Interdisciplinary writing "الكتابة عبر النوعية"، أو التداخل ما
بين الفنون/ الأنواع أدى في هذه الفترة- التي تحدث فيها الخراط عنها- إلى ظهور
مُسميات فنية وأدبية جديدة؛ فعلى سبيل المثال بتنا نسمع عن: "القصيدة
القصصية"، و"القصة القصيدة"، و"قصيدة السرد"، وغير ذلك
الكثير من الأشكال الفنية التي نشأت لتتخذ لنفسها مجموعة من المُسميات التي كانت
جديدة على المُتلقي آنذاك، ولم يعهدها من قبل.
لكن، ربما كان موضوع المُسميات- أو إطلاق العديد من الأسماء والتصنيفات على
الأشكال الفنية التي تواشجت مع بعضها البعض- مُبالغا فيه، ويهتم بالشكلانية أكثر
من اهتمامه بالأسلوبية والفنية- أي بالجوهر- ومدى مُناسبة السمات التي أخذها أحد
الأشكال الفنية من غيره، ومدى مقدرة الأسلوبية المُستعارة من فن آخر على التواشج
في نسيج النص الأصلي لتضيف إليه جماليات أخرى كان في حاجة ماسة إليها، وأدوات فنية
قادرة على التعبير عما يرغبه الكاتب.
إن سبب ذهابنا إلى القول بأن الاهتمام والتركيز على إطلاق المُسميات على
الأشكال الفنية الجديدة الناشئة، كان من قبيل المُبالغات الشكلانية يعود إلى أن
هذه المُسميات لم تكن جوهرية لخدمة النص الناشئ في حد ذاته؛ فهي لم تهتم بدراسة
متن هذه الأشكال الفنية، وفلسفتها، وضرورة وجودها، وسماتها الفنية، ومدى مُناسبة
الأدوات أو الجماليات المُستعارة، وهل نجحت فيما سعت إليه أم لا، بقدر ما اهتمت
اهتماما بينا بدراسة شكلها، والسعي باتجاه التجنيس، وهو ما جعل هذه المُسميات
تختفي في نهاية الأمر، ليظل النص/ الشكل الجديد الناشئ من دون أي محاولة لتسميته،
أو زخرفته، أو إكسابه هوية ما بشكلها الشكلاني، وبالتالي بدأت هذه الأشكال الفنية
الجديدة تجد لها مكانا راسخا- يبدو لنا طبيعيا- من دون تدخلات شكلانية تعمل على
ليّ عنق الشكل النصي الجديد من أجل إكسابه شكلانيته التي لا ضرورة لها. كما رأينا
العديد من الأنواع الفنية التي تتبادل السمات الجمالية والأسلوبية من دون الاهتمام
بإطلاق مُسميات عليها، فضلا عن مُلاحظتنا- كقراء ونقاد- جماليات هذه المُبادلات
بين الأنواع الفنية، ومن ثم انصب اهتمامنا فيما بعد على جوهر النص وليس شكله؛ وبما
أن تبادل السمات الجمالية بين الفنون يحتاج بالضرورة إلى آليات نقدية جديدة تستطيع
التعامل معه، فلقد بدأ اهتمام الناقد ينصب على كيفية التعامل مع الجماليات
الجديدة، والاهتمام بتأويلها باعتبارها جزءا لا يتجزأ من نسيج النص، لا باعتبارها
جماليات دخيلة عليه، في حاجة إلى تكييفها؛ مما أدى إلى نشأة شكل جديد من النقد
بدوره، قادر على مُلاحقة تلك التطورات الفنية الجديدة.
إن رواية "ذكريات في الجحيم" نجحت في اجترارنا لهذه الأفكار؛ لا
سيما أن الروائي هنا قد برع إلى حد بعيد في تحقيق الاستعارة ما بين فنين مُختلفين
تماما، والعمل على المزج بينهما ليصبحا في النهاية نسيجا واحدا، يتقبله القارئ
ببساطة وطبيعية باعتباره شكلا/ نوعا فنيا مُعتادا رغم أنه شكل فني لم يقابلنا من
قبل، مما يعني أن للروائي هنا السبق في هذا الشكل الفني الجديد الذي أطلق عليه اسم
Anivel، وهو المُسمى الذي سيواجهنا للوهلة الأولى
على غلاف الرواية، لإثارة التساؤل عن المقصود بمثل هذا المُسمى، أو الاصطلاح، فضلا
عن اهتمام الروائي وحرصه على كتابة اسمه على الغلاف بهذه الكيفية YANAL J. مما يُدلل على أن ثمة شكلانية هنا يهتم بها الكاتب، وهي الشكلانية
التي سنُدرك فيما بعد ضرورتها لتناسب الشكل مع المضمون، وهو ما سيتأكد لنا مع
الانتهاء من قراءة الرواية.
لكن، قبل الدخول في عالم الرواية لا بد لنا من التوقف أولا أمام ما يُطلق
عليه اسم الـAnime الأنمي، وهو مُصطلح مُشتق في جوهره من
اختصار الكلمة الإنجليزية Animation. وكلمة أنمي
تعني الرسوم المُتحركة المرسومة يدويا، والمولدة حاسوبيا، والتي نشأت في اليابان.
في خارج اليابان- وفي الإنجليزية- يشير مُصطلح "الأنمي" تحديدا إلى
الرسوم المُتحركة المُنتجة في اليابان فقط، ورغم ذلك يُطلق مُصطلح
"الأنمي" في اليابان، واليابانية على جميع الأعمال المُتحركة، بغض النظر
عن أسلوبها أو أصلها. كما تُنتج خارج اليابان العديد من أعمال الرسوم المُتحركة
التي تُشبه الرسوم المُتحركة اليابانية في أسلوبها. وأحيانا ما تتضمن ألعاب
الفيديو مواضع وأنماطا فنية تُصنف ضمن فئة الأنمي.
ما الذي يجعلنا نحاول تعريف، وفهم معنى مُصطلح الأنمي الياباني؟
إن الرواية التي بين أيدينا- وربما هي للمرة الأولى في الرواية العربية-
يلجأ فيها كاتبها إلى المزج ما بين فن الرواية كما نعرفه بشكله التقليدي، وبين
الأنمي الياباني- الذي هو في حد ذاته رسوم مُتحركة، تعتمد بشكل جوهري على الرسومات
للتعبير عما يرغب الفنان في قوله، أي أن اعتمادها على السرد، أو الكتابة يكون أقل
بكثير من اعتمادها على الرسوم، فهي رواية مصورة- ورغم ذلك فالروائي هنا- من خلال
لغة حساسة، وثرية، وعميقة بالدرجة التي تجعلها قادرة على التعبير عن الصورة
الغائبة في الرواية- نجح إلى حد بعيد في المزج ما بين الفنين، وسماتهما الجمالية،
وآلياتهما، وأدواتهما؛ فصنع منهما معا شكلا فنيا جديدا، بالغ البراعة، والتشويق،
قادر على إبهار المُتلقي والسيطرة عليه حتى الجملة الأخيرة من روايته. وهو ما
يُفسر لنا المُفردة الإنجليزية التي أصر على تصديرها على الغلاف، والتي حاول فيها
النحت للخروج بمُسمى جديد لما ابتكره خياله، وهي كلمة Anivel، ولعلنا نُلاحظ أن النصف الأول من الكلمة المنحوتة تشير إلى فن
الأنمي الياباني، بينما النصف الآخر منها يشير إلى كلمة Novel والتي تعني رواية، أي أننا هنا أمام "رواية أنمي"،
خالية تماما من الصور المرسومة، وهي الصور التي استبدلها الكاتب ببراعته الوصفية في
الكتابة، والتي تجعل القارئ يرى رؤية العين ما يقرأه، كما أن الرواية هنا قد
استعارت آليات وأسلوبية كتابة الأنمي في شكل روائي بدا لنا طبيعيا تماما، لا غرابة
فيه، بل جعل الأحداث بالكامل تدور في اليابان، فضلا عن أن الشخصيات تتسمى بأسماء
يابانية.
إذن، فالروائي هنا، وللوهلة الأولى، يحيلنا كقراء إلى أنه سيقدم لنا رواية
لها علاقة وطيدة باليابان، وثقافتها، وفن الأنمي- وإن كان العمل الروائي النهائي
بالكامل محض خيال يخص الروائي، وكل ما هنالك أنه استعار الشكل فقط، وأسلوبيته،
وحاول مزجهما في موضوع روائي يخصه، خالٍ من الصورة المرسومة التي بدا غيابها
بمثابة تحدٍ فني كبير للكاتب، وهو التحدي الذي نجح فيه إلى حد بعيد.
ربما كان لجوء الروائي هنا إلى محاولة ابتكار شكل فني جديد، أو نوع فني
جديد، هو الدافع الرئيس إلى سعيه الحثيث لقلب المعايير، والمفاهيم المُستقر عليها
مع افتتاح روايته، بمعنى أن الكاتب كان حريصا مُنذ الجملة الأولى في الرواية على
التأكيد على نسبية المفاهيم، وعدم وجود يقين من المُمكن الارتكان إليه، وأن كل شيء
يحيط بنا قابل للتحول، والتغير، واكتساب أشكال، ومعانٍ، جديدة لم تكن تميزه من
قبل، فالعالم يسبح بأكمله في دينامية مُستمرة- الشكل الروائي الذي ابتكره بالتداخل
بينه وبين الأنمي الياباني هنا كمثال- كما أن العالم الذي يتحدث عنه الروائي،
وأحداثه بالكامل، بل وشخصياته تتميز بدورها بالتغير والتحول الدائم- سواء في
المفاهيم أو الانتماء- وعدم الاستقرار على شكل أو مفهوم مُعيّن، أي أن الروائي هنا
حريص على التناسب الدقيق ما بين الشكل والمضمون؛ وبالتالي تكون محاولته لزعزعة
المفهوم للوهلة الأولى من قبيل الفعل الفني الواعي، والمسؤول رغم عدم شعورنا،
كقراء، بقصديته التي نجح الروائي في إخفائها بشكل فني كامل بتواشج زعزعة المفهوم
مع الحدث الروائي وفلسفة عالمه التي يطرحها الكاتب؛ لذا نقرأ في الصفحة الأولى مع
افتتاح العالم الروائي: "الشر. كلمة ترددت على مسامعك مرارا، لكن، هل توقفت
يوما لتسأل نفسك: ما هي حقا؟ ما حقيقتها في نظرك؟ هل حاولت أن تغوص في أعماقها، أو
أن تراها من زاوية أخرى؟ غالبا لا، فالأمر مُرهق، ويحتاج إلى جرأة لا يمتلكها
الكثيرون. دعنى أرسم لك مشهدا: جندي في صفوف جيش وطنك، يتلقى أمرا صريحا باختطاف
عائلة رجل تصفه السُلطة "بالإرهابي". يعذبهم ببرود، لا لأنه يكرههم، بل
ليصل من خلالهم إلى ذلك الرجل قبل أن يسفك دماء الأبرياء. في كتب التاريخ، وفي
ذاكرة الشعوب، سيُخلد هذا الجندي على أنه بطل. سيُقال: إن ما فعله خير، وإن كان
الخير هذه المرة ملوثا بالدماء، فقد كان- كما يظنون- ضرورة لإنقاذ الكثيرين. أما
أنت. هل ستراه خيرا حقا؟ أم ستسميه شرا، مهما تجمل بمُبررات؟ هل التضحية بعدة
أفراد أفضل من التضحية بالمئات من الأبرياء؟ سواء وصفت الفعل السابق بالشر أو
الخير، ففي كلتا الحالتين ستُقر- دون تردد- أنه كان "ضروريا". لكن، تمهل
قليلا وأعد التفكير. ماذا عن عائلة ذلك "الإرهابي"؟ أليست في ذاتها
بريئة من جرمه؟ وإن قلت لي: هم مُذنبون بحُكم القرابة، أو: ما أصابهم تضحية لا بد
منها؛ فسأكتفي بابتسامة هادئة، وأعيد السؤال إليك من جديد: ماذا لو كنت أنت ذلك
"الإرهابي المزعوم"؟ هل ستظل ترى ما جرى لعائلتك أمرا ضروريا؟ أم ستصرخ
في وجه العالم بأن ما حدث جريمة لا تُغتفر؟ هنا بالضبط يتجلى التناقض في فهم البشر
للشر؛ فما هو ضروري عند طرف، قد يكون فظاعة عند طرف آخر، وما يُكتب في صفحات
التاريخ بمداد البطولة، قد يُسجل في قلوب الضحايا بدموع المأساة".
إذن؛ فالروائي هنا لا يعمل على خلخلة المفهوم المُستقر عليه فحسب باتجاه
الخير والشر؛ بل يتأمل في أن الفعل- عادة- ما يكتسب وصفه، ومعناه، وتفسيره بناء
على مسافة الفرد منه، ووجهة النظر التي ينظر إليه من خلالها، ومدى تأثير الفعل
عليه وعلى المُقربين منه، وبناء على ثقافته التي يتبناها، فضلا عن أن
الأيديولوجيات لها دورها الذي لا يمكن إنكاره في تفسير الأفعال.
إن الروائي هنا بلجوئه إلى هذه الخلخلة غير راغب في التلاعب بالقارئ، بقدر
ما يحاول جاهدا- وبأسلوبية فنية- المواءمة ما بين الشكل والمضمون الروائي، حتى
لكأن هذه الخلخلة بمثابة مُقدمة لهذا العالم الذي يمتلك ثنائية تفسيره داخله طوال
الوقت؛ فزيرو- البطل الرئيس للعالم الروائي، والباحث عن أصوله، وحقيقة تاريخه- له
مفهومه الخاص عن كل من الخير والشر، وهو المفهوم الذي يختلف اختلافا بينا عن
الآخرين. سنُلاحظ ذلك أيضا لدى الطبيب "سوتو"، زعيم مُنظمة السراب الذي
لا يرى شرا في اختطاف أطفال القرية الفقيرة- المُطمئنين إليه- من أجل تشريحهم،
وإجراء تجاربه السريرية، والطبية عليهم في الكهف الذي خصصه لذلك في الغابات
المُتاخمة للقرية؛ فهو يرى أنه يقوم بهذا الفعل من أجل صالح البشرية في نهاية
الأمر، لكننا إذا ما نظرنا إلى الفعل من وجهة نظر الأهل أنفسهم؛ فسنرى "سوتو"
ليس إلا خاطفا، قاتلا، وحشيا، لا مشاعر له، يستحق القتل والتخلص منه، أي أن الفعل
هنا قد اكتسب مفهومين مُختلفين نسبيين، ولنتأمل تعامله مع البشر كمُجرد فئران
تجارب، أي وسائل من أجل الوصول للمزيد من المعرفة: "شققت بطنه بخط واحد
مُستقيم من أسفل رقبته إلى سُرته، ثم من كل كتف نحو المركز، ومن كل خاصرة نحو
مُنتصف الجذع، لتتكون على جلده علامة H مقلوبة. حرف غريب، لكنه يناسبه. غرست القلم في الجرح الذي صنعته
بيده، حيث الدماء تنزف برفق يكاد يكون شعريا. امتص القلم الحبر الجديد من يده،
وبدأت أدوّن. كان يتلوى، يصرخ. لكن صراخه صار صوتا مُريحا، مُوسيقى هادئة ترافقني
وأنا أكتب. ياكوتو، العينة رقم 46. توقف عن الحركة بعد 37 دقيقة. أعلى رقم حتى
الآن. في العادة، تحدث الوفاة بعد ثلاث إلى عشر دقائق بسبب فقدان الدم، وفشل القلب
في ضخ الأوكسجين. لكن، في حال كان النزيف متوسطا، مع إصابة الأمعاء أو الكبد دون
تمزق الشرايين الكبرى، يبقى الشخص واعيا لفترة أطول، يشعر بألم حاد وانخفاض تدريجي
في الضغط، ثم يدخل في صدمة مُميتة بعد 37 دقيقة. توقف عن الحركة أخيرا. هدأ كما
يجب أن يكون. أنزلت الدفتر، وضعت القلم جانبا، ثم بدأت أفصل كل جزء من جسده، بحرص
تام، كمن يفتح كتابا قديما مُقدسا ليقرأ أسرار الكون. كل عضو، كل وريد، كل خلية
ستُحفظ للاختبارات القادمة، لأنه في النهاية كل شيء يجب أن يُفهم. الألم، الموت.
حتى أنا، صحيح. صحيح أنه مات بسببي، لكنني لست مثل "كيتسونة"، لا أقتل
للمُتعة، ولا أرى الألم فنا يجب التلذذ به. أنا فقط أبتغي المعرفة. لكي أُنقذ يجب
أن أفهم، ولكي أفهم يجب أن أرى، أن ألمس، أن أجرب. العلم يتغذى على الحقائق، والحقائق
أحيانا دامية".
ربما نُلاحظ في هذا الاقتباس أن "سوتو" يكاد أن يمارس ما يقوم به
باتجاه أطفال القرية الذين يقوم باختطافهم بمُتعة سادية خاصة، وواضحة؛ بمعنى أنه
لا يقوم بهذه التشريحات المُريبة لمُجرد المزيد من العلم، والمعرفة، وفهم أسرار
الموت والحياة كما يحاول إقناع نفسه، بل هو يمتلك قدرا من المُتعة السادية في مثل
هذه الأفعال الدموية، وهو ما يتأكد لنا من قوله: "كان يتلوى، يصرخ. لكن صراخه
صار صوتا مُريحا، مُوسيقى هادئة ترافقني وأنا أكتب"، مما يؤكد على اختلاله
النفسي، وميله باتجاه السادية الدموية، ولنتأمل أيضا: "غرست القلم في الجرح
الذي صنعته بيده، حيث الدماء تنزف برفق يكاد يكون شعريا"، وتغزله بشكل نزيف
الدماء من كف الطفل المُختطف.
كي نستطيع استيعاب العمل الروائي الذي بين أيدينا؛ علينا الانتباه إلى أنه
عبارة عن روايتين تسيران بشكلٍ متوازٍ، أي أن الكاتب هنا يتابع عالمين روائيين،
وثلاثة أزمنة مُختلفة: أولهما يدور في الوقت الآني، مُتابعا فيه "زيرو"،
وما يقوم به من أعمال إجرامية لصالح مُنظمة السراب تحت إشراف مُباشر من
"كينجي"، المُدير العام للمُنظمة، والذي تبنى "زيرو" مُنذ
صغره، وعلمه أساليب القتل المُحترفة، ونزع من داخله المشاعر تماما، أو مُجرد
التعاطف مع البشر.
أما العالم الثاني- الموازي له- فهو يدور من خلال المُذكرات التي عثر عليها
"زيرو" في إحدى المهام المُوكلة إليه لقتل إحدى الشخصيات، والتي كان
مطلوبا منه فيها أن يقوم بالقتل، والبحث عن المُذكرات من أجل تسليمها
"لكينجي"، لكن لأن الضحية/ المقتول/ سوتو- زعيم المُنظمة الذي لا يعرفه "زيرو"
بشكل شخصي- يعرف زيرو جيدا وتاريخه، وتاريخ عائلته، ولأنه يُدرك مدى مقدرة "كينجي"
على الخداع؛ يقوم بتسليم المُذكرات بنفسه لزيرو قبل مقتله، مُخبرا إياه بأن هذه
المُذكرات ستقوده إلى ما يبحث عنه، كما ينصحه بعدم تصديق "كينجي" في أي
شيء، وهو ما سيؤدي إلى احتفاظ "زيرو" بالمُذكرات للاطلاع عليها سرا، ومن
ثم ينشأ هنا العالم الثاني الموازي الذي يأخذ أكثر من نصف العمل الروائي، حيث
نتابع فيه "سوتو" مُنذ نشأته طفلا، وعلاقته الشائكة والمُبهمة مع أبيه،
وتعلمه الطب وهو ما زال طفلا، ومُمارسته له سرا على أجساد أهل القرية الفقراء
المجاورة لقصر والده، وصولا إلى التحاقه بالخدمة العسكرية في جيش الامبراطورية
اليابانية كطبيب، وهو ما يُعفى منه أبناء النبلاء عادة، لكن "سوتو" أصر
على الالتحاق بالجيش كي يُثبت لأبيه أنه يستطيع أن يكون شيئا، وليدلل على مدى مقدرته
على تحقيق ذاته بعيدا عن اسم العائلة، لا سيما أن أباه دائما ما يُعايره بأنه لا
شيء بعيدا عن اسم عائلته!
هنا، لا بد لنا من التساؤل: أين هو العالم الزمني الثالث؟
إن العالم الزمني الثالث هو الزمن الذي يبدأ به الروائي روايته في
المُستقبل القريب- عام 2078م- وهو الزمن الذي يعيش فيه "زيرو" وقد تقدم
به العمر، وصار جدا عجوزا، حيث نُشاهده يقوم برواية حياته وما دار فيها لشخص يدعى
"هيناتو"، يحرص على تسجيل مُذكرات "زيرو" والحفاظ عليها بشكل
سري لنشرها بعد وفاته كما اتفق معه، أي أن الكاتب هنا يُبادل ما بين الأزمنة
الثلاثة، وإن كان لا يلجأ إلى المُستقبل القريب كثيرا في روايته- فهو الزمن الذي
بدأ به الروائي روايته، ولم يحاول العودة إليه مرة أخرى- بينما يقوم بالانتقال إلى
بدايات القرن العشرين حينما يتحرك السرد لمُتابعة الحياة المُبكرة
"لسوتو"، وكيفية تشكله، ومُعاناته النفسية مع أبيه.
إذن، فالاهتمام الزمني للروائي هنا- تبعا لأهميته، وغزارة اللجوء إليه يأتي
بهذا الترتيب: الزمن الماضي في بدايات القرن الماضي، وهو ما يُشكل قصة حياة
"سوتو" الطبيب، وزعيم المُنظمة، والجزء الأكبر من الرواية. ثم الزمن
الآني، وهو زمن السرد الحقيقي الذي يعيش فيه "زيرو" مُمارسا للعديد من
العمليات الإجرامية لصالح المُنظمة، ومحاولا معرفة الحقيقة التي يبحث عنها،
والخاصة بأبيه وأسرته، أما الزمن الثالث، وهو الأقل في لجوء الروائي إليه فهو
المُستقبل القريب الذي سنرى فيه "سوتو" أيضا، ولكن بعدما تقدم به العمر،
حيث يقوم بحكاية حياته لمن يقوم بتوثيقها، وهي الحكاية التي سنعرف في بدايتها كيف
تخلص "زيرو" من رئيسه المُباشر "كينجي" رغم أنه الرجل الذي
تبناه، ورعاه حتى كبر، وعلمه كل فنون القتال التي يعرفها، فضلا عن أنه كان دائما
ما يلح عليه بأنه يحب أن يستمع منه كلمة "أبي"، أي أن "كينجي"
كان يتعامل مع "زيرو" طوال الوقت باعتباره ابنا له، ورغم ذلك سنعرف مع
بداية السرد الروائي أن "زيرو" قد قام بالتخلص منه بقسوة مُتناهية!
لكن، ما هي الأسلوبية الروائية التي اتبعها الكاتب في صياغة عمله الروائي من هذه العوالم الثلاثة المُختلفة؟
سنُلاحظ- للوهلة الأولى، ومع بداية الحكي- اتباع الكاتب لأسلوب روائي
تقريري، يقترب من الوثائقية لمحاولة خلق مسافة بينه وبين العالم الروائي الذي يخوض
فيه، لا سيما أن العالم هنا يتوزع بين ثلاثة أزمنة، وهو ما يعني أن محاولة
الانغماس، والتورط فيه ستؤدي به إلى الكثير من الخلط- سواء عليه ككاتب، أو على
القارئ المُتلقي- ومن هنا تأتي ضرورة وجود هذه المسافة ما بين الراوي والعالم
الروائي، وهو ما حققه من خلال أسلوبيته التقريرية في: "العام 2078م. هوكايدو.
أرض الشمال البعيدة التي كانت يوما مرآة للسكينة، رقعة من العالم خُلقت من صمت
الثلوج ونقاء الهواء، كأنها ليست جزءا من هذا الكوكب الصاخب. هناك، حيث السكون
سيدا، تسلل الإنسان تسلل الشك إلى قلب من ظن أنه يعلم الحقيقة. حاملا على ظهره وهم
الأمل، فلم يترك خلفه سوى جراح مفتوحة، وآلات لا تعرف النوم، تدور كما لو أنها
تسخر من الفناء. وفي ركن من تلك الأرض، في بقعة نسيها الخراب مُؤقتا، ما تزال
الطبيعة تحاول أن تتذكر ماضيها. سهل يمتد إلى ما وراء البصر. لا زرع فيه ولا حياة،
تراب رمادي هش، كل حبة فيه تحكي عن خصوبة اندثرت، لا بالتدريج، بل كما يُنتزع
القلب من الجسد. ولا شيء يكسوه سوى أعشاب ضعيفة، نبتت بلا رغبة، بلا هدف، بلا
يقين. نبتت نكاية في الموت، نكاية في الخراب. مُجرد احتجاج أخير على عبث لا يسمعه
أحد. كأنها تقول: نحن هنا لا لنعيش، بل لنذكركم أن الحياة لا تُزرع على رماد أنتم
صنعتموه. وفي وسط كل هذا عجوز، يجلس كما تجلس النهاية على أعتاب الزمن، رأسه أبيض،
وشعره المُنسدل طويل، بدا أشبه بحبل يربطه بالقرون الماضية. داهمه الزمن مثلما
تُداهم الحرب مدينة نائمة. وجهه حفرت عليه الأيام خرائط من الندوب، لا تُقرأ، ولا
تُنسى، ذراعه اليسرى بُترت كأنها سقطت منه كما تسقط الأحلام من رجال خذلتهم
الحياة. أما عيناه فكانتا تطلان من بين جفون مُثقلة، تنظران إلى ما لم يعد
هنا".
ربما لاحظنا هنا حرص الروائي على الحكي من الخارج؛ فالأسلوب التقريري الذي
اختاره كمدخل لروايته جعله بمنأى عن الانخراط الكلي، والانغماس في العالم الروائي،
وبالتالي بات مُراقبا له من الخارج، وهو ما يساعده إلى حد كبير على التيقظ، وربما
التأمل والتحليل لما يدور في هذا العالم.
لكن، ربما كان أهم ما يميز السرد الروائي في هذه الرواية هو أسلوبية الوصف
وآليته، ومن ثم الاستغراق الكامل فيه لدرجة توليد العديد من المعاني الجديدة نتيجة
لهذا الوصف المُستغرق، والحقيقة أنه لولا سلاسة اللغة، وثراؤها لدى الروائي،
وامتلاكه لقاموس ليس بالهيّن من المُفردات، ومقدرته على تركيب، وصياغة الجمل
بأسلوبيته الخاصة، لما تميزت الرواية بمثل هذه الوصفية التي كانت ضرورة لا بد منها
مع غياب الرسوم، أو الصور- وهي أهم ما يُمثل عالم الأنمي- أي أن اللغة الوصفية هنا
كانت هي البديل الأول والجوهري لغياب الصورة- شكل من التحدي الفني وضعه الكاتب
لنفسه- ومن ثم نجحت في تعويض غيابها، وجعلت القارئ يرى ما يقرأه وكأنه فيلم يدور
أمام عينيه على إحدى شاشات العرض، ولنتأمل على سبيل المثال: "في وسط كل هذا
عجوز يجلس كما تجلس النهاية على أعتاب الزمن، وشعره المُنسدل طويل، بدا أشبه بحبل
يربطه بالقرون الماضية. داهمه الزمن مثلما تُداهم الحرب مدينة نائمة. وجهه حفرت
عليه الأيام خرائط من الندوب. لا تُقرأ ولا تُنسى".
إذا ما تأملنا في الاقتباس السابق لتبيّن لنا أن استغراق الروائي في الوصف-
رغم وجود المسافة التي وضعها مُنذ البداية كي لا يتورط- يؤدي إلى توليد المزيد من
الصور والتشبيهات والمعاني التي لم تكن ترد على خاطرنا كمُتلقين، وهو ما يُساهم في
تخيل ما يتحدث عنه الروائي- أي استبدال الصورة، أو الرسوم المُتحركة هنا بالوصف
المُبالغ فيه- مثل: "ثم صمت. صمت كثيف، كأنه غرق بلا ماء. أغمض عينيه، وبدأ
ينهار إلى الداخل، على حافة شيء لا يُقال، ولا يُغتفر"، وهو الوصف الذي
نُلاحظه أيضا في: "ضحكت. ليس ضحكا، إنما زفرة ميتة، خرجت كغاز سام، بلا صوت،
بلا لون، بلا شفقة".
إن الكاتب هنا يحاول ابتكار طريقة خاصة به في الوصف، والتشبيه، وهو ما
يجعله يلجأ إلى تشبيهات قد تبدو غريبة علينا، لكنها تؤدي بنا في النهاية إلى معنى
جديد يسعى إليه في جوهر الأمر: "رأسه انفجر كفاكهة نضجت في الخطيئة، ثم صفعت
بندم مُتأخر. لم يقاوم، لم يصرخ. فقط، سقط، دفعة واحدة. كسؤال بلا جواب. كشيء لم
يكن له أن يوجد أصلا. دويّ خافت. صوت اللحم حين يصطدم بالجدار. ثم، نفخة حياة لفظت
أنفاسها الأخيرة". ولعله في هذا الاقتباس التالي، والأخير، ما يمكن له أن
يؤكد على براعة الروائي الوصفية التي كانت بديلا للصورة المفقودة: "رجل مُسن،
وجهه مطوي من كثرة الاستعمال، وعيناه نصف مُغمضتين، يتبادر لك أن الحياة أضحت
حملا، لا هبة، بالنسبة له".
رغم أن تشبيهات الروائي هنا قد تبدو غريبة للوهلة الأولى، إلا أنها في جوهر
الأمر، ومع تأملها تبدو لنا مُبتكرة، وقادرة على توليد العديد من المعاني التي ما
كان لها أن تتبادر إلى أذهاننا لولا هذه التوصيفات التي يلجأ إليها، وهو ما يتناسب
إلى حد بعيد مع عالم الأنمي الياباني، ومُبالغاته، بل وعنفه، ودمويته في الكثير من
الأحيان.
إذن، فلقد افتتح الروائي هنا عالمه الروائي على "زيرو" في
المُستقبل القريب، مُعترفا بأنه قد قتل زعيمه، وأباه الروحي "كينجي"
بقوله: "أنا من أطلق الرصاص على أبيه. الكلمة الوحيدة التي ما زالت تكسر
الفراغ في داخلي. وما زلت أجتهد في محاولة البحث عن معنى لها. مُنذ أن فتحت عينيّ
على هذا العالم، كان وجهه هو أول ما أبصرت، صوته أول ما اخترق أذني، ويداه أول ما
حملني، أطعمني، سقاني، أسكنني في دفء فراشه. لم أكن قد شبعت من قولها حين أمسك
بيدي وقادني إلى عالمه. عالم من التعاليم والرموز والحروف، رفقة آخرين يشبهونني،
إلا أنني كنت مُختلفا، كان يخصني بابتسامة أوسع، وبنظرة أقل قسوة، وكأنني ابنه
الوحيد في عالم يربي فيه أبناء كثرا".
صحيح أن "زيرو" يبدو لنا على طول العمل الروائي من دون مشاعر،
حتى لكأنه لا علاقة حقيقية له بالبشر، لكن، رغم هذا الجمود التام، واللامُبالاة
الغريبة، والمشاعر المُنتزعة من جذورها فثمة رغبة لديه في الحديث عما كان في
الماضي، إنها رغبة اعترافية، ربما لثقل الذكريات عليه بعدما بات عجوزا، ربما كانت
لديه الرغبة في التطهر باعترافه قبل الموت، ربما باتت الذكريات تهاجمه، وتتكاتف
عليه؛ مما جعله في حاجة إلى من يشاركه في حملها معه، وهو ما يتبدى لنا في:
"ابتسم العجوز، ووجهه الذي صقله الزمن حتى صار كالحجر المُتصدع، تهاوى بابتسامة
باهتة، كأنها قناع هش تهالك من فرط ما ارتداه: آه يا هيناتو، حتى أنا لم أعد أقوى
على الصمت، أريد أن أنثر هذه الحكاية على الملأ، لا لأنني فخور بها، بل لأنني تعبت
من حملها وحدي، أريد أن أفرغ رأسي من ضجيجها قبل أن يفرغني الزمن من آخر ما تبقى
فيّ"، وهو ما يؤكد لنا على أن الذكريات قد باتت تُثقل كاهله، مما جعله راغبا
في الحديث، والاعتراف، والحكي؛ لإلقاء عبء الزمن الماضي على شخض آخر، قادر على حمل
هذه الذكريات معه بمُشاركته إياها.الروائي المصري إدوار الخراط
إنها الذكريات الدامية العنيفة التي بزغت من عنفه الجيني الطبيعي، وهو
العنف الذي يخشى مُحادثه "هيناتو" انتقاله إلى أحفاده؛ فهو يحمل العنف
داخله كسمة وراثية لا بد من توريثها، وهو ما اتضح لنا في: "لحظة يا هيناتو،
ألم تنتبه؟ لقد نسينا أن حفيدي اللطيف ما زال هنا، هذا الصغير الذي لم يدرك بعد أن
العالم ليس له، ولن يكون. تأمل هيناتو المشهد بصمت، ثم قال ساخرا، كمن يلفظ جملة
سمعها آلاف المرات: لطيف، أهكذا تراه حقا؟! قهقه قهقهة مجروحة أقرب إلى بكاء عين
عجزت عن إسقاط دمعتها، ثم ضرب جبهته بكف ثقيلة، محاولا إيقاظ نفسه من سُخرية الواقع،
وتابع بصوت يقطر مرارة: أتسميه لطيفا؟ أليس هو الصبي ذاته الذي كسر ذراع زميله
لأنه لمس حلوى اليوكان من طبقه؟ لطيف؟ إنه امتداد جديد لجنون عائلتك، نسخة أصغر،
بأكمام أقصر، وأنياب في طور النمو"، مما يعني أن العنف مُتأصل بالفعل في
عائلة "زيرو"، وسيظل كامنا مُتجذرا في العديد من الأجيال الأخرى
القادمة، حاملين بذور العنف داخلهم، وهو العنف الذي ينفجر فجأة فيزيح من أمامه كل
من يعترض طريقه، ولعل سلوك الحفيد مع زميله، وكسره لذراعه، خير مثال على شكل العنف
الذي سيميزه حينما يشب قليلا.
لكن، هل اعتمد الروائي ينال ج. في بناء روايته النوعية على الأسلوب
التقريري الحيادي، والاستغراق في الوصف فقط لتعويض غياب الصورة؟
لجأ الروائي إلى أسلوبية تبدو لنا جوهرية في صياغة الشكل الروائي الذي رآه
مُناسبا لعالمه، وهي الأسلوبية التي تبدت لنا في تعليقاته التفسيرية العديدة،
والتي كانت بديلا عن الصورة- المُفترض رؤيتها- مما ساعد القارئ على رؤية ما يقرأه
بشكل ذهني واضح، ولنتأمل: "توقف فجأة، تذكر شيئا؟ أو ربما لم يرغب في ترك
كلماته الأخيرة مُعلقة في الهواء، قال بعدها بصوت مُنخفض، خالٍ من أي دلالة: لكنها
فتاة جيدة. لا أكثر. مُلاحظة عابرة، مُجرد توصيف موضوعي، بلا وزن، بلا أثر، بلا
أهمية تُذكر. ومع كلماته الأخيرة ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة بالكاد تُلاحظ،
لا دفء فيها، ولا معنى". مع تأمل الاقتباس بالكامل لا بد أن تبرز أمامنا
جملته: "لا أكثر. مُلاحظة عابرة، مُجرد توصيف موضوعي، بلا وزن، بلا أثر، بلا
أهمية تُذكر"، وهي جملة قد تبدو لنا زائدة في أحد جوانبها، مُباشرة باعتبارها
تعليقا على ما قاله "زيرو"، لكنها من جانب آخر تبدو لنا ضرورية، لا غنى
عنها في السرد؛ فهي تقوم مقام الصورة في الأنمي، وبما أن الصورة هنا غائبة؛ فلقد
استعان الكاتب بالعديد من الآليات السردية الخاصة التي نجحت في التعبير عن هذه
الصورة.
تتبدى لنا جوهرية هذه الأسلوبية التفسيرية، أو التعليقية في: "يأكل
كما لو أنه لا يريد أن يموت، لا أكثر. الطعام لم يكن وجبة، لم يكن أكثر من ضرورة
بيولوجية للبقاء، بلا رغبة، بلا طعم، بلا سبب"، إن الاستطراد، والتفسير،
والتعليق، كانوا من أهم أدوات الروائي في التعبير عن عالمه المُعقد، المُتداخل،
والجديد على الشكل التقليدي للرواية العربية.
مع عودة الروائي إلى الزمن الآني- أي زمن السرد- وهو الزمن الذي يعيش فيه
"زيرو" شابا، مُمارسا للعديد من العمليات الإجرامية لصالح المُنظمة،
وبإشراف مُباشر من "كينجي"، سنعرف أن "كينجي" كان يبدو مفتونا
بتبنيه له، رغم أنه في الحقيقة ابن صديقه الذي لا نعرف عنه شيئا، ولا يعرف
"زيرو" عنه شيئا بدوره، وهو ما يجعله يحاول البحث على طول العمل الروائي
عن أي شيء من المُمكن له أن يدله على والديه، لا سيما أن "كينجي" يرفض إمداده
بأي معلومة، مُدعيا أن الوقت لم يحن بعد. هذا الافتتان بتبني "زيرو" نُلاحظه
في قول "كينجي" له: "ألم أقل لك أن تناديني بأبي عندما نكون وحدنا؟
لم يكن هذا مُجرد طلب، كان أمرا مُغطى بطبقة رقيقة من الحنين، حنين مليء بالألم
والمرارة. صمت لحظة، ثم أكمل بنبرة أكثر رقة، لكنه لم يخف حقيقة ما يشعر به: لماذا
تتعمد استفزازي؟ صحيح أنك ابن صديقي الراحل، إلا أنني والدك الذي رباك، واهتم بك،
صنعك على ما أنت عليه اليوم، إلى متى ستظل عاقا؟".
ثمة مُلاحظة أسلوبية رابعة- قد تبدو لنا شكلانية إلى حد بعيد- لكنها تتناسب
تماما مع شكل النوع الأدبي الذي نقرأه، وتبدو لها ضرورتها، ووجاهتها في اكتمال
الشكل الروائي الذي اختاره الكاتب؛ حيث كثيرا ما لجأ الكاتب إلى إيقاف تدفق السرد
تماما، وقطعه للوصول به إلى حالة سكونية مُفاجئة؛ من أجل التعريف بإحدى الشخصيات
الجديدة التي تبزغ في العالم الروائي، وهو ما يتشابه إلى حد بعيد مع الأفلام
السينمائية التي يقوم مُخرجها بكتابة معلومات تخص إحدى الشخصيات على الشاشة بمُجرد
ظهورها أمامنا- كتقرير مُختصر عن هذه الشخصية- رأينا ذلك على سبيل المثال حينما
يقول "كينجي" "لزيرو": "صحيح، أخبرتني سيسو بأنك أحدثت
جلبة. ليرد "زيرو": هذا صحيح، أعتذر. قالها ببرود ودون أي اهتمام"،
لكن بمُجرد وصول الروائي إلى هذه النقطة من السرد، وبمُجرد ذكر اسم سيسو التي لا
نعرف عنها أي شيء؛ سنُلاحظ استمراره في السرد بشكل مُختلف تماما، حيث يقوم بتسكين
الحدث الروائي، وإيقافه، لصالح الحديث عن سيسو لتعريفنا بها، فكتب مُباشرة بعد
الكلمة الأخيرة السابقة: "مُلاحظة: سيسو هو اختصار للاسم الياباني الذي يعني
المُنظف، وسيسو هي فتاة في الـ18 من عمرها، الطول: 186، الوزن: 56، شعر أسود طويل،
بشرة بيضاء، وجسد ممشوق كأجساد عارضات الأزياء، وهي الشخص المسؤول عن التنظيف خلف
القتلة، وعملها ينطوي على: إزالة الجثث وآثارها من مسرح الجريمة، تهريب المقبوض
عليهم، التستر على الجريمة إذا حدث خطأ، أو إذا تم إطلاق النار في الأماكن العامة،
إلخ".
ألا نُلاحظ هنا أن هذه الأسلوبية/ التقنية التي لجأ إليها الروائي لتعريفنا
بسيسو لا تختلف إطلاقا عن التقنيات السينمائية التي كثيرا ما رأيناها في العديد من
الأفلام؟ إنها تتشابه أيضا إلى حد كبير مع قصص وروايات الأنمي، حيث يتم كتابة
تقرير مثل هذا على الصورة بمُجرد ظهور شخصية جديدة في العالم الروائي، وهو ما يؤكد
لنا على مدى استيعاب الروائي لما يقوم به، ومقدرته على تطويعه بشكل جيد لصناعة
شكله الروائي الخاص؛ لذا يتبدى لنا هذا الشكل بصورة أكثر جلاء ووضوحا حينما استلم
الملف الخاص بمهمته الجديدة لصالح المُنظمة، فيدخل غرفته، ونقرأ: "لنر ماذا
يريدون الآن. كانت المهمة مُجرد خطوة أخرى في حياته المُكرسة للقتل. العملية TKO: القضاء على الهدف تسوكيشيني موري. الرمز: TKO-
07. الموقع: قصر تسوكيشيني موري- طوكيو، اليابان. الزمان: خلال الحفل
المُقام في القصر (التاريخ والوقت يُحددان لاحقا). الأهداف: الهدف الرئيسي: تصفية
تسوكيشيني موري. الهدف الثانوي: الاستحواذ على مُذكراته الشخصية المحفوظة داخل
خزنة بمكتبه. تفاصيل المهمة: الاستطلاع والتحضير..."، وهكذا يستمر الكاتب في
أسلوبيته التي لا بد لها أن تحيلنا مُباشرة إلى أسلوبيات الأنيميشن، أو الأفلام
المأخوذة عنها، وهو ما يجعل الشكل الروائي هنا يكاد أن يكون مُتطابقا مع المضمون.
تأتي أهمية هذه المهمة، وضرورتها في العمل الروائي من أن الكاتب قد اتخذ
منها تكأة للنفاذ إلى عالم "سوتو" مُنذ طفولته، ومُتابعة حياته حتى
نهاية الرواية. صحيح أن الرواية هنا- ومُنذ هذه اللحظة- باتت تُبادل ما بين
الماضي- الذي يمثل حياة "سوتو" التي يقرأها "زيرو" في
المُذكرات التي حصل عليها بعدما أدى المهمة، وقام بقتل الضحية، واحتفظ بالمُذكرات
لنفسه مُدعيا بأنه لم يعثر عليها- والحاضر الذي يمثل الحياة الآنية
"لزيرو" الذي يتم تكليفه بالعديد من المهام التي كانت تقطع الاسترسال في
مُتابعة حياة "سوتو"، لكنه سُرعان ما كان يؤدي المهمة المُوكلة إليه،
ويعود مرة أخرى إلى مُتابعة ما حدث مع "سوتو" في حياته إلى أن التحق
بالجيش الامبراطوري كما أراد، كي يثبت لأبيه بأنه يستطيع أن يصبح كيانا مُهما
بعيدا عن اسم العائلة- أي أنه غير مُستند فقط على اسم العائلة كي يكون ذا مكانة في
المُجتمع: "لا زلت أريد الذهاب، ربما أجد هناك ما أفتقده هنا. ثم إني أريد
الابتعاد عن والدي قليلا، رغم أنني لا أعلم إن كان سيوافق على ذهابي أم لا. لا شيء
أقوم به يجعله يفتخر بي أو يمدحني، فلعل هذا يجدي نفعا"، أي أن الإحساس
بالدونية، والضآلة، وعدم القيمة أمام الأب- وهو إحساس يقويه ويغذيه الأب طوال
الوقت داخل نفس "سوتو" بطريقة تعامله معه- كان هو السبب الرئيس من وراء
رغبته العارمة في الالتحاق بالعسكرية، والجيش الامبراطوري الذي من المُفترض أن
يُعفى منه باعتباره من أبناء النبلاء الذين لا يتم تجنيدهم في الجيش. لكن، بما أن
"سوتو" لم ير أي مجال آخر من المُمكن أن يدفع الأب إلى النظر إليه
بتقدير سوى أن يلتحق بالجيش كطبيب عسكري؛ فلقد أصر على فعل ذلك، رغم أن أباه قد
أبدى له ازدراءه من هذا الفعل المُقبل عليه "سوتو"، مُؤكدا له بأنه
سيجلب الكثير من العار للعائلة بالكامل.
ربما نُلاحظ هنا أن ثمة جدارا شامخا، مهولا، لا يمكن تجاوزه قد نشأ مُنذ
فترة طويلة ومُبكرة بين الأب، والابن/ سوتو، وهو الجدار الذي كان السبب الرئيس فيه
تعامل الأب مع ابنه بالكثير من الجفاف، والجفاء، واللامُبالاة، وعدم الاهتمام،
وكأنه غير موجود، أو لا أهمية له. هذا الأسلوب العجيب في التعامل مع الابن، عبر
عنه "سوتو" بقوله: "حين يكون برفقة والدتي وهما يضحكان، تلك
الضحكات التي لا أراها على وجه أبي إلا في تلك اللحظات، عندها أتمنى أن يتوقف
الزمن"!
فرغبة الطفل "سوتو" في توقف الزمن تعود إلى أنه لا يرى أباه يضحك
أبدا إلا في هذه اللحظات التي يكون فيها مع زوجته/ أم سوتو، وهو ما يجعل الطفل
يتمنى توقف الزمن عند هذه اللحظة كي يرى الأب ضاحكا بشكل دائم! وهو تعبير يعبر لنا
أيضا عن مدى تمزق مشاعره.
لكن، سُرعان مايعبر لنا "سوتو" بشكل أكثر صراحة ووضوحا عن مدى القسوة التي يجابهه بها والده في طريقة تعامله معه، وكيف يعتبره شيئا مُخجلا لا بد من إخفائه حتى لا يُسبب للعائلة بأكملها العار، في: "تحوّل صوته إلى نبرة فيها الكثير من المرارة، وأضاف: وأنت؟ أنت غضبت اليوم لأنني لم أُجهز لك عيد ميلادك، أليس كذلك؟ دعني أقلها لك بصدق، لِمَ لمْ أعده؟ لأني ببساطة لم أهتم. أتدري لماذا؟ لأنني أراك مثلهم. مثل أولئك القرود- يقصد الخدم، وأهل القرية الفقراء القريبة من القصر- ولكن مع فارق وحيد، أنك من صلبي"!
بالتأكيد تدفعنا أسلوبية الأب في تعامله مع ابنه إلى طرح المزيد من
الأسئلة، والأكثر من الدهشة؛ فلِمَ يتعامل الأب مع ابنه الصغير الذي لم يتخط بعد
العشر سنوات بمثل هذه القسوة؟ ولِمَ يرغب في تحطيمه، وإنهاء تواجده تماما بمثل هذا
التقزيم، وإظهار الاستعلاء والتقزز منه؟ وما ذنب هذا الطفل الصغير في أي شيء كي
يعامله أبوه بمثل هذا الأسلوب؟
إنها الأسئلة التي لن يجيبنا الروائي عنها، ولن يتكشف السبب فيها- ربما
لأنه أرجأ كشف هذه الأسباب إلى الجزء الثاني، والقادم من الرواية، لا سيما أن
الرواية التي بين أيدينا هي الجزء الأول منها كما أشار إلى ذلك الغلاف- لكننا
سنُلاحظ أن الأب يوغل عميقا في تضخيم الجدار القائم بينه وبين الابن، وذلك
بالانقطاع عنه لفترات طويلة رغم أنهما يقيمان في نفس البيت: "نظرت بسرعة إلى
الغرفة لأتأكد إذا ما تغيّر شيء مُنذ آخر مرة دخلتها قبل عامين. لا شيء بدا
مُختلفا، كل شيء على حاله. والدي ما زال يجلس خلف مكتبه المُزدحم بالأوراق".
لاحظ هنا أن الأب لم ير ابنه المُقيم معه في نفس المنزل لمُدة عامين
متواصلين! وهو ما يثير فينا الكثير من الدهشة، ويُفسر لنا سيكولوجية الابن الذي
نشأ على الرغبة في تحدي أبيه، والسعي باتجاه إثارة إعجابة بأي طريقة، حتى لو كان
هذا الإعجاب من خلال طُرق وأساليب "سوتو" الدموية في اختطاف أبناء
الفلاحين، وتشريحهم، وتقطيع أجسادهم، والاحتفاظ بها من أجل دراستها، أو حتى برغبته
العارمة في الالتحاق بالجيش كطبيب عسكري لإثارة إعجاب الأب.
لكن، رغم كل شيء، تظل النظرة الاستعلائية من قبل الأب باقية، ومحاولة إشعار
الابن بالمزيد من الضآلة، واللامعنى مُستمرة، وهو الإحساس الذي لا بد أن يترك
بالكثير من الآثار المُدمرة على المستوى السيكولوجي لدى "سوتو"، بل
ويدفعه باتجاه المزيد من العدوانية والدموية تجاه كل شيء، والرغبة في إشعال العالم
والقضاء على كل من هم حوله. هذه النظرة لا يقصرها الأب على الابن فقط، بل يرى من
خلالها جميع البشر من حوله، لذا نلمحها في سؤال الأب له: "من أنت؟ من أنا؟ من
هؤلاء الخدم؟ من هؤلاء الفلاحين؟ تنهد وأكمل: يا بني، قبل أن تُولد، كنت أسأل نفسي
هذا السؤال مرارا، ولم أجد له إجابة تُرضيني، لكنني أدركت شيئا واحدا بوضوح: كل من
هم في الخارج، سواء كانوا خداما أو مُزارعين، هم أشباه بشر. قرود، وُجدوا ليخدموا
من هم مثلي". أي أن الأب يرى الجميع أقل من الارتقاء إلى مرتبة البشر
الكاملة، بل هم في مرتبة أدنى، ويقتربون من القرود، ومهمتم الوحيدة في الحياة هي
خدمته فقط، هو وأمثاله ممن يرون أنفسهم بشرا كاملين!
بما أن الابن الصغير- الذي لم يُدرك العالم من حوله بعد- يحاول جاهدا
الاقتراب من الأب، وبما أنه يستقي معلوماته عن العالم الخارجي مُباشرة من أبيه-
فهو لا يخرج من القصر المُقيمين فيه- وبما أنه يرى في كل ما يقوله الأب شيئا
مُقدسا لا يمكن له التشكك فيه؛ فلقد صدق حديث الأب بمعناه السطحي المُباشر، ورأى
أن جميع البشر من حولهم ليسوا إلا كائنات أقل في المرتبة الإنسانية من البشر، وإن
كانوا على نفس الهيئة؛ لذا فلقد رغب في معرفة حقيقتهم، ومدى اختلافهم عن البشر،
وبما أنه تعلم الطب على يد الطبيب "جوزيف" الذي أتى به الأب خصيصا إلى
القصر لتعليم "سوتو"، وبما أن الطبيب "جوزيف" قد علمه علم
التشريح؛ فلقد رغب "سوتو"- بناء على ما زرعه الأب داخله من أن الكائنات
من حوله في منزلة أدنى من البشر- أن يعرف الفارق ما بين هذه الكائنات، وبينهم كبشر
مُكتملين؛ فقام باختطاف رضيع خادمة القصر إلى غرفته، وقام بأول عملية تشريح وحده
داخل الغرفة؛ مما أدى إلى مقتل الرضيع، وهو ما يعني أن الأب كان هو السبب الرئيس
في دمويته، وميله إلى الأفعال الجنونية غير المألوفة تحت دعوى السعي باتجاه
الفرادة التي من المُمكن لها أن تثير إعجاب الأب به، وينال رضاه، فضلا عن ادعائه
بأنه يقوم بذلك سعيا وراء الوصول إلى الحقيقة من أجل إنقاذ الآخرين من البشر:
"هكذا تعاقبت دروس التشريح، وكل مرة كان الحيوان مُختلفا: فأرا، أرنبا، وحتى
طائرا صغيرا، كلما تقدمت في الدراسة، زاد حماسي. حتى جاء اليوم الذي أحضر فيه
الطبيب معه قردا لتشريحه. كنا نقارن تشريحه بما تعلمته عن جسم الإنسان من الكتب.
بدأنا بمُلاحظة الاختلافات بين هيكليهما العظميين، بين الدماغ، والكبد، والأطراف،
بينما كنت أدوّن مُلاحظاتي على الدفتر كما هي عادة كل درس. عندما انتهينا من
الدرس، ودعت الطبيب وعدت إلى غرفتي. أغلقت الباب خلفي، قفزت على سريري واستلقيت
على بطني. أمسكت بالكتاب الذي يصف تشريح الإنسان، وبدأت أقارن بينه وبين مُلاحظاتي
عن القرد. لكن، بينما كنت أغرق في أفكاري، تذكرت كلمات والدي عن الفلاحين والخدم.
قال: إنهم أشباه قرود. عبيد لنا. وجدت نفسي غارقا في هذا التفكير، وتساءلت: هل هم
حقا أقل من البشر؟ هل يمكن أن يكون ذلك صحيحا؟ قررت أن أسأل الطبيب عن هذا الأمر
في دروسنا القادمة، وجاء رده ليزيد من حيرتي. قال: هذا غير صحيح، كلنا بشر
مُتشابهون. ولكن كلامه لم يُقنعني"! مما يعني أنه لم يُصدق الطبيب، وإن مال
إلى تصديق كلام أبيه، وهو ما دفعه إلى الرغبة في معرفة الحقيقة بنفسه من دون
الاستعانة بأحد، ومن دون إخبار أحد، فأجرى تجربته التشريحية الأولى في غرفته،
ليكون أول ضحاياه هو رضيع خادمته!
إن القسوة والتفصيلية التي وصف بها الروائي عملية تشريح الرضيع تتناسب
تماما مع عالم الأنمي وما نراه فيه، مما يعني أن الكاتب ينال ج. هنا لم يكن هدفه
ابتكار شكل روائي جديد يخصه فقط لمُجرد أن يُقال بأنه قام بالتجديد في الشكل
الروائي، بل هو يعي جيدا ما يقوم به، ويحاول تنفيذه بدقة، ولنتأمل: "بمُجرد
أن غادرت، دخلت المطبخ سريعا وأخذت رضيعها، حملته إلى غرفتي، أغلقت الباب خلفي.
وضعته على الطاولة، في البداية كان هادئا، ولكن ما أن ثبت المسمار الأول في يده
حتى بدأ في البكاء والصراخ. كان صوتا مُزعجا؛ فذهبت وأحضرت وسادتي من السرير
وخنقته حتى صمت. تابعت عملي بثبات، ثبت قدميه ويديه بالمسامير، ثم بدأت بشق ذراعيه
إلى الأعلى على شكل حرف Y، وصولا إلى بطنه، سلخت الجلد، وثبته
بالدبابيس على الطاولة، ثم توقفت للحظة وأنا أنظر إلى جسده المفتوح أمامي. أخذت
دفتري وكتبت في أعلاه "القرود البشرية". بدأت برسم الأعضاء كما ظهرت
أمامي. أزحت طبقة الدهون التي تغطي العضلات ودوّنت مُلاحظاتي. ومع مرور الوقت
امتلأت الطاولة بمحتويات ما كنت أقوم بتشريحه، الطفل في الوسط، أعلى الرأس حيث
عرضت جمجمته المقطوعة، عارضا الأعين مثل زجاجتين مكسورتين. في الجانب الأيمن،
القلب والرئة والأمعاء. وعلى الجانب الآخر، كان الطحال، والكبد، والكلى، بينما
كانت اليدان والقدمان مسلوختين في أماكنهما. جلست أراقب عملي بإعجاب، وقدمي اليمنى
مُسندة على حافة الطاولة لتثبيت دفتري. كنت غارقا في تدوين التفاصيل إلى أن سمعت
صوت طرقات على باب الغرفة".
رغم هذه الدموية التي نلحظها في الاقتباس السابق، إلا أننا- كقراء- سنُفاجأ
برد فعل الأب حينما يرى ما قام به ابنه: "توجه والدي نحو الطاولة مشدودا
لرؤية ما فعلته، تناول مُذكرتي، وبدأ في قراءة ما كتبته. ابتسم برفق، لكن
الابتسامة كانت مُرعبة، كأنها تحمل معنى آخر، ثم نظر إليّ، وصفعني على وجهي بقوة.
بعدها، حمل كوروشيمي، وأخرجها برفق، تماما كما تحمل قطعة من الزجاج قد تنكسر عند
أدنى لمسة. خرج والدي وأمي، تاركين وراءهما الغرفة يخيم عليها صمت ثقيل، ولم أعد
أرى كوروشيمي بعدها أبدا"! ألا نُلاحظ هنا أن رد فعل الأب حينما رأى جثة
الرضيع التي تم تقطيعها يميل إلى الموافقة، والرضى على ما قام به "سوتو"
ومُباركته؟ وهو ما يعني في جوهر الأمر أن الأب كان هو الدافع الرئيس والجوهري الذي
أدى إلى تجريد "سوتو" من مشاعره وإنسانيته، وتفريغه بالكامل، فضلا عن
تفكيره بشكل شاذ، شديد التطرف لمُجرد أن ينال رضى الأب الذي يتجاهله، بالإضافة إلى
تصديق نظرة الأب للآخرين باعتبارهم مُجرد قرود بشرية لا يمكن لهم التساوي مع البشر
من أمثاله! وهو ما يؤكد عليه "سوتو" بقوله: "العالم ليس كما ظننته،
ليس بسيطا، ليس عادلا، هذه الحياة مُقسمة، ليست كل الكائنات التي تسير على قدمين
تُسمى بشرا. هناك البشر الحقيقيون، أمثال الطبيب جوزيف، أمثال والدي، وأمثالي، ثم
هناك أشباه البشر، أو كما أُسميهم أنا: "القرود البشرية". إنهم يشبهوننا
في كل شيء، في الملامح، في الأجساد، في الأصوات، لكن عقولهم؟ لا، عقولهم شيء آخر.
محدودون ضعفاء، يختبئون خلف الخوف كما يختبئ طفل خلف ثوب أمه، يعيشون في ظلالنا،
يرتعدون عند مواجهتنا، يهمسون بأسماء وحوش ويلصقونها بنا، لأنهم عاجزون عن
فهمنا"!
إن هذه النظرة التي تشكلت لدى "سوتو"، واستقرت داخله، كانت نتاجا
لحديث الأب معه، والتأكيد على أن كل من يحيطون بهم من خدم، وسُكان للقرية القريبة
مُجرد كائنات أقل منهم في المرتبة البشرية، ووُجدوا لمُجرد خدمتهم فقط؛ ومن ثم
تبنى "سوتو" هذه النظرة، وأكد عليها من خلال عملياته التشريحية التي كان
يقوم بها باختطاف أطفال القرية، أي أن نتائجه التشريحية هنا كانت خاضعة للوهم الذي
صدقه، واعتمد عليه، ومن ثم افتقدت هذه النتائج الكثير من الدقة، ومالت للأسطورة
التي يؤمن بها بسبب الأب.
ربما لا يفوتنا هنا أن "سوتو" لا يميل إلى تصديق طبيبه
"جوزيف" الذي علمه، ورغم أنه قد صدق "جوزيف" تصديقا أعمى، لا
نقاش فيه فيما درسه من علوم الطب، إلا أنه لم يمل إلى تصديقه حينما أكد له على أن
البشر جميعا مُتشابهين، ولم يتبع نصيحته حينما قال له بعدما انتهى من تدريسه الطب:
"يا بني، صحيح أنني علمتك كل ما أعرفه، وقد أصبحت طبيبا الآن، لكن عليك أن
تعلم أن الطب وُجد لعلاج البشر فقط، وليس لإيذائهم. توقف لثوانٍ ليتأكد من أنني
أستمع إليه جيدا، ثم أكمل: الطب مسؤولية كبيرة، ومُنذ أن أصبحت طبيبا عليك أن
تُراعي حالة مرضاك، أن تكون رحيما، أن توظف معرفتك لاكتشاف العلاج المُناسب لكل
الأمراض التي نواجهها، فهذا ما يميزنا عن بقية الأجناس"، وهو ما يعني أن
الطبيب "جوزيف" كان لديه الكثير من الشك في أن "سوتو" لن
يستخدم الطب الذي تعلمه منه في مكانه، أي في شفاء الناس، بل سيقوم بإيذاء الكثيرين
باسم هذا العلم.
لعل ميل "سوتو" إلى إيذاء كل من تقاطع معه في طريقه يعود في
جوهره إلى الأب الذي صنع منه وحشا حقيقيا، "فسوتو" لديه الرغبة القوية
في التماهي مع الأب، الاقتراب منه، محاولة الانسجام معه، إثارة إعجابه به؛ لذا بات
ما هو عليه في نهاية الأمر، وهو ما يتضح لنا بشكل جلي حينما يناجي أباه- غير
الموجود أمامه- بعد اختطافه وتشريحه لجثة زميله "هيروشي" في الجيش:
"أرأيت يا أبي؟ لست خيبة، أنا فقط كنت أبحث عن الطريقة الصحيحة لأثبت نفسي.
الطريقة التي تستحقك"، فهو في كل ردود أفعاله، وكل ما يقوم به من أفعال لم
يكن سوى رد فعل لتصرفات الأب تجاهه، بمعنى رغبته طوال الوقت في تغيير نظرة الأب
إليه، ورضاه عنه.
إن الرغبة العارمة في تغيير نظرة الأب إليه، ومحاولة إبهاره بما يقوم به؛
جعلته يطلب من الأب النزول إلى القرية لمُمارسة الطب، وهو ما يوافق عليه الأب،
شريطة النزول إلى القرية، والاختلاط بالفلاحين في يوم واحد فقط من الأسبوع، وهو ما
يُكسب "سوتو" سعادة جمة؛ لأنه سيقوم بالمزيد من تجاربه السرية على البشر
لمعرفة الفارق بينهم "كقرود بشرية"، وبين البشر الذين يمثلون أسرته ومن
هم مثلها. ولرغبته في اكتساب ثقة أهل القرية كي يتصرف بينهم بحرية كاملة، اصطحب
معه الكثير من الهدايا، والطعام، والحلوى للصغار: "أخيرا جاء اليوم الذي سمعتهم
يطلقون عليّ لقبا جديدا. لم أعد "الشينيجامي"، أو "الشيطان".
أصبحوا ينادونني "شوغوشين"، الإله الحامي. يا لغرابة هؤلاء القردة! كيف
يمكن أن تتحول صورة الشيطان في أعينهم إلى صورة ملاك، فقط ببعض الكلمات اللطيفة
وتبادل الابتسامات؟ كيف يمكن أن يصبح الغريب جزءا من عالمهم، لمُجرد أنه لم يطلب
منهم شيئا؟!".
إذا ما تأملنا الاقتباس السابق الذي تتحول فيه مشاعر أهل القرية، ويقينهم
تجاه "سوتو" إلى النقيض؛ لمُجرد أنه عاملهم بلطف، وأهداهم بعض الهدايا؛
للاحظنا أنه يتناسب تناسبا كاملا مع ثنائية المعايير، أو المفاهيم المُستقر عليها،
وهي الثنائية التي جابهنا بها الروائي في مُقدمة روايته، حينما حدثنا عن مثال
الإرهابي وأسرته، وهو ما يعني أن العالم الروائي هنا بالكامل تسيطر عليه ثنائية
النظر باتجاه الخير والشر التي أشار إليها الكاتب بتلقائية غير مرة.
لكن، رغم إجراء الكثير جدا من التجارب على أطفال القرية الذين قام
باختطافهم إلى الكهف بمُساعدة الطفل الغريب "كيتسونة"- أحيانا- إلا أنه
لم يكتسب احترام الأب، ولا تقديره، بل ازداد ازدراؤه له، وهو ما دفع
"سوتو" إلى التفكير جديا في الالتحاق بالحياة العسكرية في الجيش
الامبراطوري؛ لعل ذلك يُغيّر من نظرة أبيه إليه، لكنه فوجئ برفض الأب أيضا لمثل
هذا الاختيار، وازدياد قسوته في تعامله معه بسببه، وهو ما نلحظه في قول الأب له:
"أتظن أنك ستثبت شيئا؟ أتظن أنك ستعود رافعا رأسك؟ أتظن أنك ستجعلني أراك
بشيء غير الاشمئزاز؟ تمتمت بصوت مُنخفض، لكنه كان ثابتا: كلا، لن أفعل هذا، سأعود
رافعا اسم العائلة، وسأجعلك تُدرك من أنا. ضحك، ضحكة باردة ميتة، لا تخرج إلا من
جثة لم يعد فيها روح، ثم قال بصوت أشد سوادا من الليل: أتعلم، لو أنني أثق بأنك
ستحقق أي إنجاز في الجيش، أو حتى أنك لن تجلب لنا العار، لخرجت لتوديعك، لكن
للأسف، إنني أعرف العفن حين أشم رائحته، وأنت بذرة فاسدة مُنذ ولادتك، وكلامك قبل
قليل أكد لي ذلك"! أي أن "سوتو" هنا كلما حاول القيام بشيء من
المُمكن له أن يثير إعجاب والده فيه؛ يُفاجأ بالأب الذي يزداد احتقاره، وأنفته،
وازدرائه منه، وهو ما يجعلنا نتساءل كثيرا: ما كل هذه العدائية غير المُبررة من
قبل الأب باتجاه الابن؟ ربما سيفسرها لنا الروائي في الجزء الثاني من الرواية، لا
سيما أن هذا الجزء قد انتهى قبل استكمال مُذكرات "سوتو".
نتيجة لأن "سوتو" قد تحولت حياته بالكامل إلى مُجرد رد فعل طويل
لأفعال الأب تجاهه، فلقد أصر على الالتحاق بالجيش. لذا، حينما رفضوا قبوله في
الجيش باعتباره من أبناء النبلاء، فضلا عن أن الطبيب الذي اختبره رأى أن ما يعرفه
"سوتو" في الطب أعلى بكثير مما يعرفه كل الأطباء العسكريين الموجودين؛
رفض "سوتو" الانصراف، وأخبر الضابط بأنه لن يتحرك من مكانه، وهو ما جعل
أحد الضباط يعرض عليه صفقة من أجل قبوله في الجيش، وهي الصفقة التي تمثلت في
التحاق "سوتو" بالجامعة الامبراطورية؛ نظرا لأنه تعلم الطب في المنزل،
وبالتالي فعليه أن ينهي دراسته بالكامل في ستة شهور فقط، ويحصل على الشهادة
الجامعية، وإلا لن يتم قبوله في الجيش، وهو ما وافق عليه "سوتو" بما أنه
ليس أمامه أي حل آخر: "هناك حل وحيد. رفعت عيني فجأة: ما هو؟ سأمنحك خطاب
توصية للجامعة الامبراطورية، ستذهب إلى هناك، وسأمهلك ستة أشهر لتثبت جدارتك، إن
تجاوزت المُدة، فلن تدخل الجيش أبدا. هل أنت موافق؟ وافقت. كنت أحتاج إلى أي بصيص
ضوء أتشبث به".
رغم أن "سوتو" اعتزل الجميع في الجامعة الامبراطورية وحاول التركيز على دراسته للطب التي لا بد لها أن تنتهي، ويحصل على شهادته قبل انتهاء الستة شهور، وإلا ما تم قبوله في الجيش- تبعا للاتفاق- إلا أن بعض زملائه حاولوا غير مرة التحرش به؛ اعتقادا منهم أن عزلته هي مُجرد تعالٍ وأنفه منه عليهم، لذا يوافق ذات مرة الذهاب مع زميليه إلى صالة الطعام لتناول طعامه- حينما عرضوا عليه الأمر- ولعلنا هنا نُلاحظ مدى الدقة والاستغراق الكاملين في الحالة الوصفية التي لجأ إليها الروائي على لسان "سوتو" والتي تُعد- كما سبق لنا أن قلنا- بديلا للصورة المُفتقدة المرسومة داخل العالم الروائي: "وصلنا قاعة الطعام. كانت أشبه بمعبد نُسيت فيه الصلوات، وبقيت الطاولات كأوثان صامتة، لا تأبه بمن يجلس أمامها. الباب ضخم ومُظلم، منحوت من خشب كأنما نُزع من تابوت امبراطور، فتحه "باكادا" فانبعث صرير خافت، لكنه لم يكن صريرا، بل أنين. أنين باب تعب من فتح نفسه كل ليلة لابتلاع أرواح مُنهكة اعتادت أن تُقدم له دون مقاومة. القاعة شاسعة، لكن اتساعها يوحي بأنها ساحة إعدام، لا صالة طعام، السقف المُرتفع لم يشعرني إلا بالضآلة. مصابيح الزيت تتأرجح من السقف مثل فاكهة فاسدة تُركت في العراء، ضوءها الذهبي الضعيف لا يُضيء إنما يُصفر وجوهنا، فيجعل من زملائنا مخلوقات نصف بشرية، نصف ظل".
يستمر الروائي هنا مُستغرقا في الحالة الوصفية التي بدت لنا وكأننا أمام
شاشة سينما نُشاهد ما يكتبه الروائي عليها- وهو ما ذهبنا إليه حينما أكدنا على
ضرورة هذا الوصف البديل عن الصورة المرسومة- لذا حينما يدخل "هيروشي"
إلى المطعم مع بعض زملائه، ويحاول استفزاز "سوتو" والتحرش به؛ يقوم
"سوتو" بإهانته بهدوء تام أمام الجميع، ويمعن في قسوته فيعريه أمام
الآخرين وأمام نفسه، ويثبت له أنه مُجرد شخص ضئيل لا قيمة له، بل هو عار على أسرته
بالكامل، وأنهم يرفضون وجوده، لهذا سعوا إلى إلحاقه بالجيش من أجل التخلص منه ومن
عاره؛ مما يجعل "هيروشي" يصل إلى حالة جنونية من الغضب؛ ومن ثم يقبل على
"سوتو" بكل ما أوتي من غضب نتيجة لشعوره بالضآلة والتعرية أمام نفسه،
ليكيل له المئات من اللكمات، بينما "سوتو" ساكنا، لا يتحرك، راسما على
وجهه ابتسامة ساخرة هادئة، وهي ما كانت تدفع "هيروشي" إلى المزيد من
الجنون الحقيقي والهياج؛ فالابتسامة الساخرة لا تغادر وجه "سوتو" رغم
الدماء التي تتناثر من وجهه، فضلا عن استسلامه، وعدم رغبته في الدفاع عن نفسه؛ فهو
يرى أن هذه الطريقة من شأنها أن تُحطم أعصاب "هيروشي"- إن لم تقتله-
أكثر مما لو رد عليه، أو بادله اللكمات، وهو ما كان بالفعل.
إن وصول الكاتب إلى هذا المشهد يجعلنا نشهد له بمقدرته على الابتكار الفني،
والتجديد بالفعل في الشكل الروائي، والتمكن منه؛ فرغم أنه يروي كل هذه التفاصيل
والأحداث بشكلها التفصيلي والوصفي، إلا أنه يقطع فجأة- تماما كما في السينما- ليعود
بنا إلى ما سبق أن رواه من قبل مرة أخرى، فنقرأ بمُجرد ما يقطع بعد مشهد الضرب،
كأنه في مشهد سينمائي ويكتب: "قبل ما يقرب من الشهر والنصف. مركز نارا
للتجنيد"، ليعود بنا مرة أخرى إلى لقاء "سوتو" مع الضابط الذي عقد
معه الصفقة، لكنه هذه المرة لا يتوقف بالسرد عند موافقة "سوتو" على
الاتفاق- كما سبق لنا أن قرأنا من قبل- بل يستمر في السرد بعد هذه الموافقة؛
ليبيّن لنا السبب في لجوء الضابط إلى عقد الصفقة معه، وهو ما لم يخبرنا به الروائي
من قبل حينما تعرض لهذا المشهد سابقا، أي أن الروائي هنا يستخدم تقنيات السينما
ببراعة تتواشج مع السرد الروائي، وهو ما نُلاحظه مرة أخرى حينما يقطع مرة أخرى
بكتابته: "العودة إلى الحاضر، إلى ما قبل حادثة الضرب"، فينتقل بنا إلى
أحد الجنود الذي يسرع إلى الضابط- صاحب الصفقة- ليخبره بقوله: "سيدي، الفتى
المدعو سوتو، الذي أمرتم بمُراقبته، يبدو أنه على وشك افتعال شجار".
إذا ما عرفنا أن هذا المشهد السابق قد جاء بالفعل- داخل الرواية- بعدما
قرأنا فعل الضرب والشجار؛ سيتبين لنا مقدرة الروائي على الإمساك بتلابيب أحداثه
الروائية، والسيطرة عليها من خلال استخدام آليات، وتقنيات، وسرديات السينما بشكل
شديد الوعي، ويقينا منه أن هذه التقنيات ستكون إضافة فنية للعالم الروائي الذي
يتابع أحداثه.
فالكاتب هنا يحرص على إعادة السرد الروائي مرة أخرى بتقنية وجهة النظر
السينمائية، أو لقطات وجهة النظر Point of View Shot التي تعيد الحدث من خلال زاوية جديدة ومُختلفة عما سبق أن تم
تقديمها بها، حتى لكأنه يُقلب الحدث هنا على جميع أوجهه وزواياه المُختلفة، وهو ما
يجعله يعيد سرد مشهد الضرب مرة ثانية، وبشكل مُختلف، ومن زاوية جديدة حينما يسرع
الضابط إلى المطعم لرؤية الشجار الذي نشأ ما بين "هيروشي"
و"سوتو". أي أن الروائي هنا قد قسم زمن الفعل الواحد إلى ثلاث وحدات
زمنية مُختلفة؛ فقام بسرد الحدث أولا في زمنه الآني- الزمن الفعلي- وسُرعان ما عاد
لسرده مرة أخرى قبيل حدوثه بلحظات- حينما أسرع الجندي إلى مكتب الضابط لإخباره- ثم
عاد إلى سرده حينما أسرع الضابط إلى المطعم- هنا الرؤية تحولت إلى رؤية من خلال وجهة
نظر الضابط، أو زاويته.
إن هذا الشجار كان بمثابة نقطة مفصلية في حياة كل من "هيروشي"-
الذي اعتزل الجميع ولم يفارق غرفته لعدة أيام- و"سوتو" الذي استأنف مرة
أخرى تجاربه الطبية السرية على جثث الأحياء من البشر لمعرفة مدى اختلافهم عن غيرهم
من الكاملين من أمثاله هو وعائلته؛ فبعد غياب "هيروشي" لعدة أيام في
غرفته، مُلازما لها، يقومون بكسر باب غرفته؛ ليُفاجأوا باختفائه، وبخطاب قد تركه
على فراشه: "إلى كل من ظننتهم رفاقي يوما، إلى الأساتذة الذين لم أكن أستمع
إليهم، ولا أحترم مُحاضراتهم، أعتذر. أعتذر لأني لم أكن كما ينبغي أن أكون. إلى
أبي، إلى أمي، إلى أخي، أعتذر عن ضعفي، عن كوني عبئا، عن إحراجكم المُتكرر بسبب
غبائي، عن بقائي حيا كل هذا الوقت دون سبب، أعتذر، أعتذر ممن كان يُدعى ذات يوم
"هيروشي". وفي نهاية الورقة توقيع صغير مألوف مائل، كأنه يهمس لا يصرخ.
بدأت حملة البحث، كل الطلبة شاركوا، فتشوا الحجرات، الأروقة، المرافق، حتى الأزقة
المُحيطة بالجامعة، لكن، لا أثر له".
فهل انتحر "هيروشي" بالفعل، وإذا ما كان قد فعل ذلك؛ فأين جثته،
وأين ذهب؟
تتبيّن لنا حقيقة الأمر حينما نعرف أن "سوتو" قد دخل إلى غرفة
"هيروشي" أثناء التزامه لها، وعدم مُفارقتها، وحينما يواجهه الضابط بهذا
الفعل ويسأله عن السبب- بعد اختفاء "هيروشي"- يرد عليه "سوتو"
بكل اطمئنان بقوله: "أجل، هذا صحيح، أردت الاعتذار له عما حدث؛ فقد شعرت بشيء
يشبه الذنب".
إذن، "فسوتو" لم ينس "لهيروشي" ما كان منه تجاهه، ومن
ثم كان هو الذي كتب هذا الخطاب، وليس "هيروشي"، كما قام بإجراء المزيد
من تجاربه الدموية، لكن هذه المرة على "هيروشي" الذي اختفى ولم يعثر
عليه أحد: "في الليل، تحت الأرض، في عمق لا يُعرف له قاع، داخل غرفة لا اسم
لها، تحمل لعنة متوارثة كالعفن في جدرانها، حيث الرطوبة تتنفس، والظلام يتكثف حتى
يصبح له قوام، كان هناك جسد. جسد، أو بقايا شيء ما كان يوما جسدا. مُمدد فوق طاولة
معدنية عريضة، كأنها ضُبطت خصيصا لتستوعب وجعا لا حدود له، دون غطاء، دون اسم، دون
صوت. بطنه مفتوح على شكل صليب، لا جراحة هنا، إنه تمزيق، أمعاؤه موضوعة إلى جانبه،
من فعل هذا توقف لينظر إليها، دوّن، ثم أكمل بهدوء. قدماه منزوع عنهما الجلد،
ليستا مُحترقتين، ولا مقطوعتين، فقط منزوعتا الجلد كمن يقشر ثمرة، يده اليمنى
مُشرحة، لعل أحدهم أراد أن يرى ما تحت الجلد، ثم توقف عند العظم. وجهه بلا جلد، لم
تُترك له ملامح، لم تُبق له هوية. عيناه غير موجودتين، أُزيلتا بدقة. لسانه مفصول
وموضوع بجانبه، على كتفه وشم عقاب. ما زال واضحا، صامتا. لا أثر لصراخ، ولا دم في
الأرض، كل شيء تم بهدوء. كأن الجسد استسلم مُنذ البداية. وفي الزاوية، يجلس رجل
على كرسي خشبي. ساكنا، لا يتحرك. في يده اليسرى كتاب، وفي اليمنى قلم. يكتب دون
انفعال، دون شفقة، بخط واضح، هادئ، كأنه يكتب شيئا روتينيا. كتب في أعلى الورقة: العينة
السابعة والأربعون. استئصال الوجه تم بلا ردة فعل، العصب السمعي تم الوصول إليه
دون أن يفقد الجسد تماسكه، التجربة ناجحة، لكن، ليست مثالية بعد. توقف قليلا. نزع
القلم من الورقة، وأسند رأسه إلى كفه، لم يكن التعب جسديا، كان تعبا داخليا، غائرا
كالحفرة. همس بصوت بالكاد يُسمع، وهو يحدق في الجسد المشوه أمامه: أتدري يا هيروشي
لماذا حدث لك هذا في أربعة أشهر فقط؟ لأنك ذكرتني به، بذاك الذي يُفترض أنه والدي.
ابتسم نصف ابتسامة، لا سرور فيها ولا سُخرية، فقط شيء أقرب إلى الانهيار المحسوب.
هل تعلم كيف ودعني؟ قال لي: أنت لست أكثر من خيبة أمل، ابن ضيّع عاما من عمره بين
أقدام الفلاحين. وكأنه يبصق في وجهي. لكنه لم يعلم أنني لم أكن أعالجهم، كنت
أدرسهم. لم يكن يعلم عن كهف التجارب خاصتي. لم يكن يعلم أنني جربت على اثنين
وعشرين طفلا، جميعهم يبتسمون لي ظنا منهم بأني مُخلصهم، يا لسذاجتهم!".
لقد تحول "سوتو" هنا إلى مُجرد كائن مشوه، كائن لا يحمل أي شكل
من أشكال المشاعر، بقدر رغبته في تحقيق هدف واحد فقط: تحقيق ذاته، وإثبات أحقيته
بالاحترام، وتقدير أبيه المُفتقد له.
لكن، ثمة مُلاحظة هنا لا بد من التوقف أمامها، والإشارة إليها؛
"فزيرو" الذي يقوم بقراءة هذه المُذكرات عن "سوتو" ربما لا
يختلف إطلاقا عنه، فهما وجهان لعملة واحدة، ولنتأمل ما قام به "زيرو"-
في إحدى مهامه التي تم تكليفه بها من أجل إنقاذ أحد الأشخاص المُختطفين/ وليم-
حينما لم يتحرك، أو يحاول إنقاذ زوجة الرجل المُختطف أو ابنه من القتل، فبقي
صامتا، مُراقبا لقتلهما أمامه من دون أن تتحرك فيه أي مشاعر، لمُجرد أن ملف المهمة
المُوكلة إليه لم يذكرهما، ولم يُشر إليهما أي إشارة، وبما أن الزوج/ الرجل
المُختطف فقط هو الذي تم ذكره في أوراق المهمة؛ فلقد ترك الابن والزوجة لمصيرهما
الدموي، ولم يحاول التدخل لإنقاذهما: "لم يفعل شيئا، ليس لأنه لا يستطيع، لكن
لأنه لم يُؤمر. في عقله، المرأة لم تكن سوى رقم في التقرير، الطفل لم يُذكر في
الملف كهدف. هما لا يوجدان. هما مُجرد ضوضاء بشرية، فقاعات في مُستنقع لن يتبخر.
كان بإمكانه التدخل؟ نعم. كان يمكنه إنهاؤهم جميعا في ثلاث ثوانٍ؟ بالتأكيد. لكنه
لم يفكر بذلك، لم يخطر بباله أصلا. ليس لأنه قاسٍ، بل لأنه فارغ. فارغ من تلك
الأشياء التي تصنع الإنسان: الشفقة، التأنيب، حتى الغضب. الهدف كان
"وليم"، الوحيد المكتوب بالحبر. البقية؟ هامش رمادي على ورقة مهمات. هو
لم يُرسل لإنقاذ العالم، ولا ليفهمه، بل ليتم ما أُوكل إليه. والباقون، ببساطة، لا
يستحقون مكانا في ذاكرته"!
أي أن "زيرو" قد تم تفريغه بالكامل من مشاعره الإنسانية- تماما
كما حدث مع "سوتو"- لكن إذا ما كان هذا التفريغ قد حدث مع
"سوتو" بسبب أبيه، ومُعاملته الغريبة معه، فلقد حدث مع "زيرو"
بفضل عناية "كينجي" به، ورعايته له مُنذ صغره، لينشأ على هذا الشكل.
تبدو لنا رواية "ذكريات في الجحيم" للروائي الأردني ينال ج.
بمثابة شكل/ نوع روائي جديد، نشأ نتيجة لتداخل الأنواع الفنية، وتواشجها مع بعضها
البعض، واستعارة آليات فنية من الفنون التي لجأ إليها الروائي- الرواية، والأنمي،
والسينما- بوعي تام، وإدراك لما يقوم به، وهو ما أدى به إلى الانتهاء لشكل روائي
يختلف اختلافا بينا عن الشكل التقليدي للرواية بشكلها الذي نعرفه، نجح في
الاستفادة من آليات هذه الفنون بمزجها مع بعضها البعض، والاستفادة من قدراتها
الفنية، وهو ما أكسب الرواية فرادة، وحيوية شيقة قادرة على امتلاك القارئ حتى
السطر الأخير منها. صحيح أن العمل الروائي هنا قد يبدو للوهلة الأولى مُجرد عمل تشويقي،
خفيف، مُسلٍ، لكننا سنكتشف- مع الخوض فيه وتأمله بروّية- مدى أهميته الفنية؛ نظرا
لأسلوبيته، ومحاولة الكاتب ابتكار شكله الفني الخاص به، مما يعني أن الرواية هنا
لم تكن مُجرد عمل روائي للتسلية، بل كانت وسيلة للتجريب الفني، ومحاولة للمزج ما
بين الفنون للخروج بشكل فني له سمات جديدة تخص مُؤلفه، وربما تفتح الباب للمزيد من
الكتابات على هذه الشاكلة الجديدة المُبتكرة.
مجلة "نقد 21".
عدد أكتوبر 2025م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق