الجمعة، 14 فبراير 2025

نساء ستوكهولم: أساليب لابتكار الدهشة

من أين تأتي أهمية القصة القصيرة وفنيتها؟

من مقدرتها على الاختزال، والتكثيف الذي قد يحيل حياة بالكامل، بكل أحداثها، وتقلباتها، ومُفارقتها إلى لقطة كاميرا تشبه الفلاش الذي يومض فجأة ليُجمد الزمن والحدث من أجل إمكانية تأمله بشكل فني.

إنه السر الجوهري لفنية القصة القصيرة التي لا تحتمل الثرثرات، والتزيدات اللغوية، وتأملات الكاتب، وتفلسفه، وربما الإدلاء برأيه- الذي يتيحه له فن كتابة الرواية- ففي فن القصة ثمة هدف مُباشر لا يحيد عنه الكاتب، يضعه نصب عينيه، يتجه إليه مُباشرة من دون الالتفات إلى أي أحداث جانبية قد تعطل من مسار السرد الفني، ومن ثم فهو يكون في حالة قصوى من الانتباه إلى لغته المُختزلة، البرقية، السريعة كطلقات تعرف هدفها المُباشر- وكلما كان السارد هنا أكثر اختزالا، مُقتصرا في كتابته على الحدث الذي يسوقه في قصته، كلما كان أكثر فنية، ومهارة في إحكام سرده القصصي.

إذن، فالقصة هي فن الاختزال الفني، فن إزالة الزوائد ليبقى بنيان السرد رشيقا بلا أي ترهلات- نقصد بالترهلات هنا الزوائد اللغوية، أو حتى الانسياق باتجاه أحداث جانبية لا ضرورة لها في جسد السرد- ومن هنا تأتي صعوبة الكتابة فيها، وربما محاولة الكثيرون السعي باتجاه كتابة الرواية، غير راغبين في التجريب من خلال فن القصة، لأنه الأصعب، والأكثر حاجة إلى المزيد من الجهد والانتباه في الكتابة- إنها فن ذهبي إذا ما جاز لنا التعبير، بمعنى أن الكاتب يحاول التعامل معها وكأنه يتعامل مع ميزان لوزن الذهب، حيث الدقة البالغة في التقدير، والتعامل مع هذا المعدن الثمين.

إذن، فماذا عن القصة القصيرة جدا؟

القصة القصيرة جدا هي الفن الأكثر صعوبة ودقة في كتابتها، فهي تعتمد في المقام الأول على المُفارقة القادرة على إثارة الدهشة، ولولا هذه المُفارقة لفقدت قيمتها، وتأثيرها الفني، وباتت مُجرد لغو يكتبه الكاتب، أو مُجرد ثرثرات تشبه إلى حد بعيد ثرثرات الخواطر، وبوستات الفيس بوك التي لا قيمة فنية لها؛ فالكاتب هنا يمارس اللعب الفني في أقصى حالاته تمثلا، مُعتمدا على أقصى قدر من الاختزال، وهو في هذا اللعب يسعى دائما إلى إحداث هذه المُفارقة المُدهشة التي تتكشف لنا في نهاية سرده، والتي لولاها لانصرف المُتلقي عما يقرأه غير مُهتم به لغثاثته، وانتفاء قيمته الفنية، والاقتراب به من حدود الابتذال التي كثيرا ما نراها على وسائل السوشيال ميديا التي أفسدت العملية السردية كثيرا بمنحها الديمقراطية المُطلقة للجميع من أجل الكتابة، والظن بأنهم إنما يقدمون كتابة فنية في حين أنها في واقع الأمر مُجرد غثاء لا قيمة له يؤدي إلى المزيد من حالة السيولة، وانعدام الهدف اللذين نحياهما في الوقت الراهن.

إن الكاتب المُقبل على كتابة القصة القصيرة جدا هو كاتب لا بد أن يكون مُتمكنا أولا من أدواته الفنية- لغته، وآليات الكتابة الفنية للقصة- قبل الإقدام على هذا الفعل الفني الدقيق، إنه هنا لا يمارس فن السرد، ولا اللعب الفني فقط، بل هو يحتشد احتشادا كاملا من أجل هذا الفعل، ولو لم يلجأ إلى هذا الاحتشاد الفني لانفرط العقد من بين يديه، وفشل في الوصول إلى الهدف الذي يسعى إليه في نهاية الأمر، وباتت كتابته وكأنها مُجرد فراغ يسعى من خلاله الكاتب إلى المزيد من الفراغ- أي الدوران حول نفسه من دون هدف.

لطيفة الحاج

هذه التأملات في فنية السرد القصصي القصير، والقصير جدا بالتأكيد لا بد لها أن تنتابنا، جاعلة إيانا نفكر فيها كثيرا أثناء قراءتنا للمجموعة القصصية "نساء ستوكهولم" للقاصة الإماراتية لطيفة الحاج، لا سيما أن الكاتبة كانت تبذل- قدر الإمكان- قصارى جهدها على طول السرد القصصي من أجل الوصول إلى حالة المُفارقة الفنية المُدهشة التي تتميز بها القصة القصيرة جدا، ومن ثم الخروج بالقصة في شكلها النهائي بأكبر قدر من الاكتمال الفني المُرضي إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

محاولة إحكام السرد القصصي والحفاظ على مُفارقته الفنية هو ما نُلاحظه مثلا في قصتها "اعتياد" التي لم تتعد تسعة أسطر، ولنتأمل: "مثل كل يوم، صحوت باكرا، دخلت الحمام، نظفت أسناني، ووضعت قناعا من القهوة، انتابتني رغبة بالتنظيف وكنس الشعر المُتساقط على أرضيات جميع الغرف، رغبة فحسب، تجاهلتها، وذهبت إلى الصالة. وقعت عيناي على بطاقة التهنئة في باقة الورد التي وصلتني بالأمس، كُتب عليها: سنة حلوة يا جميل. تتجمع الدموع في عينيّ من جديد. تصل الباقة والعبارة المكتوبة بنفس خط اليد، ولا أعرف مُرسلها. مثل كل عام".

لعل أول ما يمكن مُلاحظته في هذا الشكل من السرد هو الاختزال إلى أقصى درجة، فالكاتبة حريصة على إزالة أي تزيدات تبتعد بها عن الهدف من كتابة قصتها- لاحظ أيضا الحرص على اختزال حروف العطف قدر الإمكان لعدم عرقلة السرد- ومن ثم بدت لنا الجُمل السردية هنا برقية كطلقات سريعة مُتتالية تقذفها الكاتبة في وجوهنا. إنها هنا ليس لديها الوقت للالتفات لأي حدث آخر من شأنه تعطيل السرد، فهي لم تقل مثلا "صحوت باكرا بينما أشعر بالكسل، أو بالنشاط، أو بالفرح، أو بالحزن"، إنها تتجاوز كل هذه الحالات الوصفية الشعورية التي لا داعي لها، فكل هذه المعاني والمشاعر ستتبين لنا، وسنفكر فيها بمُجرد وصول السرد إلى مُفارقته الفنية في النهاية؛ لذا فهي تتجاوزها لثقتها بأنها سترد على أذهاننا من دون ذكرها لنا بشكل مُباشر. حتى حينما ذكرت تفكيرها في التنظيف وكنس الشعر المُتساقط، نرى أنها لم تحاول التوقف أمام هذه الرغبة كثيرا، بل تجاوزتها بسرعة للوصول إلى بطاقة التهنئة التي كانت هنا بمثابة التمهيد لمُفارقتها التي سُرعان ما فاجئتنا حين وصلنا إلى: "تصل الباقة والعبارة المكتوبة بنفس خط اليد، ولا أعرف مُرسلها. مثل كل عام"!

إن الجملة الأخيرة التي اختتمت بها القاصة سردها هي ما تجعل من كل ما سبق قصة قصيرة جدا، لها فنيتها السردية، بمعنى أنه لولا هذه الجملة الختامية لما كانت هناك قصة، بل مُجرد ثرثرات لا طائل من ورائها؛ فمن خلال هذه الجملة تفتح الكاتبة أمام المُتلقي أفق الخيال، والتأملات، والتساؤلات، ومحاولات الوصول إلى الأسباب، والمشاعر التي يمكن أن تشعر بها الساردة، أي أنها هنا تبدو لنا وكأنما ألقت جملتها الأخيرة من أجل إشعال خيال المُتلقي، لتتركه في هذه التأملات وتمضي إلى حال سبيلها غير عابئة بما أثارته من عاصفة ذهنية خلفها. كما لا يفوتنا أن هذه الجملة هي ما فسرت لنا معنى العنوان الذي اختارته لقصتها، بل وتغيير مفهومه في أذهاننا؛ فحينما نقرأ القصة- مع تنحية الجملة الأخيرة- سيكون معنى "اعتياد" هنا، هو اعتياد الأفعال الآلية التي تقوم بها كل يوم بمُجرد استيقاظها من نومها، فهي تؤدي كل هذه الأفعال بشكل مُعتاد ويومي، أي من دون تفكير، وربما من دون شعور، لكن الجملة الأخيرة هنا تقلب لنا المعنى، وتحيله إلى العديد من المعاني الأخرى التي تحمل في باطنها الكثير من المعاني المُغايرة للمعنى الأول الذي فهمناه، لأن الاعتياد هنا هو الاعتياد على الحزن بسبب هذه البرقية التي تصلها في هذه المُناسبة من كل عام، ورغم أنها برقية من شأنها أن تثير في داخلها الكثير من البهجة، إلا أنها هنا تثير داخلها الأكثر من الحزن، مما يؤدي إلى تساقط دموعها، فهي لا تعرف صاحب هذه البرقية الجميلة التي كان من الأجدى بها إسعادها.

الدقة المُحكمة في فنية السرد سنُلاحظها أيضا في قصتها "استثمار" حينما نقرأ: "أخيرا انتهت من صف الكتب المُتفرقة بين الغرف في مكتبة كبيرة تضمها. التقطت صورا ونشرتها في حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي. علّق أحدهم على منشورها: وهل لديك الوقت لتقرئي كل هذه الكتب؟ ابتسمت وهي ترقب ابنها يسحب كتابا من المكتبة ويقلب صفحاته".


لاحظ هنا أن هذه القصة التي لم تتجاوز الستة أسطر ليست في حاجة إلى المزيد من الثرثرة؛ لأنها لو كانت قد استمرت في سردها أكثر من ذلك لفقدت القصة بوصلتها الفنية، ولحادت عن الهدف الذي تسعى إليه الكاتبة، حتى لكأنما يبدو لنا الأمر هنا أن الكاتبة تكاد أن تحصي عدد الكلمات، وتحاول اختزالها إلى أقصى درجة في أقل عدد من المُفردات المُعبرة عن الحالة، أو المعنى الذي تريد الوصول إليه لإكساب كتابتها معنى المُفارقة. وكما سبق لنا أن أوضحنا: فالجملة الأخيرة دائما تكون هي المعول الذي يعوّل عليه كاتب القصة، إنه سر الدهشة والتأمل لما سبقه من كلمات، وهو ما يجعلنا نعود أدراجنا مرة أخرى إلى بداية السرد لتأمله بناء على معنى جديد أكسبته لنا هذه الجملة.

إن الكاتبة هنا لم تتوقف أمام السؤال الاستنكاري الفارغ "لأحدهم"- كما وصفته- بل اتجه بصرها مُباشرة إلى ابنها الذي يتناول أحد الكتب لقراءته، وهو خير رد فني على هذا السؤال الذي لا قيمة له، كما لا يفوتنا أن هذه الجملة- أو اتجاهها ببصرها باتجاه ابنها الذي يقرأ- هو ما يمنح عنوان القصة قيمته ومعناه الفني، فهي هنا لا تستثمر في جمع الكتب من أجل التكسب منها، أو بيعها، وهي لا تستثمر فيها من أجل عقلها وثقافتها فقط، بل هي في جوهر الأمر تستثمر في أبنائها، أي أن جمع هذا العدد الضخم من الكتب يضحى لسبب أساس، وهو الاستثمار في تفكير أبنائها، مما يمنح القصة مقدرتها على إثارة الدهشة والتأمل. إنها هنا بارعة بأقل قدر من المُفردات في التعبير عما ترغب في الذهاب إليه، ورغم أن العنوان هنا قد يوحي لنا- في أحد جوانبه- بالحكمة، إلا أنه من جانب آخر يحمل قدرته على المزيد من الإحالات الفنية.

مع تأمل المجموعة القصصية التي بين أيدينا سنُلاحظ أن القصص فيها متفاوتة الطول، بمعنى أنها ليست جميعها قصص قصيرة جدا- مُجرد عدة أسطر معدودة- بل هناك بعض القصص التي تبلغ صفحة واحدة، أو صفحتين، أو ثلاث، وإن كانت تغلب على المجموعة القصص القصيرة جدا، وهذا التفاوت بين القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا لجأت إليه الكاتبة لأسباب فنية قد تجعلها غير قادرة على الوصول إلى الهدف من الكتابة إذا ما التزمت بالقصة القصيرة جدا، ومن ثم يدفعها ذلك إلى صياغتها في شكل قصة قصيرة، نلحظ ذلك- على سبيل المثال- في قصة "سقوط حر"، وهي القصة البالغة صفحة كاملة من السرد، حيث تلجأ الكاتبة هنا إلى دائرية الحدث السردي الذي تدور داخله كأنها في دائرة مُغلقة عليها وحدها.

سنحاول هنا اقتباس سطور القصة بالكامل لتأملها وتحليلها: "فتحت عينيها على رائحة سجائر، ظنت أنها تحلم، رفعت رأسها لتجده يُدخن في الشرفة. قسماته تشي بقلقه، نهضت من السرير واقتربت منه. لمست ظهره العاري بيدها فأبعدها باشمئزاز. خفق قلبها، لم تتخيل أن تكون (صباحية) زواجها بهذه الصورة. تخيلت ليلة تقضيها بين ذراعيه، وقبلة رقيقة على خدها توقظها. وقفت وهي تحاول تذكر ما يمكن أن يكون قد حدث ليصحو بهذا المزاج. كان كل شيء طبيعيا، سألته عما يزعجه، لكنه لم يرد عليها. التفت نحوها وأمسك بيدها، وأطفأ سيجارته في راحة يدها. صدمتها منعتها من التأوه. أمسكها من شعرها وجرها نحو حافة الشرفة. حملها، لا تزال غير مُصدقة، ورماها من الأعلى. هوت، تتابعت ذكريات ليلة الزفاف الأسطوري. ابتسامات الحضور، دموع أمها، عدسات المصورات، الأغاني التي تصدح من مُكبرات الصوت، فستانها، ماكياجها، شعرها، عطرها، عطره. تذكرت شيئا غاب عن بالها، أرادت أن تصرخ، لم يسعفها صوتها، كانت تهوي نحو الأسفل. قبل أن ترتطم بالأرضية الرخامية في الحديقة الخلفية للفندق. شهقت، فتحت عينيها، كانت تحلم. كانت رائحة السجائر قريبة، رفعت رأسها لتجده يدخن على الشرفة وقسماته تشي بقلقه".


لاحظ هنا أن الكاتبة قد لجأت هذه المرة في سردها إلى السرد الدائري، بمعنى أن ما سبق لها أن ذكرته قبل مُفارقة إغلاق القصة هو بالتأكيد ما سيحدث لها بعدما وصلنا إلى نهايتها، أي أن مُقدمات السرد هنا كانت بمثابة استشراف لما سيأتي مُستقبلا، وكأننا شاهدنا الحدث قبل بدايته التي سيكون عليها. لكن ألا نرى أن الكاتبة لم تكتف بسردها الدائري فقط كمقوم من مقومات القصة، بل لجأت إلى تقنية فنية أخرى تزيد السرد فنية وبراعة؟

لقد لجأت الكاتبة بالفعل إلى تقنية سينمائية بحتة، وحاولت دمجها مع السرد القصصي ليزداد السرد ثراء- ربما يقترب هذا من مفهوم الكتابة عبر النوعية، أي تلاقح واستفادة الفنون من بعضها البعض- وهي ما نعرفه في التصوير السينمائي بالـPhotomontage الفوتومونتاج الذي يعني تركيب الصور، ودمج أكثر من صورة مع بعضها البعض، أي تركيب أكثر من صورة- مهما كان عددها- لتنشأ لنا صورة أخرى جديدة تُمثل شيئا آخر مُعبرا عما تريده، وهو ما اتضح لنا جليا في تواتر الصور على مُخيلتها "تتابعت ذكريات ليلة الزفاف الأسطوري. ابتسامات الحضور، دموع أمها، عدسات المصورات، الأغاني التي تصدح من مُكبرات الصوت، فستانها، ماكياجها، شعرها، عطرها، عطره. تذكرت شيئا غاب عن بالها".

ألا نُلاحظ في هذا التواتر للصور الذي شكلته المُفردات الشحيحة أنها قد نجحت في بناء عالم مُتكامل بأقل المُفردات مُعتمدة فيها على هذه التقنية مما زاد السرد ثراء؟

لنتأمل أيضا مُفردة أخرى لها دلالتها في هذه الصور، لقد كتبت الساردة "عدسات المصورات"، وهو ما من شأنه أن يوقفنا هنيهة عن الاسترسال في القراءة- تعطيل عملية التلقي للتأمل والتساؤل- فلِمَ لجأت هنا إلى كتابتها لهذه العبارة بضمير المُؤنث بدلا من الضمير المُذكر؟ بالتأكيد من الطبيعي بالنسبة لنا أن تكتب القاصة "عدسات المصورين" بدلا من "المصورات"، وهذا هو المُعتاد، ولكن بما أنها ساقتها بضمير المُؤنث فلقد توقفنا أمامها لبرهة مُتسائلين، وهو ما يدل على ارتباط القاصة الإماراتية ببيئتها المُحافظة التي لا تسمح للمصورين من الرجال بتصويرها- نظرا لخصوصية الفعل ثقافيا- وبالتالي فلقد نجحت عن عمد في التصريح لنا بمعلومة جديدة، مُستخدمة في ذلك مُفردة واحدة مُختلفة الضمير.

صحيح أن الكاتبة أمسكت عن الاسترسال في صورها المُتتالية عند عبارة "تذكرت شيئا غاب عن بالها"، وهي العبارة التي ستثير في القارئ أيضا العديد من التساؤلات: هل أهانته في شيء، هل عجز عن الانتصاب، هل فشل في ولوجها، هل اكتشف عدم عذريتها؟ وغير ذلك الكثير من الأسئلة، لكنه يبدو لنا هنا توقفا فنيا عمديا لفتح باب هذه التساؤلات في ذهن القارئ، أي أن لطيفة الحاج هنا تُدرك جيدا ما تفعله، وتصوغه بشكل فني كيفما أرادات؛ لرغبتها في مُشاركة القارئ لها في السرد الفني الذي تقوم به، فهي تُشركه معها بالتفكير، والتأمل، تثير خياله، تجعله في رغبة دائمة لمُلاحقتها لمعرفة المزيد، إلا أنها تتركه غارقا في تساؤلاته لتقطع السرد بشكل مُونتاجي تماما، مُنتقلة به إلى استيقاظها لنرى معها الزوج الذي يدخن سيجارته قلقا، واقفا على النافذة، أي أنها تعود بنا إلى بداية السرد مرة أخرى لنظل معها مُترقبين لما سيقوم به، وهل سيقوم بالفعل بدفعها خارج النافذة؟ إلا أنها تمسك هذه المرة تماما عن إكمال السرد لتترك القارئ كي يكمل اللوحة كيفما شاء.


هذا الإحكام في الوصف السردي الذي لا يكشف لنا عن نفسه إلا مع الجملة الأخيرة من القصة هو ما يُكسب قصص لطيفة الحاج فنيتها، ويرفع من شأنها. إنه السرد الذي يجعلنا بعد قراءة كل قصة من قصصها نتوقف لبرهات مُتأملين لما قرأناه، راغبين في العودة مرة أخرى إلى بداية هذه القصة من أجل تلقيها بشكل آخر جديد ومُختلف عن الشكل الأول من التلقي بعدما أضافت لنا الجملة الختامية المزيد من الدلالات التي لم نكن نظنها، أو كانت خافية علينا، ومن هنا تأتي فنية ما نقرأه وفرادته.

ففي قصتها "غريب" سنُلاحظ حالة سردية أقرب إلى السيريالية، وهي السيريالية التي تجعلنا مُنساقين معها حتى النهاية لمعرفة السبب فيها، أو إلام تؤدي بنا: يفتح عينيه، ألم يلتهم رأسه. يجد نفسه في مكان لا يعرفه، أين أنا؟ يسأل نفسه. ذاكرته تخونه من جديد ومعاول الذكرى تعمل في أرض خواء. لا يتذكر شيئا. يحاول رفع رأسه، ثقيلا كأحجار على الرغم من خلوه من الذكريات. يجلس أخيرا على السرير. يجول ببصره في الغرفة. لوحات مُعلقة على الجدران وعلى حوامل خشبية لم يرها من قبل. يترك السرير الذي لا يعرف إن كان في الأصل سريره. يقع بصره على دولاب قصير من المعدن الأسود يكاد يصل إلى ما فوق ركبتيه بقليل، يسير نحوه، يمد يده ليفتحه، فيشعر بهواء بارد يخرج منه، دولاب مليء بمأكولات ومشروبات غريبة. وعلى باب الدولاب الداخلي تصطف علب كثيرة بيضاء اللون مكتوب عليها بخط اليد تعليمات تناول الأدوية التي تحتويها. أغلق الباب مُنزعجا. على بُعد خطوات هنالك خزانة خشبية كبيرة مُمددة على طول الجدار المُقابل. فتح أبوابها ليجزع، خزانة مليئة بالملابس والأحذية والفوط وملاءات السرير. طائر مليء بالشعر يتمسح برجليه، له أربعة أرجل وله ذيل، وقرب النافذة قطط تُغرد وتصنع عشا من الأغصان. ما هذا العالم الغريب؟ مقعد في وسط الغرفة تحيط به أربع طاولات. يقترب من النافذة، خلفها عالم مُكتظ بالسيارات والبيوت المُلتصقة ببعضها. ما هذا المكان؟ تمكن منه الجزع، ود أن يصرخ لولا أنه تفاجأ بطفل لا يعرفه يقف أمامه. حدق في وجهه كأنه يرى كائنا غريبا، مد يده ليلمسه فركض خارجا من الغرفة. عاد ليتهاوى على السرير. بعد دقائق دخلت عليه سيدة جميلة لا يعرفها، تلفتت حولها فاحتضنته، حاول أن يبعدها لكنه شعر بشيء من السكون يسري في روحه. كانت ترتجف كأنها تبكي، قبلته على خديه، ومسحت شعر رأسه بحنان. جلست بقربه وهي تمسك بيده، من أنتِ؟ وأين أنا؟ سألها في رأسه لكن الكلام تبدد قبل الوصول إلى لسانه. مثل كل مرة يرغب فيها بالكلام. علا صراخ الأطفال خارج الغرفة، نهضت السيدة الجميلة، وابتعدت عنه صامتة. عاوده الشعور بالخوف. أراد أن يرجوها بأن تبقى. عم الصمت برهة ثم سمع أحد الأطفال يصرخ: إن شاء الله تُصاب بالألزهايمر مثل جدي. تلا ذلك صوت صفعة وبكاء".

ربما نُلاحظ هنا في هذه القصة المقدرة السردية لدى القاصة التي تعي ما ترغب في كتابته، وكيفية تأثيره على القارئ؛ فهي- كعادة السرد القصصي الجيد- لا تمنح القارئ ما يرغبه مرة واحدة، بل تبثه في كل جملة من جملها معلومة جديدة، ومع تتالي الجمل السردية يتشكل العالم القصصي بالكامل، لكن رغم تشكل هذا العالم القصصي أمامنا جملة بعد أخرى، إلا أنه يظل غائما، لا يمكن لنا الوصول من خلاله إلى معنى مُعيّن من المُمكن له أن يثير فينا الكثير من التأمل أو الوصول إلى يقين اللهم إلا بعد وصولها إلى جملتها الأخيرة التي تُحيل السرد إلى معنى آخر، ورمزية مُختلفة تماما ما كان لنا إدراكها لولا هذه الجملة المفتاحية "إن شاء الله تُصاب بالألزهايمر مثل جدي. تلا ذلك صوت صفعة وبكاء".

إنها الجملة الكاشفة للسرد، والتي تجعل منه قصة لائقة ومُحكمة، أي أنها تُعيد بناء كل ما سبق لنا أن قرأناه وقد حمّلته بالعديد من المعاني، والدلالات، والدفقات الشعورية، والآمال، والأحلام التي لم نكن نُدركها من قبل، بل إن هذه الجملة كانت قادرة إلى حد بعيد على إزالة أي التباس كان قد تبادر إلى أذهاننا بسبب ميل السرد إلى السيريالية لا سيما في جملتها "طائر مليء بالشعر يتمسح برجليه، له أربعة أرجل وله ذيل، وقرب النافذة قطط تُغرد وتصنع عشا من الأغصان. ما هذا العالم الغريب؟"، فالشخصية المُصابة بالألزهايمر في القصة هنا تجهل كل ما يدور من حولها، بل ووصل به ذهوله إلى الخلط ما بين القط والطائر الذي يغرد على الشباك، ومن ثم فلقد تداخلت أعضاء الطائر مع القط في شكل سيريالي مما يزيد من الرؤية غموضا، والتباسا لدى القارئ الذي يكاد أن يرى العالم بعينيّ هذا الرجل المُغترب عن هذا العالم.

ثمة مُلاحظة أخرى هنا يتميز بها سرد لطيفة الحاج، وهي بث المزيد من المعلومات عن الشخصية القصصية من خلال جمل عفوية، وهذه المعلومات تتم بشكل كبير من الاختزال والتحفظ حتى أنها تبدو لنا وكأنها غير مقصودة، أي جاءت في سياق السرد بعفوية تامة، لتصبح فيما بعد جملا مفتاحية للعالم القصصي، نُلاحظ ذلك في "لوحات مُعلقة على الجدران وعلى حوامل خشبية لم يرها من قبل". فالكاتبة في هذه الجملة البسيطة والسريعة التي لم تحاول التوقف أمامها، ورغم قصر الجملة إلا أنها أضافت لنا معلومة مُهمة عن هذه الشخصية القصصية، لنعرف بأنه فنان تشكيلي، وإلا ما كانت اللوحات المحمولة على حوامل خشبية موجودة في غرفته الخاصة به. ولعل معرفتنا بأنه فنان تشكيلي- أي لديه رؤية مُختلفة للعالم تختلف عمن يحيط به من الآخرين- يفسر لنا غرابة المشهد السيريالي الذي اختلطت فيه أعضاء كل من الطائر مع القط، فتلك هي رؤيته الخاصة كفنان حتى مع إصابته بالألزهايمر.

إن الجملة الختامية الكاشفة- المفتاحية- التي أنهت بها القاصة لقصتها أعادت لنا بناء العالم القصصي على أساس جديد، ورغم أنه استمع جيدا إلى صوت الطفل وقوله "إن شاء الله تُصاب بالألزهايمر مثل جدي"، وهو ما من شأنه أن يثير لدى الكاتبة- مع سيطرة شهوة السرد- الرغبة في الانتقال إلى الجد مرة أخرى لللتعبير عن أثر هذه الجملة- التي استمع إليها- عليه، إلا أنها تمسك عن ذلك ببراعة، وتكتفي بكتابتها "تلا ذلك صوت صفعة وبكاء"، فهي تُدرك جيدا أنها لو استرسلت في وصف مشاعره، أو تساؤلاته، أو تخيلاته بعد هذه الجملة لفسد السرد القصصي تماما.


هذا السرد الفني المُحكم الذي تمارسه القاصة وكأنها تمارس شكلا من أشكال اللعب من أجل إثارة المزيد من الدهشة، وإعادة بناء المعنى بناء على مُعطيات أخرى جديدة يجعلنا نعرج للتوقف هنيهة أمام قصتها "نساء ستوكهولم" التي لم تكن مُجرد قصة قصيرة في جوهر الأمر بقدر ما كانت مجموعة من التنويعات القصصية والفنية على ثيمة واحدة، وهي ثيمة الاعتداء على المرأة بالضرب، ومدى احتمال النساء، أو تقبلهن لهذا الشكل من أشكال الذكورية الاجتماعية المُفرطة.

إن الكتابة القصصية التي جاءت تحت عنوان "نساء ستوكهولم" تم ترقيمها بأرقام من 1 إلى 9، لنقرأ تحت كل رقم من هذه الأرقام قصة قصيرة، أو قصيرة جدا تُقدم لنا نفس الثيمة بشكل جديد ومُختلف تماما، وإن كانت ستؤدي بنا جميع هذه التنويعات إلى نتيجة واحدة في نهاية الأمر، وهي أن جميع النساء في كل هذه القصص مُصابات بمُتلازمة ستوكهولم Stockholm Syndrome- ومن هنا يأتي العنوان الذي كان مُناسبا بشكل فني إلى حد بعيد مع دلالة القصص التي تقع تحته- وهي ظاهرة نفسية تُصيب الفرد عندما يتعاطف، أو يتعاون مع عدوه، أو من أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يُظهر بعض علامات الولاء له مثل أن يتعاطف المُختَطف مع المُختطِف، أو المسجون مع جلاده، أو من يقع عليه التعذيب والإهانة مع من يوجهها له!

لكن، كيف تناولت الكاتبة هذه الثيمة بشكلها الفني؟

لنتأمل: "طرق رجال الشرطة الباب بقوة بعدما أبلغ الجيران عن صوت تحطم أشياء وصراخ في الشقة المُقابلة. فتح الباب رجل ضخم يحمل في يده حزاما، وخلفه تتكور امرأة على نفسها، ثيابها مُمزقة، الكدمات تنتشر على جسدها، والدم يسيل من أنفها، صرخ بهم: إنها زوجتي، وأنا أؤدبها. هم رجال الشرطة بالقبض عليه، صرخت هي، تحاملت على آلامها، وقفت مُترنحة محاولة أن تفتح عينيها المتورمتين، وصلت إليهم أخيرا، ووقفت حائلا بينه وبينهم. أخبروها بأنها لها حقوقا ويمكنها أن تتقدم بشكوى ضده، وأنهم سيطلبون سيارة إسعاف لنقلها إلى المُستشفى. قالت بانكسار: إنه زوجي ومن حقه أن يؤدبني. غادر رجال الشرطة، وجلس الزوج على الكرسي الوثير، مد الكأس نحوها، سكبت له الخمر من الزجاجة التي فتحها قبل أن ينشغل بتأديبها، ووضعت قطعة ثلج في كأسه، وجلست قربه تُمرر قطعة ثلج أخرى على عينيها".

ربما نُلاحظ هنا أن الكاتبة حريصة في قصتها على التوصيف السردي، أي حكي ما كان فقط من دون أي تدخل منها، ومن ثم كانت الجملة الأخيرة التي تغلق بها سردها هي الجملة التي تبتكر فينا الدهشة فيما بعد، أي أنه لولا الجملة الأخيرة كعادة القصة القصيرة جدا، لما كان هناك قصة، بل مُجرد ثرثرات لا طائل من ورائها، لكن الكاتبة هنا بجملتها الختامية/ المفتاحية تثير الكثير من الدهشة في نفس القارئ من أجل إعادة تأمله لما سبق أن قرأه مُنذ قليل.

لكن، هل نجحت القاصة في الحفاظ على إثارة الدهشة في ذهن القارئ في هذه القصص التي تم ترقيمها تحت عنوان واحد؟

بالفعل نجحت الكاتبة إلى حد بعيد في ذلك بكتابتها مجموعة من التنويعات على نفس هذه الثيمة، مثل: "أفزعني صراخ في المركز التجاري، التفت باحثة عن الصوت، رجل يهين زوجته التي تدفع كرسيا مُتحركا يجلس عليه طفل صغير. كانت ترجوه أن يُخفض صوته وهي مُحرجة من عيون الناس التي توجهت نحوهم. ابتلعت دموعها ومضت تسير خلفه مع الكرسي مُخفضة رأسها، تبعتهم وأنا أتحين الفرصة للحديث معها. توجه الرجل إلى الحمام وبقيت هي تنتظره مُتأملة وجه ولدها المُقعد. اقتربت منها وهمست في أذنها: لا تسمحي له بفعل ذلك. يمكنك أن تقدمي شكوى. تغيرت ملامح المرأة المُستكينة، اكتسى الغضب وجهها، نظرت نحوي مُتحدية وقالت بنبرة مُرتفعة: إنه زوجي، وما دخلك أنت بنا؟ توقف الناس في المركز التجاري ينظرون نحونا، ابتلعت دمعتي وتركتها. لحقت بي سيدة واقتربت مني وهمست في أذني: لا تسمحي لها بفعل ذلك. يمكنك أن تقدمي شكوى. نظرت نحوها بتحدٍ وصرخت: وما شأنك أنت؟".

إن القاصة هنا تُشعل في ذهن القارئ المزيد من الدهشة في نهاية قصتها، ورغم الدهشة التي تنتابنا في بداية القصة بسبب المرأة الصاغرة لإهانات زوجها لها أمام الجميع، إلا أن هذه الدهشة تتصاعد لتصل إلى أوجها حينما تُسقط السيدة- التي حاولت نصيحة الزوجة- ما فعلته بها الزوجة على المرأة الأخرى التي حاولت نصيحتها- لاحظ هنا أن كل من المرأتين قد تلفظتا بنفس مُفردات الجملة تقريبا- "لا تسمحي له بفعل ذلك. يمكنك أن تقدمي شكوى" مع فارق وحيد وهو اختلاف الضمير المُناسب للحديث عن المُذكر والمُؤنث. ولعل حرص القاصة هنا على أن تنطق كل من السيدتين بنفس مُفردات الجملة لتتطابقا يعود إلى وعيها بالتأثير الفني على القصة والقارئ معا عندما تصوغ الجملتين بنفس المُفردات؛ فالجملة التي قالتها المرأة الأولى للزوجة كانت تهدف من خلالها الدفاع عن الزوجة وعدم تقبلها للإهانة، لكن الزوجة رفضت النصيحة وتقبلت الإهانة، إلا أن الدهشة تنشأ من أن هذه المرأة الناصحة حينما وُوجهت بنفس الجملة التي قالتها من امرأة أخرى لم تقبل بدورها بالنصيحة، بل شعرت أيضا بالغضب المُشابه تماما لغضب الزوجة حينما سمعت الجملة منها، أي أن القاصة ترغب هنا في التأكيد على مُتلازمة ستوكهولم التي كانت عنوانا لتنويعاتها القصصية.

إنها الثيمة التي تبرع لطيفة الحاج في التنويع عليها سواء بقصة يبلغ طولها صفحة واحدة، أو بقصة أخرى يبلغ طولها سطرين فقط مثل: "قال لها مرة: تبدين جميلة حين تبكين، مُتأخرة فهمت أنه كان يريدها أن تكون جميلة إلى الأبد، وهكذا بقيت". فالرجل، هنا، بما أنه لا يرى جمالها إلا وهي تبكي، فلقد حرص على أن تكون باكية طوال الوقت، أي أنه يقوم بتعذيبها- سواء على المستوى المادي أو المعنوي- من أجل أنانيته في أن يراها جميلة، ولا يعنيه إذا ما كان هذا يؤلمها أم لا، كما أن المرأة- الراغبة في أن تكون جميلة دوما في عينيه- باتت صاغرة بدورها لما يقوم به من أجل أن يجعلها باكية وتصبح جميلة أمامه!

إنه ما نراه أيضا في: "كانت مُقتنعة بأن ضرب زوجها لها هو فعل حب. كانت أمها تقول كلما تعرضت للضرب من قبل والدها: ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب". فالزوجة التي رأت والدها يضرب أمها طوال عمرها، وانصياع الأم لهذا الضرب -مُدعية بأنه شكل من أشكال الحب- باتت بدورها نسخة جديدة من الأم التي تتحمل إيذاء زوجها البدني عليها تحت دعوى أنه يحبها بضربه لها!

هذه التنويعات القصصية نجحت إلى حد بعيد في إثارة الكثير من الدهشة في نفس القارئ، لا سيما أن الكاتبة كانت بارعة في كتابة كل قصة من هذه القصص، محاولة ابتكار موقف جديد في كل واحدة منها، وإن كانت القصص كلها تصب في نفس المصب/ إيذاء المرأة الجسدي من قبل الرجل، والعدوان عليها، والعنف تجاهها من جانب، وقبول المرأة لهذه الأفعال والتكيف معها من جانب آخر، ولنتأمل قصة أخرى أخيرة: "أوقفت سيارتها (البنتلي) أمام المقهى، نزلت وهي تحمل حقيبتها (الشانيل)، رائحة عطرها (جادور ديور) تسبقها، تدك الأرض بكعبها (لو بوتان)، نظرت في ساعتها (الرولكس)، جلست إلى طاولة قريبة من المدخل، ابتسامة ترتسم على وجهها وهي تلعب بخاتم زواجها (الكارتييه). دخلت صديقتها المقهى تبحث عنها. رفعت يدها ولوحت بها مُبتسمة، اتجهت نحوها، وقفت تُسلم عليها، تبادلتا القبل ثم جلستا، سألتها صديقتها عن الكدمة على وجهها، ظنت أنها أخفتها جيدا بالماكياج الثقيل. ألحت الصديقة فانهارت، وأخبرتها بأنها تتعرض للضرب المُبرح من زوجها مُنذ أن تزوجت، بدأ ذلك مُنذ الليلة الأولى. "إنه لا يستطيع أن... من دون أن يضربني". "وما الذي يدفعك لتحمل هذا الوضع؟". تنهدت وسالت دموعها، تخيلت نفسها تعود إلى منزل والدها بعد هذه السنوات ثم قالت: كيف سنعيش أنا وأبنائي إن تركته؟ غضبت صديقتها من ردها، أشارت إلى قطة تعبر الشارع: حتى الحيوانات تُطعم أبناءها، لا أحد يموت من الجوع. لم تتمكنا من الحديث في أي موضوع آخر وافترقتا سريعا. ركبت سيارتها الفارهة، ووضعت حقيبتها الغالية على المقعد قربها. انطلقت مُسرعة، وفي طريقها، ومن دون أن تنتبه، دهست قطة سائبة".

مع التأمل العميق لهذه القصة/ التنويعة الجديدة على نفس الثيمة سيتبين لنا أن القاصة كانت حريصة كل الحرص على كتابة أسماء الماركات الباهظة الثمن التي ترفل فيها هذه الزوجة التي دائما ما تتعرض للاعتداء الجسدي والضرب من زوجها كلما رغب في مُمارسة الجنس معها، مما يعني أنه يعاني نفسيا، وربما يشعر بالكثير من التقزم، أو اللاقيمة والتدني أمام زوجته، ومن ثم يصبح فعل الضرب لها هو شكل من أشكال فرض ذكورته عليها- استعراض القوة- الذي يشعره بالإثارة الجنسية ومن ثم انتصابه الذي لا يتم من دون هذا الفعل، أي أن الزوج هنا عنين نفسيا أمام الزوجة، ولا يخرجه من هذه العنة إلا استعراض قوته أمامها بضربها كي يشعر برجولته وفحولته أمام ضعفها واستكانتها أمامه- سادية- ومن جهة أخرى فالزوجة هنا مازوخية، تتقبل كل الإهانات والضرب، والإصابات التي تصيبها من جراء هذا الضرب في مُقابل هذه الماركات الباهظة التي ترفل فيها، أي أن هذه الحياة الثرية التي تحياها هي المُقابل المادي لتقبل ما يفعله بها الزوج.

إنها تتقبل هنا عنفه الجسدي تجاهها في واقع الأمر عن طيب خاطر؛ لأنها في حاجة إلى ما يقدمه لها من مال وفير، لذا فردها على صديقتها بأنها تتحمل كل ذلك من أجل أولادها ومعيشتهم لا يمكن له أن يقنعنا. إنه مُجرد تبرير تحاول سوقه ليكون سببا تستطيع من خلاله تبرير استكانتها للأمر. يؤكد لنا ذلك نهاية القصة التي نجحت في تحميلها بالمزيد من الدلالات والمُعطيات الجديدة، ومن ثم عملت على تغيير معناها، فلقد كتبت القاصة "وفي طريقها، ومن دون أن تنتبه، دهست قطة سائبة"، قد يبدو الحدث هنا- دهس القصة- مُجرد حدث غير مقصود، قضاء وقدر لوجود القطة في عرض الطريق، وهو ما جعلها غير مُنتبهة لها، لكن مع إعادة قراءة القصة مرة أخرى بناء على المُعطيات الجديدة بشكلها العام سيتأكد لنا أنها كانت مُتعمدة بشكل كامل دهس هذه القطة التي "حتى الحيوانات تُطعم أبناءها، لا أحد يموت من الجوع" كما قالت لها صديقتها، وبما أن هذه القطة تُشعرها- بعد إخبار صديقتها- بدونيتها، ومازوخيتها، وحاجتها الماسة لما يقدمه لها زوجها من ماركات غالية، وثراء وفير، وهو ما تحاول في قرارة نفسها الهروب منه بتكذيبه، والاستناد إلى حجتها الواهية؛ فلقد قامت بدهس القطة التي تعريها أمام ذاتها، لتشعرها بأنها أقل من هذا الحيوان في المكانة.

لاحظ أن القاصة قد حرصت أيضا على كتابة "ركبت سيارتها الفارهة، ووضعت حقيبتها الغالية على المقعد قربها. انطلقت مُسرعة، وفي طريقها، ومن دون أن تنتبه، دهست قطة سائبة". أي أنها قدمت الأشياء، والمُفردات التي يقدمها لها الزوج كمُقابل لضربها في بداية الجملة السردية قبل إخبارنا بأنها قد قامت بدهس القطة، فلولا هذه الأشياء التي هي في حاجة ماسة إليها- المُقدمات- ما قامت بقبول الاعتداء عليها، ولما قامت أيضا بدهس القطة التي تعريها أمام ذاتها- النتائج.

لكن، رغم هذا الإحكام والبراعة اللذين نُلاحظهما في كتابة القاصة الإماراتية لطيفة الحاج- سواء على مستوى آليات كتابة القصة وإدراكها لفنية ما تقوم به، أو حتى على مستوى اللغة القصصية السلسة الشديدة الاختزال- مما يُدلل على تطور الأدوات الفنية للقاصة كثيرا مع مرور الوقت، وعملها الجاد على نفسها وما تتميز به من موهبة سردية، إلا أننا سنُلاحظ بأن ثمة مجموعة من القصص التي ضمنتها الكاتبة في مجموعتها البالغة 78 قصة ما بين القصيرة والقصيرة جدا، لم يكن هناك أي داع لها في هذه المجموعة، وكان من الأجدى بالكاتبة أن تقوم بالتخلص منها، وعدم نشرها أو عرضها على أحد لأنها تسلب المجموعة شيئا من تميزها الفني بضعفها، وعدم أهميتها، بمعنى أنها لا تُقدم لنا شيئا في الغالب، ولا يوجد بها أي شكل فني، أو ألاعيب فنية، مما جعلها تبدو لنا مُجرد ثرثرات فيسبوكية لا معنى لها، أو مُجرد خواطر لا علاقة لها بفن القصة، أو القصة القصيرة جدا، أو حتى أي شكل من أشكال الكتابة، مما يعني أن الدافع من وراء إصرار الكاتبة على تضمين هذه الثرثرات داخل مجموعتها لم يكن سوى سيطرة شهوة السرد عليها، وهي الشهوة التي جعلتها تشعر بالضعف أمام التخلص من هذه الكتابات، ربما رغم يقينها بضعفها وعدم أهميتها.

نقرأ تحت عنوان "إقناع": "فليغفر لي قلبك، لا يعرف أنها ولأسبوع كامل تحاول إقناع عقلها بأن يغفر له. قلبها العاشق لا يزعل منه أبدا". وتحت عنوان "حبل سري": "مثل أم وجنين. إن غاب عنها هدده الموت، وإن غابت عنه ملأها الحزن"، وتحت عنوان "زوجة رابعة": "الأخيرة، تعرف اللاتي جئن قبلها ولا يعرفنها، تصغرهن في العمر، تكبرهن في الدلال. لكنها دوما، أقلهن شعورا بالأمان".

ألا نُلاحظ في هذه الثرثرات الثلاث أنها لا علاقة لها بأي شكل من أشكال الفن اللهم إلا الثرثرات الفيسبوكية التي لا معنى لها، أو كتابة الخواطر؟ ولنتأمل الأخيرة التي كانت بعنوان "زوجة رابعة" إنها مُجرد كتابة تأتي من قبيل الحكمة والموعظة، والتحذير الذي لا معنى له، لكننا لا يمكن لنا القول بأنها كتابة أدبية. وهو ما نراه أيضا في "تماهي": "حين رأيت الندبة أعلى حاجبك الأيسر، ظهرت ندبة مثلها في قلبي"، وغيرها من العناوين مثل "الظل"، و"أثر"، و"إيمان"، و"دور مُساند"، و"الضبع"، و"تساؤل"، و"خيبة أمل".

لكن، رغم هذه الهنات البسيطة التي لم تبلغ ما يُشكل خمسة في المئة من المجموعة القصصية بوجه عام، تبدو لنا المجموعة القصصية "نساء ستوكهولم" للقاصة الإماراتية لطيفة الحاج من المجموعات القصصية المُتميزة التي صدرت في الآونة الأخيرة، فيها الكثير من الموهبة، والمقدرة على صياغة القصة بشكل فني، ومُحكم، ويقين بأن ما تقوم به هو شكل من أشكال اللعب الفني الذي تمارسه القاصة بمُتعة مُنقطعة النظير من أجل إثارة الدهشة الفنية في نفس قارئها، وابتكارها- التدريب الدائم على الكتابة- صحيح أن عنوان المجموعة يتطابق تماما مع رواية بنفس العنوان، وهو ما يجعلنا نؤكد على ضرورة بحث الكاتب في مُحرك البحث جوجول قبل اختيار عنوان عمله الفني، لكن رغم هذا التطابق فلقد رأينا كما أوضحنا سالفا أن هذا العنوان الذي وقع عليه اختيار الكاتبة كان هو الأنسب فنيا، والأفضل لمجموعة القصص التي جاءت تحته مما يجعلنا لا يمكن لنا تخيل أي عنوان آخر أكثر مُناسبة لها، فهي تقصد من خلاله النساء المُصابات بمُتلازمة ستوكهولم، وبما أنها لو كانت قد كتبت "نساء مُتلازمة ستوكهولم" فالعنوان هنا سيكون كاشفا، وشديد المُباشرة، فلقد كان العنوان الذي اختارته هو الأفضل فنيا، والأوفق لهذه المجموعة.

 

 

 محمود الغيطاني

مجلة "كتاب" الإماراتية
عدد فبراير 2025م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق