فمع تطور السينما الوثائقية، وتداخل الأنواع الفيلمية، نشأت أشكال وثائقية
تختلف عن الفيلم الوثائقي بشكله الأولىّ الذي كان يهدف إلى الرصد والتسجيل فقط،
وتعداه إلى أشكال فيلمية أخرى تنتمي إلى الوثائقية، وإن كانت قد أخذت من الأنواع
الفيلمية الأخرى، مما أدى إلى وجود أفلام Docudrama الديكودارما، أو الدراما الوثائقية التي تحاول إعادة تمثيل الأحداث
التي وقعت من قبل. صحيح أن الفيلم هنا يظل فيلما وثائقيا- أي يبقى داخل النوع/
الجنس الفيلمي- لكنه يأخذ بعض خصائص الفيلم الروائي مُمتزجا بالفيلم الوثائقي؛ مما
يضفي عليه المزيد من التأثير، والمقدرة على الفعل أو التثوير.
هذا الشكل من النوع الفيلمي- الديكودراما- هو ما نراه بشكل واضح في الفيلم الإيراني Destiny قدر للمُخرج والسيناريست الإيراني Yaser Talebi ياسر طالبي، حيث يبدو لنا الفيلم هنا- رغم وثائقيته- فيلما فيه من سمات الفيلم الروائي الكثير، لكنه هنا لا يعتمد على المُمثلين المُحترفين أو غير المُحترفين، بقدر اعتماده الرئيس على أصحاب القصة الرئيسيين الذين يهتم المُخرج بتسجل قصتهم، ومُعاناتهم، وما يعيشونه من بؤس يدعو للكثير من التساؤل والغضب في آن.
يحاول المُخرج هنا مُراقبة وضع المرأة، وذوي الإعاقة في المُجتمع الإيراني،
وهو في حقيقته وضع جحيمي وبائس بالنسبة للطرفين؛ فكليهما مُهمش تماما، غير مرئي،
لا حقوق لهما، مُجرد شيء يتحكم المُجتمع في تحريكهما، واتخاذ القرارات بدلا منهما-
فالمُجتمع بذكوريته، وسُلطويته لديه الحق في الوصاية على الاثنين لأنهما من وجهة
نظر هذا المُجتمع ناقصان، غير مُدركين لمصلحتيهما، وما يجب أن يتخذاه من قرارات
صائبة، وبالتالي فالآخرون يتولون المسؤولية عنهما سواء شاءا ذلك، أم لم يشاءا!
بمعنى أن الوصاية هنا مفروضة بقوة العقل الجمعي الذي يمتلك من السطوة ما لا يمكن
مقاومتها.
يتوقف ياسر طالبي بكاميرته- مُتأملا- أمام رحيم، صاحب الإعاقة العقلية،
وابنته سحر ذات الثامنة عشرة ربيعا، والتي تدرس في السنة النهائية في المدرسة
الثانوية، تمهيدا للالتحاق بالجامعة، في منطقة دودانجة، مُحافظة مازندران في
إيران، لنعرف بأن سحر قد توفيت أمها بمرض السرطان، وتركتها وحيدة مع الأب المُعاق
لتقوم الفتاة برعايته، وتحمل مسؤوليته وحدها، لا سيما أنه لا يمكنه الاعتماد على
نفسه، أو الحياة من دون رعاية، حتى لكأن الفتاة هنا قد باتت الابنة، والأم أو
الزوجة في آن، وهو ما يُحملها قدرا عظيما من المسؤولية التي تشغلها أحيانا عن
دراستها، لقلقها على أبيها الذي لا يمكن غض النظر عنه كثيرا حتى لا يؤذي نفسه، مما
يعني أن الفتاة هنا قد فقدت- تحت ضغط الأمر الواقع- قدرا كبيرا من مُراهقتها،
سُلبت منها حياتها الطبيعية، وتطورها العمري، وتم الدفع بها نحو النضوج المُبكر،
والكثير من الحزن والقلق.
يبدأ المُخرج فيلمه على شاشة سوداء قبل مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre لنقرأ: أخذت الريح الطائر حيث أرادته الريح، في اتجاه لم يكن الطائر يسلكه. وهي مقولة موقعة باسم المُخرج الإيراني عباس كياروستامي. أي أن ثمة ارتباط موضوعي ما بين هذه المقولة التي صدّر بها المُخرج فيلمه، وما بين الفيلم المُقبل على البدء فيه، وهو ما حدث بالفعل مع سحر التي أخذتها الريح والأحداث القدرية إلى التخلي عن مُراهقتها لتتحمل مسؤولية الأب الذي هو في حاجة ماسة لمن يرعاه، لا سيما أن أخاه مُنشغل عنه، ولديه أسرة يهتم بها، بينما أخته كبيرة في السن، غير قادرة على تولي هذه المسؤولية.
في مشاهد ما قبل التيترات- وهو مشهد محوري وجوهري في الفيلم- نُشاهد سحر
تستمع إلى تسجيل صوتي لأمها قبل رحيلها، مُسجل على شريط كاسيت، حيث تركت الأم قبل الرحيل
العديد من التسجيلات لابنتها، فنستمع معها إلى الأم بينما دموع سحر تتساقط: سحر،
ابنتي، أرغب في الاعتذار لك، لم أكن أما جيدة، لقد انتهت حياتي يا عزيرتي، أتمنى
ألا تقولي بأني كنت أما أنانية، جلبت طفلة لهذا العالم من أجل مصلحتي، لقد كان لدي
آلاف الأمنيات حينما جلبتك إلى هذا العالم، لم أكن أعلم بأني سأصاب بهذا المرض،
لقد مررت بالكثير من الصعوبات يا عزيزتي.
إذن، فمع المشهد الأول من الفيلم يؤسس المُخرج للعالم الذي يدخله مُتابعا
إياه بكاميرته، وهو يقتحم عالمه الفيلمي بهذا التسجيل من الأم لابنتها لبيان أثر
المأساة الآنية التي تعيشها الفتاة، وشعور الأم قبل الرحيل بأنها قد جنت على
ابنتها التي ستتركها مع أب مُعاق في حاجة ماسة للرعاية الدائمة والمُستمرة.
نُلاحظ هنا أن سحر تتعامل مع أبيها وكأنه طفلها، رغم أنه يمتلك القليل من
الإدراك والفهم، فضلا عن تحمل مسؤولية نفسها في دراستها، ومحاولة الاجتهاد لتلتحق
بالجامعة وتحقيق حلمها بأن تصبح طبيبة لعلاج المرضى، لا سيما أن الأم ماتت بسبب
السرطان.
إن الفتاة هنا تعاني من هذا الشكل من الحياة، وهي المُعاناة التي دفعتها لسؤال جدها لأمها ذات مرة: جدي، أنت تعرف أبي جيدا، لِمَ سمحت لأمي بالزواج منه؟ ليرد عليها: أرادت أمك ذلك، ماذا يمكننا أن نفعل؟ تقول: كان بإمكانك أن ترفض. لترد الجدة: مهما قلنا لها، كانت تقول: إن هذا حظها، ماذا كان بوسعنا أن نفعل؟ لقد كان قرارها. تقول سحر: كان بإمكانكما إيقافها، فأنتما والديها. ترد الجدة: لم تستمع إلينا، ماذا كان بإمكاننا أن نفعل؟ تقول الفتاة: لقد دمرا حياتي. لترد الجدة: لقد دمرها الله، لا بأس يا عزيزتي. بينما يقول الجد: لِمَ تقولي بأن حياتك قد دُمرت؟!
سنُلاحظ هنا من سؤال الجد الأخير- الذي لن تُجيب عليه سحر- أنه غير مُدرك،
أو غير راغب في إدراك المُعاناة الجحيمية التي تحيا فيها الحفيدة التي وُلدت لأب
مُعاق في حاجة دائمة للرعاية، بينما رحلت الأم لتتركها تتولى- بالنيابة عنها- هذه
المسؤولية الثقيلة، ورغم قيام الفتاة بهذه المسؤولية من دون تذمر لشعورها بالواجب
والمسؤولية تجاه الأب، فضلا عن مشاعر الحب التي تُكنها له، إلا أنها غير قادرة-
على المستوى النفسي- على تحمل هذا الدور الثقيل الذي لا يتناسب مع عمرها.
لكن سحر التي تحاول الاجتهاد في دراستها قدر الإمكان لتحقيق حلمها في
الالتحاق بالجامعة لتصبح طبيبة تواجهها الكثير من العوائق التي تُهدد بإجهاض هذا
الحلم، وتسربه من بين يديها؛ فعمها وعمتها المسؤولان عنها يرفضا تماما التحاقها
بالجامعة، ويريان بأنها لا بد لها أن تتوقف عند الشهادة الثانوية لتستقر في البيت
من أجل رعاية أبيها والاهتمام به، وهو ما نعرفه من حوار سحر مع عمتها حينما تقول
العمة: ادرسي واحصلي على شهادتك على الأقل، لا يتوجب عليك الذهاب إلى الجامعة.
لترد سحر: عمتي، لماذا؟! تقول العمة: لن أكون راضية؛ للالتحاق بالجامعة عليك
الانتقال إلى مدينة بعيدة. تقول سحر: لقد درست كل هذه السنوات للالتحاق بالجامعة،
إذا لم يكن الأمر كذلك فلِمَ أدرس إذن؟! تسأل العمة: ماذا حدث لأولئك الذين درسوا؟
لتقول الفتاة: ليس الجميع مثل بعضهم البعض. ترد العمة: على أي حال، ذاكري دروسك، وعندما
تكوني في عطلة الصيف ابق مع والدك في القرية، لا ينبغي عليك الذهاب إلى أي مكان.
تقول سحر: لا بد لي من الدراسة. لترد العمة: الدراسة حتى الحصول على الشهادة
الثانوية، بعد ذلك لن تذهبي إلى أي مكان آخر. تحاول الفتاة: لقد كنت تقولي لي:
كوني طبيبة، لا أحد يصبح طبيبا بشهادة الثانوية. ترد العمة: رعاية والدك أهم من
كونك طبيبة، طالما أننا نُقرر نيابة عنك؛ فنحن لا نقبل هذا. تقول الفتاة بيأس:
صحيح، يمكن للجميع أن يقرروا بالنيابة عني، لا أعلم، هل يجب عليّ أن أذهب وأبقى مع
والدي؟
إن الفتاة هنا تعيش في مُجتمع خانق تماما، مُجتمع مُسيطر ذو سطوة عليها، قادر على التحكم في حياتها بالكامل، وتحديد اتجاهها كيفما شاء باعتبارها لا تمتلك من شأنها شيئا، فهي في مثل هذا المُجتمع مُجرد شيء يتم توجيهه تبعا لرغبات الآخرين، وهي رغبات ذكورية في جوهرها، حتى لو كانت صادرة من امرأة/ العمة، لا سيما أن الأب ليس لديه المقدرة على اتخاذ القرار أو تحمل مسؤولية الفتاة، وهو ما نراه كذلك في المدرسة حينما ترغب الفتاة في الانضمام إلى فريق الكرة الطائرة، وهي الرياضة التي تعشقها، ورغم اختيارها من بين مئة فتاة لتمثيل فريق الكرة الطائرة في مدرستها إلا أن عمها يرفض رفضا قاطعا انضمامها للفريق- باعتباره ولي أمرها المسؤول عنها- فنراها تُهاتفه بقولها: عمي، لقد تم اختياري من بين مئة طالبة، أنا في قائمة العشرة الأوائل، انتظر لثانية، اسمح لي بإنهاء كلامي، أنا في قائمة العشرة الأوائل، أعني، ألست سعيدا؟ ألست فخورا بي؟ عمري 18 عاما، متى يمكنني أخذ القرار بنفسي؟ لم لا تستمع إليّ؟
لكن، حينما تجد الفتاة أنه لا أمل من موافقة العم تطلب من الأب أن يبصم
بإصبعه على الموافقة بالانضمام إلى الفريق، ويحقق لها ما تطلبه بالفعل، لكن
المدرسة ترفض طلبها، لا سيما أنها كانت قد قدمت للمدرسة فيما قبل شهادة من المحكمة
تفيد بأن الأب مُعاق ذهنيا، وهو ما يجعله غير مُؤهل لاتخاذا القرارات، وبالتالي
فهم يؤكدون لها على ضرورة تواجد العم وإبداء موافقته على انضمامها، وإلا سيفوتها
هذا الأمر، وهو ما يرفضه العم بشكل قاطع.
نحن هنا أمام مُجتمع قاتل لكل الآمال، مُجتمع سُلطوي شديد الذكورية يرى أن
الفتاة لا بد أن تكون خادمة لأبيها- وزوجها فيما بعد- وتتحمل مسؤوليته بدلا من أن
يقوموا هم بدورهم تجاهه، وبالتالي فعليها أن تتوقف عن إكمال دراستها، ولا يصح لها
أن تشترك في فريق الكرة الطائرة، وربما عليها أن تصرف النظر عن زواجها مُستقبلا
حتى لا تبتعد عن الأب وتتركه لحاله، أي أنهم يعملون على القضاء على حياتها
بالكامل، يسلبونها حتى حق التنفس والخصوصية، ومن هنا نفهم قولها فيما قبل لجديها
بأن زواج أمها من أبيها وهو على هذه الحالة قد دمر حياتها، وبالتالي فهذا المصير
هو الإجابة على سؤال الجد الذي سألها: لِمَ تقولي بأن حياتك قد دُمرت؟
يحاول جارهم الشيخ طوال الوقت السعي من أجل تزويج أبيها رحيم رغم إعاقته
الذهنية، وهو يهدف من وراء هذا الزواج جلب امرأة لتعتني به بدلا من ابنته من أجل
إكمال الفتاة لدراستها، ولكن، رغم هذا الهدف الذي يسعى من أجله الشيخ إلا أن
الفتاة تُعارض تماما زواج الأب مرة أخرى من امرأة بالتأكيد ستعاني مُعاناة أمها، أي
أنها غير راغبة في تكرار المأساة التي مرت بها أمها مرة أخرى. يقول الشيخ لسحر:
لقد تحدث معي رحيم عن الزواج مُنذ فترة، على أي حال هو لا يزال شابا، كما أن
الإسلام قد أعطى الرجل الحق في الزواج مرة أخرى ما يصل لثلاث مرات، ولكن إذا ما
كنت لا توافقين حتى لا يكون مُستقبلك محكوما عليه بالفشل، فلديك عمك وعمتك
والآخرين، سيهتمون بك. لتقول: من الصعب الحياة مع والدي، لا يمكن للجميع الحياة مع
مثل هذا الشخص. يسألها: ماذا لو كان المرء سعيدا به، مثل والدتك؟ فتقول: بالتأكيد
لن يكون أحد سعيدا معه، ثانيا: إذا كان أي شخص سعيدا معه، فسيواجه وقتا عصيبا.
يقول الشيخ: اسمعي، لنفترض أنه تزوج مرة أخرى غدا، هل ستعترضي؟ لتقول: بالتأكيد.
يقول: أتقصدي بأنك ستتركي والدك بمُفرده؟ ترد: لن أتركه، سأبقى معه، سأبقى معه
طالما أستطيع، لكني لن أسمح بتدمير حياة شخص آخر مثلما حدث مع أمي التي ماتت حزنا.
يسألها: هل ستعارضي زواجه؟ ترد: أجل. ليقول الأب: بصراحة أنا أحب ابنتي، يجب أن
تبقى معي. يسأله الشيخ: لن تنزعج إذا لم تتزوج؟ يرد الأب: لا. فيسأله الشيخ: ليس
هناك مُشكلة؟ هل ستبقى مع سحر؟ يقول الأب: أجل، سأفعل. فيسأله الشيخ: هل ستساعدها
على مواصلة دراستها؟ ليرد الأب: نعم. هنا تقول له سحر: سأعتني بك قدر ما أستطيع،
ولكن لا تتحدث عن الزواج بعد الآن.
إن الفتاة هنا لا ترغب لأي امرأة أخرى أن تمر بنفس المأساة التي مرت بها أمها الراحلة، وهي المأساة التي تركت بأثرها على الفتاة لتعيش في جحيم رعاية الأب رغم عمرها المُبكر، ورغم رغبتها في الدراسة، ورغم أنها بالتأكيد سترغب يوما في الزواج، وهو ما سيرغمها على الابتعاد عن الأب. إن الجميع غير راغبين في تحمل مسؤولية الأب هنا، سواء كانت الأسرة- العم أو العمة- أو المُجتمع غير الراغب في القيام بدوره تجاهه كمُعاق، وبالتالي فالمسؤولية الثقيلة تقع على عاتقها وحدها في هذه الحياة، إنها المأساة التي نستمع إلى طرف منها من خلال تسجيلات الأم بقولها: سحر، لم أستطع التنبؤ بهذا، والدك مُعاق، كيف يمكنه البقاء على قيد الحياة بدوني؟ من سيعتني به؟ عزيزتي، اعتني بوالدك، لا تدعي الناس يسخرون منه، أطلب منك عدم البكاء حينما تسمعي صوتي، لا تخبري أحدا، احتفظي بهذا السر في قلبك، أنا قلقة على والدك، سحر، أردت أن أعتذر، لم أكن أما جيدة، حياتي تقترب من نهايتها. وهو ما يجعل الفتاة تبكي لتهمس بقولها: أتمنى الموت من أجلك.
إذن، فالأم حتى في لحظات احتضارها حريصة على تحميل الفتاة ما لا طاقة لها
به. لذا فشعور الفتاة هنا بالقهر والظلم الواقع عليها بسبب هذه الزيجة بين
الأبوين، وبسبب ضغط المُجتمع من حولها عليها يجعلها تسأل العمة: لو كنت أمي، هل
ستتزوجي بأبي؟ لترد العمة: إذا كان لا بد من ذلك، نعم.
العمة هنا تجيب بالإيجاب رغم أن ضرورة تلك الزيجة لم تكن بالفعل قائمة
حينما تزوجت الأم بزوج مُعاق ذهنيا، بات عبئا على الجميع برحيل الأم، صحيح أن الأم
كان لديها أشقاء مُعاقين بدورهم، لكن لم تكن هناك أي ضرورة لهذه الزيجة التي وقعت
بكاملها على عاتق الابنة في نهاية الأمر لتُدمر حياتها بالفعل، وتجعلها تعيش في
جحيم دائم من كل الجهات المُحيطة بها.
هذه الحياة الخانقة والضاغطة عليها من كل الجهات- الدراسة، والأهل، ورعاية
الأب، والأفق المسدود أمامها- يجعلها تحاول غير مرة الهروب منه إلى عالم آخر
مُفترض، حيث تحاول التنفس أحيانا- هي وصديقاتها من الفتيات اللائي يعانين في هذا
المُجتمع السُلطوي- بالهروب إلى الانستجرام، والتقاط العديد من الصور لنفسها بعد
التزين، ووضعها على حسابها، لجذب المزيد من المُتابعين، فهو المنفذ الوحيد أمامها
ولو لبرهات للهروب من هذا العالم الجحيمي الجاثم على أنفاسها يكاد أن يخنقها
تماما. صحيح أنه مُجرد عالم وهمي، افتراضي، غير حقيقي، لكنه على الأقل يعينها على
احتمال كآبة وبؤس الحياة من حولها.
يجتهد الشيخ غير مرة في محاولة تزويج الأب لأي امرأة من المُمكن أن تقبل
به، حتى أنه حينما يأخذ رحيم إلى إحدى النساء لطلب الزواج منها ترد المرأة بتردد
بعد مُلاحظتها لإعاقته الذهنية بقولها: حاج، أنا، هناك العديد من المشاكل وأريد من
يدعمني، يجب أن أرى إذا ما كان بإمكانه رعاية أطفالي أم لا، لا أعتقد أنه يستطيع
ذلك مع ابنتيّ، لا أستطيع فعل ذلك. ليرد الشيخ: فكري في الأمر، وسنرى ما هي إرادة
الله، هل هذا جيد؟
تفكر سحر كثيرا في مُستقبلها والتحاقها بالجامعة التي بات أبيها سببا في
ضعف الأمل للالتحاق بها لأنه لا يستطيع الحياة من دون رعاية، وبما أنها لا تستطيع
تركه لدى عمتها لأنها لن تحتمله، فضلا عن تقدمها في العمر، وبما أنه لا يمكن له
البقاء في بيت عمها لأن زوجته ستستاء من وجود الأب عندهما، فهي في مأزق غير قادرة
على حله، لأنها بدورها لا تستطيع التخلي عن مسؤوليتها تجاهه، ومن ثم فهي تعيش
مأساتها الخاصة التي تجعلها حتى أثناء محاولة اجتهادها في دروسها في المدرسة
الثانوية يتشتت تركيزها لأن ذهنها يتجه بالضرورة طوال الأمر باتجاه أبيها ومُشكلته
الشخصية، وتفكيرها في حل له من أجل إمكانية التحاقها بالجامعة، فهي من ناحية لا
تستطيع أن تأخذه معها إلى مدينة أخرى إذا ما التحقت بالجامعة، كما أنه لا يحب
الحياة بعيدا عن القرية، ومن ناحية أخرى هي لا تستطيع التخلي عنه، ومن ناحية ثالثة
هي غير مُقتنعة بزواجه من امرأة أخرى من المُمكن لها أن تمر بنفس المأساة التي
عاشت فيها أمها.المُخرج الإيراني ياسر طالبي
يتضح ذلك من حوارها مع إحدى مُعلماتها التي تنصحها بقولها: يمكنك الدراسة
والحصول على القبول في مُؤسسة عظيمة، تصبحي شخصا عظيما، وتستعيني بمُمرضة لوالدك،
تأخذي أباك لمدينة أكبر، والبحث عن علاج إذا ما كان مرضه قابلا للشفاء، يمكنك فعل
أشياء كثيرة لوالدك، واجبك الرئيسي هو دراستك، والدك لديه أخت وأخ وأقارب آخرين،
أعلم بأنك قلقة عليه، وأنك تحبينه كثيرا، ولكن بالتأكيد هناك أشخاص آخرين يمكنهم
مُساعدتك. لترد سحر: نعم، ولكني أعلم أنه من الصعب على والدي أن يبقى مع أخته أو
أخيه طوال الوقت، بمعنى أنه يستطيع البقاء مع عمي، ولكن بعد أسبوع قد تتذمر زوجته
بسبب ذلك، وهذا سيزعج أبي، لهذا السبب أقول بأن الأمر صعب عليه، وأنا لا أريد لهذا
أن يحدث. تقول المُعلمة: ربما يكون من الصعب عليك رؤية والدك وحده، لكنه محظوظ جدا
لوجودك، أليس كذلك؟ فتاة جميلة وصحيحة مثلك، ستدرسي وتذهبي إلى جامعة عظيمة، تصبحي
إنسانة صالحة بزواج ناجح بمشيئة الله، ومن ثم سيكون لأبيك ابنة وصهر عظيمين،
وبالتالي سيعيش معك إلى الأبد، حاولي بناء مُستقبلك بنفسك، يمكنك الحصول على وظيفة
تستحق العناء لنفسك. تقول سحر: لا أستطيع الدراسة بسبب قلقي، لا أستطيع حتى
التركيز على دروسي. فتسألها: لِمَ أنت قلقة، بسبب والدك؟ لتقول: وهناك أيضا ذكريات
أمي، كل الأمراض التي مرت بها، هذا صعب جدا بالنسبة لي. تقول المُعلمة: رحم الله
روح والدتك، لقد توفيت بالسرطان، الأطفال يُصابون بالسرطان ويشفون، الجميع يعانون
من السرطان هذه الأيام، من أجل والدك ينبغي عليك محاولة الاهتمام أكثر بمُقرراتك
الدراسية وامتحان القبول، إذا ما تم قبولك في جامعة جيدة؛ سيدرك الناس مدى قوتك
رغم همومك.
إن مأساة الأم السابقة التي ترى سحر بأنها مرت بها مع أبيها تجعلها كثيرا
ما تعود إلى التسجيلات التي تركتها الأم لها قبل وفاتها، ولعل المشهد الذي رأينا
فيه سحر تنام فوق الأعشاب بينما تراقبها الكاميرا من أعلى وقد أحاط بها اللون
الأخضر في كل مكان حتى لكأنه جدار يحاول عزلها وحمايتها من جحيم هذا المُجتمع
المُحيط بها كان من أفضل المشاهد المُعبرة عن رغبتها الماسة في الهروب مما تعيش
فيه- رغم عدم إقدامها على ذلك- لكنه الحلم أو الرغبة التي لا تسعى لتحقيقها، بينما
تستمع إلى الأم قائلة: سحر، ربما تتذكري حينما استيقظت في الصباح، كنت تبكين،
وتمسكي بتنورتي وتقولي لي: لا تذهبي للعمل، ابق معي، كان عليّ أن أعمل من أجل لقمة
عيشنا، لا تقولي أبدا: إن الأمر كان خطأ أمي، يعلم الله أنه لم يكن كذلك، أردت أن
أحيا حياة جميلة، أردت أن أسعدك، لم يسمح لي الله بذلك، ماذا يمكنني أن أفعل؟
حياة بائسة كانت في انتظار سحر لتظل فيها، قدر لا يد لها فيه، لكنه مُثير
للكثير من الغضب. إن زواج الأم من رجل مُعاق، ثم إصابتها بالسرطان قد جعلاها تشعر
بالكثير من الذنب تجاه ابنتها باعتبارها قد جنت عليها، وهي بالفعل قد فعلت ذلك
باتجاهها رغم عدم قصدها، لكنها في النهاية أنجبت من رجل مُعاق، وعرفت بأنها ستترك
الحياة مُبكرا لتترك الفتاة الصغيرة مع أب هو في أمس الحاجة للرعاية، وبما أنه لا
يوجد من يهتم به أو يرعاه، فبالتالي ستصبح هذه المسؤولية، وهذا العبء الثقيل من
نصيب الابنة التي لم تخبر حياتها بعد، أي إضافة عمر على عمرها بسبب هذه التجربة،
وعدم مقدرتها على أن تعيش حياتها تبعا للمرحلة العمرية التي تمر بها، إن التجربة
في جوهرها لا تعمل على صقل خبرة الفتاة، وتجربتها في الحياة، بقدر ما شاخت بسببها،
وأُضيفت العديد من السنوات على عمرها كعبء جديد مُضاف عليها.
لكن، لأن الشيخ جارهم مُقتنع بضرورة إكمال سحر لدراستها الجامعية وعدم الاكتفاء بالشهادة الثانوية، فهو يبذل طوال الوقت قصارى جهده من أجل تزويج رحيم، وكلما فشل مشروع زيجة يبدأ في البحث عن زيجة أخرى رغم يقينه من رفض سحر لزواج والدها حتى لا تتكرر مأساة أمها مرة أخرى.
ينجح الشيخ هذه المرة في إقناع إحدى السيدات بالزواج من رحيم، وتقبل
المرأة، لكن سحر تتجه إليها قبل الشروع في إتمام إجراءات الزواج لتخبرها بما هي
مُقبلة عليه، وتكون قد برأت ضميرها من المأساة التي تراها على وشك الحدوث، فتقول
لها: آنسة كويرا، أنا راضية عن هذا الزواج مُنذ أن سمعت به، لقد فكرت كثيرا قبل أن
آتي وأخبرك ببعض الأشياء لمصلحتك ومصلحة والدي، لقد رأيتِ مظهر والدي، أنت لا
تعرفي شيئا عن شخصيته وسلوكه، لنكن صريحين، والدي لا يعمل، وليس لديه دخل، ولن
يكون قادرا على فهمك في الكثير من أمور الحياة، أنا أخبرك بهذه الأشياء الآن حتى
لا تُفاجئي حينما تدخلي هذه الحياة الزوجية، والدي لا يعرف، ولكن نحن نعلم، ويجب
علينا أن نُخبرك، الباقين لن يأتوا للحديث عن هذا، لقد قصدوا الخير بأفعالهم، لم
تكن لديهم نوايا سيئة، لقد كنت راضية أيضا، ولم أرغب في إثارة هذه الأمور، لكن،
فيما بعد فكرت فيما يمكن أن يحدث. ترد المرأة: أنت تقولي هذا الآن بعد أن أصبح كل
شيء على ما يرام؟ كان ينبغي عليك إخباري من البداية. لتقول سحر: بصراحة كنت راضية
عن هذا الزواج من البداية، رجل الدين روحاني، وعمتي أخبروا عائلتهم، لم تكن لديهم
نوايا سيئة، فكرت أثناء ذلك، فكرت في هذا حقا، ولهذا السبب جئت الآن، الوقت الآن
ليس مُتأخرا. لترد المرأة: سيتوجب عليّ التفكير.
إن سحر هنا لا تحاول الوقوف في وجه سعادة أبيها، أو منعه من الزواج، فلو
تزوج رحيم سيكون من المُمكن لها استكمال دراستها، وتحقيق حلمها في الجامعة، مما
يعني أن زواجه هو الحل الأمثل، لكنها لا ترغب في تكرار المأساة، مما يعني أن
ضميرها لا يسمح لها بأن تعاني امرأة أخرى مع أبيها مثلما حدث لأمها، فضلا عن أنها
حينما ذهبت لإخبار المرأة بذلك الأمر لم تذهب من تلقاء نفسها، بل أخبرت الأب بأنها
ستقوم بفعل ذلك، وتركته أمام منزل المرأة مُنتظرا لحين الانتهاء من إخبارها
بالأمر.
لكن الأب/ رحيم يفكر في الخطر الذي من المُمكن أن تتعرض له سحر إذا ما ذهبت
وحدها إلى مدينة أخرى للدراسة في الجامعة، ورغم أنه كان يشجعها على الدراسة
الجامعية، ورغم أنه كان يُعارض قرار أخيه الذي يرفض دراسة الابنة في الجامعة، إلا
أنه حينما تساقطت الثلوج بدأ يشعر بالقلق على ابنته، وأنها من المُمكن لها أن
تنزلق وتُصاب بمكروه، وبالتالي أسر للشيخ جارهم بأنه لا يرغب في أن تُكمل سحر
دراستها لخوفه عليها، وهو ما يجعلها تبكي حزينة حينما علمت بالأمر من الشيخ؛ الأمر
الذي جعل الأب يتراجع عما قاله، ليخبرها بموافقته، ويطلب منها الرحيل إلى المدينة
من أجل الدراسة وتحقيق حلمها في أن تكون طبيبة.
رغم ذلك فالمُخرج يُغلق فيلمه على الأب مع الفتاة مُنسجمين، ولم يسع
ليعرفنا إذا ما كانت ستذهب بالفعل إلى الجامعة، أم ستظل معه خوفا عليه. ليقطع
المُخرج على شاشة سوداء مكتوب عليها: هذا الفيلم مُهدى إلى بارفانة، والدة سحر،
وزوجة رحيم.
إن الفيلم الوثائقي الإيراني "قدر" للمُخرج ياسر طالبي من
الأفلام الوثائقية التي لا غنى عنها، التي حاولت التسجيل لقضية مُهمة في المُجتمع
الإيراني، وهي قضية السُلطوية على الفتيات، ومنعهن من كل شيء في الحياة، لدرجة أن
المُجتمع ربما يرغب في منعهن من الحياة ذاتها، فالعم والعمة هنا يحاولان منع سحر
من دراستها وتحقيق حلمها، فضلا عن حرمانها من الاشتراك في فريق الكرة الطائرة،
ورغم موافقة الأب على كل ما ترغب فيه ابنته، إلا انه لا يمتلك القرار في ذلك بسبب
إعاقته العقلية، وهو ما يضع الفتاة تحت ضغوط وتحديات لا قبل لها بها، وهذا ظلم
بيّن من جهة، ومن جهة أخرى فزواج الأم من أبيها المُعاق ورحيلها قد وضع الفتاة تحت
ضغط أكبر يعوق حياتها بالكامل لعدم مقدرتها على التخلي عن الأب الذي تخلي عنه
المُجتمع بأسره بما في ذلك أسرته، أي أن المُجتمع الإيراني هنا يحاول التخلي دائما
عن الحلقة الأضعف- الفتاة، والأب- غير مُنتبه لهما، وهو الأمر الذي يثير داخل
المُشاهد الكثير من الغضب، والرغبة في الثورة على هذا الوضع بدلا من التعاطف
والشفقة، فالغضب هنا ناشئ من هذا القدر الذي وُضعت فيه الفتاة بسبب قرار زواج الأم
بالأب أولا، ثم محاولة منع الفتاة من مُمارسة حياتها، أو اتخاذ القرار فيما يخصها،
لأنها- بما أنها أنثى- لا يحق لها اتخاذ أي قرارات، ولا التحكم في حياتها، بل من
حق المُجتمع الذكوري من حولها أن يتخذ قراراتها بالنيابة عنها، والتحكم في كل ما
يبدر منها، حتى لو كانت أنفاسها التي تتنفسها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق