إذا ما كنا نتفق على أن الرواية هي التاريخ الاجتماعي والسياسي الحقيقي التي نستطيع من خلالها رصد وقائع التاريخ في المجتمعات وتحولاتها، مستعيضين بها في ذلك عن التاريخ الرسمي الذي يُكتب- في الغالب- من وجهة نظر الساسة القابضين على زمام الحكم أينما كُتب؛ فهذا يعطي الرواية قيمة مهمة- تُضاف إلى قيمتها الفنية المكتوبة من أجلها في الأساس- وهي إمكانية اعتماد البحث التاريخي على الأعمال الفنية الروائية باعتبارها مصدرا مهما من مصادر التأريخ؛ ومن هنا تأتي أهمية الرواية سواء كانت تتناول السياسة بشكل مباشر، أم لا؛ فهي حينما تنأى بنفسها عن السياسة وما يدور فيها، نراها تتناول حركة المجتمع وما يدور فيه بصدق- فالروائي في حاجة ماسة إلى نقل المجتمع كما هو-؛ وهو الأمر الذي يؤرخ للمجتمع الذي يعتمد أيضا على التحولات السياسية في تحولاته الاجتماعية وحراكه.
إذن فالتناول الروائي للحركة السياسية من الأهمية بمكان ما يجعل هذه الأعمال الروائية من المراجع المهمة لأي باحث في مجال التاريخ أو الاجتماع، لكن هذا التناول كثيرا ما يوقع الروائي إما في مأزق المباشرة الفجة والصوت العالي الذي يخرجه من الفنية التي يحتاجها العمل الفني؛ فيبدأ في الرصد والتحليل والمناقشة وإبداء الرأي الشخصي- محولا عمله إلى مجال بحثي- بدلا من المجال الفني، وهو ما قد يؤدي إلى الركاكة والتسطيح كما رأينا في رواية الروائي المغربي محمد برادة "بعيدا من الضوضاء، قريبا من السُكات"، أو قد يوقع الروائي في شرك اللغة الغنائية التي يحاول من خلالها الابتعاد عن المباشرة وفجاجتها؛ فيبدأ في تبني لغة فلسفية تتسم بالحكمة التي قد تؤدي به إلى التجرد الكامل والحديث عن أمور عقلية مجردة، وهو ما يسلب النص الروائي روائيته وروحه، ومتعته، ويوقعه في التأمل الطويل وفلسفة الأحداث والأمور تبعا لما يراها؛ الأمر الذي يفقدها حيويتها وتشويقها ويشوبها الكثير من الملل الذي قد يجعل القارئ منصرفا عن إكمالها؛ لتفلسف كاتبها عليه.
إن افتقاد النص الروائي لسلاسته الأسلوبية وميله إلى التفلسف والتجرد من أكثر الأمور التي تُفقد النص حيويته مهما كانت الأحداث مشوقة؛ لأن الميل إلى التفلسف والتأمل الطويل يوقف الحدث الروائي تماما ويؤجله لحين انتهاء الكاتب من محطته التأملية التي يبث من خلالها رأيه هو ككاتب على لسان شخصياته الروائية؛ أي أنه يُحيل النص الروائي في نهاية الأمر إلى مجموعة من المحطات التي يمر عليها القارئ؛ ومن ثم فعليه- مرغما- أن يمر بالمحطات التأملية التي يحلو للكاتب أن يكتبها مبديا آراؤه التي لا علاقة لها بالأسلوبية النصية للسرد الذي هو في حقيقة أمره مجرد حكاية لا بد أن تكون ممتعة كي يستمر القارئ في تتبعها حتى النهاية- ومما لا شك فيه أن الفن في النهاية هو للمتعة مهما حمل داخله مقدرته المعرفية؛ فإذا ما فقد متعته؛ خرج من المجال الفني إلى مجال آخر قد يكون مفيدا لكنه لا علاقة له بالفن-.
هذه التوقفات التأملية، أو ما أطلقنا عليه المحطات المعطلة للسرد تبدو لنا داخل النص الروائي ككتل دهنية زائدة- سواء على مستوى الأفكار، أو مستوى اللغة- تؤدي بالنص إلى الترهل وتشويه شكله الذي لا بد أن يكون انسيابيا؛ نتيجة لرغبة الكاتب العمدية في إتخام المتلقي بتأملاته وتفلسفاته التي لا معنى لها، والتي يرى من خلالها أنها قد تُفيد النص بإضفاء مسحة المعرفية عليه، لكنه، للأسف، لا يعرف ماهية الطريقة التي يبث من خلالها معرفيته؛ فيعطل النص.
الرغبة التأملية الفلسفية المُلحة هي ما نلاحظه في رواية "بأي ذنب رحلت؟" للروائي المغربي محمد المعزوز، ورغم أن الرواية تتناول الحالة السياسية في المغرب وما آلت إليه من فساد حقيقي أدى إلى الإتجار بمصائر المواطنين المغاربة، وتدميرها من أجل الإثراء من ممارسة السياسة الفاسدة، وأثر هذا الفساد على المواطنين لا سيما المناضلين المثقفين منهم الذين استسلموا لليأس الكامل والإحباط والاكتئاب والنزعات الانتحارية إيمانا منهم أنه لا أهمية للحياة التي سادها الفساد في كل شيء. نقول: رغم أن الرواية تناولت هذه الحالة المهمة ورصدتها بذكاء، إلا أن الكاتب بإصراره على نزعته التأملية أفسد السرد كثيرا- رغم وجود الحكاية الصالحة والشيقة-؛ الأمر الذي جعل الرواية يسودها الكثير من الملل والرتابة؛ نتيجة تأملاته، وهو ما أدى بدوره إلى تكدس وتنامي صفحات الرواية التي وصلت إلى 319 صفحة، رغم أنها كان من الممكن اختصارها إلى نصف هذا العدد من الصفحات التي تفاقمت متكاثرة بسبب الوقفات التأملية الكثيرة، وهي الوقفات التي كان من الممكن للقارئ تخطيها وإهمالها من دون قراءة دون أن يؤثر ذلك على الحدث الروائي الذي يتحدث فيه المؤلف.
ربما نلاحظ هذا مثلا في سؤال خالد لجيهان: "هل تعرفينني، أنا الذي اعتقدت أن النسيان قد أكل هويتي وملامحي؟!"، إذا ما توقفنا أمام السؤال السابق؛ لوجدنا أن ثمة تزيدات وتكلسات لغوية لا داعي لها تفضي بالكاتب نحو الغنائية التي لا قيمة سردية لها؛ فالسؤال هو: "هل تعرفينني؟". لو كان الكاتب قد توقف بعد هذا السؤال لكان أفضل كثيرا؛ لا سيما أنه حينما أضاف بقية الجملة إلى السؤال لم يضف لنا كمتلقين للعمل أي شيء؛ لأن معرفة تاريخه النضالي القديم ثم انكساره واعتزاله معروف من خلال السرد؛ وبالتالي تصبح جملة: "أنا الذي اعتقدت أن النسيان قد أكل هويتي وملامحي؟!" زائدة لا قيمة لها، كما أنها من جهة أخرى لا يمكن قبولها واقعيا حينما يقولها أحدهم لصحفية تقابله لأول مرة بهذا الشكل الاستعاري اللغوي البعيد تماما عن المنطقية في الحوار؛ فحتى لو كانت الشخصيات التي يتحدث عنها المعزوز جميعها من نخبة المجتمع من مثقفين وسياسيين، إلا أنهم لا يمكن لهم الحديث بمثل هذا الشكل الاستعاري المجازي الذي يغلب على كل حوارات الرواية وليس لغتها السردية فقط.
هنا يبدو لنا أن الكاتب يستنطق شخصياته بلغة لا يمكن قبولها، ولا يمكن القول إن كونهم شخصيات مثقفة يتيح لهم التحدث بمثل هذه اللغة؛ لأن كونهم مثقفين لا يجعلهم يستعينون بالاستعارات والكنايات والمجازات في حواراتهم؛ أي أن اللغة في نهاية المطاف غير متناسبة مع الشخصيات وهذا يجعلهم شخصيات غير واقعية.
يتضح ذلك من الجملة التالية مباشرة بعد هذا السؤال لجيهان؛ فنقرأ: "أجابته دون أن ترد مباشرة على سؤاله: ما الذي جرى يا خالد؟ أصبحت سماء البلاد مكسوة بالصخر. وكل جوانبها زجاج سميك مُضبب. ضاقت شوارعها الفساح، واختفت سواقيها النديات، عظم فيها الأسفلت والتهب. صمت الماء والشجر والطين والطير، ونطق القبح والحجر. انتحرت الظلال وارتفع الغبش والضباب. اهتزت فوق الرؤوس أفكار تلد الموت، تلهو بخطواتها المرتدة إلى العبث. حتى الإنسان، ذلك الإنسان الذي كنته أنت ورفاقك، قايض ذات آذار دمه وماء وجهه بكأس شامبانيا وطبق حلوى وعلبة سيكار. استبدل بتاريخه حاضرا مزيفا، فحكى.. مزكوما عن الاستقرار، ثم استهوى أن يكون الوزير والسفير، فدمر السير وعطل السفر. انتهى كل شيء! انتهى كل شيء!".
هذا المقطع الغنائي الطويل الذي لجأ إليه الكاتب بعد سؤال خالد لا يمكن أن يكون ردا روائيا يتحلى بالواقعية، بل هو يذكرنا بأسلوب مصطفى لطفي المنفلوطي وغيرهم ممن حاولوا في بداية السرد الروائي العربي ممن غلب على كتاباتهم اتخام اللغة بالمجازات التي لا معنى لها، والتي تؤدي إلى المعنى والهدف الذي يريده الكاتب من أطول طريق ممكن بدلا من الوصول إلى المعنى من الطريق الأقصر الذي بات أكثر بلاغة في لغة السرد الروائية الحديثة، كما أن هذا الأسلوب السردي يجعل القارئ غير قادر على التفاعل مع الشخصيات الروائية باعتبارها شخصيات واقعية، بل ميتافيزيقية، متعالية لا علاقة لها بالواقع، مثالية؛ نتيجة لغتها، كما أن هذا المقطع السردي الطويل أدى إلى تعطيل الحدث السردي ريثما ينتهي الكاتب من وصلته اللغوية الغنائية المتخمة بالبلاغة، وهو ما يُسبب الكثير من الملل للقارئ؛ نتيجة الميل إلى الذهنية والمجردات.
هذه الذهنية والإغراق في التجريد على حساب النص الروائي نلاحظه في: "الماضي وجود من حيث هو ماض، ولكنه عدم من حيث هو حاضر، لأن الأمس ليس هو اليوم. واليوم نفسه تذبذب في الزمن المستمر. الماضي وهم إذاً كما الآتي وهم أيضا. أما الحياة في مجملها، فليست سوى هلوسة يلجم جموحها التكرار أو العادة.. كل شيء يتكرر عبر نفي ظاهري؛ فأقمنا فرقا خاطئا ما بين الأمس واليوم واعتقدنا أننا نتطور. نحن نتسلق جدار دائرة مغلقة، نتربع فوق خطأ الحواس والرؤية. ونحن نظن أننا ننساب مع الزمن، نحيا مع حركة الأشياء دون أن ننتبه إلى أننا ضحايا الشكل، أيتام المعنى القابع وراء أستار السر، يومئ إلينا الطريق دون أن نراه.. ثمة قوة تطاردها تجثم على أنفاسها وترغمها على الخروج إلى المدينة القديمة، تتمشى وتتنفس هواء غير هواء بيتها، شعرت بأن الهواء في وحدتها يتعذب، تغسله العتمة المرتخية فوق كفي الوقت الذي تحياه". نلاحظ هنا أن الروائي يستغرق استغراقا عميقا في التجريد وفلسفة سرده حتى أنه يخرج به من إطار الروائي إلى دائرة الفلسفي التأملي، وهو ما يتعارض مع جماليات الرواية، ويحيلها إلى نص فلسفي- في حين أن القارئ إذا ما كان راغبا في قراءة كتاب للفلسفة لما ذهب إلى رواية المعزوز؛ حيث الرواية في حقيقتها مجرد حكاية لا بد لها من تحقيق المتعة، وليست كتابا فلسفيا كما يميل المعزوز من خلال سرده-.
لعل هذا الاستغراق المتعمد من الكاتب نحو التجريد يُفسد السرد كثيرا ويميل به نحو الإملال، بل ويعطل الحدث الروائي كثيرا لحين انتهاء الروائي من تأملاته التي لا حاجة إليها ولا قيمة لها في الموضوع الروائي اللهم إلى توقيف الحدث؛ لرغبة المؤلف في ذلك: "تذكرت أن الماضي لن يتكرر! ولكنها تذكرت أيضا أن روحه متكررة حاضرة فينا كالتنفس.. إننا نتنفس آباءنا وأجدادنا.. نتنفس أخطاءنا وخيباتنا.. كما قد نتنفس شيئا من نجاحاتنا! أي سبيل لنوقف تنفسنا، لنحصيه ونعدد ذبذباته ودقائقه، حتى نميز بين إيقاعاته ونقبض على الشيء الجميل فيه، عن نجاحاتنا المطورة في ذاكراتنا وخلايانا المركزية. لم تكن تلك النجاحات إلا ذلك الإنسان الذي نما في الشعر والفلسفة؛ أو ذلك الإنسان الذي صعد على سلم التاريخ فبلغ أعلى المراتب هناك، حين عزف وشدا فانحنت الأحداث والنوايا نشوى طروبة".
من خلال الاقتباس السابق هل من الممكن الجزم بأن هذه لغة سردية روائية، أم أنها صالحة أكثر لكتاب فلسفي يتأمل في جوهر الأشياء أو صيرورتها؟ صحيح أن المؤلف يُدرك جيدا أنه يميل إلى التأمل في روايته- لذلك تكثر مفردتي التأمل والتذكر في السرد-، لكنه رغم إدراكه لهذا التأمل فهو لا يدرك أنها مفسدة للسرد والحدث الروائي.
إن خطورة استخدام هذه اللغة التأملية الذهنية المجردة بكثافة داخل النص الروائي يعود إلى أنها تتحول مع الإصرار عليها إلى مجرد ثرثرة لا علاقة لها بالمتن الروائي؛ الأمر الذي يجعل الرواية تبتعد كثيرا عن موضوعها الأساس، وهو ما يدفع القارئ إلى إغلاق الكتاب. نرى ذلك مثلا في سؤال وليد لعبد الله، ثم إجابة عبد الله عليه: "أراد وليد أن يستمتع بحديث عبد الله، فسأله عن أحوال السياسة وأوضاع البلاد المحشوة بالغرائب والدنايا.. عن الأدنياء الذين خدعوا الضوء وأسقطوه من شهقة الفجر. تعمموا تيجان الزمن المنهار وهم يرعون منبسطين جيشا من القطعان. يسحقون، متكبرين، البراعم التي تلهج بالحياة". ربما نلاحظ هنا إصرار الروائي على التزيد في السؤال وكأنه يستمتع بهذه التزيدات والاستعارات والمجازات التي لا داعي لها، لكن إجابة عبد الله كانت تزيدا اقترب بها من الثرثرة التي لا مكان لها من السرد: "ابتسم عبد الله ليسأله بدوره: ماذا يفعل الناس حول رغيف هارب من طعمه ولونه؟ قطعان تائهة تتصبب عرقا، وهي لا ترعى إلا في الظلمة، أو هكذا أُريد لها. أما الضوء بالنسبة إليها هو إذاية لبصرها. لذلك فهي تمتنع عن رؤيته أو الرؤية من خلاله. هي تمتنع أن ترى في الضوء، لأنه لا أفق فيه. السماء نفسها خدعة بصرية تغمغم بالمخاتلة، وفي أعطافها أشلاء المعاني المهجورة أو المهجرّة. أصبحت السياسة فضاء تتمزق فيه أشلاء الحقيقة، تسوّره خناجر غادرة لها شكل الشموع المضيئة، يجذبك الضوء وتهفو لولوج الفضاء. وكلما تقدمت أو انجذبت وراء وهجها الماكر طحنتك الخناجر وتحول الضوء نارا وزمهريرا. علب كثيرة مرصوصة في دولاب يحكمه شيخ لا ينفك عن السعال، هرب من قمقم التاريخ الذي صنعه من جنس أعداء الإنسان، وعنقه يتدلى بالجماجم وأشلاء لها هيئة جواهر خلّب. علب كثيرة تحضن فصائل بشرية، مختلفة أشكالها وأعمارها وأجناسها، تنتظر إشارة النداء لتخرج من علبها كالمومياء المتحركة بمقدار، تلهج بلازمة الوحدة والوطن والحقوق وتنفث عصفا يجعل من كلامها حطبا لإحراق الحقيقة. لا تنفك هذه المومياء أن تركد فوق سجادة الأحداث لتنوّم المدن وتسلك الطرقات الأقرب، لتزدرد اللحم والعظم والحجر. هي لا تملّ من سلخ جلد التاريخ، ولم تعيَ من إسقاط عمادات الشمس وسرقة دمها لتحقن به السيد واهب صورها والنعم والقوة والاستدامة".
ربما حرصنا هنا على سوق المقطع كاملا رغم طوله المبالغ فيه؛ لكنه كان لا بد منه للتدليل على سرد الروائي الحريص على الذهنية والتجرد حيث يميل به إلى السباحة في فراغ هلامي؛ فهذا المقطع من غير المعقول أن يكون إجابة على وليد؛ حيث تغلب عليه الغنائية والتلاعبات اللغوية، والتجريدية الذهنية، والتفلسف؛ الأمر الذي يؤدي إلى توقيف السرد والحدث الروائي تماما؛ لرغبة الكاتب في مثل هذه الاستعراضية حتى ينتهي منها، وهو ما لا يمكن تبريره نقديا أو منطقيا باعتبار أن هذه التوقفات بمثابة محطات لالتقاط الأنفاس مثلا، بل هي محطات حقيقة للانصراف عن الرواية والملل منها؛ نتيجة لأن حديثه تحول إلى مجرد ثرثرة تدور حول الموضوع ولا يمكن لها أن تصب فيه.
ثمة مقاطع سردية نرى أنها كانت أصلح للمقالات التأملية لا للسرد الروائي كقول الكاتب: "الكلمات تأكل ذاتها، تستطيع أن تتحول، توّا، من النقيض إلى النقيض، هي القدرة على نفي العالم أو تأكيده، وتبخيس الإنسان أو إجلاله.. لكن الكلمات الفاقدة لماء الحياة لا تكاد تتوكأ عليها حتى تنكسر، لأن سيقانها واهية كقصب مريض أجوف. الكلمات لا تسكن العالم، بل هو الذي يسكنها لأنها سابقة عنه وهي التي تشكله وتصوغه. هل هذا يعني أن البحث عن الحقيقة ينبغي أن ينطلق بالضرورة من الكلمة وليس من العالم؟ أليست الكلمة أصل الكون؟ العالم لا يكتب اللغة. اللغة هي التي تكتب العالم، تصف الإنسان وتعبر عنه"، أو قوله: "من السهل جدا أن نعيش عبيدا، أن نكون خطأ في ضبط إيقاع وجودنا ونشازنا مع العالم. أن نكون من مستهلكي الإيقاع المفروض أو من متوارثيه بالمصادفة والتكرار أو بالخضوع. ولكن من الصعب جدا أن نعيش أحرارا، لأن الحر لا يستسيغ أبدا أن يكون تابعا. أن يكون مرددا للنشيد الذي لم يشارك في تأليفه. قناعة الحرّ آتية من كونه موجودا بالحرية وليس بالتبعية. الحرية هي الانسجام العادل ما بين الفرد والعالم، هي الموسيقى التي تسد الشقوق وتؤاخي الاختيار بنتائجه، تؤاخي الموت بالحياة".
إن إصرار الكاتب على غنائيته واستعانته باللغة المجازية التي يغلب عليها الاستعارات والكنايات وغير ذلك لم يؤد به إلى تزيدات وترهلات في السرد فقط، بل أدت به إلى تزيدات في المعنى نفسه؛ مما أدى إلى اتخامه من دون أي داع؛ نرى ذلك مثلا في: "أراد أن ينهض، فلم يجد ما يتمسك به إلا قوة إصراره على الوقوف". كان من الأجدى هنا للروائي التوقف بعد كتابته "فلم يجد ما يتمسك به"، لكنه أصر على استكمال الجملة مستعينا بالمجازات التي تؤدي إلى اتخام المعنى وتشبعه تماما؛ مما يؤدي إلى تزيده. كذلك قوله: "سمع طرقا على الباب الخارجي للبيت. فتح الباب ليجد جيهان تطرق ألم اللحظة والحسرة الموجعة"!
ما الداعي هنا لقوله: "تطرق ألم اللحظة والحسرة الموجعة" سوى التزيد في المعنى واتخامه بما لا داعي له؟ كذلك: "سارعت جيهان إلى ضمه بقوة، وقد حزنت كثيرا، وهي تتحسس أوضاع قلبه ترسو على ملامح وجهه المنهار"، وكتابته: "جلست على كرسي قلق في كف اللحظة". إن كل هذه الجمل وغيرها تؤدي إلى ترهلات في معنى الجملة فيزيد المؤلف من تزيدها واتخامها.
من خلال أحداث روائية تهتم بالسياسة في المقام الأول وأثر فسادها على النخبة في المغرب؛ حيث يؤدي بهم هذا الفساد إلى الكثير من الإحباطات واليأس والعلاقات المبتورة والرغبة في الانتحار يدور العالم الروائي لرواية محمد المعزوز؛ فنرى "راحيل" التي تدور الرواية حولها تقريبا، وهي المثقفة الثورية الفنانة التي تمتلك حساسية خاصة تجاه الموسيقى، ونعرف فيما بعد أنها كانت متزوجة من خالد السياسي الثوري الشريف الذي أصابه الكثير من الإحباط نتيجة الفساد السياسي المحيط به؛ الأمر الذي جعله يعتزل كل شيء في النهاية، لكنها انفصلت عن خالد بالطلاق؛ لأنه وضعها بين خيارين: إما أن تتخلى عن لوحتها الأثرية التي تحتفظ بها وتبيعها في مزاد علني من أجل التبرع للفلسطينيين وحركة المقاومة، أو ينفصلا؛ لأنه يرى أنها من خلال امتناعها عن البيع ليست مخلصة للمبادئ الثورية التي جمعتهما مع بعضهما البعض، متناسيا في ذلك أن هذه اللوحة تمثل لديها الحياة؛ حيث أخذتها من مربيتها، وسنعرف فيما بعد أن صاحبة اللوحة الحقيقة هي أمها الفنانة التشكيلية الفرنسية "راشيل" التي رأت أن الحياة لا تحتمل المزيد؛ فانتحرت تاركة طفلتها ومعها هذه اللوحة.
تتعرف جيهان الصحفية الشابة على خالد وتتعلق به عاطفيا لإعجابها بتاريخه الثوري وتحاول إخراجه من حالة اليأس التي يعيش فيها بعد طلاقه من راحيل واعتزاله العمل السياسي الفاسد الذي سيطر عليه أمثال رءوف من الفاسدين سياسيا، الذين يتربحون ويثرون ثراء فاحشا من هذا الفساد في حين يظهرون أمام الناس مصلحين يهتمون بشؤون البلد وإصلاحها- سنعرف فيما بعد أن رءوف كان سببا في تحطيم خالد وما وصل إليه هو وراحيل معا، حيث اعتزلت العزف والموسيقى بدورها وفضلت الحياة في حالة اكتئابية تدفعها كثيرا للتفكير في الانتحار-.
تتعرف راحيل على عبد الله صاحب المخبز الذي يفضل العزلة والحياة وحيدا في حالة شديدة من الحزن، وتتأمل إحدى اللوحات التي يعلقها في مخبزه وتتحدث معه لأوقات طويلة، في حين تشعر تجاهه بشكل من أشكال الحنين، وهو الشعور الذي يبادلها إياه رغم أنه لا يعرف سببه؛ ومن ثم تكون صداقتهما- سنعرف فيما بعد أن عبد الله هو أبوها الذي كان شابا ثوريا مثقفا مهتما بالكتابة الفلسفية وأنه قد اعتزل الحياة بعدما انتحرت زوجته، وفقد ابنته ولم يجدها-. يظهر وليد الشاب العاشق للموسيقى ليتعرف بالمصادفة على راحيل، ثم عبد الله فيما بعد لتشكل راحيل وعبد الله ووليد عالما مقابلا لعالم خالد وجيهان ورءوف.
ترغب جيهان في إعداد موضوع عن المثقفين والمبدعين الذين انتحروا وتجمع الكثير من القصاصات التي كان منها ما يتحدث عن انتحار راشيل، ثم تقرأ مقالا عن ابنة راشيل التي اختفت يوم انتحارها مع سيدة مجهولة، وقصاصة أخرى تتحدث بشعرية ساحرة عن طفلة صغيرة وجدت برفقة أمها المنتحرة، ولم تذكر المقالة اسم الطفلة، لأنها وجدت من دون هوية، وأمام شح المعلومات تقرر زيارة دار الأيتام للمزيد منها، وتأخذ معها خالد الذي يعرف هناك أصل زوجته السابقة راحيل، وأن هذه الفتاة التي ذكرها المقال كانت هي زوجته، بل ويعرف كيف خطفتها إحدى السيدات التي حاولت تربيتها وتبنيها، وحينما تقدم بها العمر أودعتها دار الأيتام ومعها اللوحة التي كانت راحيل تحتفظ بها، ويعرف أن هذه اللوحة قد رسمتها الأم راشيل قبل انتحارها؛ الأمر الذي يجعله يفهم تعلق راحيل باللوحة وعدم رغبتها في التخلي عنها، رغم أنها لا تعرف حقيقة أن أمها هي التي رسمتها.
تحاول راحيل العودة مرة أخرى إلى التأليف الموسيقي بعد انقطاعها عنه لسنوات بسبب يأسها مما يدور حولها سياسيا والاتجار بكل المعاني والمفاهيم الأيديولوجية، ويشجعها في ذلك عبد الله الذي لا تعرف أنه أبوها، وتعلن بالفعل عن حفل جديد لها يحتشد الجميع من أجله؛ لبراعتها في التأليف والعزف الموسيقي. يعرف خالد بالأمر فيذهب للحفل مع جيهان، ويرى عبد الله الذي لا يعرفه في الصفوف الأولى هو ووليد، وبالفعل تقوم راحيل بالعزف الذي يهز الجميع لكنها حينما تنتهي من معزوفتها يسقط رأسها على البيانو لتفقد حياتها؛ ومن ثم تنتهي الرواية.
ربما كان المحرك الأساس للرواية هو الفساد السياسي وتجلياته على حياة أشخاصها جميعا من انكسار وفقدانهم للأمل في أي شكل من أشكال الإصلاح؛ نتيجة تفشي هذا الفساد من قبل الجميع، وربما كانت الرواية من خلال أحداثها وقصتها تقترب من القالب البوليسي المشوق؛ وهو ما يجعل القارئ راغبا في معرفة قصة راحيل وكيف عاشت حياتها بعدما انتحرت أمها، وكيف سيخبرها خالد بحقيقة أصلها حينما عرف، وكيف سيتعرف على عبد الله الذي صادق راحيل رغم أنه أبوها الذي لا تعرفه ولا يعرفها، وأثر هذه المعرفة على كليهما وغير ذلك، لكن المُلاحظ أن الروائي قد اعتمد في بناء روايته على الكثير من المصادفات الملفقة غير المنطقية أو المُبررة، أي أنه لكي يصل الخيوط والعوالم المتوازية ببعضها البعض كان لا بد من المصادفات الدائمة؛ كي تتشابك هذه العوالم وتمثل عالما واحدا يستطيع من خلاله الروائي زج الرواية إلى نهايتها التي رسمها لها غير مهتم في ذلك بمنطقية الأحداث، بل اعتمد على القدر الذي يرتب هذه المصادفات، وهو القدر الذي نستطيع رده في حقيقة الأمر للمؤلف نفسه الذي يحرك الحدث كيفما يحلو له.
هذه المصادفات التلفيقية البحتة هي ما جعلت راحيل تقابل عبد الله/ الخباز أبيها الذي لا تعرفه؛ ومن ثم تُفضل شراء خبزها من عنده؛ لترى اللوحة المعلقة على جدار مخبزه، وهي اللوحة التي رسمتها أمها راشيل، وحينما رأتها راحيل تعلقت بها كثيرا وجعلتها تطرح على عبد الله الكثير من التساؤلات حول صاحب اللوحة؛ ومن ثم كانت هذه اللوحة سببا في الذهاب إلى المخبز كثيرا، وبداية صداقتها مع عبد الله الذي تعلق بها ورأى فيها شيئا غير قليل من روح زوجته الراحلة راشيل. صحيح أننا نستطيع تجاوز هذه المصادفة واعتبارها محض مصادفة لم يتعمدها المؤلف بشكل ملفق كي يجمع الفتاة مع أبيها في عالم واحد، ولكن كثرة المصادفات التي تكررت فيما بعد يجعلنا لا يمكننا التغاضي عنها؛ لأن تكرار المصادفات التي تفتقد للمنطقية يُدلل لنا في النهاية على أن جميع مصادفات الرواية قد تم تلفيقها بإصرار من المؤلف؛ ليستطيع في النهاية جمع العوالم المتناثرة ويقدم لنا الرواية كما أعد لها قبل الكتابة، وهنا يبدو لنا أن هذه الرواية رسمها الروائي بشكل من الترصد والعمدية قبل الإقبال على كتابتها؛ نتيجة لأن هذه المصادفات المتعمدة تفتقد في حقيقة أمرها للتلقائية الطبيعية وعدم التكلف.
إن بناء الحدث الروائي على المصادفات المتعددة والمتكررة؛ يُفقد هذه المصادفات تلقائيتها؛ لا سيما إذا كانت هذه المصادفات هي التي تعمل على تحريك السرد للأمام- أي أنه لولاها لما تحرك الحدث السردي، ولتوقف تماما-. نرى ذلك في مصادفة لقاء راحيل بالشاب العازف المُحب للموسيقى "وليد": "اندفعت إلى الشارع تسير في أي اتجاه، تحمل رغبة في المشي الطويل أو السفر الممتد، في اللامنتهى. شُبه لها أن لكل اتجاه حنجرة يصعد فيها صوت الدليل الذي يروّح على الروح المرهقة.. وبينما هي تعبر ممرات المدينة القديمة، استرعى شاب في مقتبل العمر انتباهها، يتعقب خطواتها وهو يتردد في الحديث إليها. أدارات رأسها في اتجاهه، لتسأله عن سبب ملاحقتها. وجدته ينظر إليها، يتوقد بكل علامات التطلع والطموح. وبنبرة جريئة ناداها باسمها. اكتشفت بسرعة بأنه لطيف ومهذب، وطلبت إليه أن يقترب منها، لتستفسره وتتعرف عليه. ولما دنا منها مد لها يده اليمنى، وهو يخبرها بأنه يعرف تاريخها وهويتها، وكان يأمل في لقائها والإنصات إليها". إن هذه المصادفة على سبيل المثال لا يمكن قبولها بسهولة؛ فهل كان وليد الذي لا تعرفه في انتظار خروجها للتسكع في الشوارع كي يلتقيها؟ إذا ما تغاضينا عن مصادفة لقائها بأبيها ليدخل عالمها، بالتأكيد لا يمكن لنا التغاضي عن مصادفة لقائها بوليد- الشاب العاشق للعزف الموسيقي- كي يدخل بدوره إلى عالمها أيضا، ثم يقوم فيما بعد بتشجيعها للعودة إلى العزف مرة أخرى- أي أن محركات الحدث الروائي كلها تم الزج بها زجا من قبيل المؤلف؛ كي يتحرك، لكنه لم يكن ماهرا في إدخال هذه المحركات إلى العالم السردي-.
كما أن المؤلف يُدرك إدراكا حقيقيا بأنه إنما يدفع السرد للأمام باعتماده على المصادفات غير التلقائية؛ يبدو ذلك واضحا من: "قالت لوليد بأن لقاءها به عن طريق المصادفة، وهو عازف على البيانو، تعتبره فألا حسنا هذا الصباح. سينير أمامها دربا من الدروب المعتمة. تمنّت لو كانت هذه اللحظة نظيرة لما حدث للفنانة الإيطالية "أنجليكا كتلاني" لما أهدت بفارسوفيا ساعة ذهبية لشوبان، وهي مذهولة بألحانه". إذن فالكاتب هنا مُدرك لما يفعله، ويُدرك أن ثمة مصادفات لا يمكن إنكارها أو التخفي منها داخل سرده الروائي، ولكن سواء كان الكاتب هنا معترفا بلامنطقية هذه المصادفات وتلفيقيتها، أو غير معترف؛ فهي بالفعل موجودة وتُفقد السرد منطقيته التي انبنى عليها منذ البداية.
المصادفات غير المنطقية نراها أيضا كمصادفة ثنائية جديدة في لقاء وليد وعبد الله بعبد العزيز الوجدي المثقف المناضل الذي تحول به الحال إلى مجرد متسول في الشوارع. نلاحظ هذه المصادفة في: "في وسط الطريق، صادف امرأة تسير حافية، تُحيي متسولا يعزف على رباب قديم. سألته لماذا يُصرّ على العزف والناس بين غدوّ وروح غير مكترثين. اقتربت منه متمايلة لتخبره بأن إصراره هذا يغضب السماء، ولا يجعلها تهب رذاذا ولا مطرا"، لاحظ هنا في المقطع السابق مفردة "صادف امرأة"، وهو ما يدل على إدراك المؤلف لما يفعله. ثم نقرأ: "اقترب منه عبد الله حين التقط من جيبه بعض الدريهمات ليضعها في يد المتسول. وفيما هو يقوم بذلك، شعر بأن يد المتسول تسيل بحكايات مليئة بالعجب والغرابة، وكأنها تكلمه وتنغرس في قلبه". من خلال هذين الاقتباسين السابقين سنلاحظ تمهيد المؤلف لمصادفة لقاء عبد الله بهذا المتسول الذي سنعرف فيما بعد أنه عبد العزيز الوجدي المثقف وصديق عبد الله السابق.
لكن مع الاستمرار في السرد نُفاجأ بأن المصادفة هذه المرة مصادفة ثنائية حينما يدخل وليد إلى السرد بالمصادفة التلفيقية أيضا: "فيما كان عبد الله يبحر في هذه الأسئلة، متأملا، كان المتسول قد انزلقت رجله فوق قشرة موز، فسقط على ظهره من فوق الأرض متأذيا صارخا. تحلق من حوله بعض الناس، وكان من بينهم وليد، عن طريق المصادفة. كثر الهرج والمرج، فاستقر رأي الملأ على استدعاء سيارة الإسعاف وإنقاله إلى قسم المستعجلات. في هذه الأثناء تعرف وليد على الرجل. فنسى الحضور والوقت. انجذب إلى صورة الماضي التي كان عليها هذا الرجل. نطّت إلى ذاكرته لكنته الجميلة، وهو يتحدث باللغة الفرنسية. لقد قضى سنوات طويلة بمارسيليا بحارا ينافس الموج وكؤوس النبيذ وكل حركات الرقص وألوان الغناء. ترك وليد لعينيه أن تسبحا في كل جزء من هيئة هذا الرجل، وقد تذكر أنه كان يحمل اسم عبد العزيز، وكان يُلقب بزوربا الإغريقي. تعرّف عليه لما كان طفلا، وكانت المناسبة استضافته من طرف المعهد الموسيقي، ليلقن في بضعة أيام دروسا في الإنشاد والعزف على الكمان. لم ينس وليد لحد الساعة كيف كان الرجل يفسر علاقته بعلم الجمال وبالفلسفة، كأنه يسمعه اللحظة وهو يكرر: كل شبر في هذا العالم إيقاع، كل لحظة فيه نغم منظم. قبل أن يولد العالم كان ميتا، ومع ذلك وُلد ليتكرر. مفارقة عجيبة!".
إذن فنحن هنا أمام مصادفة ساقها المؤلف بعمدية؛ كي يقابل وليد عبد العزيز المناضل الفنان الذي انتهى به نضاله إلى التسول في الشوارع بسبب الفساد السياسي، وهي نفس المصادفة التي سيتعرف من خلالها عبد الله على عبد العزيز الذي كان صديق طفولته فيما مضى!
مع الاستمرار في قراءة الحدث نقرأ: "تفطن عبد الله إلى وليد وهو
يُقبّل جبين عبد العزيز منهارا منتحبا. فسأله إن كان من معارفه. وعندما كان يوجه
إليه الكلام نادى عبد العزيز وليدا، وهو في حالة تشبه من يحتضر، ناداه مرهقا
وبصعوبة تامة، طالبا أن يضمه إليه ويودعه بكلمة أخيرة". إذن فلقد أتت هذه
المصادفة أكلها مع وليد، لكنها لم تفعل نفس الفعل مع عبد الله بعد، وهذا ما سنراه
مع الاستمرار في السرد حينما يسأله عبد الله عن هذا المتسول فيخبره: "أخبر
عبد الله وليدا بأنه لا يعرف شيئا عن هذا الرجل، التقى به مرتين أو ثلاثا، وهو
يردد الأغنية ذاتها التي كانت تحفر فيه عميقا، ولما كشف وليد هوية الرجل لعبد
الله، انتابت الأخير حالة ذهول فاضحة، انتهت به إلى كثير من التوتر والندم
المسهّد. كرر في نفسه منفعلا أنه لا يجوز له ألا يتبين أن الرجل هو عبد العزيز
ذاته، رفيقه في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وقد اقتسم معه الأفكار والأشعار
والأحلام.. قرأ له ما كتبه في الفلسفة والموسيقى، وكان شغوفا بما يبدعه من طروحات
وإشكاليات. لكنه لم يجد له حرفا يذكر منذ أزيد من ثلاثين سنة. لم يستطع عبد الله
أن يهدئ من روعه، أن يصدق انقلاب حياة عبد العزيز هكذا دفعة واحدة، أن يصبح متسولا
معدوما، شريدا في شوارع المدينة يتجرع مرارة سره وحيدا".الروائي المغربي محمد المعزوز
حينما يقرر عبد الله برفقة وليد التوجه إلى قسم المستعجلات بالمستشفى ليكونا برفقة عبد العزيز تقع مصادفة جديدة وممجوجة ولا يمكن تقبلها مُطلقا وكأنما الروائي هنا لا يمكنه الانتباه إلى أن ما يفعله من مصادفات متتالية لا تؤدي به إلا إلى إفساد الحدث الروائي وانتباه القارئ إلى التلفيق الذي يحدث في الحدث. هذا ما نقرأه في: "في الزق الملتوي يسارا، تعالى صوت جنائزي متهدج لامرأة تقرب من الستين. ظهرت وهي تجر وراءها كل خرائط الفجيعة المطرزة بالنحيب والبكاء الحارق. كلما ازدادت إيغالا في الشارع الكبير، ازداد تبين عبد الله لصوتها الذي بدأ يتململ من عمق الذاكرة ولهيئتها التي تركت في وعيه المنسي بقايا ملامح محفورة. هي النبرة الصوتية نفسها بقيت مرشومة في ذاكرته، وهو يسترجع هدير الأصوات المتظاهرة للطلبة في الزمن الذي ولّى. كأن أصوات الماضي وهيئات ناسه تتشطح أمامه، تؤلف واقعا حقيقيا للزمن الذي فات، أو مصيرا بثوب الحداد للذين اختاروا ذمّ العالم وغموض الطريق. كيف تسأل عن هذه العلاقات من داخل الوجدان. أيها الحاضر، يا وائد الاستمرار؟ لما اقتربت منه تبين هويتها، تسمّر في موقعه ولم يقو على الكلام. فوّض أمره إلى سلطة اللحظة، وتخيل نفسه يستجمع دموع الكون ويسكبها في شرايين العالم الذي جفّ قلبه. نطق بصعوبة وكأن فمه مقفل: رحمة؟ استذكر توا أنها عشيقة عبد العزيز الوجدي لما كانا طالبين في كلية الآداب. كانا يغردان بتناغم على غصن واحد. كانت تجدل بحبه ضفائر ذهبية تلقيها على كتفيها، تخطو كغزالة برية، وهي تجرّب أن تكون الصوت الرافض"!
هل من الممكن تقبل مثل هذه المصادفات المتتالية التي لا منطقية لها؟ بالتأكيد لا؛ لأن الحدث الروائي هكذا بدا غير طبيعي وافتقد تلقائيته ومال به المؤلف إلى العمدية في تناميه وحركته بشكل يجعل كل من يقرأه يجزم بتلفيقيته العمدية.
هذا ما نراه أيضا- ولكن بشكل صارخ فج- حينما يهيم عبد الله على وجهه مفكرا في إنهاء حياته بالانتحار، بينما يرغب رغبة قصوى في لقاء راحيل التي لا يعرف لها سبيل ولا يعرف طريق بيتها؛ فهي مجرد زبونة من زبائنه التي تأتي لابتياع الخبز والنقاش معه طويلا حول اللوحة المعلقة في مخبزه. نقول: إنه حينما يهيم على وجهه نقرأ: "بينما هو هائم على وجهه يقرأ سيرة العابرين، انجذب بصره إلى امرأة مجدولة الشعر تعانق شباكا لشقة عالقة في الطابق الثاني بإحدى العمارات المحاذية لزق متفرع عن الشارع الرسمي. خفق قلبه لرؤيتها، وكأن حنينا دفينا بدأ يهدر في أحشائه. لوّح بيده الواهنة في اتجاهها. وبعد محاولات متكررة، انتبهت إليه، وقد فرّت من دواخلها ابتسامة عريضة ارتسمت على شفتيها متباطئة. انتابتها رغبة جارفة في الاندفاع إليه. لم تشعر إلا وهي تناديه بصوت متهالك من خلف الشباك، قاومت وهنها وهي تنزل إليه مهرولة". بالتأكيد حينما نقرأ هذه المصادفة التي جمعته براحيل وجعلته يعرف أين تقطن بعد المصادفات الكثيرة السابقة ستجعل القارئ غير راغب في إكمال القراءة؛ لأنه سيدرك أن الروائي هنا يستخف به وبعقله لفرط اعتماده على المصادفات التي ظن أن القارئ لن ينتبه إليها، كما أن تكرار المصادفات بمثل هذا الشكل والاعتماد الجوهري عليها في دفع السرد إلى الأمام؛ يفقد الرواية فنيتها وتلقائيتها باتجاه القصدية والعمدية والافتعال وغير ذلك من الأمور التي لا علاقة لها بفن السرد الروائي ولا يمكن الاعتماد عليها في الكتابة.
لا يمكن إنكار أن الفساد السياسي وتراكماته على النخبة المغربية من مثقفين ومناضلين وثوريين هو السبب الرئيس الذي دفع الروائي محمد المعزوز إلى كتابة روايته التي كانت السياسة هي متنها الفاعل الحقيقي والمُحرك للحدث. إنه الفعل السياسي الذي جعل جميع شخصياتها في حالة من الاكتئاب والهوان واليأس والانهزامية ومحاولة الهروب من الحياة والانعزالية، أو التفكير الجدي في الانتحار، نرى ذلك في قول عبد الله لرحمة حينما قابلها بالصدفة البحتة: "لقد فرّ حلمنا الهادر من ضفتيه، فأكل بعضه بعضا. ضيّعنا العمر في ترصد الأوهام. أجابته منهارة: لم يكن عبد العزيز يوما، قبل مرضه، يعيش الوهم أو الخرافة! أقنعني يا شريكنا في الماضي بأن الأمر غير كذلك!؟". إن الاقتباس السابق يؤكد من خلال الشخصيات الروائية أن الحلم بالتغيير وممارسة السياسة من أجل الصالح العام قد تحول مفهومه لديهم إلى مجرد أوهام أقنعوا أنفسهم بها وساروا خلفها غير مدركين للوهم الذي آمنوا به إلا بعد انكسارهم أمام الفساد السائد والذي كان أقوى منهم في التغيير نحو ما هو أسوأ.
هذا الفساد والكبت السياسي اللذين يُمارسان على الجميع قد ترك بأثره في نهاية الأمر عليهم بالقضاء على حيواتهم في النهاية: "تدافعت بعض الكلمات المختنقة في فمها وأنها تود أن تكشف سرا.. أو أن تدين عالما أدار ظهره لها. رددت أن زوجها قد ألقم البلاد لحمه وقلبه، فسكن السجن الذي نحت في زنازنه توائم الإنسان والحرية. اقتلعوا أظافره وأطفأوا أضواءه، ثم ألقوا به إلى هذه المدينة القاسية شبه إنسان، يذوب في شوارعها يغني لأشباح تطوف على أرض، وهي تطبق أجفانها، يلتمس منها، كاسرا حاسرا، خبزا وجرعة هواء.. انزوى عبد الله قليلا، والألم ينخر كل أطرافه، متأملا رحمة وهي ترقعها المأساة والفقر، تتعثر في طيّ حاضر نتن، يجرّ وراءه عربات من أشباح الماضي وأهواله".
هذه الممارسات أدت إلى هزيمة نفسية حقيقية رأيناها لدى معظم الشخصيات الروائية، بل باع الكثيرون غيرهم كرامتهم واستسلموا للواقع الفاسد راغبين في المكاسب فقط حتى لو كان على حساب كرامتهم: "كل سلالم الرغبة نحو التغير قد تحطمت، وقد اختار الناس أن يكونوا كالعابرين مكتفين بالتقاط ما يشبه الفتات فقط. هم يتحدثون عن الطمأنينة، عن الحرية التي وهبت لهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التنبه إلى جلده المسلوخ. اتفقوا على أن يحترفوا العمى، أن يصوبوا كل الخراب نحو صدر الكرامة، أن يكونوا قبضة السيف الذي يقطع عنقها ويبتر أعضاءها. هم لا يجرؤون أن يسألوا عن الذي تهيأ لأنسابهم وأبنائهم، لا يأبهون بالذين يستبدلون الدم في عروقهم بماء الواد الحار. هم هكذا، يهرولون في كل الطرق والأزقة باحثين عن المنافذ القذرة وأنفاق الفئران يرددون الأغاني الوطنية ولازمة الطمأنينة والاستقرار. لو تيسر لهؤلاء أن يبيعوا قلوبهم وأطرافهم مقابل مرافقة السيد في نزهة صيد فقط، لصرخوا طوابير: نبيع القلوب والأطراف والكرامة لنكون الرغبة أو ظلها". أي أن الهزيمة النفسية قد باتت على كل المستويات، وهي الهزيمة التي أدت إلى الشعور باللامبالاة التامة، بل والانقلاب إلى محاولة مداهنة الحاكم من أجل الاستمرار في حياة آمنة لا معنى لها في حقيقة الأمر.
إن هذه الهزيمة النفسية واللامبالاة قد أديا إلى اليأس من الفعل السياسي في مقابل تغوّل القمع والنصب باسم السياسة: "صور إشهارية مرتعبة تحفر في جدران المدينة طريقين؛ طريق ملتبس لا تنقشع فيه غير أنياب ماكرة، وطريق مهجور له شكل حقل تيبست زنابقه، ولم يبق منها ما هو حي إلا حبات قليلة. الطريق الأول مدجج بصور تحاكي الحطام، ويعتقد أصحابها أن ألوانها فاقعة تسرّ الناظرين. صور مبتسمة تلد من فمها الخراب. تعلن عن بداية الموسم الانتخابي الجديد ومراسيم التكالب على القفز إلى مقاعد البرلمان. والطريق الثاني منكفئ في هدأة المستسلم الذي جرب أساليب الإنذار. قفزت منه التربة وتجمدت في كتفيه سواقيه الولود.. فغادر الأرض والدار. ملّ أصحاب هذا الطريق الزرع والحرث وإضاعة العمر، لأنه لم يفض إلى أي حصاد. لذلك، ترى الطريق الأول يتضخم، يلتهم الأرض وهذا الطريق وذاك".
إن هذا اليأس من أي فعل سياسي يركز عليه الروائي غير مرة؛ ليؤكد على تمكن الهزيمة الكاملة في نفوس الجميع: "صديد يعتصر الوعي والتاريخ، وشواء من لحم البشر المنضدة كالجثث، يشكل من موسم الانتخابات خريطة من دخان لوطن لا تعمّره غير الأسماء. هناك أسماء وأسماء.. هذه الأسماء التي يترأسها رءوف برأسه المنتفخ وشدقيه المنتفختين، هي شبه أسماء أو ظل لأسماء تأتي في مراتب متأخرة من بين نسخ الأسماء، تلتصق بالمجتمع كالمرض الصامت الذي يأتيه الموت ببطء خفيت. كل شيء في هذه الانتخابات يحاصر تمرد الأفق. يصنع من نوايا الناس تاجا تتوج به رأس الأسماء الأصلية. تترك بعض البقايا للنسخ الشبيهة. هكذا كل اسم حسب نوعية الشبه الذي يحمله والرتبة التي يحتلها ودرجة الولاء. طقس انتخابي يظهر فيه رءوف كالموجة الملوثة التي تضرب في كل الاتجاهات".
بالتأكيد هذه الهزيمة لا بد أن تؤدي بالجميع إلى الاستسلام التام وانطفاء جذوة الثورية والمقاومة والرغبة في التغيير إلى الأفضل؛ مما يحيل الحياة السياسية في النهاية إلى كابوس لا يمكن احتماله: "يبدو كل شخص كأنه حالة غرائبية تحتاج إلى جرعة فساد، لكي تشعر بأنها كائن كامل المواطنة. هل رأيت شعبا بكل أطيافه يصرخ ضد الفساد، وهو يتنفسه بملء رئتيه كأنه الهواء الذي ينعشه ويحييه؟! ليس هذا الشعب بالرجل الذي يلقم معناه بلحمه وشحمه. قد تكون فيه استثناءات كاللؤلؤ المكنون، الذي حُجب بريقه أو أطفئ وجهه. ولكنها دُرر فريدة جدا جدا، تشبه الندرة النادرة! اعتاد هذا الشعب على وجود السيد الذي يظلمه، والذي يضع له خرائط حياته وموته، يهتف باسمه كل فجر وصباح، يراه سابحا في الهواء، يسبّح بحمده ككوكبة خلاص نورانيّ، ينتشي به في الواقع والخيال، هو لا يريد أن يكون حرا ولا أن يكون له وعي شقي، ولا أن يكون ثائرا إلى حد التضحية بالنفس. هو يحسن الغضب والضجيج لا غير، يبرع في الصراخ والعويل، ولكنه لا يقرب مشارف الحرية أو يطأ أعتابها، لأن الاقتراب يعني سداد فاتورة ثقيلة، لذلك فهو دوما بخيل.. بخيل حتى العظم!".
يحاول الروائي محمد المعزوز إعطاء صورة بانورامية للممارسات السياسية في المغرب من خلال أحداث روايته وشخصياتها المنهزمة على المستوى النفسي؛ فيؤكد لنا أن الساسة هناك لا يرغبون من ممارساتهم سوى التربح والإثراء الفاحش من الفعل السياسي بخديعة الجميع باعتبار أنهم إنما يعملون من أجل الصالح العام وصالح الوطن، في حين أنهم لا يعملون إلا من أجل مصلحتهم الشخصية في النهاية: "غابت مبحرة في الماضي، وهي تستعيد صورة رءوف يحط يده فوق كتفها، يلحّ على مجاملتها في أن تتقدمه بدخول أوطيل هيلتون وهو وراءها، لم تستطب رائحة العطر التي ضمخ بها وجهه وثيابه. لم تستحسن ألوان لباسه وشكلها، ماعدا حذاء مصنوعا من جلد التماسيح، وقد بدا على رجليه نشازا، حتى أن سيوره امتنع عن الربط تمردا على رجليه الغليظتين، تدلي بطنه فوق ركبتيه. جلس أمامها، منتشيا بطلب جعة من النادل، وهو يشعل سيجارة فارهة بزهو مبالغ فيه. استغربت إلى حد الدهشة، حين رأت معصمه تسوّره سلسلة ذهبية، يلوّح بيده في كل الاتجاهات استعراضا لشيء يعتقد أنه يميّزه عن الآخرين. تعمّق ذهولها لما قارنت بين هيئته في مقر الحزب والتجمعات، يخطب في الناس ويلهب حماستهم باسم الطبقة العاملة، وبين هيئته الآن، وهو يرافقها في مكان غير المكان، في وضع يشبه الاختلاء". مع تأمل هذا الاقتباس يتبين لنا كيفية متاجرة الساسة بالسياسة وأحلام البسطاء من العمال والفلاحين، وغيرهم ممن لا يجدون الفتات التي تعينهم على البقاء أحياء في كرامة، بينما نرى البذخ والثراء المبالغ فيه الذي يحيا فيه الساسة المتاجرين بكل شيء من أجل المزيد من الثراء والإفساد للحياة السياسية.
هذه المتاجرة والنصب باسم السياسة يؤكد عليه الروائي بقوله: "وهي تذوب في تذكرها، استعذبت أن يكون كيانها الداخلي متشبعا بكل قيم الخير والحق والعدل والجمال، لكنها سرعان ما تلبّد وجهها وانقبضت أنفاسها، لما تذكرت بأنها كانت تسعى سعيا وراء الشيطان، استهواها ملازمته لها، وهو يرتدي جبة الإحسان يطرق أبواب المنظمات الدولية ورجال الأعمال بوساطة سياسية، يستدرّ أموالا بملايين الدولارات، لا ينفق منها إلا النزر القليل، ويكنز الباقي في أرصدته المعلومة والمجهولة. ماهر في المتاجرة في نفوس البشر، وهو يروّج لصورة حضوره كنصف سياسي وكنصف فاعل خير".
ربما نتيجة لهذا الفساد من قبل الساسة فإن المفهوم الذي تبنته راحيل من مربيتها زينب كان:" السياسة سعي مشتت ضد الطبيعة. غمغمت في داخلها، السياسة ضوضاء المصالح المنخورة وتلويث للمحبة؛ هل بدأنا نفهم لماذا الحاكم مفتون بحكمه الفردي وبالتجبر؟ لماذا الناس يقبلون أن يكونوا عبيدا مأمورين؟ لماذا النخبة تجتهد في تبادل القتل ولا تتعب في تقفي آثار السيد، تحلم بالتقاط ما سقط من تغمّل العنب المعفن في كفيه؟". إن هذا المفهوم للسياسة الذي تبنته راحيل هو بالتأكيد المفهوم الأقرب إلى الواقع، وهو المفهوم الذي يترك بأثره على سلوك المحكمومين من رغبتهم في الاستسلام للحاكم والائتمار بأمره مهما كانت أوامره؛ لذا نرى جيهان تنتقد سلوك المواطنين الصامتين على المزيد من الإفساد السياسي بقولها: "أوّاه! أي درك هذا الذي وصل إليه شعبنا، وكم أصبح عاجزا وضعيفا؟ هي الآن تراه يصغر ويتقلص وينبطح، حتى أنه لم يعد يميز ما بينه وما بين البهائم، لم يعد يهتم إلا برغيف خبز ومرق من أشلاء الزمن كما اتفق؟ وراء هذا الشعب الذي لا يتوقف عن لوك الكلام، يتكلم وهو نائم، قوة مختبئة تضبط أنفاسه، تبقيه منوما في حضن امرأة تصلب حركة التحول.. التاريخ، الشعب، الثورة، معان كانت لها أجنحة لم تتوقف فيما مضى عن الطيران. أكلت الأجنحة غضاريفها عظامها وتوقفت عن الطيران. سقطت الأحلام، وأصبح الواقع يمشي على قدمين لم تعي من العبث بالترجل على هامش الحقيقة".
قد يكون هذا الإدراك لمعنى السياسة وممارساتها في دولنا العربية ما يدفع الجميع إلى محاولة نسيان ما يحدث، أو طمسه تماما من الذاكرة؛ حتى لا تتحول حيواتهم إلى شكل من أشكال الجحيم، وهذا ما يؤكده مدير الملجأ لخالد: "عانق المدير خالدا مجددا واعتذر له على برودة استقباله، لأنه نسي من يكون، كما نسي كثيرا من حلقات التاريخ حسب قوله، أو كما أراد أن يتناسى كثيرا من حلقات الماضي السياسي لبلاده، لأن التذكر حسب زعمه إذاية لرونق المزاج ووقوع في التحسر الذي يؤلم العظم ويوهنه"؛ لذلك يدرك الساسة أن طريقهم مفتوح لا يمكن لأحد أن يعطله ما دام قد سقط الجميع في براثن الاكتئاب واليأس من إصلاح أي شيء، لكنهم إمعانا منهم، ورغبة في المزيد من الاطمئنان يعادون الثقافة ومن يمارسون الفعل الثقافي إيمانا منهم أن الثقافة والوعي هما العدو الأول للتغييب والفساد السياسي: "في اليوم الرابع من حملته الانتخابية، لاحظ رءوف ملصقات ذات لون موحد تنافس ملصقاته الانتخابية، ترجّل صوب الجدار التي تأهلها. وقف متسمرا ساعيا إلى فهم شيء ما. فرك عينيه ليتبين من جديد الصورة التي يراها أمامه ويعيد قراءة ما كُتب تحتها. ملصقات تحتوي صورة حديثة لراحيل بقميص أسود ونظرات ثاقبة متشككة أضفت عليها، بالرغم من كل شيء، جمالا هادئا وثقة الواثق من نواياه. ظن فجأة، وهو مرتبك، أن عزمها على الغناء والإشهار لسهرتها الموسيقية التي ستحييها يوما واحدا قبل الإعلان عن نتائج الاقتراع، هو نذير سوء يلوّح بسقوطه في الانتخابات. تحوّل دوي السيارات في أذنيه وهو غارق في تأمل ملصقها إلى نحيب عميق خيّل إليه أنه صادر من ثكالى نازحات من جيل بعيد أو من قرية منسية. اخترق النحيب كل أحشائه، ظنه هذه المرة يتصاعد من حناجر الأشجار. ومن أشهاد أفق مغيوم.. أصبح لا يرى إلا أشكالا من الماضي لما كانت راحيل تفضح عورة نوايا امتهانه للسياسة وهي تطارده رفقة خالد، غارقا في مسالك الرذيلة. شُبه له أن الناس من حواليه جوقة تُطالب برحيله، وهي تردد وراءها أغانيها المترنحة بين مقام الاختيار ومقام المصير. حاول أن يصغى إلى نفسه، وهو يقنعها بأن الملصق خدعة بصرية أو سراب منفلت من عقال هواجسه المضطربة. يستحيل أن تنهض راحيل من رمادها وقد فقدت الشعلة والتوهج.. ردد أن خالدا، قد قصم ظهرها وجثّ أصابعها لما هجرها.. إنه متأكد أنها قد أصبحت امرأة عاجزة كالنخلة الميتة. هي مجرد حطام يعيش على تهالك فطريات الماضي فقط".
إذن فالسياسي رغم فساده ورغم إثرائه من الممارسات الفاسدة، ورغم حصوله على كل شيء مقابل تحويل الثوريين والمثقفين والراغبين في الإصلاح والحلم إلى مجرد موتى يسعون على قدمين بعدما تمكن منهم اليأس والهزيمة النفسية من كل شيء، إلا أنه لا يخشى في حياته سوى المثقفين مهما سيطر عليهم اليأس، وكأنه لا يريحه سوى موتهم تماما؛ وهذا ما جعل رءوف يشعر بالرعب الشديد من مجرد ملصقات على الحائط تُعلن عن عودة راحيل إلى التأليف الموسيقي والعزف في حفلة جديدة لها بعد توقفها الكثير من السنوات عن ممارسة نشاطها!
هؤلاء الساسة يعرفون جيدا المهمة الموكولة لهم بالاتفاق مع السلطة، وهي إفساد الجميع أو تدميرهم؛ حتى لا يستطيعون فيما بعد مواجهة النظام السياسي أو الحديث عنه أو عن حلم الإصلاح: "تذكر أنه كان يزور خالدا في بيته، هنا في هذا المكان، يتجسس عليه، يقتسم معه التنظيم والأفكار في الظاهر، وفي الخفاء كان يطلع الأجهزة الاستخبارية عن الهواء الذي يتنفسه خالد ورفاقه الذين كانوا من طينته. لم يستطع أحد أن يكتشف أمره، لأنه كان يتقن الأدوار التي يلعبها، متفانيا في تنفيذ تعليمات الأجهزة المركزية.. كم أسقط من الرؤوس، وكم شرد من عائلة.. هو غير نادم على ما فعله، لأنه لولا ذلك لما أصبح زعيما سياسيا وسيدا يتدثر الغنى والوجاهة. هو يتذكر فقط، كم كان خالد طيبا رقراقا ومخلصا لأفكاره، وكم كانت راحيل كالنمرة الشرسة تدافع عن حلمها وتكره السلطة كرها لا حد له. كانت تشمخ كل يوم كالجبل وهي تؤلف الموسيقى والأشعار التي رددها جيل بأكمله. ابتسم رءوف، وهو يتذكر كم كان متفانيا في تكدير صفاء ما كانت تنتجه بشتى الوسائل، وتوظيف نقاد ومثقفين وصحفيين وفنانين للتشكيك في إبداعها والتشهير القاطع الذي يشبه السيوف الحادة والرصاص النافذ"!
إن المتأمل لرواية "بأي ذنب رحلت؟" للروائي المغربي محمد المعزوز يتأكد أنها من الروايات التي كان من الممكن لها أن تكون رواية متكاملة فنيا وأيديولوجيا- حيث يقوم متنها الروائي على تناول الفساد السياسي في المغرب-، لكن غرام الكاتب بالتفلسف والتجريد والأمور الذهنية، وتأمل الأحداث محاولا فلسفتها حسبما يرى واستنطاق الشخصيات بما يرغب أن يقوله كمؤلف، كذلك استنطاق الشخصيات بلغة تعلو بها كثيرا من المجال الواقعي إلى المجال المتخيل غير الحقيقي قد أدى بالرواية إلى الكثير من الملل والترهل وتكدس المعنى؛ الأمر الذي انعكس بدوره على صفحات الرواية التي تكدست كثيرا لتصل إلى هذا العدد من الصفحات، في حين أنها كان من الممكن لها أن تكون رواية جيدة لو كان المؤلف قد تخلى عن ذلك، واختصر العمل إلى نصفه.
رغم اللغة السليمة التي حرص عليها الروائي طول روايته، والتي بدت في بعض الأحيان مبالغا فيها؛ لفرط استخدام الاستعارات والكنايات وغيرها من المرصعات اللغوية إلا أن الكاتب وقع في عدد من الأخطاء غير المفهومة كأن يكتب على لسان وليد مثلا: "ذات ليل بينما كان الجو يمطر بغزارة باغته أربعة شبان، لما غادر القاعة الخاصة بالتمرين الموسيقي؛ اثنان من الخلف واثنان من الوراء. أشبعوه ضربا". حينما نقرأ الجملة السابقة لا بد لنا من العودة إليها مرة أخرى بمجرد قراءتها للتيقن أننا لم نخطئ في تلقي المعنى؛ الأمر الذي يجعلنا نتساءل: هل ثمة فارق لغوي بين الخلف والوراء؟! وكيف يكون هناك اثنان من الخلف، ثم اثنان من الوراء؟! إن مفردتي "الخلف"، و"الوراء" لا يمكن لهما أن تؤديا إلا إلى معنى واحد فقط؛ ومن ثم فالكاتب هنا مخطئ في جملته ولم يؤد المعنى الذي رغب في إيصاله.
كذلك يقول المؤلف: "دخل عبد الله، بدوره، القاعة شبه متكئ على وليد في اتجاه الصف الأول يحمل باقة من الزهور. ولما كان يهم بالجلوس، انتبهت جيهان إلى أن هذا الرجل من المدعوين الخاصين لراحيل. سألت عنه خالدا وقد أجاب بأنه لا يعرفه، ولكنه يبدو من قسمات وجهه رجلا حمالا للأسرار، يشغله أمر راحيل أيما انشغال!"، نقول أننا حينما نقرأ هذا الاقتباس في صفحة 310 من الرواية، ثم نقرأ في صفحة 319: "انتبهت إليه جيهان، فاندفعت نحوه، وهي تقول له مفزوعة: لقد انكشفت الحقيقة؛ راحيل هي ابنتك التي فقدتها بعد انتحار راشيل!".
نقول: حينما نقرأ المقطعين لا بد أن تصيبنا الكثير من الدهشة من هذا التناقض الذي وقع فيه المؤلف وهو يختتم عمله الروائي؛ فمنذ صفحات قليلة سألت جيهان خالدا عن عبد الله ومن يكون "انتبهت جيهان إلى أن هذا الرجل من المدعوين الخاصين لراحيل. سألت عنه خالدا وقد أجاب بأنه لا يعرفه، ولكنه يبدو من قسمات وجهه رجلا حمالا للأسرار، يشغله أمر راحيل أيما انشغال"، لكن المؤلف يعود بعد تسع صفحات وفي الصفحة الأخيرة من الرواية ليناقض ما سبق أن كتبه وجعل جيهان تعرف أن عبد الله هو والد راحيل؛ ومن ثم أخبرته بالحقيقة، رغم أنه لم يكن هناك أي دليل على أن عبد الله هو والد راحيل؛ فمن أين عرفت جيهان إذن كي يقع الروائي في مثل هذا الخطأ الفادح؟!
لكن رغم هذين الخطأين الفادحين تظل رواية المعزوز من الروايات القليلة التي نجت من الأخطاء والجرائم اللغوية الكثيرة التي نراها في معظم ما يقابلنا من روايات في العالم العربي؛ مما يدل على أن الكتاب لا بد لهم من تعلم اللغة التي يكتبون بها أولا قبل الإقبال على عملية الكتابة؛ لأن اللغة هي الوسيط الأول والوحيد بينهم وبين القارئ.
محمود الغيطاني
مجلة مصر المحروسة.
عدد سبتمبر 2022م.