الاثنين، 19 مايو 2025

سيدة الأعشاب: فنية بناء عالم

ربما كانت الإشكالية الحقيقية التي تواجه كتاب القصة القصيرة تكمن في إمكانية خلق عالم كامل، ومُتسق، ومُتكامل مع الفكرة التي تدور في ذهن السارد. عالم قادر سارده على إغلاقه بشكل فني كامل لا نقصان فيه، أي بشكل غير مُبتسر، ومن دون التهويم في الفراغ الذي قد ينتاب العديدين من كتاب القصة القصيرة.

تأتي صعوبة إنشاء هذا العالم الفني المُتكامل، عادة، من الشكل الفني للقصة القصيرة، وميزاتها الخاصة التي تميزها عن غيرها من أشكال السرد، لا سيما تقشفها اللغوي، أي عدم الانسيال في السرد اللغوي، وبرقيتها السريعة، أي بناء العالم في شكل ومضة خاطفة أشبه بفلاش الكاميرا الذي سُرعان ما يتلاشى بمُجرد وميضه، بالإضافة إلى سرعة إغلاقها، وهو الإغلاق الذي يتميز بفنية عالية؛ نظرا لأنه مع هذا الإغلاق لا بد أن يكتمل العالم القصصي بشكل لا نقصان فيه- قد يكون مُثيرا للدهشة في الغالب- أي عالم فيه كل أركانه المُكتملة، أو حياة كاملة لا ينقصها شيء رغم قصر المساحة السردية المُتاحة للكاتب هنا.

من هنا تأتي صعوبة كتابة فن القصة القصيرة، إنها في تعبير أكثر دقة تعني اكتمال الإيجاز، وإمكانية وصوله بشكل كامل إلى ذهن المُتلقي بحيث يظل هذا المُتلقي مُتأملا لهذه الدفقة الشعورية السريعة- نتيجة إشباعه- عالقة في ذهنه، قادرا على الشعور بجمالياتها الفنية والأسلوبية التي لا بد أن ينجح القاص في إيصالها إليه بسهولة ويسر.

هذه الأسلوبية المُميزة لكتابة فن القصة القصيرة- الإيجاز- كثيرا ما توقع السارد في الارتباك، أو عدم اكتمال العالم بشكل فني، أو صعوبة إغلاق العالم القصصي بشكل فيه من الإقناع الفني ما يجعله مُقنعا باكتماله؛ مما يؤدي بالسارد إلى الانصراف عنه وقد تركه في حالة من السيولة التي تُفقده تميزه الفني، ومقدرته على التأثير المُراد منه. إنها جرعة شعورية عالية، شديدة التكثيف، هادرة في إمكانياتها يتم بثها في مساحة شديدة القصر والضيق، وهو ما يجعلها في النهاية تكتسب صفة ومقومات الفن السردي الذي نعرفه، وهو فن القصة.

إذن، فالقصة القصيرة ليست من فنون السرد التي تمنح نفسها لصاحبها بسهولة، بل هي فن مُتمنع على الكثيرين من الساردين، لذا لم يتميز فيه بشكل حقيقي سوى قلة من الكتاب، وربما كان هذا هو السبب في ابتعاد الكثيرين عن مُمارسته، مُفضلين في ذلك فن الرواية الذي يمنحهم مساحة أكبر وشاسعة من القدرة التعبيرية، بل والثرثرة في أحيان أخرى، وربما إبداء رأي السارد في العالم الفني الذي يخوض فيه- بتدخله في العالم الفني كسارد- وهي من الميزات الفنية التي يمنحها فن الرواية لمن يمارسه، وإن لم يكن بشكل مُطلق، وإلا انهار الشكل الفني للرواية، وباتت مُجرد ثرثرة سردية مُترهلة لا طائل من ورائها.

إن قراءة المجموعة القصصية "سيدة الأعشاب" للقاص الأردني خليل قنديل قادرة على إطلاق العديد من الأفكار التأملية حول فن القصة القصيرة في ذهن قارئها، تأمل الأسلوبية، التساؤل عن السبب في ندرة تمكن الكتاب من هذا الفن؛ ومن ثم الهروب منه إلى عالم الرواية كبديل أكثر سلاسة، قادر على منحهم حرية الثرثرة التي تنتاب الكثير من الكتاب أثناء مُمارستهم للكتابة- ليس معنى ذلك أن فن الرواية هو الأسهل، أو الأقل قيمة، لكنه الأكثر ديمقراطية في منح الكاتب المزيد من الحرية المشروطة أثناء الكتابة.

هل من المُمكن هنا الذهاب إلى أن القصة القصيرة هي الفن الأكثر ديكتاتورية في تعامله مع السارد، رغم أن السارد هو خالق العمل الفني؟

إن طبيعة فن القصة- كفن سردي- تقوم في جوهرها على الإيجاز في التعبير عن العالم. ورغم هذا الإيجاز الذي لا بد من وضعه في الاعتبار فهي تتطلب في ذات الوقت مهارات خاصة، وأسلوبية بناء عالم كامل ومُقنع لمن يتلقاه- فليس معنى الإيجاز هنا هو الاستسهال في بناء العالم- إنها فن التخلي عن التفاصيل، والمُفردات الفائضة عن الحاجة؛ لذا فاللغة في القصة تكتسب حساسة خاصة تختلف عن حساسية لغة الرواية، حساسية تُكسب اللغة في القصة قواما كثيفا شديد التماسك لا يسمح لها بالاقتراب من الترهل، وبما أن الكاتب- في الغالب- يميل إلى المزيد من البوح، والوصف اللذين قد يفضيان بالضرورة إلى الثرثرة، فالقصة هنا تعمل على كبته، وربما تعنيفه للتوقف عن هذه الرغبة في الفضفضة، إنها تسيطر على رغباته السردية، تعمل على تقويمه والتأكيد له على فضيلة التقشف الوصفي واللغوي، أي أنها في جوهر الأمر فن يتميز بالديكتاتورية وعدم التساهل، لأن التساهل في كتابتها سيؤدي بها بالضرورة إلى حالة من الانسيال التي لا تتناسب معها كفن سردي، وبالتالي سيفشل الكاتب في تقديم قصة فنية بالمعنى المفهوم لها في شكلها الفني.

من خلال هذا المفهوم السابق تأتي أهمية تأمل المجموعة القصصية "سيدة الأعشاب" للقاص خليل قنديل، حيث المهارة السلسة في بناء عوالم فنية مُتكاملة، وذات خصوصية، قادرة على الانسياب إلى ذهن القارئ، جاعلة إياه مُتفاعلا معها، شاعرا بخروجه من عالم فني شديد التكامل بمُجرد انتهائه من أي قصة من قصصه، عالم- رغم قصره وكثافته- إلا أنه يحمل في طياته حيوات مُتعددة، وأحداث تكاد أن تكون لا مُتناهية، لحيويتها، مما يكسبها مقدرتها على التأثير الفني المنوط بها، والذي هو هدف السارد في المقام الأول.

في قصته "البيت"- على سبيل المثال- ثمة عالم عريض، وأزمنة مُتعددة، وحكايات لا تنتهي، وشخصيات كثيرة، وأحداث متواترة رغم أن القصة بالكامل لم تتعد ست صفحات فقط من مجموع صفحات المجموعة القصصية، مما يعني أن القاص هنا يمتلك رشاقة الانتقال بخفة من حدث لما يليه، ومن شخصية لأخرى، مما يجعله في نهاية الأمر قادر على خلق عالم فني مُتكامل في مساحة سردية شديدة الضيق، وهو دليل امتلاكه لأدوات السرد القصصي التي تتميز بالتقشف الشديد، والكثافة السردية، بل سنُلاحظ أن الكاتب لديه من الرشاقة السردية ما يجعله يبدأ قصته بشكل فيه الكثير من التشويق الذي لا بد منه لجذب القارئ حتى الكلمة الأخيرة من القصة: "حين مط الرجل عنقه من نافذة السيارة الفارهة وشاهد البيت، لكز السائق وقال بصوت فيه إيقاع خبرة إعطاء الأوامر: هنا، توقف هنا. الرجل فتح باب السيارة ومد ساقا ضفدعية وانتصب واقفا أمام البيت الذي يتوسط تلة صغيرة بتلك الصرامة البنائية التي تظل تميز المعابد. تقدم من البوابة المعدنية الصدئة للبيت. لم يدرِ أنه بوقفته المُباغتة هذه، وأمام بوابة هذا البيت بالذات، بأنه قد أربك حيا بكامل شوارعه وأزقته ونوافذ بيوته المُتقابلة، وحيطانه المُتلاصقة".

إن هذه البداية التي قرأناها في الاقتباس السابق تحمل في باطنها الكثير من التشويق، والأكثر من التساؤل الذي لا بد أنه سيسطر على ذهن القارئ، لفتح أفق التساؤلات والتخيلات في ذهنه، مما يجعله في حالة من الانتظار الدائمة لما سيأتي في السطر السردي التالي لمثل هذا الحدث المُثير للتساؤل، ولنتأمل عناصر الجزء السردي الذي افتتح به قصته: رجل يتوقف أمام بيت ما، وهذا البيت تحيطه الكثير من البيوت التي يسكنها الكثيرون ممن يهتمون به، فمُجرد توقف سيارة الرجل أمام البيت أدى إلى ارتباك الحي بكل من فيه، ولعله لا يفوتنا براعة الوصف والإيجاز في قول الكاتب: "قال بصوت فيه إيقاع خبرة إعطاء الأوامر"، فهذه الجملة وحدها كان من المُمكن للسارد كتابتها في مجموعة من السطور لبيان هيبة الرجل، وثرائه الفاحش، واعتياده على الأوامر، وتوجيهها لمن يعملون لديه، وربما تعاليه على الآخرين، لكن القاص هنا لجأ إلى بث كل هذه المعاني بشكل شديد التقشف والإيجاز من خلال جملة واحدة لم تتعد السبع مُفردات كانت قادرة على إيصال المعنى الذي يرغبه الكاتب ببراعة تُدلل على يقينه مما يفعله بعالمه القصصي، أي الابتعاد عن الثرثرة والسيولة.

هنا لا بد لنا- كقراء- من التحفز: ما الذي يجعل هذا الرجل يتوقف أمام هذا البيت بعينه، ولِمَ يكون التوقف أمام هذا البيت من دون سواه سببا في كل هذا القلق الذي انتاب أهل الحي، وما السر في هذا البيت، وغير ذلك من التساؤلات التي لا بد أن ينتظرها المُتلقي مع الاستمرار في قراءة السرد القصصي.

إن القاص هنا يبدأ عالمه القصصي بما يشبه الانفجار- تماهيا مع حالة الخلق الأولى التي بدأت بالانفجار الكوني الكبير- والذي من شأنه أن يجعل الجميع في حالة من الانتظار لما سيحدث فيما بعد، وهو انفجار فني في صالح العالم القصصي الذي يخوضه الكاتب بتؤدة وأناة وثقة مما ينسجه، لذا سنُلاحظ سلاسة تصعيده للحدث ببساطة في المقطع التالي مُباشرة على هذه الافتتاحية: "الرجل أخرج من جيب بنطاله خريطة ذات خطوط نحيلة ومُهترئة، وبدا بقامته القصيرة المربوعة، وبرأسه الذي بدا صغيرا، لا بل مُقترحا على قامته القصيرة، وكأنه من رجال الآثار، خصوصا عندما بدأ يعاين البيت مُقتربا مرة، ومُبتعدا أخرى، وربما هذا ما جعل أبا يحيى البقال المُزمن للحي، يضرب أخماسا في أسداس وهو يبسمل ويحوقل من هول القادم والمُخبأ".

إذن، فثمة عالم ثري وشيق هنا ينبني بفنية عالية، وهي فنية يتمكن منها القاص ويستمتع ببنائها بشكل فيه الكثير من الخبرة بالسرد القصصي، فهو في أقل من صفحة واحدة أنشأ لنا عالما فيه رجل ما ثري وغامض، دخل أحد الأحياء، وتوقف أمام إحدى البنايات التي لها مكانة خاصة ما لدى أبناء هذا الحي، بل وبدأ في تفحص البناية بشكل مُثير للريبة، مما جعل أبا يحيى البقال يشعر بالخوف والقلق مما هو آتٍ- لاحظ دخول شخصية أخرى داخل السرد في هذه المساحة السردية القصيرة.

لنتأمل كذلك قوله التالي مُباشرة على المقطع السابق: "نساء بدا عليهن إرهاق الضحى المُبكر، أطللن برؤوس منفوشة الشعر، وهن يرقبن هذا المخلوق الأشقر القصير الذي أخذ يعاين البيت من جهاته الأربع، بعينين زرقاوين بدتا وكأنهما قدتا من معدن. أطفال قذفتهم على نحو مُباغت كل الأزقة المُتفرعة من الشارع الرئيس، ليلتفوا حول الرجل. باعة متجولون وموزعو غاز، وسيارات سرفيس، وبائع المُجمدات، والحلاق، والكوي، وبائع الحلويات، وطلبة مدارس. جميعهم وقفوا يراقبون الرجل وهو يتحرك برشاقة تبدو وكأنها مُتعمدة حول البيت الكبير".

إن حيوية السرد هنا، وحركة الشخصيات فيه تبدو وكأنما حدث انفجار كوني مُنذ بداية القصة؛ أدى إلى تدفق عالم كامل من الشخصيات المُختلفة، عالم يمور بالحركة، والتساؤل، والانتظار، والخوف، والقلق؛ فثمة حدث هائل قد حدث يستدعي كل هذه الحيوية والتدفق السردي في بناء العالم بشكل شديد الإيجاز، مُكتمل الأركان كما نراه، ثمة كارثة ربما قد تحدث أدت إلى كل هذا الذهول الذي تسبح فيه الشخصيات القصصية في خلفية المشهد الذي أنشأه القاص، وهو ما من شأنه أن يمسك بتلابيب القارئ جاعلا إياه في حالة ذهول وترقب مُشابهة تماما للحالة التي نرى فيها شخصيات القصة، أي التماهي مع الشخصيات، والدخول إلى العالم كشخصية قصصية مُضافة إلى شخصيات الكاتب. ولعله لا يفوتنا براعته في بث المزيد من التوصيفات داخل السرد الذي يمور، وهي التوصيفات التي بدت لنا شديدة التلقائية، بعيدة تماما عن القصدية أثناء إضفائه المزيد من الصفات على الرجل في قوله: "يرقبن هذا المخلوق الأشقر القصير الذي أخذ يعاين البيت من جهاته الأربع، بعينين زرقاوين بدتا وكأنهما قدتا من معدن"، فالكاتب هنا يضيف المزيد من الوصف على شخصية الرجل رغم أنه يبدو- ظاهريا- لا يتحدث عنه بقدر ما يتحدث عن الشخصيات الجديدة التي يحاول إثراء العالم القصصي بها.

يبدأ القاص هنا في تحريك العالم بشكل مُتسارع، حيث نعرف من خلال ذهنية- تفكير أبي يحيى البقال- أن هذا البيت هو أول البيوت التي تم بناؤها في جبل "الجوفة" وأن صاحبه لم يبخل في استقدام أمهر البنائين من كل مكان من أجل بنائه، ولكنه بعدما انتهى من البناء سقطت ابنة الرجل من فوق الجدار المُطل على المُدرج الروماني؛ مما جعله يهجر البيت باعتبار ما حدث هو فأل شؤم. هنا، وبمرور الزمن، بدأت الأساطير والحكايات المُتناقلة تُنسج حول البيت المهجور المسكون بالأرواح الشريرة التي تصيح فيه طوال الليل، مما يجعل أبا يحيى البقال يغلق دكانه المواجه له بعد صلاة العشاء مُباشرة خوفا منها. وبما أن الأسطورة تنشأ نتيجة لتداولها على ألسنة الآخرين؛ فهناك من ادعى بأن البيت قد أُنشئ على أحد أضرحة أولياء الله الصالحين، وغيرهم يقول: إن عائلة من الجن تسكن البيت ولا تسمح لإنسان أن يعيش فيه، وهو ما يؤكده سُكنى أحد الفقراء المُستهترين وزوجته وأبنائه للبيت ذات مرة، لكنه لم يقم فيه إلا ليلة واحدة من هول ما رأى وسمع. حتى وسائل الإعلام أرسلت الكثيرين من مندوبيها إلى البيت لفهم ما يدور فيه.

إذن، فنحن هنا أمام عالم صاخب، غاص بالحياة والشخصيات في مساحة سردية شديدة الضيق، لكن القاص برع في بنائه بشكل مُتكامل يجعله شديد الحيوية.

سنعرف أن الرجل الثري الغريب سيبدأ في تجديد البيت المهجور، وسيصل إليه الكثير من العمال الذين سيعملون على جعله بيتا جديدا وكأنه تم الانتهاء من بنائه الآن، وبعد عشرة أيام سيصل الرجل بسيارات الأثاث للانتقال والسكنى في المنزل، ويتحول البيت إلى مزار لشخصيات كبيرة، وشبكة علاقات مع نساء جميلات، لكن ما يحدث بعد ذلك يُعد بمثابة المُفاجأة، أو حُسن إغلاق العالم القصصي الذي أنشأه القاص: "عام كامل قضاه الرجل في البيت، بعدها استيقظ سُكان الحي بأكمله على رائحة حريق، وزعيق سيارات دفاع مدني وإسعاف، وسمع أبو يحيى أحد رجال الشرطة وهو يصيح: تماس كهربائي أتى على البيت والرجل تفحم يا إخوان".

إن هذه الفقرة التي ساقها القاص قبيل نهاية إغلاق العالم من الأهمية بمكان ما يجعلنا نتوقف أمامها قليلا؛ فالحي بالكامل كان يخشى الاقتراب من هذا البيت نظرا للحكايات الأسطورية المتواترة التي يتم تناقلها عنه، وهي الحكايات التي يحاول الجميع التوسع فيها، وتنويعها، حتى أنه قد بات بيت الأساطير، وحينما استقر الرجل الغريب في البيت بعد تجديده شعر أهل الحي أنهم كانوا يبالغون في أساطيرهم، وأنهم هم من ابتكروا الحكايات عنه: "صار سُكان جبل القلعة يشعرون بنوع من الإثم الغامض وغير المُبرر بسبب الأوهام التي أسقطوها على هذا البيت، فالرجل الذي في البيت استطاع أن يحوله إلى مزار لشخصيات كبيرة، وشبكة علاقات مع نساء جميلات يمتلكن تلك القهقهة الجرسية التي تظل تضج بالعافية لحظة إطلاقها وسط مُوسيقى صاخبة". أي أن سُكنى الرجل للبيت وتجديده قد عمل على إنهاء الأسطورة، لكن الحريق الذي حدث فيه وأدى إلى تفحم صاحبه أعاد الأساطير مرة أخرى بشكل أكثر قوة، وهو ما سنُلحظه في الفقرة الختامية التي أغلق بها القاص لعالمه: "ليل طويل مر على قاطني جبل القلعة وهم يتوافدون تباعا على المكان، ويتنشقون تلك الرائحة الفحمية التي يتركها الحريق عادة في البيوت والأمكنة. وحده أبو يحيى من فكر بالذهاب إلى الحديقة الخلفية للبيت، وتسلق ذلك السور العالي المُطل على المُدرج الروماني وسقف السيل. لكن ما أرعبه تماما في ذلك الغبش الفجري، هو رؤيته فتاة ممشوقة بيضاء، تسير في العتمة الصباحية لسوق سقف السيل، وتلوّح له بإيشارب أبيض بينما وجهها يطفح بالبهجة"! أي أن القاص قد أغلق عالمه الحيوي والثري، والغاص بالحكايات، والشخصيات بالعودة مرة أخرى على تأكيد الأسطورة التي تم نسجها حول هذا المنزل الغامض الذي يموت فيه كل من يسكنه.

هل كان هذا الإغلاق الذكي من قبيل التأكيد على الأساطير من قبل كاتب القصة؟ إنه مُجرد وصف لعالم يدور من حوله، نراه في الكثير من الثقافات، وهو من خلال هذا الوصف نجح إلى حد بعيد في بناء عالم قصصي مُتكامل، واستطاع السيطرة عليه، وترويضه للوصول به إلى النهاية الفنية المُناسبة.

