الأربعاء، 26 يونيو 2024

Chung King Express: وونج كار واي وعالم العلاقات المُنتهية الصلاحية!

كلما شاهدت ما يقدمه المُخرج الصيني وونج كار واي من أفلام سيتأكد لك أن ثمة سينما أخرى مُختلفة وذات عالم ومذاق خاص، ومُنفصل تماما عن العالم الذي تشاهده فيما تراه من سينما يقدمها الآخرون. نحن هنا أمام مُخرج له عالمه الخاص والحميمي جدا، يعبر عنه من خلال مفهوم وفكر يخصانه وحده، ورؤية وأسلوبية سينمائية لا يقربها سواه. أي أنه يرى العالم كما يحبه هو، وكما يراه وحده، وكأنما العالم يتشكل في داخله ثم يُعيد إنتاجه مرة أخرى، وليس كما نراه نحن؛ ومن ثم فعلينا، كمُشاهدين، الانتباه والإنصات إليه فيما يقوله؛ نظرا لبراعته فيما يصنعه، وخصوصيته الشديدة وإتقانه في مقدرته على إدخالنا إلى عالمه الشخصي والتعبير عن رؤيته الفريدة للعالم من حوله.

Wong Kar- Wai وونج كار واي ليس مُجرد مُخرج ماهر يقوم بصناعة الأفلام؛ بل هو من المُخرجين أصحاب الرؤية، مُخرج لديه عالمه السينمائي الذي يجعلنا قادرين على القول: بإنه مُخرج صاحب عالم، وبالتالي لا نكون مُخطئين حينما نثني بالقول: سينما وونج كار واي. هذه العبارة السابقة لا يمكن إطلاقها على كل من يقوم بصناعة السينما؛ فليس كل صانع- حتى لو كان ماهرا فيما يصنعه ويقدمه- لديه عالم يجعلنا نقول: سينما فلان، بل تقتصر هذه المقولة على القليل من المُخرجين الذين يقدمون سينما لها فكرها، وفلسفتها التي تخص صانعها، ورؤيته وموقفه باتجاه العالم الذي يعيد صياغته.

هؤلاء الصُناع السينمائيون- أصحاب العالم- إذا ما تأملنا ما يقدمونه سيتأكد لنا أن كل ما يقومون بصناعته من أفلام سينمائية تكاد أن تكون فيلما واحدا طويلا لا ينتهي بينما يقومون بالتنويع والعزف على نفس الوتيرة والفكر، ولكن بأشكال مُختلفة، وأسلوبية سينمائية مُتميزة تخصهم وحدهم، وتجعلنا بمُجرد مُشاهدة فيلم من أفلامهم، حتى لو لم نكن ندري بأنهم هم من قام بصناعته؛ نهتف بيقين: هذا الفيلم من صنع فلان. وهذا هو المفهوم الأقرب لعبارة "سينما وونج كار واي"، أو غيره من المُخرجين أصحاب الرؤية.

صحيح أنه لا يمكن لنا إنكار وجود العديدين من المُخرجين الآخرين المُتميزين والمهرة في صناعة السينما، ولكن سينما من دون رؤية فنية، وفكرية، وموقف خاص باتجاه العالم، لا يمكن أن نطلق عليها مفهومنا السابق.


في فيلمه ChungKing Express لا يقدم لنا المُخرج والسيناريست الصيني فيلما بالمفهوم المألوف، أو الكلاسيكي، أو التقليدي لصناعة السينما؛ ومن ثم فهذا الفيلم في حاجة إلى مُشاهد من نوع خاص. مُشاهد قادر على تلقي ألوان مُختلفة من الصناعة، أي أن أهمية الفيلم هنا تأتي من مفهوم الصناعة وجمالياتها في حد ذاتها، وليس من خلال تماسك الرواية التي يقدمها؛ فوونج لم يكن حريصا على تقديم رواية بالمفهوم الذي اعتدنا عليه في مُعظم الأفلام، بل قدم لنا حكايات مُتقطعة، غير مُكتملة، لا رابط بينها لتأليف قصة واحدة مُتماسكة ذات قوام، مُنبتة الأواصر تماما. إنه هنا يتأمل، يقدم العالم كما هو من دون تجميل. يرغب في القول لنا: اترك نفسك من أجل تأمل العالم، فكل هؤلاء الذين تراهم في رواحهم وإيابهم يمتلكون الكثير من الحكايات، وهذه الحكايات ربما تتشابه في أي بقعة جغرافية من الأرض وليس في هونج كونج فقط، لكنها ميزة مُعظم المُدن الكبرى؛ لذا فعليك الاسترخاء والمُشاهدة، والتأمل، والاستمتاع بهذه الحكايات المُنبتة الصلة ببعضها البعض، وإن كان يجمعها كلها الشعور بالوحدة القاسية، والحاجة الماسة والقصوى للتواصل مع الآخرين، والافتقاد للحب والمشاعر العميقة والدافئة، والشعور العارم بالضآلة والفراغ في مدينة مثل هونج كونج رغم ازدحامها وصخبها الذي لا يتوقف في أي وقت من اليوم.

إذن، فالمفهوم الأساس الذي انطلق منه المُخرج من أجل صناعة فيلمه- وهو المفهوم الذي يكاد أن يغلب على مُعظم أفلامه- هو ضآلة الإنسان، ووحدته القاسية التي تشعره بالفراغ في مدينة كبرى صاخبة، تلك الوحدة التي تشعرك وكأنما ثمة ثقل يزن ملايين الأطنان يظل يضغط على روحك من أجل سحقها، ورغم ذلك لا تستطيع الخلاص من شعورك!


بالتأكيد نستطيع سحب هذا المفهوم على كل المُدن الكبرى والعواصم في العالم، أي أن ما رأيناه في هونج كونج من خلال هذا الفيلم من المُمكن لنا رؤيته في نيويورك مثلا، أو القاهرة، أو غيرها من المدن، ولكن من خلال قصص أخرى مُختلفة لا بد لها في النهاية أن تؤدي إلى نفس المعنى الذي ذهب إليه وونج. إنه يعبر في النهاية عن ضياع الإنسان في عالم شاسع، سريع الحركة، لا يتوقف عن الصخب؛ فيشعره بمدى ضآلته!

يأتي عنوان الفيلم من مقطعين مُندمجين يعبران عن أحداثه؛ فالقسم الأول منه يدور في مبنى Chung King House في وسط المدينة، وهو من المباني الشديدة الضخامة التي تضم الكثير من الممرات والمحال التجارية المُتخمة بالبضائع، والمطاعم، والبارات، وغير ذلك من آلاف البشر الذين يصلون إلى المدينة من كل الجنسيات، بينما يرتبط الجزء الثاني منه بأحد محلات التيك أواي الذي يسمى Midnight Express أي أن عنوان الفيلم كان مزيجا من اسمي المكانين اللذين تدور فيهما الأحداث.

تبدأ أحداث الفيلم بمشهد لا بد له أن ينطبع في ذاكرة المُشاهد؛ نظرا لأسلوبيته التي تخص كار واي، حيث نرى الشرطي 223- قام بدوره المُمثل الياباني الأصل التايواني الجنسية Takeshi Kaneshiro تاكيشي كانيشيرو- يطارد أحد المُجرمين في دهاليز المبنى التجاري الضخم المُزدحم بالبشر من جميع الجنسيات، حيث يجنح المُخرج في تصوير المشهد إلى أن يظهر كعالم ضبابي يشبه الحلم- وهو ما سيستمر في مُعظم أجزاء الفيلم- فضلا عن استخدامه الكثيف جدا للحركة البطيئة Slow Motion التي تجعل كل المرئيات على الشاشة أشبه بعالم حلمي يبتعد كثيرا عن الواقع.


يلجأ المُخرج كذلك في أسلوبيته الإخراجية إلى التعليق الصوتي من قبل الشخصيات- وهو الأسلوب المُعتاد لدى المُخرج في كل أفلامه- مما يجعله يختصر الكثير من المشاهد التي لا داعي لها، أي الاقتصاد في الصورة، فضلا عن تحويل الفيلم لما يشبه الرواية التي ترويها الشخصية المُتحدثة، وإعلامنا كمُشاهدين بالمزيد من التفاصيل المجهولة لدينا.

يقول الشرطي 223 في هذا المشهد الافتتاحي: نكون مُتقاربين كل يوم، وقد لا نعرف بعضنا البعض، لكن بإمكاننا أن نكون أصدقاء ذات يوم.

من خلال هذه الجملة التأسيسية في الفيلم، والتي تحمل مفهوم المُخرج فيما يقدمه، يمكننا أن نتأمل أنفسنا في مدينة صاخبة شديدة الازدحام مثل هونج كونج، نقابل فيها كل يوم الآلاف من البشر، نمر ببعضنا البعض، وقد تلتقي أعيننا، وقد نصطدم بهم، لكن رغم ذلك نجهل حكاياتهم، وأحزانهم، وأفراحهم التي قد تبدو في عيونهم. وقد نلتقي بهم مرة أخرى لتربطنا بهم حكاية ما ستنتهي مع مرور الوقت، أو يصيبها الكثير أو القليل من الفتور. أي أن المُخرج يرغب في التأكيد على أننا كبشر- نلتقي يوميا- لسنا سوى مجموعة من الحكايات المُنفصلة، والجزر المُنعزلة؛ مما يشعرنا بالوحدة والعزلة القاتلة، وبأن كلا منا يعاني مُعاناته الخاصة مع ذاته وإن كان لا يبدو علينا ذلك. إذن فعلينا أن نعيش فقط؛ كي تستمر الحياة. ليس من المُهم كيف نعيش، ولا ما هي المُعاناة التي نعانيها؛ فالوقت دائما بالنسبة لكل شخصية مُجرد وقت ميت، وصاحبه في انتظار حدوث شيء ما قد لا يحدث مُطلقا رغم رغبته الجامحة في حدوثه!

في أسلوبية يتميز بها وونج كار نرى المشهد الافتتاحي لمُطاردة الشرطي 223، الذي حرص المُخرج على تصويره بالكاميرا المحمولة المُهتزة التي تُشعر المُشاهد بالكثير من التوتر، فضلا عن العرض البطيء المُكثف الذي يُكسب المشهد لديه جمالية خاصة لا يمكن زوالها من الذهن، بالإضافة إلى التركيز المُفرط على الوقت والساعات، والتواريخ بوقوف الكاميرا دائما على الساعات في كل مكان وتوقيتاتها شاخصة إليها، باعتبار أن الجميع دائما في سباق مع الوقت القادر على قتل، وتغيير، بل وطمس كل ما في حياتنا من دون الشعور بأي ذنب فيما يفعله بنا! إنه الوقت القاتل الذي يمتلك من القسوة ما يمكنها من سحقنا جميعا ببرودة متناهية!

أثناء هذه المُطاردة الافتتاحية يمر الشرطي 223 بامرأة شقراء تلبس شعرا ذهبيا مُستعارا، ومعطف مطر، ويكاد أن يصطدم بها، ليتم التعليق الصوتي بقوله: لقد كنت قريبا منها، بيننا 1 سنتيمتر فقط، لكن بعد 57 ساعة وقعت في حب هذه المرأة!

ألا نلاحظ هنا قيمة الوقت لدى المُخرج؛ الأمر الذي لا يجعله يعمل على التركيز على الأوقات والساعات والتوراريخ فقط، بل يُحدد الوقت الذي سيقع فيه الشرطي 223 في حُب هذه المرأة الشقراء مُستقبلا.

نستطيع القول بثقة أن وونج كار واي لديه فلسفة تخصه باتجاه الوقت، وهي فلسفة- في حقيقتها- تثير الكثير من القلق والذعر؛ فالوقت قاتل لكل شيء، لا يرحم، في حالة صيرورة دائمة للأمام بقسوة؛ ومن ثم لا يمكنه التراجع، مما يجعل كل الأحداث بمُجرد مروره مُجرد ذكريات سواء كانت تحمل داخلها مشاعر سلبية أم إيجابية، لكن كل الأحداث معه ستتحول في النهاية إلى ذكريات لا بد من مُعاناتنا منها في نهاية الأمر.


يقدم المُخرج قصة الشرطي 223 لنعرف بأنه كان مُرتبطا بعلاقة عاطفية مع ماي- التي لن تظهر أبدا في الفيلم- لمدة خمس سنوات، لكنها انفصلت عنه فجأة بادعاء أنه لا يستطيع فهمها؛ الأمر الذي يجعله يعيش في عذاب لا يحتمل لشعوره بالوحدة القاتلة في انتظار عودتها مرة أخرى في كل لحظة! لذلك يقول: أخذتها بدعابة عندما قالت: انفصلنا في يوم كذبة إبريل، ومن يومها وأنا أشتري كل يوم علبة من الأناناس، وعليها تاريخ انتهاء الصلاحية في 1 مايو؛ لأن ماي كانت تحب الأناناس، وواحد مايو هو يوم ميلادي. وعدتُ نفسي إذا لم تغير رأيها قبل شرائي لثلاثين علبة، سوف ينتهي حبنا!

إذن فهجرانها المُفاجئ له أوقعه في الفراغ الكامل، والوحدة القاسية؛ الأمر الذي جعله يحاول التغلب على الأمر بارتياده المحال التجارية دائما من أجل البحث عن علب الأناناس التي ستنتهي صلاحيتها في 1 مايو، وبما أنها كانت تحب الأناناس؛ فقد اعتاد على أكله وكأنه يتمثلها مُتماهيا معها حتى في غيابها!

لم تتوقف محاولات الشرطي 223 في التغلب على شعوره القاسي بالفقد على علب الأناناس فقط، بل أخذ نفسه بقسوة على الركض لأطول فترة مُمكنة، مُفسرا ذلك بقوله: جميعنا في الحُب غير محظوظين في بعض الأحيان، عندما نركض يخسر الجسم الماء، فلا يتبقى شيء للدموع، كيف باستطاعتي أن أبكي، ماي تعتقد دائما بأني شخص بارد!


لعل الموقف الذي يقدم من خلاله المُخرج فيلمه يحمل داخله الكثير من الألم والشعور بالخذلان الذي لا يمكن احتماله، وهو يحاول عبور هذه الأزمة في انتظارها بالعديد من الحيل التي يظن فائدتها، وإن كانت لا تغير من مأساته شيئا؛ فيعبرها وحيدا وكأنما الحياة بالنسبة له قد صارت مُجرد شيء مُضطر إليه. نلاحظ ذلك أيضا في إحدى مُطارداته حينما يقول: لم أعتقل شخصا منذ ستة أشهر، لكني أمسكت شخصا اليوم، كلما اعتقلت شخصا، أول إنسان أريده أن يعلم هو ماي!

إذن، فلقد كانت ماي هي محور حياته بالكامل، حتى أنه لا يشعر بالمُتعة في مُمارسة عمله كشرطي إلا لكي تكون فخورة به، ومن هنا نفهم مدى المُعاناة التي يمر بها بعدما هجرته بعد خمس سنوات من الحُب. هذه الوحدة القاتلة التي يشعر بها الشرطي تجعله راغبا في الخروج مع أي أحد، فالمُهم لديه أن يكون هناك تواصل بينه وبين أي بشر؛ لينقذه من فراغه المُخيف؛ لذا نراه يذهب إلى مطعم Midnight Express للخروج مع نادلة المطعم بعد انتهاء ورديتها الليلية، والتي كان اسمها ماي أيضا، لكن مُدير المطعم بيجي- قام بدوره المُمثل الصيني Chan Kam- Chuen تشان كام تشوين- يخبره بأنها قد خرجت مع آخر، فيُهاتف إحدى صديقاته عارضا عليها مُشاركته في الخروج إلى السينما، إلا أنها تخبره بأنها قد آوت إلى فراشها، ليعاود الاتصال بصديقة أخرى فتخبره بأنها قد تزوجت، ويُهاتف صديقا قديما منذ أيام الطفولة، لكنه يكون غير مُتاح للخروج؛ فيذهب في النهاية وحيدا إلى أحد البارات آخذا عهدا على نفسه بأن يقع في حب أول امرأة تدخل البار!


ألا نُلاحظ هنا أن المُخرج يمعن بمزيد من القسوة في إشعارنا بالوحدة القاتلة في مدينة صاخبة مثل هونج كونج؛ فكل إنسان يعاني، ورغم أنه يحيطه المئات من البشر إلا أن لكل منهم عزلته وألمه وعالمه، ومُعاناته التي تخصه، والتي لا يشاركه فيها أحد.

مُنذ بداية الفيلم ثمة حكاية أخرى تسير بالتوازي مع حكاية الشرطي 223، وهي حكاية تلك المرأة الشقراء الغامضة التي ترتدي شعرا ذهبيا، ومعطفا ضد المطر، ونظارات شمسية لا تخلعها مُطلقا من على وجهها، إنها المرأة التي كاد أن يصطدم بها أثناء مُطاردته لأحد المُجرمين، والتي أكد أنه سيقع في حبها بعد 57 ساعة. نعرف أن المرأة الغامضة- قامت بدورها المُمثلة التايوانية Brigitte Lin برجيت لين- متورطة في تهريب كميات كبيرة من المُخدرات، ونراها من خلال تجولها في المبنى التجاري الضخم مع الكثيرين من الهنود الذين تُعدهم من أجل تهريب هذه المُخدرات، ولكن بعدما تُعد عدتها معهم وتذهب بهم إلى المطار آخذة جوازات سفرهم، حينما تلتفت خلفها تجدهم قد تلاشوا هاربين منها بما يحملونه من المُخدرات. تحاول المرأة البحث عنهم في كل مكان من المدينة لكنها لا تعثر عليهم، وأثناء رحلتها في البحث عنهم تقتل البعض منهم لتفر هاربة.

يبدو أن المرأة متورطة في هذا الأمر مع عصابة كبرى، وأنها مُجرد أداة بين أيديهم؛ لذلك فمرور الوقت بالنسبة لها أيضا هو أمر قاتل، لأنه مع مرور هذا الوقت ستكون نهايتها هي أيضا بانتقام العصابة منها لضياع كمية المُخدرات التي أخذها الهنود وهربوا بها. ترتبط المرأة ذات الشعر الذهبي برجل ما لا نعرف عنه شيئا في أحد البارات، وهو الرجل الذي ستقوم بقتله إنقاذا لحياتها. ولعل قيمة وفلسفة الوقت لدى وونج تتضح هنا أكثر بالتركيز أيضا على علبة السردين التي كانت في يد الرجل ويطعم منها القطط؛ حيث توقفت الكاميرا شاخصة على تاريخ الصلاحية لعلبة السردين الذي كان الأول من مايو أيضا، أي أنها في سباق مع الزمن من أجل إنقاذ حياتها التي من المُمكن لها أن تنتهي بقتلها في هذا التاريخ.


إذن، فليس الشرطي 223 فقط الذي يتسابق مع الوقت في انتظار عودة حبيبته؛ مما جعل المُخرج يركز كثيرا على الساعات والتواريخ، وأرقام انتهاء صلاحية علب الأناناس، بل المرأة أيضا في نفس السباق الذي سيترك بأثره على حياتها.

يتناول الشرطي 223 في اليوم الأخير، الذي حدده لنفسه كي يتأكد من انتهاء الحب، 30 علبة من الأناناس دفعة واحدة؛ ليتأكد من أن حبيبته ماي لن تعود إليه مرة أخرى، وحينما يدخل إلى البار واعدا نفسه بأنه سيحب أول امرأة تدخل إلى البار يُفاجأ بأن المرأة ذات الشعر الذهبي التي اصطدم بها ذات يوم هي أول امرأة تدخل. يحاول الشرطي 223 التقرب منها، لكنها تتعامل معه بحيادية وبرود إلى أن يشعرا بالسكر التام، وحينها تخبره بأنها ترغب في مكان للراحة.

يأخذها الشرطي إلى أحد الفنادق، وتغيب في نوم عميق؛ الأمر الذي يؤكد له أنها بالفعل كانت في حاجة إلى الراحة الطويلة. يظل الشرطي إلى جانبها في الغرفة ليشاهد فيلمين قديمين، ويتناول كميات كبيرة من الطعام مُتأملا لها في نومها. لكنه في الصباح يستعد للخروج بينما هي ما زالت تغط في نومها الطويل؛ فيخلع عنها حذاءها ذا النعل العالي إيمانا منه بقول أمه بأن النساء يصبن بتورم في القدم إذا ما نمن بأحذيتهن ذات النعال العالية.

لكنه حينما يُلاحظ أن الحذاء مُتسخ؛ يبدأ في تنظيفه ومسحه بربطة عنقه! هذا المشهد الشديد التعبيرية ينقل لنا من مشاعر الإحساس بالوحدة العميقة، والرغبة في منح المشاعر الفائضة لأي إنسان، ما نجح المُخرج فيه أيما نجاح في التعبير عنه من خلال الصورة الصامتة. إن الوحدة التي تكاد أن تقتل الشرطي 223 سنراها فيما بعد حينما تصله رسالة مُسجلة في السادسة صباحا من جارته لتهنئه فيها بعيد ميلاده، حيث يقول: في 1 مايو 1994م تمنت لي المرأة عيد ميلاد سعيد، لن أنساها ما حييت!

إن جملته الأخيرة تحمل داخلها الكثير من القسوة، والرغبة في التواصل الإنساني، والشعور بالضآلة الشديدة؛ حتى أنه يرى مُجرد تهنئة إنسان ما له على عيد ميلاده معروفا لا يمكن إنكاره، بل لا بد من تذكره ما دام حيا!


يقسم وونج كار واي فيلمه ذا الطبيعة الخاصة إلى قسمين رئيسيين، استغرق القسم الأول منه حوالي 40 دقيقة، بينما استمر قسمه الثاني 60 دقيقة، ينتقل المُخرج فجأة في القسم الثاني إلى قصة أخرى مُختلفة تماما، لا علاقة لها بالقصتين السابقتين، كما أنه لا يهتم بإغلاق هاتين القصتين، فنحن لم نعرف ماذا حدث للشرطي 223، وهل عادت إليه حبيبته أم لا، وكيف استمر في الحياة، كما لم يقل لنا أين ذهب. كذلك الأمر بالنسبة للسيدة ذات الشعر الذهبي التي لم نعرف عنها من هي، وما هي العصابة المُرتبطة بها والتي تُهدد حياتها، وماذا حدث لها فيما بعد، وماذا كانت تعني علاقتها برجل البار الذي قتلته.

أي أن المُخرج يترك الحكايات مفتوحة من دون الاهتمام بإغلاقها، هو هنا لا يعنيه ما سبق له أن سرده ليتخلى عنه فجأة، بادئا في سرد جديد وحكايات جديدة، وعالم جديد. إن هذا التشظي في السرد البصري لدى وونج يُدلل على أنه لا يقدم لنا فيلما تقليديا، كما لا يعنيه إكمال ما يقوله بقدر ما يعنيه التعبير عن مُعاناة البشر فقط. إن المُخرج هنا يتأمل الحياة، وهو لا يعنيه شرحها بقدر ما يعنيه تأملها!

يحل محل الشرطي 223 شرطي آخر وهو الشرطي 663- قام بدوره المُمثل الصيني Tony Leung Chiu- Wai توني ليونغ نشيو واي- الذي كثيرا ما يذهب إلى محل التيك أواي Midnight Express الذي كان يذهب إليه الشرطي السابق؛ ليطلب السلطة. يسأله مُدير المحل/ بيجي عن سبب إصراره على شراء السلطة كل يوم؛ فيخبره بأن حبيبته التي هجرته تحبها.

إذن، فنحن هنا أمام قصة هجر أخرى لأشخاص آخرين يعاني فيها الرجل أيضا من هجران حبيبته له. نعرف أنه كان قد تعرف على مُضيفة طيران في إحدى الرحلات- قامت بدورها المُمثلة الصينية Valerie Chow فاليري تشاو- وارتبطا معا بعلاقة حُب عاصفة وطويلة، لكنها فجأة رحلت عنه ولم تعد مرة أخرى من دون إبداء أي أسباب؛ فوقع في مأزق الانتظار الدائم لها حتى أنه بات يقضي الوقت في منزله مُتحدثا مع أشيائه: ملابسه، الصابون، الدب الذي كان قد اشتراه لها. أي أنه يصل إلى حالة من حالات الوحدة والفقد ما يجعله أقرب إلى الجنون في انتظار عودتها إليه مرة أخرى، حتى أنه كان يترك عمله أحيانا للذهاب إلى بيته شاعرا بأنها قد عادت مرة أخرى، لكنه يجد المنزل شاغرا.


تبدأ نادلة المطعم فايا- قامت بدورها المُمثلة والمغنية الصينية Faye Wong فاي وونج- بالاهتمام به ومُراقبته دائما، إلى أن تشعر بحبه من دون أن تخبره بالأمر. نُلاحظ أن المُخرج يقدم جميع شخصياته بلا استثناء باعتبارهم شخصيات وحيدة حتى لو وقعوا في العشق؛ فالنادلة نراها دائما ما تشغل المُوسيقى بأعلى درجة من درجات الصوت لتغرق فيها لا سيما أغنية California Dreaming التي تسيطر على الثلث الأخير من الفيلم بدرجة تجعلنا نخرج منه بعد انتهائه غير قادرين على نسيان هذه الأغنية التي أكسبها استخدام المُخرج لها معاني أخرى مُهمة لها ارتباط شرطي بالشعور بالوحدة والعزلة والافتقاد القاتل، والضياع داخل مدينة صاخبة، أي أن كل من سيشاهد الفيلم سيكون لديه ارتباط شرطي حقيقي كلما استمع إلى هذه الأغنية باستعادة أجواء الفيلم مرة أخرى، وكأنها قد صُنعت من أجله فقط.

حينما يذهب الشرطي 663 ذات مرة إلى المطعم طالبا منها قهوة لا يستطيع سماعها بسبب صخب الأغنية العالي؛ فيسألها: أتحبين المُوسيقى الصاخبة؟ لترد عليه بصوت عال كي يصله: نعم: كلما كانت المُوسيقى عالية كان أفضل؛ لا أريد أن أفكر.

إذن، فهي تهرب من التفكير، والعزلة، والوحدة القاسية بالصخب الشديد للمُوسيقى لا سيما هذه الأغنية التي تتحدث عن كاليفورنيا؛ لأنها تحلم بالذهاب إلى ولاية كاليفورنيا في أمريكا.


ألا نُلاحظ هنا بأن جميع شخصيات الفيلم قد باتت مُجرد شخصيات شائهة وسط مدينة صاخبة، قاسية، مُتقطعة الأوصال حتى أنها تترك بأثرها على من يعيشون فيها لتقسو عليه مشوهة إياهم؟

تتلصص فايا على مُدير المطعم وهو يتحدث مع الشرطي 663 لتعرف بأن حبيبته، مُضيفة الطيران، قد هجرته وأنه يعيش في انتظارها الدائم وشراء السلطة التي تحبها. وذات ليلة تأتي إحدى السيدات في رداء مُضيفة طيران لتسأل المُدير عن الشرطي 663، وحينما يخبرها أنه في عطلة تعطيه خطابا طالبة منه أن يسلمه إليه. لا يستطيع مُدير المطعم منع فضوله من أجل معرفة ما في الخطاب؛ فيفتحه قارئا إياه، بل يقرأه كل عمال المطعم بمن فيهم فايا، ثم يعيدون إغلاقه مرة أخرى. كانت المُضيفة تخبره من خلال الخطاب بأنها قد اختارت أن تعيش حياة جديدة بعيدا عنه، كما تركت له في الظرف مفاتيح شقته التي كانت معها.

في اليوم التالي حينما يحضر الشرطي 663 إلى المطعم تخبره فايا بأن ثمة فتاة قد سألت عنه في الليلة الماضية تاركة له خطابا، لكنه يستمع إليها ببرود وكأنه مُنفصل تماما عن مشاعره، أو كأنما الأمر لا يخصه، وحينما تمد يدها إليه بالخطاب يتجاهل أخذه، مُخبرا إياها بأنه سيأخذه بعدما يتناول قهوته، ثم ينتحي أحد الأركان شاردا.

لعل هذا المشهد الذي نرى فيه الشرطي 663 يقف متناولا قهوته كان من المشاهد الشديدة الأسلوبية التي لا يمكن لها أن تزول من أذهاننا لفترة طويلة؛ بسبب تصويره بأسلوبية عميقة تدل على حيرته في استلام الخطاب وقراءته أم لا، فرأيناه كأنه يعيد تقييم العلاقة التي كانت معها بينما تتحرك المرئيات على الشاشة من أمامه بالحركة البطيئة المُكثفة؛ فبدا الأشخاص العابرون من أمامه في حركة دائمة، وكأنهم خط يمر من على الشاشة، بينما يقف هو شاردا، وقد بدأ شريط الصوت يختفي تدريجيا ليوقعنا المُخرج في صمت تام شديد الوطأة.

المُخرج الصيني وونج كار واي 

يتجاهل الشرطي 663 أخذ الخطاب ليخبر فايا بأنه سيعود فيما بعد ليأخذه. يغير الشرطي مواعيد ورديته؛ ومن ثم يغيب لأيام عن الذهاب إلى المطعم إلى أن تلتقيه فايا بالمُصادفة في أحد الأسواق لتخبره بالخطاب مرة أخرى وبأنها من المُمكن لها أن ترسله إليه بالبريد فيوافق مُعطيا لها عنوانه.

في حقيقة الأمر لم تكن فايا راغبة في إرسال الخطاب إليه بقدر ما كانت راغبة في معرفة عنوان سكنه كي تذهب إليه مُستخدمة المفاتيح التي تركتها حبيبته السابقة في الظرف؛ لذلك تبدأ في الذهاب إلى شقته أثناء تغيبه لتقوم بترتيب الشقة، وتنظيفها، وتجميلها، وغسل ملابسه من دون أن يدري بما تفعله، لكنه مع مرور الوقت بدأ يلاحظ أن ثمة تغييرا يحدث في الشقة لا يدري سببه؛ فظن أحيانا أن حبيبته السابقة تأتي أثناء غيابه، لكنه أبعد الفكرة من خاطره حينما لم تظهر مرة أخرى. وفي إحدى المرات نسيت فايا الإسطوانة المُسجل عليها أغنيتها المفضلة التي كانت دائما ما تستمع إليها بصخب عال أمامه. هنا يدرك الشرطي 663 أنها هي من تدخل شقته وإن لم يكن قد تأكد بعد، إلى أن يقابلها ذات مرة خارجة من الشقة في غيابه ليدرك الأمر.

إذن، ففايا واقعة في عشقه رغم أنه يعشق فتاة أخرى غائبة، وهو ما يجعلها تهتم به مثل هذا الاهتمام، وحينما يدرك ما فعلته فايا يبدأ في الشعور بالعاطفة تجاهها، ويطلب مُقابلتها في بار كاليفورنيا، ويظل مُنتظرا إياها لوقت طويل، لكنها لا تذهب إليه، بل تسافر إلى كاليفورنيا الولاية الأمريكية لتحقيق حلمها بالسفر إلى هناك، مُتخلية عن حبها له من أجل الحلم!

يعرف الشرطي 663 من مُدير المطعم بأنها قد سافرت ولن تعود مرة أخرى؛ ليقع الشرطي مرة أخرى مع مشاعر الفقد والوحدة التي لم تكن قد غادرته بعد. بعد عام تعود فايا إلى هونج كونج وتذهب إلى المطعم لتجد الشرطي 663 يعيد ترميمه وتعرف منه أن عمها/ مُدير المطعم قد باعه له، وأنه سيعيد افتتاحه. يحاول الشرطي أن يعيد المشاعر بينهما، لكنها تخبره بأنها ليس لديها الوقت؛ لأنها ستسافر مرة أخرى سريعا.

المصور الاسترالي كريستوفر دويل

إن الفيلم الصيني ChungKing Express للمُخرج وونج كار واي من الأفلام المُهمة التي ستدفعك إلى مُشاهدتها مرات ومرات، هو فيلم إما أن تقع في عشقه للوهلة الأولى، أو تلفظه منذ بدايته؛ فهو لا يحتمل أي حالة وسط بين الحالتين. هو من الأفلام التي لا يعنيها مسار الحكاية أو السيناريو التقليدي، بل هو فيلم يهتم بالنوع والأسلوبية، وبصناعة السينما أكثر مما يهتم بالروايات أو الأشكال التقليدية لصناعة السينما؛ لذلك فليس ثمة حكاية فيه، صحيح أننا نشاهد العديد من الحكايات غير المُكتملة التي لا يغلقها المُخرج، لكن هذه الحكايات كلها تسير كل واحدة منها في اتجاه يخصها من دون وجود أي رابط بينها، ومن دون الكثير من التقاطعات بينها، وإن كانت كل الحكايات تعبر عن رؤية المُخرج التي يرغب في التعبير عنها، وهي الشعور بالضآلة، والوحدة القاسية، والحاجة الماسة للتواصل الإنساني والمشاعر، والعزلة الشديدة في مدينة صاخبة مُزدحمة مثل مدينة هونج كونج. إنه يرغب في التعبير عن قسوة المُدن الكبرى، الإفاضة في قسوة مشاعر الهجر والحاجة للحبيب، وصف الحالة الإنسانية التي وصلنا إليها فبتنا جميعا كمجموعة من الجزر المُنعزلة التي لا تعرف شيئا عن بعضها البعض رغم تلاقيها وتقاطعها طوال الوقت! إنه يرغب في القول اليقيني بأنه: بطريقة ما، كل شيء ينتهي بنهاية صلاحيته، ولأن المشاعر الإنسانية، وعلاقات الحب والزواج قد باتت لها صلاحيات؛ فلا بد لها أن تنتهي في لحظة مُعينة؛ ولقد خسر الجميع علاقاتهم ومشاعرهم لانتهاء صلاحيتها.

الممثلة التايوانية برجيت لين

إلا أن الفيلم ما كان له أن يكتسب هذه الفنية والأسلوبية العالية من دون التعاون مع المصور الأسترالي كريستوفر دويل Christopher Doyle الذي يدرك جيدا ما يرغب المُخرج في تقديمه؛ ليصوره كيفما شاء وبإتقان شديد؛ ومن ثم كان التصوير في الفيلم من أهم عوامل نجاحه، حيث شاهدنا الكثير من المشاهد واللقطات التي لا يمكن لها الزوال من الذهن حتى بعد مرور فترة طويلة على مُشاهدته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق