الأربعاء، 26 يونيو 2024

Chung King Express: وونج كار واي وعالم العلاقات المُنتهية الصلاحية!

كلما شاهدت ما يقدمه المُخرج الصيني وونج كار واي من أفلام سيتأكد لك أن ثمة سينما أخرى مُختلفة وذات عالم ومذاق خاص، ومُنفصل تماما عن العالم الذي تشاهده فيما تراه من سينما يقدمها الآخرون. نحن هنا أمام مُخرج له عالمه الخاص والحميمي جدا، يعبر عنه من خلال مفهوم وفكر يخصانه وحده، ورؤية وأسلوبية سينمائية لا يقربها سواه. أي أنه يرى العالم كما يحبه هو، وكما يراه وحده، وكأنما العالم يتشكل في داخله ثم يُعيد إنتاجه مرة أخرى، وليس كما نراه نحن؛ ومن ثم فعلينا، كمُشاهدين، الانتباه والإنصات إليه فيما يقوله؛ نظرا لبراعته فيما يصنعه، وخصوصيته الشديدة وإتقانه في مقدرته على إدخالنا إلى عالمه الشخصي والتعبير عن رؤيته الفريدة للعالم من حوله.

Wong Kar- Wai وونج كار واي ليس مُجرد مُخرج ماهر يقوم بصناعة الأفلام؛ بل هو من المُخرجين أصحاب الرؤية، مُخرج لديه عالمه السينمائي الذي يجعلنا قادرين على القول: بإنه مُخرج صاحب عالم، وبالتالي لا نكون مُخطئين حينما نثني بالقول: سينما وونج كار واي. هذه العبارة السابقة لا يمكن إطلاقها على كل من يقوم بصناعة السينما؛ فليس كل صانع- حتى لو كان ماهرا فيما يصنعه ويقدمه- لديه عالم يجعلنا نقول: سينما فلان، بل تقتصر هذه المقولة على القليل من المُخرجين الذين يقدمون سينما لها فكرها، وفلسفتها التي تخص صانعها، ورؤيته وموقفه باتجاه العالم الذي يعيد صياغته.

هؤلاء الصُناع السينمائيون- أصحاب العالم- إذا ما تأملنا ما يقدمونه سيتأكد لنا أن كل ما يقومون بصناعته من أفلام سينمائية تكاد أن تكون فيلما واحدا طويلا لا ينتهي بينما يقومون بالتنويع والعزف على نفس الوتيرة والفكر، ولكن بأشكال مُختلفة، وأسلوبية سينمائية مُتميزة تخصهم وحدهم، وتجعلنا بمُجرد مُشاهدة فيلم من أفلامهم، حتى لو لم نكن ندري بأنهم هم من قام بصناعته؛ نهتف بيقين: هذا الفيلم من صنع فلان. وهذا هو المفهوم الأقرب لعبارة "سينما وونج كار واي"، أو غيره من المُخرجين أصحاب الرؤية.

صحيح أنه لا يمكن لنا إنكار وجود العديدين من المُخرجين الآخرين المُتميزين والمهرة في صناعة السينما، ولكن سينما من دون رؤية فنية، وفكرية، وموقف خاص باتجاه العالم، لا يمكن أن نطلق عليها مفهومنا السابق.


في فيلمه ChungKing Express لا يقدم لنا المُخرج والسيناريست الصيني فيلما بالمفهوم المألوف، أو الكلاسيكي، أو التقليدي لصناعة السينما؛ ومن ثم فهذا الفيلم في حاجة إلى مُشاهد من نوع خاص. مُشاهد قادر على تلقي ألوان مُختلفة من الصناعة، أي أن أهمية الفيلم هنا تأتي من مفهوم الصناعة وجمالياتها في حد ذاتها، وليس من خلال تماسك الرواية التي يقدمها؛ فوونج لم يكن حريصا على تقديم رواية بالمفهوم الذي اعتدنا عليه في مُعظم الأفلام، بل قدم لنا حكايات مُتقطعة، غير مُكتملة، لا رابط بينها لتأليف قصة واحدة مُتماسكة ذات قوام، مُنبتة الأواصر تماما. إنه هنا يتأمل، يقدم العالم كما هو من دون تجميل. يرغب في القول لنا: اترك نفسك من أجل تأمل العالم، فكل هؤلاء الذين تراهم في رواحهم وإيابهم يمتلكون الكثير من الحكايات، وهذه الحكايات ربما تتشابه في أي بقعة جغرافية من الأرض وليس في هونج كونج فقط، لكنها ميزة مُعظم المُدن الكبرى؛ لذا فعليك الاسترخاء والمُشاهدة، والتأمل، والاستمتاع بهذه الحكايات المُنبتة الصلة ببعضها البعض، وإن كان يجمعها كلها الشعور بالوحدة القاسية، والحاجة الماسة والقصوى للتواصل مع الآخرين، والافتقاد للحب والمشاعر العميقة والدافئة، والشعور العارم بالضآلة والفراغ في مدينة مثل هونج كونج رغم ازدحامها وصخبها الذي لا يتوقف في أي وقت من اليوم.

إذن، فالمفهوم الأساس الذي انطلق منه المُخرج من أجل صناعة فيلمه- وهو المفهوم الذي يكاد أن يغلب على مُعظم أفلامه- هو ضآلة الإنسان، ووحدته القاسية التي تشعره بالفراغ في مدينة كبرى صاخبة، تلك الوحدة التي تشعرك وكأنما ثمة ثقل يزن ملايين الأطنان يظل يضغط على روحك من أجل سحقها، ورغم ذلك لا تستطيع الخلاص من شعورك!


بالتأكيد نستطيع سحب هذا المفهوم على كل المُدن الكبرى والعواصم في العالم، أي أن ما رأيناه في هونج كونج من خلال هذا الفيلم من المُمكن لنا رؤيته في نيويورك مثلا، أو القاهرة، أو غيرها من المدن، ولكن من خلال قصص أخرى مُختلفة لا بد لها في النهاية أن تؤدي إلى نفس المعنى الذي ذهب إليه وونج. إنه يعبر في النهاية عن ضياع الإنسان في عالم شاسع، سريع الحركة، لا يتوقف عن الصخب؛ فيشعره بمدى ضآلته!

يأتي عنوان الفيلم من مقطعين مُندمجين يعبران عن أحداثه؛ فالقسم الأول منه يدور في مبنى Chung King House في وسط المدينة، وهو من المباني الشديدة الضخامة التي تضم الكثير من الممرات والمحال التجارية المُتخمة بالبضائع، والمطاعم، والبارات، وغير ذلك من آلاف البشر الذين يصلون إلى المدينة من كل الجنسيات، بينما يرتبط الجزء الثاني منه بأحد محلات التيك أواي الذي يسمى Midnight Express أي أن عنوان الفيلم كان مزيجا من اسمي المكانين اللذين تدور فيهما الأحداث.

تبدأ أحداث الفيلم بمشهد لا بد له أن ينطبع في ذاكرة المُشاهد؛ نظرا لأسلوبيته التي تخص كار واي، حيث نرى الشرطي 223- قام بدوره المُمثل الياباني الأصل التايواني الجنسية Takeshi Kaneshiro تاكيشي كانيشيرو- يطارد أحد المُجرمين في دهاليز المبنى التجاري الضخم المُزدحم بالبشر من جميع الجنسيات، حيث يجنح المُخرج في تصوير المشهد إلى أن يظهر كعالم ضبابي يشبه الحلم- وهو ما سيستمر في مُعظم أجزاء الفيلم- فضلا عن استخدامه الكثيف جدا للحركة البطيئة Slow Motion التي تجعل كل المرئيات على الشاشة أشبه بعالم حلمي يبتعد كثيرا عن الواقع.


يلجأ المُخرج كذلك في أسلوبيته الإخراجية إلى التعليق الصوتي من قبل الشخصيات- وهو الأسلوب المُعتاد لدى المُخرج في كل أفلامه- مما يجعله يختصر الكثير من المشاهد التي لا داعي لها، أي الاقتصاد في الصورة، فضلا عن تحويل الفيلم لما يشبه الرواية التي ترويها الشخصية المُتحدثة، وإعلامنا كمُشاهدين بالمزيد من التفاصيل المجهولة لدينا.

يقول الشرطي 223 في هذا المشهد الافتتاحي: نكون مُتقاربين كل يوم، وقد لا نعرف بعضنا البعض، لكن بإمكاننا أن نكون أصدقاء ذات يوم.

من خلال هذه الجملة التأسيسية في الفيلم، والتي تحمل مفهوم المُخرج فيما يقدمه، يمكننا أن نتأمل أنفسنا في مدينة صاخبة شديدة الازدحام مثل هونج كونج، نقابل فيها كل يوم الآلاف من البشر، نمر ببعضنا البعض، وقد تلتقي أعيننا، وقد نصطدم بهم، لكن رغم ذلك نجهل حكاياتهم، وأحزانهم، وأفراحهم التي قد تبدو في عيونهم. وقد نلتقي بهم مرة أخرى لتربطنا بهم حكاية ما ستنتهي مع مرور الوقت، أو يصيبها الكثير أو القليل من الفتور. أي أن المُخرج يرغب في التأكيد على أننا كبشر- نلتقي يوميا- لسنا سوى مجموعة من الحكايات المُنفصلة، والجزر المُنعزلة؛ مما يشعرنا بالوحدة والعزلة القاتلة، وبأن كلا منا يعاني مُعاناته الخاصة مع ذاته وإن كان لا يبدو علينا ذلك. إذن فعلينا أن نعيش فقط؛ كي تستمر الحياة. ليس من المُهم كيف نعيش، ولا ما هي المُعاناة التي نعانيها؛ فالوقت دائما بالنسبة لكل شخصية مُجرد وقت ميت، وصاحبه في انتظار حدوث شيء ما قد لا يحدث مُطلقا رغم رغبته الجامحة في حدوثه!

في أسلوبية يتميز بها وونج كار نرى المشهد الافتتاحي لمُطاردة الشرطي 223، الذي حرص المُخرج على تصويره بالكاميرا المحمولة المُهتزة التي تُشعر المُشاهد بالكثير من التوتر، فضلا عن العرض البطيء المُكثف الذي يُكسب المشهد لديه جمالية خاصة لا يمكن زوالها من الذهن، بالإضافة إلى التركيز المُفرط على الوقت والساعات، والتواريخ بوقوف الكاميرا دائما على الساعات في كل مكان وتوقيتاتها شاخصة إليها، باعتبار أن الجميع دائما في سباق مع الوقت القادر على قتل، وتغيير، بل وطمس كل ما في حياتنا من دون الشعور بأي ذنب فيما يفعله بنا! إنه الوقت القاتل الذي يمتلك من القسوة ما يمكنها من سحقنا جميعا ببرودة متناهية!

أثناء هذه المُطاردة الافتتاحية يمر الشرطي 223 بامرأة شقراء تلبس شعرا ذهبيا مُستعارا، ومعطف مطر، ويكاد أن يصطدم بها، ليتم التعليق الصوتي بقوله: لقد كنت قريبا منها، بيننا 1 سنتيمتر فقط، لكن بعد 57 ساعة وقعت في حب هذه المرأة!

ألا نلاحظ هنا قيمة الوقت لدى المُخرج؛ الأمر الذي لا يجعله يعمل على التركيز على الأوقات والساعات والتوراريخ فقط، بل يُحدد الوقت الذي سيقع فيه الشرطي 223 في حُب هذه المرأة الشقراء مُستقبلا.

نستطيع القول بثقة أن وونج كار واي لديه فلسفة تخصه باتجاه الوقت، وهي فلسفة- في حقيقتها- تثير الكثير من القلق والذعر؛ فالوقت قاتل لكل شيء، لا يرحم، في حالة صيرورة دائمة للأمام بقسوة؛ ومن ثم لا يمكنه التراجع، مما يجعل كل الأحداث بمُجرد مروره مُجرد ذكريات سواء كانت تحمل داخلها مشاعر سلبية أم إيجابية، لكن كل الأحداث معه ستتحول في النهاية إلى ذكريات لا بد من مُعاناتنا منها في نهاية الأمر.


يقدم المُخرج قصة الشرطي 223 لنعرف بأنه كان مُرتبطا بعلاقة عاطفية مع ماي- التي لن تظهر أبدا في الفيلم- لمدة خمس سنوات، لكنها انفصلت عنه فجأة بادعاء أنه لا يستطيع فهمها؛ الأمر الذي يجعله يعيش في عذاب لا يحتمل لشعوره بالوحدة القاتلة في انتظار عودتها مرة أخرى في كل لحظة! لذلك يقول: أخذتها بدعابة عندما قالت: انفصلنا في يوم كذبة إبريل، ومن يومها وأنا أشتري كل يوم علبة من الأناناس، وعليها تاريخ انتهاء الصلاحية في 1 مايو؛ لأن ماي كانت تحب الأناناس، وواحد مايو هو يوم ميلادي. وعدتُ نفسي إذا لم تغير رأيها قبل شرائي لثلاثين علبة، سوف ينتهي حبنا!

إذن فهجرانها المُفاجئ له أوقعه في الفراغ الكامل، والوحدة القاسية؛ الأمر الذي جعله يحاول التغلب على الأمر بارتياده المحال التجارية دائما من أجل البحث عن علب الأناناس التي ستنتهي صلاحيتها في 1 مايو، وبما أنها كانت تحب الأناناس؛ فقد اعتاد على أكله وكأنه يتمثلها مُتماهيا معها حتى في غيابها!

لم تتوقف محاولات الشرطي 223 في التغلب على شعوره القاسي بالفقد على علب الأناناس فقط، بل أخذ نفسه بقسوة على الركض لأطول فترة مُمكنة، مُفسرا ذلك بقوله: جميعنا في الحُب غير محظوظين في بعض الأحيان، عندما نركض يخسر الجسم الماء، فلا يتبقى شيء للدموع، كيف باستطاعتي أن أبكي، ماي تعتقد دائما بأني شخص بارد!


لعل الموقف الذي يقدم من خلاله المُخرج فيلمه يحمل داخله الكثير من الألم والشعور بالخذلان الذي لا يمكن احتماله، وهو يحاول عبور هذه الأزمة في انتظارها بالعديد من الحيل التي يظن فائدتها، وإن كانت لا تغير من مأساته شيئا؛ فيعبرها وحيدا وكأنما الحياة بالنسبة له قد صارت مُجرد شيء مُضطر إليه. نلاحظ ذلك أيضا في إحدى مُطارداته حينما يقول: لم أعتقل شخصا منذ ستة أشهر، لكني أمسكت شخصا اليوم، كلما اعتقلت شخصا، أول إنسان أريده أن يعلم هو ماي!

إذن، فلقد كانت ماي هي محور حياته بالكامل، حتى أنه لا يشعر بالمُتعة في مُمارسة عمله كشرطي إلا لكي تكون فخورة به، ومن هنا نفهم مدى المُعاناة التي يمر بها بعدما هجرته بعد خمس سنوات من الحُب. هذه الوحدة القاتلة التي يشعر بها الشرطي تجعله راغبا في الخروج مع أي أحد، فالمُهم لديه أن يكون هناك تواصل بينه وبين أي بشر؛ لينقذه من فراغه المُخيف؛ لذا نراه يذهب إلى مطعم Midnight Express للخروج مع نادلة المطعم بعد انتهاء ورديتها الليلية، والتي كان اسمها ماي أيضا، لكن مُدير المطعم بيجي- قام بدوره المُمثل الصيني Chan Kam- Chuen تشان كام تشوين- يخبره بأنها قد خرجت مع آخر، فيُهاتف إحدى صديقاته عارضا عليها مُشاركته في الخروج إلى السينما، إلا أنها تخبره بأنها قد آوت إلى فراشها، ليعاود الاتصال بصديقة أخرى فتخبره بأنها قد تزوجت، ويُهاتف صديقا قديما منذ أيام الطفولة، لكنه يكون غير مُتاح للخروج؛ فيذهب في النهاية وحيدا إلى أحد البارات آخذا عهدا على نفسه بأن يقع في حب أول امرأة تدخل البار!


ألا نُلاحظ هنا أن المُخرج يمعن بمزيد من القسوة في إشعارنا بالوحدة القاتلة في مدينة صاخبة مثل هونج كونج؛ فكل إنسان يعاني، ورغم أنه يحيطه المئات من البشر إلا أن لكل منهم عزلته وألمه وعالمه، ومُعاناته التي تخصه، والتي لا يشاركه فيها أحد.

مُنذ بداية الفيلم ثمة حكاية أخرى تسير بالتوازي مع حكاية الشرطي 223، وهي حكاية تلك المرأة الشقراء الغامضة التي ترتدي شعرا ذهبيا، ومعطفا ضد المطر، ونظارات شمسية لا تخلعها مُطلقا من على وجهها، إنها المرأة التي كاد أن يصطدم بها أثناء مُطاردته لأحد المُجرمين، والتي أكد أنه سيقع في حبها بعد 57 ساعة. نعرف أن المرأة الغامضة- قامت بدورها المُمثلة التايوانية Brigitte Lin برجيت لين- متورطة في تهريب كميات كبيرة من المُخدرات، ونراها من خلال تجولها في المبنى التجاري الضخم مع الكثيرين من الهنود الذين تُعدهم من أجل تهريب هذه المُخدرات، ولكن بعدما تُعد عدتها معهم وتذهب بهم إلى المطار آخذة جوازات سفرهم، حينما تلتفت خلفها تجدهم قد تلاشوا هاربين منها بما يحملونه من المُخدرات. تحاول المرأة البحث عنهم في كل مكان من المدينة لكنها لا تعثر عليهم، وأثناء رحلتها في البحث عنهم تقتل البعض منهم لتفر هاربة.

يبدو أن المرأة متورطة في هذا الأمر مع عصابة كبرى، وأنها مُجرد أداة بين أيديهم؛ لذلك فمرور الوقت بالنسبة لها أيضا هو أمر قاتل، لأنه مع مرور هذا الوقت ستكون نهايتها هي أيضا بانتقام العصابة منها لضياع كمية المُخدرات التي أخذها الهنود وهربوا بها. ترتبط المرأة ذات الشعر الذهبي برجل ما لا نعرف عنه شيئا في أحد البارات، وهو الرجل الذي ستقوم بقتله إنقاذا لحياتها. ولعل قيمة وفلسفة الوقت لدى وونج تتضح هنا أكثر بالتركيز أيضا على علبة السردين التي كانت في يد الرجل ويطعم منها القطط؛ حيث توقفت الكاميرا شاخصة على تاريخ الصلاحية لعلبة السردين الذي كان الأول من مايو أيضا، أي أنها في سباق مع الزمن من أجل إنقاذ حياتها التي من المُمكن لها أن تنتهي بقتلها في هذا التاريخ.


إذن، فليس الشرطي 223 فقط الذي يتسابق مع الوقت في انتظار عودة حبيبته؛ مما جعل المُخرج يركز كثيرا على الساعات والتواريخ، وأرقام انتهاء صلاحية علب الأناناس، بل المرأة أيضا في نفس السباق الذي سيترك بأثره على حياتها.

يتناول الشرطي 223 في اليوم الأخير، الذي حدده لنفسه كي يتأكد من انتهاء الحب، 30 علبة من الأناناس دفعة واحدة؛ ليتأكد من أن حبيبته ماي لن تعود إليه مرة أخرى، وحينما يدخل إلى البار واعدا نفسه بأنه سيحب أول امرأة تدخل إلى البار يُفاجأ بأن المرأة ذات الشعر الذهبي التي اصطدم بها ذات يوم هي أول امرأة تدخل. يحاول الشرطي 223 التقرب منها، لكنها تتعامل معه بحيادية وبرود إلى أن يشعرا بالسكر التام، وحينها تخبره بأنها ترغب في مكان للراحة.

يأخذها الشرطي إلى أحد الفنادق، وتغيب في نوم عميق؛ الأمر الذي يؤكد له أنها بالفعل كانت في حاجة إلى الراحة الطويلة. يظل الشرطي إلى جانبها في الغرفة ليشاهد فيلمين قديمين، ويتناول كميات كبيرة من الطعام مُتأملا لها في نومها. لكنه في الصباح يستعد للخروج بينما هي ما زالت تغط في نومها الطويل؛ فيخلع عنها حذاءها ذا النعل العالي إيمانا منه بقول أمه بأن النساء يصبن بتورم في القدم إذا ما نمن بأحذيتهن ذات النعال العالية.

لكنه حينما يُلاحظ أن الحذاء مُتسخ؛ يبدأ في تنظيفه ومسحه بربطة عنقه! هذا المشهد الشديد التعبيرية ينقل لنا من مشاعر الإحساس بالوحدة العميقة، والرغبة في منح المشاعر الفائضة لأي إنسان، ما نجح المُخرج فيه أيما نجاح في التعبير عنه من خلال الصورة الصامتة. إن الوحدة التي تكاد أن تقتل الشرطي 223 سنراها فيما بعد حينما تصله رسالة مُسجلة في السادسة صباحا من جارته لتهنئه فيها بعيد ميلاده، حيث يقول: في 1 مايو 1994م تمنت لي المرأة عيد ميلاد سعيد، لن أنساها ما حييت!

إن جملته الأخيرة تحمل داخلها الكثير من القسوة، والرغبة في التواصل الإنساني، والشعور بالضآلة الشديدة؛ حتى أنه يرى مُجرد تهنئة إنسان ما له على عيد ميلاده معروفا لا يمكن إنكاره، بل لا بد من تذكره ما دام حيا!


يقسم وونج كار واي فيلمه ذا الطبيعة الخاصة إلى قسمين رئيسيين، استغرق القسم الأول منه حوالي 40 دقيقة، بينما استمر قسمه الثاني 60 دقيقة، ينتقل المُخرج فجأة في القسم الثاني إلى قصة أخرى مُختلفة تماما، لا علاقة لها بالقصتين السابقتين، كما أنه لا يهتم بإغلاق هاتين القصتين، فنحن لم نعرف ماذا حدث للشرطي 223، وهل عادت إليه حبيبته أم لا، وكيف استمر في الحياة، كما لم يقل لنا أين ذهب. كذلك الأمر بالنسبة للسيدة ذات الشعر الذهبي التي لم نعرف عنها من هي، وما هي العصابة المُرتبطة بها والتي تُهدد حياتها، وماذا حدث لها فيما بعد، وماذا كانت تعني علاقتها برجل البار الذي قتلته.

أي أن المُخرج يترك الحكايات مفتوحة من دون الاهتمام بإغلاقها، هو هنا لا يعنيه ما سبق له أن سرده ليتخلى عنه فجأة، بادئا في سرد جديد وحكايات جديدة، وعالم جديد. إن هذا التشظي في السرد البصري لدى وونج يُدلل على أنه لا يقدم لنا فيلما تقليديا، كما لا يعنيه إكمال ما يقوله بقدر ما يعنيه التعبير عن مُعاناة البشر فقط. إن المُخرج هنا يتأمل الحياة، وهو لا يعنيه شرحها بقدر ما يعنيه تأملها!

يحل محل الشرطي 223 شرطي آخر وهو الشرطي 663- قام بدوره المُمثل الصيني Tony Leung Chiu- Wai توني ليونغ نشيو واي- الذي كثيرا ما يذهب إلى محل التيك أواي Midnight Express الذي كان يذهب إليه الشرطي السابق؛ ليطلب السلطة. يسأله مُدير المحل/ بيجي عن سبب إصراره على شراء السلطة كل يوم؛ فيخبره بأن حبيبته التي هجرته تحبها.

إذن، فنحن هنا أمام قصة هجر أخرى لأشخاص آخرين يعاني فيها الرجل أيضا من هجران حبيبته له. نعرف أنه كان قد تعرف على مُضيفة طيران في إحدى الرحلات- قامت بدورها المُمثلة الصينية Valerie Chow فاليري تشاو- وارتبطا معا بعلاقة حُب عاصفة وطويلة، لكنها فجأة رحلت عنه ولم تعد مرة أخرى من دون إبداء أي أسباب؛ فوقع في مأزق الانتظار الدائم لها حتى أنه بات يقضي الوقت في منزله مُتحدثا مع أشيائه: ملابسه، الصابون، الدب الذي كان قد اشتراه لها. أي أنه يصل إلى حالة من حالات الوحدة والفقد ما يجعله أقرب إلى الجنون في انتظار عودتها إليه مرة أخرى، حتى أنه كان يترك عمله أحيانا للذهاب إلى بيته شاعرا بأنها قد عادت مرة أخرى، لكنه يجد المنزل شاغرا.


تبدأ نادلة المطعم فايا- قامت بدورها المُمثلة والمغنية الصينية Faye Wong فاي وونج- بالاهتمام به ومُراقبته دائما، إلى أن تشعر بحبه من دون أن تخبره بالأمر. نُلاحظ أن المُخرج يقدم جميع شخصياته بلا استثناء باعتبارهم شخصيات وحيدة حتى لو وقعوا في العشق؛ فالنادلة نراها دائما ما تشغل المُوسيقى بأعلى درجة من درجات الصوت لتغرق فيها لا سيما أغنية California Dreaming التي تسيطر على الثلث الأخير من الفيلم بدرجة تجعلنا نخرج منه بعد انتهائه غير قادرين على نسيان هذه الأغنية التي أكسبها استخدام المُخرج لها معاني أخرى مُهمة لها ارتباط شرطي بالشعور بالوحدة والعزلة والافتقاد القاتل، والضياع داخل مدينة صاخبة، أي أن كل من سيشاهد الفيلم سيكون لديه ارتباط شرطي حقيقي كلما استمع إلى هذه الأغنية باستعادة أجواء الفيلم مرة أخرى، وكأنها قد صُنعت من أجله فقط.

حينما يذهب الشرطي 663 ذات مرة إلى المطعم طالبا منها قهوة لا يستطيع سماعها بسبب صخب الأغنية العالي؛ فيسألها: أتحبين المُوسيقى الصاخبة؟ لترد عليه بصوت عال كي يصله: نعم: كلما كانت المُوسيقى عالية كان أفضل؛ لا أريد أن أفكر.

إذن، فهي تهرب من التفكير، والعزلة، والوحدة القاسية بالصخب الشديد للمُوسيقى لا سيما هذه الأغنية التي تتحدث عن كاليفورنيا؛ لأنها تحلم بالذهاب إلى ولاية كاليفورنيا في أمريكا.


ألا نُلاحظ هنا بأن جميع شخصيات الفيلم قد باتت مُجرد شخصيات شائهة وسط مدينة صاخبة، قاسية، مُتقطعة الأوصال حتى أنها تترك بأثرها على من يعيشون فيها لتقسو عليه مشوهة إياهم؟

تتلصص فايا على مُدير المطعم وهو يتحدث مع الشرطي 663 لتعرف بأن حبيبته، مُضيفة الطيران، قد هجرته وأنه يعيش في انتظارها الدائم وشراء السلطة التي تحبها. وذات ليلة تأتي إحدى السيدات في رداء مُضيفة طيران لتسأل المُدير عن الشرطي 663، وحينما يخبرها أنه في عطلة تعطيه خطابا طالبة منه أن يسلمه إليه. لا يستطيع مُدير المطعم منع فضوله من أجل معرفة ما في الخطاب؛ فيفتحه قارئا إياه، بل يقرأه كل عمال المطعم بمن فيهم فايا، ثم يعيدون إغلاقه مرة أخرى. كانت المُضيفة تخبره من خلال الخطاب بأنها قد اختارت أن تعيش حياة جديدة بعيدا عنه، كما تركت له في الظرف مفاتيح شقته التي كانت معها.

في اليوم التالي حينما يحضر الشرطي 663 إلى المطعم تخبره فايا بأن ثمة فتاة قد سألت عنه في الليلة الماضية تاركة له خطابا، لكنه يستمع إليها ببرود وكأنه مُنفصل تماما عن مشاعره، أو كأنما الأمر لا يخصه، وحينما تمد يدها إليه بالخطاب يتجاهل أخذه، مُخبرا إياها بأنه سيأخذه بعدما يتناول قهوته، ثم ينتحي أحد الأركان شاردا.

لعل هذا المشهد الذي نرى فيه الشرطي 663 يقف متناولا قهوته كان من المشاهد الشديدة الأسلوبية التي لا يمكن لها أن تزول من أذهاننا لفترة طويلة؛ بسبب تصويره بأسلوبية عميقة تدل على حيرته في استلام الخطاب وقراءته أم لا، فرأيناه كأنه يعيد تقييم العلاقة التي كانت معها بينما تتحرك المرئيات على الشاشة من أمامه بالحركة البطيئة المُكثفة؛ فبدا الأشخاص العابرون من أمامه في حركة دائمة، وكأنهم خط يمر من على الشاشة، بينما يقف هو شاردا، وقد بدأ شريط الصوت يختفي تدريجيا ليوقعنا المُخرج في صمت تام شديد الوطأة.

المُخرج الصيني وونج كار واي 

يتجاهل الشرطي 663 أخذ الخطاب ليخبر فايا بأنه سيعود فيما بعد ليأخذه. يغير الشرطي مواعيد ورديته؛ ومن ثم يغيب لأيام عن الذهاب إلى المطعم إلى أن تلتقيه فايا بالمُصادفة في أحد الأسواق لتخبره بالخطاب مرة أخرى وبأنها من المُمكن لها أن ترسله إليه بالبريد فيوافق مُعطيا لها عنوانه.

في حقيقة الأمر لم تكن فايا راغبة في إرسال الخطاب إليه بقدر ما كانت راغبة في معرفة عنوان سكنه كي تذهب إليه مُستخدمة المفاتيح التي تركتها حبيبته السابقة في الظرف؛ لذلك تبدأ في الذهاب إلى شقته أثناء تغيبه لتقوم بترتيب الشقة، وتنظيفها، وتجميلها، وغسل ملابسه من دون أن يدري بما تفعله، لكنه مع مرور الوقت بدأ يلاحظ أن ثمة تغييرا يحدث في الشقة لا يدري سببه؛ فظن أحيانا أن حبيبته السابقة تأتي أثناء غيابه، لكنه أبعد الفكرة من خاطره حينما لم تظهر مرة أخرى. وفي إحدى المرات نسيت فايا الإسطوانة المُسجل عليها أغنيتها المفضلة التي كانت دائما ما تستمع إليها بصخب عال أمامه. هنا يدرك الشرطي 663 أنها هي من تدخل شقته وإن لم يكن قد تأكد بعد، إلى أن يقابلها ذات مرة خارجة من الشقة في غيابه ليدرك الأمر.

إذن، ففايا واقعة في عشقه رغم أنه يعشق فتاة أخرى غائبة، وهو ما يجعلها تهتم به مثل هذا الاهتمام، وحينما يدرك ما فعلته فايا يبدأ في الشعور بالعاطفة تجاهها، ويطلب مُقابلتها في بار كاليفورنيا، ويظل مُنتظرا إياها لوقت طويل، لكنها لا تذهب إليه، بل تسافر إلى كاليفورنيا الولاية الأمريكية لتحقيق حلمها بالسفر إلى هناك، مُتخلية عن حبها له من أجل الحلم!

يعرف الشرطي 663 من مُدير المطعم بأنها قد سافرت ولن تعود مرة أخرى؛ ليقع الشرطي مرة أخرى مع مشاعر الفقد والوحدة التي لم تكن قد غادرته بعد. بعد عام تعود فايا إلى هونج كونج وتذهب إلى المطعم لتجد الشرطي 663 يعيد ترميمه وتعرف منه أن عمها/ مُدير المطعم قد باعه له، وأنه سيعيد افتتاحه. يحاول الشرطي أن يعيد المشاعر بينهما، لكنها تخبره بأنها ليس لديها الوقت؛ لأنها ستسافر مرة أخرى سريعا.

المصور الاسترالي كريستوفر دويل

إن الفيلم الصيني ChungKing Express للمُخرج وونج كار واي من الأفلام المُهمة التي ستدفعك إلى مُشاهدتها مرات ومرات، هو فيلم إما أن تقع في عشقه للوهلة الأولى، أو تلفظه منذ بدايته؛ فهو لا يحتمل أي حالة وسط بين الحالتين. هو من الأفلام التي لا يعنيها مسار الحكاية أو السيناريو التقليدي، بل هو فيلم يهتم بالنوع والأسلوبية، وبصناعة السينما أكثر مما يهتم بالروايات أو الأشكال التقليدية لصناعة السينما؛ لذلك فليس ثمة حكاية فيه، صحيح أننا نشاهد العديد من الحكايات غير المُكتملة التي لا يغلقها المُخرج، لكن هذه الحكايات كلها تسير كل واحدة منها في اتجاه يخصها من دون وجود أي رابط بينها، ومن دون الكثير من التقاطعات بينها، وإن كانت كل الحكايات تعبر عن رؤية المُخرج التي يرغب في التعبير عنها، وهي الشعور بالضآلة، والوحدة القاسية، والحاجة الماسة للتواصل الإنساني والمشاعر، والعزلة الشديدة في مدينة صاخبة مُزدحمة مثل مدينة هونج كونج. إنه يرغب في التعبير عن قسوة المُدن الكبرى، الإفاضة في قسوة مشاعر الهجر والحاجة للحبيب، وصف الحالة الإنسانية التي وصلنا إليها فبتنا جميعا كمجموعة من الجزر المُنعزلة التي لا تعرف شيئا عن بعضها البعض رغم تلاقيها وتقاطعها طوال الوقت! إنه يرغب في القول اليقيني بأنه: بطريقة ما، كل شيء ينتهي بنهاية صلاحيته، ولأن المشاعر الإنسانية، وعلاقات الحب والزواج قد باتت لها صلاحيات؛ فلا بد لها أن تنتهي في لحظة مُعينة؛ ولقد خسر الجميع علاقاتهم ومشاعرهم لانتهاء صلاحيتها.

الممثلة التايوانية برجيت لين

إلا أن الفيلم ما كان له أن يكتسب هذه الفنية والأسلوبية العالية من دون التعاون مع المصور الأسترالي كريستوفر دويل Christopher Doyle الذي يدرك جيدا ما يرغب المُخرج في تقديمه؛ ليصوره كيفما شاء وبإتقان شديد؛ ومن ثم كان التصوير في الفيلم من أهم عوامل نجاحه، حيث شاهدنا الكثير من المشاهد واللقطات التي لا يمكن لها الزوال من الذهن حتى بعد مرور فترة طويلة على مُشاهدته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأربعاء، 19 يونيو 2024

سُعداء معا: ثمة ذكرى حزينة هنا!

لم لا نبدأ من جديد؟

إنها الجملة المحورية التي تُلخص محتوى فيلم المُخرج والسيناريست الصيني Wong Kar- Way وونج كار واي Happy Together سعداء معا. هي جملة تحمل في باطنها الكثير من الإغواء، والأكثر من الرغبة في بث الطمأنينة والاستمرارية، والتأكيد على الحب، والمشاعر، والتشبث بالعلاقة للنهاية، وإن كانت في حقيقتها مُدمرة لطرفي هذه العلاقة المُضطربة التي سُرعان ما تنقطع مرة أخرى، ليعود أحد الطرفين بعد فترة قائلا للطرف الآخر مرارا: لم لا نبدأ من جديد؟ ومن ثم تعود الدائرة المُغلقة إلى إحكامها عليهما، وكأنها دائرة سيزيفية لا هدف من ورائها سوى تدمير كل من الطرفين!

يحرص المُخرج مُنذ مشهده الأول على هذه الجملة المحورية التي تحمل دلالة وفحوى الفيلم؛ وبالتالي فهو من خلال التأكيد عليها يختصر فلسفة فيلمه سواء على المستوى الإنساني، أو حتى المستوى السياسي الذي أشار إليه من بعيد من خلال التلميحات، وإن لم يركز عليه وكأنه لا يعنيه مُطلقا، بل كان تركيزه في المقام الأول على تأمل المشاعر والعلاقات الإنسانية المُضطربة وما يمكن أن تفعله بأصحابها؛ لذلك يقول لاي يو فاي- قام بدوره المُمثل Tony Leung توني ليونج- من خلال السرد التسجيلي/ المونولوج الداخلي، وهو الأسلوب الأثير للمُخرج في جل أفلامه: هو بو وينج- قام بدوره المُمثل الصيني الأصل الكندي الجنسية Leslie Cheung ليزلي تشيونج- دائما ما يقول: لم لا نبدأ من جديد، وهو الأمر الذي أنساق إليه في كل مرة؛ فنبقى معا لفترة من الوقت لكننا ننفصل كثيرا، إلا أنه كلما قال: لم لا نبدأ من جديد أجد نفسي معه مرة أخرى؛ لذلك غادرنا هونج كونج لنبدأ من جديد، أخذنا الطريق وانتهى بنا الأمر في الأرجنتين.

إذن، فنحن أمام علاقة مُضطربة مُنذ المشهد الأول في الفيلم، علاقة تتحدث عن رجلين يجمعهما العشق الذي يجعلهما غير قادرين على الحياة بعيدا عن بعضهما البعض، لكنهما في ذات الوقت غير قادرين على الحياة معا، فالحياة تعيسة في كلا الحالتين، يشوبها الكثير من الحزن! أي أن اقترابهما أو ابتعادهما يُدمر كليهما طوال الوقت مُسببا لكل منهما الكثير من الآلام، والاشتياق، والشعور بالفقد والخسارة، وهو الأمر الذي يجعل وجود كل منهما في حياة الآخر مُجرد جحيم لا يمكن الاستغناء عنه، أو حتى التوافق معه!

لسنا هنا أمام فيلم عن المثلية الجنسية، كما أن المُخرج لا يتخذ من هذه العلاقة أي موقف أخلاقي لا بالسلب ولا بالإيجاب، بل هو فيلم يتأمل في العلاقات والمشاعر الإنسانية وتحولاتها، وتقلباتها، واستحالتها إلى سراب في جل الأوقات ليتحول الحب في النهاية إلى هباء لم يكن موجودا من قبل، أي أن المُخرج الصيني Wong Kar- Way وونج كار واي لم يخن عالمه الأثير الذي يدور في فلكه دائما، ولم يتخل عن مُشاهده المهووس بما يصنعه من سينما مُختلفة عن المشاعر وعالمها المُتقلب والقاسي، والفاقدة لصلاحيتها في مُعظم الأحيان، بل قدم إليه فيلما أكثر عمقا وتأملا كأفلامه السابقة. فيلم يتأمل بعمق جاعلا إيانا، كمُشاهدين، نُعيد النظر في الكثير من المشاعر التي نشعر بها أحيانا مُعتقدين أنها صادقة وحقيقية، في حين أن الواقع والتجربة يؤكدان لنا بيقين زيف هذه المشاعر، وتوهمنا بها، حتى أنها من المُمكن لها في نهاية الأمر أن تُحيل حيواتنا إلى جحيم حقيقي على الأرض! أي أننا أمام فيلم يضع أيدينا على أهمية الإدراك العاطفي، والنضج في المشاعر، والوصول إلى حقيقة جوهر العلاقات العاطفية التي قد تكون مُدمرة رغم وجود المشاعر الصادقة التي لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال الاستغناء عنها، لكنها رغم صدقها من المُمكن لها أن تقضي على كلا الطرفين!


باستثناء اللقطة الأولى التي نرى فيها شرطيا يفحص جوازات السفر في مطار الأرجنتين- وهي اللقطة التي كانت بالألوان- سنُلاحظ أن المُخرج كان حريصا على التصوير من بعدها باللونين الأسود والأبيض لمُدة 23 دقيقة كاملة من زمن الفيلم، وهي الفترة التي تعرفنا فيها على العلاقة بين كل من "هو"، ولاي، أي أن المُخرج، هنا، حريص كل الحرص على إيجاد العلاقة البصرية بين الشكل والمضمون؛ فإذا ما كانت الـ23 دقيقة الأولى هي الفترة التي تعرفنا فيها كجمهور على هذه العلاقة التي تُعد من الماضي، فلقد حرص المُخرج على اللونين الحياديين في هذه الدقائق، وحينما عاد العاشقان إلى بعضهما البعض في بيونس إيرس/ اللحظة الآنية عاد المُخرج إلى التصوير بالألوان، بل وزاد في الأمر أن ألوانه كانت زاهية مُشبعة تماما كتدليل منه على سعادتما المُفترضة حينما عادا مرة أخرى، وهو ما رأيناه حينما قال هو- بعد إصابته من جراء الضرب المبرح وإنقاذ لاي له بأخذه إلى المشفى لعلاجه: لم لا نبدأ من جديد؟ هنا نرى لاي جالسا بجواره صامتا غير قادر على الرفض لتتحول كادرات الفيلم بعد هذا المشهد مُباشرة إلى الألوان الزاهية المُشبعة تماما.


هذه العلاقة البصرية بين الشكل والمضمون، والتي يحرص عليها المُخرج في كل أفلامه يعود الفضل فيها لتعاونه الدائم مع مصوره المُفضل، المصور الاسترالي Christopher Doyle كريستوفر دويل، وهو الشريك الأساس للمُخرج في صناعة سينما مُختلفة حتى أننا نستطيع القول: بأن كريستوفر دويل لا يقل أهمية عن المُخرج في صناعة أفلامه، أو بأن أفلام كار واي ستفقد قدرا غير قليل من فنيتها وأسلوبيتها التأثيرية مع غياب دويل عن أفلامه؛ نظرا لوجود هارمونية أسلوبية مُميزة تربطهما معا، أدت بهما إلى تقديم العديد من الأفلام التي لا يمكن صناعتها إلا من خلال اشتراكهما معا، لا سيما إيثار التصوير بالكاميرا المحمولة بما لها من مُؤثرات خاصة، وعرض اللقطات بشكل مُفرط في السرعة، أو البطء، وما لجأ إليه في هذا الفيلم من عكس إطار الصورة رأسا على عقب، وغير ذلك من الأسلوبية التصويرية التي يتميز بها دويل، والقادر على الإبداع فيها مع وونج كار واي.

علنا نلاحظ أن وونج كار واي في هذا الفيلم لم يخرج عن عالمه الأثير الدائر فيه، والحريص على تقديم العديد من التنويعات المُختلفة عليه في كل فيلم جديد يصنعه، وإذا كنا قد سبق لنا أن رأينا في أفلامه السابقة اهتمامه البيّن بالوقت، حتى أنه يصح لنا القول: إنه مهووس بالوقت هوس مرضي، خائف من تأثيره الدائم على الأشياء، والبشر، والمشاعر نظرا لقدرته العارمة على سحق كل شيء؛ فهو ما رأيناه أيضا في هذا الفيلم غير مرة حينما عرض لنا في أحد المشاهد كادرا يتحرك بسرعة فائقة مُستعرضا من خلاله أحد ميادين العاصمة الأرجنتينية/ بيونس إيرس في الليل بينما تبدو حركة السيارات بسرعة كبيرة، وقد بدا في أحد زوايا الكادر إحدى الساعات الضوئية العملاقة التي تنقلب أرقامها بسرعة لافتة في دلالة منه على أن الوقت يسحق كل شيء بمروره، كما رأينا تركيز الكاميرا عدة مرات على الساعات وحركة العقارب الدالة على رمزية الوقت في هذا العالم الذي يقدمه، كما لا يفوتنا حرصه الدائم على التركيز على مشاعر الحب، والخسارة، والشوق، والفراق، ولمّ الشمل، ومحاولات البدء دائما من جديد، والإدمان العاطفي الذي كثيرا ما يميز العلاقات العاطفية حتى أن كلا الطرفين أو أحدهما يكون غير قادر على التخلص منها بأي وسيلة أيا كانت بسبب هذا الإدمان المُسيطر على أحد طرفي العلاقة أو كليهما معا، كذلك شعور الفرد الدائم بالضياع في العالم سواء بسبب العلاقات العاطفية المُبتسرة، أو الخذلان من أحد الطرفين، أو الشعور بالوحدة العميقة في المُدن الكبرى التي تقضي على الإنسان والتي كثيرا ما تشعره بالضآلة وكأنه هباء وسط الملايين من الآخرين من البشر بسبب افتقاد التواصل، فضلا عن عشقه للتصوير الليلي، وغير ذلك من المُفردات التي تميز عالم المُخرج.


إذن، فالمُخرج هنا حريص على عالمه الذي يعمل على تعميق مفهومه كلما انتقل بنا من فيلم إلى آخر، ورغم أن الفيلم الذي نتحدث عنه إنما ينبني على علاقة مثلية بين رجلين إلا أن المُخرج لم يهتم مُطلقا بالعلاقة المثلية التي تربطهما بقدر اهتمامه بالمشاعر وأثرها على كل منهما في الحياة، وما يمكن أن تؤدي بهما هذه المشاعر، التي تمتلكهما، بكل منهما في نهاية الأمر، كما لا يفوتنا أن كار واي- كما هو الحال في جل أفلامه- لا يهتم بوجود حكاية بالمعنى الكلاسيكي للفيلم الذي يقدمه، بل هو يكفيه مقطع من حياة لا ماضي لها أو بداية، ولا حتى نهاية، بل يعنيه في المقام الأول تأمل الحالة التي يكون عليها أبطاله، ومشاعرهم، وتفكيرهم، وردود أفعالهم، ولتذهب الحكاية بمفهومها الكلاسيكي التي يهتم بها المُشاهد العادي إلى الجحيم؛ فالأهم لديه هو الأسلوبية وصناعة السينما فقط، وبالتالي فالمُشاهد لديه يكاد يكون غير موجود لديه، أو غير مُهتم به، أي أنه لا يعني له شيئا جوهريا!

يبدأ كار واي فيلمه على كل من "هو"، ولاي، بينما يتبادلان عشقهما المُلتهب، ثم طلب "هو" من حبيبه بأن يبدآ من جديد، وهو ما يجعلهما ينتقلان من هونج كونج إلى الأرجنتين ظنا منهما أن تغيير المكان سيجعل العلاقة أكثر حيوية ونجاحا، ودفئا، وهناك يحاولان الوصول إلى شلالات إجوازو الساحرة للتمتع بمنظرها الخلاب، لكنهما يضلا الطريق ويبدآن في العديد من المُشاحنات التي تنتهي بافتراقهما مُجددا، وهو ما يُعلق عليه لاي بحزن: لم أعرف قط أين كنا في ذلك اليوم، مُجرد أنه قال: إن التواجد معي شيء مُمل ولا بد لنا من أخذ قسط من الراحة؛ فقد نبدأ من جديد في يوم ما، فالبدء من جديد يعني أشياء مُختلفة بالنسبة له!

إذن، فنحن هنا أمام أحد الأطراف المُتحكم في العلاقة تحكما كاملا، وهو القادر على إنهائها وقتما شاء، وإعادتها مرة أخرى حينما يرغب في ذلك؛ نظرا للتعلق المرضي، والإدمان العاطفي الذي يشعر به لاي تجاه "هو"؛ الأمر الذي يساعده دائما على التلاعب بحبيبه والابتعاد عنه في أي وقت يرغب فيه في ذلك، بل ومُعاشرة غيره من الرجال، لكنه سُرعان ما يشتاق إليه عائدا كي يطلب منه البدء من جديد!


إن هذا الشكل من أشكال العلاقات العاطفية المُفرطة في ضررها هو في حقيقته علاقة مُدمرة لكلا الطرفين، وليس للاي فقط، ورغم أن لاي هو الذي يشعر بالمُعاناة الأكبر من جراء ما يحدث، إلا أن "هو" يشعر كذلك بالوحدة والخسران كلما أنهى العلاقة؛ ومن ثم يعود بشوق أكبر إليه.

بعد افتراقهما مرة أخرى يستقر لاي في بيونس إيرس ليعمل كبواب لأحد بارات التانجو؛ محاولا توفير أكبر قدر من المال كي يعود مرة أخرى إلى هونج كونج نظرا لأن "هو" كان قد أنفق كل ما كانا يدخرانه من أموال، لكن، دائما ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السُفن، وهو ما حدث ذات ليلة حينما لاحظ لاي "هو" هابطا من إحدى السيارات، مُرافقا لأحد الرجال ليدخلا البار الذي يعمل بوابا فيه!

يتأكد لاي أن "هو" قد عمل كعاهرة تُضاجع من يقابلها من الرجال من أجل توفير المال، ولعل المُخرج، هنا، كان حريصا على إيضاح الفارق بين شخصية كل منهما، فلاي- الذي يتخذ الشكل الإيجابي في العلاقة الجنسية، أي دور الرجل- كان مسؤولا في كل أفعاله، بل كان مسؤولا حقيقيا عن "هو" حينما كان معه، وهو ما جعله يعمل كبواب في نهاية الأمر من أجل توفير المال والعودة إلى هونج كونج، بينما كان "هو"- الذي يتخذ الشكل السلبي في العلاقة الجنسية، أي دور الأنثى- شديد الاتكالية، والإسراف، والتلاعب، والمراوغة، وعدم الاكتراث بمشاعر رفيقه، وهو ما جعله يعمل كعاهرة حينما انفصلا من أجل توفير المال.

بمُجرد رؤية لاي "لهو" أثناء دخوله البار مع رفيقه، يحاول التخفي، وتجاهل رؤيته قائلا في لغة سردية ذاتية: برؤيته مرة أخرى لم أرغب في البدء من جديد، مُجرد إني رغبت في العودة إلى هونج كونج.


لكن، هل كان لاي صادقا مع نفسه حينما قال هذا الكلام مع رؤيته "لهو"؟

إن الأحداث التي تلت هذا المشهد تُدلل نفي صدقه فيما قاله لنفسه/ لنا كجمهور؛ حتى أن لاي في المشهد نفسه قد حرص على التلصص من خلال نافذة البار الزجاجية لرؤية "هو" اللاهي مع عشيقه الذي اصطاده هذه الليلة! أي أنه غير قادر على اتخاذ قرار الابتعاد الكامل، ورغم مرور العديد من الشهور الطويلة على فراقهما، إلا أنه بمُجرد ظهور "هو" أمامه؛ لم يستطع لاي منع مشاعره من التدفق مرة أخرى، ومُراقبة حبيبه السابق.

إنه التعلق المرضي الذي يجعل صاحبه بلا إرادة تماما أمام من يعشقه، ومهما كانت أخطاء وإساءات الطرف الآخر، وهو الطرف الذي قد يستغل هذا الإدمان العاطفي لصالحه طوال الوقت؛ ومن ثم يبدأ في التلاعب مرة أخرى.

يتجه لاي إلى الإفراط في تناول الكحول ليحافظ على قراره بعدم العودة إلى "هو"، لكن "هو" يبدأ في تلاعبه مرة أخرى، راغبا في عودة العلاقة بينهما، فيعرف عنوان سكن لاي، بل ورقم هاتفه ويتصل به؛ الأمر الذي يجعل لاي مُنفعلا انفعالا شديدا، ليذهب إلى "هو" في فندقه وهو في حالة سُكر شديد طالبا منه الابتعاد عنه، وعدم السعي خلفه مرة أخرى؛ لأنه لا يرغب في العودة إليه، بل ويخبره بأنه قد ندم كثيرا على علاقتهما السابقة.


إلا أن "هو" لا يلتزم بما أخبره به لاي، ويذهب إليه في البار ليعطيه ساعة ثمينة، طالبا منه بيعها إذا لم يكن يريدها من أجل توفير المزيد من المال للعودة إلى هونج كونج. لكن يبدو أن عشيق "هو" قد عرف بأمر اختفاء الساعة؛ الأمر الذي جعله يتعرض للكثير من الضرب المبرّح؛ فيذهب إلى منزل لاي نازفا وقد تحطمت كفيه.

هنا لا يستطيع لاي التخلي عنه، بل يأخذه إلى المشفى محاولا إنقاذه، فيتم تجبير كفيه، وإنقاذه، ليقول "هو" للاي وهو في حالة شديدة من الوهن: لم لا نبدأ من جديد؟ هنا يجلس لاي إلى جواره صامتا، كدليل على ضعفه أمامه، وقبوله للبدء من جديد.

بمُجرد ما ينتقل المُخرج إلى المشهد التالي يبدأ تصويره لباقي أحداث الفيلم بالألوان المُشبعة الزاهية مُدللا في ذلك على انتقاله إلى الزمن الآني من جهة- اللجوء إلى الألوان- وعلى عودة الحيوية وما يُفترض أنه سعادة للعشيقين من جهة أخرى- الألوان المُشبعة الزاهية- ولعل واي كار كان حريصا على بيان مدى عشق لاي لحبيبه، ومسؤوليته الكاملة مُنذ هذا المشهد؛ فنراهما في التاكسي عائدين من المشفى بينما لاي يُدخن سيجارته، وسُرعان ما يلتفت إلى "هو" ليضع له السيجارة بين شفتيه؛ نظرا لعجزه عن فعل أي شيء بسبب كفيه المُحطمتين، أي أنه يبدأ في رعايته رعاية كاملة، وهو ما سيتضح لنا في العديد من المشاهد التالية حيث يقوم لاي بطهو الطعام، ومُساعدة "هو" في الأكل بوضع الطعام له في فمه، كما يحرص على تحميمه وتنظيفه جيدا، وتدليك جسده، وتغيير ملابسه، وحينما يوقظه "هو" من النوم سائلا إياه عن سجائر في مُنتصف الليل يضطر إلى الهبوط، رغم البرد القارس، إلى الشارع لشراء السجائر له، وحينما يًصاب لاي بالحمى نتيجة خروجه في البرد الشديد ذات ليلة مع "هو" الذي يصرّ على ذلك، ورغم درجة حرارته المُرتفعة وتدثره بالعديد من الأغطية وارتعاشه إلا أنه حينما يطلب منه "هو" أن يقوم كي يطهو له الطعام لأنه يشعر بالجوع الشديد؛ يثور عليه غاضبا، لكنه لا يستطيع الامتناع عن القيام مُتدثرا بالأغطية من أجل أن يطهو له، كما نراه غير مرة يهاتفه من عمله للاطمئنان عليه والتأكد من تناوله لطعامه! أي أن لاي كان شخصا شديد المسؤولية تجاه علاقته بحبيبه، بل شديد الصدق في المشاعر التي يشعر بها تجاهه، رغم عبثية "هو" في العلاقة، وتلاعبه بلاي!

حينما يعود الحبيبان إلى منزل لاي بعد خروجهما من المشفى يحرص لاي على عدم عودة العلاقة الجسدية بينهما، وإن كان يشعر بالكثير من السعادة لوجود "هو" معه في نفس المكان، وهو ما نلحظه حينما يقول لاي في مشهد مُتقدم بعد شفاء "هو": شيء واحد لم أخبر "هو" به مُطلقا، إني لم أكن أريده أن يتعافى بسرعة؛ فلقد كانت تلك أسعد أيامنا. ولعلنا لاحظنا أن كار واي حينما قال لاي هذه الجملة كان حريصا على أن ينقل مجموعة من المشاهد/ الفوتومونتاج على الشاشة بالأبيض والأسود باعتبار أن وجودهما مع بعضهما البعض كان في الماضي، وسُرعان ما يعود للتصوير بالألوان مرة أخرى.


يُصرّ لاي على أن ينام "هو" على الفراش وحده، بينما ينفرد هو بالأريكة كفراش له، ورغم أن "هو" حاول كثيرا أن ينام معه في نفس الفراش، إلا أن لاي كان يرفض عودة العلاقة الجسدية بينهما تخوفا مما قد يحدث فيما بعد، لا سيما أنه على يقين بأنه سيستسلم له تماما، وربما تعود الخسارة والخذلان مرة أخرى بالمزيد من الفقد والألم الذي لا طاقة له بالمزيد منهما، لكننا سنُلاحظ أنه سيحتفظ بجواز سفر "هو" ويخفيه عنه، ربما كي لا يتركه مرة أخرى.

تبدأ العلاقة بين العشيقين في العودة إلى مجراها الطبيعي مرة أخرى، وهو الأمر الذي يجعل لاي شاعرا بالكثير من الغيرة على "هو" بسبب علاقاته المُتعددة التي مرّ بها أثناء انفصالهما، فيبدأ في سؤاله عن العلاقات السابقة التي مرّ بها "هو"، الذي يمتنع عن أن يخبره بها، ويكتفي بأن يقول له: بأنه قد عرف الكثير من الرجال. هذه الغيرة تجعل لاي يضرب عشيق "هو" السابق بزجاجة الكحول انتقاما منه وغيرة حينما يراه يدخل البار الذي يعمل فيه ذات ليلة؛ الأمر الذي يجعلهم يطردونه من العمل.

يُلاحظ لاي أن "هو" قد بدأ في الخروج من المنزل حينما يكون خارجه، وهو الأمر الذي يشعره بالغيرة الشديدة وتثور داخله الكثير من الشكوك، بأن "هو" لديه عشيق ما يخرج للقياه، وحينما يدخل ذات مرة من الخارج يسأله لاي عن المكان الذي كان فيه، وعن السبب في خروجه؛ فيخبره "هو" بأنه قد خرج من أجل شراء السجائر؛ الأمر الذي يجعل لاي يأتي في الليلة التالية بعدد ضخم من علب السجائر، وحينما يسأله "هو" عن السبب في شراء كل هذا العدد الضخم، يرد عليه لاي: لإنقاذك من الاضطرار للخروج من أجلهم ليلا. مما يجعل "هو" يثور عليه غاضبا لأنه يتعامل معه بهذه الطريقة، لكن "هو" يعود للخروج الليلي مرة أخرى؛ الأمر الذي يوتر العلاقة بينهما ويحيلها إلى شكل من أشكال الجحيم بسبب الغيرة الشديدة والشعور بالتشكك الدائم في وجود شريك ثالث بينهما.

ينتقل لاي للعمل في مطبخ أحد المحلات، ويحاول دائما الاطمئنان على "هو" أثناء تواجده في العمل، لكنه يلاحظ أن "هو" يعبث في أشيائه الشخصية أثناء غيابه باحثا عن جواز سفره؛ الأمر الذي يعني رغبته في هجر لاي مرة أخرى بعدما عادت الأمور بينهما إلى طبيعتها، وبعدما تم شفائه تماما من إصابته، وحينما يحذره لاي من العبث في أشيائه مرة أخرى يتشابكا بالأيدي وسُرعان ما يعودان إلى انسجامهما.


لكن "هو" يطلب جواز سفره من لاي الذي ينكر أنه قد رآه، حينها يثور عليه "هو" ليتركه وحيدا بعدما يشتبكا بالأيدي ويهجره مرة أخرى. يتعارف لاي على تشانج في المطبخ الذي يعمل فيه- قام بدوره المُمثل التايواني Chang Chen تشانج تشن- ويعرف أنه من تايوان، وأنه قد أتى إلى الأرجنتين راغبا في التجول حول العالم بعيدا عن أسرته، كما يرغب في الذهاب لرؤية شلالات إجوازو الساحرة قبل ترك الأرجنتين إلى مكان آخر. تنعقد صداقة عميقة بين كل من لاي وتشانج بعد هجر "هو" له، ولعل المُخرج هنا كان حريصا على التعبير عما يحدث لنا عندما ننفصل عن الأشخاص الذين نحبهم من خلال لاي المُنكسر، الشاعر بالحزن العميق الذي لا يمكن له أن ينتهي مهما حاول من حوله مُساعدته أو إخراجه منه، ولعل محاولات تشانج الدائمة في التسرية عن صديقه باءت جميعها بالفشل؛ نظرا للشعور الشديد بالفقد الذي يشعره لاي، والذي كان بمثابة مرجل يعذبه طوال الوقت.

يبدأ تشانج في الخروج مع صديقه لاي لتناول الكحول الذي كان يتناوله لاي بإفراط لتناسي ما يعيش فيه من عذاب نفسي؛ الأمر الذي كان يجعله يتقيأ دائما، وذات مرة يُلاحظ أن تشانج يضع رأسه على المنضدة في البار؛ فيخبره بأنه لا بد له أن يعود إلى البيت لينام، لكن تشانج يؤكد له بأنه لا رغبة له في النوم قائلا: أنا أستمع إلى هؤلاء الرجال الذين يتحدثون. فيرد لاي مُندهشا: من كل هذه المسافة؟! ليقول تشانج: لست مُتأكدا عما يتحدثون، لكنهم سيتقاتلون. وبالفعل يقوم قتال عنيف بين مجموعة من الرجال في البار فجأة؛ ليقول له لاي: لديك سمع جيد بالفعل. ليرد تشانج ببساطة: إنها عادتي، عندما كنت صغيرا كانت لدي مُشكلة في عينيّ، لم أكن أرى جيدا؛ لذلك كنت أستمع، تم تصحيح بصري، لكني لم أفقد عادة الاستماع قط، أعتقد، أحيانا، أن الأذنين أكثر أهمية، أنت ترى جيدا بأذنيك، من المُمكن لك التظاهر بأنك سعيد، لكن صوتك سيكشف الحقيقة، إذا سمعت عن كثب ستفهم. يرد عليه لاي ساخرا: حقا؟ فيقول تشانج: مثل صوتك الآن الذي يُظهر بأنك غير سعيد.

إن هذا الحديث بين كل من تشانج ولاي عن أهمية السمع في حياة تشانج يُفسر لنا مشهدا سابقا في المطبخ الذي يعملان فيه حينما تأتي إحدى النساء العاملات معهما لتعرض على تشانج الخروج معها إلى السينما، لكنه يرفض بلطف، وحينما يسأله لاي عن السبب في رفضه يرد عليه: لا أحب صوتها، أحب في أصوات النساء أن تكون عميقة ومُنخفضة، ما أعنيه تلك الأصوات التي تجعل قلبي ينبض بسرعة.


يخبر تشانج صديقه لاي بأنه سيغادر الأرجنتين قريبا مُتجها إلى أقصى الجنوب الأمريكي الذي يطلقون عليه نهاية العالم؛ فيقول له لاي: ثمة منارة هناك يذهب إليها الناس المفجوعون ويتركون تعاساتهم هناك. فيؤكد عليه تشانج بأنه سيذهب إلى هذه المنارة لرؤيتها.

ربما لا بد لنا هنا من التوقف هنيهة أمام هذه العبارة التي قالها لاي لتشانج عن المنارة التي في أقصى جنوب أمريكا/ نهاية العالم كما يطلقون عليها؛ نظرا لأهمية الجملة في سياق العالم السينمائي الذي يقدمه لنا وونج كار واي، والحريص دائما على ربط أفلامه المُتتالية ببعضها البعض من خلال وجود عناصر ومُفردات مُشتركة بين هذه الأفلام باعتبارها تُعبر عن عالم واحد لا يمكن له الانفصال مهما تعددت الأفلام، فإذا كان الفيلم الذي نتحدث عنه الآن من إنتاج 1997م، وفيلم 2046 من إنتاج 2004م فإننا سنُلاحظ في فيلم 2046 نفس الفكرة تقريبا مع العمل على تطويرها، أي أن الذهاب إلى الفنارة التي في نهاية العالم من أجل ترك الذكريات الحزينة عندها سيتطور في فيلم 2046 ليتحول إلى أن الناس قديما حينما كانوا يرغبون في أن يخفوا أسرارهم التي لا يريدون للآخرين أن يعرفونها، كانوا يصعدون إلى قمة الجبل حيث الأشجار، ويحفرون حفرة في الشجرة؛ حيث يهمسون إليها بأسرارهم وكأنهم يتخففون منها أو يدفنونها، ثم يغطون هذه الحفرة بالطين، وبهذه الطريقة يكونون قد دفنوا أسراراهم التي لن يعرفها غيرهم. أي أن المُخرج قادر دائما على ربط عالمه من خلال أفلامه المُختلفة التي يقوم بصناعتها حتى أنها تكاد أن تكون مجموعة من الحلقات التي ترتبط ببعضها البعض، والتي يمكن رؤيتها مُسلسلة أو مُنفردة، لكنها في النهاية تُشكل عالما واحدا مُتصلا لا يمكن لأي منها الانفصال عنه.


حينما يستعد تشانج للرحيل يعانقه لاي ليقول من خلال السرد: هل كان ذلك لأننا أصبحنا قريبين؟ عندما احتضنته، كل ما استطعت سماعه هو دقات قلبي، هل سمعها أيضا؟ ورغم أن تشانج لم يكن مثليا إلا أن لاي شعر تجاهه بشعور ما حينما ودعه قبل سفره.

يشعر لاي بالكثير من الوحدة القاسية حينما يسافر صديقه؛ لذا يبدأ في اصطياد الرجال من الشوارع ومُمارسة الجنس معهم في المراحيض القذرة مُستبعدا أن يقابل "هو" في هذه الأماكن، لكنه كان يؤكد بينه وبين نفسه: تبيّن لي أن الأشخاص الوحيدين يشعرون بنفس الشعور. أي أنهم يبحثون عن التواصل الإنساني بأي شكل من الأشكال حتى لو كان من خلال اصطياد الآخرين من الطرقات.

ينتقل لاي للعمل في أحد المسالخ لزيادة دخله ورغبته في العودة إلى هونج كونج قائلا من خلال السرد: لزيادة الدخل بدأت العمل في مسلخ، يدفعون فيه أكثر بكثير، والساعات تناسبني بشكل جيد، أعمل طوال الليل، وأنام كل النهار، لقد عدت لتوقيت هونج كونج.

نُلاحظ هنا من خلال القطع المونتاجي المتوازي Cross Cutting أن المُخرج يحرص على القطع بين حياة لاي الوحيد، وحياة "هو" الوحيد بدوره، فبينما يحاول لاي الادخار قدر جهده من أجل العودة إلى هونج كونج، نشاهد "هو" يحاول البحث عنه من أجل العودة إليه مرة أخرى، وحينما لا يجده في منزله الذي كان يقيم فيه؛ يقوم باستئجار الغرفة مُجترا ذكرياته مع حبيبه السابق حينما كان يقوم بتمريضه، وتذكر الأحداث الجميلة التي مرت بينهما فيها إلى أن نراه مُنهارا باكيا بسبب الشوق الشديد للاي، وحينما يحاول الاتصال بلاي ذات مرة يرفض لاي الرد عليه خوفا من الاستسلام له مرة أخرى، ولرغبته في العودة إلى هونج كونج ونسيان كل ما كان بينهما من آلام وتعاسة سببها له "هو".


يصل تشانج إلى نهاية العالم بالفعل، وفي طريق عودته إلى هونج كونج يعود مرة أخرى إلى بيونس إيرس من أجل توديع لاي، لكنه لا يجده، بينما يذهب لاي إلى تايوان في طريق عودته إلى هونج كونج من أجل البحث عن أسرة تشانج/ صديقه الذي ترك داخله الكثير من الأثر ومشاعر الصداقة النبيلة، وبالفعل يصل إلى مطعم أسرة تشانج، حيث يتناول وجبته هناك، مُؤكدا لنفسه أن تشانج كان على صواب حينما رغب في السفر حول العالم وحده؛ حيث كان مُطمئنا دائما إلى وجود أسرة ومكان من المُمكن أن يعود إليهما في أي وقت شاء.

ربما كان الفيلم الصيني Happy Together سُعداء معا من الأفلام المُهمة للمُخرج وونج كار واي في تأمل المشاعر وأثرها على حيواتنا جميعا سواء بالتعاسة- وهو الأمر الغالب- أم بالسعادة- وهو الأمر النادر- كما تؤكدها فلسفة المُخرج في عالمه الذي يؤكد بأن المشاعر لها فترة صلاحية لا بد لها من الانتهاء عندها، ورغم أن الفيلم يتحدث عن علاقة مثلية بين رجلين إلا أننا لاحظنا بأن المُخرج لم تعنه هذه العلاقة المثلية بقدر ما كان اهتمامه مُنصبا في المقام الأول على المشاعر وأثرها علينا، صحيح أن ثمة رموز ذكورية مثلية رأيناها في الفيلم مثل زيارة المنارة في أقصى جنوب العالم والتي تُمثل رمزا جنسيا للقضيب الذكري، كما لا ننسى مشهد كل من "هو" ولاي حينما رأيناهما يقفان متواجهان تماما بينما تتدلى من شفاهما السجائر كرمز للقضيب أيضا في مواجهة قضيب آخر، بل وإشعال "هو" سيجارته من سيجارة لاي كرمز لتلامس قضيبين ذكوريين. نقول: رغم هذه الرموز الجنسية المثلية إلا أن المُخرج لم يهتم مُطلقا بالعلاقة الجنسية كعلاقة مثلية في حد ذاتها، بل كان اهتمامه على العلاقات وأثرها على الإنسان.

لكن، هل كان وونج كار واي يقصد بالفعل هذه العلاقة المثلية التي قدمها على طول فيلمه؟

المُخرج الصيني وونج كار واي

من المُمكن لنا تأويل هذه العلاقة المثلية من منحى سياسي بحت، وهو المنحى الذي لم يحاول المُخرج الإشارة إليه بشكل مُباشر وإن كان يعنيه في حقيقة الأمر، مُشيرا إليه من بعيد حتى لا يتورط في المُباشرة السياسية التي قد تقضي على فنية فيلمه؛ فحينما اختار المُخرج الأرجنتين كبديل لهونج كونج- مدينته الأثيرة في جل أفلامه- كان يعني بها تلك المدينة التي من المُمكن الهجرة إليها في حالة إذا ما انضمت هونج كونج إلى الصين، ولعلنا لاحظنا ذلك في قول لاي: هونج كونج والأرجنتين على طرفي نقيض من العالم.

كما أن العلاقة المثلية في جوهرها إنما تُمثل العلاقة السياسية بين هونج كونج والصين، فهي علاقة متوترة طوال الوقت، يشوبها الكثير من الخلاف ثم سيادة السلام بينهما، وهو السلام الذي لا يستمر طويلا ليعود إلى الخلاف مرة أخرى، أي أن الجملة المحورية: لم لا نبدأ من جديد، لم تكن في جوهرها تُعبر عن علاقة كل من لاي و"هو" بقدر ما كانت تُعبر عن العلاقة بين الصين وهونج كونج، ولعل الدليل على ذلك أن لاي حينما وصل إلى تايبيه/ عاصمة تايوان في 20 فبراير 1997م- وهو ما حرص المُخرج على تحديده- رأى على شاشة تلفاز الفندق في نشرة الأخبار المذيعة التي تقول: توفي الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ الليلة الماضية في أحد مُستشفيات بكين عن عمر 93 عاما، وقد جاء هذا الإعلان في وقت مُبكر من صباح اليوم من قبل تليفزيون جمهورية الصين الشعبية المركزي.

إن هذا المشهد الذي حرص المُخرج على زجه بين طيات أحداث فيلمه له من الدلالات ما لا يمكن تجاهلها، وهو ما يحيل تفسير الفيلم إلى شكل آخر مُختلف تماما عما سبق أن ذهبنا إليه- وهذا هو المعنى الجوهري في الفن الذي يحتمل العديد من التأويلات التي قد تنفي كل ما ذهبنا إليه- مما قد يعني أن العلاقة الشاذة بين الرجلين- في مفهوم العامة- إنما تعني في جوهرها العلاقة الشاذة بين كل من الصين وهونج كونج، وهي العلاقة التي تجعل الصين بعد كل فترة خلاف مع هونج كونج تعود إليها قائلة: لم لا نبدأ من جديد؟

المصور الاسترالي كريستوفر دويل

كما أننا نعرف بأن عام 1997م- عام إنتاج الفيلم- كان حدثا تاريخيا في الصين؛ حيث سلمت بريطانيا رسميا منطقة هونج كونج لصالح الصين خلال مراسم رسمية، كما لا يفوتنا أن الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ كان له علاقة وطيدة بهونج كونج؛ حيث كان هو من وضع المبدأ الدستوري "صين واحدة، ونظامان مُختلفان" بهدف إعادة توحيد الصين، وقد جاء هذا المبدأ كجزء من اقتراح لتوحيد الصين تحت راية بلد واحد وفق سياسة الصين الواحدة، وفي المُقابل لا بأس من بقاء المناطق الصينية المُستقلة- هونج كونج، وماكاو، وتايوان- على أنظمتها الاقتصادية الرأسمالية والسياسية مع بقاء باقي الصين على نظامها الشيوعي. وينص مبدأ "بلد واحد، نظامان مُختلفان" على أن جميع المناطق الصينية الثلاث المُستقلة ستحتفظ بأنظمتها السياسية والاقتصادية والقانونية، حتى بالنسبة للعلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى، وفي حالة تايوان فسيسمح لها بالإبقاء على قواتها المُسلحة.

من خلال هذه الرؤية المُختلفة لا يمكن لنا تفسير اهتمام وونج كار واي بمشهد إذاعة موت الزعيم الصيني في الفيلم إلا باعتباره يقصد بالعلاقة المثلية المُضطربة وغير السوية بين كل من "هو" ولاي كل من هونج كونج والصين اللتين تسود العلاقة بينهما الكثير من الاضطرابات، وبذلك يكون للفيلم تفسير آخر مُخالف تماما لكل ما سبق، حيث كان المُخرج طوال الوقت يزج بالعديد من الرموز السياسية داخل فيلمه من خلال رداء العلاقات الإنسانية، لا سيما أن المشهد الذي لا قيمة له في أي فيلم، والذي لا يمكن أن ينبني عليه المشهد التالي بحيث يضيف إلى عالمه يُمثل في حقيقته عبئا لا قيمة له ولا بد من حذفه أثناء المونتاج، بل ويُقلل من فنية الفيلم، وبما أن كار واي كان حريصا على الإبقاء على هذا المشهد رغم أن الفيلم في حقيقته كان ثلاث ساعات واختصره المُخرج أثناء المُونتاج إلى 95 دقيقة فقط؛ فلقد كان يرغب هذا الرمز السياسي البعيد بإبقائه على مشهد موت الزعيم الصيني.

لعل هذه الرؤية الدلالية لتفسير الفيلم من خلال منحاه السياسي سنلاحظها أيضا في علاقة لاي مع أبيه الذي لم يظهر في الفيلم مُطلقا، حينما أخبرنا لاي من خلال السرد بالصوت/ المونولوج بأن علاقته بأبيه كانت شديدة الاضطراب لأنه قبل مُغادرة هونج كونج قد سرق بعض المال من صاحب العمل الذي كان يعمل لديه، وبما أن صاحب العمل هذا كان صديقا قريبا من أبيه؛ فلقد اضطربت العلاقة بينه وبينه الأب رغم أنه يعقد النية على تسديد المبلغ حينما يعود إلى هونج كونج مرة أخرى والعمل على استعادة طبيعية العلاقة بينه وبين أبيه.

المُمثل التايواني تشانج تشن

ألا نُلاحظ في هذه العلاقة المُضطربة بين لاي وأبيه دلالة رمزية سياسية أخرى تُمثل العلاقة بين الابن/لاي/ هونج كونج، والأب/ الصين؟

إذن، نستطيع القول: إن المُخرج الصيني هونج كار واي كان بارعا في خداعنا بشكل فني من خلال فيلم يبدو في ظاهره مُتحدثا عن علاقة مثلية مُضطربة بين رجلين، حريصا على تأمل العلاقات الإنسانية بينهما، وإن كان في جوهر الأمر يتأمل في العلاقة بين كل من الصين وهونج كونج، رغم أن التأويل النقدي قد يحتمل أحد هذين الاحتمالين، أو كليهما، أو قد يذهب بعيدا إلى تأويلات نقدية أخرى.

يُعد فيلم سعداء معا للمُخرج الصيني وونج كار واي من الأفلام المُهمة التي قدمها المُخرج لتأمل العلاقات وأثرها على الإنسان، وإذا كان العنوان الإنجليزي للفيلم Happy Together يُدلل على وجود علاقة تجعل كل من طرفيها سعيدا مع الآخر، فإن العنوان يثير الكثير من المُفارقة- سواء على مستوى التفسير الإنساني، أو مستوى التفسير السياسي- فكل من "هو" ولاي كانا شديدا التعاسة مع بعضهما البعض، كذلك في ابتعادهما عن بعضهما البعض، كما أن كل من هونج كونج والصين لم يكونا يوما سعيدان معا مُنذ انفصال هونج كونج، كذلك مع انفصالهما!

 

 

 محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"
عدد يونيو 2024م.