شوان". كلمة واحدة منه كانت كفيلة بانتزاع وعد أبدي منها بأنها ستتولى أمر كل شيء".

إذن، فلقد كان السبب الرئيس لتفكير الأب في الارتباط بالأم هو انهيار مركز أبيه المالي، وإشرافه على الإفلاس، وبما أن الأم كانت عاشقة له في صمت، تتابعه في كل خطواته، وتحاول التقرب منه طوال الوقت لتنال رضاه، راغبة في تحرك مشاعره تجاهها، فلقد كان الأمر سانحا له باستسلام الأم أمامه مع أول كلمة، أو نظرة منه، وهو ما كان بالفعل، وبما أن والدة "في" كانت تُدير أملاك والدها في العقارات؛ فلقد طمئنته- الزوج- بأنه لن يعاني طوال حياته، بل سيظل على نفس المستوى الذي عاش فيه في مُقابل زواجهما، وبقائها معه؛ لذا نقرأ:" مُنذ عامها الأول معه أرست له عرشا جلس عليه كملك مُهيمن على مملكته، وذلك بشرائها لمخزن وفيلا في سايجون. أصبح هو سيدا لهذه النقطة المحورية التي يمر عليها التجار والزبائن، لتقديم طلبياتهم لدى فريق كبير تقوده أمي ويديره أبي. كانت أمي تبلغ العمال أن أبي مشغول بحضور فعاليات مسائية كبيرة؛ لذلك لا يجب إزعاجه خلال النهار، لا سيما خلال فترات غفوته، وخلال ساعات تأمله وتركيزه. ورغم أن الجميع كان يستشير أمي أولا في أي أسئلة أو استفسارات. ظل القرار الأخير لأبي"، أي أن الأم، العاشقة للأب بجنون قد حاولت امتلاكه والسيطرة عليه بالمزيد من التدليل الذي لاقاه من أمه، ومن ثم عملت الزوجة على المزيد من إفساده، وهو ما جعلها تعاني معه فيما بعد بسبب سلوكياته غير المسؤولة، وعدم اعتباره لمشاعرها، وكرامتها: "نال أبي المنزل الواقع على شارع "هاي باترونج" في مدينة سايجون، فكان يلتقي فيه بعشيقاته وأصدقائه. كانوا يجتمعون للعب مُباراة "بينج- بونج" أو للعب القمار، وهم يدخنون التبغ ويلعبون "الألعاب الممنوعة" كما أطلقوا عليها في إشارة منهم إلى أغنية الفيلم الفرنسي الذي يحمل الاسم نفسه Jeux interdits، وكان الشباب الفيتنامي يحفظ أغنية الفيلم عن ظهر قلب، ويحاول أن يغنيها على أنغام الجيتار. وبعد أن تزوج، ظل أبي يستخدم هذا المكان للأغراض نفسها، حاله كحال أغلب معارفه. أما أمي، فلم تطأ قدمها هذا المكان قط، حفظا لماء وجهها، وحفاظا على حياتها. كانت فقط تحرص على تذكير الخادم المُقيم في ذلك البيت بضرورة تحضير أطباق من الفاكهة الطازجة، وتحضير الجمبري الجاف الممزوج بفصوص الثوم البري، بجانب نبيذ الأرز، والخبز الفرنسي، والكعك والفطائر"، أي أن حبها الجم للزوج، وتيهها به، والحرص على تدليله- تماما كما كانت تفعل معه أمه- قد أدى إلى المزيد من إفساده، وعدم احترام الزوجة، أو الاهتمام بكرامتها، ومشاعرها، ومن ثم ظل على علاقاته النسائية المُتعددة بعد الزواج، وهو ما أدى إلى إنجابه من إحداهن خارج مُؤسسة الزواج، ورغم هذا الإنجاب الذي لم يعرف عنه شيئا، حاولت الزوجة التعامل مع الأمر، ولم تخبره: "وفي إحدى الأيام، بينما كنت آخذ قيلولتي في أرجوحة شبكية، استقبلت أمي امرأة شابة معها طفل في عمري نفسه، اسمه "تري". راقبته من بين الشباك، بينما كان يلعب بحبات البلي. تنامت إلى مسامعي أطراف الحديث، وقبل أن أعود للنوم، رأيت أمي تضع في يد هذه الشابة سلسلتها وأسورتها الذهبيتين، وسمعتها تنصحها بأن تعود إلى إقليم "كاماو"، وألا تزعج أبي مُجددا أبدا".

إن الزوجة هنا تحاول طوال الوقت الحفاظ على راحة زوجها، وعدم تعكير صفو حياته، والابتعاد عن أي شيء من المُمكن له أن يزعجه، حتى لو كان مواجهته بخياناته، أو إنجابه من امرأة أخرى- رغم عدم علمه بأمر هذا الإنجاب- لذا فحينما تقرر الأم- بالاتفاق مع صديقتها "ها"- الهروب من الجحيم الفيتنامي لتنجو بحياة ابنيها اللذين قاربا على التجنيد العسكري، ولما لم تجد الزوج المسؤول أو المُهتم بأي شيء؛ تُقرر الفرار مع أبنائها، تاركة إياه ليلاقي مصيره وحده، بل وحاولت في الوقت نفسه إنقاذ ابنه الذي أنجبه خارج إطار الزواج، وطلبت من أمه أخذه معها لإنقاذه من الجحيم الفيتنامي: "اختبأنا عند أخي غير الشقيق "تري"، في انتظار إشارة من المُهرب الذي دبر لنا رحلة فرارنا. أطعمتنا أمه التي كانت ترتدي سلسلة أمي حول عنقها، على مدار يومين قبل رحيلنا. اقترحت عليها أمي أن نصطحب "تري" معنا. وبين الفوضى العارمة، والخوف، والظلام الدامس، والصمت المُطبق، صعد "تري" في زورق مع "ها" التي كانت قد فقدت والديها بين الحشود. هكذا غادرنا فيتنام أخيرا على متن ثلاثة زوارق مُختلفة. وصل زورقنا إلى ماليزيا دون أن نتعرض لأي عواصف ولا أي قرصنة. أما "ها"، و"تري" فلم يحالفهما الحظ نفسه؛ فقد اعترض القراصنة زورقهم أربع مرات، وفي المرة الأخيرة تلقى "تري" ضربة ساطور من رجل أهوج ضربه دون عمد، فقضى عليه. كذبت أمي على أم "تري"، وقالت لها: إن ابنها ضمن المفقودين في عرض البحر، هو وأهل "ها"، ولم يعلم أبي أبدا أنه فقد أحد أولاده".

إن رحلة الهروب من الجحيم الفيتنامي لم تكن بالرحلة الهينة، بل لاقت فيها "في" وأسرتها الكثير من الأهوال التي كادت أن تؤدي إلى موتهم جميعا، وهو ما حرصت الروائية على وصفه ببراعة حينما تتحدث عن إحدى السيدات المُسنات التي كانت من ضمن الفارين: "روت لنا أخيرا أنها رأت ابنها يُذبح أمامها؛ لأنه تجرأ وثار على قرصان كان يغتصب زوجته الحامل، حينها فقدت الأم وعيها أمام هذا المشهد، ولم تعرف ماذا حدث بعد ذلك، لكنها تتذكر أنها استفاقت تحت أكوام من الجثث على صوت أربعة عشر طفلا ناجٍ"، أي أن الفارين الفيتناميين الذين حاولوا الهروب من الجحيم الفيتنامي الداخلي، جابهوا جحيما آخر في البحر حينما حاولوا الفرار إلى أن وصل الناجين منهم إلى مُعسكرات اللاجئين في ماليزيا، وهي المُعسكرات التي تحاول الروائية وصفها والمُقارنة ما بين الحياة فيها، وما بين الحياة في كندا حينما نجحوا في الوصول إليها: "صرت أشبه الدجاج الذي يُربى في أقفاص الخوص على متن القوارب والزوارق الصغيرة، وظللت قابعة في منزلنا الذي كان فسيحا جدا مُقارنة بقطعة الأرض التي كنا نتكدس فيها في مُعسكر اللاجئين، فهناك، كان جسدي يتشكل وفقا لأجساد إخوتي وأمي، فكنت أنام بين أذرعهم، وبين أضلعهم، وأشعر بنتوءات الأرض من تحتي. فكيف لي أن أنعم بين ليلة وضحاها بالنوم على مرتبة ناعمة دون أن يحيطني عرق إخوتي، ودون أن تهدهدني أنفاسهم؟ كيف لي أن أنفصل فجأة عن أمي وعن جسدها؟ كيف لي أن أتبين الطريق دون تلك الأسلاك الشائكة، وهؤلاء الحراس الذين كانوا يرشدوننا؟ كيف لي أن أسير في هذه الطرقات الشاسعة التي تبدو لي بلا نهاية؟"، مما يعني أن الوصول إلى كندا لم يكن بالأمر الهيّن، بل لاقت "في" وعائلتها الكثير من الأهوال حتى استطاعوا الوصول إليها، ومن ثم التوطين فيها، وبدء حياتهم الجديدة هناك.

لكن، هل معنى ما سبق أن "ها" صديقة الأم قد تم فقدها إلى الأبد أثناء رحلة الفرار من الجحيم الفيتنامي؟

صحيح أن "ها" فقدت والديها أثناء الفرار، وصحيح أن الابن غير الشرعي لوالد "في" قد تم قتله في عرض البحر، لكننا سنكتشف بأن "ها" قد تم إنقاذها من مصيرها الدموي: "فبعد أن قضت "ها" بضعة أسابيع في عرض البحر مع بقية اللاجئين على متن زورق مُتعطل، دون مؤونة ولا زاد، تم إنقاذ زورقهم من قبل سفينة شحن دانماركية. وهكذا وصلت "ها" إلى كوبنهاجن مُباشرة دون أن تضطر للمرور على مُعسكرات اللاجئين، ولا أن تلتقي ببقية اللاجئين ثانية، حتى لا تتذكر في أعينهم منظر جسدها الذي اغتُصب مرارا على مرأى ومسمع من الجميع، وبفضل إتقانها للغة الإنجليزية؛ اندمجت "ها" سريعا في المُجتمع الدانماركي، فعملت بالفنادق التي تعرفت فيها على مهنة التدليك العلاجي. بعدما أخذت بعض الدورات التدريبية في هذا التخصص، امتهنت هذه المهنة"، وهو ما يعني أن الصدفة قد لعبت دورها في حياة "ها" التي عانت كثيرا من الاغتصاب المُتكرر في عرض البحر إلى أن وصلت لبر الأمان في الدانمارك، وهناك قابلت "لويس" الذي يعمل في المجال الدبلوماسي، وتزوجته، مما جعلها دائمة التنقل ما بين بلدان العالم؛ ومن ثم تنجح في لقاء "في" وأسرتها مرة أخرى حينما ينتقل الزوج/ لويس للعمل في "أوتاوا" بعد انتهاء عقد عمله في "كوبنهاجن".

إن وصول "ها" إلى كندا كان بمثابة الإنقاذ لحياة "في" من أن تكون صورة أخرى من أمها؛ فالأم في جوهر الأمر غير راغبة في أن تتبع "في" نفس خطاها التي اتبعتها في الحياة حتى لا تعاني، ولا تتألم آلامها التي تسبب فيها الأب، حتى أنها قد ندمت كثيرا على تدليلها السابق لزوجها في: "أنبت أمي نفسها على أنها أنهكت نفسها في العمل، وأنها استنزفت قلبها في الحب. لو ثارت على نزوات زوجها، لو تركت له مساحة ليصبو إليها بدلا من أن تعرض عليه نفسها مرارا، لو بكت أمامه بدلا من أن تبكي في الخفاء، لمنحته فرصة ليقوم بواجبه تجاهها وتجاهنا كما ينبغي لرب الأسرة أن يفعل، لكنها للأسف لم تفعل"، ولكن، بما أن عقلية الأم تكاد أن تكون مُنغلقة إلى حد بعيد، شديدة الصرامة، فهي لن تستطيع توجيه "في" بنفسها، وهو ما جعلها تعهد بالفتاة إلى صديقتها لتعلمها الحياة.

تتضح لنا صرامة الأم، وتقليديتها من خلال مُعاناة "هوا"- الفتاة التي وقعت في عشق ابنها الأكبر "لونج"- معها، فلقد بدت لنا الأم هنا مُسيطرة تماما على الفتاة، راغبة في ترويضها، لعلمها بأنها واقعة في عشق الابن، ولنتأمل: "لم يعرف أحد أن الجندي المجهول الذي كان يقف خلف هذه الوجبات الشهية، هي "هوا" بمجهودها المُضني، وساعات عملها الطويلة، وامتثالها لأوامر أمي. كانت أمي تقوم بتوجيهها في طهي الأرز لحشو الدجاج على مرحلتين، وفي تقطيع مُكعبات السجق الفيتنامي بعدما يتم طهيه، وفي ضبط معيار فطر "الشيتاكي" الذي لا يجب أن تطغى رائحته على باقي المكونات. كانت "هوا" تتحمل تعسف أمي وتجاوزاتها، وعندما كنا نجلس بمُفردنا، كانت تعلمني كيف يُقشر الفول السوداني، الحبة تلو الأخرى، وكيف يُدحرج الكوب فوق حبات السوداني لفرمها دون سحقها تماما".

الروائية الفيتنامية الكندية كيم توي

إذن، فالأم التي لا ترغب لابنتها في الترويض، أو دوران ابنتها في فلك الرجل الذي تحبه؛ حتى لا تعاني نفس مُعاناتها التي مرت بها مع الأب، تفعل عكس ذلك مع "هوا" الواقعة في عشق ابنها، ولعل انسحاق سيكولوجية "هوا" هو ما ساعد الأم على ذلك، وسهل عليها أفعالها معها: "أظن أن شخصية "هوا" المُنسحقة ترجع أيضا لإقامتها في مُعسكر يعج باللاجئين في "هونج كونج"، فالشهيق الذي يأخذه أحدهم كان يطغى على نصيب الآخرين من الهواء، وكاللاجئين كافة، تعلمت "هوا" أن تنزوي في فقاعتها الشخصية، وأن تنعزل وحدها".

لكن، رغم محاولات الأم الدائبة من أجل إبعاد "في" عن نفس سلوكها في عشق أبيها، نلحظ أن "في" اتبعت طريق الأم، وهو ما عاد عليها بالكثير من الآلام، لكنها لم تستسلم كثيرا لآلامها، بل تعدت الأمر، وتعلمت منه الكثير: "تماما كما كانت تلهث أمي وراء أبي، وكما كانت "هوا" مع "لونج"، لهثت أنا وراء "تان"، ووجدت نفسي مُضطرة لأن أحبه في هدوء وصمت. كنت أهيم في عدد المرات التي نطقت فيها شفتاه باسمي على مدار الأسبوع، وكنت أعلق سترته الشتوية فوق المدفأة حتى يجدها دافئة دائما، وكنت أملأ له كوب البيرة حتى يظل مشروبه باردا. اعتدت أن أقدم له بجانب قهوته قطعة من البسكويت الإيطالي، أو الـBiscotti لأذكره بفترة مُراهقته التي قضاها في روما، المدينة التي تغرب فيها والده الفيتنامي للدراسة، ليصبح لاحقا مُهندسا فيتناميا إيطاليا". إنها نفس السلوكيات التي كانت تفعلها الأم مع الأب، ونفس الهيام والعشق اللامحدود، ومحاولة إفساده بالكثير من التدليل، والدوران في فلكه، وكأنها لا وجود لها، وهو ما يؤدي في النهاية إلى صدمة كبيرة حينما تُفاجأ بأن رجلها قد بات غير قادر على تحمل مسؤولية أي شيء، أو الاهتمام بكرامتها على الأقل.

تدرس "في" القانون، وهو ما يجعلها مُهيأة للدوران من حول العالم، وزيارة الكثير من البلدان بعدما تنتهي من دراستها باعتبارها مُمثلة للقانون، وللمُساعدة الإنسانية في أكثر من مكان، لذا تبدأ رحلتها العكسية مرة أخرى إلى فيتنام، لكن رحلتها إلى الصين، وهي الرحلة التي أعدتها لها "ها" حينما انتقلت مع زوجها "لويس" إلى هناك كانت ذات أثر كبير عليها، لا سيما اطلاعها على ثقافة أخرى لم تكن تعرف عنها شيئا، فضلا عن مُلاحظتها للكثير من الصرامة والديكتاتورية التي يعانيها المواطنون هناك- وإن كانوا قد تكيفوا معها- حيث تتحكم الدولة هناك في كل شيء، حتى في مصائر المواطنين: "انضم لنا زوج "آيي" بعدما عاد من رحلته إلى فرنسا، حيث كان يعمل مُترجما فوريا لأحد كبار الموظفين في بعثة تجارية. اعتقدت أنه درس الفرنسية لأنه شغف بها، لكنه صحح لي المعلومة، وقال لي: إنه أحب الفرنسية من كثرة دراسته لها، وإنه كان من أفضل الطلاب الذين اجتازوا اختبار القبول بالجامعة، ولذلك رشحته السُلطات لقسم اللغات، أو لقسم اللغة الفرنسية على وجه الخصوص. اضطر هو وزملاؤه أن يتعلموا الفرنسية، وأن يقولوا "صباح الخير" بالفرنسية رغما عنهم، لم يكن لديهم رفاهية اختيار مهنتهم أو مجال دراستهم؛ لأن السُلطات كانت تفرض عليهم مسارا بعينه. كان يقول: إنه لو امتلك حرية القرار لاختار أن يدرس الهندسة الزراعية التي شغف بها مُنذ زمن طويل، لكنه سُرعان ما تذكر أنه لو درس مجالا آخر لما تمتع بمزايا السفر كما هو الحال الآن، ولما غفا فوق السُحب، ولما تعرف قط على رائحة أشجار الصنوبر بغابات "التايجا"، ولما شاهد توافد النُساك على معبد "شويداجون" بمدينة يانجون للاحتفال بعيد ميلادهم قط. كان يقول دائما: الدولة تعرفك أكثر مما تعرف أنت نفسك، ثم يختتم كلامه بأغنية "لا أندم على شيء" Je ne regrette rien لإديث بياف".

إن بداية الحياة الحقيقية "لفي" لم تكن في كندا، بل كانت في العودة مرة أخرى إلى فيتنام بعدما اكتسبت الكثير من الخبرة في الحياة، وعادت إلى هناك من خلال مشروع دعم طويل الأجل خاص بسياسات الإصلاح السياسي في فيتنام؛ لذا فعودتها إلى فيتنام مرة أخرى تميزت بالكثير من التأمل لما يدور من حولها؛ ومن ثم لاحظت شكل الحياة البائس هناك رغم محاولاتها الانزواء والعزلة عن الجميع هناك: "كنت سعيدة بهذا الانزواء لأنني لم أرغب في رفض تذكرة يانصيب يبيعها لي أحد المبتورين، أو جرحى الحرب للمرة العاشرة، وكنت أرغب في تجنب أحاديث المُغتربين الذين يتذمرون من نوعية بودرة التلك التي تستخدمها عاملات التدليك لاستثارتهم خلال الجلسات، وكنت أريد أن أتفادى رؤية السيارات الفارهة التي يتباهى بها رجال الأعمال المليونيرات أمام أطفال في الخامسة أو السادسة من أعمارهم يلمعون الأحذية على الأرصفة. وكنت أتجنب التردد على أجمل مقاهي هانوي المُطلة على بحيرة "هوان كيم"، أو بحيرة "السيف المُسترد" مُباشرة، حتى لا أسمع أحد العملاء الأجانب يهين نادلا أخطأ، ولم يفرق بين الكابيتشينو والماكياتو، وهو ما  كان يجرحني أنا شخصيا"، وهو ما يعني أن أثر الحرب الأهلية على فيتنام قد حولها إلى مكان مُزدحم بالبؤس، والفقر، والحاجة، فضلا عن العديد من مُصابي الحرب المُعاقين.

إنه أثر الأيديولوجيات وديكتاتورية تطبيقها في العديد من الأوطان؛ مما يؤدي إلى تفريغ هذه الأوطان من مقوماتها الطبيعية، ويحولها إلى خراب؛ فرغبة الشمال في فرض الشيوعية، وإصرار الجنوب على تطبيق النظام الرأسمالي أدى في النهاية إلى هذا الخراب الذي تتأمله "في" من حولها. ورغم أن المواطن العادي لا يد له فيما يدور من حوله، لكنه هو الوحيد الذي يعاني مما يحدث، ولنتأمل: "وددت لو كان بإمكاني أن أتصل بأمي فأعتذر لها عن المرات التي خذلتها فيها، ففي زيارتي الأخيرة لها، كان قلبها ينفطر كلما تفوهت ببعض الكلمات الفيتنامية التي تعلمتها في الشمال حديثا، والتي نطقتها بلهجة أهل الشمال. كان أصدقاؤها يلومونها على تربيتها لفتاة عادت إلى فيتنام الشمالية لتخدم أفكار الشيوعية، وعلى أنني اصطبغت باللون الأحمر ككل شيء في جمهورية فيتنام الديمقراطية، ويدعون أنني خنت ذكرى شهداء الجنوب. كنت أريدها أن تعرف فقط، قبل أن أموت بصعقة رعدية، أنني قابلت أمهات لم يخترن إرسال أبنائهن إلى الجبهة بكامل إرادتهن، ولم يتحيزن إلى أي فصيل سياسي، ولم يطمحن سوى لأن يبقى أولادهن على قيد الحياة معهن، لكنني لم أتصل بها؛ لأنني خشيت أن أثير قلقها وأنا وسط هذا الطوفان الجارف وحدي"، أي أن الأيديولوجيات لا تؤدي في نهاية الأمر سوى إلى الانهيار، الانهيار على كافة الأصعدة، ومنها العلاقات الإنسانية في الأسرة الواحدة، فصحيح أن "في" لم تحاول اتباع النظام الشيوعي، ولم يكن لها أي علاقة به، لكن عملها كان في القسم الشمالي من فيتنام، وهو ما أغضب أمها منها، وجعلها تعتبرها- تماما كجاراتها- خائنة لذكرى شهداء الجنوب!

إن انتقال "في" إلى فيتنام مرة أخرى؛ جعلها تستعيد حياتها، وتكتشف حاجاتها، وتعيد ترتيب أولوياتها، بدأت في التعامل مع الحياة بشكل أكثر حكمة وتأملا، وروّية، وتقديرا لذاتها، ومن ثم ارتبطت هذه المرة "بفينسنت" الدبلوماسي الفرنسي المُحب للحياة، والطبيعة، الذي يحاول الحفاظ على البيئة، والقادر على تقديرها كأنثى وحبيبة، مُحترما إياها، وهو ما جعلها تعقد مُقارنة- بينها وبين ذاتها- بين العلاقة السابقة لها مع "تان" الفيتنامي الذي تعامل معها باعتبارها عاهرة لمُجرد أنها مارست حبها معه، وبين علاقتها المُستقرة الآن التي يتعامل فيها رجلها معها بالكثير من الحب والاحترام والتقدير: "عندما قضمنا أنا و"فينسنت" حبة الكرز التي أحضرها في آن واحد، بقي في فمي الجزء الذي يحتوي على البذرة؛ فأسرع "فينسنت" بوضع إصبعه على فمي، وقبل جبهتني. تعجبت أنه لاحظ أنني قضمت الجزء الذي احتوى على بذرة، لأنني أظن أن أبي لم يلحظ قط أن أمي كانت تنزع له بذور الموز، وبذور شرائح الخيار قبل أن تقدمها له، وأتذكر أن "تان" لم يلحظ ما كنت أقوم به، فكان يظن على الأرجح أن حافظته تجذب مفاتيحه بجانبها بواسطة مغناطيس خفي، وأن أقمصته كانت تُعلق على الشماعات بمُفردها أيضا، ورغم القهوة التي كنت أصبها له بينما كان يغتسل، ورغم أنني كنت أقوم بتلميع أحذيته وأضعها له أمام عتبة المنزل، لم ينتبه سوى لغيوم السماء، لصوت منبه الجيران، أو لزيادة الضرائب، وضريبة المبيعات بالتحديد. إذا قصصت عشرة سنتيميترات من شعري ما كان "تان" ليلحظ ذلك قط، بينما كان "فينسنت" يلاحظ أقل حرق أُصاب به في يدي، وكان قد وشم اسمي "في" على الناحية اليمنى من خصره، مُباشرة فوق حزامه، وقدم لي بعد هذا الوشم هديتي الثالثة: خاتما مُرصعا بحجر ياقوت أزرق مُربع الشكل، مُحاطا بفصوص من الألماس من الاتجاهات الأربعة. هذا الخاتم كان لجدته التي نزعته من إصبعها عشية العيد، وأعطته إياه. كان "فينسنت" قد أراها بعض الصور لي؛ فاختارت أن تمنح هذا الخاتم الذي قدمه لها زوجها الصائغ لحفيدها المُفضل".

علاقة "في" المُتستقرة "بفينسنت" جعلتها أكثر تأملا لما يدور من حولها، لذا نراها تتأمل التقاليد البورمية، وثقافتهم المُختلفة حينما تذهب معه إلى بورما: "أحاطني "فينسنت" بين أحضانه في شرنقة هذه المدينة الهادئة، التي كان كل شيء فيها يتحرك بسرعة عربات البغال البطيئة. وللاحتفال ببداية العام البورمي الجديد، اعتاد الناس مُمارسة طقوس مُعينة تطهرهم من ذنوب العام المُنصرم برش المياه المُعطرة على بعضهم البعض. في "بجان" يغترف الناس بأيديهم من المياه، على عكس "بانكوك" و"رانجون" التي يستخدم فيها الناس خراطيم المياه لسكب المياه على بعضهم بعضا. وللاحتفال، قمنا بشراء ساري من المتاجر، وبعض الأخشاب المطحونة صفراء اللون لتساعدنا على الاحتماء من أشعة الشمس الحارقة. كان الرجال يلطخون وجوههم بهذه البودرة الخشبية بينما كانت تقوم النساء برسم دوائر على وجنتيهن كنوع من أنواع الزينة. رسم لي "فينسنت" العشرات من الرسومات على جسدي، وقمت أنا الأخرى بكتابة العديد من كلمات الحب والغرام على جسده، والتقط لنا مئات الصور الفوتوغرافية ليريها لأطفالنا في المُستقبل".

إذن، فلقد استقرت "في" أخيرا في حياتها، ونجحت في اكتشاف ذاتها، وعملت على ترتيب أولوياتها، واستقرت مرة أخرى في فيتنام التي فرت منها مع عائلتها حينما كانت في الثامنة من عمرها، لكن سعادتها لم تدم كثيرا رغم أنه ظلت مُستقرة إلى حد بعيد على المستويين النفسي والاجتماعي؛ فلقد اختفى "فينسنت" تماما، ولم يعرف أي إنسان- حتى أصدقائه- طريقه، أو ما حدث له، ورغم أنه كان دائم الغياب لفترات بسبب عمله، لكنه سُرعان ما كان يعود مرة أخرى، إلا أنه هذه المرة لم يعد لها أبدا، ولا لبيته في فيتنام، ولا لعمله، وحتى السيدة الفيتنامية العجوز التي كان يعتبرها أمه لم تعد تعرف عنه أي شيء، وظل الجميع في انتظار أي أخبار عنه: "لم تعلم أمه الفيتنامية أي شيء عنه هي الأخرى، كانت مُعتادة على اختفائه وظهوره دون موعد مُحدد، فظلت تعتني بمنزله، وتجمع أوراق الشجر المُتساقطة، وبتلات الزهور التالفة، وكانت تزيل الأتربة من النوافذ ومن المشربيات الخشبية، وتنظف له دراجته، وحرصت على تبديل الفواكة الفاسدة بالفواكة الطازجة، تحسبا لأن يعود في أثناء الليل. طلبت منها ألا تغير الملاءات وأغطية الفراش حتى تظل رائحته فيها، وألا تغسل ملابسه التي كنت أرتديها وأنام بها. كانت تواسيني بتحضير طواجن الأرز باللبن، ومشروب الزنجبيل الساخن. لم يتلق أي أحد أي خبر منه، ولا حتى زملائه في العمل، ولم تمتلك الشركة الأم بلندن أي أرقام أخرى له، غير أرقامه بفيتنام، لأنه كان يقيم في فيتنام مُنذ سبعة أعوام".

لكن، هل معنى اختفاء "فينسنت" الذي يمثل لها الحب الحقيقي، والرجل الذي يحترمها ويقدرها، انهيار عالمها مُجددا؟

هنا اكتشفت "في" ذاتها، وجمال الحياة، وقررت الاستقرار في فيتنام والحياة فيها، ومن ثم تصالحت مع العالم، ومع ذاتها التي باتت مُستقرة كثيرا، وهو ما دفعها إلى محاولة التواصل مع أبيها مرة أخرى: "لم أعرف كيف أطلب من "هانة" أن تعطيني عنوان أبي، لم أعرف كيف لي أن أترك الأغطية والملاءات الملونة التي التحفت بها ببيت "فينسنت"، كيف لي أن أغادر أرجوحته الشبكية التي بدأت تتهالك بالفعل؟ كيف لي أن أترك أقلامه التي جف حبرها، وأن أزيل الناموسية التي اضطررت لترقيع ثقوبها؟ كيف لي أن ألقي ورائي "في" التي اكتشفت نفسها، واكتشفت العالم بعيون "فينسنت"؟ وماذا لو تركت كل شيء خلفي، وغادرت دون أن أتفوه بكلمة، ودون أن أحمل معي أي شيء، سوى الوشاح الأزرق الذي أهداني إياه "فينسنت"؟ قطعت "هانة" لحظات صمتي وترددي، وحسمت الأمور بدلا مني، وقالت لي: والدك بهانوي ينتظرك في الملجأ، سيقيم معنا طيلة الشهر المُقبل. وتابعت "ألين": وسنعتني به حتى يتعافى تماما".

إذن، فلقد بدأت "في" في التصالح أيضا مع الأب- وغفرت له عدم مسؤوليته، وما لاقته أمها منه- وليس مع الحياة فقط- بفضل علاقتها مع "فينسنت" الذي اختفى من دون أسباب واضحة- ورغم أنها كانت تعرف عن وجود الأب، ومُعاناته وحده في فيتنام، إلا أنها أعرضت عن الاتصال به، ولم تُقرر هذا الاتصال إلا بعدما وصلت إلى درجة من الاستقرار النفسي، والمقدرة على التصالح مع العالم، وحب كل ما حولها بفضل "فينسنت" وما عاشته معه: "أحبت "هانة" أبي لدرجة أن الأوصاف التي نقلتها عنه بدت لي بعيدة كل البُعد عن الأوصاف التي أخبرني بها إخوتي وأمي، وكل من عرفه وعاشره. في مُحادثتنا الثانية، اعترفت لي أنها تعرفت عليّ لأن صوري أنا وإخوتي كانت تُزين حوائط غرفة أبي. كانت "ها" قد أرسلت بعض هذه الصور لأبي، والبعض الآخر وصله من أمي. أخفضت "هانة" عينيها حتى تحبس دموعها عندما حاولت إخباري أن أبي حاول الفرار تسع مرات للحاق بنا. لم يقبل أن تدعوه أمي، أو أن يدعوه أخي لتسهيل إجراءات الهجرة عليه، ففضل بغروره أن يدبر سفرته بمُفرده. أراد أن يخوض التجربة بأكملها بنفسه؛ فباع كل ما كان يملك لتمويل سفرته في أول محاولات له، ثم درس اللغة الإنجليزية، وعمل ببعض المطاعم، وقام حتى بترجمة كتاب باسم مُستعار لأحد العملاء الاستراليين، وعلى عكس كل التوقعات، حقق كتابه "تختبئ الطيور قبل أن تحتضر" نجاحا باهرا، وهو ما سمح له بمحاولة الفرار من جديد، لكنه للأسف كان قد فوّت على نفسه بالفعل موجات لاجئي القوارب، وللأسف كان يتم ترحيل اللاجئين كافة إلى فيتنام، حتى الذين نجحوا منهم في الهروب والوصول إلى مُعسكرات اللاجئين"، أي أنها رغم معرفتها من "هانة" بكل ما عاناه أبوها بعد فرارهم، لم تحاول التواصل معه، ولم يشغل تفكيرها- فلم تكن قد وصلت بعد لحالة الصفاء والتصالح مع كل ما حولها- ولم تفكر في لقائه إلا بعدما استقرت سيكولوجيتها تماما، وقررت البقاء في فيتنام.

تُعد رواية "فتاة من فيتنام"، أو "في" تبعا للعنوان الأصلي في لغتها الفرنسية، للروائية الفيتنامية كيم توي من الروايات البانورامية المُهمة التي لا غنى عنها، فهي لا تتابع حياة فتاة، وأسرتها فقط مُنذ فرارهم من فيتنام بسبب الحرب الأهلية، حتى استقرارهم في كندا، بل هي تخوض على طول الرواية في العديد من الثقافات المُختلفة- الشرقية منها والغربية- لنعرف المزيد من العادات، والتقاليد، والثقافات، والاعتقادات التي لم نكن نعرفها عن العديد من الشعوب، فضلا عن اعتماد السرد الروائي هنا شكل الرحلة التي عادت فيها الراوية مرة أخرى في رحلة عكسية إلى وطنها، وقررت الإقامة فيه بعد رحلتها الطويلة التي اكتسبت من خلالها الكثير من الخبرات الحياتية، والمعارف، والاستقرار النفسي، والتصالح مع العالم، فضلا عن اكتسابها لشخصيتها القوية المُستقلة التي ما كانت ستنجح في اكتسابها لو ظلت مع أمها في كندا.

 


محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد ديسمبر 2025م.

 

 



[1] Oligarchy الأوليجارشية، والتي تعني حُكم القلة. هي شكل من أشكال الحُكم تكون فيه السُلطة بيد عدد قليل من الناس. اعضاء هذه المجموعة- الذين يُطلق عليهم اسم الأوليجارشية- يتمتعون، عادة، بقوة مادية، وأحيانا أخرى بقوة ناعمة، من خلال النُبلاء، أو الشهرة، أو الثروة، أو التعليم، أو من خلال سيطرة الشركات أو المُؤسسات الدينية، أو السياسية، أو العسكرية. على مر التاريخ، غالبا ما اعتُبرت هياكل السُلطة التي تُعتبر أوليجارشية قسرية، تعتمد على طاعة الشعب أو قمعه. كان Aristotle أرسطو رائدا في استخدام المُصطلح بمعنى حُكم الأغنياء، مُقارنا إياه بالأرستقراطية، مُجادلا بأن الأوليجارشية كانت فسادا للأرستقراطية.

[2] عنوان الرواية في لغتها الفرنسية الأصلية هو Vi "في"، وإن كانت المُترجمة رأت أن العنوان إذا ما تُرجم كما هو غير مُناسب، أو غير جاذب للقارئ.

[3] Pol Pot بول بوت، من مواليد 19 مايو 1925م، وتوفي في إبريل 1998م، وقد كان سياسيا كمبوديا، وثوريا، وديكتاتورا. حكم دولة كمبوديا الديمقراطية الشيوعية من عام 1975م حتى الإطاحة به عام 1979م. وخلال فترة حُكمه أشرفت إدارته على فظائع جماعية، ويُعتقد أنه أحد أكثر الطغاة وحشية في تاريخ العالم الحديث. كان بوت زعيما للحركة الشيوعية في كمبوديا المعروفة باسم الخمير الحمر من عام 1963م حتى عام 1997م، وقد شغل منصب الأمين العام للحزب الشيوعي في كمبوديا من عام 1963م حتى عام 1981م، وهي الفترة التي تحولت خلالها كمبوديا إلى دولة الحزب الواحد. بين عامي 1975م، و1979م ارتكب الخمير الحمر إبادة جماعية في كمبوديا قُدرت أعداد ضحاياها بين مليون ونصف، ومليوني شخص، أي ما يُقارب من ربع سُكان البلاد قبل الإبادة. في ديسمبر 1978م، غزت فيتنام كمبوديا لإزاحة الخمير الحمر عن السُلطة، وفي غضون أسبوعين احتلت القوات الفيتنامية مُعظم أنحاء البلاد، مُنهية الإبادة الجماعية، ومُشكلة حكومة كمبودية جديدة، مع حصر وجود الخمير الحمر في المناطق الريفية النائية في الجزء الغربي من البلاد.

[4] The Napoleonic Code القانون النابليوني الذي يُعرف رسميا باسم القانون المدني، هو القانون المدني الفرنسي الذي وُضع خلال فترة القنصلية الفرنسية عام 1804م، ولا يزال ساريا في فرنسا رغم تعديله بشكل كبير ومُتكرر مُنذ إنشائه. ورغم أن نابليون نفسه لم يُشارك بشكل مُباشر في صياغة القانون- حيث صاغته لجنة من أربعة فقهاء قانونيين بارزين- إلا أنه ترأس العديد من الجلسات العامة للجنة، وكان دعمه حاسما في إصداره. وقد أثر هذا القانون بشدة على قانون العديد من الدول التي تشكلت أثناء الحروب النابليونية وبعدها. كما أثر قانون نابليون على الدول النامية خارج أوروبا التي حاولت تحديث بلدانها وتحريرها من خلال الإصلاحات القانونية، مثل تلك الموجودة في الشرق الأوسط، بينما في أمريكا اللاتينية أنشأ الإسبان والبرتغاليون نُسخهم الخاصة من القانون المدني.