الإيغال في عالم الأسطورة الذي تسبح فيه المنطقة العربية، وغيرها من ثقافات العالم لمحاولة التغلب عما لا يستطيعون تفسيره، أو العجز عن فعله- وهي الأسطورة الشبيهة تماما بالإيمان بالغيبيات وغيرها من الأساطير الدينية- يعتمد عليه القاص هنا في بناء العديد من عوالمه القصصية، وهي أساطير يسخر منها أحيانا بشكل غير مُباشر، أي بالمُفارقة الحدثية مما يجعلها سُخرية لا قصدية فيها، ففي قصة "المزيونة" التي يبنيها على اختفاء طفلة جميلة من الحي، يحاول الكاتب إكساب العالم القصصي لحيويته وتدفقه أولا- من أجل التماهي معه، واللهاث مع الشخصيات من أجل البحث عن المزيونة- وهو يبرع في إكساب العالم القصصي لهذه الحيوية من خلال سرده اللاهث السلس الذي يتميز به: "بدا الفجر لحظة إطلالته على أزقة الحي وشوارعه النحيلة المُتعرجة وكأنه يد كبيرة وثقيلة جاءت من الغيب السماوي وحطت على البيوت، ولم يستطع الهواء المُبلل بندى آب أن يفك الكرب الذي قبض على قلوب سُكان هذا الحي مُنذ أن صاحت أم المزيونة قبل يومين وإطلالة فجر، مُعلنة أن ابنتها المزيونة قد اختفت وضاعت ولم تعد إلى البيت".

إذن، فالكاتب هنا يبدأ قصته بانفجاره الذي يُهيئ الشخصيات للتفاعل مع ضخامة الحدث، وهو ما يجعل السرد يستمر في الحركة التي يرغبها: "يومها تراكض الرجال والنساء والأطفال نحو المراة التي كانت تتوسد الأرض وهي تعفر وجهها بالتراب وتلطم خديها، مُستغيثة بالله وبالنبي وبالصحابة وأولياء الله الصالحين أن يعيدوا لها المزيونة. وبدا الذهول واضحا على ملامح الرجال وهو يأخذ شكل التحسر والفقدان، وهم يستذكرون الطفلة التي كان اسمها "زين" وصار اسمها "المزيونة" لأن هذا الاسم أقرب إلى إطلالتها البهية، وإلى ذلك الإشعاع النوراني الذي يطل من ملامحها. ذلك الإشعاع الذي يجعل كل من يراها يلهج بالصلاة على النبي درءا للحسد. حتى نساء الحي كن يذهبن في التحديق مليا بالمزيونة، وخصوصا الحوامل منهن على أمل تشكيل توحمهن على الوليد القادم، ليكون على هيئة المزيونة. أما العجائز فينظرن إليها على أمل أن تأتي زوجة الابن القادمة، أو الحفيد بصورة المزيونة".

سنُلاحظ هنا أن الكاتب يعمل جاهدا على حشد كل الشخصيات، والمُفردات القصصية من أجل بناء عالمه المُحتشد بالكامل من أجل العثور على المزيونة التي سنتعاطف معها مثلهم، راغبين في العثور عليها معهم. كما أنه ينجح من خلال سرده على حشد العالم القصصي بالعديد من الشخصيات والأحداث في مساحة سردية قصيرة يتميز بها فن القصة القصيرة، أي أنه ناجح في بناء عالمه بشكل مُتكامل.

سيحاول الجميع البحث عن الفتاة إلى أن يستقر رأيهم على أن يأتي الشيخ المغربي ليبحث عن المزيونة بفتح المندل. فيصف لنا القاص الاستعدادت من الجميع لتهيئة المكان للشيخ المغربي الذي يؤمنون بمقدرته على العثور على الفتاة، ويختار الشيخ المغربي الصبي هاشم- أقرب الأطفال للمزيونة- كي يستخدمه كوسيط في العثور على الفتاة. هنا يصف لنا الكاتب سيطرة الأساطير الغيبية بشكل كامل وإيماني على الجميع: "لحظات وحط صمت رهيب على المكان، وخصوصا عندما دلق الشيخ الماء في الطاسة النحاسية، واتبعها بدفقة من زيت الزيتون، بعدها أخرج الشيخ قلم "الكوبياء" وبلله بالماء المُختلط بالزيت، وأخذ يكتب بكلمات مُطلسمة على يد الصبي، ومن ثم وضع ورقة بيضاء وألصقها على جبهة الصبي. وحين أخرج الشيخ سليمان المغربي من حقيبته القماشية مجموعة من الأعشاب اليابسة المسحونة، وأشعل فيها نارا خفيفة، فاحت في الغرفة رائحة اقشعرت لها أبدان الجالسين جميعا. وضع الشيخ المغربي يده ذات الأصابع الطويلة والنحيلة على رأس الصبي هاشم، وبدأ بالاستغاثة والنداء على أسماء الجان كي يسعفوا الصبي هاشم في إيجاد المزيونة".

ألا نُلاحظ هنا سيطرة الأسطورة على الجميع في هذا المُجتمع الذي يصفه القاص؟ إنها الأسطورة التي ساعدته على بناء العالم القصصي بشكل فيه الكثير من الحيوية، وهي الأسطورة التي يكتسبها هؤلاء الأفراد في حقيقة الأمر من أسطورتهم الدينية الأكبر التي يؤمنون بها، والتي تؤكد لهم على عالم الجان والعفاريت والغيبيات التي تعمل على المزيد من تغييبهم باسم الدين، والانسياق من خلف الأساطير.

يستمر القاص في وصفه لما يحدث من تحولات وتغيرات على الفتى هاشم إلى أن ينطق باسم المزيونة، فنقرأ: "ارتعدت فرائص الرجال، وشهق بعضهم، وبدت الغرفة وكأنها مقبوضة بيد الجان، وهم يراقبون ارتعاشة جسد هاشم، وتعرقه، وتلعثم نطقه"، لكن في هذه اللحظة التي كادت أن تتأكد فيها الأسطورة الغيبية لدى الجميع، فتصبح دينا وتسيطر عليهم تتغير الأحداث بشكل أشبه بالسُخرية غير المقصودة والمُفارقة القصصية: "لكن ما باغت الجميع هي تلك الزغرودة التي أطلقتها والدة المزيونة في حوش الدار وهي تصيح: المزيونة، المزيونة، الشرطة أحضرت المزيونة".

هنا تنتهي الأسطورة التي كادت أن تسيطر على العالم القصصي، ومن ثم لجأ الكاتب إلى إغلاق عالمه القصصي بمُفارقة ساخرة: "نهض والد المزيونة وأعمامها وأخوالها وباقي رجال الحي، وتراكضوا باتجاه حوش البيت وهم يشاهدون المزيونة وهي تذوب عناقا في حضن والدتها وإخوتها. الشيخ سليمان المغربي الذي أخذته الدهشة هب واقفا، وانسل بخفة سحرية من وسط الجميع. أما الصبي هاشم فقد ظل يرتعش في مكانه محاولا النهوض، إلا أن بقعة هائلة من الزيت المُختلط بالماء لها طعم النحاس ظلت تشده إليها حد الاختناق".

هل نستطيع القول هنا بأن القاص يمتلك أسلوبية حُسن التخلص كما كنا نطلق عليها في الشعر قديما؟ بالتأكيد هو قادر على ذلك، وهو ما نُلاحظه في جميع قصص المجموعة، أي أنه لديه من المهارة ما يجعله بارعا في إنهاء عالمه القصصي الذي يمور دائما بالعديد من الشخصيات والأحداث.

إن انغماس القاص في المُجتمع المُحيط به وما يؤمن به من أساطير، أو حكايات شعبية ساعده على بناء عوالمه القصصية بالاعتماد على هذه الاعتقادات، بمعنى أنه لم يلجأ إلى الخيال المحض، أو الذهنية فقط من أجل بناء عوالمه، بل تأمل ما يدور من حوله، ومن ثم أعمل خياله من أجل تضفير هذا الواقع المُحيط بالخيال، وهو جوهر الإبداع وبناء العالم الإبداعي، ففي قصته "تلك المرأة" نُلاحظ تأمل القاص في المُجتمع الذكوري وإفراطه في العنف الموجه باتجاه المرأة، هذا العنف الذي دفع المرأة باتجاه الأسطورة من أجل محاولة التخلص والتحايل على هذا العنف المُفرط الذي يجعل الرجال الأشداء، الغليظين تجاهها يشعرون بالخوف ومحاولة تجنبها في نهاية الأمر!

القاص الأردني خليل قنديل

يتحدث القاص في هذه القصة عن امرأة ثلاثينية مُطلقة تعيش في بيت أسرتها المكونة من ثلاثة أشقاء ذكور، وأم كفيفة، ولأن المرأة في عرف مُجتمعاتنا العربية محض عار يمشي على الأرض، لا سيما إذا ما كانت مُطلقة؛ فهم يحاولون إرغامها على الزواج من أحد الرجال المتزوج من امرأتين، ولديه كم هائل من الأبناء الذين يحشرهم في غرفتين مُتلاصقتين خلف دكانه. وحينما ترفض المرأة الثلاثينية رغبة إخوتها الذكور في إرغامها على الزواج من أبي عدنان؛ ينهالون عليها بالضرب من أجل الرضوخ لما يرغبونه، وبما ان الأم هنا كفيفة، غير قادرة على فعل أي شيء، فهي تكتفي بالبكاء الصامت فقط.

سنُلاحظ في هذه القصة أن القاص يقتحم عالمه القصصي الذي يرغب في بنائه من قلبه مباشرة من دون أي مُقدمات أو استهلالات، حتى أن المقطع السردي الذي بدأ به بدا لنا وكأنه ما بعد البداية بعدة خطوات، أي استباق الحدث: "حين تسربت أشعة الشمس الصباحية من الشق المُستطيل للستارة البالية ذات اللون الخمري الكامد، ولسعت ملامح المرأة الثلاثينية، حركت المرأة رمشيها بصبيانية، وفتحت عينيها وهي تحاول أن تتحاشى تذكر الضرب المُبرح الذي تلقاه جسدها من قبل الأشقاء الثلاثة ليلة البارحة، الذين حشروها في زاوية هذه الغرفة وهم يتناوبون على ضربها".

ألا نُلاحظ هنا أن هذا المشهد الافتتاحي هو بمثابة مشهد لاحق لأحداث سابقة حدثت من قبل، لم نعرفها بعد، لكن الكاتب لم يرغب في التقديم لعالمه بشكل كلاسيكي سيميتري بقدر ما رغب في اقتحامه من قلبه؛ مما جعله يأتي بهذا المشهد في المُقدمة رغم أنه تالٍ على الحدث الرئيس؟

إنها البراعة في بناء العالم القصصي الذي يجعل القارئ متورطا فيه للوهلة الأولى، غير قادر على الخروج منه إلا بوضع الكاتب سطره السردي الأخير كما يراه مُناسبا لهذا العالم.

يصور لنا القاص عالما شديد الذكورية والغلظة، عالما من المُمكن له أن يقدم على قتل إناثه لمُجرد الانصياع لرغباته حتى ولو كانت خاطئة، فهي بمُجرد ما اعترضت عليهم قائلة: "على قطع رقبتي، لن أتزوج "أبو عدنان". حتى رأينا رد الفعل القاسي والمُبالغ فيه: "وهنا نهض شقيقها الأوسط ورفع قدمه اليمنى على شكل زاوية قائمة ودفعها بكل ما أوتي من قوة في بطنها. فوقعت وشهقت بصرخة استغاثة، ونهضت جالسة على أرضية الغرفة بينما أخذ جسدها يلوب وهي تشبك أصابعها على مكان الضربة. تبع ذلك وقوف شقيقها الأصغر الذي وضع قدميه بموازاة رأسها وهو يقول: مُنذ طلاقك من عثمان وأنت تتحركين في البيت كعورة تُهددنا كل يوم بالفضيحة. الأشقاء الثلاثة أنهضوها وأوقفوها وسط الغرفة وبدأوا بضربها، بينما بدأت أمها الأرملة العجوز العمياء الجالسة بأبدية موجعة في حوش الدار تحت دالية العنب، تصيح وتولول بصوتها الهرم المجرّح، داعية على أبنائها بالشلل والعماء".

إنه العنف الذكوري المُفرط الموجه في الغالب باتجاه النساء- الحلقة الأكثر ضعفا بنيويا- وهو ما يجعلها راغبة في الانتقام من هؤلاء الذكور الشديدي الفظاظة، ولكن لأنها لا تستطيع الانتقام منهم بشكل مادي، تقوم بفعل الانتقام في شكله المعنوي، أي بفعل ما يخشونه دائما باعتبارها عورة؛ لذا فهي دائما ما تفتح نافذة بيتها المُطلة على غرفة الشاب الجامعي، مُستغلة خصوصية هذه الجهة من المنزل، والتي لن يراها من خلالها سوى الشاب، كما تستغل عدم رؤية الأم في التعري أمام الشاب كي يرى العورة التي يخشى أشقاؤها من فضيحتها: "فكرت: سينهض بعد قليل، وسيحاول أن يتغابى في مُشاهدتها كعادته، وستحاول هي الأخرى أن تتجاهله تماما، وهي تخلع جلبابها كي تريه عريها الثلاثيني، وتتمايل وترقص واضحة مرئية أمام عماء الأم، وعماء البيت المكشوف من جهة واحدة هي جهة نافذة غرفة الشاب الجامعي. وهنا أحست بأن هذا العماء يمنح جسدها لذة التملك. كانت تشعر أنها بفعلتها اليومية المُبكرة هذه كأنها تنتقم لجسدها المُنهك بمُشاهدته كعورة قابلة للضرب".

إذن، فضعف البنيان الجسدي للمرأة الثلاثينية أمام قوة وعنف إخوتها الذكور جعلها تلجأ إلى الحيلة من أجل الانتقام منهم جميعا، وبما أن جسدها هو السبب الرئيس في كل هذا العنف الذي تلاقيه على أيديهم، فهي تقدم جسدها ومفاتنه لأول رجل يبدو أمامها من أجل الإيغال في الخزي الذي من المُفترض أن يشعر به إخوتها الذكور.

تقول المرأة الثلاثينية لأمها العمياء بغضب: "قولي لأولادك الخنازير بأني، وعلى قطع رقبتي، لن أتزوج من "أبو عدنان". أجفلت العجوز الهرمة ومدت يدا مُتغضنة عمياء وهي تخبط على صدرها قائلة: لقد خفت عليك أمس من أن يتلبسك الجان لشدة ما ضربوك". إن أسطورة الجان الذي من المُمكن له أن يتلبس جسد النساء في الأساطير العربية، وإفضاء أمها بتخوفها من الأسطورة التي تؤمن بها أدى إلى أن فكرت المرأة الثلاثينية في استغلال الأسطورة من أجل التغلب على إخوتها، أي هزيمتهم بالحيلة التي هي الأسطورة التي يؤمن بها المُجتمع بالكامل، لا تمييز في ذلك بين رجل أو امرأة: "امسكت المرأة الثلاثينية بنهديها، أحست بهما يترجرجان بين يديها، وعصرتهما بشدة، ومن ثم اتجهت إلى المبطخ، اقتعدت الأرض، وباعدت ما بين ساقيها، أحست بنسمة خفيفة تعبر بين ساقيها. كانت تفعل هذا وكأنها تود لو أن الجان يعبرها من هنا، من منطقة الفرج. يدخلها ويحتل هذا الجسد الذي تكاد مساماته أن تختنق، وحين لامست بيديها الملابس المُتسخة الموضوعة في غسالة الثياب، أخذت دقات قلبها تخفق بتسارع عجيب. قبضت بأصابع قاسية على الثياب وأخرجت الملابس. وهالها مشهد السراويل الداخلية الخاصة بأشقائها. أحست بأنها على وشك أن تستفرغ وهي ترقب تلك الحيوانات المنوية المبقعة على سراويلهم بلونها القيحي الجاف. ذكرها هذا بقهقهاتهم وتعليقاتهم الوقحة التي كانوا يطلقونها وهم يشاهدون المحطات الإباحية داخل غرفهم الكبيرة".

إن القاص هنا رغم أنه يحاول وصف تفكيرها في أن يتلبسها الجان، أو استغلال فكرة وأسطورة الجان لصالحها، إلا أنه لا يغفل عن انتقاد المُجتمع الذكوري بشكل شديد التلقائية بوصفه للسراويل الداخلية لأشقائها الذكور الذين يغرقون في مُشاهدة محطات البورنو في ذات الوقت الذي يرون فيه أختهم مُجرد عورة لا بد من التخلص منها، ولعل هذا التفكير ليس مرده الأساس إلى العادات الاجتماعية فقط، بل إن مُشاهدتهم الدائمة لمحطات البورنو كان لها أكبر الأثر على تفكيرهم، وبالتالي فالأنثى لديهم- أي أنثى- مُجرد أداة لمُمارسة الجنس، وإذا ما مارست أختهم الجنس، أو نظر إليها أحدهم من دون زواج فهي عورة لا بد من التخلص منها، وإلا أصابتهم الفضائح والخزي.

هنا تبدأ المرأة الثلاثينية في استغلال الأسطورة للتغلب عليهم: "ظلت المرأة الثلاثينية طوال اليوم تتحرك بذعر في البيت كأنثى تلبسها الجان بالفعل، وفي آخر النهار، وحينما أطل الأشقاء الثلاثة من بوابة البيت. جاحت أمهم بصوت مجرّح: أختكم ركبها الجان يا أولاد الملعونة. كان مشهد المرأة بشعرها المنفوش، وبتلك الالتماعة المُنطلقة من عينيها وهي تقدح شررا، ووقوفها بقامتها المُنتصبة بعنفوان وسط الحوش قد جعل الأشقاء يحدقون بشقيقتهم بنظرة لا تخلو من الريبة، والخوف من التصديق. وحينما حاول شقيقها الأوسط التقدم منها، متوعدا بضربها لم تدر المرأة الثلاثينية كيف ارتعد جسدها وتحطب وهي تسمع صوتا ذكوريا ينطلق من حنجرتها قائلا: أحذركم من الاقتراب من زوجتي بعد هذا اليوم. ثم تابع الصوت ذاته متوعدا: أحذركم من الاقتراب منها. تجمد الأشقاء الثلاثة في مكانهم. واحتالوا على حادثة رعبهم من الصوت الذكوري الذي انبعث من حنجرة شقيقتهم بالصمت، والخلود المُبكر إلى النوم".

إذن، فلقد نجحت المرأة الثلاثينية في التحايل على الأشقاء الذكور الشديدي العنف معها، والتخلص من ضربهم لها، وإرغامها على الزواج من "أبو عدنان"، لكنها لم تكتف بذلك، بل حاولت الإمعان في القسوة عليهم بدورها مثلما فعلوا معها وكأنها تمثل بهم، ولكن بشكل معنوي، أي بانتهاك هذا الجسد/ العورة الذي يشغل تفكيرهم حتى أنهم اختصروها فيه: "وعندما انتصف الليل استردت المرأة الثلاثينية أنوثتها بالكامل وهي تنسل من البيت، وتصعد درجا عتيقا يؤدي إلى غرفة الطالب الجامعي، لتنقر باب غرفته، وتراه أمامها، وتتلمسه، لتمنحه جسدها كأنثى نادرة الحدوث".

إن إغلاق القاص لقصته بهذا المقطع السابق يُدلل على مقدرته البارعة في بناء عالمه القصصي، وهو العالم الكامل المُتكامل غير المُبتسر الذي نجح القاص في خلقه ليُشعر القارئ بأن ثمة عالم عريض مر من أمام عينيه رغم أن القصة لم يتعد عدد صفحاتها ست صفحات فقط، لكنها المقدرة الإبداعية على إحكام العالم القصصي بمهارة.

العالم الذكوري العنيف، والفحولة التي لا تنتهي هما ما يلاحظهما القاص كعناصر شديدة السيطرة على المُجتمع من حوله، وبالتالي يحاول البناء عليهما من أجل المزيد من العوالم الإبداعية المُحكمة الصُنع، ففي قصة "المنديل" ربما نُلاحظ من العنوان هذا الموروث العتيق في المُجتمعات العربية الذي يعتمد على ضرورة وجود منديل مع الفتاة في ليلة عرسها من أجل غمسه في دم بكارتها لحظة ولوج الرجل في فرجها، فهذا الدم هو الدليل الوحيد على نقائها، وطهارتها، وشرفها، وعدم تدنيس اسم عائلتها في الوحل؛ ومن ثم يتباهون به، ويرفعوا رؤوسهم تيها على الجميع بشرف ابنتهم!

رغم أن الكثيرين من الكتاب تناولوا هذه الفكرة العتيقة إبداعيا بشكل أو بآخر مُعبرين عنها كل بطريقته، إلا أن القاص خليل قنديل تناول نفس الفكرة هنا بشكل مُبدع ومُحكم، بل وقدم في نهاية قصته المُعادل الموضوعي لهذه الفكرة الذكورية البالغة الفظاظة كما رأيناها في القصة.

ربما تبدو براعة الكاتب- الغالبة في عالمه القصصي- في هذه القصة مُنذ السطر السردي الأول حينما يكتب: "كان غسقا تموزيا مُدمى بحمرة غريبة عند الأفق الذي خلفه غياب الشمس، قد حط على ضجة العرس التي امتلأ بها حوش دار "أبو عدوان". ضجة صنعتها أصوات النساء اللاتي أخذن يتبارزن بإطلاق الزغاريد، وامتزاج ذلك بأصوات طفولية نزقة، همهمات تنم عن فحولة طاغية كان يطلقها الرجال مع زفيرهم، ينفثونها بهمهمات زاجرة ونابية للأطفال والنساء في آن واحد".

دعنا نتأمل المقطع الذي بدأ به القاص قصته، إنه، ومُنذ الجملة الأولى، يحاول أن يكون ثمة ارتباط شكلانيا، وأسلوبيا ما بين الشكل/ اللغة، والموضوع/ القصة، وإذا ما كان يتناول في قصته فكرة البكارة المُرتبطة بالدم الأرجواني، أو الأحمر اللون، فهو مُنذ جملته السردية الأولى يعمل على هذا الارتباط بشكل شديد التلقائية: "كان غسقا تموزيا مُدمى بحمرة غريبة عند الأفق الذي خلفه غياب الشمس"، أي أن ثمة ارتباط وتشابه بيّن وواضح ما بين الموضوع ولون الغسق التموزي الذي حط على العرس، وهو ما يُدلل على امتلاك القاص لأسلوبيته، وإحكامه في البناء القصصي، كما لا يفوتنا في هذا الموقف الذي يعتمد على دم البكارة كدليل على الشرف حشد القاص لعالمه القصصي مُنذ اللحظة الأولى بمعاني الذكورية المُفرطة، وهي الذكورية التي رغم ذكره لها بتلقائية وطبيعية، إلا أنها كانت في جوهرها مُجرد ذكورية شكلانية؛ فمحاولة تعرض الكاتب لها رغم تلقائيتها الشكلانية إلا أنها تحمل في باطنها الكثير من السُخرية من مفهومها؛ فهي ليست ذكورية جوهرية بقدر شكلانيتها التي تعتمد على الغلظة، والعنف، والخشونة التي يستتر تحتها ضعف حقيقي يعتمد في قوته على مُجرد غشاء للبكارة: "همهمات تنم عن فحولة طاغية كان يطلقها الرجال مع زفيرهم، ينفثونها بهمهمات زاجرة ونابية للأطفال والنساء في آن واحد"، أي أن فحولتهم الطاغية كما يرونها هم لا يمكن لها أن تكون إلا من خلال الغلظة، والهمهمات النابية التي يوجهونها للنساء والأطفال معا- أي قطبي المُجتمع الأكثر ضعفا بنيويا، مما يعني أنها فحولة زائفة!

ينغمس القاص في وصف ذكورية المُجتمع بالكامل- فالذكورية هنا لا تقتصر على الرجال فقط، بقدر ما تنطبق أيضا على النساء اللاتي يتبنين المفاهيم الذكورية ويرتضينها في حياتهن كأمر مُسلم به: "في اللحظة التي دخلت فيها العروس بوابة الدار انتفض أبو عدوان مُشهرا مُسدسه وهو يصوبه نحو السماء وأطلق ثلاث رصاصات مُتتالية، جعلت أم عدوان تُطلق مهاهتها، وزغردتها، وتبع ذلك زغردة جماعية لشقيقات عدوان الخمس، أطلقنها بصوت واحد فيه بحة الحسرة حد البكاء على الشقيق الوحيد الذي سيتحول هذه الليلة إلى زوج. أحس أبو عدوان بقشعريرة تدب في بدنه، وتنتشر في مساماته وهو يفكر بولده الوحيد "عدوان"، هذا الذي ظل ومُنذ أن ولدته أمه، يحاول أن يبعده عن شقيقاته البنات، ويفح في عروقه الرجولة، والطباع الخشنة للرجال"!

لنتأمل: شقيقات عدوان الخمس يشعرن بالكثير من الحسرة على ذكرهم الوحيد الذي سيصبح هذه الليلة زوجا، ويتركهن إلى غير رجعة- مفهوم ذكوري بحت، فالذكر لديهن أفضل بكثير من النساء وهو عمود البيت- وأبو عدوان يحاول مُنذ طفوله ابنه إبعاده عن شقيقاته باعتبار أن اقترابه من الفتيات سوف يكسبه شيئا من صفاتهن، ولطفهن، وفي المُقابل كان الأب حريصا على "فح الرجولة في عروقه"، وهو يرى أن هذه الرجولة لا يمكن لها التحقق إلى بالطباع الخشنة التي تميز الرجال، أي أن المفهوم الذكوري هنا- لدى الرجل والمرأة- يرى أن الرجل اللطيف هو رجل في جوهره مُنتقص الرجولة، ولو لم يكن الرجل خشن الطباع فهو أقرب إلى الأنوثة منه إلى الرجولة!

إنه المفهوم المغلوط عن الذكورة في الكثير من المُجتمعات من حول العالم، لا سيما المُجتمعات العربية، وهو المفهوم الذي يصنع الكثير من الفجوات التي لا يمكن رأبها في الحياة الجنسية والاجتماعية والعاطفية بين الجنسين، لنفور المرأة من الغلظة الذكورية التي نشأ الرجال عليها.

ينتقل القاص إلى وصف مشاعر العروس المُرتجفة التي حرصت أمها على إعطائها منديل أبيض اللون مُطرز الحواف من أجل هذه الليلة الموعودة، والتي ستثبت من خلاله عائلتها شرف ابنتهم، وعلو هامتهم بعد تلطيخه بدم عذريتها المُنتظر.

ينخرط القاص بسلاسة في وصف العادات الاجتماعية التي تدور في العرس، وما ينتاب العروس من أفكار، كذلك أفكار عدوان، وأبي عدوان، إلى أن يجذب الأب لابنه العريس من يده، حاثا إياه على الدخول بعروسه في إحدى الغرف بينما الجميع ينتظرونه من خلف الباب لحين خروج المنديل الأبيض المُلطخ بالدم، والذي يُدلل على رجولة "عدوان" قبل التدليل على شرف الفتاة!

يصف الكاتب الأسلوب الفج الذي يتعامل به عدوان مع عروسه في ليلتهما الأولى بينما الجميع في انتظاره من خلف الباب: "وقت ثقيل لزج قضته على الفراش وهي تتنشق عطره، وقطرات عرق جسده وهو يلهث فوقها، ويشتم قابضا على جسدها الطري والغض بأصابع مخلبية. وكانت هي من خلال ذلك تستمع لصوت "أبو عدوان" من خلف الباب يستنهض فيه الرجولة، والسُرعة بالانتهاء السريع من هذه المهمة".

لعلنا نُلاحظ هنا أن التصوير فيه من الوحشية واللإنسانية التي تخلو من المشاعر الكثير؛ فالعروس هنا مُجرد مطية لا بد من التخلص من إثبات شرفها، لكن ما لا يفهمه العديد من هؤلاء الرجال أن وجودهم وراء الباب، ومحاولة استنهاضهم المُلحة للعريس كي ينتهي من المهمة المنوطة به، والضغط العصبي والنفسي الشديدان عليه في مثل هذا الموقف لا بد أن ينعكس عليه في الحقيقة بشكل سلبي، ومن ثم يُفقده انتصابه، وهو ما سيؤدي إلى فشله في المهمة الموكلة إليه.

"كان وقع الارتطامة اللحمية لجسديهما، وامتزاج ذلك بالروائح اللزجة داخل الغرفة، وتسارع لغة الاستنهاض من خلف الباب، قد أربك عدوان تماما، وقد أحست العروس بأن عريسها قد ارتخى تماما، وفقد تلك الهمة التي بدأ فيها حينما دخل معها الغرفة، وفي لحظة كالبرق مدت العروس يدها تجاه حقيبتها وأخرجت المنديل، وتناولت دبوسا كان يثبت الإكليل فوق رأسها، ووخزت به باطن إصبعها الوسطى، تاركة دم إصبعها يسيل فوق المنديل ويغمره ببقعة دم حمراء. أعطت المنديل لعدوان الذي تناوله واتجه نحو الباب، وحينما فتح ضلفة الباب تلقف أبو عدوان المنديل فرحا ودار به حوش الدار كي يراه الجميع. وقد بزغت في رأس "أبو عدوان" فكرة مجنونة وهي أن يُخرج مُسدسه ويضع المنديل على فوهة المُسدس ويطلق الرصاص. وحينما فعل ذلك، كان عدوان قد جلس بين ساقي عروسه المُنفرجتين، واضعا رأسه بين نهدي عروسه، ويشهق وهو يُطلق نحيبا ذكوريا، بينما أخذت العروس تضمه إلى نهديها وهي تُمسد على رأسه بحنو أنثوي له طعم حنو الأمهات".

إن إغلاق القاص لعالمه القصصي في هذه القصة بهذا الشكل يحمل في باطنه شكلا من أشكال السُخرية من المفهوم المُجتمعي لمعنى الذكورة، أو الرجولة؛ فالعروس هنا هي من "سترت" على عريسها، وليس العكس كما كان ينبغي بالمفهوم الذكوري، ولو لم تفعل ذلك بنفسها لكانت فضيحة لعائلة عدوان بالكامل باعتبار أن ابنهم ليس برجل، وغير قادر على إتيان أنثاه، رغم أنه في حقيقة الأمر لا يعيبه شيء، ولكنهم هم من ضغطوا عليه مما أدى إلى ارتخائه، ولكن من زاوية أخرى فعدوان نفسه يرى أنه عجز عن إتيان عروسه، أي أنه يرى نفسه أيضا ناقص الرجولة بما أنه قد فقد انتصابه ولم يستطع الحفاظ عليه، وبما أن عملية الانتصاب بالنسبة للرجل، والحفاظ على هذا الانتصاب هي الهاجس الأبدي والدائم، والجوهري بالنسبة له طوال حياته، والذي يقيس به مقدار رجولته من عدمها، وبالتالي يرى أنه قد فقد رجولته تماما بفقدانه لهذا الانتصاب، ومن ثم فالمرأة ستنظر إليه في هذه الحالة باعتباره ناقصا، وغير صالح للاقتراب منه؛ فلقد كان "يشهق وهو يُطلق نحيبا ذكوريا"! في المُقابل فإن العروس لم تنظر إلى الأمر بمثل هذا المفهوم على الإطلاق، ولم تر عدوان ناقصا، بل اقتربت منه، وأخذته في صدرها حانية عليه، وربما شفقة من الضغط العصبي الشديد الذي تعرض له وأدى إلى ارتخائه.

يبدو لنا هنا القاص الأردني خليل قنديل من خلال قصص مجموعته القصصية "سيدة الأعشاب" قادرا على امتلاك ناصية السرد القصصي، مُدركا ببراعة لما يقوم به، لديه المقدرة والموهبة السردية من أجل بناء عالم مُتكامل في مساحة سردية ضيقة جدا، ساعده على ذلك لغته الانسيابية السلسة، ومقدرته البارعة على التصوير، والتعبير عما يرغب في الحديث عنه بطلاقة، وهو ما سنُلاحظه- على سبيل المثال- في قصة "قط أسود" التي يكتب في بدايتها: "مُنذ الصباح وحتى هذه الساعة من الليل لم يهدأ المطر، ولم تكف السماء عن إطلاق التماعة برقها وقرقعة رعودها، التي ظل يتبعها مطر ينهمر على البنية والشرفات وأسطح البيوت والحدائق، بما يشبه الطوفان. إنه شباط. هذا ما فكر به الرجل حينما كان يسمع اختلاط مواء القطط المُجرّح بصوت الرغبة الحيوانية، مع صوت إيقاع المطر وشقع المزاريب".

إن الجملة السابقة، وهي الجملة التي افتتح بها القاص قصته تُدلل على امتلاكه للغة، والمقدرة على التعبير عما يرغب فيه بشكل بصري يكاد أن يشبه المشهد السينمائي؛ فهو في البداية عمل على تصوير عناصر الطبيعة التي تكاتفت مع بعضها البعض من أجل رسم مشهد كلي لهطول الأمطار في كل مكان، وعلى كل شيء- المُعادل السردي للقطة الشاملة Full Shot في السينما- لكنه بعد هذا الوصف المُوجز والبليغ والكامل يقطع فجأة فيما يشبه القطع المُونتاجي في السينما ليكتب: إنه شباط. هذا ما فكر به الرجل. أي أن الأمر يبدو هنا كأننا أمام مشهد سينمائي أولى نراه بكل تفاصيله، وسُرعان ما يدخل صوت الراوي العليم من خارج الكادر ليحكي لنا شارحا ما يحدث بشكل غير قليل من التدقيق. أي أن القاص بارع هنا في السرد المشهدي الذي يتماهى مع أسلوبية السينما.

هذه المشهدية البارعة في الوصف والتصوير نراها مرة أخرى في كتابته: "وأكثر ما كان يدهشه، علاقتها بالقط الأسود الذي كان يظل يموء وهو يتمسح بها ويدور حولها، مُتلذذا بتلك المُلامسة التي تمنحه إياها، وهو يرتفع بظهره ويقوسه، ومن ثم ينسدح أرضا وهو يلامس قدميها". ألا نُلاحظ في هذا الوصف السردي شكلا بارعا من المشهدية التي تقترب بالمشهد السردي من المشهد السينمائي المرئي؟

إنها مقدرة الكاتب على التصوير، وامتلاكه لناصية لغته السلسة التي تنساب بسهولة لتصل إلى القارئ بما يرغب القاص في التعبير عنه، فضلا عن انغماسه الكامل في المُجتمع من حوله وتأمله، ثم البناء عليه مُضفرا كل ذلك بالخيال الخصب، مما أدى إلى تميز القاص خليل قنديل في هذه المجموعة القصصية، وهو شكل من التميز قلما نراه لدى الكثيرين من كتاب القصة القصيرة نظرا لعدم المقدرة على التعبير البديع والسلس في مساحة سردية ضيقة قادرة على بناء عالم ثري وخصب بشخصياته وأحداثه.

 

محمود الغيطاني

مجلة "كتاب" الإماراتية

عدد مايو 2025م

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق