الخميس، 29 مايو 2025

الرجل من لندن: سحر السينما الأسلوبية

ما الذي يرغب المُخرج والسيناريست المجري Béla Tarr  بيلا تار في قوله لنا من خلال السينما التي يتفتق عنها ذهنه مُقدما إياها لنا؟

في الحقيقة، لا شيء. إن تار على المستوى المفهومي للسينما- المعنى الأعمق لها- يمتلك الك
ثير من المعاني الفلسفية، والمفاهيم الوجودية، والتفكير في معنى التواجد الإنساني، ووطأته، وثقله النفسي، ومدى استحقاقية الإنسان لمثل هذا التواجد على ظهر الكوكب، وغيرها من الأمور التي ينشغل بها المُخرج طوال الوقت، حتى لكأنها استحالت إلى فيلم ضخم- دائم وطويل- يعيش فيه المُخرج ذاته، أو كأنه يرى الحياة من خلال فيلم يخصه وحده- تتحول فيه عيناه إلى عدستين لتحلا محل الكاميرا في حالة من حالات التماهي الكامل- ومن ثم ينقل لنا مقاطع منه في كل تجربة جديدة يقوم بصناعتها، لكنه على مستوى الحكاية/ السيناريو/ الحبكة/ الرواية لا يمتلك أي شيء من المُمكن أن يقوله لنا- على المستوى الروائي- وحتى إذا ما كان يمتلك رواية بمعناها الخطي الذي نعهده، فهو يعمل على تشويهها بالكامل، وتخريبها من أجل ابتلاعها في عالمه الذهني/ الشخصي الخاص- المُزدحم بالمفاهيم، والمعاني الكبرى والكلية- وبالتالي يسبغ عليها أفكاره، وتأملاته الفلسفية الطويلة التي تجعلها مُنتمية إليه، تشبهه، تتطابق مع رؤيته السينمائية المُتأملة بعمق، الشاعرة بوطأة المفهوم الوجودي بشكله المُجرد، وهو ما يؤدي إلى تحويل حيوات جميع شخصياته الفيلمية إلى جحيم مُتشيء، ماثل أمام عيوننا، قادرين على تلمسه بأيدينا، لأن التواجد الإنساني في جوهره ليس سوى مأساة، وخطأ عظيم وقع فيه الرب، ولا بد من تصحيحه بكارثة ما تحل علينا.

إن تار لا يعنيه سوى أن يأخذ مقطعا من الحياة، مُجرد مقطع فقط، ومن خلاله يبدأ العمل عليه بتؤدة وأناة وصبر نادرين في صناعة السينما، هو لا يرغب في البناء على هذا المقطع بشكل رأسي- تطور الحكاية- ولا يحاول التوسع فيه بشكله الأفقي، بل هو يفضل التوقف أمامه، وإيقاف الزمن معه، يرغب في تحويل الزمن إلى شيء محسوس ذي طبقات كثيفة خانقة نشعر جميعا بوطأتها على صدورنا حتى لكأننا في كابوس طويل لا يمكن له أن ينتهي.


هو راغب في استقطار اللحظة الوجودية وكآبتها، وبؤسها، وضجرها، وقلقها، وربما حزنها حتى القطرة الأخيرة منها، فيحيل العالم بأكمله إلى مأساة لا تُطاق- وهو المفهوم الذي يراه بالنسبة للوجود الإنساني على المستوى الفني- وكي يصل إلى هذه الحالة الفنية/ الأسلوبية الخاصة به يُنشئ دائما عالما مُستغلقا، شديد الإحكام، لا يمكن أن يفلت منه أي شيء إلى الخارج، مُفرط في انفصاله عن الواقع والحياة المُحيطة به، ورغم أن عالم تار يبدو غالبا واقعيا- من الناحية الشكلانية الظاهرية- لكنه في جوهره عالما مُنبت الصلة بالحياة الخارجية الواقعية وما يدور فيها، أي أن تار إنما يحرص كل الحرص على حبس المُشاهد معه داخل عالمه المُستغلق الذي لا توجد أي علاقة خارجية له بالواقع.

إنه عالم يشبه الواقع، لكنه لا علاقة له به، بل له علاقة وحيدة ووطيدة ووثيقة بالعالم الذي يدور في ذهن مُخرجه فقط، ومن ثم فعلينا تقبل هذا العالم الذهني الذي ألقانا فيه كما هو، لأننا لا سبيل آخر أمامنا سوى الاستسلام له.

لكن، لِمَ يجب علينا الاستسلام لما يفعله بنا بيلا تار؟


ربما كان هذا السؤال من الأهمية بمكان ما يجعلنا نتوقف أمامه، لأنه من السهل جدا الانصراف عن أفلامه إلى أفلام أخرى حينما ندرك مثل هذا التلاعب العقلي والذهني الذي يفعله بنا، لكن تار- في جوهر الأمر- يُدرك إمكانية ذلك- وهو الأمر الأقرب للمُشاهد ليقوم به- لذا فهو يُمارس علينا سطوته الأسلوبية بخبث- وكأنه يتلاعب بنا- من خلال مجموعة من الوسائل السينمائية المُساعدة له في إحكام السيطرة علينا أمام شاشته حتى انتهاء ما يرغب في تقديمه.

أولى هذه الوسائل، وأكثرها سطوة هي كاميرته السحرية التي تصيب المُشاهد بحالة تتطابق مع التنويم المغناطيسي، أي أن الكاميرا هنا بمُجرد بدء حركتها البطيئة، الكسولة، المُتأملة، المُتمهلة، المُتفحصة، لا بد لها أن تصيبنا بحالة من حالات الاسترخاء، وانتفاء إمكانية النهوض من أمام الشاشة، بل الاستسلام الكامل لها، لا سيما أن كاميرا تار تمتلك من الأسلوبية البصرية ما لا يتشابه فيه مع غيره من المُخرجين. هو هنا مُخرج غير مُتعجل، غير راغب في النهاية في قول أي حكاية، بل إن رغبته الأولى من صناعة الأفلام هي المُتعة بالحالة البصرية السحرية التي يقوم بتقديمها، أي أن تار إنما يصنع الأفلام من أجل مُتعته الشخصية في تكوين كادر أنيق، ومُكتمل بشكل ساحر، ولا يعنيه مُطلقا فيما بعد أن يغلق لك الحكاية، أو التقدم بها كثيرا. إنه المُخرج القادر على أنسنة الكاميرا، وبالتالي يشعر بها المُشاهد دائما باعتبارها كائنا حيا مُشاركا لجميع شخصيات الفيلم فيما يدور بينهم، إنها تتنفس، وتحزن، وتفرح، وتيأس، وتكتئب، وتبكي، وتضحك مثلهم تماما. تشاركهم في تجوالهم، تسبقهم تارة، وتتأخر عنهم تارة أخرى، وتدور من حولهم أحيانا، وتتلصص عليهم، وتختبئ منهم، وتنتظرهم في الأماكن المُتجهين إليها، وترى بالنيابة عنهم. وتُلاحقهم برزانة وصبر، وهدوء إذا ما أسرعوا- فهي تُدرك جيدا أنها ستلحق بهم، وأنهم لن يغيبوا عن عدستها- أي أن الكاميرا لدى تار هي قوته الأساسية والأسلوبية في صناعة السينما، ولولاها لما امتلك كل هذا التأثير الذي تركه على المُشاهد، وصناعة السينما.


لكن تار لا يعتمد على حركة كاميرته السحرية فقط في امتلاك المُشاهد، بل هو يعي جيدا أهمية وجوهرية تأثير المُوسيقى التصويرية التي يصنعها المُوسيقار المجري Mihály Vig ميهالي فيج[1] الذي يقوم بتلحين مقطوعات مُوسيقية- جمل مُوسيقية بسيطة تُعزف غالبا على الأوكورديون- من شأنها أن تُساعد الكامير في عملية التنويم المغناطيسي، والسيطرة الكاملة على المُشاهد الذي يصبح لا حول له ولا قوة، وهي المُوسيقى التي تظل تتردد دائما في ذهن مُشاهد الفيلم حتى بعد انتهاء الفيلم بفترة ليست بالقصيرة.

لكن، هل تكفي الكاميرا، والمُوسيقى فقط من أجل جذب المُشاهد لأفلامه والاستسلام له؟

إن تار لا يكتفي بهاتين الأداتين فقط من أجل امتلاك جمهوره، فهو يحتشد تماما بأدواته المُساعدة له على امتلاك المُشاهد، لذا يستخدم فريقا من المُمثلين الذين نادرا ما يقوم بتغييرهم، وهم مجموعة بارعة الأداء، حتى أننا نستطيع القول: من لا يجيد الأداء التمثيلي على أكمل وجه مع بيلا تار؛ فعليه التنحي بعيدا عن طريقه، لأنه لا يرضى سوى بالكمال في كل ما يقوم بصناعته.

إنه الأداء الذي يعقد صلة وثيقة بين المُمثل والمُتلقي، ونتيجة لعمق الأداء ينغمس المُشاهد بكليته في العالم الفيلمي لتار، مُصدقا شخصياته الفيلمية، متورطا معهم، مُتعاطفا، شاعرا بمأزقهم القاسي الذي يضعهم فيه المُخرج؛ وبالتالي فهو يظل مُتمسكا بمقعده أمام شاشة تار مهما كانت مأساوية وكآبة عالمه الذي يصر على تقديمه بمنحاه الفلسفي.


بما أن تار هو ملك التصوير بالأبيض والأسود- من أدواته وميزاته السينمائية الجوهرية- فهو يستخدم هذه الأسلوبية الخاصة جدا في صناعة أفلامه، وامتلاك المُشاهد، نتيجة براعته في التركيز على التباين الشديد بين الضوء والظلام، وهو ما يجعل الأفلام رغم حيادية ألوانها، إلا أنها تبدو في نهاية الأمر طازجة، حيوية، مُشرقة بشكل أفضل من الأفلام التي يتم تصويرها بالألوان- صور تار أفلامه الروائية الطويلة التي بلغ عددها تسعة أفلام باللونين الحياديين، الأبيض والأسود، فيما عدا فيلمين فقط، هما The Outsider اللامُنتمي 1981م، وAlmanac of Fall روزنامة السقوط 1984م- أي أنه مُخرج يرى الحياة بالكامل بالأبيض والأسود.

إذن، فبيلا تار يعي جيدا كيفية صناعة سينما تتراوح ما بين الحلم والكابوس معا، لكنها في الحالتين ساحرة، تتميز بأسلوبيتها الخاصة التي قد تغلب أحيانا على جوهر الفيلم مما يصيبه بشيء من الارتباك، أي أن تار أحيانا ما يهتم بالشكل- التصوير، والإضاءة، ومُفردات الكادر- أكثر مما يهتم بمضمون الفيلم- السيناريو/ الحكاية/ الحبكة- وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى إحساسنا بأن ثمة شيء ما ناقص رغم الجماليات الأسلوبية الطاغية على الفيلم، فإذا ما دققنا النظر؛ نُدرك أن المُخرج انساق خلف أناقته الأسلوبية بتلقائية آلية، مُتناسيا السيناريو الذي يقوم عليه فيلمه.


في الفيلم الجديد The Man from London الرجل من لندن، أو A londoni férfi حسب عنوان الفيلم في اللغة المجرية- إنتاج فرنسي ألماني مجري مُشترك- يلجأ المُخرج هذه المرة مع كاتب السيناريو والروائي المجري المُشارك له في كل أفلامه الأخيرة- László Krasznahorkai لازلو كرازناهوركاي- إلى محاولة تكييف واستغلال رواية الروائي البلجيكي Georges Simenon جورج سيمنون، L’Homme de Londres الرجل من لندن، الصادرة بالفرنسية عام 1934م، لكن تار لا يلتزم في فيلمه بأحداث الرواية التي لجأ إليها، ورغم أنها تدور في بدايات القرن الماضي، إلا أننا نُلاحظ بأن الفيلم يدور في الوقت الآني- الأوراق النقدية كدليل على سبيل المثال- أي أن تار لم يخضع لاختيارات المُؤلف، لكن رغم أن الفيلم يؤكد لنا على أنه يدور في وقتنا الحالي، فنحن لم نر أي أداة من أدوات التكنولوجيا الحديثة فيه، فلا هواتف محمولة، ولا أجهزة كمبيوتر، ولا أي شيء حديث، بمعنى أن تار كان حريصا كل الحرص على تجريد العالم المادي من حول أبطاله تماما، فهو غير مُنشغل بهذه الأمور بقدر انشغاله بالأفكار الكبرى التي يعمل على نقاشها دائما.

كما أن تار- الذي لجأ لتحويل رواية جريمة، وغموض، وإثارة إلى السينما- لم يلتزم بما كتبه سيمنون مُطلقا، أي أنه لم يدخل إلى عالم سيمنون، أو يحاول الاتغماس فيه، بقدر ما جذب سيمنون وروايته إلى عالمه المُجرد هو، بمعنى أن تار ابتلع عالم سيمنون في عالمه الخاص، وبالتالي حرص على تجريده، وإكسابه الكثير من المعاني الفلسفية الكبرى ذات القلق الوجودي الثقيل، والحزن الدائم، ومن ثم تحوّل العالم الروائي إلى عالم من الأفكار التي يتميز بها تار.


إذن، فلقد انتزع تار الإثارة من الرواية محوّلا إياها إلى بحث جمالي وأسلوبي أنيق في النفس البشرية، وأخلاقياتها، ومأزقها، وفراغها الوجودي الدائم الذي تشعر بوطأته جميع الشخصيات الفيلمية لديه، وهو ما يتناسب مع السينما التي يقوم بصناعتها، مما أدى إلى انتماء السيناريو/ الفيلم إليه بهذا الشكل، أكثر مما لو كان قد ظل مُحافظا على عالم الجريمة والغموض في رواية سيمنون.

في 29 مشهدا فقط يُقدم تار فيلمه البالغ مُدة عرضه 140 دقيقة، أي أنه- كما اعتدنا منه- يقتصد في المشاهد، يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن القطعات، إنه مُخرج ضد المُونتاج بشكل أو بآخر، يفضل استمرار كاميرته في الحركة البطيئة والتأمل على أن يقطع مُنتقلا إلى مشهد جديد، بل أحيانا ما تظل الكاميرا شاخصة في المكان، غير راغبة في مُغادرته رغم أن جميع الشخصيات الفيلمية التي كانت تتابعهم قد غادروه، وبالتالي تظل لفترة مُتأملة وحدها في الأشياء المُحيطة بها، أو أن تسبق الشخصيات الفيلمية إلى المكان الذي سوف يذهبون إليه، وتظل هناك لدقائق مُنتظرة وصولهم، إنها الأسلوبية الخاصة بالمُخرج والتي تميز بها على غيره من صُناع السينما الآخرين.


في مشهده الأول تتأمل كاميرا تار- ببطء شديد، وبحركة منومة تماما، مُسيطرة علينا كمُشاهدين- جسد سفينة لنقل الركاب راسية على المرفأ، حيث يبدأ تأمل الكاميرا الفاحص من الأمواج، أسفل حوض السفينة، لتصعد رويدا إلى جسد السفينة، ثم يتحول المشهد إلى سطح السفينة حيث يقف رجلان مجهولان يتناقشان في أمر ما.

مع استمرار الكاميرا في التأمل الطويل- حيث بلغ طول المشهد الأول من الفيلم 13 دقيقة كاملة من دون قطع- سنعرف أنها تراقب كل ما يدور من حولها من داخل برج مُراقبة/ تحويلة السكك الحديدية المُطل على مرفأ بحري، وهو ما سيجعلنا نُلاحظ أن الكاميرا كانت تتلصص من خلف النوافذ الزجاجية لبرج المُراقبة، ورغم وجود الكثير من العوارض الخشبية بين النوافذ إلا أن الكاميرا كانت تمر عليها ببساطة وبنفس بطئها المعهود، وهو ما ساعد المُخرج على التنويع بين درجات الإضاءة وسطوعها، والإظلام وعتمته- حيث كانت الشاشة تظلم عند مرور الكاميرا أمام العوارض الخشبية التي تمنع وصول ضوء المرفأ الليلي- لكن مع استمرار حركة الكاميرا التي ستتراجع خطوات قليلة إلى الخلف سندرك أن هذه اللقطة الطويلة المُتأملة، المُراقبة، المُتلصصة تكاد أن تكون لقطة وجهة النظر Point of View Shot الخاصة بمالوان- قام بدوره المُمثل والمُخرج التشيكي Miroslav Krobot ميروسلاف كروبوت- عامل التحويلة- حيث دخل في إطار المشهد- والذي يعمل في الليل دائما بشكل يومي، ومن ثم فوحدته الطويلة، وعدم وجود من يتحدث إليه، وضرورة يقظته طوال الليل من أجل تسيير حركة القطارات التي تلتقط الركاب من المرفأ، وشعوره العميق بالفراغ الوجودي، فضلا عن تواضع معيشته المادي الذي سنعرفه فيما بعد. كل هذا يؤدي به إلى محاولة دفع الوقت الكثيف، الثابت، الثقيل الوزن بمُراقبة ما يدور من حوله في المرفأ، أو على الخط الحديدي المجاور، اللذين لا يحدث عليهما أي جديد في غالب الوقت.

لكن، ألا نُلاحظ هنا أن هذه اللقطة الافتتاحية الطويلة، الثابتة، المُتفحصة، التي تُشعرنا بثبات الوقت، وثقله، وكثافته تكاد أن تتطابق تماما مع نفس مشهد البداية الذي افتتح به المُخرج فيلمه السابق Damnation اللعنة 1988م، حيث كان كارير جالسا أمام نافذته بصبر نافذ، لا يتحرك مُطلقا، بينما يراقب حركة دلاء الفحم المُعلقة على التليفريك في ذهابها، وإيابها في إحدى قرى التعدين المُنعزلة؟ إن تطابق المشهدين لا يتأتى لنا من هذا فحسب- مُراقبة الكاميرا لجسد السفينة الثابت في مُقابل مُراقبتها لدلاء الفحم في الفيلم السابق- بل إن الكاميرا التي ظلت ثابتة لمُدة حوالي الثلاث دقائق ونصف في فيلم "اللعنة" حينما تراجعت للخلف خطوات قليلة، فوجئنا أن اللقطة هي- في جوهرها- لقطة وجهة النظر الخاصة بكارير الذي دخل بدوره إلى مُحيط الكادر، في تماهٍ كامل بين نظرته ونظرة الكاميرا، وهو ما نراه هنا في فيلمنا حيث نُشاهد نفس التراجع القليل الذي أدخل مالوان داخل مُحيط الكادر، والذي أكد لنا أن اللقطة هي لقطة من وجهة نظر مالوان في جوهرها، بينما الكاميرا مُتماهية معه.


فما معنى ذلك؟ الحقيقة أن تار مثله في ذلك مثل أي مُخرج صاحب رؤية سينمائية جادة، وأسلوبية خاصة في الصناعة، وهو ما يجعل أمثال هؤلاء المُخرجين يصنعون فيلما واحدا طوال حياتهم مهما تعددت أفلامهم، حتى لكأنهم يعزفون نفس النغمة الواحدة على مجموعة من الأوتار المُختلفة- نفس ما نُلاحظه مع المُوسيقار Mihály Vig  ميهالي فيج، المُشارك الدائم لتار في جل أفلامه، حيث ينتابنا إحساس ما بأن جمله المُوسيقية تقريبا هي نفس الجمل، بأشكال مُختلفة- أي أنهم في النهاية صُناع سينما يتميزون بأنهم أصحاب عالم واحد من الأفكار، والمُثل، والمعاني. لكن هذا المشهد من جهة أخرى يُدلل لنا على أن تار مفتون بأسلوبيته، مأخوذ بها، وهو ما يجعله يُكرر نفسه، أو يستعير من أفلامه السابقة مما يؤدي إلى عدم إضافته، أو تقدمه الأسلوبي في فيلمه الجديد، وبالتالي يفقد الفرصة في تقديم الجديد فيما يقوم به.

إذن، فمالوان يتابع الآخرين، وحركتهم العادية- التي قد تبدو آلية- دفعا للملل الطويل، والوقت الذي لا ينتهي، لكنه يُلاحظ أن أحد الرجلين/ تيدي- قام بدوره المُمثل المجري Mihály Kormos ميهالي كورموس- يظل على سطح السفينة مُمسكا بحقيبة في يده، بينما يهبط الآخر/ براون- قام بدوره المُمثل المجري János Derzsi يانوس ديرزي- بعد حديث بينهما، ليتجه إلى أحد الجوانب المنزوية من رصيف المرفأ المُغلف بالضباب الكثيف، والمُقابل للسفينة الراسية على بُعد أمتار داخل الماء، وسُرعان ما يُشير بيده إلى تيدي الذي يقذف بالحقيبة التي في يده إلى براون الذي يلتقطها.


يهبط تيدي بدوره إلى الرصيف، ويعود مالوان إلى مقعده- مُنصرفا عن مُراقبتهما- بعد انصراف القطار، وتحريكه للرافعة التي تسمح له بالمرور. إن مُراقبة الكاميرا وثباتها على ظهر مالوان الجالس إلى مكتبه في صمت طويل من دون أي حركة، ثم مد يده لصب كأس من الفودكا لتمرير الوقت إنما يدل على الفراغ الوجودي الشديد الذي يشعره في وحدته داخل برج المُراقبة، لكنه سُرعان ما يصل إلى سمعه صوت شجار، مما يجعله ينهض للمُراقبة مرة أخرى من خلف النوافذ، فيرى الرجلين السابقين يتشاجران مع بعضهما البعض، إلى أن يدفع أحدهما/ براون للآخر في الماء ذي الأمواج الهادرة، لكن تيدي يسقط في الماء مُتشبثا بالحقيبة موضع الخلاف السابق بينهما.

يُسرع براون إلى النزل الفندقي المُلحق به أحد البارات والمُقابل لبرج المُراقبة، ليهبط مالوان بعد فترة مُمسكا في يده رافعة، حيث يذهب إلى المكان الذي سقط فيه تيدي، وينجح في التقاط الحقيبة التي سقطت في الماء ليعود مرة أخرى إلى برج مُراقبته.

إن العثور على حقيبة مُمتلئة بالنقود بالنسبة لرجل فقير يعمل كعامل تحويلة ليلي في مرفأ- أو حتى لغيره من الناس- هو بمثابة العثور على كنز، وبالتالي يستدعي ذلك ارتسام علامات الدهشة، أو الفرح، أو الصدمة، أو الانبهار بما يراه الشخص الذي عثر عليها. لكن إذا ما تأملنا المشهد الذي قدمه تار بعد فتح مالوان للحقيبة التي انتشلها من الماء سنُلاحظ ما يتناقض مع ذلك تماما؛ حيث تقترب الكاميرا من خلف الحقيبة المفتوحة ببطء باتجاه وجه مالوان في مشهد قريب يكشف عن تفاصيل قسماته بدقة، لنرى ملامحه ثابتة على حزنه ويأسه الأبديين، بينما شفتيه مزمومتين، وجبينه مقطب كأنه ينظر إلى فراغه وقلقه الوجوديين الداخليين اللذين يؤرقانه في وحدته وعزلته الأبدية التي يحياها، وليس إلى مبلغ ضخم من النقود، ورغم أنه لديه أسرة، لكنه يحيا طوال الوقت وحيدا في برج مُراقبته طوال الليل، ليذهب لبيته البائس في الصباح من أجل النوم، ثم الخروج من أجل تناول الكحول، ولعب الشطرنج مع صاحب الحانة المُقابلة لبرج المُراقبة الذي يعمل فيه، أي أن تار قد نجح مُنذ بداية فيلمه في صبغ شخصياته بصبغته الخاصة، وإغراقهم داخل همه الوجودي، وأفكاره الفلسفية التي يتأملها.


يُلاحظ مالوان أن المبلغ المالي الضخم الموجود في الحقيبة- الذي سنعرف فيما بعد أنه 60000 جنيها استرلينيا- هو أوراق نقدية استرلينية، مُبتلة تماما؛ لذا يقوم بتجفيفها على سطح مدفأة الفحم الموجودة في برج مُراقبته، ثم نراه في مشهد تالٍ يهبط صباحا من برج المُراقبة، مُتجها صوب بار الفندق المُقابل لتناول مشروبه مع صاحب الفندق، بينما يقابله براون أثناء دخوله للبار فينظر إليه مُتشككا فيه.

ثمة مُلاحظة لا بد من التوقف أمامها هنا داخل البار حينما نستمع إلى المُوسيقى المُنبعثة من أكورديون أحد العازفين بداخله، فالجملة المُوسيقية المُتكررة التي يعزفها العازف بلا ملل في دورة أبدية تدل على استمرار ثبات الزمن، وكثافته- وهي جملة شجنية حزينة- تكاد أن تقترب كثيرا من الجملة المُوسيقية البائسة، المُغرقة في الحزن، المُنذرة بالكارثة التي سبق لنا أن استمعنا إليها في البار الذي رأيناه في فيلم Damnation اللعنة 1988م، أي أن ثمة تشابه كبير وضخم بين حالة مالوان الوجودية الغارق فيها، والتي يعاني منها، وبين حالة كارير في الفيلم السابق من جهة، ومن جهة أخرى فالمُخرج بيلا تار هنا مُصرّ على الاستعارة من أفلامه السابقة، مُكررا نفسه من دون أن يشعر بما يفعله، ولعل السبب الرئيس في ذلك هو افتتانه بالأسلوبية التي يستخدمها في أفلامه- وهي أسلوبية تخصه- مما جعله يميل للاهتمام بالشكل الفيلمي/ الأسلوبية على المضمون/ الحكاية، وهو ما انتقل بدوره لمُلحنه المُوسيقى المُفضل إليه، المتعاون معه دائما.


يتجه مالوان إلى بيته بينما تتابعه الكاميرا مُراقبة له في الشوارع الضيقة التي يسلكها، لكنه يُلاحظ أثناء مروره من أمام السوبر ماركت أن ابنته هنرييت- قامت بدورها المُمثلة المجرية Erika Bók إريكا بوك- تقوم بغسيل أرضية المكان، وهو ما يجعله يتوقف مُستاءً مُتسائلا، لكنها تخبره بأن صاحبة المكان تطلب منها ذلك لعدم وجود من يقوم بغسيل الأرضية، أي أن هنرييت تقوم بعمل إضافي، وضيع لا يجب عليها القيام به، مما يجعل مالوان يتأملها هنيهة، شاعرا بالغضب الشديد قبل الاستمرار في سيره مُتجها إلى منزله.

إن أسلوبية تار المُتميزة- التي تُكسب أفلامه سحرها الخاص- نُلاحظها هنا بشكل بيّن من خلال هذا المشهد، حيث تتوقف الكاميرا أمام السوبر ماركت مُتخلية عن مُتابعة مالوان الذي استمر في سيره، وبدلا من السير خلفه كما كانت تفعل قبل توقفها، تُفضل استمرارية النظر إليه من مكانها، لتتأمله إلى أن يعبر الشارع، ويأخذ طريقه إلى شارع آخر موازٍ. هنا تلتفت الكاميرا إلى هنرييت لتتأملها مُتفحصة أثناء غسيلها لأرضية المكان فترة، لكن براون- الذي يبدو أنه يتشكك في مالوان ويراقبه- يمر من جوار الكاميرا، لتلتفت إليه الكاميرا مُهتمة به، وسُرعان ما تتابعه بدوره إلى أن يختفي من الشارع مُتجها إلى الزاوية التي اتجه منها مالوان.


ألا نرى هنا أن الكاميرا هي كائن حي حقيقي يتنفس، ويشعر، ويفكر، ويراقب، ويتأمل كل ما يدور من حوله مُتفحصا؟ إنها الأسلوبية السينمائية التي يتميز بها تار على غيره، وهي ما أكسبت أفلامه سحرا لا يستطيع مُشاهده مقاومته، لكنها أوقعت تار نفسه في مأزقه الخاص والشخصي، حيث وقع في عشق ذاته حينما نظر في مرآته ورأى نفسه؛ وبالتالي عشق أسلوبيته السينمائية، ومن ثم بدأ في تكرارها بتلقائية وعفوية من دون أن يُلاحظ ما يفعله، مما جعله يكاد أن يتوقف- كزمنه الفيلمي- تماما في هذا الفيلم، بدلا من التقدم، وتقديم الجديد في الأسلوبية التي يتميز بها.

حينما يصل مالوان إلى بيته الفقير الذي جرده تار إلى حد كبير ليبدو مُتقشفا نتيجة لندرة المال، نراه يتناول إفطاره بينما الكاميرا تراقبه من ظهره، وزوجته كاميلا- قامت بدورها المُمثلة الانجليزية Tilda Swinton تيلدا سوينتون- واقفة أمامه صامتة في انتظار انتهائه من الإفطار، لكنه يقول لها: هل تعرفين أنهم يجعلون هنرييت تغسل الأرضية؟ لترد: كلا، لكني أعرف أنها ستعمل في صيدلية بعد شهر. يقول غاضبا: إنها تنظف الأرضية، أي شخص يمكن له أن يحدق في مُؤخرتها. لتقول: لِمَ كل هذا الاهتمام؟ إنه شهر آخر فقط.


هو يشعر في قرارة نفسه بالكثير من الإهانة بسبب عمل ابنته في عمل وضيع من أجل المال القليل الذي تحصل عليه، ورغم أنه قد نجح في العثور على حقيبة النقود/ الكنز إلا أن ثمة الكثير من العوائق التي تُشعره بالأكثر من التوتر، أولها مُراقبة براون له، وشكه فيه مما يجعله خائفا منه، وكون المال بالجنيه الاسترليني الذي يستدعي تغييره إلى اليورو- مع ما يصاحب هذا التغيير من خطورة وتساؤل عن مصدر المال- أي أن مالوان قد عثر في حقيقة الأمر على كنز مع إيقاف التنفيذ، فضلا عن شعوره الأخلاقي العميق بالذنب نتيجة كل ما حدث- صمته عن جريمتي التهريب، والقتل اللتين رآهما، بالإضافة إلى أخذه لحقيبة المال واحتفاظه بها لنفسه بدلا من تسليمها للشرطة- وهو ما يجعله في حالة نفسية شديدة التوتر طوال الوقت، لدرجة أنه حينما ينتهي من إفطاره ليتوجه إلى فراشه كي ينام، ينهض بعد عدة دقائق لينظر من خلف نافذته مُراقبا، حيث يرى براون واقفا أسفل النافذة مُنتظرا إياه!


إذن، فهو غير قادر على منع ذهنه وإيقافه عن التفكير- العجز عن النوم- والتأكد من أن براون يتشكك فيه، ويراقبه عن كثب، بالإضافة إلى أن هذا التوتر يؤدي إلى عدم احتماله لأي شيء، مما يجعله يدخل في مُشادة صاخبة مع زوجته وابنته على العشاء من دون أي سبب، اللهم إلا أن توتره العميق، وقلقه الوجودي هما اللذان يحركانه، فنراه يقول لزوجته كاميلا بفظاظة آمرة مُنفرة: أخبرتك ألا تضعي مرافقك على المنضدة. لكنها تقول له: ما مُشكلتك؟! لا تتحدث معي بهذه الطريقة، لا مرافق على المنضدة. فيلتفت لابنته هنرييت مُتسائلا بغضب، وكأنه يصب جام غضبه وتوتره عليهما معا: لِمَ لا تأكلين؟ لترد أمها غاضبة: ستأكل حينما تريد، لِمَ تتحدث معها هكذا؟! لكنه يُكرر سؤاله لهنرييت بشكل أكبر غضبا: لِمَ لا تأكلين؟ ليتصاعد صوت كاميلا الغاضب: لا تتكلم معها هكذا، ما بك؟! إلا أنه يتساءل غاضبا: هل تفهمني؟ لترد كاميلا: كيف ترفع صوتك هكذا؟! ليقول: انظري من يتحدث. لتسأله: ماذا حدث لك؟! فيقول غاضبا: أنت وقحة. لكنها تسأله بغضب أكبر: لِمَ تقول ذلك؟! فيسألها: من يجلب الطعام لكما. لترد: لماذا تصيح؟! فيسأل صارخا: من يجلب المال للبيت؟ فتقول: اسكت وكُل. لكنه يستمر: أقدم لكما الكثير. فتسأله صارخة: لِمَ تصيح مثل الحيوان؟! ليقول: أنت لم تجلبي أي شيء هنا. فتقول: لقد كنت هادئا عندما جئت، ماذا حدث لك؟! فيصيح بصوت أعلى شديد الغضب: هلا تسكتين؟


إن الشعور العميق بالقلق الوجودي، الذي يُضاف إليه إحساس مالوان بالإهانة نتيجة رؤيته لابنته تغسل الأرضيات، فضلا عن خوفه من براون، والشعور الأخلاقي العميق بالذنب نتيجة استيلائه على الأموال. كل هذه الأمور والأحاسيس أدت في النهاية إلى درجة عالية جدا من التوتر النفسي الذي نجح تار في التعبير عنه بشكل بارع حينما رأينا في المشهد السابق مالوان مُتجها إلى فراشه في الصباح محاولا النوم، لكنه عجز عن ذلك بسبب صوت الدق الصاخب والعالي والمُستمر بإصرار، والذي بدأ في التصاعد- يشبه دقات الساعة المُنتظمة- في خلفية المشهد؛ مما جعله ينهض من فراشه ليراقب الشارع من خلف النافذة. إن صوت الدق المُستمر المُثير للأعصاب في الخلفية والذي قد يؤدي للانهيار العصبي مع التركيز عليه- حتى بالنسبة للمُشاهد- إنما هو المُعادل الموضوعي، والتعبير الفني البارع لأزمة مالوان الوجودية والأخلاقية والاقتصادية التي يعاني منها، فهو يدور في ذهن مالوان في جوهر الأمر، ومن ثم استمر هذا الدق معنا في نهاية مشهد العشاء والمُشاجرة مع زوجته، كما كان في المشهد السابق عليه- محاولته للنوم- ليستمر في المشهد التالي عليه مُباشرة- أثناء تواجده في برج المُراقبة ليلا.


إنها الأزمة النفسية العميقة التي تجعله غير قادر على التعاطي مع أي شيء يدور من حوله، وهو ما نراه مرة أخرى حينما يشعر بالكثير من الخوف والاختناق أثناء تواجده في برج المُراقبة بعدما يرى براون في أحد القوارب محاولا البحث عن الحقيبة حيث سقطت. نقول: إن براون أثناء بحثه عن الحقيبة في مياه البحر يُلاحظ وجود برج المُراقبة الذي يقف مالوان في داخله مُراقبا؛ مما يؤكد له بأن مالوان هو الذي أخذ الحقيبة، فيشعر مالوان بالمزيد من القلق مما يجعله يحاول تفريغ طاقته- التي تشعره بأنه سينفجر- في أذرع التحويلة/ الرافعات، حيث يتعامل معها بعنف مُفرط جيئة وذهابا، صعودا وهبوطا، رغم عدم مرور القطار، بل لمُجرد شعوره العميق بالخوف والتوتر، والذنب الذي يكاد أن يقتله، ورغبته في تفريغ هذا الشعور.

إذن، فابتلاع بيلا تار لرواية جورج سيمنون في عالمه الخاص أدى إلى تحرير الرواية تماما من بصمات سيمنون، وجعلها لا علاقة لها به، وكأنما تار هو الذي كتبها، أي أنها انتفت علاقتها بسيمنون لتعلن انتمائها بالكامل لتار الذي عمل على إغراقها في المعاني الكلية، والوجودية، والأخلاقية التي يفكر فيها، ومن ثم ابتعدت عن عالم الجريمة، والإثارة إلى عالم آخر يميل إلى التفكير والأخلاقيات والتأمل.


يصل إلى المدينة مُحقق شرطة انجليزي عتيد/ موريسون- قام بدوره المُمثل المجري István Lénárt استيفان لينار- ليقابل براون في البار مُخبرا إياه بأن ميتشل- رئيس براون في العمل وصاحب مسرح- قد تواصل معه هاتفيا، وأخبره بأنه كان قد باع مسرحه بعد تعرضه لأزمة مالية، وأن المُشتري كان قد عرض عليه 55 ألف جنيها استرلينيا، وبما أن البنوك تغلق في ليلة السبت؛ فلقد وضع ميتشل المال في مكتبه، وخرج في المساء من أجل تناول قهوته، لكنه فوجئ فيما بعد باختفاء المال، وبما أن المُحقق موريسون قد قام بتحقيقاته؛ فلقد توصل إلى أنه لا يمكن أن يقوم أحد بهذا العمل سوى براون، وهو ما جعله يتجه إلى بيت براون ليقابل هناك زوجته- قامت بدورها المُمثلة المجرية Ági Szirtes آجي زيرتس- ويرى أولاده، وتقع عيناه على فواتيره المُتأخرة، والمُستحقة للدفع، مما يجعل زوجته تُلاحظ فتخفيها في الدرج.


يحاول موريسون الوصول إلى حل مع براون، مُخبرا إياه بأن السيد ميتشل غير راغب في أي شيء سوى أمواله، وأنه قد وعده بمُكافأة/ نسبة لبراون إذا ما رد إليه المال، كما أنه لن يسجنه إذا ما فعل ذلك، بل سيكون الموضوع وديا. يسأله براون عن قيمة المبلغ الذي تم سرقته من ميتشل، ليخبره موريسون بأنه بلغ 60 ألفا من الجنيهات الاسترلينية.

يحاول براون التملص- فالمال ليس في حوزته بالفعل، وهو لا يعرف أين اختفى، لكنه بالفعل متورط ولن يستطيع الخروج من التُهمة- فيخبر موريسون بأنه في حاجة للصعود إلى غرفته لدقيقة واحدة، لكنه يهرب مُختفيا تماما من المدينة.

نتيجة لأن مالوان هو صديق لمالك البار، وكثيرا ما يشاركه في لعب الشطرنج في مُقابل المال/ المُراهنات، فلقد استمع إلى الحديث الذي دار بين كل من براون، وموريسون بالكامل، وهو الحديث الذي كان باللغة الانجليزية- مما يعني أن مالوان الفرنسي يعرف اللغة الانجليزية أيضا، وهو ما يفتح باب التساؤل عن السبب الذي جعل مالوان لا يتحدث سوى الفرنسية مع موريسون ما دام يعرف لغة موريسون الأصلية.


إن شعور مالوان بعجزه عن إسعاد أسرته اقتصاديا، وإحساسه العميق بالإهانة نتيجة رؤيته لابنته تنظف الأرضيات جعله يأخذ مُدخرات البيت المالية القليلة، ويسرع باتجاه السوبر ماركت الذي تعمل فيه هنرييت ليأخذها من عملها إلى غير رجعة، ورغم اعتراض صاحبة العمل على أخذه لابنته، بل وتهديدها له بالاتصال بالشرطة، وشكواه في محكمة العمال إلا أنه يتحداها، مُخبرا إياها بأن تفعل ما يحلو لها، لكن ابنته لن تستمر في العمل معها بعد اليوم.

يتجه مالوان مع هنرييت إلى البار ليطلب لها شرابا، وسُرعان ما يجذبها إلى أحد المحال التجارية ليشتري لها فراء من المنك، باهظ السعر- كأنه يقوم بتعويضها عن الإهانة التي شعرت بها، ويشعر بها أيضا في قرارة نفسه بسبب تنظيفها للأرضيات- يبلغ سعر الفراء 456 يورو، وهو المبلغ الذي يدفعه مالوان ببساطة، رغم أنه لا يوجد مُدخرات مالية أخرى في البيت بعدما حصل عليها كلها من أجل شراء الفراء لابنته.


يشعر مالوان بالسعادة لإرضاء ابنته قائلا: مُنذ متى لم أشتر لك فراء مثل هذا؟ لترد عليه شاعرة بسعادة بالغة، حيث نراها تقول لأبيها بينما يتجولان بعد شراء الفراء: يجب أن أحافظ عليه لمُدة 10 سنوات قادمة، سألبسه في أيام الآحاد فقط.

إن استيلاء مالوان على كل مُدخرات الأسرة المالية من أجل شراء الفراء يؤدي إلى عاصفة من الغضب تجتاح زوجته كاميلا التي نراها تصرخ في وجهه حينما يعود مع ابنتهما إلى البيت: ماذا فعلت؟! ليرد بهدوء: لا شيء. لكنها تصرخ: ماذا تعني بلا شيء؟! ليقول: أحضرتها إلى البيت فقط. لتسأله: ماذا تعني بأحضرتها إلى البيت؟! ليرد: لا أستطيع تركها تعمل هناك. لتقول: أنت مجنون حقا. لكنه يرد: لن أترك أي أحد يحدق في مُؤخرتها. فتسأله صارخة: هل فقدت عقلك؟! ليقول: بالعكس. لكنها ترد: يبدو ذلك، كنت مُغلقا لفمك مُنذ عدة شهور، ثم تأتي في أسوأ لحظة مُحتملة لتقوم بعمل شيء غبي. ليقول: هذا ليس غباء. لتسأله غاضبة: لا يمكن له أن يكون غير ذلك، من سيقبل بها بعدما فعلت، أو حينما ينتشر الخبر؟! ألا تفهم؟! ليرد: لا يهم. فتسأله: كيف تقول ذلك؟! سنرجعها للعمل غدا، تأخذ كل مالنا وتصرفه على هذا الفراء؟! هل أنت سكران؟! ليقول ضائقا: دعيني في سلام. لتردد: تأخذ كل مالنا وتصرفه على هذا الهراء؟! لكنه يرد مرة أخرى: دعيني بسلام. فتسأله بغضب: هل أنت مجنون؟!


إن عدم تفكير مالوان في عواقب ما فعله- إنفاق المُدخرات المالية بالكامل من أجل هدية ابنته- إنما يُدلل على أزمة وجودية عميقة يشعر بها؛ فهو يشعر بإهانة ابنته، وإهانته هو شخصيا بدوره، كما أنه غير قادر على انتشال الأسرة من أزمتها الاقتصادية الخانقة رغم امتلاكه بالفعل لستين ألفا من الجنيهات الاسترلينية، لكنها الأموال التي لا يستطيع استبدالها، وإلا تعرض للكثير من المُساءلات، والتحقيقات التي قد تؤدي إلى سجنه، وهو من جانب ثالث غير قادر على إعادة الأموال لبراون الذي يسعى طوال الوقت للبحث عنها، خوفا من إيذاء براون له- بما أنه قد رأى كل ما حدث، لا سيما عملية إلقاء تيدي في الماء- وغير قادر على تسليمها للمُحقق لطمعه فيها، وخوفا من اتهامه بشيء ما.

يحاول موريسون تخيل عملية تهريب المال التي حدثت بين براون وتيدي في بداية الفيلم، وبالفعل ينجح في ذلك، كما يخرج- مُستعينا برجال الشرطة- جثة تيدي من البحر، لكنه يُلاحظ وجود برج المُراقبة الذي يقف مالوان من خلف نوافذه الزجاجية مُراقبا لما يدور.


حينما يُلاحظ مالوان أن المُحقق موريسون قد شاهده يتلصص عليه هو ورجاله مما جعله يتحرك باتجاه برج المُراقبة؛ توقع مالوان صعود موريسون إليه، وهو ما جعله يضع قدرا من الماء على المدفأة من أجل تبخير الماء الذي سيتكاثف على زجاج نوافذ برج المُراقبة، وبالتالي يمكنه ذلك من الادعاء بأنه لا يرى كل ما يدور من حول البرج- سواء على رصيف الميناء، أو على خطوط السكك الحديدية- نتيجة لتكاثف بخار الماء الدائم على الزجاج مما يمنعه من الرؤية.

يصعد موريسون بالفعل إلى البرج ليسأل مالوان عن أوقات عمله، وهل النوافذ الزجاجية تظل مُغلقة طوال العام أم لا، وكيفية رؤيته لحركة القطارات في الخارج إذا ما كان بخار الماء يتكاثف على الزجاج دائما، وعما إذا كان قد رأى شيئا غريبا في الليلة الماضية، وحينما يستفسر مالوان عن جوهر الشيء الغريب؛ يقوم موريسون بمسح بخار الماء من على زجاج النافذة ليشير إلى جثة تيدي التي تم انتشالها من البحر.

إن انتشال جثة تيدي يؤكد لموريسون أن ثمة جريمة قد حدثت بالفعل نتيجة الخلاف على المال، وبما أن براون قد هرب منه مُختفيا، وبما أن موريسون يرغب في الحصول على المال بأي طريقة من أجل صديقه- ميتشل- الذي لجأ إليه، فهو يقوم باستدعاء زوجة براون إلى الفندق، ليقول لها: هل تعرفين سبب دعوتك هنا؟ بسبب أن زوجك مُشتبه به، نحن نعتقد أنه اقتحم وسرق المال من رئيسه في العمل، السيد ميتشل، ستون ألف جنيها، أود أن أقول لك أيضا، بالإضافة إلى هذا، حدث تغيير في القضية، حيث حدثت جريمة قتل. أحد المُقربين من زوجك، تعرفين تيدي، إنه الضحية، تم العثور على الجثة مُلقاة في البحر مُنذ قليل. أود أن أرى حلا لهذه القضية بطريقة ودية، أحتاج لمُساعدتك، الطريقة الوحيدة لمُساعدة زوجك هي أن يساعدنا بكل ما يستطيع. أنا والسيد ميتشل اتفقنا على أنه إذا ما كان زوجك على استعداد للاعتراف بجرائمه، ويعيد الأموال؛ سنعطيه الأرباح منها في ليلة السبت، لكن، إذا ما كان زوجك لا يريد التعاون، عندها سيوجه إليه القاضي تُهمة السرقة، بالإضافة لتُهمة القتل بالطبع. بالتأكيد يجول بخاطرك لِمَ أحاول مُساعدتكم. أنا أطلب منك للمرة الثانية أن تساعديني، يجب عليك إيجاد زوجك، ربما هو مُختبئ في مكان ما، جائعا من البرد، خائفا. حاولي البحث عنه في الجوار، كوني مُتخفية، دعي زوجك يراك تبحثين عنه. إذا ما جعلتيه يُسلم نفسه؛ سنساعده في هذه القضية، وسنقوم بنشر إعلانين بلغتين، نقول فيه: إن ابنكما الصغير قد حدث له حادث، وأنه عليه أن يحضر إلى الفندق سريعا. أعلم أن الأمر هو صدمة بالنسبة لك، لم نكن نعلم أن زوجك له حياة مزدوجة. الآن دعينا نذهب، سأحجز لك في الفندق، حاولي تمالك نفسك، تعالي معي رجاء، سأريك غرفتك.


إن مشهد مسز براون بينما يساومها موريسون بعد استدعائها، ومعرفتها عن الحياة الخفية- الوجه الآخر- لزوجها، وما فعله كان من أفضل مشاهد الفيلم على المستوى الأدائي، ورغم أن المُمثلة المجرية آجي زيرتس لم تظهر في الفيلم سوى في ثلاثة مشاهد فقط، إلا أن أداءها التمثيلي تفوق على فريق الفيلم بالكامل، حيث رأيناها جالسة أمام المُحقق موريسون صامتة تماما، مُتحجرة الملامح كأنها تجمدت، بينما الدموع تتجمع لحظة بعد الأخرى في عينيها، آبية على الانزلاق، مُتحجرة في عينيها كملامحها تماما، إلى أن تنسال فجأة كشلال مُندفع، أو كصنبور مياه انفتح فجأة ليغرق وجنتيها.

إن مقدرة آجي زيرتس/ مسز براون على فهم دورها الصغير، وصدمة الزوجة في زوجها الذي عرفت عنه للتو حياة أخرى، ووجه جديد لم تعرفه عنه من قبل رغم السنوات الطويلة بينهما، والأولاد الذين يربطون بينهما. نقول: إن هذه المقدرة على الفهم قد انعكست على أدائها التمثيلي الذي أدته ببراعة لافتة، مما جعل دورها الصغير من أهم أدوار الفيلم بالكامل.


تتجه هنرييت إلى مالوان مُخبرة إياه بأن ثمة شخص ما غريب في الكوخ الخاص بهما، وحينما يسألها عن هذا الشخص، تؤكد له بأنها لم تره، بل رأت عينيه فقط في ظلام الكوخ؛ لذا أسرعت بإغلاق الباب عليه والعدو باتجاه أبيها لتخبره بالأمر. يزداد قلق مالوان- الشاعر بالقلق طوال الوقت- ومن ثم يسرع بأخذ زجاجتين من النبيذ، وبعض الطعام في إحدى الحقائب للذهاب إلى الكوخ، وحينما تسأله هنرييت عما إذا كان سيؤذي ذلك الشخص المجهول، يؤكد لها بأنه لن يفعل.

إن مالوان الذي يعرف كل شيء- سرقة براون للمال، واختلافه مع تيدي، ودفعه لتيدي في الماء، وضائقة براون المالية، وأسرته التي هي في حاجة إليه، وهروبه، وبحثه عن المال المتورط في سرقته- كل هذه المعرفة، فضلا عن الشعور العميق بالذنب الأخلاقي- فبراون في حاجة للعودة إلى أسرته من أجل رعايتها- يجعل مالوان يشعر بالكثير من التعاطف معه، وبما أنه يثق بأن براون هو الرجل الغريب المُختبئ في الكوخ بحثا عن حقيبة المال؛ فهو يحمل معه النبيذ والطعام من أجل إيوائه ومُساعدته، لكنه حينما يصل إلى باب الكوخ، ويقوم بفتحه، نراه ينادي براون باسمه، وحينما لا يصله الرد، يقوم بدخول الكوخ المُظلم ليغلق الباب من خلفه.

إن هذا المشهد الذي دخل فيه مالوان إلى الكوخ هو مشهد- تاري- تماما، أي يحمل بصمة المُخرج بيلا تار الجينية، وهي البصمة التي لا يجهلها أي عارف بفن السينما، لا سيما السينما التي يقدمها تار، حيث تظل الكاميرا متوقفة في الخارج أمام باب الكوخ، إنها غير راغبة في تتبع مالوان إلى الداخل، بل تظل شاخصة، شاردة، مُدققة في باب الكوخ الذي أغلقه مالوان من خلفه. إن إصرار الكاميرا على عدم مُتابعة مالوان إلى الداخل يُدلل على شخصيتها المُستقلة القادرة على اتخاذ القرار المُناسب لها في الوقت الذي تريده؛ لذا سنُلاحظ أن الكاميرا تستمرمتوقفة، شاخصة لباب الكوخ المُغلق لمُدة دقيقة ونصف الدقيقة بالكامل، إلى أن يفتحه مالوان خارجا، بينما نراه يلهث نتيجة تلاحق أنفاسه.


إذن، فتار قادر على صناعة أفلام إذا ما رأينا أي مشهد منها من دون أن يكون عليها توقيعه؛ سندرك مُباشرة أنه هو من قام بإخراجها.

يسرع مالوان إلى موريسون الذي يتناول طعامه في الفندق، حاملا معه حقيبة المال ليقدمها له قائلا: اعتقلني، لقد قتلت الرجل الانجليزي. يسأله موريسون عن التوقيت والمكان، فيخبره مالوان أنه قد قتله مُنذ ساعة، وأنه سيأخذه إلى المكان الذي قتله فيه.

يسلم موريسون حقيبة النقود لصاحب الفندق، طالبا منه أن يضعها في غرفته، وألا يسمح لمسز براون بالخروج أو مُتابعتهما، ورغم أن مسز براون لا تعرف الفرنسية التي تحدث بها كل من مالوان وموريسون إلا أنها تشعر بأن ثمة شيء ما يخصها هي وزوجها قد حدث؛ الأمر الذي يجعلها تسرع بارتداء شالها ومُتابعة كل من مالوان وموريسون.


بمُجرد وصول الجميع إلى باب الكوخ، يطلب موريسون من مالوان عدم السماح لمسز براون بالدخول خلفه، فيقف أمامها بضعف، وخذلان، وخجل مُخبرا إياها: أنا فقط أحضرت له الطعام. هنا تُدرك الزوجة أن زوجها قد أصابه مكروه، وتسرع بتنحية ماولوان عن وجهها لتدخل الكوخ الذي تصر الكاميرا على عدم دخوله، وبالتالي نستمع إلى صوت نحيب وصراخ مسز راون الذي يصلنا بالخارج، لتخرج بعد فترة، وقد احتضنها موريسون محاولا تهدئتها، بينما يطلب من مالوان إغلاق باب الكوخ.

إذن، فتار هنا نزع الرواية من مُحيطها الذي نشأت فيه بالفعل- لدى جورج سيمنون- وإذا ما كان سيمنون قد كتب الرواية باعتبارها من روايات الجريمة، فلقد سلب تار الرواية هذا المعنى المُباشر. صحيح أن ثمة جريمة وقعت هنا، لكنها بالكامل مُجرد جريمة تخيلها المُشاهد، ولم يرها. جريمة أعرضت الكاميرا عن نقلها لنا، أو مُجرد رؤيتها، أي أننا من خلال الأحداث فهمنا أن مالوان قد حمل الطعام والنبيذ من أجل براون المحبوس في الكوخ، ولكن يبدو أن براون- الشاعر بالخوف الشديد، والهارب من جريمتين- ظن بأن مالوان سيقوم بالاعتداء عليه، وبالتالي حدث بينهما اشتباك ما، أدى إلى أن دافع مالوان عن نفسه، وبالتالي قام بقتل براون من دون أن يقصد- تماما كما قتل براون لتيدي من دون أي قصد.


ينتقل تار إلى الفندق، حيث نرى موريسون يطمئن على أن المبلغ المالي كاملا، ويأخذ من الحقيبة مبلغين ليضع كل منهما في مظروف مُستقل، وسُرعان ما يلتفت لمسز براون الجالسة في حالة من الذهول الكامل ليقول لها، مادا يده بأحد الظرفين: سيدتي، أعلم ما تشعرين به، لقد تأثرت بما حدث أيضا، لذا رجاء أن تقبلي مني هذا المبلغ، أرجوك، أرجوك أن تأخذيه، ستحتاجينه في هذه الأوقات الصعبة، أرجوك سيدتي، أتوسل إليك.

رغم محاولات موريسون المُستمرة مع مسز براون ليعطيها مظروف المال، إلا أنها لم تلتفت إليه مُطلقا، كما لم تذرف دمعة واحدة من عينيها، حيث رأينا ملامحها الباهتة المُتحجرة، الميتة تماما، وكأنها في عالم آخر لا يخص الآخرين؛ الأمر الذي جعل موريسون يضع المظروف في نهاية الأمر في حقيبة يدها المجاورة لها، هامسا: سيدتي، اعتني بنفسك.


ثم يتجه إلى مالوان الشاعر بالكثير من الذنب العميق، بوجهه الحجري الشديد التجهم- لا سيما أن قتل براون غير المقصود أدى إلى حالة الزوجة التي يراها جالسة أمامه، فضلا عن أنه قد حرم أولاده من أبيهم- ليقول: أفهم حالة ذعرك، يجب أن تعرف بأني حققت في عدد جيد من القضايا، قضيتك هي دفاع عن النفس، رجاء أن تقبل هدية ميتشل، خذها، تستحقها، اذهب إلى البيت، وانس كل شيء.

لكن حينما يظل مالوان على حالته الحجرية الشاردة، يمد موريسون يده بالمظروف إلى الجيب الداخلي لمعطف مالوان، ثم ينصرف، لنرى مالوان واقفا لفترة محاولا النظر الخجول إلى مسز براون، لكنه ينصرف في نهاية الأمر، لتتجه الكاميرا مُتفحصة وجه مسز براون التي تبدو لنا وكأنها انتقلت إلى عالم آخر، ليسود البياض الشاشة بعد فترة، وينتهي الفيلم.

إن الفيلم المجري "الرجل من لندن" للمُخرج بيلا تار لم ينتشل أي واحد من شخصياته من أزمته الوجودية، أو قلقه، أو فراغه، أو عذابه، بل ترك الجميع يغرقون في أزمتهم الوجودية بشكل أعمق- سواء من ظلوا أحياء، أو من مات منهم- وبالتالي فلقد نجح تار في تقديم فيلم من الأفلام التي تخصه وحده، باستخدام أسلوبيته السينمائية في صناعة السينما.


لكن، رغم الجماليات الفنية والأسلوبية التي يزخر بها فيلم "الرجل من لندن" لبيلا تار- حتى أننا قد نستطيع القول بأن هذا الفيلم هو من أهم أفلام المُخرج من الناحية الأسلوبية، الشكلانية، وأكثرها اكتمالا- إلا أن ثمة غرابة ما، واغتراب كامل ينتابان المُشاهد للفيلم، إحساس بالغرابة والانفصال يجعلنا نشعر بأن الفيلم لا علاقة له بتار- رغم شكلانيته الأسلوبية- هذه الغرابة تعود في جوهر الأمر إلى عدم خصوصية البيئة الثقافية التي قدم من خلالها المُخرج فيلمه. فتار يبرع كثيرا في إيصال روح أفلامه حينما يقوم بصناعتها في البيئة المجرية، أي أن محلية الثقافة والمُشكلات التي يعالجها، وفقر الناس، وحاجتهم الشديدة، ومُعاناتهم في المجر هو ما يُكسب أفلام تار خصوصيتها، ومن ثم يجعلنا كمُشاهدين مُتفاعلين معها، أي أنه قادر على التعبير عن المجر والمجريين وما يعانونه، بما أنه ابن هذه البيئة، والثقافة، لكنه حينما خرج إلى ثقافة أخرى- الانجليزية والفرنسية- حيث الأحداث من المُفترض أنها تدور في مرفأ فرنسي في إحدى البلدات الفرنسية، بينما المُهربين والمُحقق من لندن. نقول: إن الخروج من بيئته الخاصة أدى إلى اغترابه التام، وفقدانه للحميمية، وبصمته، وإشعارنا بأن ثمة شيء ما ينقصنا رغم اكتمال الأسلوبية التي قدم من خلالها الفيلم.

لكن هل توقف الأمر على ذلك فقط؟ إن الشعور بالاغتراب عن هذا الفيلم، وبأن ثمة شيء ما ينقصه يأتي أيضا من لجوء المُخرج إلى دبلجة الحوار بين المُمثلين المُتحدثين في الأساس بالمجرية، ولسنا ندري ما هو السبب الفني الذي من المُمكن أن يصل إليه المُخرج من خلال الدبلجة اللهم إلا إذا ما كان سببا عمديا، لزيادة إشعارنا بالاغتراب الذي يشعر به جميع الشخصيات الفيلمية.

المُخرج المجري بيلا تار

كان من المُمكن جدا لتار ترك الفيلم بلغته المجرية من أجل قراءة الترجمة على الشاشة، كما هو الأمر في كل أفلامه، لكنه لسبب ما لجأ إلى الدبلجة إلى الفرنسية والانجليزية، ولعلنا لاحظنا أن موريسون حينما خرج من كوخ مالوان حيث رأى جثة براون، قد قال له بالانجليزية: Close The Door اغلق الباب، أي أن موريسون قد تحدث بالانجليزية- لغته الأم- مع مالوان الذي لم يتحدث سوى الفرنسية طوال أحداث الفيلم.

صحيح أننا نظن بأن مالوان يعرف الانجليزية حينما استمع إلى الحوار السابق الذي دار بين كل من موريسون وبراون في الفندق، والذي كان باللغة الانجليزية، لكنه لم يتحدث مع أي شخص طوال أحداث الفيلم- ولا حتى موريسون- بالانجليزية، بل بالفرنسية فقط، فمن أين عرف موريسون مقدرة مالوان على فهمه حينما طلب منه أن يغلق الباب؟!

إن فيلم "الرجل من لندن" من أفلام تار المُهمة، والمُكتملة تماما- رغم تكرار نفسه- على المستوى الأسلوبي/ الشكلاني، لكن ثمة إحساس عميق لا بد أن ينتاب المُشاهد طوال أحداث الفيلم بالنقصان، وهو الإحساس الذي يعود في جوهره إلى خروج تار من بيئته المحلية الذي أفقده الكثير من الحميمية التي يتميز بها.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد مايو 2025م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1]  قام المُوسيقار المجري Mihály Vig ميهالي فيج بالاشتراك مع Béla Tarr بيلا تار وإعداد المُوسيقى له في ستة أفلام من إجمالي تسعة أفلام روائية طويلة قام بإخراجها المُخرج، بدأ هذا التعاون من فيلم تار الرابع Almanac of Fall روزنامة السقوط 1984م، حتى فيلم تار الأخير The Turin Horse حصان تورينو 2011م، وهي المُوسيقى التي تتلاءم إلى حد بعيد مع عالم تار الوجودي، المُزدحم بالأفكار الكلية الكبرى، والمُجردة.