الثلاثاء، 11 مارس 2025

زول الله: الرواية بوصفها بحثا معرفيا

ربما كان من الضروري علينا استعادة ما كتبه الفيلسوف البولندي الأصل الإنجليزي الجنسية Zygmunt Bauman زيجمونت باومان، ومجموعة كتبه عن الأشياء السائلة، لا سيما كتابه المُهم "الثقافة السائلة" الذي تناول فيه التحولات الحادثة في المُجتمعات المُعاصرة، خاصة في مجال الثقافة، وما تؤدي إليه هذه التحولات المُتتالية والدائمة إلى تغيّر مفهوم الثقافة مما يؤدي بدوره- وبالضرورة- إلى تغيير معناها، ومن ثم تغيير هذه المُجتمعات باتجاه قيم الاستهلاك، واللامعنى، والاستسهال، واللاقيمة في نهاية الأمر- وهو ما نراه بشكل جلي في الوقت الآني الذي نعيش فيه.

محاولة العودة إلى ما ذهب إليه باومان تأتي ضرورتها من تأمل ما يدور من حولنا، حيث تغير مفهوم الثقافة لدى الكثيرين لدرجة الوصول إلى يقين- يحمل في جوهره الكثير من الوهم- يعتقد بأن الثقافة اليوم قد باتت مُنحصرة في قراءة الروايات، أي أن من يُقبل على قراءة الروايات والاستزادة منها هو المُثقف الحقيقي- في اختزال ونكوص مُخيف للمعنى الحقيقي والجوهري لمفهوم الثقافة- وهو ما أدى بدوره إلى رواج هائل للكتابات الأدبية الروائية في مُقابل إهمال واضح لكل فروع الثقافات والمعارف الأخرى من سياسة، وفلسفة، وتاريخ، وعلم نفس واجتماع، وسينما وغير ذلك مما يُشكل العمود الفقري للثقافة الحقيقية!

هذا الاختزال المُثير للكثير من الدهشة والقلق أدى إلى سيادة أشباه المُثقفين الذين منحتهم وسائل السوشيال ميديا المُختلفة، وديمقراطيتها غير المشروطة الفرصة لتعالي أصواتهم بجهل ومن دون خجل، ومحاولة الدلو بدلوهم في كل مُقدرات الحياة، رغم أن تأمل ما يطرحونه يؤكد لنا في جوهره بأنه خاوٍ من أي معرفة، ومُجرد حديث سطحي وتافه، وخالٍ تماما من المعرفة المبنية على أساس ثقافي متين.

فالثقافة الحقيقية لا يمكن تحصيلها من بطون الروايات، تماما كما أن التاريخ لا يمكن تحصيله من العالم الروائي، ولا السينما، فلكل مقام مقال، ولكل معرفة طريقها الذي لا يمكن أن ينوب عنها طريق آخر. من هنا لا بد لنا من التوقف أمام المفهوم الأعمق والصحيح للثقافة من أجل تحديده قبل الإقبال على طريقة تحصيلها، وما هي مصادرها.

لكن، هل معنى ذلك أن الأعمال الروائية في العالم لا ضرورة، أو قيمة ثقافية لها؟

بالتأكيد لا يمكن لنا الذهاب إلى مثل هذا المذهب؛ فالأعمال الروائية هي فرع جمالي من فروع الثقافة، وهي تمتح من التاريخ أحيانا بالاعتماد عليه، والنهوض فوقه، كذلك من العلم وغيره، لكن بما أننا نحيا الآن في فترة ثقافية سائلة في كل شيء، وعلى كافة المستويات، فالرواية بالفعل لا يمكن أن تكوّن لنا مُثقفا حقيقيا، فهي لا تُقدم لنا الداعم الرئيس والحقيقي للبناء المعرفي بقدر ما تقدم لنا تجارب جمالية أسلوبية لها حقلها في عالم الإبداع الأدبي، ومن الطبيعي والمنطقي أنه لا يمكن استبدال الأدب بالعلوم الاجتماعية، أو التاريخية، أو الفلسفية، أو السياسية، وغير ذلك، كما أن غياب هذه الحقول من شأنه جعلنا غير قادرين على استيعاب عالم الأدب نفسه الذي يتم تقديمه لنا، والذي من المُفترض به أن يستند على هذه الحقول التي باتت غائبة عن المشهد الحالي.

إذن، فالإقبال المعرفي على الحقول المعرفية الأخرى- بعيدا عن عالم الرواية- من الضرورة بمكان ما يُمكِن كل منا لبناء عالمه المعرفي المتين الذي لا غنى عنه في مجال الثقافة بشكل عام.

ربما كان هذا الشكل الاستسهالي في التلقي المعرفي- والكتابي أيضا- وتأمله من قبل بعض الروائيين المُثقفين قد أدى بهؤلاء الكتاب إلى اللجوء إلى كتابة ما يمكن أن نُطلق عليه "الرواية المعرفية"، أي الرواية التي تعتمد على النسق المعرفي في بنائها، ونسج عالمها الروائي، ومن هنا تتحول الرواية من مُجرد حقل جمالي أدبي إلى حقل جمالي معرفي، يعتمد على العديد من حقول المعرفة في بنائها، ونسج عوالمها، وشخصياتها التي تعاني وجوديا في البحث من خلف المعرفة، والوصول إلى جوهر الحقيقية- فالمعرفة في جوهرها فعل وجود.

بالطبع لا يمكن إنكار صعوبة هذا الشكل الروائي في جوهر الأمر، فصعوبته هنا لا تكمن في كتابتها فقط، وهي الكتابة التي تحتاج إلى الكثير من الجهد والبحث والمعرفة والتأصيل، بل تتعدى صعوبتها أيضا إلى تلقيها، فهذا الشكل من الأعمال الروائية في حاجة إلى قارئ مُثقف، مُمتلئ، مُستعد، قادر على الصبر في تلقي المعرفة المنسوجة بالخيال الروائي من أجل بناء هذا العالم المُشتبك، والمُعقد في آن.

هذا الشكل النادر من الكتابة الروائية يهدف في المقام الأول إلى التأكيد على أهمية الرواية كفن من الفنون المعرفية، وهو شكل من الكتابة يحاول النهوض في وجه الاستسهال، والسطحية، والسيولة التي باتت هي عنوان الفترة التي نحياها اليوم، لذا لا تنتابنا الكثير من الدهشة حينما نقرأ رواية "زول الله في رواية أخت الصفا" للروائي التونسي نزار شقرون، بقدر ما ينتابنا شعور ما بالاطمئنان والراحة بأن الرواية من المُمكن لها أن تكون حقلا معرفيا وجماليا في الآن ذاته على يد روائيين مُختلفين وواعين، قادرين على النهوض بها من عثرتها، وهو ما قد يُعيد لها قدرها، ومكانتها التي انسحبت منها بسبب استسهال كتابتها من الكثيرين، ومن دون الاعتماد على أي نسق معرفي ودلالي- وربما جمالي- سابق.

إذن، فرواية نزار شقرون تضع نصب عينيها الدلالي والمعرفي لمزجه بالجمالي الأدبي في المقام الأول، هي عمل روائي يُدرك جيدا أن الكتابة فعل معرفي ووجودي ضروري، فعل تثويري- فالثقافة في بُعدها الأعمق فعل ثوري- هي فعل ثوري على كل ما يحيط بنا، على الأوضاع المُنقلبة غير الصحيحة، على أسلوبتنا في الحياة، على الارتكان إلى المفاهيم المُستقرة، هي فعل ثوري على أنفسنا أيضا من أجل التغيير إلى الأفضل.

إن ارتكان الرواية على النسق المعرفي، والبحث عن هذه المعرفة يتبدى لنا بشكل جلي وواضح بداية من العنوان الذي اختاره الروائي لها "زول الله في رواية أخت الصفا"، فالروائي هنا كان من المُمكن له الاكتفاء "بزول الله" فقط كي يكون عنوانا لروايته، وهو بالتأكيد عنوان مُثير للكثير من التساؤل، لكنه لم يكتف بذلك، وفضل إضافة "في رواية أخت الصفا"، وهو ما يُثير هنا المزيد من التساؤل عن "رواية أخت الصفا" تلك من ناحية بوجه عام، كما يحيلنا من ناحية أخرى إلى "إخوان الصفا" بكل ما يحملونه من إرث فكري وثقافي وفلسفي في ثقافتنا العربية بوجه خاص، فضلا عن تساؤل جديد مفاده: هل كان لإخوان الصفا أخت لم نعرف عنها شيئا واكتشفه الروائي مما أدى به إلى كتابة روايته وعنونتها بهذا الشكل؟

عنوان الرواية هنا، إذن، يجعلنا مُهيئيين للإقبال على العالم الروائي وقد وضعنا في اعتبارنا أن ثمة تماهٍ ما بين العالم الروائي، وبين إخوان الصفا الذين كانوا جماعة من فلاسفة المُسلمين من أهل القرن الثالث الهجري، العاشر الميلادي بالبصرة في جنوب العراق، وهم جماعة حاولوا التوفيق ما بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفية، وكتبوا خمسين مقالة باسم "تُحف إخوان الصفا".

لكن، يظل هنا التساؤل قائما: هل كان لإخوان الصفا أختا شاركتهم في هذه الرسائل؟

إن الروائي نزار شقرون هنا يتأمل في التاريخ المعرفي بالكامل، وليس العربي منه فقط، وهو في تأمله يكاد أن يطرح سؤالا مُهما وجوهريا: هل كانت المرأة- على مر التاريخ- بلا أي دور فكري، أو فلسفي، أو ثقافي على الإطلاق؟

هذا السؤال الذي طرحه، وفكر فيه جعله يختلق أختا لإخوان الصفا، وبما أن الرواية تتحدث عن شبكة ما هي في جوهرها امتداد لإخوان الصفا- في بحثهم عن المعرفة- في عالمنا المُعاصر ومحاولة الحفاظ عليها من التبدد والاندثار، وبما أن التاريخ لم يذكر لنا امرأة لها دورها الثقافي أو الفكري مثل إخوان الصفا، فلقد جعل الراوي في روايته هي ثناء، أو أخت الصفا، فكل أفراد الشبكة هنا هم امتداد وتمثيل لإخوان الصفا الذين عرفناهم فيما قبل، وبالتالي تصبح ثناء في العمل الروائي أختا لإخوان الصفا، لها دورها المُهم الذي قامت به في البحث عن المعرفة، ومحاولة الحفاظ عليها من الاندثار.

من أين تكمن صعوبة هذه الأعمال الروائية من ناحية التلقي إذن؟

الروائي التونسي نزار شقرون

تكمن الصعوبة هنا في أن مثل هذه الأعمال الروائية في حاجة إلى قارئ صبور، قادر على تلقي المعرفة والصبر عليها، بل ومحاولة البحث عن هذه المعرفة بناء على ما قرأه في العمل الروائي، أي أن العمل الروائي هنا يحمل في طياته المقدرة على دفع القارئ باتجاه البحث المعرفي إذا لم يكن يمتلكه من ناحية- فعل تثويري- ومن ناحية أخرى فمحاولة نسج الحقائق المعرفية بالخيال الروائي ليس بالعمل الهيّن الذي يستطيع أي كاتب روائي أن يقوم به ويمزجهما في نسيج واحد مُتجانس، وبالتالي فهو عمل محفوف بالكثير من المُخاطرة؛ لأن الروائي هنا إذا ما فشل في جذب انتباه القارئ لوهلة واحدة، أو شعر معه القارئ بالقليل من الملل، فلقد خسره الروائي على طول الخط، وبالتالي سيترك هذا القارئ الكتاب الذي بين يديه مُغلقا إياه، أي فشل الكاتب في هدفه الرئيس، ومن ثم فالروائي الذي يُقبل على كتابة عمل روائي مثل هذا العمل- يعتمد في جوهره ولبه على البحث المعرفي- يخاطر كثيرا بقارئه إذا لم يكن يمتلك تلك المقدرة المُدهشة على تحويل المعرفي إلى ما هو فني وجمالي ليظل مُمتلكا لانتباه قارئه حتى الكلمة الأخيرة من روايته.

هذه المقدرة على المزج ما بين المعرفي والجمالي/ الأسلوبي، أي تحويل المعلومات إلى نسق جمالي بأسلوب روائي شائق، يتجلى لنا بشكل واضح مُنذ الفقرة الأولى من الرواية، ولعله لا يفوتنا أن الفقرة الأولى من أي عمل فني من الضرورة بمكان ما يجعل خالق العمل قادرا على امتلاك المُتلقي، أو ضياعه وإفلاته منه، وهو ما نُلاحظه في مُفتتح العمل حينما نقرأ: "اعلم يا أخي، أيدك الله، أنني عثرت عليه كمن وجد مخطوطا لم يفتحه أحد مُنذ قرون. سحنته المائلة إلى السواد تلتمع بالحزن والهوان. وجبهته تحمل ندوبا ريفية واضحة. أما عيناه المطعمتان بفصيّ عسل جبلي، فغائرتان تكتمان الأسرار، ولا تبوحان لأحد بما مر به. نظراته الناعسة تجعله يبدو نائما حتى وهو يمشي، وظهره تقوّس، فلا تدري أمن أثر الإعياء أم من فرط ما حمل في حياته من أثقال. لا أنكر أنني رأيته أول الأمر جثة حية! جثة في وضعية ذهول من لحظة عودتها من أسفل السافلين إلى ظهر الأرض، حتى إنه صُعق حين دلف إلى عينيه نور الشمس، فأغمضهما بقوة إلى أن تقطب جبينه. كاد وجهه يتلوى مثل الجنين قبل أن يلدغه هواء العالم، ونحن نغادر مبنى المديرية بعد الإفراج عنه"، ويستمر الروائي على لسان راويته ثناء في وصف الزول/ طه بغموضه، وصمته العميق، وانفصاله عن العالم، أثناء سيرهما من المديرية التي كان مُعتقلا فيها في بغداد حتى الوصول إلى مكتبتها التي تبيع فيها الكتب التي تقوم بنسخها، وتجليدها، والحفاظ عليها من الاندثار.

نحن هنا، إذن، أمام ناسخة للكتب، والحفاظ على التراث، وبطون المعرفة مُمثلة في ثناء/ أخت الصفا، والزول طه السوداني العالق في بغداد في فترة الحصار الأمريكي عليها بدعوى البحث عن أسلحة نووية أيام صدام حسين، ولعلنا نلتفت في الفقرة السابقة إلى بدايتها: "اعلم يا أخي، أيدك الله"، إن الروائي هنا يبدأ فقرته الأولى من روايته بأسلوب يتماهى تماما مع بطون الكتب القديمة في أسلوبيتها- مُناسبة الشكل مع المضمون- كما لا تفوتنا الجملة التالية عليها مُباشرة "عثرت عليه كمن وجد مخطوطا لم يفتحه أحد مُنذ قرون"، وهي الجملة التي تتماهى تماما مع عمل ثناء في نسخ المخطوطات وتجليدها وحفظها، لكنه رغم هذا التماهي لا يلجأ إلى صعوبة الأسلوب على القارئ المُعاصر، بل يستمر في سرده بأسلوب سهل مُمتع من المُمكن لأي قارئ التعاطي معه والاستمتاع به، لا سيما أنه يحاول طوال الوقت الحفاظ على الغموض، وعدم منح العمل الروائي ذاته لقارئه إلا حينما يصل به إلى الصفحة الأخيرة، وهي آلية من شأنها الحفاظ الدائم على تساؤل المُتلقي، ورغبته في معرفة ما ستؤول إليه الأمور، ومحاولة استجلاء هذا الغموض الذي أحاط به الروائي روايته حتى النهاية، كي يعرف من هو الزول طه الذي يحيطه الغموض، ومن هي ثناء أخت الصفا، وما هي الشبكة المُمتدة من حول العالم، وما هي مهمتها، ومن هم أفرادها، وغير ذلك مما تزخر به الرواية. ولعل براعة الوصف لدى الروائي ومقدرته على امتلاك أسلوبيته السردية واللغوية تتبدى لنا مثلا في كتابته على لسان ثناء: "صمته المُريع جعلني أنسى أنه من طينة البشر، وخلت نفسي أتحامل على جر عربة من كتب. صمته من صمتها، لكنها مهما سكتت ستنفض صمتها ذات يوم لتنطق من جديد".

إن المُقابلة في الفقرة السابقة ما بين صمت طه، وصمت الكتب هي التي تخلق المُفارقة الفنية وجمالية الأسلوب، وإذا ما كان طه هنا مُستغلقا تماما حتى أن صمته الطويل يوحي بعدم التبدل، ففي المُقابل، الصمت الموازي له الذي تم وصف الكتب به من شأنه أن يتبدل بمُجرد إمساك هذه الكتب بين يديّ البشر؛ لأنه في هذه الحالة سيتبدل صمت الكتب التي لم تكن بين يديّ بشري إلى لغة تواصلية ما بين الكتاب ومن يمسكه، وبالتالي فصمتها هنا مُؤقت حتى حين، بينما صمت طه يبدو لها، ولنا للوهلة الأولى صمتا أبديا لا يتغير حاله، ولا يوحي بالتغير.

هذا العالم الروائي الذي يوغل فيه الكاتب ليوقعنا في شركه، وهو عالم غارق في بطون الكتب، والمعرفة، والسعي إليها، والبحث عنها، لا بد- بالضرورة- أن يستغرق في الكثير من الأسئلة الوجودية- ففعل المعرفة هو فعل وجودي في جوهره- لذا تقول ثناء في خضم تساؤلاتها المُتتالية عن طه الذي أوصاها عليه أخوها أبو محمد المُعتقل بتهمة تهريب مخطوط: "كتمت أسئلتي. كلامه توجيه، فلا داعي إلى السؤال: من يكون هذا الغريب؟ فكلنا غرباء. نأتي غرباء، ونعيش غرباء، ونرحل غرباء. وليس من الضروري أن أستفسر: كم سيمكث بيننا؟ وهل هو عابر أم مُقيم؟ فالإقامة في هذا الوجود ضرب من العبور. وما معنى أن أسأل: ما الأمانة؟ وأين تودع؟ فما فتئ أبو محمد يقول: الله أودع أمانته في الصدور، ونحن أودعنا أمانتنا في الكتب، والمكتبة مستودع الأمانات". وهو ما نلحظه كذلك في قولها حينما قُتل زوجها ماجد في الحرب: "جلست بين النسوة بلا حراك، لماذا نحيا؟ ولماذا نموت؟ وما نفع الدنيا بعد فراق من نحب؟ وما معنى الموت؟ هل هو غياب تام أم مُؤقت؟ وهل فيما بعد الموت مكان سري يجمع الأعوان بعضهم ببعض؟ الأعوان الذين تشتتوا في الأرض بسبب بطش الساسة والفقهاء معا؟".

لعلنا هنا نلحظ الكثير من الأسئلة الوجودية الجوهرية على طول العمل الروائي، وهي الأسئلة التي من شأنها أن تولد المزيد منها لمُناسبتها للشكل الروائي المعرفي الذي اختاره الكاتب كشكل لعمله، مما يُدلل على إدراك الكاتب لما يفعله، ومقدرته على هندسة الشكل الروائي وتناسبه مع مضمونه ليبدو لنا البنيان الروائي في رؤيته الكلية مُتسقا مع بعضه البعض.

سنُلاحظ هنا أن الرواية تدور في العديد من الأمكنة المُختلفة، وهو ما يتيح لها براحا مكانيا شاسعا، والعديد من الثقافات المُختلفة المُتباينة شكلانيا، وإن كانت مُتحدة جوهريا في البحث الدائب باتجاه المعرفة، وبالتالي سنجد أنفسنا في الكثير من الدول منها العراق، لا سيما بغداد، أثناء الحصار الأمريكي عليها في فترة حُكم صدام حسين، ومصر، لا سيما الإسكندرية، وهولندا، والسودان في فترة انقلاب عمر البشير على حسن الترابي، واليمن في فترة الوحدة بين اليمن الشمالي واليمن الديمقراطي، والهند، أي أن الروائي هنا يُهيئ جغرافية مُمتدة التضاريس لعمله الروائي، وهي آلية كان لا بد منها على المستوى الفني للرواية لإمكانية تناسب الشكل مع المضمون الذي ينبني عليه العمل الروائي، فثمة شبكة هنا، وهذه الشبكة مُترامية الأطراف، وأفراد هذه الشبكة يسيحون في الأرض من مشرقها إلى مغربها من أجل البحث عن المعرفة، ومحاولة الحفاظ على تراث الإنسانية من الإبادة والاختفاء، كما أن أعضاء هذه الشبكة لا يعنيهم أي شيء في الحياة سوى المعرفة، حتى لو كان هذا البحث المعرفي هو هدف في حد ذاته؛ فالمعرفة في الرواية- مثلما سنعرف- هي سبب رئيس لاكتساب السعادة، والاطمئنان، والتوازن النفسي، بمعنى أن الاكتشاف هنا قد تحول إلى سبب لذاته، وهو سبب وجيه لبقاء هذه الشخصيات أحياء على وجه الأرض.

لكن، هذا الاتساع الجغرافي لا بد له بالضرورة من الانتباه إلى أحوال هذه الأماكن، ووصفها، والتوقف أمام ظروفها الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، أي الانخراط كلية في ثقافات هذه الدول، وليس مُجرد ذكر أسمائها فقط داخل العمل الروائي، وهو ما يعني المزيد من البحث المعرفي الواقع على عاتق الكاتب الروائي؛ لذا نقرأ في توصيفه للوضع في بغداد: "ربما لم يكتشف إلى حد تلك اللحظة أنه في سجن كبير، حتى فكرة مُغادرة بغداد شبه مُستحيلة، فنحن هنا جميعا كل في زنزانته، لا يسمع بعضنا غير أنين بعض عبر الجدران"، أي أن الزول طه هنا قد بات عالقا في بغداد لا يمكن له مُغادرتها بسبب الوضع البائس الذي ترزح تحته العراق من حصار أمريكي من جهة، وديكتاتورية صدام الخانقة من جهة أخرى، وهو ما سنُلاحظه مرة أخرى في: "عصر اليوم التالي، وبينما كنت أرتب الكتب على البسطة، فاجأني البروفيسور عبد القادر بإطلالته، فقد اختفى مُنذ أن قبضوا على أبي محمد. عاتبته بشدة؛ فالأعوان لا ينقطعون عن السؤال حتى في أسوأ الأحوال، وإن كنت أعي جيدا أن المكان شبه مُحاصر بالعيون نهارا وليلا، حتى المُثقفون والكتاب لا يتوافدون على الشارع كالعادة، فالخوف يحيط بالجميع تحت ويلات الحصار"، مما يعني أن الخوف قد بات هو السمة الرئيسية في الحياة داخل العراق، فالكل مُراقب، والكل رهن الاعتقال في أي لحظة.

هذا الوضع الخانق أدى إلى محاولة الروائي لعقد مُقارنة ما بين الحياة في هولندا، والحياة المُقابلة لها في العراق في: "بلغت مُنتزه "فوندلبارك"، وفي ذلك اليوم قررت أن أشرد بقدميّ، ولم أجد في الحياة أروع من هذه الجنة التي تمر مروجها إلى أطراف النظر، وتبزغ خضرتها بلا فتور أو استرخاء، كأنها خضرة مُشتقة من المرج الذي كنت ألعب فيه وأنا بعد صغيرة على طرفي دجلة، قبل أن تلتهم الحرب السماء، وتصبح الغيوم مُسنة وجدباء، ويتحول الأخضر إلى خانة الشحوب. هنا كل هذا المرج ضاحك، مُستسلم لمن يفتح ذراعيه كي يحتضن حبيبته، لمن يضع شفتيه على حواف شفاه لا تقبل باللغة بديلا من معاني الحب، هنا شعرت ودون خجل برغبة في نزع ثيابي، وإلقائها في الهواء. إيه، ما أروع أن أتعرى هنا، مثل طفولة مُستعادة في جنة موعودة"، وهو ما يعني أن ثناء لم تشعر بإنسانيتها، وبجمال الحياة وضرورتها إلا حينما هربت إلى هولندا، فالأشياء لا تُعرف قيمتها إلا بالضد، ومن ثم فهولندا هنا هي الضد الواقعي، والجمالي للعراق الغارقة في الحرب، والموت المُحيط في كل مكان، والديكتاتورية، والتعذيب، والخوف، والتدمير، وبالتالي انتابتها الرغبة في التحرر والانطلاق.

إنها العراق التي تصفها ثناء بقولها: "كل واحد هنا مُعرض للشك والاتهام إلى أن يثبت غير ذلك!"، وهو بالتأكيد حال المُجتمعات العربية بالكامل التي ترزح تحت الديكتاتوريات في جوهرها، وإن كانت تدعي الديمقراطية الشكلانية، وهو ما يعمق الكاتب من أثره في: "الأنوار الصفراء تتساقط أيضا في بغداد، ويطرد نورها الشحيح الطمأنينة من القلوب، كل خطوة في أي شارع قد تكون مُميتة، وقد يستوقفها ظل حراس الليل المزودين بالبنادق في مدخل كل حي، من أنتِ؟ ومن هذا الشخص الغريب الذي تجرينه؟ وإلى أين تذهبين في هذه الساعة؟".

إنه حصار كامل من شأنه أن يجعل من يعيش فيه غير قادر على التنفس بطبيعية، وهو ما يدفع ثناء إلى عقد شكل آخر من أشكال المُقارنة ما بين العراق أثناء الحرب مع إيران، والعراق تحت الحصار الأمريكي، أي نفس البلد في فترتين زمنيتين مُختلفتين: "وجدت نفسي وحيدة، أستعيد وجه ماجد وأتفحص كتابه اليتيم، لماذا أحن إلى الماضي؟ وشوشات الطلبة من حولنا في قسم الرسم تعود من إشراقة السنوات الماضية إلى عتمة الحاضر، حتى في أواخر أيام الحرب العراقية الإيرانية كنا ننعم بالطمأنينة. كنا نشعر بأننا كتلة صبر واحدة، نقرأ ما نريد، ونتحاور فيما نريد. أما الآن فقد أكل الحصار طمأنينتنا في غداء واحد، وتركنا جوعى ومُفرقين، لا نسمع غير أنين الأطفال في كل بيت، بسبب الفاقة وسوء التغذية والحرمان. صرنا نلوذ ببيوتنا أكثر من بقائنا في الشوارع حتى لا نرى الوجوه الكالحة والندوب التي طالت الفتيان قبل الكهول"، فالعراق مُصاب مُنذ الأزل، محكوم عليه بمحاولات إفنائه طوال الوقت، وتدمير تراثه وخيراته، مُنذ دخله هولاكو ودمر كل تراثه الثقافي، حتى اليوم وعودة المغول الجُدد/ أمريكا لتدميره مرة أخرى، وسرقة تاريخه وثقافته بالكامل.

لكن، هل انصب انغماس الكاتب هنا على الشأن العراقي فقط، ووصف ما يدور فيه؟

بالتأكيد لا، لأنه إذا ما فعل ذلك سيقع في خطأ فني من شأنه أن يُفقد العمل الروائي اتزانه وانسجامه- بما أنه يدور في جغرافيات وثقافات، وأحداث سياسية وثقافية مُختلفة- صحيح أن الحدث الرئيس للعمل الروائي يدور في العراق، لكنه يمتد إلى جغرافيات أخرى، وسُرعان ما يعود إلى العراق مرة أخرى باعتباره الحاضنة الأساسية للتراث الثقافي الذي تركه إخوان الصفا؛ لذا لا يفوته وصف ما يدور في المُجتمع السوداني غير مرة في قول طه: "ما من امرأة تعوّدت الخروج مع زوجها في تلك الطرقات بغاية النزهة في الحقول، فالخروج جنبا إلى جنب هو أصلا شبه مُحرم في العرف الدارج، فالنساء يخرجن مع النسوة، والرجال مع الرجال، ولا اختلاط إلا في مُناسبات قليلة جدا، حتى عند الأكل، يأكل الرجال بمعزل عن النساء، ولا داعي إلى هذا الاختلاط، الأولاد يكبرون، وهم يعلمون أن المرأة امرأة والرجل رجل! هكذا بحُكم طريقة العيش، مُجتمع رجال، ومُجتمع نساء، أما أن أخرج معك، وجنبا إلى جنب، فهذا ما لم أقترفه حتى في سنواتي الجامعية بمصر"، مما يُدلل ويؤكد لنا على أن المُجتمع السوداني- حتى قبل انقلاب البشير- هو مُجتمع أحادي، تسيطر عليه أفكار الفصل ما بين الجنسين تحت دعوى العرف والتقاليد؛ لذلك حينما يرى- طه- ثناء تُدخن سيجارتها نقرأ: "قال بهدوء ورأسه إلى الأرض: أنت مُتحررة زيادة! لمُجرد أني أشعلت السيجارة، وبدأ حشيشها يحترق سريعا بسبب لفح الهواء"، فهي مُجتمعات غارقة في واقع الأمر في خرافة العيب، والتقاليد، والانتقاص من شأن المرأة المُحرم عليها فعل الكثير من الأمور في الحياة، لدرجة إمكانية التفكير في تحريم الحياة عليها، وهو ما قد يُفسر لنا أن التاريخ انصب اهتمامه على ذكر ما قام به الرجل من فكر ووعي وثقافة، بينما غض البصر عما قامت به المرأة- وهو قليل بالضرورة.

إن التوصيفات المُتعددة التي يسوقها الروائي للمُجتمعات العربية التي ترزح تحت الجهل والديكتاتوريات والظلم والتعذيب والموت تُعد بمثابة دافع للتساؤل: إلى متى؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ لذا يتساءل طه حينما تطلب منه ثناء مُرافقتها إلى مركز صدام للفنون، فنقرأ: "الجميع سائرون نحو الموت. قلت للغريب: هوّن عليك، هذا خبزنا اليومي! قال: وهل في مركز صدام للفنون لوحة عن المأساة أبلغ مما نرى؟! ثم ألقى عليّ نظرة عتاب، وسأل: أليس في دار السلام ما يُشفي النفوس من الآلام؟"، إن المُفارقة هنا ما بين التوصيف الذي يُطلق على بغداد- دار السلام- وبين ما يدور فيها بالتأكيد يترك الكثير من الأثر النفسي والشعوري، بل والفني أيضا داخل الرواية، فدار السلام لا تنعم بالهدوء والسلام لحظة واحدة، ويبدو أن هذا هو قدرها مُنذ فجر التاريخ!


كل هذه الأحداث التي تدور هنا وهناك في العديد من الدول العربية أدت في نهاية الأمر إلى التشكك الدائم، وعدم الثقة في أي شيء، في المعاني، في المفاهيم، وحتى في الأشخاص وبعضهم البعض، فطه، ربما بسبب نشأته في السودان، ورضوخه الدائم للموروثات الاجتماعية يتشكك بشكل أقرب إلى اليقين في مفهوم الصداقة بين الجنسين: "بعد أيام قليلة، تعاهدنا على أن نكون صديقين. أعترف بأنه رفض ذلك في بادئ الأمر، وقال: من الحماقة أن نؤمن بالصداقة مُطلقا. فما بالك بصداقة بين رجل وامرأة! هل كان آدم يرى في حواء غير تفاحة خُلقت للأكل؟ وهل كانت حواء ترى في آدم غير معول يشق حقل شهوتها؟ إن الصداقة بينهما ليست سوى وسواس ألقاه إبليس في القلوب بيسر، وما أكثر ما ترجف به القلوب! ظللنا قرونا ونحن نسجن كل رجفة جديدة في شراك الكلمات ونُطلق عليها أي اسم من الأسماء الهاربة من نار الرغبة. ظللنا في مجازات الأخوة والصداقة نُخفيها، ونتخفى بها. حتى الحب، ذلك الصندوق الكبير الذي دُفن فيه العشاق والشعراء، يحتاج دوما إلى مزلاج يسمونه العفة، لأجل استبعاد الوسواس بحيلة الكلمات، لكنه في الحقيقة ليس سوى استعارة أخرى تُداري جبلة الشهوة الأزلية"، مما يعني أن طه يتشكك في كل شيء من حوله، حتى الصداقة بشكلها المُطلق، وليست الصداقة بين الجنسين فقط، وهو التشكك الذي يعود إليه الروائي في: "لم يكن يثق كثيرا بمن يحيطون به؛ فلم أميز في قوله الحقيقة من الاختلاق. كان يغوص في ماضيه ليُعيد ترتيبه حسبما يشتهي. كل شيء معه جائز: الجد والهزل، الظاهر والباطن، الحقيقة والمجاز. وكانت تلك الأضداد التي قهرت حضارة بأسرها هي لعبته المُفضلة".

لكن، هذا الشكل المُتشكك في كل ما يحيط به نُلاحظ عدم انسياق ثناء له، إلا أنها لا تخبره بذلك، بل يدور داخلها فقط أثناء تأملها له وهو يتحدث: "ما دامت المرأة تخون، فلن تكون في مقام الصداقة، الصداقة تستوجب كتم السر، والمرأة هاتكة أسرار. بالطبع، الخيانة امرأة، والسقوط يبدأ بالخيانة. المُدن تسقط بالخيانات، والنساء أول من يخون! تبا له، لم يكن مُؤيد الدين العلقمي امرأة، ومع ذلك سقطت بغداد على يد المغول". إن طه هنا تمثيل للكائن العربي المشوه نتيجة ثقافاته المُتراكمة باسم الأديان والعادات الاجتماعية التي تحط من شأن المرأة طوال الوقت في مُقابل الرفع من شأن الرجل باعتباره هو محور الكون الأكثر اصطفاء ونقاء، مما يعني أن الكاتب هنا يغوص في العقلية العربية التي أنتجت هذا التشوه الذي نحيا فيه اليوم، صحيح أنه يرى في الإنتاج المعرفي العربي ما لا يمكن مُقارنته بإنتاج آخر- وهو إلى حد ما صائب في هذه النظرة، لا سيما في الجانب الفلسفي وثرائه- لكن هذا الإنتاج نتيجة اندثاره، أو اختفائه، أو عدم الاطلاع العميق عليه؛ لم يغيّر في العقلية العربية، وهو ما يحاول الكاتب- في جوهر الأمر- الإشارة إليه، أي الاحتماء بالمعرفة، لأنها السبيل الوحيد إلى تغييرنا، وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بدلا من الاستغراق في الأساطير والأوهام التي نتعامل معها وكأنها حقائق غير قابلة للنقاش.

إن الأحداث الدموية والسياسية التي مرت بها المنطقة العربية سواء على أيدي الإمبرياليات المُختلفة، أو على أيدي أبنائها ممن تولوا الحُكم بعد زوال هذه الإمبرياليات أدى إلى تهميش المعرفة والثقافة بالكامل، أي تجريف العقل العربي الذي كان في يوم ما مُنتجا للمعرفة، وبالتالي بات هذا العقل مُجرد مُستهلك شائه فقط لكل شيء من حوله، وهو نتاج طبيعي لهذه الأحداث المُتلاحقة التي مرت به، فكيف- على سبيل المثال- ينتج العقل العربي في ظروف مثل: "حين نزلت إلى الخرطوم بدا لي المشهد أكثر وضوحا، أقصد أكثر قبحا! بدأ الموظفون يطلقون اللحى، وتغير قانون الشرطة فصار كل شرطي يُطيل لحيته ينال علاوة، وفي الحفلات مُنع الاختلاط، كما تغيّر مشهد المواصلات العامة فصارت المقاعد الأمامية للنساء. وسَرَت التحولات في مظاهر كثيرة بالخرطوم. الخدمة العسكرية إجبارية، عمليات اقتياد إلى المُعسكرات، اختطاف متواصل، والناس يسألون عن أبنائهم في كل مكان"، مما يعني أن الوجه القبيح للانقلاب الإسلامي السياسي في السودان أدى إلى المزيد من التشوه، والخوف، والرعب، حتى أن طه أُرغم بدوره على التجنيد الإجباري، باضطراره إلى تسليم نفسه بدلا من اختطافه مثلما حدث للآخرين!

هذا الشر الذي يمارسه الإنسان على غيره ممن يعيشون معه على ظهر هذا الكوكب، لا سيما في المنطقة العربية ليس بجديد على التاريخ العربي الغاص بالجرائم التي لا يمكن تخيلها، مما يعني أنه شر موروث، ودموية تكاد أن تقترب من الحالة الجينية التي لا فكاك منها، وهو ما يجعل الكاتب هنا يسبح في التاريخ مُتأملا للتدليل بشكل غير مُباشر على أن ما يحدث اليوم لا يختلف كثيرا عن الدموية التي كانت تحدث بالأمس، ولنتأمل حديث أيمن الشناوي/ نباش القبور لطه حينما كان في الإسكندرية يدرس الآثار: "لما اقتعدت كرسيا إلى جانبه، أخذ يحدثني عن كتاب النويري "نهاية الأرب"، وعن حصار عبد الله السفاح لدمشق أربعين يوما، وقتله لبني أمية ونبش قبورهم. حدثني كيف ضرب جثة هشام بن عبد الملك بالسياط، وأمر بصلبها ثم حرقها. إنه تاريخ من الشر يا ثناء!".

ألا نُلاحظ في ذهاب الروائي إلى مثل هذا التاريخ وصهره داخل العمل الروائي قيمة بحثية؟ إنه على الأقل سيكون دافعا ومُحركا للمُتلقي الذي لا يعلم شيئا عن هذه الأحداث إلى البحث عنها بعد الانتهاء من هذه الرواية، ومحاولة الاستزادة مما أدلى الكاتب عنه بطرف. وإذا ما كان الهدف الأول للرواية هنا هو هدفا معرفيا من ناحية الشكل والمضمون، أي البناء على المعرفة وصهرها في الفني الروائي، فهي تحمل أيضا في باطنها هدفا معرفيا وبحثيا آخر يدفع بالقارئ للبحث بدوره عما عرف عنه القليل، مما يعني أن الكاتب هنا يُدرك جيدا قيمة العمل الروائي الذي لا ينحصر دوره في إزجاء وقت الفراغ، أو الترفيه.

لم يقتصر أمر التوحش السياسي هنا على ما حدث قديما- وهو ما نعرفه من بطون الكتب- بل تعداه مُستمرا إلى الوقت الآني، فالساسة غالبا ما يعادون المعرفة، ويرونها خطرا عليهم، وبالتالي لا بد لهم من القضاء عليها، وعلى من يقومون بإنتاجها أيضا، وهو ما يؤكد عليه البروفيسور عبد القادر: "لا خيار لنا غير الهرب. هؤلاء لا يميزون عصبة العلم من عصابة اللصوص أو الجماعات السياسية، كل من يحمل كتابا غير كتابهم يحسبونه مُعارضا، وخائنا لحزبهم. وكل من لا ينطق بما ينطقون يعتبرون فنه إفكا وأدبه مُنحرفا، والوطنية لديهم تُقاس في حدود صورة القائد الملونة!"، لذا ففعل التلصص هو فعل أصيل في هذه المُجتمعات، لأنه من خلال التلصص على الآخرين يمكن للساسة ورجال السُلطة القضاء على من يعارضونهم، أو يحاولون مُناقشة ما يقومون به، وبما أن المُجتمع يؤثر في بعضه البعض، ومن ثم يتسع أثر الفعل ليشمل الكل؛ فلقد تحول فعل التلصص في المُجتمعات المقهورة إلى فعل اجتماعي أصيل، وبات كل مواطن يتلصص على غيره باعتباره أمرا طبيعيا لا يدعو للدهشة، ومن ثم فهو من حقه أيضا التدخل في حياة الآخرين إذا لم تكن تروق له: "الجيران في كل مكان تتسع عيونهم ما إن تشتم الأنوف رائحة الغرباء، العيون من أدوات اللصوص، في الإسكندرية، وفي القرية، وفي اليمن، وفي الرباط، حيثما تمتد النطف العربية، لا تجدي غير العيون المُتلصصة، تلك غريزة فينا، ومهما تكن النوايا فهي من أثر عيون القدامى، ألا ترين أن الحضارات القديمة لم تُخفِ انتباهها إلى العين، انظري في عيون التماثيل السومرية، وفي عين حورس لدى الفراعنة، انظري في المرآة إلى عينيك. ثم أطلق زفرة طويلة، بينما ذُهلت لكلامه. هل كان يقصد تلصصي عليه؟! أم يتغزل بي من خلف ستر الكلمات؟!".

بالتأكيد ستؤدي هذه الحالة الخانقة من الديكتاتورية ومحاولات القنص، والاعتقال، والتلصص، والقضاء على الرأي والمعرفة إلى التوجس في كل شيء، مما يؤدي إلى نشأة كائن اجتماعي مشوه، يشعر بالخوف الدائم والشك في كل من يحيط به، كائن يسكنه الخوف بدلا من الأمل والإقبال على الحياة. إن سيطرة جو التوجس على الجميع نلحظه بجلاء في: "إنهم يقفون واجمين، وكأن أعينهم تقع خلف رؤوسهم تبحث عن أعين أخرى قد تكون تترصدهم من بعيد"، إنه وصف ثناء للقراء الجُدد الذين يمرون من أمام فاترينة عرض مكتبتها، فهم يخافون حتى أثناء شرائهم للكتب، يشعرون بالمُراقبة من قبل الجميع، حتى لو لم يكن هناك من يترصدهم، لكن جو الخوف والشك سيطر على الجميع، حتى لقد بات له ثقلا ماديا على صدورهم، مما يؤدي إلى خلق كائن غير قادر على الحياة بشكل طبيعي تحت سطوة الخوف الذي لا ينتهي.

هل من المُمكن لكائن يعيش في ظل هذا التوتر الدائم نتيجة الخوف والشك أن يكون كائنا مُنتجا للمعرفة، أو حتى مُستهلكا لها للوصول إلى الهدف الذي أُنتجت من أجله؟

بالتأكيد لا، إن مصير هذه الكائنات التي تعيش تحت ظل الديكتاتوريات والخوف هي الشلل التام، التحول إلى كائنات مُدجنة لا تفعل سوى الاستهلاك فقط، استهلاك المعرفة بشكل مشوه بعيد تماما عن هدفها الذي أُنتجت من أجله، استهلاك بقايا العالم، حتى استهلاك نفسه في الكوابيس والتخيلات والهواجس والانغماس في الخوف حتى النهاية!

من هنا فالامتلاء بإحساس الاغتراب الدائم وسيطرته على الجميع يكون أمرا طبيعيا لا فكاك منه، إنه إحساس دافع للجوء إلى العزلة الدائمة، فالعزلة هنا هي النتيجة الطبيعية لهذا الجو المشحون بالرعب من كل ما يحيط بنا، وهو ما يتبيّن لنا في قول البروفيسور عبد القادر: "ما زلت هنا، أعتكف هذه الأيام، الاعتكاف ضروري، علينا أن ننصت إلى ما بداخلنا حين يصبح العالم من حولنا غير قابل للتفسير، وحين نعجز عن بلوغ ما لا يُرى فيه، أنت تعلمين أننا نحتاج دوما إلى الصفاء قبل الرحيل"، أي أن كل هذه الفوضى المُستمرة في هذه المُجتمعات العربية قد أتت بأكلها، أدت إلى اندثار المعرفة بمفهومها الحقيقي، حتى أن من يقومون بإنتاج المعرفة أو محاولة الحفاظ عليها، مالوا بدورهم إلى العزلة عما يحيطهم لمحاولة الحفاظ على اتزانهم وسلامهم النفسي، والنأي بذواتهم عن التأثير المُباشر لما يحدث من حولهم، وهو شكل قاسٍ من أشكال الاغتراب التي يستغرق فيها من يحاولون الحفاظ على المعرفة، وعدم الانسياق للمُجتمع المُحيط بهم، لأن الاغتراب هنا يتحول إلى طريقة دفاعية لبقاء المرء وثباته على ما يؤمن به.

هذا الشكل المُهترئ للمُجتمعات، وما تمر به لا بد له بالضرورة من إصابة الجميع بالعجز، العجز عن التغيير، العجز عن الفعل، العجز عن الإنتاج، فلا يمكن لأحد النجاح في التغيير في ظل هذه الظروف القاسية، لا سيما أن المرء قد اعتاد هذه الأمور لفترة طويلة حتى كادت أن تصبح من مُفردات الحياة اليومية، وتكتسب طبيعيتها رغم نبوها عن الطبيعية، نلحظ ذلك في حديث الزول حينما يرغب في تغيير نفسه إعجابا منه بشول: "لم أستطع فهم شول، يغيب في الكنيسة أياما، ويدعوني لكرع البيرة، ويرقص على الكورنيش في وقت واحد! ومع ذلك تمنيت يا ثناء أن أكون مكانه، على ذلك السياج أرقص وأصيح. كان عليّ خوض المعركة مع نفسي يومها. واكتشفت بعد محاولاتي الأولى أني لست على استعداد للمُخاطرة بإلقاء سنواتي السابقة في البحر. لم يكن ذلك بإرادتي، شعرت أني أحتاج إلى قتل شخص ما بداخلي، وتلك معصية لا يمكنني ارتكابها. فكرة القتل نفسها جرم. لماذا أسعى إلى العيش في حداد على نفسي بقية سنوات عمري، ويصبح جسدي مُجرد مقبرة؟! ولا أخفيك أني الآن أشعر بحزن على نفسي لأني لم أقتل ذاك الشخص الذي لازمني مُنذ نشأتي، ولعلي أستعير حاجبيك فقط لأطعنه. ما يدريني؟ لعلي أعيش مُختلفا عنه بقية عمري".

إذن، فطه قد بات مشلولا هو وغيره من الآخرين، وهذا الشلل العاجز كان نتيجة طبيعية لتشوه المُجتمعات العربية الغارقة في جهلها وتشوهها، بمعنى أن التشوه لا بد له هنا أن يخلق المزيد منه في مُتتالية عددية لا يمكن لها أن تنتهي.

هذا التشوه العميق لا بد له أن يستدعي حالة من المُقارنة الدائمة ما بين مُجتمعاتنا، والمُجتمعات الأخرى، ما بين الموت والحياة، الجهل والمعرفة، نلحظ ذلك في: "لا شيء يمنعني الآن من مُباشرة نهاري بعد الظهيرة، ولأكن امرأة مسائية، لا بأس بذلك، فما الزمان إلا خرقة جُعلت لتخفيف آلامنا بالوجود، وما علينا إلا أن نستر بها ما بدا لنا من أوجاع. وما الذي سيتغير لو بدأت نهاري عند الصباح الباكر، أو عند بداية المساء؟ الحياة هنا لا تخلقها الفواصل الزمنية، بل يخلقها الإنسان"، إنه الفارق الشاسع بين هنا وهناك الذي تتأمله ثناء عن كثب بعد هروبها إلى هولندا.

تعتمد الرواية في بناء عالمها على مجموعة كبيرة من الشخصيات، وهي جميعها أعضاء في الشبكة المُمتدة من حول العالم من أجل البحث عن المعرفة، والكثير من المخطوطات، وإعادة نسخها، وتجليدها من أجل الحفاظ عليها من الاندثار، وهم يهيمون في كل بقاع الأرض من أجل هذا الهدف فقط، فهم يخشون على هذه المعارف من التبدد، لا سيما أن التتار الجُدد/ الأمريكيين لا يعنيهم سوى قوتهم وبطشهم وسيطرتهم على العالم من خلال هذه القوة، وهم على شفا غزو العراق- المكان الأساس الذي يحمل الكثير من التراث، رغم أن هذا التراث قد سبق حرقه من قبل التتار القدامى- أي أن وجودهم على الأبواب قد جعل هذه الشبكة تشعر بالخطر من إعادة تبديد التراث مرة أخرى، وبالتالي فهم ينشطون في محاولة البحث عنه وحفظه من الاندثار، لذا كانت المعرفة والوصول إليها- على طول الرواية- هي المُحرك الأساس الذي يكسبهم المزيد من الإصرار والنشاط: "الشبكة ليست طائفة لأن الدين لا يجمعها، وهي تعمل سرا لأن ما تجمعه من معارف تراكمت عبر العصور وتناثرت عبر الأماكن نفائس مخفية قد تُهدد الكهنة، ولما سألته عن الكهنة ضحك، ورد بالقول: إنهم ليسوا كهنة دين مُحدد، بل ليسوا كهنة أي دين، وإنما هم كهنة العلم والسياسة والاقتصاد والمُجتمع. ذكرني كلامه بالفيروزي، الطلاسم والأحجيات نفسها: ابحث عن المعرفة، ولا تهمك المعرفة نفسها! شرفك في البحث! ابحث دون أن تسأل عن الغاية لأنها ملك لأصحاب الغاية!".

ألا نُلاحظ هنا في قول الفيروزي- وهو شخصية من أعضاء الشبكة قابلها الزول في اليمن- أن حديثهم يتماهى تماهيا كليا مع المتصوفة والمُتفلسفين القدامى؟

لقد اكتسبوا أسلوبيتهم في تفكيرهم، وحديثهم، وحياتهم بالكامل، حتى لقد بات مُعظم أعضاء الشبكة هنا متصوفين بمفهومهم الخاص، وبالتالي بات البحث عن المعرفة والحفاظ عليها غاية في حد ذاتها: "كثيرا ما حدثني دون أن أكترث عن تاريخ اليهود في الإسكندرية، وعن رغبته في معرفة أسرار المعبد اليهودي "الياهو هانبي"، لكن رغبته ظلت مُعلقة ومُنكسرة، كان يقول: سيسقط المعبد ويبتلع الغبار عشرات الأسفار اليهودية". إن قلق نباش القبور هنا على المعبد اليهودي، ورغبته في معرفة أسراره ليس نابعا من خوفه على المعبد في حد ذاته، بل ينبع قلقه من انهدام المعبد وضياع الأسفار اليهودية الموجودة فيه، والتي تحمل- بلا شك- الكثير من المعارف التي لا بد من الحفاظ عليها.

لذا فالبحث الدائم عن المعرفة هو في جوهره بحث عن الذات، وقيمة الحياة، ومعنى الوجود على الأرض، وهو ما يتبين لنا من قول هيرو/ القرصان اليمني لطه حينما حاول ضمه إلى الشبكة: "استعدت نصيحة هيرو: إذا أردت الخلاص فعليك الالتحاق بالشبكة، وحدك لن تستطيع العيش دون معنى، تعال معنا، نقب معنا عن جواهر الزمن الماضي، لن يُغنيك الراتب، ولا الزواج، ولا الأطفال عن البحث في نفسك"، مما يُدلل على أن البحث المعرفي في معناه البعيد والحقيقي هو فعل وجودي راسخ لا غنى لنا عنه.

وجودية البحث المعرفي تجعلهم يشعرون بالكثير من القلق القاتل على المخطوطات من الاندثار واختفائها بسبب التتار الجُدد/ الأمريكيين الذين يحاصرون العراق، وهم على وشك غزوها وتدميرها بالكامل، لذا يفكرون في حفر مقبرة ضخمة من أجل دفن الكتب فيها والحفاظ عليها من الاندثار، أو السرقة: "في يوم من الأيام فكرنا في دفن الكتب، وطردنا فكرة تهريبها خارج الحدود. قلنا: إن ما للعراق يبقى للعراق! حبر العراق لأبناء العراق! صممنا على أن تبقى الكتب تحت الأرض حتى يأتي يوم تُبعث فيه مثلما تُبعث الأرض والأمل والطفولة من جديد".

إن هم الشبكة في الحفاظ على المعرفة يجعلهم لا يستطيعون الحياة وهم قلقون على اندثار وضياع أمهات الكتب الحاوية لها، لذا فهم يحاولون قدر استطاعتهم الحفاظ عليها للأجيال القادمة، بما أنهم لا يعنيهم سواها، وهو ما نلحظه حتى لدى أنجليكا الألمانية التي انضمت إلى الشبكة حينما تعرفت على هيرو اليمني في الهند، فتزوجته وبات همها في الحياة هو الحفاظ على أمهات الكتب مثلهم، إنها في حالة بحث دائم لا يتوقف، نهمة في بحثها: "كانت تقول: إن القدر يقودها إلى ضريح "أروى بنت أحمد الصليحي"، ولا مجال للتوقف عن إتمام بحثها في خفايا سيرتها. قلت لها: دعي للنقصان مكانا. فترنحت كلماتي أمام تصميمها. كانت يا زول أخلص من أعضاء عرب في الشبكة. أنا لا أريد أن أفقدها الآن، ولن أفكر لحظة في فقدانها".

لاحظ هنا أن المعرفة والبحث عنها تشبه الشرك الذي إذا ما اجتذب أحدهم ووقع فيه فإنه يمسى غير قادر على التخلص منه، بل يستسلم له تماما ويسعى باتجاهه دوما، ورغم أن أنجليكا تركت وطنها ألمانيا، وبدلت دينها من اليهودية إلى الإسلام من أجل هيرو القرصان، وانتقلت إلى الحياة في اليمن، وباتت مُهددة حتى أنه تم اختطافها من أجل التفاوض مع الحكومة الجديدة في اليمن باعتبارها رهينة أجنبية من المُمكن الضغط على الحكومة من خلالها، إلا أن كل هذه الأمور لم تجعلها تتراجع يوما عن بحثها الدؤوب عن المعرفة، بل كانت هي أقواهم، والمُحرك الرئيس، والقاطرة التي تحركهم هناك؛ فالكلمة لدى أعضاء الشبكة لها قيمتها التي لا تُعادلها أي قيمة أخرى: "تعلمت طوال سنوات أن الكلمات تُخفي المعنى أكثر مما تُفصح عنه، سترٌ لمعنى دفين، أصداءٌ تأتي من قاع البئر كلما ارتطم الدلو بسطح الماء"، أي أن الكلمة لها قيمتها واحترامها ومعناها الفلسفي العميق الذي لا يبوح بماهيته بسهولة، وإن كان يحمل في داخله الكثير من الحكمة الضرورية.

إن بيان أهمية ما تقوم به الشبكة من أجل الحفاظ على التراث الإنساني يتبدي في: "كان بعضهم يسأل عن كتب التراث في طبعاتها القديمة قبل أن تُحذف منها الصفحات، ويُعدم عدد من فصولها، بعضهم الآخر يسأل بتوجس عن الكتب المُهربة من المكتبة النظامية التي نجت من الاجتياح المغولي، ولكنها ستفشل بعد قرون في النجاة من أيدي العابثين من أحفاد العم سام".

ألا نُلاحظ هنا- في الفقرة السابقة- ما يُدلل لنا على قيمة ما تقوم به الشبكة من أجل المعرفة الإنسانية؟ إنهم يحاولون الحفاظ على الكتب من العبث الذي يحدث بها من حذف، أو إضافة، أو اندثار، أو حرق، وغير ذلك. هم لا يرغبون للمعرفة أن تتبدل، أو تُزيف، بل يرغبون في الحفاظ عليها للانتقال بها إلى الأجيال القادمة كما هي، وكما وضعها مُنتجوها الأوائل.

إن غوص الروائي بشخصياته الروائية في هذا العالم المعرفي، لا سيما التماهي مع "إخوان الصفا" يجعل الروائي يشير إليهم غير مرة: "لا أملّ من قراءة "ماهية علة فنون المعشوقات" لإخوان الصفا، الرسالة الساحرة التي دفعني بهاؤها إلى نسخها بيدي على ورق عتيق، ومن كثرة قراءتي الرسالة كدت أحفظها عن ظهر قلب، ومع ذلك لا أتوانى عن قراءتها بخطي، ألهج بكلماتها وحِكمها في خشوع، وحين ظهر الغريب، ازددت ولعا بها، وحاولت فهمها من جديد"، إنه الهوس بالمعرفة والاستزادة منها، والرغبة في حفظها، وهو ما يؤدي بالروائي أيضا إلى أن يجعلهم يستعيرون لغة "إخوان الصفا" في لغتهم اليومية الحوارية في الكثير من الأحيان، ولنتأمل: "لا أعرف ما حدث لي وهم أم يقظة! غير أني مُتأكد من أنه حدث بينهما. لمحت رجلا أسود يدخل من الباب، يلبس خرقة، ساقاه رقيقتان وبطنه عظيم، وعلى جبهته ندوب، وبيده كتاب ومجرفة. ظننت أنه يوم الحشر، وأنني بُعثت وحدي، قال لي بصوت مبحوح: يا خازن الكتب، ابحث عن سفينتك، ولا تنس دفن ما لديك. فارتعبت من قوله، إذ لست بحارا كي تكون لي سفينة، ولا أملك ما يستحق الدفن من مال أو ذهب أو فضة، ولما رآني مُرتجفا شاخصا، سلمني المجرفة وقال: إنك من أحفاد نوح، فاعتبر، ولا تكن مُغترا بحال دنياك، ولا تتوهم أن الجبل مُنقذك يوما. فسألته وبيني وبينه مسافة لا أعرف أكانت قصيرة أم بعيدة: هل تعني أن الطوفان قادم من جديد؟! فضحك من قولي، وطأطأ رأسه قائلا: ومتى غاب الطوفان عن دنياكم؟ للطوفان دورة، ومتى طغى الظلم، وانتشر الجهل، وضاقت الأرض بمن عليها زمجر من تحتها، وخرج من بطنها حتى تتنفس. أخذتني الرجفة، وصحت دون أن أتماسك: وهل النهاية قريبة؟ فرد وهو يلوح بالكتاب: ذلك ما حُفظ في الأزل وقُيد إلى الأبد. فأصررت مرة أخرى على الفهم: هل هو يوم الحشر؟ فنفى برأسه ذلك، ونظر إلى أعلى، وقال: الساعة من علم ربي. ثم سكت هنيهة، وسقف الغرفة يتلون بلون البرتقال، وقال: لكل بداية نهاية، وبينهما بدايات صغرى ونهايات صغرى، وأنت الآن في واحدة منها، فعجل بالسفينة، ولا تنس أن تحفر المخبأ كي تدفن فيه ما أنت خازنه اليوم، فإنك لا تعلم ما الطوفان، ولا تقوى عليه، واجمع من تثق بهم ممن يكتمون السر، وتوكل على الله. فقلت: ومن تكون كي أصدقك؟ فرد: أنا العبد التقي الذي بُحت بالسر فأماتني الله، وهكذا أحياني. فاستغربت قوله، وسألته: ومتى مت، ومتى بُعثت قبل البعث؟ فابتسم وقال: مت في مسجد من مساجد بغداد في الليلة الثامنة والستين بعد الأربعين. فحملقت بعينيّ استغرابا من كلامه: وهل في الدنيا عام تبلغ أيامه ما ذكرت؟ فربت على كتفي كأنما حط عليّ جناحا طائر، وقال: أنا ابن الحكاية، أولد خارج زمانكم، وأموت خارج زمانكم، ورغم ذلك أنا شاهد على زمانكم".

إنها الرؤيا التي رآها أبو محمد حينما بات إحدى لياليه في البصرة- لاحظ هنا أن البصرة هي موطن إخوان الصفا- مما دفع أعضاء المجموعة إلى التفكير في حفر المقبرة من أجل دفن الكتب وحفظها من الاندثار، فتفسير الحلم أنهم لا بد لهم من إخفاء الكتب خوفا من تبديدها وضياعها بسبب الطوفان القادم- الاجتياح الأمريكي للعراق وغزوها- أي التتار الجُدد، وهو ما يجعل أبا محمد يقول لهم في تفسيره للرؤيا: "لقد جمعتكم بعد تفكير طويل، لا يكون الطوفان إلا عدوا مُتربصا بنا، فإما أنه يُهدد الأعوان أو يُهدد البلد بأسره، وقد يكون من النظام أو من الأمريكان، وكلاهما طوفان! إننا مُحاطون بالنار، ولعل وقت بناء السفينة قد حان فعلا! ولكننا مهما فعلنا سنغرق في بحر الهيولي".

نزار شقرون هنا يحاول التأكيد بشكل جلي على أنه يتماهى في روايته مع إخوان الصفا بالفعل، وبأن جميع شخصيات الرواية هم مُجرد أعضاء وامتداد لإخوان الصفا، ومعاونين لهم من أجل حفظ تراثهم، لكن إشاراته الواضحة لمثل هذه الصلة القوية لا يمكن للقارئ أن يتبينها إلا إذا ما كان على علم، أو قرأ شيئا عن إخوان الصفا، وهو ما يفسر بأن الرواية هنا دافعة للبحث والمعرفة والاستزادة منها، ولنتأمل: "يومها تمتم أبو محمد، وحسبناه اختلى بنفسه مع العَرَق. قال بنبرة لم نفهم أكانت على السرور أم على الحزن: لقد صادفت في البصرة زيدا بن رفاعة، فحدثني عن احتراق جزء كبير من مكتبته، ثم صمم على أن أصحبه إليها، فوجدت قبالتها أثاثا مُحترقا، ورفوفا مُتفحمة، وكتبا مُتناثرة قضمت النار بعض صفحاتها، ورأيت كراتين كتب أخرى أتت عليها النار فلم تُبق منها غير رماد سميك".


مع تأمل الاقتباس السابق يتبيّن لنا أن الروائي يحاول إيهام القارئ بأن ثمة شخصية ما، جامعة للمعرفة في البصرة قد قابلت أبا محمد، وهذه الشخصية تُدعى زيد ابن رفاعة، لكن المُطلع على التراث القديم، لا سيما تراث إخوان الصفا بالتأكيد سيعرف أن الروائي هنا يوغل في الإيهام، والتماهي التام مع إخوان الصفا السابقين، فزيد ابن رفاعة هو في جوهره زيد بن عبد الله بن مسعود بن رفاعة، وهو أحد مُؤلفي رسائل إخوان الصفا، وأقام في البصرة زمنا طويلا، واعتقد برأي الفلاسفة، وكان من كتبه "جوامع إصلاح المنطق"، أي أن شقرون يمارس سرده الروائي هنا من خلال اللعب الفني، فهو يمارس الكتابة باعتبارها لعبة مُسلية وشيقة، لذا فهو يستعير اسم أحد إخوان الصفا ليجعله شخصية من شخصياته، وهو لا يكتفي بالاستعارة فقط، بل ويجعل مكان إقامته في البصرة أيضا، وهو المكان الذي أقامت فيه الشخصية الواقعية فيما قبل.

يحاول أعضاء المجموعة، أو الشبكة النقاش في أنواع الكتب التي من المُمكن لهم دفنها في المقبرة من أجل حمايتها من الاندثار والضياع، لذا يقول لهم أبو محمد: "الكتاب الذي يُدفن يجب أن يستجيب لشرط واحد، هو أن يكون جزءا من مشروع الاكتمال، كل كتاب يُعادي العقل والحكمة ليس له مكان في المدفن، لنجمع كتب الفلسفة التي لا غنى عنها، ولنجمع الكتب التي أسست للمذاهب والأديان والمُعتقدات، فكلها تسعى مُجتمعة إلى الاكتمال"، لاحظ هنا أن خيار أبو محمد واقتراحه عن الكتب التي لا بد من دفنها إنما يتناسب تماما مع فكر إخوان الصفا الذي عرفناه عنهم، وهو الفكر الذي يحاول التوفيق ما بين العقيدة الدينية، والأفكار الفلسفية، أي تغليب العقل، وعدم إهماله لإدراكهم لأهمية إعمال العقل، وقيمته في إنتاج المعرفة.

استغراق أعضاء المجموعة وإيمانهم اليقيني بأهمية وقيمة المعرفة الإنسانية أدى بهم إلى سطوة التأملات الفلسفية والصوفية عليهم، وهو ما نُلاحظه في: "اندهشت من الفيروزي نفسه حين أسر لي: لا تتبع ظاهر الحروف. إذا أردت القات فتقوّت، وإذا أردت الشراب فاشرب. إنما أنت تحكم نفسك بنفسك. قلت له: وماذا عن الدين؟ أطرق الفيروزي وطمأنني: ذاك ما ستكتشفه بنفسك حين تسير في اتجاه الحكمة. قلت: وماذا عن الحكمة نفسها؟ فرد بحنو الأب: تلك ضالتنا جميعا. قلت في حيرة: لم تُجبني عن سؤالي! وأرعبني حينما قال: فكر خارج الحلال والحرام وإلا فلن تمسك بشيء"، أي أنهم قد تلبستهم الحكمة الفلسفية فباتوا بدورهم فلاسفة وحكماء لطول عهدهم بنسخ، وجمع، وقراءة كتب التراث التي يحاولون جمعها وحفظها من الضياع، وهو ما سنُلاحظه مرة أخرى حينما يعبث طه في بيت أنجليكا في اليمن: "وجدت كتبا قديمة بلا أغلفة! شدني مُجلدان غريبان، تنبعث منهما رائحة بخور كأنهما يشتعلان! التقطت أحدهما كمن يلتقط فاكهة مُحرمة، وفتحت الصفحة التي عُلمت بعشبة قات جافة، وقرأت الفقرة المسطرة: إن لنا كتبا لا يقف على قراءتها غيرنا، ولا يطلع على حقائقها سوانا، ولا يعلمها الناس إلا من قِبَلنا، ولا يتعلم قراءتها إلا من علمناه، ولا يعرف صور حروفها غير من عرّفناه، ولنا علم آخر لا يشاركنا فيه غيرنا، ولا يفهمه سوانا، وهو معرفة جواهر النفوس، ومراتب انتقالاتها، واستيلاء بعضها على بعض".

إذن، فلقد كانت للغة الفلسفية، والتأملات فيها سطوة عظمى على جميع أعضاء المجموعة، أو الشبكة، وهو ما جعلهم يتحدثون بلغة الفلاسفة والحكماء، ويفهمونها فيما بينهم كشكل من أشكال اللغة السرية التي تستعصي على فهم من هم خارج شبكتهم. هذا التماهي الفلسفي هو ما نُلاحظه كذلك في: "قلت في دخيلتي: إذا اشتد الهم اتسع النظر، ولكن ليس إلى درجة أن يكون الحل بيد طه"، ولعلنا نُلاحظ أن العبارة مُتماهية إلى حد بعيد مع عبارة محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، ونحن نعرف جيدا أن النفري كان من أهم فلاسفة وأقطاب الصوفية، كما كان عراقيا أيضا، ووُلد في مُحافظة القادسية في عصر الدولة العباسية، وترك من خلفه كتابه المُهم "المواقف والمُخاطبات".

إن نزار شقرون هنا يعمل على النحت بتمهل في التاريخ المعرفي العربي، ويتمثله من خلال شخصياته الروائية، ومن ثم فهو يجعل من شخصيات اليوم/ الروائية مثالا مساويا لشخصيات الأمس/ إخوان الصفا وغيرهم، مما جعل المعرفة بالنسبة لشخصياته الروائية هدفا بحد ذاتها وغاية، إذا ما حصلوا عليها شعروا بالكثير من السعادة التي لا يمكن إدراكها بسهولة، وإذا ما فشلوا في الوصول إلى هذه المعرفة ينتابهم خواء لا يمكن لهم احتماله، أي أن الفشل في الحصول على المعرفة، واكتشافها يتساوى إلى حد بعيد مع الموت، أو انعدام الوجود- باعتبار المعرفة والاكتشاف هما فعلان وجوديان في جوهرهما- لذا حينما ترك هيرو القرصان- الزول طه- في بيت أنجليكا وذهب من أجل محاولة تخليصها من الاختطاف قال له: "حسنا، إذا أحسست يوما بوحدة لم تعرفها من قبل، فاترك المكان، وتعال إلى زبيد، إنك لن تقدر على البقاء وحدك لو داهمتك تلك الوحدة، إنها الفراغ بعينيه، الخواء الذي يسبق نشأة الأشياء، فأنت ما تزال طريا ولن تستطيع تحمل ذلك"، وبالفعل فطه الذي كان يعتقد أنه إذا ما فتح غرفة أنجليكا الهائم بها- وهي الغرفة التي حذره هيرو من الولوج إليها- فسوف يجد فيها أشياءها التي ستؤنسه، سُرعان ما أُصيب بهذا الخواء الذي حدثه عنه هيرو. إن سبب الشعور بالخواء والوحدة القاتلين ليس السبب فيهما في حقيقة الأمر أنه لم يجد أشياء أنجليكا فيها، بل كان السبب الأساس هو الفشل في الاكتشاف. إن الاكتشاف هنا يُمثل في جوهره فعل وجود، وإذا لم نصل إليه فلقد زال وجودنا واهتز، مما يصيبنا بالكثير من الحزن والخواء، مما يعني ان الروائي هنا يؤكد غير مرة على أن الاكتشاف المعرفي مُتعة لا تُضاهيها أي متعة أخرى من المُتع، وبما أن طه كان يعتقد أنه سيكتشف شيئا- أشياء أنجليكا الخاصة- وبما أنه حينما فتح الغرفة وجدها خاوية تماما؛ فلقد أُصيب فجأة بالوحدة والخواء القاتلين؛ لأنه فقد مُتعة هذا الاكتشاف الذي كان يظنه. أي أن الروائي هنا يحاول إكساب معنى الاكتشاف معنى حياتيا مما يؤكد على أهمية معرفية العمل الروائي هنا، فالمعرفة هدف في حد ذاتها: "استعدت مكر هيرو إزاء حيرتي وتخوفي، بقوله: إن أعضاء الشبكة لا يدينون بدين واحد، فيهم المُسلم والنصراني واليهودي، والهندوسي أيضا، بل حتى من كان دون ملة أو دين! في الإسكندرية زاد ارتيابي أكثر حين أخبرت "نباش القبور" فباح لي بأنه عضو في الشبكة رغم عدم معرفته بهيرو، وأوعز إليّ بأن أطراف الشبكة غير معلومة، وأعضاؤها ينتشرون في الأرض ولا تجمعهم غير أهداف مُشتركة وهي "الرحلة من أجل البحث"، وحين عبرت عن عدم فهمي لذلك، قال لي: إن أردت أن تكون عضوا في الشبكة فعليك أولا أن تحفظ الأسرار، ومُشكلتك أن طيبتك الطافحة أكثر من اللزوم تجعل لسانك يثرثر. الإنسان يحاول أن يتعلم، ولكن لغة الطلاسم صعبة. طلبت منه أن يفهمني ما يعنيه "بالرحلة من أجل البحث؟ عم البحث، وأي رحلة؟ عبر البر هي أم عبر البحر أم في الفضاء؟ سخر مني الشناوي، وربت على كتفي: هناك من يبحث عن الذهب، وهناك من يبحث عن معنى وجوده، وهناك من يبحث عن آثار أجداده، وآخرون يبحثون عن الله، وحتى أبناء الزنا يبحثون عمن قذفوا النطفة ثم لاذوا بالفرار! يا زول، أعضاء الشبكة لا يبحثون عن شيء من هذا القبيل، إننا نبحث عن الأشياء المنسية والمفقودة والمُهملة في ردهات الأزمنة والأمكنة! وفي كل بلد ستجد أعضاء يبحثون عن شيء يعنيهم، وللشبكة في كل بلد عنقود عنب!".

إن حديث "نباش القبور"/ أيمن الشناوي هنا يحيل البحث المعرفي إلى بحث لذاته، فلقد تحولت الحياة لمن يبحث عن المعرفة إلى بحث من أجل البحث، لأن لذة الاكتشاف لا تُضاهيها أي لذة أخرى، لذا فهيرو كان يؤكد على هذا المعنى دائما: "كان يقول لي دائما: البحث مصدر البهجة، لا تفكر فيما تبحث عنه، فكر أولا في الفرحة التي تظفر بها تهم بالخروج عن الطرقات المسلوكة وتنصرف نحو المجهول"، وهو ما يُفسر لنا سبب الخواء والوحدة القاسيين اللذين انتابا الزول طه حينما لم يجد شيئا في غرفة أنجيلكا حينما فتحها وخالف أوامر هيرو.

محاولة وضع الزول في التجربة العملية من أجل اكتشاف لذة الاكتشاف وبهجته كان الفضل فيها للشيخ الزبيدي في اليمن حينما طلب من طه النزول إلى حفرة مُظلمة: "طلب مني الشيخ الزبيدي أن أسمي باسم الله الواحد الأحد، وأن أستغفره، وأنزل في الحفرة! ترددت في البداية، كنت أخاف من كل ما هو ضيق، وأقول: وسع الله علينا فتحة القبر وأناره من ظلمته! وتذكرت كيف رفضت الدخول إلى هرم "خوفو" رغم تأنيب المُدرسين، وتندر زملائي الطلبة، رفضت ذلك حتى لو كلفني الرفض العودة إلى السودان! ترددت في النزول هذه المرة، وفي قلبي نبض من المُغامرة لا أعرف من أين وُلد ولا من أين ظهر! واندفعت للنزول، فألقيت بقدميّ مُتحسسا المكان، وإذا بي أنزل بيسر على درج من الطوب، حتى بلغت عيناي الظلام. صحت بهيرو: لا أرى شيئا هنا. فقال لي: لا عليك، حاول أن تخطو بهدوء، السير في الظلام مُنتهى الحياة، وحين تصطدم بشيء، حاول تحسسه برفق، واقبض عليه برفق، واحمله إلينا! ازددت خوفا من هذا الشيء الذي لا أعرف ما هو، هل يكون صندوقا، أو حجرا، أو ألواحا خشبية؟!"، هذه التجربة العملية التي رغب من خلالها الشيخ الزبيدي تعريف طه لذة الاكتشاف جعلته يخبرها، ويسعد بها، ويتأملها، لذا يقول حينما اكتشف أربعة ألواح آثارية في الحفرة: "لا أعرف ما الذي جعلني أبتهج، وكل ما عثرت عليه كان من إرشاد الشيخ الزبيدي! ولكن مع ذلك غمرني شيء من السعادة ظلت بادية على وجهي إلى حين عودتنا واجتماعنا بالفيروزي". إنها لذة الاكتشاف التي لا تعادلها لذة ولا بهجة أخرى، لذة المعرفة والوصول إليها، وهو ما يحاول الروائي التأكيد عليه على طول الرواية.

يحاول نزار شقرون في روايته الربط الوثيق ما بين أعضاء الشبكة وبين إخوان الصفا، فالشبكة تنتهج نهجهم، وتفكر بتفكيرهم، وتؤمن بما كانوا يؤمنون به، وهو ما نُلاحظه في قول ثناء: "لم أنتمِ يوما إلى أي جماعة، وليس الأعوان كتلة حزبية يحملون أيديولوجيا مُحددة بضوابط، ولا مراتب يحتلونها بحسب تفانيهم في الالتزام بشيء ما، وليس أبو محمد زعيما ولا شيخ طريقة. كيف يمكنني أن أبوح لطه بأننا لسنا دعاة إلى مذهب، ولا ناطقين باسم دين، وحين نُجل القدامى من المُفكرين لا ننسى أننا أبناء هذا العصر؟ كيف أعترف له بأن الأعوان هم أبناء شبكة واسعة لا تحدها لغة ولا دين، فكل اللغات تنبع من وجدان واحد، وكل الأديان تصب في دين واحد، وكل عون لا يسعى إلا في سبيل الحكمة؟! وكيف سيفهم أننا نُعد إخوان الصفا مرجعا طلسما ما يزال بكرا، وفيه أسرار لا يتناقلها إلا الأعوان بتكتم، وأن أفكارهم مُتناثرة في العالم مثلما تتناثر الكواكب في الكون! هل كان عليّ أن أكرر على مسمعه ما كان أبو محمد يقوله: سامح الله الشافعي حين أغلق باب الحكمة فقيدها بالسنة، فأضاع علينا بابها؟!".

إذن، فارتباطهم الوثيق بإخوان الصفا هنا نابع في المقام الأول من محاولة إعمال العقل وعدم تعطيله، إنهم جماعة يعلون من شأن العقل على أي شيء آخر، وبالتالي فهم يرون أن تعطيل العقل لا يمكن أن يؤدي في نهاية الأمر إلا إلى كارثة، وهي كارثة الجهل، والسطحية التي نراها اليوم في كل ما يحيط بنا، لذا فهم يشعرون بالقلق الشديد على اندثار هذه المعارف التي أعملت العقل، وشجعت على إنتاج المعرفة.

يحاول كل من ثناء وطه الهروب من العراق، ولكن طه يودع ثناء عند الحدود العراقية الأردنية ويختفي تماما عن نظرها، وبالتالي تغادر وحدها إلى هولندا، ورغم أنه كان على طول الرواية راغبا في العودة إلى السودان ومُغادرة العراق، إلا أنه لم يغادر العراق في نهاية الأمر حينما تهيأت له الفرصة، بل عاد إلى "البستان"، أو المكتبة التي كانت ثناء تُديرها وتحفظ فيها الكتب النادرة التي يحاولون الحفاظ عليها، وبما أن وعي طه لم يتفتح وينضج بالفعل إلا في هذا البستان في العراق، وبما أن البروفيسور قد قُتل في إحدى الغارات الجوية الأمريكية؛ فلقد فضل أن يبقى هناك، وسط هذه المخطوطات للحفاظ عليها من الهجوم المغولي الجديد/ القوات الأمريكية.

إن رواية "زول الله في رواية أخت الصفا" للروائي التونسي نزار شقرون، هي رواية تنتصر للعقل والمعرفة في مُقابل الاستسهال الروائي الذي نراه من حولنا اليوم، رواية تحاول- قدر الإمكان- استعادة دور الفن الروائي مرة أخرى باعتباره فنا معرفيا، قادرا على حث القارئ على البحث والمعرفة، والاستزادة من المعارف المُختلفة، وهي بهذا الفعل إنما تعمل على انتشال الرواية المُعاصرة من مأزقها الساذج والسطحي الذي انحدرت إليه لتعلو بها مرة أخرى إلى مصاف العلوم المعرفية الأخرى، فالرواية لدى شقرون هي فعل معرفي، ووجودي، بل هي فعل تثويري مُهم من شأنه أن يحث على التغيير إلى ما هو أفضل، وأجود في هذه الحياة.


محمود الغيطاني 

مجلة "نقد 21"

عدد مارس 2025م.

 

 

 

 

 

 

هناك تعليق واحد: