الاثنين، 15 سبتمبر 2025

نجمة أغسطس: أسلبة الرواية والحكي من الهامش

ربما يبدو لنا الروائي صُنع الله إبراهيم من أكثر الروائيين تمردا وإعراضا عن الشكل الكلاسيكي لكتابة الرواية، أو حتى الشكل الأكثر نضجا وحداثة وتطورا منها، بل وتعدى به الأمر إلى رفض الشكل المُستَقر عليه الآن بين الكتاب والنقاد ومُنظري الكتابات الأدبية، مما جعله يبتعد عنه، محاولا ابتكار شكله الفني الذي يخصه، ويمكن نسبته إليه وحده، ليستقر في النهاية على أسلوبية روائية لا ينافسه فيها غيره، وإن نجح في اجتذاب الكثيرين من المُريدين له إلى هذه الأسلوبية التي لم يضارعه فيها أحد، ومن ثم رأينا عددا من الكتاب الذين يحاولون انتهاج أسلوبيته الفنية الروائية التي نجح في ابتكارها، واستقرت كشكل من أشكال الرواية، وفرضها على الذوق الأدبي العام- سواء بالنسبة للقارئ أو الناقد- مما يعني أن اجتهاد صُنع الله إبراهيم، وإصراره على الكتابة بالطريقة التي يرى أنها تلائمه، وقادرة على التعبير عن عالمه- ضاربا بعرض الحائط رفض النقاد والقراء أو اعتراضهم عليه في البداية- قد أدى إلى نشأة مدرسة أسلوبية في فن الرواية، يمكن نسبتها لصُنع الله إبراهيم وحده، وهي الأسلوبية التي بدأت تكتسب، رويدا، العديد من المُعجبين بها، الراغبين في الكتابة على نهجها؛ مما أدى إلى ذيوعها بشكل لا بأس به، مما يعني أن إبراهيم هنا كان من الرواد القادرين على ابتكار أساليب، وأشكال روائية جديدة، بل وفرضها على ذائقة المُتلقي الذي تقبلها فيما بعد على مضض إلى أن استساغها، وازداد إعجابه بها بعدما كان يحاول لفظها ورفضها في البداية لغرابتها عليه، وعدم اعتياده عليها.

هل يمكن لنا الادعاء هنا بأن هذا الشكل الفني، أو الأسلوبية الروائية الجديدة التي فرضها صُنع الله- كأمر واقع لا مناص منه- قد تم تقبلها والانصياع لها نتيجة الاعتياد؟ لا سيما أننا نُدرك جيدا بأن ثمة أشكالا وتيارات فنية تكون بلا أي قيمة أو معنى، وهو ما يجعل المُتلقي يُعرض عنها في بداية الأمر، لكنه سُرعان ما يعتادها نتيجة الإلحاح عليه في عرضها، وكثرة مُصادفتها؛ ومن ثم تكتسب- فيما بعد- طبيعيتها، ثم جمالياتها وفنياتها، بل ويتم التنظير لها باعتبارها أفضل ما هو موجود، أو كأنها كشف فني جديد.

بالتأكيد يكون الذهاب إلى مثل هذا الافتراض من قبيل التعسف، وإنكار الواقع المُحيط الذي لا يمكن لنا التملص منه؛ فالرواية بشكلها الفني، وأسلوبيتها اللتين استقر عليهما صُنع الله إبراهيم نجحتا في فرض نفسيهما على المُتلقي أيا كان، مما أفسح المجال لصُنع الله عينه ليجد لنفسه مكانا بارزا، ومُريحا، ومُميزا في تاريخ الروايتين المصرية والعربية، وهو ما جعل لصُنع الله- فيما بعد- تلاميذه من الروائيين، وغيرهم ممن يحاولون انتهاج نفس الشكل والأسلوبية الفنية اللتين ابتكرهما، وأصر على تقديم جميع أعماله الروائية من خلالهما- فهذا هو الشكل المُقتنع به، والقادر وحده على التعبير عما يجول في ذهنه من عوالم يختلف فيها عما يقدمه الآخرون.

لكن، هل صُنع الله إبراهيم هنا بمثابة المُجدد الذي من المُمكن له ادعاء الفرادة، أو الريادة، أو غير ذلك من التميز؟

لم يحاول صُنع الله فعل ذلك، وربما لم يفكر فيه على الإطلاق، فكل ما هنالك أنه رأى أن الأشكال الفنية الإنشائية المُستغرقة في جماليات اللغة وتعاليها، والتي يستقر عليها الجميع من حوله لا تتناسب مع التعبير عن العالم الفني الذي يفكر فيه؛ ومن ثم فلقد ابتكر لنفسه أسلوبيته التي يراها مُناسبة، أي أنه لم يكن يسعى باتجاه الريادة، أو الفرادة، أو الادعاء الفارغ بأنه صاحب مدرسة فنية جديدة، بل كان من الأجدى له الكتابة من خلال الأسلوبيات والأشكال التي يستقر عليها الآخرون؛ نظرا لأن الأسلوبية التي انتهجها قد لاقت الكثير من الرفض، والإعراض، والشراسة، واعتبار صُنع الله غير مُناسب لعالم الكتابة، فضلا عن اتهامه بالفجاجة، والتعدي على الذوق العام، والآداب، والقيم التي استقر عليها المُجتمع، بل وتشويه شكل الفن وجذبه باتجاه الانحطاط، والابتعاد به عن الجماليات، وغير ذلك من الاتهامات التي وُوجه بها الروائي، لا سيما من الروائي الراحل يحيى حقي الذي شن حملة قاسية على رواية صُنع الله الأولى "تلك الرائحة"، والتي أكد على شعوره بالتقزز الشديد منها، ومن المشاهد التي قام الكاتب بوصفها داخل روايته بجرأة، وصلافة دونما اعتبار لذائقة المُتلقي المُرهفة التي لا بد للكاتب أن يعمل على إثرائها- مشهد الاستمناء وشكل المني المُلتصق بالأرض بعد مرور وقت عليه.

صحيح أن حملة يحيى حقي على صُنع الله لم تكن بالحملة الهيّنة التي من المُمكن له تجاهلها، أو مواجهتها باللامُبالاة- لا سيما أن صُنع الله كان ما زال في بداية حياته الفنية، فضلا عن صغر عمره، بينما يحيى حقي في هذه الفترة الزمنية كان عملاقا أدبيا ونقديا لا يمكن مواجهته، أو التغاضي عما يكتبه- إلا أن دخول القاص يوسف إدريس في هذا السجال الأدبي، وإبداء إعجابه وحماسه لما كتبه صُنع الله إبراهيم باعتباره شكلا جديدا من الكتابة يعبر عن هذا الجيل؛ خفف بعض الشيء من أثر حملة حقي عليه، وهجومه الشديد- رغم أن هجوم الأول، وتأييد الثاني لم يُغيّرا شيئا من اقتناع صُنع الله بما يقوم به؛ ومن ثم أصر على مُمارسة الكتابة الروائية بالشكل الذي يراه هو، وليس بالشكل الذي يفرضه عليه الآخرون.

هذه الأسلوبية الجديدة التي مال إليها صُنع الله اتخذت من اللغة التقريرية، أو الإخبارية البسيطة نهجا في الكتابة، فضلا عن عنايته بوصف مُشاهداته من أشياء، وأماكن، وأشخاص بدقة تفصيلية تكاد أن تقترب من الرتابة التي قد تُشعر المُتلقي بالكثير من الملل أحيانا، لكنه كان شكلا من أشكال التوصيف التي يمكن أن نُطلق عليها "الوصف من الخارج"، أو "الوقوف على الهامش"، وهو ما يعني أن صُنع الله هنا، كراوٍ، لم يتعد دوره أكثر من مُجرد المُشاهدة والإخبار من دون التورط في العالم الذي يتحدث عنه، فهو راوٍ شديد الحيادية، غير مُبال ظاهريا، ولا يعنيه العالم الذي يتحدث فيه؛ لذا فهو يُفضل طوال الوقت أن يكون على هامش هذا العالم، وليس في قلبه- حتى لو كان حديثه الروائي يتناول بعض التجارب الشخصية التي حدثت له، أو لأحد المُقربين منه، لكنه يتناولها وكأنها حدثت لشخص آخر، لا علاقة تربطه به من قريب أو بعيد!

إذن، فلقد اعتمد صُنع الله إبراهيم أسلوبا روائيا يقترب من الجفاف- شكلانيا- يتشابه مع لغة التقارير الإخبارية، وهو ما ساعده- فيما بعد- على الإيغال في مثل هذه الأسلوبية التي ابتكرها، ومن ثم باتت أعماله الروائية تميل إلى التوثيق، والتماهي بين ما هو روائي، وما هو تسجيلي؛ فصُنع الله هنا راوٍ غير مُنتم، ولا رغبة لديه في الانتماء إلى العالم الذي يتناوله بقدر ما يقوم بنقله إلينا بأسلوبيته التي يجيدها، ويعمل على تجويدها.

هذه الأسلوبية الشديدة الحيادية تتبدى لنا بشكل جلي في روايته "نجمة أغسطس"، وهي الرواية التي استمرت مع الكاتب سبع سنوات كاملة إلى أن انتهى منها بشكلها الفني الذي يرتضيه، وببنائها الهندسي- شكلانيا- كما خطط لها مُنذ البداية للتناسب تناسبا شكلانيا مع جسم مبنى السد العالي الذي كان هو موضوع الرواية بالكامل، ورحلته إلى أسوان، ثم معبد أبي سنبل فيما بعد لرؤية المُعجزة المصرية التي تتشكل- كما كان يظن- بالتعاون مع السوفييت في ذلك الوقت. وهو ما دفعه إلى كتابة الرواية على ثلاثة أقسام تُمثل الشكل البنائي لها، والذي كان نفس الشكل الذي بُني عليه السد العالي الذي أُنشئ على قسمين ضخمين بينهما النواة- لُب السد- التي تُعد أهم أجزاءه.

 الحكي من الهامش، أو الحيادية المُبالغ فيها في السرد الروائي والنأي عن التورط الشعوري، أو فعل المُراقبة من دون الرغبة في التدخل تُجابهنا مُنذ السطر الأول في الرواية حينما نقرأ: "وضعت حقيبتي فوق الرف، ووقفت أتأمل الديوان الخالي وخلفي في الممر الضيق كان الركاب يهرعون إلى أماكنهم، وفي الخارج كان الناس يتزاحمون أمام نوافذ القطار. تقدمت من النافذة فألفيت مصراعها الزجاجي مُحكم الإغلاق، ورأيت من خلاله زحام المودعين أمام نافذة الديوان التالي. كانت شفاههم تتحرك بسرعة وقد مالت رؤوسهم إلى الأمام وانتفخت رقابهم، ولا بد أنهم كانوا يصيحون حتى يسمعهم المُسافرون من أقارب وأصدقاء. لكن الزجاج كان سميكا لا ينفذ منه الصوت؛ فقد كان القطار واحدا من تلك القطارات الحديثة المُكيفة الهواء، وهي لذلك مُحكمة الإغلاق".

مع تأمل هذا المقطع الذي افتتح به صُنع الله روايته سنُلاحظ أن أسلوبية السرد فيه تقريرية إخبارية، بالغة المشهدية، بعيدة تماما عن المشاعر، أو التورط فيها، أو محاولة التماهي مع العالم المُحيط- فهو حريص طوال الوقت على أن تكون ثمة مسافة بينه كراوٍ، وبين العالم الذي يصفه لنا كموضوع للحكي- يتضح لنا ذلك- على سبيل المثال- في جملة: "كانت شفاههم تتحرك بسرعة وقد مالت رؤوسهم إلى الأمام وانتفخت رقابهم" وهو أسلوب إخباري تقريري يتناسب مع المُشاهدة من مسافة، أي أنه هنا يتفرج، لكن إذا ما استمررنا في القراءة للوصول إلى الجملة التالية مُباشرة سنقرأ: "ولا بد أنهم كانوا يصيحون حتى يسمعهم المُسافرون من أقارب وأصدقاء"، وهي جملة تفيد الشك، والترجيح مُبتعدة تماما عن اليقين المُعبر عن الشعور أو التورط فيه، مما يضفي على لغته لمحة من البرودة، وترك مسافة بينه وبينه الآخرين، فضلا عن المسافة الناشئة في هذه الحالة عن موضوعه الروائي، أي أن الروائي هنا لا يحاول استبطان مشاعر الشخصيات، وليست لديه الرغبة في ذلك، بل يترك راويه يراقب فقط.

إذن، فهنا لا جُمل إنشائية مما يمكن لنا قراءته في غيرها من الروايات، ولا مُفردات شعورية مما تفضي بصاحبها إلى الاشتباك فيما يحكي عنه، بل حيادية تامة، ومُجرد إخبار عما ترصده عيناه- الشبيهتان هنا في هذه الحالة بالكاميرا الراصدة التي لا تتمتع بأي شكل من أشكال الشعور، بل هي تُسجل فقط- إنها اللغة التي تُساعده كراوٍ على المُراقبة، وربما التلصص على الآخرين من دون الاشتباك، أو الاعتراض، أو حتى إطلاق الأحكام على ما يدور من حوله، ولنتأمل: "لمحت مبنى جمعية تعاونية بواجهته الخضراء التقليدية المُؤلفة من عدة أبواب، فولجته، ودفعت عند المدخل ثمن أربع قطع من الصابون، وأخذت إيصالا قدمته إلى أحد الباعة؛ فأحضر كيسا رص فيه الصابون، ورأيته يسقط قطعة منه على الأرض في الفراغ الفاصل بينه وبين طاولة البيع. ظننتها زائدة، وعندما وصلت إلى الفندق اكتشفت أني عدت بثلاث قطع فقط. أخذت حماما، ثم تمددت على الفراش بملابسي الداخلية وأشعلت سيجارة. كان جو الحجرة خانقا رغم أني فتحت النافذة، ورحت في النوم، ثم استيقظت على صوت محمود يناديني؛ فتحت عينيّ لأجد شابا طويلا أسمر ذا شارب كث يقف في وسط الحجرة".

إن التوقف أمام الاقتباس السابق لتأمله يؤكد لنا على ما ذهبنا إليه، ورغبة صُنع الله إبراهيم في انتهاج راويه اللغة التقريرية التي تعتمد على الإخبار فقط، يساعده في ذلك جمله القصيرة المُتلاحقة القادرة عل خلق الإيقاع المُتسارع مما يُكسب العمل المزيد من الحيوية للقضاء على الرتابة التي قد تنشأ من تقريريته، وإخباره بالتفاصيل التي كان من المُمكن له الاستغناء عنها إذا ما اتبع شكلا آخر من الكتابة، أو أسلوبا روائيا مُخالفا لما نقرأه، فضلا عن أن هذه الأسلوبية- التي ارتآها مُناسبة لعالمه- تمنحه الفرصة للمزيد من التأمل، وفعل التلصص على ما يدور من حوله، ولنتأمل هنا فعل المُراقبة، أو التلصص، أو الفرجة من مسافة في: "فأحضر كيسا رص فيه الصابون، ورأيته يسقط قطعة منه على الأرض في الفراغ الفاصل بينه وبين طاولة البيع. ظننتها زائدة"، إن الراوي هنا يُراقب فقط، حتى حينما أسقط البائع إحدى قطع الصابون لم نر الراوي يحاول التدخل أو التساؤل، بل افترض بأنها قطعة زائدة؛ لذا حينما اكتشف بأمر سرقة البائع له لم يحاول التدخل، أو استعادتها بالعودة إليه، أو التفكير في شكواه لرئيسه، بل يكتب: "وعندما وصلت إلى الفندق اكتشفت أني عدت بثلاث قطع فقط"، لكنه سُرعان ما ينصرف عن الأمر وكأنه لا يخصه، ولا علاقة له به، وهو ما يتجلى لنا من التفاته إلى أمر آخر بعدما أنهى الجملة التي اكتشف فيها أمر السرقة؛ فيكتب: "أخذت حماما"، أي أن اكتشافه لسرقة البائع له لم يعنه، ولم يستدع التوقف أمامه، ولم يحاول هنا كراوٍ أن يصف لنا شعوره تجاه هذه السرقة- سواء بالسلب أم بالإيجاب- بل تخطاه وكأنه لا يعنيه ليأخذ حمامه.

هل شعر الراوي هنا بالغضب، بالغيظ، بالسُخرية، بالبلاهة، بأي شعور من المُمكن له أن يعبر عنه؟ لا نعرف، ولن نعرف شكل شعوره تجاه أي ما يخص هذا العالم؛ فهو حريص على الاحتماء بمنطقة الظل الهامشية الآمنة التي تجعله بمعزل عن كل ما يدور أمامه، ومن حوله. كما لا يفوتنا هنا اهتمامه العارم بالتفاصيل التي قد تخلق شكلا من الرتابة في: "أخذت حماما، ثم تمددت على الفراش بملابسي الداخلية وأشعلت سيجارة". هل كانت ثمة ضرورة لإخبارنا بأمر إشعاله لسيجارته؟ وهل أضافت شيئا إلى السرد الروائي حينما أخبرنا بها، وهل سيعود عدم إخبارنا بأمر السيجارة بالسلب على السرد الروائي؟

تبدو لنا كل هذه التساؤلات من قبيل التفلسف النقدي- إذا ما جاز لنا التعبير- تجاه عمل روائي قرر صاحبه انتهاج شكل خاص به، وأسلوبية تناسبه؛ ومن ثم تضحى كل هذه الأسئلة مُجرد لغو لا داعِ له، مما يجعل الاستمرار في مُتابعة ما يخبرنا به الراوي هو الأنسب مع هذا الشكل الروائي الذي يصف من الخارج بشكل شكلاني محض.

انتهاج الشكل الوصفي الشكلاني يجعل الروائي يوغل عميقا في هذه الأسلوبية، رغم برودتها وآليتها على المستوى الظاهري، وإن كنا لا نستطيع إنكار جوهريتها وتناسبها البيّن مع البناء الروائي الذي حاول الكاتب شرحه في مُقدمة الرواية مرة، ومرة أخرى بعد الانتهاء منها، إنه الوصف الذي يتعدى الكائنات إلى كل ما يحيطه من جمادات، حتى لكأنما قد تلبست الروائي شهوة الوصف اللامحدودة مما جعل كل الأشياء صالحة للحديث عنها: "تلاشت هذه العمارات فجأة كما ظهرت، وامتدت الصحراء أمامنا إلى ما لا نهاية. وتتابعت هياكل الصلب العالية لأبراج الكهرباء على مسافات مُتقاربة. أشرفنا بعد ربع ساعة على أفنية مسورة تضم صفوفا من الشاحنات الجديدة. كان لونها الأخضر يلمع بقوة في الشمس، ودرنا برابية صغيرة عليها لافتة تُعلن عن موقع للرمال الخشنة. كانت الرمال مكومة خلف اللافتة في تلال عالية. برزت تلال من الصخور على جانبي الطريق. كانت مُتباعدة في البداية، وما لبثت أن تقاربت، وازدادت ارتفاعا، وأصبحنا نسير فيما يشبه الممر، وبدا أننا نجتاز منطقة صلبة صمدت لأعمال الحفر والتفجير. أبطأت سيارتنا عندما انتهى الممر؛ فقد اعترضتنا شاحنة فارغة كانت تمضي ببطء، وانتقلت سيارتنا إلى يسار الطريق لتتجاوزها. وعندما مررنا بجوارها رأيت جانبها مُحطما، ومُقدمتها منزوعة الغطاء".

ألا نُلاحظ هنا أن إيغال الكاتب في لغته الوصفية التقريرية قد مالت بالرواية بالكامل إلى ما يشبه الفيلم الوثائقي في السينما؟ إنه الوصف والمُراقبة من بُعد، اتخاذ مسافة من دون محاولة التدخل أو التعليق؛ فالتعليق هنا سيكون بمثابة العامل المُفسد للبناء الروائي الذي اختاره مما قد يؤدي إلى انهياره بالكامل، وفشله في السيطرة عليه.

إذن، فصُنع الله هنا يكاد أن يقدم لنا فيلما وثائقيا عن زيارته لموقع بناء السد العالي، ومن جهة أخرى يبدو لنا الأمر وكأنه يكتب لنا تقريرا مُفصلا عن رحلته إلى موقع بناء السد فيما يشبه المهمة الرسمية، وهو التقرير الذي سيتم رفعه إلى رؤسائه، ومن ثم لا بد أن يكون غاصا بالتفاصيل الدقيقة لما قام به، وما شاهده، يتضح لنا ذلك بجلاء أكبر في المقطع التالي الذي يصف فيه الفوضى حينما يصل إلى أسوان: "سرت إلى ميدان المحطة؛ فلم أجد أتوبيسا واحدا، وقال لي الناظر في تجهم أنه لا توجد سيارات الآن إلى الموقع. سألته عن سيارات الشركة؛ فقال: إنه مسؤول فقط عن التابعة للهيئة، أما الشركة فسياراتها تقف عند الجمعية. عبرت الميدان إلى شارع السوق، وسرت حتى الجمعية؛ وجدت أمامها عددا من السيارات الكبيرة الخالية من السائقين، وعثرت على أحدهم في مقهى قريب؛ فقال لي: إنهم لا يتحركون قبل ثلاث ساعات، واقترح عليّ أن أذهب إلى كشك الشركة في الناحية الأخرى من الميدان. عدت أدراجي وأنا أمسح العرق عن وجهي. عبرت ميدان المحطة مرة أخرى. سرت مسافة بحذاء النيل حتى بلغت كشك الشركة المطلي باللون الأصفر. كان به موظف شاب يقرأ في أحد كتب الجامعة، وقال لي: إنه لا توجد أي سيارات ذاهبة إلى الموقع الآن، ونصحني بالعودة إلى موقف الميدان. درت عائدا بتثاقل والعرق يسيل من مرفقي، وألفيت الميدان خاليا من السيارات تماما. ومرت بي عربة حنطور اضطجعت فتاتان أوروبيتان في مقعدها الخلفي. كان وجهاهما شديدي الاحمرار، أو هكذا خيّل لي؛ فقد كان كل شيء أمامي مُصطبغا بهذا اللون".

مع قراءة الاقتباس السابق يتأكد لنا أن الأسلوب الروائي الذي اختاره الكاتب هو أسلوب شديد التقريرية، يميل بشكل مُبالغ فيه إلى التوثيق مما يجعله مُنفصلا تماما عن كل ما يدور أمامه، أو من حوله؛ فالقارئ لمثل هذا المقطع- وغيره من المقاطع- لا بد أن يدور في ذهنه العديد من التساؤلات، منها: ما هو شعوره مع هذه المتاهة التي دخلها من أجل الوصول إلى موقع الحفر، لا سيما مع درجة الحرارة اللاهبة التي تكاد أن تُذيب الجميع؟ هل شعر بالغضب، بالملل، بالإرهاق، بالتداعي الجسدي؟ وما هي المشاعر التي كانت تنتابه، وسيطرت عليه فيما يحكيه؟ لكن صُنع الله هنا حريص على التسجيل فقط من دون التطرق إلى مشاعره الخاصة كراوٍ، أي تحييد نفسه، والاطمئنان إلى زاوية الهامش التي اختارها لنفسه لئلا يجد نفسه متورطا فيما يدور من حوله.

بنى صُنع الله إبراهيم روايته بالاعتماد على فكرة رغبة أحد الأشخاص- الذي خرج لتوّه من المُعتقل السياسي في عهد جمال عبد الناصر- في الذهاب إلى أسوان، ومنها إلى موقع بناء السد العالي ورؤية تحويل مجرى النيل؛ ليشاهد بعينيه المُعجزة المصرية التي يتم الإعداد لها بعدما قرر عبد الناصر الاعتماد على أنفسنا في مواجهة فيضان النيل، والاستفادة منه في توليد الكهرباء لقرى ومُحافظات مصر بمُساعدة الخبراء السوفييت، وهو ما سيستدعي نقل العديد من المعابد الفرعونية لحمايتها من الغرق، مما دفع الراوي إلى السفر إلى أبي سنبل بعدما رأى ما يرغبه في موقع السد ليشاهد معبد رمسيس الثاني بدوره أثناء فكه، وفصله عن الجبل؛ تمهيدا لنقله إلى مكان آخر، عاقدا العزم على عدم العودة إلى القاهرة إلا حينما ينفد منه المال الذي يمتلكه، وهو ما يجعل الروائي هنا يتابع راويه بشكل حثيث، شديد التفصيلية إلى أن تحين اللحظة التي يقرر فيها العودة مرة أخرى إلى العاصمة.

لكن، خلال هذه الرحلة الطويلة والشاقة- التي قررها الكاتب لراويه- لم يفته أن هذه الأسلوبية- الجافة شكلانيا- من شأنها أن تُصيب قارئه- غير المُدرب على هذا الشكل من الكتابة الفنية- بشيء من الرتابة والملل؛ مما قد يجعله ينصرف عن استكمال الرواية، أو يشرد بعيدا عن مُتابعة الأحداث التي يرويها؛ ومن ثم لجأ صُنع الله هنا إلى شكل روائي يميل إلى المزيد من الوثائقية، أشبه بالقطع المُونتاجي الذي نعرفه في مجال السينما، وهو القطع الذي جعل الرواية عبارة عن ثلاثة عوالم متوازية، أو ثلاث روايات: تُمثل الرواية الرئيسية فيها مُتابعة الراوي في رحلته، ومُشاهداته، وتأملاته، ولقائه بالعديد من الأشخاص- منهم من يعرفهم من قبل، ومنهم من سيتعرف عليهم أثناء رحلته لأول مرة- بينما تتمثل الرواية الثانية في استرجاعات الراوي للعديد من المواقف التي سبق أن مرت به في المُعتقل السياسي، ووصف عمليات التعذيب والإهانة التي تعرض لها هو وزملاؤه لمُجرد أنهم صدقوا ما أُطلق عليه الثورة المصرية، وأبدوا رأيهم في نظام الحُكم الجديد، أو حاولوا الدلو بدلوهم في الحلم الجديد، لتكون الرواية الثالثة بمثابة القطع في العديد من المواقف الروائية على التاريخ بما يتناسب مع الموقف الذي يقوم بالقطع فيه- وهو هنا لم يقتصر على التاريخ المصري القديم فقط، بل عمل على التبديل بينه وبين تاريخ مصر الحديث، فضلا عن التاريخ المسيحي، وما تعرض له الفنان الإيطالي مايكل أنجلو من اضطهاد، وسوء فهم.

يوسف إدريس

إذن، فنحن هنا أمام ثلاثة خطوط درامية متوازية- تماما كما في البناء السينمائي- ولعل صُنع الله كان يقصد تماما الشكل السينمائي في هذه الرواية، لا سيما أنه درس السينما في موسكو، فضلا عن اشتراكه في التمثيل أيضا في مشروع تخرج زميله المُخرج السوري محمد ملص الذي شاركه السكن هناك.

هذا التماهي ما بين موضوع الرواية الرئيسي/ الرحلة وما بين العوالم الأخرى، لا سيما التاريخ المصري القديم، أو تاريخ مايكل أنجلو الذي يقرأ كتابا عنه- قرر اصطحابه معه في رحلته- يتبيّن لنا في الكثير من القطع الذي يلجأ إليه، منه: "مشى بين الصخور- يقصد مايكل أنجلو- يطرقها بمطرقته بحثا عن الشقوق والعيوب والفقاعات. كانت القطع الصلبة تعطي صوتا كرنين الأجراس، أما المعيبة فكان رجعها باردا، وكانت هناك صخرة تعرضت للجو فترة طويلة؛ فتكوّن لها جلد سميك، وبالمطرقة والأزميل أزال الغلاف ليصل إلى المادة النقية من تحته".

إذا ما تأملنا الاقتباس السابق لا بد أن يرد إلى أذهاننا تساؤل: هل كان صُنع الله يلجأ إلى مثل هذه الاقتباسات بشكل مجاني، أي لمُجرد كسر حدة الرتابة التي قد تسود سرده الروائي؟

إن تأمل العمل الروائي ككل يؤكد لنا على أنه لم يلجأ إلى أي جزء فيه بشكل مجاني، بل كان شديد الدقة والوعي بما يقوم به؛ لذا فثمة ارتباط وثيق ما بين هذا الاقتباس- على سبيل المثال- والحدث الرئيس الذي يُمثل جسد الرواية ولُبها/ الرحلة وبناء السد من أجل تحويل مجرى النيل، فالعمال والمُهندسين المصريين والسوفييت يعانون مُعاناة بالغة في تخير وانتقاء الصخور التي قد تعينهم فيما يقومون به من عمل شاق- فلكل نوع من الصخور فائدة مُعينة تعينهم على إتمام مهمتهم- وإذا ما توصلنا إلى هذا الفهم؛ يكون القطع هنا على مايكل أنجلو مُتناسبا تماما، ومُتماهيا مع العالم الروائي الذي يتابعه الكاتب من خلال راويه، أي أن ثمة ارتباطا وثيقا بالشكل هنا ما بين العالمين، وهو ما يعود إليه مرة أخرى في: "ضربة الأزميل العشواء في الصخر تُحطم بلوراته، والبلورة الميتة تُدمر النحت، وتعلم كيف ينحت قطعا ضخمة دون أن يسحق البلورات؛ فالصخر هو السيد، وليس الرجل. القوة والمتانة في المادة الصماء، لا في الذراعين والأدوات، وإذا ما ضرب بعنف وجهل؛ فقدت المادة الغنية الدافئة توهجها وماتت، وأمام التعنيف والهرولة تلتف الصخرة بنقاب حجري صلب. من المُمكن تحطيمها بالعنف، ولكن يستحيل إرغامها على أن تعطي. فهي تستسلم للحنان وتزداد تحت تأثيره إشعاعا ولمعانا".

ربما نلحظ هنا أن الدقة التي يتحدث عنها مايكل أنجلو في التعامل مع الصخر- المادة الأولية والرئيسية للنحت الذي يقوم به- لها علاقة وثيقة لا يمكن التغافل عنها بموضوع الرواية الرئيس- البحث عن الصخور المُناسبة من أجل بناء جسم السد- مما يعني أن الكاتب هنا يعي ما يقوم به، بل يتمتع بدقة مُتناهية في بناء عمله الروائي بشكل يبدو لنا هندسيا، لا مجال للمُصادفات فيه.

هذه التقاطعات ما بين بناء جسد السد، وبين ما حدث مع مايكل أنجلو يعطي الفرصة للراوي- المُتماهي مع صُنع الله نفسه- للتأمل والتفكير، ومن ثم طرح العديد من التساؤلات المُخالفة لما تم الاستقرار عليه في العقل الجمعي، أو حتى في الأساطير الدينية، أي أن لجوئه إلى إنشاء عوالم متوازية كان بمثابة الفسحة العقلية للتفكير، وهو ما نلحظه في: "قال له أساتذة القصر: إن موضوعه الأول يجب أن يكون إغريقيا من أساطير اليونان، لكنه كان يعرف عن يقين أن موضوعه الأول لا يمكن أن يأتي من أثينا، أو مصر، أو روما، أو حتى بلدته فلورنسا، وإنما من داخله هو. شيئا ما يعرفه، ويشعر به ويفهمه، واختار "المادونا والطفل". في كل اللوحات التي رآها من قبل، كانت العذراء تُبدي الدهشة التامة عندما أبلغها جبريل بنبأ الحمل، فهل يُعقل أنها لم تكن تعرف، وأنها لم تكن تملك حرية الخيار لترفض؟ وقرر أن ينحتها وهي تُرضع طفلها، مُدركة المصير الذي ينتظرهما".

إن تساؤل مايكل أنجلو هنا عن مدى معرفة العذارء بمصير طفلها من عدمه، ومدى ما تمتلكه من حرية للقبول أو الرفض بحملها فيه، يحمل في جوهره تساؤلات صُنع الله نفسه التي يطرحها مُتماهيا مع مايكل أنجلو فيها، وهو ما يُكسب العمل الروائي المزيد من الثراء، والقيمة الفكرية. أي أن الكاتب هنا غير مُكتفٍ بالتوثيق بقدر ما يعطي لنفسه الفرصة في التأمل، والتساؤل وإعادة بناء التاريخ الذي تم الاستقرار عليه في العقل الجمعي، حتى لكأنه يقوم بثورة فكرية وأيديولوجية من خلال عمله الروائي المُتداخل بشكل فني دقيق؛ لذا حينما يصل إلى معبد أبي سنبل الذي أمر رمسيس الثاني بنحته في الصخر، سُرعان ما يقطع على التاريخ المصري القديم- وهو التاريخ الذي اقتبس منه الكاتب الكثير من الاقتباسات من عدة مصادر تاريخية أشار إليها بعد انتهائه من روايته- فنقرأ: "فلم يكد الأمر يستقر للملك في الداخل حتى سار جنوبا، فأعاد الأمن إلى ربوعه، وكان عهد خلفه معروفا بالهدوء والسلام؛ إذ عني بتشييد المباني والمعابد، إلا أنه من الثابت الآن أنه أرسل أيضا إحدى الحملات إلى النوبة، ولو أن هذا لا يغيّر من حقيقة اهتمامه بالبناء، وجلب المحاصيل منها. ودعت ظروف المُحافظة على السلام من جاء بعده إلى إرسال حملة بحرية إلى النوبة، عادت بسبعة آلاف أسير، ومئة ألف رأس من الماشية، وعملت مصر وقتها على استرضاء القبائل النوبية، والتعامل معها تجاريا واقتصاديا إلى جانب روابط المُصاهرة، فضلا عن استخدام القوات النوبية في الجيش المصري، واضطرت الظروف ملوك الأسرة التالية إلى إعادة غزو النوبة، وفتح مناجم الذهب، وأمر الملك بتسجيل حملته على جدران المعابد؛ فنقش الفنانون موكبه سائرا فوق جثث النوبيين، وقد علق زعماءهم في مُقدمته"، أي أن الكاتب هنا بقطعه المُونتاجي على التاريخ المصري القديم يرغب في إخبارنا بما حدث من أفعال تجاه النوبيين الذين تم التنكيل والغدر بهم، وإخراجهم من بيوتهم والاستيلاء على خيراتهم، ربما للمُقارنة لما حدث معهم في عهد عبد الناصر من تهجير، وتدمير لقراهم التي أغرقتها مياه النيل حينما تم اللجوء إلى تحويل مجرى النيل، ونقلهم إلى قرى جديدة بعيدة عن النيل المُرتبطين به مُنذ الأزل.

هذا القطع التاريخي على تاريخ مصر- القديم منه والحديث- لا يسوقه الروائي هنا بمجانية، بل كان حريصا- بشكل دقيق- على الانتقال إليه في اللحظة المُناسبة التي تتواشج وتتلاءم تماما للتماهى مع جسد الرواية الأساس الذي يُمثل رحلة الراوي في الجنوب، وهو ما يتبدى لنا بشكل أوضح في: "اقتربنا من مجموعة أخرى من أشجار النخيل، وتكررت حملة البلح، سوى أن ذهني لم ينزل الماء هذه المرة، وبقي إلى جواري على حافة الصندل. استأنف الصندل مسيرته، ومررنا "بتوشكة" التي دارت فيها المعركة الفاصلة بين ثوار السودان، والجيش الإنجليزي عام 1889م"، حتى هنا فالسرد الروائي الذي قرأناه في المقطع السابق هو من صلب جسد الرواية التي تُمثل رحلة الراوي إلى الجنوب باتجاه أبي سنبل على ظهر الصندل، لكنه ما أن يصل إلى نهاية هذا المقطع، وذكر المعركة بين الثوار السودانيين والإنجليز، إلا ويقطع على التاريخ بكتابته: "وصدر الأمر إلى النوبيين أن يخلوا قراهم، واقتلعت أشجار نخيلهم من جذورها، فثوار السودان عرضوا افتداء عرابي وهم يقتربون ليحرروا مصر كلها، ومن القاهرة وصل الجيش بقيادة جنرال إنجليزي يرتدي الطربوش، ويحمل لقب الباشا، ودارت الموقعة على الشاطئ الغربي؛ فحاقت الهزيمة بالثوار، وفقدوا قائدهم. فشلت المحاولة البكر، وسقط النهر كله في العبودية".

مما سبق يتضح لنا أن صُنع الله إبراهيم هنا يحاول بناء روايته بشكل فسيفسائي، فيه من التواشج، والتماسك، والتماهي ما يجعله بنيانا مُتكاملا.

لكن، إذا ما كنا قد انتبهنا- على المستوى التحليلي والنقدي- إلى التماهيات والقطعات التي لجأ إليها صُنع الله ناهلا من التاريخ، فهذا لا يعني تغاضينا، أو محاولة تناسينا القطعات الأخري- الخط الروائي الثالث- الذي كان يلجأ إليه الكاتب للقطع والتماهي مع جسد الروائي الأساس/ الرحلة، وهي القطعات التي كان ينهل فيها من تجربته هو نفسه- في الحقيقة- أو من تجربة الراوي- داخل الرواية- في المُعتقل، حيث كانت هذه المُقتطفات تتناسب بدورها مع المواقف الروائية التي يتوقف فيها السرد من أجل هذه الاستعادات الدالة، فنقرأ- على سبيل المثال: "كانت محطة الجيزة قد أُخليت لنا تماما، وهبط عليها سكون شامل لا يقطعه غير صليل السلسلة الوحيدة التي تقيدنا جميعا، وفحيح القاطرة التي تنتظرنا. وفي مدخل البناء الذي تُضيئه مصابيح باهتة كانت بضع رؤوس تتطلع بفضول ولا تجسر على الاقتراب، وعندمت حانت اللحظة، أخذوا يدفعوننا بعنف، والقيود تحز في أيدينا، وصعدنا العربة المُظلمة بلا مصابيح أو مقاعد، وظللنا وقوفا طوال الليل، إذا أراد أحدنا أن يجلس؛ جر الآخرين معه ووقعوا على وجوههم، وإذا أراد أن يتبول؛ سحبهم معه إلى الركن حيث يحفون به عن يمين وعن يسار، والقطار يترك القاهرة، وينطلق إلى الصعيد في خط مُستقيم، ومصر تمتد من أدناها إلى أقصاها من فتحات صغيرة، تعترضها القضبان كما في عربات الكلاب، والشريط الأخضر يضيق باستمرار، وتزحف عليه الرمال، وفي الفجر يرتفع قرص الشمس الأحمر كبيرا فوق خضرة نائمة، والمنظر يتكرر دائما، المباني الطينية والأنوار الخافتة، ثم المحطة بمبانٍ مُتقاربة حولها، ومقهى يحتسي فيه الناس الشاي بهدوء ودعة، يتابعون في غير مُبالاة القطار المُظلم الذي لا يتوقف، ثم السجن في كل مدينة، كتلة صفراء من الظلام بعيون مُتقاربة صغيرة، يقوم في نفس الاتجاه دائما، وتدخله الشمس من نفس المكان في كل مدينة، وتقع على جدران الزنازين في نفس الموعد، دون أن تفلح في تبديد البرد الجاثم".

إن الراوي حينما تذكر هذا المشهد لترحيله هو وزملائه إلى السجن، كانت المُناسبة له أنه قد وصل في سرده الرئيس في جسد الرواية الأساس إلى حديثه عن الراحة التي بدأ يشعر بها حينما ذهب إلى نادي التجديف، وطلب زجاجة من البيرة الباردة: "انطلقت إلى نادي التجديف، كان به بعض الشبان الذين تمددوا في خمول على مقاعد الشرفة. اخترت مقعدا في مواجهة الشاطئ المُقابل، واضطجعت فوقه مُسندا قدميّ إلى قضبان السياج. أحضر لي الصبي زجاجة بيرة، وملأت كوبا ارتشفته وأنا أتأمل الفجوة المُظلمة في الجبل، والدرجات الضيقة المُؤدية إليها وسط الرمال"، أي أن شعوره بالراحة والسكينة في هذا المشهد، كان مُستدعيا لذكرياته المُناقضة تماما لهذه الدعة والسكون والراحة التي يمارسها في هذه اللحظة.

لكنه سُرعان ما يعود إلى التذكر مرة أخرى في: "أمرونا أن نقتعد القرفصاء، ونحني رؤوسنا حتى لا يرانا أحد في الطرقات، وفي بهيم الليل انطلق موكب اللوريات إلى قلب القاهرة القديم، وهواء يناير القارس يضرب آذاننا، وبدأ الطريق يصعد إلى أعلى، وفي الظلام ظهرت مباني القلعة شامخة، تُشرف علينا كما تُشرف على المدينة كلها، وقال أحد ذوي التجربة: إن في القلعة مُعتقلا أنشأه الإنجليز، ولم يُستخدم من أيامها، ودخلنا واحدا بعد الآخر من فتحة صغيرة في بوابة خشبية ضخمة، ولأن المكان من مُخلفات الاستعمار كانت فيه أسرة مُريحة، وأنبأ الهواء بأننا على ارتفاع كبير، وقال حسين: إنهم أخذوه من حفل زواجه، فقال آخر: إنه كان سيتزوج الأسبوع القادم، ورقدنا في صفين مُتقابلين نتطلع إلى الجدران العالية والكوات المسورة في أعلاها، ولعلها كانت القاعة التي شهدت مذبحة المماليك، عندما أتوا بالملابس الرسمية لشرب القهوة، وعندما استعدوا للخروج ليسيروا في موكب السُلطان، أُغلقت الأبواب، وذُبحوا جميعا عن بكرة أبيهم، وفوق ممشى يشرف على ميدان المذبحة جلس محمد علي يدخن النارجيلة، وقبلها كان يتبادل الزيارات العائلية مع زعيمهم، شاهين بك".

هل لاحظنا التناقض الصارخ في جملة: "وقال أحد ذوي التجربة: إن في القلعة مُعتقلا أنشأه الإنجليز، ولم يُستخدم من أيامها"؟

فالمُعتقل الذي أنشأه الإنجليز المُحتلين لاعتقال الوطنيين من المصريين لم يستخدموه، بينما استخدمه جمال عبد الناصر ونظامه السياسي- وهم أبناء هذا البلد- من أجل اعتقال الوطنيين من أبناء نفس هذا البلد! ولنتأمل قطعه مرة ثالثة لوصف صرامة السجن، وقهره، ومحاولة منعهم من أي شيء: "الحارس الملول في سترته الصفراء، يقرع القضبان الحديدية بمفتاحه، وننطلق في طابور ينوء بحمل جرادل البول لتفريغها، ثم نعود بجرادل المياه لملئها، والتفتيش الدقيق بحثا عن ورقة أو قلم أو جريدة، ثم يتتابع صوت المفتاح وهو يدور في أقفال الزنازين، يحبس في كل زنزانة جانبا من ضجة العنبر حتى يسود الهدوء التام، ونجلس على الأرض مُستندين بظهورنا إلى الجدران المُثلجة، نتابع من قضبان الكوة الصغيرة ضوء الغروب وهو يتلاشى بسرعة، والليل طويل طويل، لكنه مهرب من نهار مليء بالمُفاجآت".

يحيى حقي

إن براعة الربط هنا ما بين الجسد الأساس للرواية الرئيسية، والروايات الموازية له تتبيّن لنا من خلال القطع المتوازي الذي نُلاحظه حينما يصل حديثه مع صديقه الصحفي سعيد إلى: "قال سعيد ونحن ننقل أقدامنا في بطء على الإسفلت المُلتهب: كنت أفضل أن أكون في الإسكندرية الآن. قلت: الشتاء بها أروع. قال: لم أرها في الشتاء. قلت: أما أنا فرأيتها". إن وصول الروائي بأحداثه إلى هذه النقطة؛ تجعله يقطع مُباشرة للانتقال إلى حدث خاص بالسرد الموازي، وهو قطع له علاقة وطيدة بالرواية الأساس لبيان مدى التناقض والتضاد، فيكتب مع قطعه: "الشوارع أنيقة هادئة، والجو رمادي، ومن خروم السلك الذي يغلف السيارة كلها لاح البحر على مبعدة، وتطلع إليه في لهفة قائلا: إنه يعشق هذه المدينة؛ ففيها وُلد وقضى أيام صباه قبل أن يبدأ هذا كله، وارتفع البحر أمامنا حتى غطى صفحة الأفق بأمواج خضراء يغلفها زبد أبيض، ولانت قسمات الوجه الذي يبدو أحيانا كأنه من الجرانيت، وابتسمت عيناه في عبث الأطفال وأشواقهم، وتلاشت آثار الجدري كأنما بفعل السحر، عندما رفع رأسه يستنشق بلهفة الهواء الذي أتت نسماته مُشبعة برائحة الأسماك، وأراح يده المُقيدة على السلك قائلا: إنه أشرف على الخمسين، لكن ما زال أمامه الكثير، ورغم الهواجس لم يحدس أنه لم تتبق سوى أشهر قليلة".

ألا نُلاحظ أن قطع الروائي هنا حينما تحدث الراوي مع صديقه عن الإسكندرية له علاقة وثيقة بالعمل الروائي ككل؟ فهو هنا يتحدث عن المُناضل السياسي الشيوعي شهدي عطية- ابن الإسكندرية- الذي تم قتله نتيجة للتعذيب الوحشي داخل المُعتقل- والذي أحرج مقتله في المُعتقل جمال عبد الناصر في الوقت الذي كان فيه في يوغوسلافيا- لا لجريمة ارتكبها، بل لمُجرد أنه ظن بأن هذا الوطن ملك له، من حقه إبداء رأيه فيه، أو الاعتراض على ما يراه غير صحيح في نظامه السياسي الجديد بقيادة جمال عبد الناصر الذي نكل بالجميع- شيوعيين وإخوان مُسلمين- ولم يسمح لأحد بمُمارسة حقوقه في الحياة، أو إبداء الرأي في أي شيء.

لذا، فهو على طول الرواية لا يستطيع التخلص من عبء عبد الناصر وما قام به باتجاه الجميع، فهو يشعر بثقل ظله الذي لا يفارق أحد، بل يظل كالشبح المُطارد لجميع الشخصيات أينما كانوا، وأينما اتجهوا؛ فالنظام العسكري البوليسي جاثم على الجميع يكاد أن يزهق أنفاسهم، يتدخل في حيواتهم، وكل تفاصيلها، وقادر على إنهاء هذه الحيوات في أي لحظة إذا لم يرقه ما يفعله الأفراد في حيواتهم التي تخصهم، نُلاحظ ذلك في: "قلت: آن لك أن تتزوج يا صبري. ماذا تفعل؟ تنهد: كما يفعل الجميع. وأشار إلى صورة سعاد حسني- في إشارة منه إلى مُمارسته للعادة السرية- قلت: والروسيات؟ قال: هذا آخر ما يجب أن تفكر فيه، وإلا وجدت نفسك في القاهرة، ووُضعت هي على الطائرة الذاهبة إلى موسكو"، أي أن مُراقبة الأمن للجميع تمنعهم حتى من مُمارسة حيواتهم بشكل طبيعي، وإقامة أي علاقة إلا بأمرهم، ورضاهم! فمُجرد إقامة علاقة ما مع إحدى الروسيات اللاتي يعملن في موقع السد من شأنه إنهاء عمل الشخص، فضلا عن ترحيل الروسية إلى بلدها التي لا يختلف نظامها الشمولي شيئا عن نظام عبد الناصر.

إنها الثورة، أو ما أُطلق عليه وصف الثورة، والتي ظن المصريون حينها فيها خيرا، وأنها ستنقلهم إلى آفاق من التحرر والتقدم، والكرامة الإنسانية، والثراء مما لم يعرفونه من قبل، لكنهم فوجئوا بأن فترة الاستعمار الملكي كانت أفضل لهم من حُكم أبناء البلد الذين فرضوا نظاما عسكريا قاهرا على الجميع، وتم الإلقاء بالجميع في المُعتقلات لإرهابهم، وتعذيبهم، بل وقُتل الكثيرين منهم بسبب هذا التعذيب، مما يعني أن هذه الثورة "المُباركة" قامت على الديكتاتورية في كل شيء، ولعل أولى هذه الأفعال الديكتاتورية تبدت لنا في تأميم أموال المواطنين، ونزعها منهم بلا وجه حق، وباسم الوطنية: "قال وأنا أستقر إلى مقعد بجواره: جاءك الفرج يا عم، يمكنك أن تنقل حاجياتك الآن إلى قصري. فراش وغسيل وثلاث وجبات يوميا دون مُقابل. أحضر لي الجرسون زجاجة بيرة، وقال سعيد: إنه التقى في الظهر بوكيل الوزارة، وحدثه عني؛ فقام إلى التليفون واتصل بالشركة، ورحبت باستضافتي لأنها تريد تحسين العلاقات مع الهيئة، كما أنها تهتم بالدعاية لنفسها أكثر من بقية الشركات الأخرى المُشتركة في المشروع. سألته عن السبب؛ فقال: إنها تدخل معركة حياتها ليستمر إعفاؤها من التأميم بعد انتهاء السد، ولذلك تقوم ببناء فيلات فخمة لكبار رجال الحكومة بأسعار بخسة لا يتصورها عقل"، أي أن ديكتاتورية النظام الناصري الثوري الذي رأى الاستيلاء على أموال الناس، وثرواتهم حقا مُكتسبا من حقوق نظامه باسم الوطنية والانتماء، وبناء البلد؛ قد أدى إلى أن يعيش الجميع في حالة من القلق والخوف من فقد أموالهم، وهو ما يجعل هذه الشركة تلجأ إلى النفاق، وبناء الفيلات بأسعار بخسة لرجال الدولة الذين قد ينقذونها من أن يتم تأميم أموالها رغم أنها لا تسرق أحدا، ولم تأتِ بأموالها من طريق غير مشروع، بل تعمل من أجل استثمار هذه الأموال، ومن ضمن هذه الأعمال عملها في السد- وهو مشروع وطني بالتأكيد.

إذن، فالخوف هو المُحرك الأساس في دولة جمال عبد الناصر الديكتاتورية، والجميع يخشى الجميع، والكل يشعر بأنه مُراقب، وتحت ضغط، ومن ثم فلا بد أن يسود تيار عام- قد لا يعلن عنه أصحابه، وإن كان يضغط على نفوسهم- بخيبة الأمل مما وصلت إليه الثورة التي كانوا يظنون بأنها المخرج لهم نحو مُستقبل أفضل: "قال سعيد كلنا بدأنا بأحلام عريضة، ثم ما لبث كل شيء أن جف. أقول لك الحق؟ لم أعد أرغب في كتابة شيء على الإطلاق، أصبح كل ما أكتبه ممسوخا مائعا بلا روح. مقالات تتوه في سراديبها، ولا هدف لها إلا تبرير كل شيء. قلت: لا تقل لي أنك لم تكن مُقتنعا بكل ما تكتبه. قال: كنت أقنع نفسي. لقد كانت هناك أشياء ضخمة، وكنا جميعا نتجاهل الجوانب الأخرى عن عمد. ألم تكن السجون حاشدة؟ وكنا أيضا نجني شيئا من الثمار".

إنها الثورة التي بدلا من أن تُكسب أبناء الوطن حريتهم، والحلم فيما هو أفضل، أدت بهم إلى اليأس من المُستقبل الذي انغلق معه الأفق أمامهم، فضلا عن اعتقالهم، وتجريدهم من الكرامة الإنسانية، وإغراقهم في المهانة التي تجعل المرء في النهاية بلا قيمة، ولا معنى لحياته، وهو ما يجعل صُنع الله إبراهيم طوال العمل الروائي يسقط مجموعة من الإسقاطات التي ينتقد من خلالها العسكر وحُكمهم، ومُمارساتهم؛ لذا يتوجه الراوي بسؤاله لمُدير إدارة المركبات، وهو رجل عسكري: "فكرت بسرعة ثم سألته: ما هو في رأيك سر النجاح الذي سجله العمل في السد حتى الآن؟ أجاب على الفور: السر هو النظام والطاعة المبنيان على الخوف. لا تظن إني ضد الديمقراطية. خذ هؤلاء العمال مثلا، إنهم يستطيعون دخول مكتبي في أي وقت. أخرجت مُفكرتي، وتظاهرت بتدوين أقواله. اعترضني قائلا: لا داعي لكلمة الخوف هذه. الأفضل أن تقول: النظام والطاعة المبنيان على الإقناع، حتى لا يُسيء أحد الفهم"، وهو ما يؤكد على أن العسكر هنا لا يعرفون سوى الخوف، والخشية، وإذلال الآخرين للوصول إلى أهدافهم، فالعمل المُنتظم- من وجهة أنظارهم- لا يمكن له الاستقامة إلا مع الخوف والترهيب للآخرين! وهو ما نقرأه مرة أخرى حينما يرغب الراوي وسعيد- باعتبارهما صحفيين يقومان بتغطية المُعجزة المصرية في بناء السد العالي- في ركوب إحدى السيارات المارة، وطلبا من أحد الجنود إيقاف سيارة لهما: "صعدت يتبعني سعيد، وجاء في أعقابنا عامل صعيدي ذو شارب ضخم يرتدي جلبابا ملونا، وعندما حاول أن يصعد خلفنا مُباشرة، جذبه الجندي من ذراعه، وسأله عما إذا كان قد سمح له بالصعود. توقف الصعيدي واجما، ورفع الجندي يده وهوى بها على قفاه، ثم سأله عن بلده؛ فقال وقد انحنى رأسه تحت كف الجندي: إنه من قوص"، أي أن القهر هنا يدور في حلقة مُفرغة لا يفارقها ليصيب الجميع؛ فالجندي الذي يلاقي الكثير من الإذلال على يد رؤسائه من الضباط، يقوم بإسقاط هذا القهر والإذلال على المواطن العادي الذي لا يمتلك الرد عليه، ورغم أن ركوب أي سيارة في موقع العمل هو أمر مُتاح للجميع، إلا أن الجندي هنا رغب في إبراز سطوته على الأضعف منه، بل وإسقاط القهر الذي يلاقيه على الآخرين!

إن الأنظمة الديكتاتورية في أي مكان من العالم لا يمكن لها الاختلاف في سماتها الرئيسية، وأفعالها الظالمة التي تقوم بإسقاطها على المواطنين؛ لذا فهي تتشابه في كل ما تفعله، سواء كان ذلك في مصر، أو في الاتحاد السوفيتي، أو في يوغوسلافيا، أو غيرها من الأنظمة في أي دولة من الدول؛ لذا حينما تحكي تانيا الروسية للراوي عن حياتها وما حدث فيها تحت ظل النظام الشيوعي، يسألها عن أبيها: "وأبوك؟ قال لها فاليري شيئا بلهجة حادة، فهزت رأسها في عناد دون أن تنظر إليه: أبي لم أره مُطلقا، فقد اعتقلوه قبل أن أولد بشهر، وظل في المُعتقل حتى مات. تأملتها حائرا ثم سألت: من هم الذين اعتقلوه؟ أجابت: رجال ستالين، من غيرهم؟ عدت أسأل: وماذا فعل؟ لا شيء، هل تظن أنه كان من الضروري أن تفعل شيئا لتُعتقل؟ ربما كان ضد الاشتراكية. لم يكن هناك من هو أكثر منه إخلاصا وإيمانا بالحزب، وستالين نفسه"!

إذن، فالجميع رهن الاعتقال في أي لحظة، وليس من الضروري أن تكون مُعارضا للنظام السياسي، ومهما كنت مُؤمنا بهذا النظام، مُباركا له، مُتبعا إياه بشكل يقيني؛ فأنت عرضة للاعتقال تحت أي مُبرر، وهو ما يتضح مما حدث لوالد تانيا الذي كان شديد الإيمان بالحزب وبستالين نفسه، لكن هذا الإيمان لم يمنع من اعتقاله، بل والموت في المُعتقل، وهو ما لم يمنع أيضا اعتقال صُنع الله إبراهيم نفسه الذي كان مُؤمنا بعبد الناصر، ونظامه العسكري الديكتاتوري!


هذه الأنظمة التي يجلس على رأسها الطاغية- الذي يبدو للجميع دائما في صورة الأب، والمُخلص، والراعي الطيب- لا يظهر لنا بمثل هذا الشكل الطيب إلا من خلال آلة إعلامية ضخمة يتم تكريسها بالكامل من أجل خدمة هذه الأنظمة، والعمل على تجميل صورتها، والدعاية لها ليل نهار، وهي أسلوبية تتبعها جميع الأنظمة الديكتاتورية بالسيطرة على الآلة الإعلامية، واعتبارها ملكية شخصية لا يمكن أن يخرج منها إلا ما هو في مصلحة الأنظمة، والاقتراب بها من منزلة الملائكية؛ لذا لم يفت نظام عبد الناصر هذا الأمر، ونجح في عسكرة الإعلام، والسينما، والتليفزيون، وكل ما يحيط بنا من أجل النظام المُبارك- كما كان يروج له الإعلام- ومن هنا كان الدعاية لمشروع السد العالي باعتباره أهم المشاريع التي تقوم بها الثورة من أجل بناء إنسان ثوري جديد تحيط به كل الظروف الإنسانية والحضارية، لذا حينما يقرأ الراوي الصحيفة وما كُتب فيها من موضوعات إنسانية تخص من يعملون في السد العالي يقرأ: "عدت إلى موضوع القصص الإنسانية، كان كاتبه يقول: إن كل من يعمل في السد يستطيع أن يقوم بإجازة حينما يشاء، لكن أحدا لا يرغب في ذلك. وكل سائق أُعطي ترمسا للشاي، كما زود بوسادة من المطاط تمتص العرق، وتُجنبه الإصابة بالروماتيزم، وبنظارة أنيقة تحمي عينيه من وهج الشمس. سألني السائق بغتة، وهو يتطلع إليّ في مرآته، إذا كنت قرأت موضوع القصص الإنسانية؛ فأجبت بالإيجاب. قال: أنت شوفت سيادتك سواق لابس نضارة شمس، وشايل ترموس؟ قلت: لم أنتبه إلى شيء من ذلك. قال: وحكاية الإجازات دي، تعرف إن الوزير مانع الإجازات كلها؟ تصفحت بقية العناوين. توقفت عند صورة أسد ضخم، وقرأت أسفلها أنه بكى من التأثر في مطار القاهرة عندما وضعوه في طائرة المُغادرة"!

ربما نُلاحظ هنا مدى الكذب الإعلامي الذي يقوم نظام عبد الناصر بتسويقه عن الديمقراطية، ومشروع السد، والإنسانية التي يتعاملون بها مع العمال في السد رغم مُخالفة كل ما يُكتب للواقع الحقيقي، لذا فحينما يخبره السائق بأن الوزير قد منع أي شكل من أشكال الإجازات، لم يعلق الراوي الذي يحكي ويشاهد من الهامش، أو من الخارج، ولا يحاول التورط فيما يدور من حوله، بل سارع صُنع الله بجعله يعود إلى الصحيفة مرة أخرى عند عنوان يوغل في الكذب، والمُبالغة اللاعقلانية، بل والسُخرية أيضا، وهو ما يخص الأسد الذي بكى لأنه سيغادر مصر التي يصورها الإعلام المُزيف باعتبارها جنة الله على الأرض تحت سطوة جمال عبد الناصر، وإدارته البوليسية.

إنها الإدارة البوليسية التي تحاول إحكام قبضتها الأمنية على الجميع حتى لا تعطي لأحد الفرصة في التفكير، أو الاعتراض، أو التعبير عن رأيه، أو حتى يحاول امتلاك حريته وكرامته، بل يظل طوال الوقت أسير الخوف، والخشية من الاعتقال، وهو ما عبر عنه حينما أخبره العامل النوبي "فقير" بأن ثمة من يسأل عنه طوال الوقت: "قال عندما رآني: إن أحد موظفي الشركة كان هنا مُنذ قليل، وسأل عن موعد مُغادرتي الاستراحة. سألته في إعياء عما إذا كان يعرف هذا الموظف من قبل. قال: أول مرة أشوفه. قال: إنه يشتغل في الشركة، وفي الأول سألني عن مواعيد خروجك، واللي بيزوروك. عدت إلى الغرفة واستلقيت على الفراش أدخن".

بالتأكيد نستطيع من خلال هذا الاقتباس اليقين من أن هذا الشخص الذي يتابعه سائلا عنه، وعن مواعيد خروجه، وعمن يزوره لا يمكن أن يكون موظفا في الشركة، بل هو من أفراد الأمن الذي يراقبه، ولعله لا بد لنا الالتفات هنا إلى نوعية الأسئلة الأمنية التي تم توجيهها للعامل النوبي "فقير"، والتي لا يمكن أن تكون مُجرد أسئلة بريئة من أحد عمال الشركة؛ لذا لا يفوت الكاتب هنا سوق شهادة مُهمة على ما فعله نظام عبد الناصر بالمُعتقلين من اليساريين، وغيرهم- لا سيما مُحاكمة شهدي عطية- رغم أنهم لم يرتكبوا أي جريمة يستحقون عليها العقاب، فنقرأ من خلال القطع إلى ما لاقاه في المُعتقل، هو وغيره: "جاء هواء الصباح من خلف الجدران الحديدية مُحملا برائحة البحر، وقال عبد السلام: إن معدته تنقلب كلما حل في الإسكندرية، وجعل يذرع الزنزانة رائحا غاديا وهو يضغط معدته بيده، وقال: إن لم يفتحوا لنا الآن لنذهب إلى المراحيض سيفعلها في جردل البول، ورأينا من ثقب المفتاح سجينا بالسروال السكندري ذي اللية يمشي على مهل وهو يجفف وجهه بمنشفة، وقلت: إن دورنا لم يحن بعد؛ فأسرع إلى جردل البول واستوى فوقه، واصطدم المفتاح في قفل الباب الحديدي بعنف، وانفرج عن عدد من الحراس يحملون أحزمتهم الجلدية في أيديهم، انهالوا بها علينا وهم يصيحون بنا أن نتجرد من ملابسنا، وساقونا عرايا إلى الخارج حيث اصطف عدد آخر منهم على جانبي العنبر، وقد أشرعوا أحزمتهم في أيديهم، وجعلونا نجري بين الصفين والأحزمة تنهال علينا، ثم أعادونا إلى الزنازين، حيث دفعنا حارس عجوز للركن وقلب جردل البول الذي ملأه عبد السلام فوق جسدينا، وبقينا عرايا نرتعش من البرد، نحاول إزالة ما علق بأجسادنا من فضلات الجردل، ثم علا صوت الراديو بنشيد "وطني"، وأعقبته مُوسيقى كلاسيكية، قال عبد السلام في حماسة إنها "لبيزيه"، وعندما اقتادونا إلى المحكمة، كان بعضنا مُجللا بالأربطة البيضاء، وقالوا: إنها شاهد على ما قمنا به من العدوان على الحراس العُزل، ولم يكن هناك غير المُحامين ورجال المباحث والبوليس وبعض الأمهات والزوجات الحائرات، واهتزت أرداف المُدعي السمينة كما تهتز المرأة الحبلى، وسوى وشاحه الرسمي، ولعلع صوته، وقد أُضيف مجد جديد إلى سجل أمجاده الحافل بقضايا الاحتيال والجواسيس والإخوان المُسلمين، وفي الأعلى أسند الجنرال، قائد الجيوش البرية، خده إلى راحته اليمنى مُستمتعا بما يجري، وخلفه مساحات شاسعة من الأراضي، وتاريخ من سطوة الإقطاع، ومعارك وهمية لم تُطلق فيها رصاصة واحدة، وابتسم لأطفاله الموردين في بياض نسل الأتراك الذين جاء بهم ليشهدوا نهاية ثورة العبيد، وأسبل قاضي اليمين جفنيه على إغفاءة سريعة، بدت كالتفكير العميق، فمُعاملات الاستيراد والتصدير تستهلك الجهد الكبير، ولم يرفع قاضي الشمال عينيه عن صديقته الملونة التي جلست في الصف الأول، تشهد مدى سطوته، حتى انتصب الجسد الفارع داخل القفص، وعلا رأسه الذي لم تشوهه آثار الجدري عن مستوى القضبان، وحول أسنتها التفت أصابعه الطويلة، وكان عبثا أن راح يجادل بالمنطق ويقول: إنه لا يمكن أن يعادي حكومة تبني السد"!

ربما نُلاحظ هنا مدى القهر الذي يتعرض له المُعتقلين السياسيين على أيدي حراسهم في المُعتقلات، ورغم هذا القهر، فلقد تم اتهامهم بأنهم هم من اعتدوا على الحراس العزل، لكن، تتبدى لنا السُخرية العميقة هنا في هذا الاقتباس في أنه بعد الانتهاء من تعذيبهم، وضربهم، وإهانتهم أن السجن قد شغل لهم مُوسيقى وطنية، وهي السُخرية التي تأخذ مداها الأقصى حينما يؤكد لهم شهدي عطية في المحكمة أنه لا يمكن له مُعاداة حكومة تبني السد! وهو ما يؤكد على رومانسية هؤلاء المُعتقلين السياسيين الذين غُرر بهم باسم الثورة، وما تقوم به من أجل هذا الوطن من أوهام لا يحدث منها أي شيء، تماما كما ذكر الكاتب في الاقتباس عن المعارك الوهمية التي لم تُطلق فيها رصاصة واحدة، وإن كان النظام عمل على الترويج لها باعتبارها نصرا عظيما من انتصاراته العديدة!

إنها جريمة النظام التي يؤكد عليها صُنع الله غير مرة، لا سيما في مشهد مقتل شهدي عطية داخل المُعتقل تحت تأثير التعذيب: "الجنود صفان مُتقابلان، كعهدهم دائما، وعصيهم الغليظة تشق الهواء جزافا، والصيحة المتوحشة تأمر بالجري بينهم حتى الساحة، وهناك استقرت منصة مُرتفعة جلس خلفها الجنرال بملابسه العسكرية، والشارة الحمراء التي تدل على رتبته الرفيعة، وحوله النظارة الذين جاءوا خصيصا ليشهدوا الحفل، وقد ارتدوا جميعا نظارات سوداء، وانهالت الضربات على الرؤوس والصدور والظهور، بالقضبان والأقدام والعصي والأحزمة الجلدية والنبابيت والشوم وكعوب الأحذية العسكرية، وجُرد الضحايا من ملابسهم، واقتيدوا واحدا بعد الآخر أمام الجنرال، ليتفقد بعينيه أحجام رجولتهم، ثم سُحلوا عراة فوق الرمال، حتى الوحش الآدمي ذو العينين المجنونتين الذي اندفعت قبضته السمينة في الهواء، وقد لمعت فوقها بقعة من الدماء الطازجة، وبعد ذلك كان الدوران عشرات المرات حول العنبر الحجري الطويل، وداخله كانت هناك الأرض الحجرية العارية، والدماء التي تنزف من الظهور، والهذيان، وفقدان الوعي، وفي المساء أُضيء النور؛ فتبدت معالم المكان، وظهر الفراغ الذي تركه إلى الأبد الجسم العملاق، والوجه الذي لم تفلح آثار الجدري في تشويهه"، أي مقتل شهدي عطية من أثر التعذيب.

إذن، ففي الوقت الذي كان يتم فيه تعذيب وقتل المُعتقلين من أبناء هذا الوطن لمُجرد أنهم صدقوا ما أُطلق عليه اسم الثورة، وصدقوا أنهم مواطنون لهم رأيهم، ويمتلكون حريتهم وكرامتهم، كان هناك آخرون من أبناء هذا الوطن ما زالوا يصدقون الثورة النبيلة- كما يتم تصويرها- ومن ثم كانوا على أتم الاستعداد بالتضحية بحياتهم من أجلها، ومن أجل مشاريعها- فهم لم يصبهم الدور بعد- وهو ما اتضح في: "مال عليّ فوزي وهو يهز إصبعه في وجهي: لا تظن بأننا لم نكن سُعداء في المرحلة الأولى- يقصد المرحلة الأولى من بناء السد- لم نكن نملك وقتا للتفكير، لا في عائلاتنا، أو في المُستقبل، أو النساء. كان لدينا عمل واضح مُحدد هو هدم الصخور، ثم نقلها وإلقاؤها في النهر حتى تعترض مجراه. وكان هناك هدف مُحدد هو سد النيل، وفتح القناة الجديدة في آن واحد. كان النهر يعج بالحركة والحماسة طوال الوقت. الجميع يتسابقون للحاق بيوم 14 مايو 1964م، وجميعهم على استعداد للتضحية بحياتهم ببساطة"، أي أن بناء السد هنا قد تحول بالنسبة للمواطن- الذي لم يصبه الدور بعد، وما زال يصدق ما يتم تصديره إليه- بأنه في مهمة وطنية لا بد له فيها أن يُساند النظام الذي يبني جمهورية جديدة، هي جمهورية الأمل والكرامة والحرية.

هذا الوهم بوطنية هذه المهمة قد جعلت الجميع منهم مُستعدين للتضحية بحياتهم، تماما كما فعل فوزي- مُهندس التفجير- حينما روى للراوي الأمر: "كان فوزي يواصل الحديث: يوم التحويل مثلا كان يوما هائلا، كنا سنُجن من الحماسة، وكان هناك سدان مُؤقتان من الرمال في طريق القناة الجديدة، كان لا بد من نسفهما أولا حتى تنطلق المياه من القناة، وعندئذ تُغلق آخر ثغرة في السد. وانفجر السد الأمامي، ولكن الخلفي لم ينفجر، وأصبح كل شيء مُهددا في دقائق، فقد كان بوسع المياه أن تجتاح أساس محطة الكهرباء وتُدمر السد الرئيسي. ملأ كوبا جديدا من البيرة، أفرغه عن آخره، ومسح فمه بظهر يده: كنت أنا المسؤول عن تفجير السد الخلفي، وأدركت أنه لا بد من الغوص فورا، لمعرفة السبب بالرغم من أن الديناميت قد ينفجر في أي لحظة، فخلعت ملابسي وغصت، ووجدت الأسلاك مقطوعة فربطتها".

جمال عبد الناصر

إن الثورة/ الانقلاب العسكري الذي قام به جمال عبد الناصر وزملائه من ضباط الجيش نجحت في إيهام المصريين بأنهم سيمتلكون إرادتهم، ووطنهم، وكرامتهم، وهو ما أكسبهم قدرا هائلا من الشوفينية التي تفشت بشكل سريع بين الجميع، ومن ثم بات الكل يتحدث باسم الوطنية والانتماء الفارغ ليل نهار، مُضخما من صورة المصري الوطني الذي لا يشبهه أحد، حتى لو كان تضخيم هذه الصورة الوطنية بإنكار الوقائع التي تحدث أمام عينيه: "قال فوزي: العمال الروس مُدهشين، رأيت مرة واحدا منهم عندما انهار النفق الثاني. كلنا جرينا وتركنا آلاتنا خلفنا، أما هو فرفض أن يتحرك بدون الحفارة التي كان يسوقها، وظل يعافر بجنون ليخرجها. تعرف ماذا فعل؟ دق الكباشة في الأرض، وجعل يقفز بالحفارة إلى الخلف حتى أخرجها من النفق. وتحول إلى سعيد وهو يهز إصبعه: هذا لمعلوماتك فقط، وليس للنشر؛ فنحن لا نريد أن نعطي صورة سيئة لعمالنا، ونُبالغ في تقدير الروس. قال سعيد: لا تخشى شيئا، فلست أريد أن يُقال: إني شيوعي، أو إني مُصاب بعقدة الأجنبي، وعاجز عن رؤية المُعجزة المصرية"! ربما نلحظ هنا في نهاية الاقتباس السابق قدرا هائلا من السُخرية التي يتقصدها الروائي في جملة: "وعاجز عن رؤية المُعجزة المصرية"، فهي في حقيقتها مُعجزة روسية حدثت أمام أعين الجميع.

هذه الكوارث التي تحيق بالعديد من البشر تحت مُسمى الوطنية، والانتماء، والثورات لا يقصره صُنع الله إبراهيم هنا على المصريين وثورتهم فقط، بل تعداه إلى كافة الأنظمة الشمولية الأخرى والتي كان منها النظام السوفيتي المتعاون مع النظام المصري المُطابق له، ولنتأمل: "استقبلتنا امرأة ضخمة ذات وجه جامد لا يعرف الابتسام، قال ياكونوف، وهو يقدمها لنا: إنها مُهندسة، ولها في بلادنا عدة شهور. سألها سعيد عما إذا كانت تعيش مع أسرتها؛ فاحمر وجهها وقالت: إنها بمُفردها. ثم أضافت بعد لحظة: إنها فقدت زوجها في الحرب، وليس لها أطفال. ران علينا الصمت، وهربت بعينيّ إلى صورة لينين المُعلقة على الحائط فوق رأس المُديرة".

إن انتقال الراوي بعينيه إلى صورة لينين المُعلقة فوق رأسها كان خير تعليق منه، وفيه قدر غير هيّن من الإيجاز والفنية والبلاغة، مُستخدما آلية الكاميرا السينمائية التي تنتقل إلى الشيء المُتسبب في الجريمة من دون إطلاق أي تعليق آخر مُباشر من شأنه إفساد فنية النص الروائي. فلينين هنا هو السبب في مأساتها التي تعيشها، تماما كما كان عبد الناصر هو السبب في العديد من المآسي التي حدثت للكثيرين من المواطنين باسم الثورة والانتماء!

محاولة الروائي هنا التأكيد على تاريخ الكذب، والطغيان تتضح لنا هنا بينة جلية بعودته إلى التاريخ المصري القديم للتماهي مع ما قام به جمال عبد الناصر، وما فعله الملك رمسيس الثاني بشكل فني بديع، لا عمدية فيه بقدر ما جاء الأمر بسلاسة مُقنعة، وهو ما قرأناه حينما وصل الراوي إلى أبي سنبل وزار معبد رمسيس الثاني؛ فسأله خليل الآثاري: "سألني: قل لي، ماذا تعرف عن رمسيس الثاني؟ قلت: ليس كثيرا، ما زلت أذكر من أيام المدرسة أنه خاض معركة كبيرة في آسيا، وانتصر فيها على الحيثيين. قال: بالعكس، لقد هزموه شر هزيمة، لكنه زعم عند عودته أنه انتصر عليهم. قلت: أذكر أيضا أنه عاش كثيرا. قال: 92 عاما. قلت: وكان زير نساء. قال: 23 زوجة، و178 من الأولاد والبنات. قلت: وإنه بني أبي سنبل، وسلسلة كبيرة من المعابد على طول النيل. قال: واغتصب كثيرا من المعابد التي بناها أسلافه، بل أزال اسم أبيه من أحد المعابد، ووضع اسمه مكانه. سألت: أوديب؟ أجاب: ربما، أزال أيضا كل أثر لشقيقه الأكبر عندما تولى، ونقش في أبيدوس أنه أكبر أبناء أبيه. قلت: إنه إذن فرعون الأكاذيب".

إذن، فأكاذيب التاريخ تتماهى مع الأكاذيب الحالية، ولعل الجملة الأخيرة في الاقتباس السابق "إنه إذن فرعون الأكاذيب" تنطبق كلية على جمال عبد الناصر بدوره الذي كان فرعونا للأكاذيب في الكثير من الأمور، أي أن صُنع الله هنا يعود إلى التاريخ ليتخير منه العديد من المواقف التي قام بها رمسيس الثاني والمُماهاة بينها وبين ما قام به جمال عبد الناصر؛ فرمسيس لم ينتصر على الحيثيين كما سجل على جدران معابده، بل هُزم شر هزيمة، وهو ما حدث تماما مع جمال عبد الناصر في يونيو 1967م حينما كان إعلامه يذيع بيانات حماسية للمواطنين مُؤكدين لهم بأنه قد تم الانتصار على العدو، وبأن جيشنا قد اقترب من تل أبيب في الوقت الذي هُزمنا فيه هزيمة ساحقة على يد العدو، كما أن رمسيس الذي أزال اسم أبيه من على أحد المعابد ونسبه إلى نفسه يتشابه مع عبد الناصر الذي لجأ نظامه إلى حذف كل ما يمت للملك فاروق بصلة في جميع أفلام السينما السابقة على الثورة؛ مما أدى إلى تقطيع هذه الأفلام وحذف كل ما يشير إلى الملك فيها، فضلا عن نسبة الثورة إليه ولمن معه من الضباط مُتناسين في ذلك اللواء محمد نجيب الذي لولاه لما كان هناك انقلابا عسكريا على الملكية، وهو ما يتقابل مع ادعاء رمسيس الثاني بأنه أكبر أبناء أبيه.

إنه ما يؤكد عليه الروائي بشكل صريح مرة أخرى حينما يسأل الطبيب الراوي: "سألني الطبيب: لماذا لا يعجبك رمسيس الثاني؟ إنه أكثر شخصية تتمثل فيها عبرة التاريخ. تساءلت: كيف؟ قال: ألم يحك لك خليل عن تاريخه؟ سبعون سنة من السُلطة، أي الكذب، والفجور، والقتل، والادعاء، والغرور، والاستعباد، وها هو ما زال يعيش حتى أيامنا، ونحن الآن نعمل ليل نهار ليُخلد اسمه. تماما كما أراد. قلت: ولماذا لا نقول: إننا نُخلد الفنان المجهول الذي نحت هذه التماثيل؟ انفجر ضاحكا: الفنان المجهول كالجندي المجهول، الضحية التي ينساها الإنسان بسرعة البرق".

ألا نُلاحظ هنا وجه التطابق ما بين كل من رمسيس الثاني الذي خلده التاريخ حتى اليوم رغم كل ما قام به من جرائم وأكاذيب، وبين جمال عبد الناصر الذي ما زال مُخلدا، والذي يعمل الكثيرون على تخليده وتبييض صورته رغم كل الجرائم التي ارتكبها بمُساعدة نظامه العسكري مع المواطن المصري؟

إذن، فالتاريخ يعيد نفسه بنفس الطريقة تقريبا على فترات مُتباعدة كما يرغب صُنع الله الإشارة في إلى ذلك، أي أن الطغاة لا يذهبون إلى الفناء- كما يظن المثاليون- ولا يمكن نسيانهم، بل يتم تخليدهم، وتأبيدهم في الوقت الذي يتم فيه تناسي العظماء والنبلاء الذين قاموا بالعديد من الأعمال الخيرة التي من شأنها أن تعمل على تخليدهم، ولكن، ليس هذا هو المنطق الذي يعمل به التاريخ، فالمنطق هو التخليد للطغاة أكثر من تخليد النبلاء.

لذلك يحاول الروائي من خلال آليته الروائية التي جعلها أداة أساسية للسرد الروائي- أي القطع على التوثيق من التاريخ للتماهي مع الحاضر- الإيغال في توضيح هذه الحقيقة- الكذبات الكبرى التي يخلدها التاريخ- حينما نقرأ: "قال خليل: لقد نجا رمسيس من الموت في هذه المعركة بفضل حرسه الخاص من الجنود الذين أحاطوا به من كل جانب. لكن النقوش لا تشير إليهم بحرف، أما هو فقد صب اللوم كله فيما حدث على جنوده، ووصفهم بأنهم جبناء مع أن المسؤولية كلها تقع عليه. كيف؟ هو الذي اتخذ قرار الحرب، وأسرع بجيشه دون أن ينتظر حتى أن تلحق به بقية قواته. وهو الذي صدق رواية الأسيرين، ولم يعبأ بأن يتحقق من صدقها".

ربما لا بد لنا هنا من تأمل الاقتباس بتمعن؛ فرمسيس كان هو المُخطئ، وهو المُتسرع في اتخاذ القرار مما أدى إلى هزيمته أمام الحيثيين، وفي المُقابل فعل جمال عبد الناصر نفس الأمر في حرب يونيو 1967م مما أدى إلى هزيمته، فضلا عن أنه لم يعترف بالخطأ بدوره، بل خرج إلى الناس في ملهاة مسرحية ليعلن لهم تنحيه عن دوره كرئيس للجمهورية؛ مما جعل الشعب يتعاطف معه ويطالبه بالبقاء وعدم التنحي!

لكن، مع وصول صُنع الله إلى نهاية هذا الاقتباس السابق، سُرعان ما يقطع على التاريخ مُباشرة لنقرأ: "لم يكن أحد منكم هناك، لم يكن معي قائد، أو ضابط مركبة، أو ضابط من المُشاة، ولا حامل درع، فقد تركني مُشاتي فريسة أمام العدو، لم يقف أحد بجانبي، ويضع يده في يدي وأنا أحارب العدو. إن الأجانب الذين شاهدوني سوف يخلدون اسمي حتى في البلاد النائية التي لم يسمع بها أحد".

صُنع الله إبراهيم

رغم أن هذا المقطع السابق استقاه صُنع الله من بطون التاريخ- فهو حديث رمسيس الثاني بعد الانتصار المزعوم على الحيثيين- إلا أنه يحمل قدرا ليس بالهيّن من السُخرية- سواء من رمسيس أو من جمال عبد الناصر بدوره- فهو هنا يدعي البطولة الأسطورية، يدعي انتصاره المزعوم على الحيثيين وحده فقط- من دون مُساعدة جنوده- يتجاهل تماما حرسه الخاص الذين أنقذوه من الموت، ويشير إلى بطولته في الانتصار وحده، بل وتصل المأساة الساخرة إلى حدها الأقصى في قوله: "إن الأجانب الذين شاهدوني سوف يخلدون اسمي حتى في البلاد النائية التي لم يسمع بها أحد"، لأنه بالتأكيد الأجانب الذين شاهدوه لن يخلدوا اسمه كما يدعي، بل سيتخذون منه مسخرة حينما يسمعون بادعاءاته التي يدعيها لمواطنيه من المصريين، في حين أن الواقع يختلف اختلافا بينا عما يدعيه، وعما شاهدوه!

يرغب صُنع الله إبراهيم هنا في التأكيد على أن كل طاغية يستطيع أن يخلق من نفسه أسطورة ليصدقها البسطاء، وغيرهم من المثاليين، والمُغرر بهم، ولعل حديث الريس سرور- صاحب الصندل الذي انتقل عن طريقه الراوي إلى أبي سنبل- ما يؤكد ذلك: "جلست على شبه وسادة صُنعت من أكياس الخيش، وأنا أسأله عن الأحوال. رفع يده إلى فمه، وقلبها ظهرا لبطن قائلا: نحمده، البحر وسع بعد السد ببركة ريسنا جمال، الريس دا والله نبي. سألته عن موعد وصولنا إلى أبي سنبل، فأجاب: علم الله، احنا في البحر ملك إيديه، فيه ملايكة شايلين البحر على سلاسل، وفي أيديهم كل حاجة"!

لاحظ هنا محاولة إضفاء القداسة على جمال عبد الناصر من قبل الريس سرور، وهو اليقين الذي بالتأكيد يؤمن به الكثيرون غيره من البسطاء، ليروا في عبد الناصر مُجرد نبي من الأنبياء المُصطفين الذين وهبهم الله إياه من أجل الاعتناء بهم، وبمصالحهم!

إن رواية" نجمة أغسطس" للروائي صُنع الله إبراهيم من الأعمال التي لا غنى عنها كوثيقة مُهمة استعرضت بأسلوب روائي مُختلف ما كان في هذه الحقبة الزمنية، وهي وثيقة حية، عايشها الروائي عن قرب، وحدثت أمام عينيه، وعانى منها، وشارك فيها، ورغم إيمانه الواضح والبيّن بنظام عبد الناصر، إلا أنه كان- مثله في ذلك مثل غيره من الوطنيين- من أولى ضحايا هذا النظام بإلقائه في المُعتقل- بما أنه من الشيوعيين- والتنكيل به، وتعذيبه.

لكن، يبقى أمامنا براعة صُنع الله إبراهيم في اختياره لأسلوبية روائية خاصة، يتقنها جيدا، وقادر على تطويعها من أجل التعبير عن عالمه الروائي الذي لا يتشابه فيه مع الآخرين، وهي الأسلوبية التي أطلقنا عليها "الحكي من الهامش"، أي اتخاذ موقع هامشي له على جانب العالم الروائي، والبدء في رصده، ومُتابعته، ووصفه من دون التورط فيه، أو محاولة أن يكون كراوٍ جزءا من هذا العالم، إلا أنه رغم هذه البراعة لا يمكننا تجاهل الفوضى اللغوية الكارثية، والفجائعية التي لاحظناها على طول الرواية، وهي الفوضى التي تجعل استمرار القراءة أمرا شديد الصعوبة لمن ينتبه إلى الأخطاء اللغوية، الكتابية، والنحوية، والإملائية التي تملأ العمل الروائي، أي أن العمل في حاجة ماسة إلى إعادة تدقيقه، لتعديل هذه الفوضى ونشره مرة أخرى سليما.

 


محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد سبتمبر 2025م.

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق