الاثنين، 10 أبريل 2017

سمير فريد.. الإنسان

الناقد سمير فريد
لا أنكر أني لم أدخل دار عرض سينمائي في حياتي إلا بعدما أنهيت دراستي الجامعية، كما لا أنكر أني لم أكن أفهم شيئا في تحليل الفيلم السينمائي الذي كان مستغلقا عليّ من حيث آليات الصناعة والتكوين واللقطات وغيرها من مفردات صناعة السينما، حتى أني كنت أنظر إلى العديدين من الأصدقاء مندهشا من قدرتهم على التحليل لأي فيلم حينما أراهم يتناقشون في فيلم ما، لكني كنت محبا للسينما وإن كنت أراها من خلال الفيديو كاسيت فقط.
أذكر أن حبي للتحليل السينمائي بدأ مع مجلة "اليسار" التي كان يصدرها حزب التجمع الديمقراطي من خلال المقالات الشهرية المهمة التي كان يكتبها الناقد السينمائي أحمد يوسف، ورغم أن رؤيته النقدية للسينما هي رؤية مغرقة تماما في الأيديولوجية إلا أنها جعلتني أعشق السينما والنقد السينمائي من خلال ما كتبه من مقالات هي في رأيي مرجعا أساسيا ومهما لكل من يرغب في تناول صناعة السينما بالنقد.
لكن، منذ وقع في يدي كتاب "أضواء على سينما يوسف شاهين" للناقد السينمائي الراحل سمير فريد وجدت نفسي أسيرا لما يكتبه هذا الناقد المختلف عن الآخرين؛ حيث يتناول الفيلم السينمائي بالتحليل النقدي بطرقة تتميز بالكثير من العذوبة والثقافة الموسوعية؛ الأمر الذي يجعلك تحب السينما بشكل لا يمكنك الفكاك منه فيما بعد.
في ذلك الوقت حرصت على تتبع كتابات سمير فريد الذي جعلني أعشق السينما؛ فقرأت له كتابه المهم "الواقعية الجديدة في السينما المصرية"، و"مخرجون واتجاهات في السينما المصرية"، وغيرها الكثير من الكتب التي كنت ألاحظ فيها موسوعية الرجل الثقافية التي كانت تغنيك عن الكثير من الكتب السينمائية بطريقة عرض بسيطة ومثقفة وبعيدة عن الأكاديمية المملة.
كنت أرى الرجل كإله في النقد السينمائي لا يستطيع غيره من النقاد العرب أن يطاوله فيما يذهب إليه. في عام 2003م انتهيت من كتابي "السينما النظيفة"، وقدمته إلى سلسلة "آفاق السينما" التي كان يشرف عليها كل من الناقدين أحمد الحضري، ومحمد عبد الفتاح، وأذكر أنني واجهت الكثير من العنت والتعسف من الناقدين في ذلك الوقت، ورفضا نشر الكتاب بدعوى أن الكتاب 39% من موضوعاته سبق نشرها من قبل؛ والسلسلة لا تُعيد نشر الأعمال المنشورة على حد قولهما، كما صرح محمد عبد الفتاح أني أكتب النقد بطريقة لم يألفها من قبل؛ ومن ثم رفضا تماما نشر الكتاب في السلسلة بدعوى- كما قال لي أحمد الحضري - أن هذا سيجعل كمال رمزي وسمير فريد وغيرهما يستاءان في حالة نشر الكتاب؛ لأنهما لديهما أعمال سبق نشرها ومن ثم فلابد لهما بالضرورة أن يُعيدا نشرها في السلسلة إذا ما تم نشر كتابي.
بالطبع كنت أعرف جيدا أن هذا الكلام غير صحيح، كما أن السلسلة فيها الكثير من الكتب التي أُعيد تجميعها من الغلاف للغلاف، لكني لم أهتم كثيرا بالدخول في معركة معهما، كما أني كنت مندهشا من موقف محمد عبد الفتاح غير المبرر الذي أصر على عدم نشر الكتاب لأن طريقتي في كتابة النقد لا تروق له، أو لم يألفها من قبل، لكني أصدرت الكتاب فيما بعد في نهاية عام 2010م، ولعل إصدار الكتاب كان أهم حدث حصل معي؛ لأني من خلال إصداره تعرفت عن الناقد سمير فريد بشكل مباشر ووثيق.
كان لسمير فريد رأيا نقديا سبق أن طرحه في أحد الحوارات التي أُجريت معه في مجلة "الفن السابع" تحت عنوان: سمير فريد: السينما المصرية تعيش ديكتاتورية النوع الواحد، وهو الحوار الذي أجراه معه كل من نادين شمس، ومحمود الكردوسي، وعصام زكريا، وقد قال فيه الراحل سمير فريد: "إن كل ما يُكتب عن الأفلام من آراء هو نقد، لكن ما هي قيمته، وما مدى عمقه، وهل هو منهجي أم لا". هنا اختلفت في كتاب "السينما النظيفة" مع رأي الأستاذ سمير فريد، وذهبت إلى أنه ليس من المنطقي أو المقبول أن يُفتح باب النقد السينمائي هكذا على مصراعيه لكل من أراد الفتوى في مجال النقد السينمائي سواء كان واعيا لمضمون هذا الفن أو غير واع؛ لأن هذا سيؤدي إلى كارثة نقدية وتضارب الآراء النقدية حول الفيلم الواحد؛ نظرا لاختلاف الثقافات وتباينها؛ ومن ثم سيصدق قول الكثيرين الذين يتهمون نقاد السينما بالكتابة تبعا لأهوائهم وحالاتهم المزاجية، أو تبعا لمصالحهم الشخصية، وأنه في هذه الحالة- إذا ما فتحنا باب النقد على مصراعيه- سيكون هناك مجموعة من النقاد تُجمع على فنية فيلم ما، وفي المقابل ستكون هناك مجموعة أخرى تُجمع على عدم فنيته، وهناك مجموعة ثالثة ترى أمرا آخر، وبالتالي سيبدأ النقد السينمائي في الدخول في دائرة مفرغة من الهراءات والعبث نتيجة دخول من ليس لهم صلة أو خبرة بهذا المجال إليه. هنا استرسلت فيما كتبته قائلا: بل نحن نرفض تماما قول الناقد سمير فريد برمته حتى لو استرسل في حديثه ليقول: "لكن ما هي قيمته، وما مدى عمقه، وهل هو منهجي أم لا"؛ لأن هذا يُعد تبريرا وترك الباب منفرجا لبعض هؤلاء الذين يدخلون هذا المجال وهم ليسوا على دراية به اللهم إلا أن الصدفة التاريخية قد وضعتهم في مجال السينما مما أدى بهم في نهاية الأمر أن اعتبرو أنفسهم أوصياء على السينما المصرية وخرجوا باصطلاحات جديدة ليس لها معنى سوى في رؤوسهم مثل "السينما النظيفة" وغيرها.
في هذه الفترة لم أكن أعرف سمير فريد سوى كناقد مهم أتعلم منه الكثير وأقرأ له فقط، لكن في يوم مناقشة الكتاب في ليلة الخامس والعشرين من يناير 2011م، وفي الوقت الذي كانت فيه القاهرة على حافة الانفجار ويسودها الكثير من الصخب حيث بداية الثورة المصرية على حكم مبارك، فوجئت بما لم أكن أنتظره. كنت قد تهيأت لمناقشة الكتاب في حزب التجمع مع الناقد الصديق عصام زكريا والناقد محمد رفيع بينما كان يُدير الأمسية الصديق أسامة عرابي، وبينما نستعد للمناقشة دخل الناقد القدير سمير فريد الذي أتى للمشاركة في هذه الأمسية.
أذكر يومها أني لم أصدق نفسي بوجود "الأستاذ"، وأنه حرص على التواجد والحضور رغم أننا لم نلتق من قبل أو يحدث بيننا أي اتصال. لم أصدق اهتمامه بناقد شاب لا يعرفه الكثيرون؛ الأمر الذي جعله يكون حريصا على حضور مناقشة كتابه الأول في النقد السينمائي، وأذكر أنه قال: قرأت عن مناقشة الكتاب الليلة، وأحببت أن أكون حاضرا ومشاركا. حينها تعلمت منه الكثير. تعلمت أنه مهما كنت كبيرا في المكانة فالاهتمام بالآخرين حتى لو لم أكن أعرفهم بشكل مباشر من الأمور المهمة التي ستترك أثرا يدوم ما حييت.
تعلمت منه أن التواضع في العلم أهم من العلم ذاته، ورغم أنه كان ذو ثقافة موسوعية في السينما وغيرها من المجالات، ورغم معرفته أن الكثيرين ممن حوله يحاولون التطاول مع جهلهم، إلا أنه لم يفتعل العداوات مع أي ممن يحاول التثاقف رغم أن هناك الكثيرين منهم لم يحبونه يوما مع إظهارهم عكس ذلك. استمعت في هذه الليلة لسمير فريد بثقافته الواسعة في السينما وغيرها، وأثرى النقاش بشكل لم أكن أنتظره من قبل. في الحقيقة كنت ممتنا كثيرا للرجل الذي لم أكن أعرفه من قبل، وسعيدا باهتمامه الذي رأيته مبالغا فيه بشاب مازال يخطو خطواته الأولى في النقد السينمائي. لم يعترض إطلاقا على خلافي معه في أن كل ما يُكتب من الممكن أن نعتبره نقدا، بل ناقشني فيه بسعة صدر.
بعد هذا اللقاء بعدة سنوات استيقظت من نومي على صوت الهاتف. كان على الطرف الآخر سمير فريد يخبرني أنه قد تم اختياري كعضو لجنة اختيار أفلام في دورة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2014م التي ترأسها سمير فريد. سعدت كثيرا باختيار الرجل وثقته في هو وعصام زكريا رئيس لجنة اختيار الأفلام. لا يمكن إنكار أن العمل مع سمير فريد لا يمكن أن يتكرر مع شخص آخر. فهو يستمع جيدا للآخرين، ولا يمكن أن ينفرد برأي أو قرار إلا إذا استشار جميع من يعملون معه. وهذا ما كان يؤكد عليه دائما بأننا جميعا فريق واحد. وليس من حقه كرئيس للمهرجان أن ينفرد بقراره إلا إذا استشارنا جميعا، وهذا ما كان يفعله معنا بالفعل.
كان الرجل حريصا دائما على الاهتمام بالجميع وتشجيعهم، كما احتضن الكثيرين من النقاد وعمل على دعمهم وتقديم كل ما يمتلكه للاستمرار في العملية النقدية. كانت السينما والعمل عليها هي همه الأول؛ ومن ثم لم يكن يعنيه سواها؛ وهذا ما جعل دورة مهرجان القاهرة 2014م من أهم وأنجح الدورات السينمائية.
حاول الكثيرون معاداة سمير فريد في الوقت الذي لم يحاول أن يفتعل أي عداءات مع أي شخص حتى مع من حاولوا معاداته. وكان حريصا دائما على القول: بأنه ما دمت في وسط ما فلا تحاول معاداة من يعملون في هذا الوسط؛ لأنك ستظل فيه؛ ومن ثم كان يقابل دائما من يعادونه بوجه مبتسم وترحاب قلما نجده لدى الآخرين. حتى أنه في دورة 2014م حينما تم تشكيل لجنة مالية من قبل وزارة ثقافة جابر عصفور باعتبار أنه قد تم إهدار المال العام في هذه الدورة. وبعدما أنهت هذه اللجنة المالية عملها وأثبتت أنه لم يتم إهدار أي شيء فوجئنا بأن جابر عصفور كوزير لم يعلن إبراء الذمة المالية لسمير فريد، بل وطلب منه في نفس الوقت الاستمرار في رئاسة المهرجان. هنا طلب فريد من عصفور أن يصدر إبراء الذمة المالية أولا، إلا أن جابر عصفور تنصل من ذلك ورفض؛ الأمر الذي جعل سمير فريد يرفض الاستمرار في رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي؛ لأنه لا يرضى بتشويه صورته التي تناولتها الصحافة حينما تم تشكيل اللجنة المالية. وحينما أثبتت اللجنة المالية العكس صمت جابر عصفور ورفض إعلان ما أثبتته اللجنة وكأنه يرغب ويصر على تشويه صورة الرجل الذي احترم نفسه وتاريخه واعتذر عن رئاسة المهرجان.
الناقد سمير فريد مع الناقد محمد دياب ومعي منذ شهرين تقريبا
لا يمكن الحديث أو الإحاطة بسمير فريد الإنسان أو الناقد؛ فهو من احتضن كل الجيل النقدي السينمائي ووجهه وسانده ووقف إلى جانبه. وهو من أعطانا الكثير من ثقافته الموسوعية ولم يكن يبخل علينا بأي معلومات أو وثائق أو أفلام من الممكن أن تكون ذات فائدة لنا. أذكر أنه حينما كلفني بكتاب "غسان عبد الخالق.. سيرة سينمائية" قال لي: أنت أصغرنا عمرا وأنت الوحيد الذي لم تر غسان ولم تكن لديك معه علاقة صداقة أو علاقة مباشرة؛ وبالتالي ستكون كتابتك أنت عنه أكثر موضوعية منا جميعا. وهنا أمدني الرجل بالكثير جدا من الوثائق المهمة التي كانت بحوزته عن غسان. الكثير مما كتبه غسان بخط يده. والكثير من أعمال غسان. ومعظم ما كتبته الصحافة عنه. أي أن معظم مادة الكتاب حاول توفيرها لي لأكتبه كيفما أرى أنا. ولم يطلب كل هذه الوثائق والمواد مني مرة أخرى، وهي الوثائق التي لا زلت أحتفظ بها حتى اليوم، بل حرص على أن يقدم الكتاب لي، وفي الحقيقة ليس هناك ما هو أبهى من أن تكون مقدمة كتاب لناقد سينمائي يكتبها سمير فريد.
سمير فريد قامة نقدية سينمائية وثقافية لا يمكن تعويضها، هذا فضلا عن عجزنا عن تعويضه على المستوى الإنساني.




محمود الغيطاني

جريدة القاهرة
عدد 11 إبريل 2017م



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق