الخميس، 22 مايو 2025

النفي: ليس كل ما نراه كما يبدو لنا بالضرورة!

المُتابع لسينما المُخرج والسيناريست الروسي Andrey Zvyagintsev أندري زفياجنتسيف يُدرك تماما أنه يكاد أن يكون الوريث الفني الشرعي، والأكثر شبها بالمُخرج الروسي الراحل Andrie Tarkovsky أندريه تاركوفسكي، ليس من الناحية الإيمانية، والإصرار على العودة إلى الروحانيات في مُقابل التخلي عن المادية التي باتت تُحيط بنا في كل مكان- وإن كنا لا نستطيع إنكار تدين زفياجنتسيف الواضح في كل أفلامه تقريبا من خلال الكثير من الإسقاطات والإحالات والرموز الدينية المسيحية التي تغص بها أفلامه- لكن وجه الشبه الحقيقي والأكثر بروزا بين كلا المُخرجين يتمثل في انتهاج أسلوبية السينما البطيئة، وحركة الكاميرا المُتأملة، المُتمهلة، غير المُتعجلة، الواثقة تماما من سيطرتها على كل مُفردات المشهد المُحيط، وأن هذه المُفردات مهما خرجت من مجال رؤيتها، فهي لا بد أن تعود إليه مرة أخرى، وهو ما يُكسبها قدرا غير هيّن من ثقتها بذاتها، وعدم تعجلها، وسكونها الطويل المُتأمل، حتى أنها بعد انتهاء مشهد ما وخروج جميع المُمثلين من إطار الكادر نُلاحظ أن الكاميرا تظل وحدها في المكان، تُطيل التأمل، متجولة فيه، حتى لكأنها مُكتفية بذاتها وتأملاتها، وليست في حاجة إلى المُمثلين داخل إطار رؤيتها/ الكادر، وهو ما سبق لنا أن رأيناه- على سبيل المثال- في نهاية فيلمه الروائي الأول The Return العودة 2003م، حينما رحل كل من أندري وإيفان عن الشاطئ المهجور بعد غرق القارب المحتوي على جثة أبيهما، بينما فضلت الكاميرا البقاء وحدها على الشاطئ بدلا من مُتابعتهما، فهي ليست في حاجة إلى أحد بقدر حاجتها للتأمل، والتدقيق، وربما الشعور بلذة الاكتشاف، وما قد يصاحبه من دهشة!

هذه المهارة التي نُلاحظها في استخدام زفياجنتسيف لأسلوبية السينما البطيئة، وسيطرته الكاملة على حركة الكاميرا التي تعطي الفرصة بدورها للمُشاهد من أجل التأمل معها- لا سيما أن موضوعاته ليست بالموضوعات التي تحتاج إلى العجلة بقدر حاجتها للتمهل المُتأمل والتفكير- فضلا عن الاستخدام الدقيق للألوان التي تترك بأكبر الأثر على المُشاهد، بالإضافة إلى مهارته في استخدام الإضاءة، لا سيما استخدام الظلال، والاعتماد على التباين ما بين درجتي السطوع والخفوت وما ينتج عنهما داخل الكادر من مشاهد هي أقرب إلى اللوحات التشكيلية المرسومة بدقة وإتقان ومهارة، بالإضافة إلى المُوسيقى التصويرية المُناسبة تماما لموضوعه، وأثرها الذي لا يزول ببساطة حتى بعد انتهاء الفيلم، كل هذه الأدوات الفنية والعوامل التي يستخدمها المُخرج بمهارة في أفلامه أدت في النهاية إلى تقديم زفياجنتسيف لمجموعة من التحف الفنية التي تم الاشتغال عليها بتؤدة وتمهل ومزاجية فنية عالية لتخرج لنا في شكل شديد الإتقان حتى لكأنه لا يسعى سوى إلى الكمال في كل ما يقوم به، بمعنى أنه يستغرق في أعماله الفنية للدرجة التي تجعلها تبدو لنا في نهاية الأمر لا يمكن أن تكون سوى بهذا الشكل الذي رأيناه، وأن أي تغيير فيها لا بد بالضرورة أن يؤدي إلى تشوهها، وانهيارها على المستوى الفني.


إذن، فرغم التشابه الأسلوبي ما بين زفياجنتسيف وتاركوفسكي بسبب ميله إلى السينما البطيئة، والكاميرا المُتأملة، إلا أننا سنُلاحظ أن زفياجنتسيف قد نجح إلى حد بعيد في امتلاك أسلوبيته الخاصة به، وهي الأسلوبية التي لا يتشابه فيها مع أحد- صانعا من كل مشهد في أفلامه لوحة جمالية تشكيلية مُستقلة بذاتها، ومُتداخلة في آن مع الشكل الجمالي، والأسلوبي للفيلم- صحيح أن ثمة تقاطعات- كما سبق أن ذهبنا- وشيء من روح تاركوفسكي، لكن ليس معنى ذلك أنه قد يكون صورة أخرى منه بالضرورة؛ فتاركوفسكي قد ترك بأثره الفني على الكثيرين من المُخرجين الماهرين والمُهمين في تاريخ السينما من حول العالم، ولكن ليس معنى ترك الأثر الفني على الآخرين أن يتحولوا إلى صورة أخرى من صاحب الأثر، بل اكتساب روح أسلوبيته، ليبدأوا في ابتكار أسلوبيتهم الخاصة، أي البناء على من سبقوهم من المُخرجين الذين أضافوا إلى تطوير فن السينما على مر التاريخ.

هذه الأسلوبية المُتميزة التي جعلت من زفياجنتسيف من أهم المُخرجين الروس في الوقت الآني، بل من أهم المُخرجين الذين يعملون على الدفع بصناعة السينما باتجاه كل ما هو فني من حول العالم، محاولا الابتعاد بها عن التجارية قدر جهده، سنُلاحظها بجلاء في فيلمه المُهم- الفيلم الروائي الثاني للمُخرج- The Banishment النفي، الذي اعتمد فيه زفياجنتسيف على رواية The Laughing Matter المسألة المُضحكة للروائي الأرمني الأصل الأمريكي الجنسية William Saroyan وليم سارويان، الصادرة عام 1953م، ولعلنا نُلاحظ السُخرية في العنوان من تلك "المسألة" التي  لا نعرف عنها شيئا، وأنها لا بد أن تُثير الضحك، لكننا مع مُتابعة فيلم زفياجنتسيف سيتضح لنا أنها مسألة مأساوية في حقيقة الأمر، أدت إلى العديد من الفجائع التي مر بها أبطال القصة بالكامل.


يتبيّن لنا مع اللقطة الأولى من الفيلم اهتمام المُخرج البيّن بأسلوبيته السينمائية في صناعة الأفلام، لا سيما أنه يفتتح الفيلم على الكاميرا الثابتة الشاخصة في الفراغ اللانهائي المُحيط بها في منطقة من مناطق الريف، ورغم أننا لا نلمح أي شيء في إطار الكادر اللهم إلا شجرة ما، لكن الكاميرا تظل شاخصة وكأنها في انتظار شخص ما، أو حدوث شيء ما، وهو ما سنلحظه بعد قليل حينما تظهر لنا سيارة قادمة في الأفق البعيد لتظل الكاميرا مُتابعة لها، مُحدقة فيها مع ثباتها، ورغم أن السيارة اختفت عدة مرات في مُنحنيات الطريق، وتضاريسه المتفاوتة إلا أن الكاميرا تظل مُنتظرة لها، واثقة من دخولها في الكادر مرة أخرى، والعودة إلى نطاق رؤيتها، ومن ثم فالكاميرا هنا تمتلك شخصيتها، واعتدادها بذاتها؛ ما يجعلها واثقة مما سيحدث، غير راغبة في الحركة، أو التسرع، أو مُلاحقة السيارة، اللهم إلا حينما تقترب منها على جانب الطريق. هنا نُلاحظ أن الكاميرا تبدأ في الحركة بتؤدة وتمهل وكسل، وكأنها تفعل ذلك عن غير رغبة، أو حتى لكأنها راغبة في النظر بكسل لهذه السيارة المُقتربة منها، وبالتالي نراها تقترب بكسلها الشديد من حافة الطريق في اللحظة التي تمر من أمامها السيارة مُستمرة في طريقها، لكن التأكيد على أسلوبية المُخرج هنا يتجلى في أن الكاميرا حينما تمر السيارة من أمامها لا تحاول مُلاحقتها بالنظر إليها في الجهة التي انطلقت باتجاهها، بل تظل زاوية نظر الكاميرا مُنصبة على الجهة التي أتت منها السيارة، وليس الجهة التي اتجهت إليها- ربما يذكرنا ذلك إلى حد كبير بالمُخرج المجري Béla Tarr بيلا تار وفيلمه المُهم Werckmeister Harmonies تناغمات فيركميستر 2000م الذي كانت الكاميرا فيه هي البطل الرئيس والمُسيطر على كل مُفردات العالم الفيلمي، وهو ليس بالأمر المُثير للدهشة فزفياجنتسيف، وتار، وتاركوفسكي، بالإضافة إلى المُخرج السويدي Ingmar Bergman إنجمار بيرجمان يمثلون جميعا مدرسة أسلوبية شديدة التقارب، يعنيها في المقام الأول الكاميرا البطيئة، والمزيد من التأمل، والتدقيق في الأشياء، والكثير من التفكير فيها.


هنا سنُلاحظ أن الكاميرا تتابع السيارة بتؤدة وتعالٍ كبيرين، فحينما يقطع المُخرج- بعد مرور السيارة واستمرار الكاميرا في الشخوص بنظرها في الاتجاه الذي كانت قد أتت منه- سنرى الكاميرا مرة أخرى وكأنها جالسة على أحد الطرق الإسفلتية- لاحظ أنه في المشهد السابق كان الطريق ترابيا- مما يعني أنها قد بدأت تخرج من حيز الريف إلى حيز المدينة. نقول: سنرى الكاميرا جالسة على الإسفلت، بينما نرى في الأفق الطريق الطويل المُمتد، وقد بدا لنا ملتويا، تختفي منه بعض الأجزاء بسبب التضاريس المتفاوتة في الارتفاع والانخفاض، لكن سُرعان ما تدخل السيارة في إطار رؤيتها مرة أخرى قادمة في الأفق البعيد، لتظل الكاميرا مُتابعة لها، ساكنة تماما من دون أدنى حركة حتى تصل السيارة إلى الكاميرا وتتخطاها مرة أخرى.


إن حرص زفياجنتسيف على هذه الأسلوبية السينمائية مع اللقطات الأولى لفيلمه إنما تؤهل المُتفرج لهذه الحركة البطيئة للكاميرا، والسياق الذي سيستمر عليه الفيلم من جهة، ومن جهة أخرى فهي تؤكد للمُشاهد بأن ثمة كائنا حيا آخر مُضافا، يراقب معه ما يدور في الفيلم، وهذا الكائن/ الكاميرا يكتسب أهمية بالغة، حتى أنه لا يمكن لنا المُبالغة إذا ما ذهبنا إلى أن الكاميرا هنا لا تختلف، ولا تقل أهمية عن أي شخصية من شخصيات الفيلم، بل هي الشخصية الأهم هنا، المُراقبة، المُتأملة، التي قد توحي لنا برأيها فيما تراه أمامها، لكنها لا تُفضي به بشكل مُباشر، لأنها تُفضل الإيحاء لنا به.


مع التتبع الطويل في مُراقبة السيارة- التي دخلت حيز رؤية الكاميرا لأول مرة حينما كانت في الريف- سيبدأ دخولها إلى حيز المدينة الصناعية، لنرى العديد من اللقطات وقد أحاطت بها المصانع، والكثير من المداخن، والطرق الضيقة المُختنقة، ولعلنا نُلاحظ أن المشاهد التي تابعت الكاميرا فيها السيارة حينما كانت في الريف الروسي قد تميزت بالاتساع اللانهائي، فضلا عن سطوع الرؤية والإضاءة المُشرقة، بينما كانت المشاهد المُقابلة لها في المدينة خانقة، ضيقة، شاحبة بضوء خافت يقترب من الإظلام- أي أن ثمة موقفا ما من المدينة هنا، يُفضِل عليها الريف- ومن جهة أخرى لا يفوتنا الفراغ الكامل والتام في المشاهد المُتتابعة من حول السيارة- سواء في الريف أم في المدينة- أي أن كل من الريف والمدينة هنا بديا لنا خاليين تماما من البشر، حتى لكأنهما قد تم تفريغهما، أو أننا نراهما بعد حلول كارثة ما أدت إلى رحيل الجميع، أو موتهم، وتركهم للأماكن من خلفهم فارغة تماما.

ربما كانت مُتابعة الكاميرا للسيارة لفترة ليست بالقصيرة- بلغت 4 دقائق من الزمن الفيلمي- في رحلتها من الريف إلى المدينة حيث بيت ألكسندر- قام بدروه المُمثل الروسي Konstantin Lavronenko كونستانتين لافرونينكو- وهي ما يمكن أن نُطلق عليها الرحلة من الإشراق إلى الإظلام- تبعا للمفهوم الذي توحي به الإضاءة التي استخدمها المُخرج- إنما تتشابه إلى حد بعيد مع ما فعله تاركوفسكي في فيلمه Solaris سولاريس 1972م حينما تتبعت الكاميرا هنري لمُدة خمس دقائق من زمن الفيلم، مُتنقلا بالسيارة في شوارع موسكو للتدليل على سيادة المادية في كل شيء، وغرق البشر في هذه المادية بالكامل، فضلا عن إكساب تاركوفسكي للكاميرا في مشهده لشخصيتها المُستقلة، وهو ما أدى إلى نقل المشهد بالكامل من وجهة نظر الكاميرا، وليس من وجهة نظر هنري. 


إنه ما نراه هنا لدى زفياجنتسيف مع الفارق البسيط في المعنى، فالكاميرا التي تتابع السيارة التي يقودها مارك هنا- قام بدوره المُمثل المسرحي الروسي Aleksandr Baluev ألكسندر بالويف- ذات شخصية مُستقلة بدورها- تماما مثل كاميرا تاركوفسكي- لكنها لا ترغب في التعبير عن المعاني المادية في مُقابل المعاني الروحانية، بقدر رغبتها في التعبير عن عالم الريف/ الأكثر براءة وصدقا، وبساطة، وتسامحا، وإشراقا في مُقابل عالم المدينة/ الكئيب، المُكتظ بالشرور، المُعقد بشكل لا يمكن التعايش معه بسهولة من دون تلويثنا، وهو ما يُبرر لنا الإضاءة الشاحبة المُقبضة، المائلة للظلام والكآبة التي تسيطر على عالم المدينة في الفيلم- أي أن ثمة ثنائية هنا يرغب زفياجنتسيف في التعبير عنها، وهي ثنائية تميل للريف وتغليبه على المدينة وما يدور فيها من جهة، ومن جهة أخرى فهي ثنائية رمزية إيمانية ترى الريف المُشرق بدرجات عالية من السطوع الضوئي هو الإيمان في مُقابل الإلحاد الذي تمثله المدينة المُظلمة، لا سيما أن الفيلم يغص بالكثير من الإسقاطات الدينية التي ساقها المُخرج في طيات أحداثه.


لكن، ألا تُوحي لنا هذه المشاهد التي ساد فيها الفراغ الكامل، وغياب البشر سواء في الريف أم في المدينة بالكثير من الاغتراب الروحي، والوحشة، وعدم التواصل، والشعور بالوحدة التي تلقي بظلالها على الفيلم مُنذ المشهد الأول؟

إن زفياجنتسيف هنا يميل إلى استخدام الكاميرا في التعبير عما يرغب في الحديث عنه، فهو لا يميل إلى المُباشرة فيما يقدمه من أفلام بقدر ميله إلى سيادة أسلوبية الكاميرا التي تتحول معه إلى كائن حي، صاحبة وجهة نظر، قادرة على الإيحاء، والتعبير، بل والقول إذا ما استلزم الأمر- وهو ما يُفسر لنا تميزه على غيره من المُخرجين، واكتسابه للمكانة الفنية التي اكتسبها رغم أنه لم يُقدم سوى القليل من الأفلام على طول مسيرته حتى الآن.

سنعرف أن مارك- قائد السيارة- هو شقيق ألكسندر، وأنه مُصاب برصاصة في عضده، ويحاول الوصول بأقصى سرعة إلى بيت شقيقه من أجل مُساعدته في استخراج الرصاصة التي استنزفته نتيجة لطول المسافة التي قاد فيها- بدأت مُتابعة الكاميرا للسيارة في الضوء المُشرق، وانتهت عند وصول مارك لبيت شقيقه أثناء الليل وهطول الأمطار الغزيرة- أي أن مارك هنا متورط في بعض الأعمال الإجرامية التي لا نعرف عنها شيئا- ولن يُصرح بها المُخرج طوال الفيلم- وربما كان شقيقه ألكسندر بدوره متورطا معه- لكن المُخرج لن يفضي لنا بذلك أيضا، ولن نرى ما يُدلل على تورطه اللهم قول زوجته له: أعرف حالك وحال أخيك، وما الذي سيتحول إليه كير/ ابنهما.

إذن، فالمُخرج هنا يحيط فيلمه بالكثير من الغموض، ويثير العديد من التساؤلات التي لن يقدم لها إجابات شافية- وهو ما سبق له أن فعله أيضا في فيلمه الروائي الأول، حينما لم يُقدم لنا الإجابات المُثارة بشأن الأب العائد بعد غيابه الطويل، وما هو عمله، وما السبب في غيابه كل هذه السنوات، وغير ذلك- مما يعني أن زفياجنتسيف حريص على إحاطة أفلامه بالعديد من الأسئلة التي من شأنها أن تجذب انتباه مُشاهده، وتُثير تفكيره من أجل الحصول على الإجابات، لكنه لا يقدم له هذه الإجابات المرجوة في نهاية الأمر، بقدر تقديمه لفيلم يميل إلى الكثير من الفنية، والتأمل في المعاني الإنسانية بتؤدة وتمهل، أو بمعنى آخر، نستطيع القول: إن زفياجنتسيف يتأمل في المأساة الإنسانية، ويقدمها بقدر غير قليل من الصدق الفني.


يصل مارك إلى بيت شقيقه المُنتظر له، وحينما يعرض عليه طلب الإسعاف؛ يرفض مارك طالبا منه الحفر داخل الجرح، واستخراج الرصاصة منه، وهو ما يُدلل لنا على أن ثمة أعمال إجرامية يقوم بها مارك، وربما يكون ألكسندر متورطا فيها، لكننا لن نعرف ماهيتها.

ينجح ألكسندر بالفعل في استخراج الرصاصة من عضد أخيه، لنعرف أثناء حوارهما أن ألكسندر في حاجة ماسة للعمل، وأن ثمة شخصا يُدعى روبرت- قام بدوره المُمثل الروسي Dmitry Ulianov ديمتري أوليانوف- قد وفر له عملا، وهو ما سيجعله يغادر في خلال أيام، لكن مارك يعرض عليه فكرة بيع بيت والديهما في الريف، فهما ليسا في حاجة إليه.

ربما نُلاحظ أن زفياجنتسيف قد قدم لنا من خلال هذه المشاهد القليلة عالمه التأسيسي لفيلمه، فثمة أخان، متورطان في أعمال جرائمية لا نعرفها، وثمة أسرة يمتلكها ألكسندر، وهو في حاجة ماسة للعمل، واقتناء سيارة، وثمة عالمان مُتقابلان، ومُتناقضان- من خلال الرؤية الفنية للمُخرج- يمثلا عالمي الريف والمدينة.


مع قطع زفياجنتسيف على المشهد التالي نرى ألكسندر وأسرته في القطار مُتجهين إلى وجهة ما، لكن المُلاحظة الأهم في هذا المشهد هو الانفصال- الذي يبدو لنا واضحا- ما بين الزوج، والزوجة فيرا- قامت بدورها المُمثلة السويدية الأصل النرويجية الجنسية Maria Bonnevie ماريا بونيفي- حتى لكأن كل منهما مُنحبس في عالمه الخاص، حيث نرى فيرا جالسة على مقعدها بينما ألكسندر في المقعد المُقابل، ولكن ما يؤكد لنا على هذا الانفصال الذي يكاد أن يكون انفصالا جنسانيا يميل باتجاه الذكورية- وهي ثقافة روسية طبيعية- أن فيرا الجالسة في مُقابل زوجها تنام على فخذها ابنتهما إيفا- قامت بدورها المُمثلة الروسية Katya Kulkina كاتيا كولكينا- بينما ألكسندر المواجه لها ينام على فخذه ابنهما كير- قام بدوره المُمثل الروسي Maxim Shibaev مكسيم شيبايف- بينما يحيط الصمت بالأسرة بالكامل، وهو الصمت الذي سنشعر بوطأته، وكأنه ذو ثقل طوال أحداث الفيلم، فالزوجين قد انقطعت بينهما أواصر الصلة إلى غير رجعة، وهو ما يُشكل العالم الفيلمي بالكامل، لكننا في هذا المشهد سنرى الأسرة غارقة في النوم بينما فيرا هي الوحيدة المُتيقظة، مُتأملة لزوجها الغارق في النوم- ربما لتعيد تقييم سياق العلاقة بينهما.


مع وصول الأسرة الصغيرة إلى وجهتهما؛ سنعود مرة أخرى إلى عالم الريف الشاسع، ذي الإضاءة الساطعة المُشرقة، فألكسندر قد اصطحب أسرته معه إلى بيت أبيه الريفي الذي كان مارك قد أشار عليه ببيعه، ورغم أن ألكسندر لم ينتقل إلى هناك من أجل بيع البيت كما نصحه أخوه، إلا أننا لن نعرف السبب في هذا الانتقال رغم أنه كان قد أخبر مارك بأنه سينتقل خلال أيام لأن روبرت قد وجد له عملا- فالمُشاهد لعالم زفياجنتسيف السينمائي لا بد له من التغاضي عن العديد من الأشياء التي لا يميل المُخرج للإجابة عليها، بل يترك تخيل أسبابها للمُشاهد، وهي أسلوبية من شأنها جعل المُتلقي مُشاركا في العالم الفيلمي، أكثر من كونه مُجرد مُتلقٍ سلبي فقط.

ربما نُلاحظ أن ثمة عزلة ضاربة بالفعل بين كل من الزوج والزوجة هنا، فكل منهما يعيش في عالمه الخاص، وكل منهما يتواجد في ركن من المنزل وحيدا، أو بصحبة أحد الطفلين، لكنهما نادرا ما يجتمعا معا، اللهم إلا على مائدة الطعام بعدما تقوم فيرا بإعدادها، كما لا يفوتنا أن فيرا تبدو لنا طوال الوقت في حالة مُزمنة من الحزن والاكتئاب اللذين لا ندري سببا لهما، بينما ألكسندر يبدو كأب جيد للطفلين، يهتم بهما طوال الوقت، ويتحدث معهما، لكننا لا نعرف سبب وجود الأم على هامش هذا العالم، هل هو ألكسندر، أم هي التي تُفضل هذه العزلة؟ هل ثمة مشاكل ما بينهما، أم زهد وملل قد ضرب علاقتهما؟ هذه الأسئلة لا بد أن تدور في أذهاننا بالضرورة مع التقدم في مُشاهدة الفيلم البطيء، لا سيما أن بطء الكاميرا يعطينا الفرصة للمزيد من التأمل وطرح التساؤلات التي لا بد منها مع ازدياد الهوة بين كل من الزوج والزوجة اللذين لا يجمعهما أحد المشاهد مع بعضهما البعض إلا نادرا.


إن اهتمام ألكسندر بأسرته، وهو ما يتمثل لنا في علاقته بطفليه، يؤكد لنا على أنه زوج وأب صالح، ولعل الدليل على ذلك يتبدى لنا في المشهد الذي نراه فيه يقوم بصب الماء على جسد ابنته إيفا ليحممها، بينما تقف الأم مُراقبة- أي أنه يقوم بمُساعدة الأم في رعاية الطفلين- وحينما يسأله كير: أبي، أين بستان الجوز؟ يرد عليه: أعلى التل. فيسأله: هل سنذهب هناك بعدما نغتسل؟ ليرد عليه: سنذهب. وبالفعل يقوم ألكسندر باصطحاب الأسرة، ومعهما الزوجة فيرا إلى أعلى التل لجمع الجوز، والتنزه فوق التل الذي يوجد البيت بأسفله.

ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة؛ ففي تأكيد ألكسندر لكير على أنهم سيصعدون لأعلى التل بعد الاغتسال- أي فعل التطهر- ما يجعلنا نتوقف أمامه، وأمام العديد من الإسقاطات الأخرى التي ساقها زفياجنتسيف على طول فيلمه؛ فالفيلم غاص بالعديد من الرموز، والإحالات، والإسقاطات الدينية، صحيح أن المُجتمع الروسي هو مُجتمع مُتدين في غالبيته، لكن المُخرج هنا لا يسوق هذه الرموز الدينية بشكل مجاني في فيلمه، بل يضعها في سياق الأحداث، ويلح عليها لأهميتها وقيمتها الفنية، ولعلنا نتأمل العديد من هذه الرموز وأهميتها في السياق الفيلمي، ففي المشهد الذي رأينا فيه ألكسندر يقوم بغسيل يديه الغارقتين بدماء شقيقه مارك بعدما استخرج الرصاصة من جرحه، حيث ركزت الكاميرا على يديه أثناء قيامه بالتخلص من الدماء عليهما- إشارة إلى قابيل وهابيل- كما لا تفوتنا الإشارة السابقة بأن الأسرة لن تصعد لأعلى التل الذي يوجد البيت الريفي أسفله إلا بعد الاغتسال- فعل التطهر- حيث يوجد البيت الريفي هنا في منطقة مُنعزلة تماما أسفل التل، بينما يوجد أمامه وادٍ شديد الاتساع، ولا يمكن عبور هذا الوادي إلى بقية القرية إلا من خلال عبور جسر خشبي يربط البيت الريفي، بما بعد الوادي- في إشارة إلى أن البيت الريفي قد يكون بمثابة دير، أي مكان ديني له خصوصيته- فضلا عن أن الزوجة هنا اسمها "فيرا" وهو ما يعني الإيمان في اللغة الروسية، كما يعني الحقيقة أو المُخلصة في اللغة الإنجليزية، والابنة اسمها "إيفا" وهو ما يعني حواء، ولعله لا يفوتنا مشهد الأم حينما تتحدث لابنتها داخل المطبخ في البيت الريفي حينما تقول لها: أرنبتي، اعطني تفاحة. لترد الفتاة غاضبة: اسمي إيفا. تقول الأم: أعلم، لقد سميتك. تقول إيفا: قلت: أرنبتي. تبتسم الأم لتقول: لأنك مثل الأرنب الصغير، أرنب أشقر، مثل شعاع الشمس. تقول الفتاة: لا أريد أن أكون أرنبا، أريد أن أكون إيفا.


ألا يوحي لنا هذا الحوار بشكل من أشكال الإسقاطات الدينية بدوره، حيث إيفا/ حواء ترفض تجريدها من أنوثتها، لا سيما أنها تُمثل الأنثى الأولى على ظهر هذا الكوكب- تبعا للأسطورة الدينية- وهي المنوط بها في نهاية الأمر النهوض بالبشرية مرة أخرى بعد فنائها- الفناء هنا يتمثل في انهيار الأسرة؛ ومن ثم تصبح إيفا/ الابنة هي الأنثى الأولى التي ستنشئ عالما جديدا مرة أخرى- بالإضافة إلى تركيز الكاميرا في هذا المشهد على يد إيفا المُمتدة باتجاه أمها بالتفاحة، وما يثيره مثل هذا المشهد من إحالات ورموز مُرتبطة بالأسطورة- الطرد من الجنة.

مع التقدم في الفيلم ستتبدى لنا بالتأكيد المزيد من هذه الإشارات والإحالات الدينية التي يحرص زفياجنتسيف على وجودها داخل فيلمه، وهو ما يجعلنا مُنتبهين للتفاصيل والمعاني التي يرغب منا الوصول إليها؛ فعلى سبيل المثال حينما تجتمع الأسرة بجيرانهم في الريف؛ نشاهد ليزا، زوجة جارهم فيكتور- قام بدوره المُمثل الروسي Igor Sergeyev إيجور سيرجييف- تقول لفيرا مُتحدثة عن بناتها: قريبا ستبلغ فلورا العاشرة، وفريدا الحادية عشرة، وفايينا ستبلغ الثانية عشرة، لا أريد المزيد من الأطفال، لكن ينبغي لي أن أنجب ولدا- المُجتمع الذكوري- ثم تستطرد قائلة لفيرا الغارقة في صمتها الأبدي: ما هي خططك؟ يجب أن يكون لديك طفل آخر، ثلاثة هو الرقم السحري- في الحقيقة الرقم ثلاثة في المسيحية هو رقم سحري ومُقدس بالفعل لعلاقته بالتثليث "الآب، والابن، والروح القدس".


من هذه الإحالات- التي لا يمكن التغاضي عنها، أو المرور عليها من دون التوقف أمامها- أن كير ذات ليلة يسأل والده ألكسندر: أبي، ما هذه الرائحة؟- يقصد رائحة ما غريبة يشمها في البيت- ليرد عليه ألكسندر بقوله: لا أعرف. لكن مع الاستمرار في مُتابعة الفيلم، وبعدما يلتقي ألكسندر مع شقيقه مارك في حضور كير على محطة قطارات القرية سنُلاحظ أن كير يقول لأبيه أثناء عودتهما من المحطة إلى المنزل الريفي: رائحة مارك تُشبه رائحة المنزل من الداخل.

صحيح أننا سنعرف فيما بعد أن مارك كان كثيرا ما يذهب إلى المنزل الريفي، ويظل فيه لفترات طويلة من دون أن نعرف السبب في ذلك- ربما للاختفاء بعد المزيد من العمليات الإجرامية، لا سيما أن بداية الفيلم ومُتابعة سيارة مارك كانت مُنطلقة من الريف باتجاه المدينة، أي أنه كان في المنزل الريفي في الوقت الذي أُصيب فيه بهذه الرصاصة- وهو ما أفضى به جورج لألكسندر- جار ألكسندر في الريف وصديق والده: إنه يأتي، ويغلق البيت على نفسه، ويعيش مثل الراهب. لكن، بالتأكيد تواجد مارك في البيت الريفي من فترة لأخرى لا يعني أن يظل البيت مُعبقا برائحة غريبة مُثيرة للتساؤل، بل هو بالضرورة إسقاط رمزي وديني جديد من زفياجنتسيف يعني في جوهره أن مارك هنا يكاد أن يكون بمثابة الشيطان، وهو ما يؤكد عليه الذهاب في العديد من الثقافات إلى اقتران الشيطان برائحة كبريتية لا تزول بسهولة. وهو ما يوضح لنا أن كير الذي كان مُنزعجا ومُتسائلا عن رائحة ما تسود المنزل الريفي بمُجرد ما قابل عمه مارك أخبر والده بأن الرائحة التي كان يتساءل عنها هي رائحة عمه التي لاحظها بمُجرد الاقتراب منه.

كل هذه الإحالات والإسقاطات الدينية التي يغص بها الفيلم، والتي يحرص المُخرج على بثها داخل الحدث الفيلمي ليست موجودة في السياق هنا بشكلٍ مجاني، صحيح أن الفيلم بمثابة دراما عائلية، تتابع ما يحدث داخل أسرة ألكسندر، لكنها تتابع الأسرة من خلال منظور ديني له أثره في الثقافة الروسية بشكلها العام.


تجلس فيرا ذات ليلة على مقعد أمام البيت، ويسألها ألكسندر عما إذا كانت راغبة في كأس من النبيذ؛ فتؤكد له بأنها في أمس الحاجة لذلك، لذا يجلب زجاجة النبيذ، ويقترب منها بمقعد آخر للجلوس معها، ويقدم لها كأسها الذي تتناوله لتشربه جرعة واحدة، وتظل شاردة لفترة قصيرة، ثم تخبره بصوت هامس بأنها حامل. تصمت فيرا لبرهة لتستكمل حديثها بأن الجنين لا يخصه، أي أنه ليس الأب.

يظل ألكسندر شاردا وقد أحنى رأسه إلى الأرض لفترة، ثم ينهض صامتا من دون النظر إليها، ليلقي بكأسه أرضا، وينطلق في القرية شبه الخالية من البشر، لكنه أثناء سيره وحيدا يمر بجواره ماكس/ ساعي البريد ابن جورج صديق والد ألكسندر، ليتوقف بسيارته مُلتقطا إياه. يحاول ماكس تجاذب أطراف الحديث مع ألكسندر، لكنه يعتذر له، مُخبرا إياه بأنه ليس في مزاج للحديث مع أي شخص. وحينما يصلا إلى محطة قطارات القرية يسرع ألكسندر إلى الهاتف العمومي ليهاتف شقيقه مارك، مُخبرا إياه بأنه في أمس الحاجة للحديث معه، وأنه سيتوجه إلى المدينة من أجل مُقابلته؛ فيخبره مارك بأنه سينتظره في الحانة القريبة من منزله.


يسرع ألكسندر لماكس، طالبا منه استعارة سيارته للذهاب إلى المدينة، لكنه يتوقف في مُنتصف الطريق، ويقرر عدم الاستمرار في القيادة للمدينة، ليعود مرة أخرى إلى القرية رغم انتظار مارك له.

حينما يصل ألكسندر إلى المنزل مرة أخرى يكون الليل قد انتهى، فيتواصل مع جيرانه جورج وفيكتور داعيا إياهما وأسرتيهما على الغداء، لكنه بمُجرد انفراده بفيرا يسألها: هل تحبينه؟- قاصدا ذلك الرجل المُتسبب في حملها- مما يجعلها تتأمله لفترة من الوقت، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة شاحبة غريبة- تحمل في باطنها شيئا من السُخرية- لتقول: لا أعرف كيف أشرح لك الأمر. هنا ينفجر ألكسندر غاضبا ليصفعها بقوة تُسقطها أرضا بينما يردد: لا تعرفي؟ لا تعرفي كيف تشرحي؟!

هل كانت الصفعة الهائلة التي صفعها ألكسندر هنا لزوجته بسبب إخبارها إياه بأنها حامل بطفل ما وبأنه ليس الأب، أم أن السبب هنا هو عدم شعورها بالندم على ما هي فيه، وهو ما رأيناه في شبح الابتسامة المُرتسم على وجهها- حتى لو كانت الابتسامة تحمل شيئا من السُخرية؟


إن زفياجنتسيف هنا غير مُتعجل في إخبارنا بالأمر، ولا يحاول استباق الأحداث، بل يعيشها معنا، مُتأملا إياها، مُشاركا لنا مُتعة المُشاهدة والاكتشاف بتمهل.

مع اجتماع الجيران وعائلاتهم سنُلاحظ أن المُجتمع الروسي الذي يعبر عنه المُخرج هو مُجتمع مُغرق في ذكوريته، مُجتمع يميل باتجاه الفصل الجنسي ما بين الجنسين، فالزوجة فيرا مُنعزلة مع ليزا زوجة فيكتور التي تنصحها بضرورة إنجاب طفل ثالث، بينما نرى ألكسندر جالسا مع فيكتور وماكس، وجورج، وقد بلغ السُكر بفيكتور مداه حتى أنه يشكو لألكسندر بقوله- أثناء مُتابعته لبناته اللائي يلعبن أمامه مع إيفا وكير: ثلاث بنات، وكأني لدي ثلاث زوجات أخريات. أي أنه غير راضٍ بالفعل على إنجاب زوجته له ثلاث إناث، وهو ما لاحظناه حينما تحدثت زوجته مع فيرا، مُؤكدة لها على أنها غير راغبة في طفل جديد، لكنها مُضطرة إلى ذلك لتنجب له الولد الذي يأمله، وهو ما يؤكد لنا على ما ذهبنا إليه من أن المُجتمع بالكامل هنا هو مُجتمع ذكوري، سواء على مستوى الرجال، أم الإناث اللائي تربين على نفس الثقافة الذكورية، وباتت جزءا أصيلا منهن يُعِدن ابتكاره.


مع استماع ألكسندر لصوت الهاتف المُتعالي من داخل المنزل؛ يسرع بالرد عليه، ليخبره مارك على الطرف الآخر بأنه ينتظره عند محطة قطارات القرية، وحينما يخبره ألكسندر بأنه لديه ضيوف، ويطلب منه القدوم، يرفض مارك، مُؤكدا له على أنه راغب في الانفراد به، لذا يطلب منه استعارة سيارة جورج والتوجه إليه، لكن ألكسندر يخبر الجميع بأنه ذاهب للقاء صديقه روبرت- لعدم رغبته في معرفة فيرا بأنه سيلتقي بشقيقه- وبما أن روبرت لا يعرف الطريق فسيلحق به عند محطة السكك الحديدية الرئيسية في القرية، لكن كير يطلب من والده اصطحابه معه فيوافق، بينما يرفض اصطحاب إيفا حينما تبدي رغبتها في ذلك بدورها- المزيد من الثقافة الذكورية.

يسأل كير والده أثناء اتجاههما إلى محطة القطارات: هل تحبه؟ ليتساءل الأب: من؟ يرد كير: العم روبرت. يقول ألكسندر: بالطبع، نحن أصدقاء ونعمل معا، أنت تعلم ذلك. فيقول كير: أنا أكرهه. يتساءل الأب: لِمَ؟ يرد كير: جاء إلى بيتنا. يسأله ألكسندر مُنتبها: متى؟! يقول كير: عندما ذهبت لكسب المال. يسأل ألكسندر: لِمَ لمْ تُخبرني بهذا من قبل؟ يقول كير بلامُبالاة: لا أعلم، كانت أمي ستأخذنا لمُشاهدة السيرك، لكنها غيّرت رأيها، ذهبنا مع نينا، لقد كان في المنزل عندما عدنا.

إذن، فثمة خيانة هنا، وهذه الخيانة من أقرب أصدقائه، وبما أن فيرا كانت قد أخبرت ألكسندر لتوها بحملها، وأكدت له على أن هذا الحمل لا يخصه، وبعدما أخبر كير أبيه بما قاله لتوه؛ فلقد اكتملت الدائرة، وتأكد ألكسندر من أن روبرت/ صديقه هو والد الطفل الذي ينمو في أحشاء زوجته.


يصل ألكسندر إلى محطة قطارات القرية ليجد مارك مُنتظرا له في سيارته، ولعل الحوار الذي دار بينهما من الأهمية بمكان ما يجعلنا نتوقف أمامه كثيرا لتأمله، فحينما أخبر ألكسندر شقيقه بما حدث معه يسأله مارك: ماذا ستفعل بهذا الشأن؟ يرد ألكسندر بيأس: أخشى أن أقتلها. يسأله مارك: كم شهر؟- يقصد شهور الحمل- ليقول ألكسندر: لا أعرف، أعتقد شهرين، يا إلهي! ماذا يحدث مارك؟ ما الذي يحدث لنا؟ يرد مارك بلامُبالاة: ما يحدث يحدث، مثل لعبة ورق، تلعب باليد التي تم توزيعها عليك. يقول ألكسندر بألم: كنت مُتأكدا من أنها ستتخلص منه، لكنها تبتسم، هل يمكنك تخيل ذلك؟! مارك، ماذا يجب أن أفعل؟ يرد مارك ببرود وثقة: لديك الحق في فعل ما تريد، اقتل إذا ما كنت تريد القتل، المُسدس في الدرج العلوي، وهذا كل شيء، سامح إذا ما أردت أن تسامح، هذا كل شيء، يجب عليك اتخاذ القرار. يسأله ألكسندر: ماذا يجب أن أقرر مارك؟ لا أريد أن أفقد أطفالي بالطريقة التي فعلتها، لا أصدق أن هذا يحدث معي. يرد مارك ببرود: لم أفقد أطفالي، لقد اعتدت على الفكرة فحسب، أنهم غير موجودين. يقول ألكسندر: لكنهم موجودون، وهم على قيد الحياة. يسأله مارك: وماذا في ذلك؟ يقول ألكسندر: ألا تريد أن تعرف أي شيء عنهم؟ يقول مارك باقتضاب: لا. يسأله ألكسندر: وهذا عادل؟ يرد مارك بيقين بارد: عادل.


إن تأمل الحوار السابق بين الشقيقين يلقي بالضوء على المزيد من الحقائق التي قد تفيدنا في تلقي الفيلم وما يدور فيه؛ فهو يؤكد على أن مارك إنما كان في البيت الريفي بالفعل قبل إصابته بالرصاصة التي كان مُصابا بها في بداية الفيلم، وأنه كثيرا ما يذهب إلى البيت الريفي كما سبق لجورج أن أخبر ألكسندر، يتضح لنا ذلك من قول مارك لألكسندر: المُسدس في الدرج العلوي. أي ان مُسدس مارك الذي يستخدمه في عملياته الإجرامية التي لا نعلم عنها شيئا قد تركه في الدرج داخل منزل والدهما الريفي؛ لذا فهو يدل شقيقه عليه إذا ما فكر في قتل زوجته! ومن جهة أخرى فالحوار الدائر بين الشقيقين هنا يؤكد لنا على أن مارك رجل لا مُبالٍ، لا يهتم بالمشاعر والعلاقات الإنسانية والعواطف؛ فلقد اعتاد على عدم وجود أطفاله معه، واعتبر أن هذا الاعتياد يتساوى مع عدم وجودهم على ظهر الكوكب- رغم وجودهم بالفعل- كما أنه لا يشعر بأي شكل من أشكال الندم نتيجة لتركه لهم، وعدم سؤاله عنهم، بل هو يرى بشكل يقيني أن هذا أمر عادل وعادي.


على الجانب الآخر فالعذاب الحقيقي الذي يعاني منه ألكسندر يعود إلى أنه غير راغب في خسارة أطفاله- أي تكرار المأساة التي ارتكبها مارك مع أطفاله ببرود- لذا فهو يخشى من أن يسوقه غضبه من فيرا إلى قتلها، ومن ثم يخسر أطفاله، وتنهار الأسرة بالكامل- تولي إيفا الصغيرة/ حواء بما يحمله اسمها من دلالات رمزية إنشاء أسرة جديدة، أي عالم جديد- هذه الخشية هي التي تدفعه إلى الإلحاح في سؤال مارك عما يجب أن يقوم به، لكن إجابة مارك هنا لا بد لها أن تُذكرنا للوهلة الأولى بالسفسطائي اليوناني Protagoras بروتاجوراس الذي كان دائما ما يذهب إلى أن "الإنسان هو مقياس كل شيء"، أي أن ما يراه ألكسندر في مثل هذا الموقف يُعد صائبا مهما كان القرار الذي سيتخذه- سواء قام بقتلها أم مُسامحتها- فهو الوحيد الذي يعاني في هذا الموقف، وهو الوحيد الذي سيتحمل نتائج الفعل، ومن ثم فهو الوحيد أيضا الذي من حقه اتخاذ القرار الذي يشعر بأنه أكثر قربا إلى نفسه. لكن هذه الإجابة الباردة من مارك تحمل في مفهومها الأعمق- ومن جانب آخر- أنه يميل إلى قتل ألكسندر لفيرا، وهو ما يجعلنا نعود مرة أخرى إلى مفهوم الشيطان الذي ذهبنا إليه، من خلال الرائحة التي يشمها كير في المنزل الريفي، أي رائحة عمه/ الشيطان الذي يوسوس لأبيه.

يخبر مارك شقيقه بأنه قد كسب الكثير من المال في القمار أثناء انتظاره له في الليلة الماضية بعد مُهاتفتهما؛ ومن ثم يمنحه الكثير منه، مُخبرا إياه بأنه سيكون في حاجة إليه، ويمضي إلى المدينة بينما يعود ألكسندر وابنه كير إلى المنزل الريفي مرة أخرى، لكن بعد انصراف الجيران وأبنائهم، وذهاب الطفلين- كير وإيفا- إلى النوم يطلب ألكسندر من فيرا- الواقفة في المطبخ وحدها- الحديث معها؛ لترد عليه مُترددة: أخشى الحديث معك. يقول يهدوء: وأنا أيضا، لكن فكري بالأمر، نحن بحاجة للحديث. تقول: أعرف كيف حالك وحال أخيك، وما الذي سيتحول إليه كير.

هل كان هذا هو السبب الرئيس في إحجام مارك عن الذهاب إلى المنزل الريفي، وتفضيله للقاء ألكسندر عند محطة القطارات؟ بالتأكيد هذا سبب مُقنع، وهو ما دفع ألكسندر أيضا إلى الادعاء بأنه ذاهب للقاء روبرت، وليس مارك. ولعل هذا هو السبب الذي يجعل مارك يميل إلى قتل ألكسندر لفيرا، وإن لم يصرح له بذلك، لكنه دله على مكان المُسدس إذا ما رغب في قتلها. وربما- أيضا- كان هذا هو السبب في جفاف العلاقة بين الزوجين وانقطاعها؛ فخلافها مع الزوج، وعدم حبها لشقيق زوجها، واستيائها من "حاله هو وأخيه"، الذي هو بالتأكيد التورط فيما هو غير قانوني، وثقتها بأن هذا سيؤثر على ابنها فيما بعد ليكون مُجرما مثلهما، كل هذه الأمور قد أدت بالضرورة إلى الجفاف والقطيعة الواضحين بينهما في علاقتهما الزوجية.


لكن، ألكسندر لا يعنيه أي شيء من هذا، والشيء الوحيد الذي يعنيه هو كيفية تخلص فيرا من الجنين الذي ينمو في أحشائها- بما أنه لا يخصه- لذا حينما تحاول فيرا الحديث معه بشأن الجنين بقولها: هذا الطفل أليكس... يُقاطعها ألكسندر بصرامة قائلا: لا يهمني طفلك، أريد أن أعرف ما الذي ستفعليه بشأن هذا الطفل؟ ترد: لقد أصبحنا غرباء، أنت غريب، وكنت دائما كذلك، وستظل هكذا دائما. يسألها: عم تتحدثين؟ تقول: هل كنا غرباء دائما؟ هل سنظل دائما غريبين؟ يرد محاولا ضبط نفسه: فيرا، لا أريد الصراخ عليك، لا أريد أن أؤذيك، لا أريد إيلامك، أريد فقط أن أعرف ماذا تنوين أن تفعلي، فيرا، أنت في ورطة، هل تفهمي ذلك؟ تقول: لقد أصبحت مُتعبا، هل أنت حقا مُتعب جدا؟ وأنت ماذا ستفعل؟ ليرد عليها يائسا من الحديث الذي يراه بلا معنى: سأنام. ليتركها متوجها إلى غرفة نومهما.

هذا الحوار بين الزوجين يؤكد لنا على انعدام أي تواصل بينهما، لقد فقدا المقدرة على النقاش مع بعضهما البعض، ومن ثم رأينا كل منهما يتحدث في أمر لا علاقة له- ولا صلة- بما يتحدث فيه الآخر؛ فألكسندر يتحدث عن الجنين الذي لا يخصه، والذي يريدها أن تتخلص منه، بينما هي تتحدث في العلاقة بينهما، وشكل هذه العلاقة، والمشاعر التي تُحيط بها- حتى لكأن إحساسها بابتعاده عنها، ورؤيتها له كغريب عنها، كانا مُبررين لها لتحمل خارج إطار الزواج!


رغم هذا الحوار، وهذا الجفاف الضارب بين الزوجين، والنفور الشديد بسبب الجنين الدخيل عليهما، والذي لا يخص الزوج نرى فيرا في أحد المشاهد قد تيقظت من نومها بجوار ألكسندر، مُقتربة منه كثيرا، محاولة التشبث به وكأنها تريد الدخول في جسده لتحتمي به، بينما دموعها تملأ عينيها، مُتأملة لوجهه بعشق خفي، وقد امتدت يدها تمسد شعر جبينه، وهو ما يجعله يستيقظ من نومه، ليبتعد عنها نافرا، ويجلس على طرف الفراش مُعطيا ظهره لها، لتنهض فيرا بدورها وتجلس على الطرف الآخر من الفراش مُعطية ظهرها له.

إذا ما حاولنا تأمل المشهد السابق- مشهد جلوس كل من الزوجين على طرفا الفراش مُعطيا كل منهما ظهره للآخر- لتشكلت أمامنا لوحة تشكيلية شديدة الإتقان والجمالية، لا سيما أن زفياجنتسيف بارع إلى حد بعيد في استخدام الإضاءة، وتبايناتها، ومقدرتها على خلق الظلال المُناسبة، وهو ما يؤدي إلى خلق تكوين جمالي أشبه باللوحات التشكيلية، خاصة مع تخيّر المُخرج لأماكن المُمثلين ومُفردات الكادر داخل التكوين البصري، وهو ما رأيناه في هذا الفيلم بوفرة مُذهلة، حتى لكأن المُخرج قد نجح بالفعل في تحويل كل مشهد داخلي من مشاهد فيلمه إلى لوحة جمالية تشكيلية مرسومة بمهارة وإتقان، أي تحمل جماليتها المُستقلة داخلها، لكن مع تجاور هذه المشاهد/ اللوحات، وتداخل الجماليات فيما بينها؛ يضحى الفيلم أمامنا كفسيفساء من الجماليات المُتقنة التي برع زفياجنتسيف في ابتكارها وتقديمها في فيلمه كلوحة جمالية كلية واحدة.


يتصل كير بصديقته فريدا ابنة فيكتور- قامت بدورها المُمثلة الروسية Yaroslava Nikolaeva ياروسلافا نيكولاييفا- فيطلب فيكتور الحديث إلى ألكسندر مُخبرا إياه بأنه يستعد هو وزوجته للخروج إلى المدينة، وبناء عليه فهو يقترح عليه المرور  لأخذ كل من كير وإيفا لمنزله كي يقضيا الوقت مع بناته الثلاث، ويعيدهما في نهاية اليوم، أو في الغد ليترك لألكسندر وفيرا المساحة كي يختليا بنفسيهما كزوجين بعيدا عن الطفلين، وهو ما يلح عليه كير، الراغب في الذهاب للقاء فريدا، ومن ثم يوافق ألكسندر على الأمر.

لكن، أثناء توصيل ألكسندر للطفلين، عابرا بهما الجسر الخشبي، نشاهد فيرا تقوم بالاتصال الهاتفي بروبرت، لتسأله عن حاله، فضلا عن أنها تفضي إليه بأنها لا تعرف السبب في قيامها بالاتصال به، فيسألها عن حالها، وحال طفليها، طالبا منها الاعتناء بهما.

ربما كان في اتصال فيرا بروبرت ما يؤكد لنا كمُشاهدين على أنه هو صاحب الجنين الذي ينمو في أحشائها، لا سيما بعدما أخبر كير والده بأن روبرت كان يزور المنزل أثناء غيابه، بالإضافة إلى ذلك الاتصال الهاتفي الذي كان قد أتى في يوم سابق، ولم يرد الطرف الآخر، وحينما سأل ألكسندر مُشغلة الاتصال المُباشر عن المُتصل؛ أخبرته بأن الاتصال من المدينة، مُخبرة إياه برقم المُتصل، والذي كان رقم هاتف روبرت.


يعود ألكسندر إلى المنزل بعدما يُسلم الطفلين لفيكتور الذي مر لأخذهما، ويطلب من فيرا الخروج للحديث، فيخبرها بأنها لا بد لها من التخلص من الطفل، وفي المُقابل سيتجاوز عن الأمر، ويحاول أن يبدأ حياته معها من جديد، وهو ما يجعل فيرا ترد عليه بأن يسرع في فعل ما يرغب فيه، وبأنها لن تحمل أي شكل من أشكال الندم على ما سيحدث.

هذه الموافقة من فيرا تجعل ألكسندر يهاتف شقيقه، طالبا منه أن يأتي بطبيب لينهي الأمر هذه الليلة، وبالفعل يعثر مارك على طبيبين، ويخبر ألكسندر على الهاتف بأنه قد وجدهما، وسيأتي بهما إليه في خلال أربعين دقيقة على أكثر تقدير.

ربما كانت مشاهد انتظار كل من ألكسندر ومارك لانتهاء الطبيبين من عملية الإجهاض، والقطع المتوازي Cross Cutting الذي استخدمه المُخرج على طفليهما- كير وإيفا- أثناء لعبهما مع الفتيات في بيت فيكتور من الأهمية الفنية بمكان ما يجعلنا نتوقف أمامها لتأملها.


ففي الحين الذي تُجهض فيه أمهما- مُرغمة- رضوخا لرغبة ألكسندر، نرى زفياجنتسيف يقطع على الطفلين بينما يحاولان ترتيب أحجية لوحة البشارة للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي Leonardo da Vinci مع الفتيات، وإذا ما كانت لوحة دافنشي تصور الملاك جبرائيل وهو يظهر لمريم العذراء ليبشرها بقرب ولادة المسيح- الذي كان بلا أب- ومع المُونتاج المتوازي الذي يستخدمه المُخرج نستطيع أن نُدرك المُقابلة التي يرغب المُخرج في الإشارة إليها، وأثرها في الفيلم، كما لا يفوتنا أنه أثناء الانتقال المتوازي ما بين إجهاض فيرا، والأطفال في بيت فيكتور سنراهما حينما تأخذهما ليزا ليناما مع الفتيات في غرفتهن، بينما تطلب ليزا من إحدى فتياتها القراءة في الإنجيل قبل النوم. أي أن زفياجنتسيف هنا بارع إلى حد بعيد كمُخرج في الاستخدام الفني لإحالاته الدينية، وتوظيفها بما يخدم فيلمه من الناحية الفنية.

يخرج الطبيبان من غرفة فيرا؛ ليخبر أحدهما ألكسندر ومارك: لقد تركت لها أقراصا، واحد بعد الأكل، ولكن، لا تتجاوز ثلاث حبات يوميا، يمكنها تناول حبتين، فقط عند الضرورة القصوى، وهناك التعليمات أيضا، هذا كل شيء.

يشعر ألكسندر بالكثير من القلق على فيرا، وشيئا من تأنيب الضمير ليقول لمارك: لم تُصدر أي صوت رغم أنها لم تستطع تحمل الألم. يرد مارك بهدوء: بالتأكيد، لقد أُعطيت حبوبا، لا تقلق. فيسأله ألكسندر: ألا تعتقد بأني فعلت ما كان من المُفترض أن أفعله؟


إن سؤال ألكسندر لشقيقه هنا يرغب منه استمداد الاطمئنان، والرضى الذاتي عن النفس التي تؤنبه على لجوئه إلى إرغام فيرا على الإجهاض، وبما أنه يكن لها الكثير من مشاعر الحب والتعلق بها، وبما أنه يخشى عليها من أن يصيبها أي سوء بسبب هذا الإجهاض، وبما أن قلقه يزداد؛ فهو يرغب في الاطمئنان من أي شخص يؤكد له بأنه لم يكن مُخطئا فيما ذهب إليه، ونتيجة لأنه لا يوجد سوى مارك أمامه؛ فهو يحاول الاستعانة به من أجل مُساعدته في اكتساب هذه الطمأنينة.

لكن القلق المُتزايد من ألكسندر على زوجته يجعله يُكثر من التردد على غرفتها والبقاء معها، إلا أنه يستدعي مارك ذات مرة داخل الغرفة ليقول له: لا يعجبني مظهرها. يرد مارك ببرود: اهدأ. يقول ألكسندر قلقا: اذهب وانظر بنفسك. يقول مارك بعدما يقترب من فراشها: لا أعلم، أعتقد أنها بخير. يقول ألكسندر: ربما يجب علينا أن نوقظها. لكن مارك يقول: لا، دعها تنام. يرد ألكسندر بقلق أكبر: سأبقى هنا. ليقول مارك: سأكون في المطبخ.

المُخرج الروسي أندري زفياجينتسيف

إذن، فألكسندر يحمل الكثير من المشاعر تجاه زوجته، وهو ما يجعله شاعرا بالخوف الشديد عليها، غير قادر على مُغادرة الغرفة، أو تحويل بصره عنها، وهذه المشاعر هي التي جعلته يحجم عن التفكير، أو الميل باتجاه قتلها بسبب خيانتها له- رغم تشجيع مارك له على فعل ذلك- وهو ما يجعله أيضا يقوم بمُحادثتها بصوت هامس وكأنه يناجيها: فيرا، فيرا أنا آسف، لا تجعليني أشعر بالأسوأ، لقد ارتكبت خطأ، أعرف، ساعديني فيرا، ساعديني. أي أنه يأكله الهلع من موتها، أو دخولها في غيبوبة ما؛ لذا يسرع بالخروج إلى مارك مُخبرا إياه بأن فيرا بالتأكيد ليست بخير، وهو ما يجعل مارك يسارع بالاتصال بجيرمان- قام بدوره المُمثل السوفيتي الروسي Vitaliy Kishchenko فيتالي كيشينكو- أحد أطباء القرية الذي تربطه به علاقة صداقة، ويخبره بالأمر وبأنه يشك في أنها قد دخلت في غيبوبة، ليسرع جيرمان باللحاق بهما، لكنه سُرعان ما يخرج ليخبر مارك بأنها متوفية بالفعل؛ مما يجعل ألكسندر ينهار بسبب موتها، لكن جيرمان يرغب في إخبار مارك بأمر ما، فيرفض مارك الاستماع إليه، مُؤكدا له بأنه لا شيء مُهم بعدما حدث. هنا يطلب جيرمان الإسعاف، ليضع تقريره الطبي بأنها قد ماتت بسبب أزمة قلبية- بما أن الإجهاض يبدو ممنوعا قانونيا في ظل هذه الفترة الزمنية غير المُحددة التي صور من خلالها المُخرج فيلمه.

الممثل الروسي إيجور سيرجييف

لكن بمُجرد عودة الشقيقين من المُستشفى- حيث دخل ألكسندر إليها من أجل وداعها، واتفق مارك مع المُتكفل بالدفن على إجراءات الجنازة في اليوم التالي عند الظهر- يقع مارك أرضا مُصابا بنوبة قلبية؛ مما يجعل ألكسندر يسرع باستدعاء جيرمان مرة أخرى، الذي يؤكد لمارك بأنه لا يمكن له النهوض من الفراش لأي سبب من الأسباب؛ فحالته شديدة الخطورة، كما يخبره بأنه قد وجد إلى جوار جثة فيرا- حينما أتى لأول مرة- نتيجة اختبار حمل مكتوب على ظهره بخط يدها، كما أكد لمارك بأن فيرا لم تمت بسبب الإجهاض، بل ماتت بسبب تناولها لجميع الحبوب المُخدرة المكتوبة لها دفعة واحدة- وهي الحبوب التي حذر الطبيب الذي أجهضها من تجاوز جرعتها، أي أن المُخرج هنا لا يسوق أي شيء في فيلمه بشكل مجاني، بل هو يبني على كل ما يضعه في الفيلم، وهو ما يُدلل لنا على أهمية إحالاته الدينية العديدة- أي أن فيرا هنا انتحرت، ولم يتم قتلها بسبب إجهاضها.

لكن، مارك يطلب من جيرمان عدم إخبار ألكسندر بأي شيء عن هذا الأمر، ويصر في اليوم التالي على النهوض من الفراش لمُرافقة شقيقه في جنازة ودفن فيرا، لكنه يعود من الجنازة وقد فارقته الحياة بدوره، وهو ما سبق لجيرمان أن حذره منه نظرا لخطورة حالته الصحية بعد إصابته بأزمة قلبية. وبما أن مارك لم يستمع إليه، ولم يُدرك خطورة حالته فلقد نهض لدفن فيرا مما أدى إلى موته.

هنا يُسرع ألكسندر المكلوم في زوجته وشقيقه إلى الطابق العلوي، ليفتح الدرج الذي كان مارك قد أخبره بأنه يترك فيه مُسدسه، فيأخذ المُسدس، تاركا لجيرمان المال الذي سبق أن منحه له ألكسندر- حينما قابله في سيارته عند محطة القطارات مُخبرا إياه بأنه قد ربح هذا المال من المُقامرة طوال الليل أثناء انتظاره- فيطلب منه ألكسندر الاهتمام بجثة شقيقه، وسُرعان ما يستقل سيارة مارك متوجها بها إلى المدينة للانتقام من روبرت الذي كان السبب في كل ما حدث، وتدمير حياته، وأسرته بالكامل، بل وفقدانه لزوجته التي يعشقها كثيرا، لا سيما أنه ما زال يرى أن سبب موت فيرا هو دفعها إلى الإجهاض، بما أن مارك وجيرمان لم يخبراه بأنها قد انتحرت.

الممثل الروسي ديمتري أوليانوف

لكن، مع وصول ألكسندر إلى بيت روبرت لا يجده فيه؛ مما يضطره إلى انتظاره في السيارة أمام المنزل لحين عودته من الخارج، وسُرعان ما يقع في النوم. وحينما يصل روبرت يلاحظ وجود ألكسندر نائما في السيارة فيوقظه للدخول، وهو ما يجعل ألكسندر يمد يده إلى درج السيارة لالتقاط المُسدس، إلا أنه يجد في الدرج نتيجة تحليل الحمل الذي كتبت فيرا على ظهره، والذي نسيه مارك في السيارة قبل موته فيأخذه معه ويصعد مع روبرت.

يقطع المُخرج على ألكسندر وروبرت جالسين مُتقابلين على مائدة بجوار نافذة، بينما يوجد بينهما- على المائدة- المُسدس واختبار الحمل الخاص بفيرا. يقوم روبرت للوقوف خلف النافذة، فنستمع إلى صوت هاتف يعلو صوته مما يجعل روبرت يتجه إليه للرد عليه، هنا ينتقل المُخرج بنا Flash Back فلاش باك بمُجرد رد روبرت على الهاتف، حيث نراه في الماضي يرد على فيرا المُتصلة به بينما تكاد أنفاسها الضعيفة أن تفارقها بعدما لجأت إلى الانتحار، وأثناء لفظها لأنفاسها تُهاتف روبرت- ربما للاستنجاد به، أو لمُجرد إخباره باعتباره أقرب أصدقاء الزوج الذين تثق فيهم- فيرد عليها روبرت مُنزعجا: فيرا، لا تنامي، حاولي ألا تنامي، هل تسمعيني؟ سأكون هناك حالا، اتركي الباب مفتوحا، هل ما زلت هناك؟ هل تسمعينني؟ وهو ما يعني أن فيرا سبق لها محاولة الانتحار من قبل، وأن روبرت هو من أنقذها من الموت، حيث نراه يصل إلى بيتها، ليجدها في غيبوبة، لكنها يضع في فمها دواء ما يساعدها على التقيؤ، وبالفعل ينجح في استعادتها لوعيها، ويظل معها، مُعتنيا بها.

في اليوم التالي يتصل روبرت بفيرا للاطمئنان عليها، فتخبره بأنها قد أرسلت طفليها إلى السيرك مع صديقتها نينا لأنها لم تستطع الذهاب معهما، وتؤكد عليه بأنها ما زالت ليست بخير، فيذهب إليها، ويخرجان قليلا، لكنها تطلب منه البقاء معها لحين عودة الطفلين؛ فهي تخشى البقاء وحدها وهي في هذه الحالة، وتخرج ألبوم الصور الخاصة بها وبألكسندر لتتشارك مع روبرت مُشاهدته؛ مما يجعله يسألها: لِمَ أردتِ فعل شيء كهذا بالأمس؟ لتقول: أشعر بالفزع، لا أستطيع شرح أي شيء له. يسألها: لأليكس؟ تقول: أنا حامل. يرد: هل أنت حامل؟ أنا آسف، ولكن هذا ليس طفل أليكس؟ تقول: إنه طفله، وليس طفله. يسأل: ماذا تقصدي؟! ترد: إنه طفله، بالطبع هو كذلك، من غيره؟ لكنه ليس له، بطريقة ما، أطفالنا ليسوا لنا، إنهم في الواقع ليسوا لنا فقط، الطريقة التي لا نكون بها أبناء لوالدينا فقط، ولا أبناءهم فقط، هل تفهم؟ أبقى مُتيقظة طوال الليل، ولا أستطيع النوم، أستمع لصوت تنفسه، إنه يحبنا، مثل الكائنات، يا إلهي! لقد عشت هكذا لسنوات، لِمَ أشعر بالوحدة؟ لِمَ لمْ يعد يتحدث معي كما كان يفعل؟ أم ظننت أنه كان يتحدث معي؟ لن أستطيع شرح أي شيء له، عليّ أن أفعل شيئا، إذا ما استمر بمثل هذه الطريقة؛ فكل شيء سيموت، لا أريد أن أنجب الموت، يمكننا أن نعيش دون أن نموت، هناك مثل هذا الاحتمال. يسألها روبرت: أي احتمال فيرا؟ لترد: لا أعلم، لكن من المُؤكد أنه موجود، وهذا مُمكن فقط معا، واحد من أجل الآخر، وإلا، إنه أمر مُستحيل بمُفردك، لا جدوى من ذلك، إنها حلقة مُفرغة، كيف أشرح له ذلك، وأجعله يرى ويفهم ما يفعله؟

هنا تبكي فيرا بكاء مريرا في اللحظة التي يعود فيها الطفلان، ويدخل كير غرفة نومها ليجدها جالسة على طرف الفراش بجوار روبرت بينما تبكي، فيسألها عن سبب تواجده في البيت غاضبا.

الممثل الروسي كونستانتين لافرونينكو

إن هذا المشهد الذي لجأ إليه زفياجنتسيف من خلال الفلاش باك يجعلنا نُعيد تأمل الفيلم وإعادة بنائه مرة أخرى بناء على مُعطيات جديدة من شأنها أن تغير من مفهوم العديد من المشاهد التي سبق لنا أن رأيناها فيما قبل؛ فليس ثمة خيانة هنا سواء من فيرا/ الزوجة، أو من روبرت/ الصديق، ومن ثم نستطيع هنا إعادة تفسير مشهدين آخرين بمفهوم جديد/ فحينما اتصل روبرت بالبيت الريفي لألكسندر ولم يصله صوت أحد مما جعله يقطع الخط، كان السبب في الاتصال هنا هو الاطمئنان على الحالة النفسية لفيرا، وليس لأنه ثمة علاقة ما تربط بينهما، كما أن فيرا حينما اتصلت به من البيت الريفي كان لمُجرد محاولة اكتساب القوة، بما أنه الصديق الذي يؤازرها ويُدرك الحالة النفسية التي تمر بها.

إذن، فالطفل الذي كان ينمو في أحشاء فيرا هو طفل ألكسندر زوجها في جوهر الأمر، ولكن بما أنها ترى أن العلاقة بينها وبين ألكسندر قد باتت علاقة جافة؛ لأنه لم يعد يتحدث معها كثيرا كما كان يفعل سابقا- ربما بسبب انشغالات الحياة، أو حاجته للمال والعمل، وهو ما عرفناه مُنذ بداية الفيلم، أو لمُجرد الاعتياد بين الزوجين- فلقد جعل هذا الصمت الزوجي- الواقع بينهما- فيرا تظن بأن ألكسندر لم يعد يحبها، وأن العلاقة بينهما قد ماتت بالفعل، ومن ثم فهي ترى أن الطفل الذي ينمو في أحشائها ليس ابنه، لأنه ليس ابن الحب الذي ترغب فيه، ولا العلاقة التواصلية التي تتخيلها، أي أن فيرا تسببت في هذه الكارثة التي حدثت لمُجرد أنها لا تشعر بالراحة مع زوجها بسبب صمته، وظنها بخفوت، أو موت حبه لها! في حين أن ما شاهدناه على طول الفيلم كان يؤكد لنا على عشقه الحقيقي لها، وخوفه عليها، فليس كل ما نراه كما يبدو لنا بالضرورة، لكن يبدو أنه زوج غير قادر على التعبير عن مشاعره بالطريقة التي ترغبها المرأة- مثله في ذلك مثل الأغلبية العامة من الرجال- أي أن الفارق هنا هو طريقة التعبير عن المشاعر التي يتقنها كل منهما، ففي الحين الذي ترغب فيه الزوجة في التواصل الدائم مع الزوج، والتعبير الدائم عن المشاعر كدليل على الحب، لا يستطيع الزوج التعبير بهذه الطريقة التي ترغبها منه الزوجة، لكنه يحتفظ بعشقه لها داخله، وهو العشق الذي يبدو في التصرفات أكثر مما يظهر في الأقوال التي ترغبها منه زوجته.

إن الأزمة الحقيقية بين الزوجين هنا هي أزمة تواصل، سواء من قبل الزوج أو الزوجة؛ فهو لا يعرف كيفية التعبير عن مشاعره تجاهها بالطريقة التي ترغبها هي، بينما فيرا لا تستطيع شرح وجهة نظرها له بأنها تشعر بأن ثمة جفاف وموات كامل بينهما، وهو ما يجعلها تشعر بالوحدة، والكثير من الألم، والمزيد من العزلة، وهو ما جعلها تفكر تفكيرها الغريب في أن الطفل ليس بطفله- بما أنه ليس ابن الحب الذي ترغبه- ولعل هذا ما يفسر لنا الآن المشهد الذي ابتسمت فيه ابتسامة ساخرة حينما سألها ألكسندر عما إذا ما كانت تحب والد الجنين أم لا، ومن ثم كان ردها عليه بأنها لا تعرف كيف تشرح له. أي أن فيرا هنا مُنذ البداية- ورغم لومها على ألكسندر بأنه لا يعبر لها عن حبه بالطريقة التي ترغبها- غير قادرة على شرح ما ترغبه لزوجها؛ ومن ثم وقعت هذه الكارثة التي تسببت فيها، فهي حينما أخبرته بأن الجنين ليس ابنه، لم تستمر في حديثها لتشرح له سبب قولها هذا، بل التزمت الصمت، وهو ما جعل ألكسندر يسرع بالابتعاد عنها، وحينما سألها عما إذا كانت تحب والد الطفل، لم تشرح له، بل ردت بقولها: لا أعرف كيف أشرح ذلك. وحينما حاولت أن تشرح له ذات مرة بعدما بلغ به الغضب مبلغه في المشهد الذي قالت له فيه: هذا الطفل أليكس... قاطعها ألكسندر، مُخبرا إياها بأن طفلها لا يهمه، وحينما حاول النقاش معها في أمر الإجهاض، لم تحاول إفهامه بأن قولها له كان مُجرد قولٍ مجازي، بل بدأت في الحديث معه بأنهما قد باتا غريبين بدلا من طمأنته وإنهاء الأمر، أي أن فيرا هنا تتحمل قدرا ليس بالهيّن مما حدث، وربما كانت هي السبب الرئيس في حدوث كل هذه الأحداث المأساوية؛ لأنها غير قادرة على التعبير عن ذاتها في الوقت الذي تلوم فيه ألكسندر على عدم التعبير عن المشاعر! ولعلنا لا ننسى أنها قد عبرت عن الأمر بجلاء لروبرت في قولها: "إنه يحبنا، مثل الكائنات"، لكنها لم تعبر، ولم تقل نفس الجملة للزوج- رغم بساطة الأمر.

حينما ينتهي روبرت من إخبار ألكسندر بما حدث لفيرا في غيابه، ينهض ألكسندر لمُهاتفة فيكتور في الريف، مُخبرا إياه بأنه سيزوره هذا المساء من أجل التقاط طفليه من عنده، وبالفعل يتجه ألكسندر إلى القرية لالتقاط طفليه بينما ينتهي الفيلم على صورة مجموعة من النساء الريفيات اللائي يقمن بالغناء أثناء الحصاد.

الممثل الروسي مكسيم شيبايف

لكن، ربما كان من المُمكن لنا الذهاب إلى أن اللحظة التي سقط فيها ألكسندر في النوم أثناء انتظاره في سيارته أمام بيت روبرت للانتقام منه، ومن ثم إيقاظ روبرت له حينما عاد إنما تعني في جوهرها أن كل ما فات من أحداث الفيلم التي رأيناها كان مُجرد حلم طويل حلمه ألكسندر بينما كان ينتظر عودة صديقه من الخارج، وهو الصديق الذي يقف بجانبه ومن ثم وفر له عملا كما سبق لألكسندر أن أخبر شقيقه مارك في بداية الفيلم، وبناء على هذا التفسير فبداية الفيلم الحقيقية تبدأ بإيقاظ روبرت لألكسندر لأن ما فات كان مُجرد حلم، من المُفترض أنه سيحكيه له بمُجرد صعودهما.

كما يمكن تفسير الأمر على نحو آخر، وهو أن كل ما كان بعد إيقاظ روبرت لألكسندر من نومه هو مُجرد حلم، أي أن المشاهد الاستعادية Flash Back التي رأيناها لا علاقة لها بالواقع، بل هي الحلم الذي حلمه ألكسندر، أو هي ما تمناه حتى لا تصبح زوجته خائنة في نظره، ومن ثم يكون قد تخيل هذه المشاهد بالكامل باعتبارها واقعا، ومن ثم يحجم عن قتل روبرت، وتبريء زوجته التي تُمثل الإيمان بالنسبة له، تبعا لمعنى الاسم في اللغة الروسية.

لكن، سواء كانت مشاهد الفلاش باك حلما أم لا، وسواء كان ما قبل النوم حلما أم لا، وسواء تم تفسير الفيلم كما رأيناه تماما، أي أن ما بعد النوم هو ما حدث بالفعل وهو ما رواه روبرت لألكسندر، فالفيلم في كل الحالات يمتلك سحره، وأسلوبيته، وفنيته البارعة التي لا يمكن نفيها عنه، أو التغاضي عنها لأي سبب من الأسباب.

الممثل السوفيتي الروسي فينالي كوشينكو

إن الفيلم الروسي "النفي" للمُخرج أندري زفياجنتسيف من الأفلام التي تؤكد لنا على أن السينما الروسية تحمل من الفنية، والأسلوبية المُختلفة، والإحالات الدينية ما يجعلها مُتفردة على غيرها من السينمات من حول العالم- وهو انفراد تاريخي لا يمكن إنكاره- لكن هذه الفرادة تتوقف على مُخرجين جادين لديهم من الأسلوبية الفنية ما يجعلهم في صدارة صناعة السينما من حول العالم، لا سيما أن زفياجنتسيف يهتم اهتماما بينا بالتفاصيل الدقيقة في أفلامه، مُؤمنا إيمانا كاملا بأن هذه التفاصيل الدقيقة من شأنها أن تقدم لنا في النهاية لوحة فنية جمالية كبيرة مكونة من فسيفساء هذه التفاصيل، فضلا عن اهتمام المُخرج البيّن بدرجات الإضاءة المُتباينة ما بين السطوع، والخفوت، وشحوب الضوء، وصناعة الظلال التي تخلق لنا لوحة تشكيلية حقيقية مصنوعة بمهارة وتؤدة ودقة يُحسد عليها مما جعل كل مشهد من مشاهد الفيلم لوحة فنية مُنفردة بذاتها، حتى لكأننا أمام تسلسل طويل من اللوحات الفنية المتجاورة على طول مُدة الفيلم، وهو ما يؤكد لنا على أننا أمام مُخرج كبير، يهتم بالتفاصيل الدقيقة التي تصنع لنا في النهاية فيلما كبيرا له فرادته وخصوصيته حتى لو كانت قصة الفيلم مُجرد قصة عادية جدا لامرأة تنتابها الهواجس بأن زوجها لم يعد يحبها كما كان يفعل من قبل!

 


محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد مايو 2025م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق