ربما كان أهم ما يميز كتابة الرواية هو التجربة الحياتية التي يمر بها
الكاتب؛ ومن ثم يحاول صياغتها فيما بعد في شكل فني نستطيع أن نُطلق عليه رواية، أي
أن التجارب الحياتية التي يكتسب من خلالها الكاتب خبراته تُعد القماشة العريضة
التي ينهل منها حكايته؛ ليقدمها لنا في نهاية الأمر.
لكن، هل يعني ذلك أن الرواية لا يمكن أن يكتبها ويبرع فيها أيضا من لم
يمتلك تجربة حياتية عريضة، أو لم يحتك بالحياة بشكل واسع؟
بالتأكيد يستطيع كل واحد منا صياغة حكايته الروائية سواء كان يمتلك خبرته
الحياتية أم لا؛ فهناك الكثير من الروايات التي كُتبت بناء على أفكار ذهنية، أو من
خلال سماع تجارب الآخرين، أو من خلال الثقافة التي يمتلكها الكاتب، والتي اكتسبها
من بطون الكتب مُضفرة بالخيال، ولكن تبقى التجربة الحياتية في النهاية هي المعين
الذي لا ينضب من أجل صياغة رواية متماسكة وجيدة، رغم عدم انتفاء العكس وسلبه هذه
الإمكانية.
لكن، مع الحياة الاجتماعية الجهمة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، وتضييقها
على الجميع سواء كان رجلا أم أنثى من خلال العادات، والتقاليد، والموروثات والدين،
والحلال، والحرام، وما يصح وما لا يصح تبدأ التجربة الحياتية لدى الجميع في الضمور،
لا سيما التجربة التي تعيشها الأنثى المُكبلة بكامل أنواع الممنوعات والمحظورات
التي لو حاولت أن تخوض فيها؛ لأدى ذلك إلى لفظها اجتماعيا؛ فتصبح منبوذة مغضوبا
عليها، مرفوضة من الجميع، خاصة أن القيود الاجتماعية في مجتمعاتنا أكثر سطوة وعنفا
من القيود الدينية؛ وبالتالي تضطر الأنثى في هذه المجتمعات بالاكتفاء بتجربتها
الضيقة جدا في إطار أسرتها ومجتمعها الصغير الذي يرغمها على العزلة الاجتماعية؛ مما
يؤدي إلى انحصار التجربة فيما تسمعه من حكايات تدور حولها- تحكيها نساء العائلة-،
أو ما تخبره في حياتها اليومية التي لا تخرج كثيرا عن لقاء نساء العائلة، أو
الزوج- لو كانت متزوجة-، أو عالم أطفالها ومطبخها وغير ذلك من المفردات والأمور
الصغيرة التي لا يمكن أن تُشكل لها عالما روائيا واسعا؛ فتقع معظم الكاتبات، في المنطقة
العربية، في إطار عالم ضيق، ذي مفردات واحدة لا تختلف، فضلا عن شعورها الدائم
بالغبن الواقع عليها والتمييز؛ الأمر الذي يجعلها كثيرة الشكوى والصراخ والتألم في
كتابتها، وهذا ما يفسر لنا، إلى حد ما، أن معظم الكتابات النسائية العربية تقع في
النمطية، وتشابه المفردات، والأنين، والفلك الواحد، أي أنهن يدرن في عالم ضيق لا
يستطعن الخروج منه؛ لضيق التجربة.
هذا النمط الاجتماعي المفروض على الكاتبات أدى إلى انحسار مستوى الكتابة
الإبداعية النسوية في المنطقة العربية؛ حتى أننا نادرا ما نجد عملا إبداعيا جيدا
لامرأة عربية؛ بسبب هذا الشكل الاجتماعي، لكن، هناك بعض الكاتبات اللاتي تمردن على
هذه القيود الحديدية التي تثقلهن؛ وبالتالي خرجن عن هذه الموروثات ولفظنها تماما؛
فقدمن كتابات مختلفة نستطيع أن نقف أمامها وتأملها، كما أن بعض الأخريات ممن لم
يثرن على هذا النمط الاجتماعي استطعن من خلال موهبتهن أن يصغن عالما روائيا لا
يخرج من إطار التجربة الضيقة، لكنهن ابتعدن تماما عن الصوت العالي والشكوى الدائمة
والنمطية؛ فكان ما يكتبنه ثورة إبداعية عفوية؛ ومن ثم طوعن ما يدور حولهن من أجل
صناعة عالم روائي حقيقي وعفوي وثري بثراء موهبتهن التي استطاعت تحويل اللاشئ إلى
تجربة فنية تستحق التوقف أمامها.
مثل هذه التأملات وغيرها هي ما يمكن أن تدور في ذهن من يقرأ رواية
"نواقيس العزلة" للروائية الإماراتية لطيفة الحاج؛ لا سيما أننا ما زلنا
نذكر نموذجا نسويا إماراتيا قدم تجربة روائية جيدة جدا، ثم لم تلبث أن غاضت من
الوسط الثقافي العربي وتلاشت تماما بعدما نجحت من خلال تجربتها في اللجوء إلى عالم
الطفولة للتعبير عن موهبتها الروائية في رواية "حدثتنا ميرة" للروائية
لميس فارس المرزوقي، وهو الأمر الذي يُدلل على أن الموهبة الحقيقية في الكتابة هي
التي تصنع رواية جيدة مهما كانت التجربة الحياتية ضيقة أو ضامرة بفعل الكابوس
الاجتماعي الذي يجثم على صدور الجميع.
فكرة التمرد وتطويع ما هو كائن- لا تسمح الظروف الراهنة بتغييره- إلى حدث
فني هو جوهر هذه الرواية؛ فليس من الضروري أن يكون التمرد من خلال الضجيج والجأر
والشكوى الدائمة والصوت العالي، بل من الممكن أن يكون التمرد أكثر فنية وانسيابية
وتأثيرا وعفوية من خلال الفن الذي ينجح في احتواء كل الظروف وصهرها في تجربة فنية
ثرية يشيد بها القارئ ويندمج فيها، ويستمتع من خلالها.
هذا الصوت/ التمرد العفوي من دون شكوى نلمحه بوضوح لدى الكاتبة على لسان راويتها
مريم: "الأحاديث التي تدور حولي والقصص التي أسمعها من النساء والفتيات الأكبر
مني في عائلتنا أو حتى من صديقات أمي، أو أمي شخصيا تكبّلني. لا يمكن للبنت
الصغيرة أن تعيش طفولة حقيقية؛ لأن كل الأشياء غير لائقة ومن المعيب أن تكون. بنت
وحيدة بلا إخوة أو أخوات. بنات جيراننا يكبرنني بسنوات ويصغرنني بسنوات عديدة، لا
يوجد حولي من أتكلم معه أو أشاركه اهتماماتي التي لم أعرفها حقا. صديقات المدرسة
لم يكنّ صديقات، أمي تسأل عنهن مرارا، تطلب أرقام أمهاتهن؛ لتتعرف عليهن. يضحكن
مني حين أطلب ذلك، وشيئا فشيئا انسحبن وابتعدن عني. باستثناء واحدة، هي الأخرى
بعيدة ولم نكن نلتق في طفولتنا كثيرا بحكم إقامتها في العاصمة؛ بسبب عمل والدها.
لكنهم عادوا للعيش في "العين" في المرحلة الثانوية. نشأتُ منعزلة
ومنطوية وجبانة، خائفة دوما من شيء ما، خائفة من أن أكسر والدي إن أقدمت على عمل
مشين. من أن أُحزن أمي إن تعرفت على بنات لا تعرف أهلهن. ولم أكن وحدي؛ في الجامعة
اكتشفت أن كثيرات من بنات جيلي عشن كما عشت. تربية غريبة متناقضة مربكة، وَلّدت
أفراخا يلتصقن بأمهاتهن أو يبحثن عن مصباح مُعلق يبث حرارة؛ ليتجمعن تحته طالبات
الدفء". من خلال هذا الاقتباس السابق يتضح لنا مقدرة الكاتبة على الرفض
وانتقاد الوضع الذي تعيش فيه كفتاة عربية مختنقة من كل شيء، لكن هذا الرفض كان من
البساطة والعفوية ما يجعله فنيا لا ادعاء فيه ولا صوت عالٍ لها كما نراه لدى
الكثيرات من الكاتبات اللاتي يفضلن الضجيج حينما يكتبن عن تجربتهن التي تعاني منها
الكثيرات مثلها، فضلا عن أن تمرد الكاتبة هنا يبدو أقرب إلى البوح الذي يعطيها
الكثير من المساحة للحديث أكثر من دون رفض المجتمع لها، وهو المجتمع الذي لا بد له
أن يتأمل بعين منصفة ما تذهب إليه وتبوح له به، فلربما يستطيع هذ المجتمع التخلي
عن هذا الأسلوب الخانق الذي يدمر الجميع.
تؤكد
الكاتبة من خلال سردها على أن أسلوب التنشئة لا بد أن يؤدي إلى فجوة حقيقية بين
الرجل والأنثى في هذه المجتمعات، وهو بالفعل ما نراه على أرض الواقع؛ حيث يعجز كل
طرف منهما في التعامل مع الآخر بشكل فيه من التلقائية والطبيعية ما يجب أن يكون:
"راشد هو زوجي، وهو روائي. لقد تزوجت برجل لا أعرف عنه شيئا. حالي حال
الكثيرات من البنات في مجتمعنا. الزواج، أمنية كل الفتيات. الزواج برجل تربينا على
أن الاقتراب منه أو التعامل معه محظور، والحديث معه عيب، وتعمد النظر إليه حرام. هكذا
كانت أمي مثل كل الأمهات"! إن بث هذه الأفكار في نفوس الفتيات الصغيرات
يجعلهن دائما في حالة نفور وخشية دائمة من الرجل وكأنه عدو لهن سيلتهمهن إذا ما
اقتربن منه؛ الأمر الذي يخلق الكثير من الأمراض الاجتماعية؛ فبدلا من تنشئة بناتنا
على أن الرجل هو المُكمل للمرأة، وهو الزوج والأخ والأب والصديق ينشأن على أفكارٍ
أخرى تؤكد لهن أنه الوحش المتربص بهن منتظرا الفرصة كي تسنح له ويفترسهن؛ مما يؤدي
إلى نشأة مجتمعات مريضة لا يمكن لها أن تكون سوية.
هل من
الممكن أن تنشأ الفتاة في مثل هذه المجتمعات على الحب؟ ولنطرح السؤال بشكل آخر: هل
يغرس المجتمع في أطفالنا، بهذا الأسلوب، الحب تجاه الطرف الآخر، أم يكسبه الكثير
من الكراهية والخوف؟
بالتأكيد تكتسب الفتيات الكثير من النفور من
الطرف الآخر بسبب هذه التربية التي ترى في الحب عيبا لا بد من الابتعاد عنه:
"جالسة على الدرج أستمع لحكاياتهن وصوت أمي المختنق وهي تبكي،
تعاطفا مع فطوم، يصلني خفيضا. يحكين عن أشياء كثيرة، بعضها تفاصيل حميمية لأمور
تدور بينهن وأزواجهن، لا أفهم منها الكثير. لكن ضحكاتهن وهمساتهن تعني بأنها أمور
مخجلة لا يجوز الحديث عنها أمام الصغار، تماما مثل المشاهد التي لا يجب أن نشاهدها
عندما تُعرض على التلفاز. فهمت تلك التفاصيل التي كانت تُخفيها، وعرفت المشاهد
التي تحول بيني وبين رؤيتها من "روايات عبير" التي كانت محظورة في
منزلنا وكل منازل "الفريج"؛ لأنها قصص عاطفية تدور حول الحب. دخلت إلى
غرفتي وفتشت كل ركن فيها، نفضت حقيبتي المدرسية وأنا أنظر إليها مستغربة متسائلة
عما تبحث، كنت في آخر سنة في المرحلة الإعدادية. عندما يئست من إيجاد شيء قالت
متوعدة: مريوم، روايات عبير لا أريدك أن تقرأيها، يبيعها الهندي بائع الجرائد إياك
أن تشتري منه"! فحتى القراءة عن الحب، أو مشاهدته في التلفاز يُعد
أمرا خطيرا، ومُخجلا، ومُسيئا، ولا يجب أن تعرف عنه الفتاة المُهذبة شيئا، وإلا
رآها الجميع ذات أخلاق شائنة! |
لطيفة الحاج
|
هل ثمة من يستطيع هنا القول:
إن الكاتبة في هذا الشكل المتمرد على مجتمعها ذات صوت عال منفر يبتعد عن الفنية؛
ويُخرج الرواية من إطارها الفني إلى الشكوى والضجر؟
ربما لا نلاحظ فيما تقدمه
الكاتبة سوى مقدرة فنية على صياغة العالم الذي تدور فيه بشكل فيه من الهدوء؛ ما
يعمل على إثراء بوحها وتأمله بروية، هذا العالم الذي يؤدي بها إلى العجز الكامل في
حياتها حينما تتعامل مع الرجل حتى لو كان هذا الرجل هو الزوج الذي لا بد لها أن
تتدلل عليه، وتتجمل له: "جلست على الكرسي وفتحت الدرج الغاص بأنواع الماكياج
الذي صرت أجمعه منذ شراء جهاز عرسي. أبتاع ألوانا وماركات وأنواع لا أحسن استخدام
أغلبها. لكنها عقدة نمت معي منذ شهدتُ البنات حولي يُسمح لهن بوضع الماكياج الخفيف
وأُمنع أنا حتى من إزاله شعر شفتي العلوية. لا زلت صغيرة، أنا لم أزل شعر وجهي حتى
تزوجت. كنت أُحرج من منظر الشعر في وجهي. تعليق بعض البنات على أنني أمتلك شنبا.
أتجاهلهن، ثم أبكي في حمام المدرسة. أجلس وأنا أخفي عيوب وجهي وأظلله وألونه. ليس
العيب في الماكياج، إنه نعمة يلزم الشكر عليها. العيب في الناس وحدهم". أي أن
طريقة التنشئة التي تنشأها الفتيات تسلبهن تماما من أنوثتهن ومن مقدرتهن على
التعامل معها والتيه بها، والاستمتاع بكونها أنثى؛ ومن ثم حينما تتزوج هذه الفتاة
تفشل تماما في التعامل مع الزوج؛ لإحساسها العميق بالعيب من إبداء أنوثتها، أو
التجمل لزوجها.
هذا التشوه الذي تسببت فيه
تربية مريم يتأكد لنا حينما تشعر بالغيرة الشديدة والرفض تجاه بطلة الرواية التي
كتبها زوجها راشد: "لم أحب بطلة روايته؛ لأنها كانت لا تشبهني في شيء، أو
بالأحرى لأنها كانت تمتلك أشياءً تمنيت لو أمتلكها، بارعة الجمال، ناجحة، ثرية
وأم. متصالحة مع الحياة وتحبها، يقع في غرامها كل رجل التقى بها. سافرت إلى دول
كثيرة، ترتدي المجوهرات وآخر ما تطرحه الماركات العالمية من ملابس وأحذية وحقائب.
كانت بارعة في وضع الماكياج، تتزين فينبهر كل الرجال لرؤياها، وأنا، لم أكن كذلك،
كل الذي كنت أبرع في وضعه هو أحمر الشفاه، والفضل لأمي، كان المكياج من المحظورات.
لم يكن يُسمح لي حتى باقتنائه، أقول لها بأني سأضعه في المنزل فقط، لكنها كانت
ترفض. عندما تخرج البنت وهي متزينة وتضع الماكياج فإن الرجال لا يتركونها وشأنها.
إنهم لا يتركون البنت في شأنها حتى وهي لا تضع الماكياج، حتى وهي محجبة، حتى وهي
تضع غطاء الوجه. صحيح أنهم يكونون أكثر جرأة مع المتبرجات؛ ظانين أنهن يتبرجن
لأجلهم"، أي أنها بدأت تظن في زوجها الظنون لمجرد أنه كتب عن فتاة في إحدى
رواياته ووصفها بما يجب أن تكون عليه الفتاة في الواقع بعيدا عن طريقة التربية المُتبعة
في مجتمعاتنا العربية.
ربما نتيجة لكل هذه المحظورات
التي تخنقها بدأت مريم في التمرد الحقيقي على مجتمعها ورفض كل ما يدور فيه، صحيح
أن تمردها لم يكن من خلال الفعل المباشر، لكنه كان على الأقل من خلال التفكير
وتأمل ما يدور حولها: "لسنا بحاجة لأساطير؛ فالقصص المرعبة التي تؤلفها
الأمهات كافية وأكثر تحذيرا من أساطير الأجداد. "هدى" صديقتي الوحيدة
كانت تحكي لي عن تهديدات والدتها اليومية لها كل يوم إن هي تجرأت على رفع ملابسها
خارج المنزل. البنت كانت تمتنع عن شرب السوائل حتى لا تضطر لدخول الحمام خارج
المنزل. إن عرفت إنك دخلت حماما عموميا يا هدى، سأقتلك وأقطعك وأدفنك هنا تحت هذه
السجادة. كانت المرة التي أشعر فيها بأن لي أما ملاكا. اعترفت لي بأنها مرة فعلتها
على نفسها حين كانت في الصف الأول الابتدائي. كان الفصل شتاء، ولم تتمكن من
الاحتمال وبالطبع لن تذهب إلى حمام المدرسة المظلم والمخيف. وهل تراجعت الأم عن
تهديداتها؟ بتاتا. تجاهلت الأمر وعادت تتوعد في اليوم التالي. ارفعي ثيابك،
وستدفنين هنا. لقد فوتت سنوات طويلة من المرح بسبب شدة حرص والديّ عليّ، كذلك هدى،
وغيرنا الكثيرات من البنات. الممنوعات كثيرة ولا تنتهي. والأشياء المتاحة قليلة
جدا ولا متعة فيها". نلاحظ هنا أنها حينما تقرر في نهاية فقرتها السابقة
بأنها فوتت هي وغيرها من الفتيات الكثير من المرح في حياتهن بسبب حرص الوالدين؛
يتأكد لنا أن بداية بذور الرفض قد امتلأت بها، وتشبعت؛ ومن ثم سيكون ذلك بداية
الانفجار الاجتماعي من خلال العديد من الفتيات اللاتي يرفضن هذا الأسلوب العقيم من
التربية الاجتماعية تحت ظل العادات والتقاليد وما يصح، وما لا يصح.
تعمل الروائية لطيفة الحاج
منذ بداية روايتها على الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة التي تُشكل عالمها الروائي؛
لأنها من خلال هذه التفاصيل تنجح في صياغة عالمها الثري الذي لا يخرج من إطار
الزوج/ راشد/ الروائي وحياتها معه، ثم حياتها مع والديها التي نعرفها من خلال الـ flash back المعتمد في الأساس على تيار الوعي، حيث
نلاحظ أنها كلما تحدثت عن موقف ما يحيلها هذا الموقف إلى موقف آخر سابق في حياتها
سواء مع والديها أو مع زوجها، ومن هنا يكتمل المشهد الروائي بالكامل من خلال
التداعي الحر للأفكار والمواقف التي تجعل من نتف الحكايات- التي تبدو لنا للوهلة
الأولى عبارة عن مجموعة من الجزر المنعزلة- حكاية كبيرة ذات مشهد كلي وواسع نستطيع
استيعابه في نهاية الأمر من خلال الإضافات التي تضيفها كلما استرسلت في الحكي/
البوح، الذي يُشكل في نهاية الأمر الصورة الكلية للرواية بشكل مكتمل.
إنها امرأة تزوجت من المهندس راشد الذي يكتب المقالات
المستقاة من مشاهداته في الحياة اليومية للآخرين، لكنها تلمح في مقالات زوجها المقدرة
على الصياغة القصصية؛ ومن ثم تشجعه على كتابة الروايات وتقنعه بمقدرته على ذلك.
يأخذ الزوج حديثها على محمل الجدية ويبدأ بالفعل في كتابة الروايات وتنجح رواياته
كثيرا وتروج في مبيعاتها؛ فتتحول حياته إلى كتابة الروايات فقط ليل نهار، حيث
يتقمص دائما حياة أبطاله الذين يكتب عنهم؛ الأمر الذي يجعلها تعيش في رواية كبيرة،
لاسيما أنها بدورها قارئة شغوفة للروايات؛ وهو ما يجعل شخصيات هذه الروايات التي
تقرأها تتجسد لها وتتعايش معها مثل شخصية كوازيمودو/ الأحدب الذي كان في رواية
"أحدب نوتردام" للروائي الفرنسي فيكتور هيجو، فضلا عن عشقها لقراءة ما
يكتبه الزوج؛ الأمر الذي يجعلها تفتش فيما يكتبه عن امرأة قد يكون على علاقة بها،
أو يعرفها سواء في الماضي أو الوقت الحاضر، أي أن عالم الروايات قد أصابها بالكثير
من التشكك في زوجها رغم أنه لا يغادر منزله ويتواجد أمامها طيلة الوقت.
ربما كان العمود الفقري لرواية الحاج هو فقد راويتها/
مريم لحملها مرتين متتاليتين؛ وهو ما يجعلها في حالة نفسية سيئة طوال الوقت؛ فيلجأ
طبيبها لوصف المهدئات والعقاقير المنومة لها؛ وهو الأمر الذي يصيبها بالكثير من
الهلاوس والضلالات سواء كانت بصرية، أو سمعية، أو حتى مجرد هلاوس وتشوش في الأفكار
وعدم المقدرة على إدراك ما هو واقعي وما هو خيالي يدور داخل عقلها فقط؛ وبالتالي
نراها تلقي اللوم دائما على زوجها/ راشد الذي يتحملها في جميع حالاتها. ولعل ما
يؤكد لنا ما ذهبنا إليه في ذلك هو الإهداء الذي افتتحت به صفحات روايتها:
"إلى أرواح الأجنة التي تُجهض قسرا كل عام"، أي أن الإجهاض هو شغل
الروائية الشاغل، ثم لا تلبث أن تضع تصديرا لفرجينيا وولف تقول فيه: "كل
سر من أسرار روح الكاتب، كل تجربة من تجارب حياته، كل ميزة في فكره، مكتوبة بوضوح
في أعماله". من خلال هذين المدخلين يتأكد لنا أن جوهر الرواية ولبها يقومان
على أساس الإحساس العميق بالانكسار والاكتئاب اللذين تعاني منهما المرأة التي تفقد
جنينها؛ ومن ثم شعورها بالخواء النفسي التام الذي يؤكد لها شعورها بالنقص وعدم
الاكتمال في أنوثتها؛ بما أنها لم تستطع الإنجاب لزوجها.
نلاحظ ذلك في قول مريم: "لنعد
إلى الحادثة التي غيّرت حياتي، الإجهاض، للمرة الثانية. لم تتغيّر حياتي فقط؛ بل
حياة راشد معي، أصبح شخصا آخر، كأنه هو الذي أجهض طفلا وغُسلت أحشاؤه وعانى من
آلام في الظهر والبطن، لم يصم أسبوعين من شهر رمضان، وكان عليه أن يقضى تلك
الأيام، لأن الطفل الذي سقط كان شبه مكتمل التكوين. كأن راشد هو الذي تناول مسكنات
ومضادات حيوية لأسابيع، وأدوية منومة تُوصف لمن يعانون من الاكتئاب. هل كان متعلقا
بفكرة إنجاب ابن يملأ حياته التي ملأتُ نصفها وأظنها مع إجهاضي فرغت تماما؟ نعم،
لاشك أنه أراد أن يملأها ولم يجد سبيلا بعد ذلك إلا كتابة الروايات، وحين نجح اتخذ
من كل واحدة منها ابنا له، حتى صار المجموع تسع روايات في ست سنوات، تسعة أبناء".
إن إحساسها العميق بأن إجهاضها مرتين قد أدى إلى صدع عميق في علاقتها بزوجها
يُشعرها دائما بالذنب؛ لأنها لم تستطع أن تكون أنثى كاملة لهذا الزوج وتمنحه طفلا؛
ومن ثم نراها تقع في غياهب الاكتئاب الذي تحاول مقاومته الدائمة بالمهدئات التي
تسببت لها في الكثير من الهلاوس والتخيلات؛ مما زاد حالتها سوءا؛ فلم تعد تستطيع
التفرقة بين الواقع والخيال فيما تراه أو تسمعه؛ وبالتالي باتت سجينة لعالم خاص لا
يراه أو يعرفه سواها؛ فتتحدث مع الشخصيات التي لا يراها أحد إلاها، وتصادقهم، وتظن
بزوجها الظنون طوال الوقت، بل وتتخيل أنها تمتلك طفلا ترعاه بمساعدة الأحدب/
كوازيمودو!
نلاحظ أيضا أن إجهاضها قد
جعلها تمتنع تماما عن تناول اللحم؛ لأنها ترى في أي قطعة لحم أمامها صورة جنينها
الذي سقط من رحمها: "بعد الإجهاض الأول فقدتُ الكثير من وزني؛ حتى بانت
أضلعي، غارت وجنتاي، كنت أشعر بالغثيان من الطعام، أتذكر رائحة الدم ومنظره وهو
يسيل على الأرضية. يشبه رائحة الدم في المسلخ الصغير في مزرعتنا يوم كان والدي
يقوم بذبح الخرفان؛ إكراما للضيوف. كنت وقتها أمتنع عن تناول الغداء. لم أتخيل
يوما إني سأشم رائحة دمي وأشبهها برائحة دم خروف مذبوح. كان ذلك طفلي، قطعة لحم
مني ومن راشد، انفصلت عني بلا جهد كبير"
هذه الهلاوس والتخيلات التي
لا يراها سوى مريم تحرص الكاتبة على تقديمها لنا منذ السطر الأول في روايتها؛
لدرجة أنها ترغب في إيهامنا معها منذ افتتاحها للرواية بأن ما تعيش فيه ليس سوى
واقعا حقيقيا لا بد لنا أن نصدقه، وننساق معها في تصديقه والحياة فيه حينما تكتب: "مغمضةٌ
عينيّ، شاعرةٌ بالوهن، أهزّ "المنز" الذي أضع فيه طفلي حتى ينام وأنا
أردد هذه التهويدة بصوت خفيض. كانت أمي ترددها كما كانت أمها قبلها ترددها لها".
هذه الجملة الافتتاحية لروايتها لا بد أن تؤكد للقارئ أنها أم لأحد الأطفال
بالفعل، تقوم برعايته، لكنها من خلال التقدم في السرد/ البوح سيتضح لنا فيما بعد أنها
لا تمتلك أطفالا، وأنها أُجهضت مرتين، وكل هذه الأمور مجرد تخيلات تعيش فيها
وحدها، ولا تخبر زوجها بها؛ ولعل السبب الرئيس في كل هذه التخيلات العقاقير التي
تتناولها: "يعلو صراخ عبودي، يكاد يمزّق طبلتيّ أذني، أصرخ: يكفي يا ولد..
بس. مطارق تهوي على رأسي، الصداع يفتك بي. فتحت الأدراج باحثة عن دوائي، أخرجت كل
ما فيها، أخيرا وجدت العلبة، رسم عليها الصيدلي خطين متوازيين. سأتناول الحبتين
مرة واحدة وليكن ما يكون، وضعتهما في راحتي وأحكمت عليهما قبضتي، واختلط بكائي بصراخ
طفلي".
لكن، هل معنى هذه الهلاوس
التي تعيشها مريم أنها غير قادرة على إدراك الواقع بشكل كلي، أو أنها غير قادرة
على تمييز ما يحدث لها؟
تبرع الكاتبة لطيفة الحاج في
وصف حالة مريم التي تعيش في الأوهام والضلالات، لكنها رغم ذلك تجعلها لديها من
الإدراك ما يكسبها الشجاعة على الاعتراف بأوهامها التي تتعايش معها أحيانا، بل
وتتحادث بصداقة مع الشخصيات والأشياء التي تتخيلها: "لقد عاودتني الهلاوس من
جديد، هه وهل تركتني يا ترى؟ لقد صرت قادرة على تصور الطريقة التي يذهب بها عقل
السكارى ومدمني المخدرات"، إذن فهي لديها من الإدراك ما يجعلها تعترف
بهلاوسها التي تعاني منها، لكنها لا تستطيع التخلص منها؛ بسبب العقاقير المضادة
للاكتئاب التي تتناولها. لكن هذه الحالة الدائمة من التخيلات تجعلها في حالة
برزخية دائمة بين الواقعي واللاواقعي، وهو ما برعت الحاج في توصيفه حتى على مستوى
اللغة حينما تكتب على لسان مريم: "كنت في مزرعة والدي طوال الفترة الماضية، أظن
أنها امتدّت لأسبوعين". إن عدم إدراك الشخصية واللايقين الذي تعيش فيه؛ يؤدي
بها إلى أنها لا تعرف على وجه التحديد الفترة التي قضتها في مزرعة والدها؛ ولعل
ذلك هو خير دليل على الحالة التي تعيش فيها، بل ويُدلل على مقدرة الروائية على
توصيف حالتها بشكل فيه الكثير من البراعة، لا سيما إذا ما تأملنا مفردة
"أظن" الدالة على عدم اليقين من أي شيء، ولعل استخدام هذه المفردة من
دون غيرها فيه من البراعة والمقدرة على فهم اللغة ودلالاتها؛ ما يؤكد أن الروائية
تفهم جيدا ما تكتبه، فلقد كان من الممكن أن تكتب: "أعتقد"، لكن لأن
الاعتقاد فيه قدر أكبر وأعمق من اليقين؛ مما سيتعارض مع الحالة النفسية التي تصفها
لبطلة روايتها؛ فضلت استخدام مفردة "الظن" الدالة على التشكك الدائم مما
يحدث لها.
هذه الهلاوس الدائمة تبرع
الكاتبة في توصيفها من خلال سردها الروائي حتى أنها تصبح لُب حياتها مع الزوج الذي
تراه مُنشغلا عنها في كتابة الروايات؛ فتقول: "تعلو نقرات أصابعه على لوحة
المفاتيح. أفتح عينيّ، فأراني أجلس في وسط الغرفة، يداي مربوطتان بأذرع كرسي
حديدي، عبثا أحاول التحرر من قيودي. رجلاي مقيدتان مع بعضهما، كأني خروف مذبوح
مُعدٌ للشي. غير قادرة على الصراخ، شيءٌ ما في فمي، حول رأسي تلتف قطعة من القماش
تمر بوجهي وتغطي فمي تجعلني شبيهة بمومياء. تك، تك، تك، رأسي سينفجر، أشعر بطنين
في أذنيّ وكأن مثقابا كهربائيا يخترق جمجمتي. تك، تك، تك، قطرات من الماء تنزل على
رأسي. التكتكات تتحول إلى صوت آخر، كأن أجراسا تقرع في رأسي، يفزعني الظل الذي ظهر
أمامي، ظل لرجل قصير، ممتلىء الجسم يحمل في يده شيئا يشبه الرشاد، إنه الرجل نفسه
الذي يدق أشياء غريبة باستخدام الرشاد في المنحاز النحاسي، والذي رأيته في أحلامي
منذ سنوات. رأيته مرارا يركب معنا السيارة في الطريق من وإلى المستشفى، حتى راشد
يعرف عنه، بالطبع يعرف؛ فقد ركب معنا السيارة مرارا. لكنه اليوم يقف أمامي، ليس
ظلا، إنه يقف منتصبا، يلوّح لي بالرشاد، ينظر عاليا فينفتح سقف الغرفة، ويتدلى
جرسٌ كبير من السماء، يقفز متعلقا بالحبل ويتأرجح معه محدثا ضجيجا لا يُحتمل. طن،
طن طن، متعلقا بحبله ينزل ويجذبني، أقاومه، لكنه بيد واحدة ينتشلني من مكاني، تنفك
القيود؛ فأطبق بيدي على خصره، ألمح حدبة كبيرة على ظهره. تبا، إنه صورة طبق الأصل
عن "كوازيمودو" في رواية "أحدب نوتردام"، بل إنه هو نفسه.
أفتح يدي وأهوى، يضحك؛ فتتعالى أصداء ضحكاته داخل الجرس الكبير. أسقط، وأغفو من
جديد".
إن هذا المشهد الذي يحمل
داخله الكثير من الهلاوس المتداخلة وغير المقنعة يُعد من المشاهد الفنية البارعة
في الرواية؛ حيث تمتلك الكاتبة من الخيال ما يجعلها تتخيل الكثير من هذه المشاهدات
الغريبة التي يختلط فيها الحلم بالواقع؛ وتتجسم أمامها قراءاتها السابقة في العديد
من الروايات؛ فتارة تتخيل "كوازيمودو" الأحدب المتواجد معها على طول
صفحات الرواية، وتارة ترى مسخ/ صرصار كافكا، وغير ذلك من الكائنات المشوهة التي
سبق أن قرأت عنها في الروايات؛ بما أنها تعيش في رواية كبيرة سواء من خلال ما
يكتبه الزوج- حيث تتمثل لها أيضا بعض شخصيات روايات الزوج-، أو من خلال ما تقرأه
هي.
"يد خشنة تخنقني، تجذبني
من خصري وتحاول حملي لترقى بي إلى الحبل المتدلي من الجرس الكبير. إنه الأحدب مرة
أخرى، بيده الأخرى الرشاد النحاسي الذي لا أعرف لماذا لا يفارقه. ابتعد عني أيها
المسخ، أنا لست نائمة. رفعني عن الأرض، حركت رجليّ، وصوتي مختنق، متمسكة بظهر
"كوازيمودو"؛ خشية أن أسقط، أستنجد براشد، ينظر إلي مقهقها ثمّ يعود إلى
شاشته. أصرخ في داخلي: جبان، خائن. يقفز الأحدب تاركا الحبل وأنا متشبثة بملابسه
الرثة". إذن فهذه التخيلات كثيرا ما تعمل على تعذيبها وانفصالها عن الحياة
الحقيقية إلى حياة فيها من الكائنات المشوهة التي تعمل على تعذيبها ما يزيد من
مأساتها، لكنها تعتاد هذه الكائنات فيما بعد؛ حتى أنها تُصادق الأحدب ويعمل على
رعايتها ورعاية طفلها المُتخيل.
إن رغبة الروائية في تعميق
حالة شخصيتها الروائية تجعلها تستمتع بكتابة المزيد من المشاهدات التي تتخيلها
مريم، وكأنها من خلال هذه الكتابة لا تعمل على الإيغال فيما تعاني منه مريم فقط،
بل تحاول التأكيد على موهبتها السردية القادرة على خلق المزيد من المشاهدات غير
الطبيعية مُستغلة في ذلك ثقافتها المقروءة التي تُسقطها على شخصيتها الروائية: "يتجه
الأحدب نحو الجدار، يصبح رداؤه زلقا لامعا، تخرج أيد قصيرة من جوانب ظهره، أصرخ
حين تخونني يداي وأنزلق هاوية إلى الأسفل. تحوّل "كوازيمودو" إلى صرصارٍ
كبير، إنه يتحول إلى "جريجور" كافكا، مسخٌ آخر من مسوخ الروايات. خائرة
القوى كنت أنظر إليه وهو يتسلق الجدار ويصل إلى السقف ثم ينتقل إلى الجدار الآخر
في حركة دائمة أصابتني بالدوار. تمنيت لو أن ما أراه كابوسا مهما طال فإنه سينتهي،
تماما كما تمنى "جريجور". مثله أردت أن أستيقظ إن كنت نائمة؛ لأرتاح من
هذا العذاب. كان راشد يرفع بصره نحوي ويهز رأسه ويعود لنقر حاسوبه بسلبية تامة
مُحاكيا أسرة "جريجور" المسكين، لم يفعل شيئا لينهي عذابي وعذاب
"كوازيمودو" الأحدب الصرصار. ليته بذل بعض الجهد لينقذني وحاول ولو
قليلا كما حاولت أخت "جريجور". إن الإيغال في الكابوسية التي تعيشها
مريم، وهي الكابوسية التي تجعلها ترى هذا المسخ الذي يعذبها بينما الزوج يجلس إلى
جوارها غير مهتم إلا بشاشة حاسوبه الذي يكتب عليه فيها من القسوة في تصوير ما
تعاني منه مريم؛ ما يجعل الروائية تبرع فعليا في وصف حالتها ومعاناتها منذ فقدت
جنينيها واعتادت تناول العقاقير المخدرة، لكنها كما سبق أن ذهبنا منذ قليل قادرة
على إدراك الحالة الكابوسية التي تعيش فيها وتُدلل على ذلك أكثر من مرة حينما تقول
مثلا: "سقط الأحدب المسخ على الأرض وبقي يحرك أطرافه الصغيرة بقلة حيلة. كان
أنينه المكتوم عاليا لدرجة أنني صحوت من الكابوس وعدتُ إلى الواقع". إذن فهي
تدرك تماما أن ما تعيشه ليس واقعا كاملا، بل هناك الكثير من التخيلات الكابوسية
التي تحيطها، والتي تحاول التكيف معها قدر استطاعتها.
تنبني رواية "نواقيس
العزلة" للروائية الإماراتية لطيفة الحاج معتمدة على تيار الوعي أو التداعي
في السرد، وهي التقنية التي أفادتها كثيرا من أجل الاستمرار في السرد الذي يُشبه
الهدير السلس الذي لا ينتهي؛ ولعل الدليل على سلاسة السرد لدى لطيفة الحاج نلمحه
من خلال كتابة الرواية في نفس روائي واحد من دون اللجوء إلى تقسيم الرواية إلى
فصول أو أرقام، بل هناك نسيج واحد لا ينتهي حتى الكلمة الأخيرة من الرواية بشكل لا
يمكن أن يشعر معه القارئ بالملل، بل يظل مشدودا إلى سلاسة الحكي/ البوح وعذوبته
لاسيما أنها تستفيد كثيرا باعتمادها على التداعي الحر من تقنية المونتاج السينمائي
التي كانت رافدا من روافد الحكي الروائي بشكل فيه من الاتقان والمقدرة ما يثير
الكثير من الإعجاب بأسلوب الروائية التي تعرف هدفها الرئيس مما تخطه.
تقول الحاج على لسان مريم: "لقد
تخلى راشد عن أشياء كثيرة من أجلي، أكثر ما يعجبني فيه تصميمه للحصول على ما
يريده. لا أعرف كيف عرف عنوان منزلنا، بعد أن بدل الإطار بمساعدة السائق، صافحه
وتقدم نحو سيارته. كنت أراقب سير عملهما؛ ففتحت الباب وترجلت قبل أن يصل إليّ. لم
أجرؤ على النظر نحوه أو شكره. توجهت نحو السيارة أشعر بالعطش الشديد. بعد أسابيع،
أخبرتني والدتي أن هناك من تقدّم لخطبتي ولا نعرف عنه شيئا، طلب والدي مقابلته في
البداية، كنت أقف خلف النافذة في بيتنا أنتظر دخول الرجل الذي خطبني. عندما دخل،
ارتعدتُ ووضعت يدي على فمي؛ مأخوذة بالمفاجأة. نظرت إليّ والدتي وسألت بانفعال: هل
تعرفينه؟".
إذا ما تأملنا هذا المقطع
السابق سنعرف أنها تتحدث عن لقائها الأول بزوجها راشد عن طريق الصدفة البحتة، ثم
تقدمه إلى أبيها؛ ليتزوج بها، لكنها مع الكلمة الأخيرة من هذا المقطع تنتقل فجأة
إلى مقطع روائي في إحدى روايات زوجها، وهي الرواية التي كانت تقرأ فيها؛ فتكتب: "ياه
كم هو جميل هذا الشعور حين تدرك أنك لا تملك شيئا، حتى نفسك، وأنك قادر على أن
تعيش وأنت لا تملك نفسك ولا تملك حبيبتك، حبيبتك التي غابت وتركتك من دون وداع.
حبيبتك التي ظننت أنها ملأت حياتك؛ ففرغت حين رحلت، وما أحلاه من فراغ، ما أعذبه
من خواء". كلما أعدت قراءة رواياته شعرت بقوة خفية تشدني نحوه". ثم
تستمر في الحديث عن زوجها، وعرض المزيد من مقاطع روايته التي تقرأها لكنها بعد سبع
صفحات كاملة من مقطعها الأول الذي تتحدث فيه عن لقائها الأول بزوجها تعود لاستكمال
حكاية هذا اللقاء وكأنها لم تقطع الحكاية وتنتقل إلى حكاية أخرى من قبل، أي أن
الأمر هنا يُشبه إلى حد كبير المشاهد والكادرات السينمائية باستخدام أسلوب
المونتاج المتوازي Cross
Cutting؛ فنراها تنتقل فجأة بمجرد تذكرها شيئا يعيدها إلى الحكاية
لاستكمال ما سبق أن توقفت عنه: "شهقت
أمي وصفعت وجهها عندما أخذتها ظنونها بعيدا. لا بد أنها خافت أن يعرف والدي؛
ويضربني ويخاصمها مدة أطول من مدة خصامهما بعد خطة سفرنا الفاشلة إلى
"كان". أفهمتها أني لا أعرفه وحكيت لها قصة لقائنا. إسألي
"مأمون" إن شئت. كيف لم يخبرها هو عن الأمر؟ لا بد أنه خشي من غضب
والدي؛ ففضل التكتم".
إذا ما تأملنا الاقتباس الأول
الذي تتحدث فيه عن أول لقاء بينها وبين راشد، ثم تأملنا الاقتباس الأخير الذي جاء
بعد سبع صفحات كاملة من السرد؛ للاحظنا أننا لو حذفنا الصفحات السبع بين المقطعين
لأدى ذلك إلى التئام السرد وكأنه لم يكن بين المقطعين أي شكل من أشكال القطع؛ مما
يدل على أن الروائية تُدرك جيدا ما تفعله من وقفات تأتي في مكانها، ثم لا تلبث أن
تعود للسرد مرة أخرى وكأنها لم تتوقف مستفيدة أيما استفادة من تقنية المونتاج في
السينما.
يبدو لنا السرد الروائي هنا
وكأنه عبارة عن مجموعة من الجزر المنعزلة التي تتقارب مع بعضها البعض كلما استمرت
الروائية في الكتابة؛ فيتحول المشهد الروائي إلى كتلة واحدة، أو مشهد كلي واحد
ومكتمل، ولكن هذا الاكتمال لا يمكن له أن يتأتى إلا من خلال السرد الحر، أو
الانسيال الذي يأتي نتيجة التذكر وبث المقاطع في ثنايا السرد. إذن، فنحن أمام
مجموعة من المشاهد السينمائية التي تبرع الروائية في مونتاجها وترتيبها في مكانها
الخاص بها؛ فتتجلى براعة السرد لدى الكاتبة التي تمارس الكتابة بشكل فيه الكثير من
المتعة والاهتمام بما تفعله مُعتمدة في ذلك على تيار الوعي؛ لذلك نراها حينما
تنتهي من المقطع الأخير الذي لم يستمر أكثر من عدة سطور قليلة، ثم لا تلبث الحديث
عن راشد، وعن الأب وحياتها معه نراها تعود بعد ثمان صفحات أخرى لاستكمال الحديث عن
اللقاء الأول براشد وتقدمه لأبيها وكأنها لم تقطع السرد أيضا من قبل: "كانت
دقات قلبي تتعالى وتتسارع، فجأة صنعت سيناريو مرعبا في رأسي. ماذا إن أخبر والدي
عن الإطار المنفجر، وإنه رآني في ذلك اليوم؟ واستشاط والدي غيظا وانهال عليّ
بالضرب ومنعني من الذهاب إلى الجامعة؟ تبقى فصل واحد. أرجوك أيها العاشق الذي كنت
تشبه أبطال المسلسلات الخليجية لا تبدد أحلامي. لقد بذلت الكثير من الجهد؛ لأحصل
على هذه الشهادة، اذهب وقِع في غرام فتاة أخرى واستبدل إطار سيارتها. اتركني أتخرج
في الجامعة وأعمل وأشعر باستقلاليتي. سيقتلني والدي، سيمنعني حتى من الخروج إلى
الجمعية؛ لشراء الحلويات والعصائرـ لن يسمح لي حتى بمرافقة أمي إلى السوق أو
الخياط". |
لميس فارس المرزوقي
|
إن هذه المقدرة الهائلة
والواعية على السرد الروائي تتجلى بشكل أكبر حينما تُمارس الروائية رغبتها في
الاستعراض الذي يؤكد مقدرتها من دون ادعاء، أو لمجرد الرغبة في الاستعراض؛ مما
يُدلل على ممارستها السرد بمتعة وعذوبة لا تتأتى للكثيرات ممن يمارسن فعل الكتابة
الروائية. هذا التجلي يتضح لنا على طول صفحات الرواية التي نقرأ فيها الكثير من
المقاطع الروائية لروايات مختلفة كتبها زوجها وتقوم الزوجة بقراءتها وإشراكنا
كقراء فيها؛ لأنها تؤدي بها إلى استمرار الحكي/ البوح والشعور بالشك في زوجها؛
نتيجة غيرتها من العديد من شخصياته النسائية التي يكتب عنها. أي أن الرواية تحتوي
في داخلها على العديد من الروايات الأخرى التي ابتكرتها وكتبتها الروائية داخل
روايتها، وهذه الروايات ذات موضوعات كثيرة ومتعددة ومختلفة عن الموضوع الرئيس
لروايتها الأصلية وكأنها روايات متعددة داخل رواية واحدة، وإن كانت تنجح في ربط
التفاصيل مع بعضها البعض بشكل مُحكم لا يمكن أن يؤدي بالقارئ إلى الإملال: "حسنٌ،
حان الآن موعد ممارسة الهواية المفضلة بعد الانتهاء من قراءة رواية من روايات
راشد. "فتح الكتاب على صفحة عشوائية"، الصفحة 73: "العرق يسيل من
جبهة لص المنازل وهو معلق على الأنبوب، يده تكاد تنزلق، بين كل لحظة وأخرى يُجفف
يده في ملابسه. كان قد عاد بذاكرته إلى المرة الأولى التي قرر أن يسرق فيها ويصبح
لص النهار المغوار. عقد أمه الذهبي، "مرتعشة" صنعها صائغ هندي. أهداها
إياها والده في ليلة زفافهما، امتهن الغوص صغيرا كأبناء جيله، كان عمره حين ذهب في
أول رحلة غوص تسع سنوات بصحبة والده الذي كان غواصا هو الآخر. اضطرته الحياة أن
يحمل تلك المسؤولية؛ حتى يستطيع أن يوفر الحياة لأهله ويكسب الرزق". إن مقدرة
الكاتبة على ابتكار مقاطع روائية كثيرة جدا ومختلفة في حكاياتها داخل روايتها
يُدلل على المقدرة السردية الكبيرة لديها والتي كانت تعمل على إثراء العمل الروائي؛
لاسيما أنها كانت تربطها من خلال تيار الوعي بحياتها وحياة زوجها ووالديها.
ربما كان أهم ما تعرضت له
لطيفة الحاج في روايتها هو حاجات الأنثى التي لا تبوح بها كثيرا للرجل، وإن باحت
بها فهي تفعل ذلك بشكل فيه الكثير من المباشرة والصوت السردي العالي أو الصارخ،
لكننا هنا نلاحظ أنها تعرض هذه الحاجات التي تشعر بها أي أنثى من خلال سرد يحتمل
الكثير جدا من العفوية؛ فيظل نسيج السرد واحدا من دون أي نتوءات سردية قد تُقلق
القارئ أو تُخرجه من الاستغراق في القراءة. تقول الكاتبة على لسان مريم حينما
تتحدث عن كتاب جون غراي "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة": "ماذا
عن الأنانيين والذين يريدون الزوجة أن تفهم تعبهم ونفسياتهم ولا يحتملون أن تشتكي
الزوجة من ابنها الذي يتعبها بنتائجه المدرسية؟ يريدونها موظفة وربة منزل وأم
وزوجة جميلة وصحيحة البدن والروح، طاهية ممتازة وصاحبة ذوق في المنزل وفي اختيار
أزيائها. أن تكون مستعدة لطلبات الزوج والأبناء والعمل، وأن تصمت وتترك الشكوى؛
لأن الزوجة كثيرة الشكوى لا يحبها الرجل وقد يكون هذا سببا للزواج بأخرى. لكن إن لم
أخبرك أنت من سأخبر عن همومي؟ يقول "جون غراي": إن المرأة عندما تشعر
بالضيق فإنها تحب المشاركة وليست تبحث عن حل. بمجرد أن تشارك مشكلتها مع بنات
جنسها في كوكب الزهرة تشعر بالارتياح والخفة. أما الرجل فيختار الدخول إلى كهفه
منزويا مُنعزلا بنفسه. وقلما يرغب في الاستماع إليها وهي تبوح له بهمومها، وإن فعل
فسيقوم على الفور بإعطائها حلولا عملية لحل المشكلات، أو سيقول: إن عليها إيجاد
الحلول بنفسها؛ لأنه يجد حلوله بنفسه، مُغفلا أنها كانت تريد البوح وحسب". إن
عرضها لهذه الحاجات الأنثوية التي تعاني منها معظم النساء مع الرجال بشكل عفوي لا
ينحى باتجاه القصدية، وبشكل سردي تلقائي فيه من الذكاء ما يُدلل على ما تفعله
الكاتبة بمهارة؛ فهي تتحدث عن الأمر من خلال بوحها للزوج، وللقارئ، ولنفسها من دون
أي شكل من أشكال المباشرة التي قد تُفسد السرد وتخرجه من فنيته التي اعتمدت عليها
منذ بداية روايتها.
هذا ما نراه أيضا في قول
مريم: "راشد لم يعد يستمع إليّ. فهو مثل كل الرجال، يريد أن يسمع ما يناسبه
ويمتعه فقط. جلّ ما أردت هو أن ينصت إليّ ويشاركني لكنه لم يفعل. زميلتنا بشاير
مثلا، أمسك بها زوجها الغيور جدا وهي تحدث أحد الشبان في إنستجرام وطلّقها. مع
العلم بأنه كان يصغرها بنحو عشرة أعوام، وكانت أحاديثهم عن مواضيع عامة. كان يستمع
إلى همومها اليومية ومتاعبها في العمل، وهي كانت تستمتع بقصص مغامراته الشبابية
وصور وحكايات رحلاته مع أصدقائه. الأمر الذي لم تكن لتجرؤ على الخوض فيه مع زوجها.
كان يدخل البيت متجهم الوجه، حتى أنها لم تعد تنظر إليه، بل تتشاغل بالهاتف مترقبة
دخول "حمود"، وهو اسم صديقها الافتراضي. لقد غطت كلماته الرقيقة وضحكاته
ومرحه على صراخ زوجها وتعليقاته اللاذعة كلما وقع بصره عليها. كانت تبتسم محدقة في
شاشة الهاتف وهو يشتم ويطلب منها أن تُسكت الولدين اللذين يتعاركان قريبا منه. لم
تسمعه، أو أنها سمعت وتجاهلته، هجم عليها وأخذ الهاتف، وقرأ تلك المحادثات
المطولة. وطلقها. بعد صفعة أدمت أنفها وأصابتها بالدوار. لم يكن يعلم أن هنالك
محادثات أخرى شبيهة بالمحادثات مع "حمود". كلهم يصغرونها، لم تكن تبحث
عن كلمات حب أو إعجاب". إنها المعاناة التي تعانيها معظم النساء مع أزواجهن،
لاسيما لو كان كاتبا يميل أكثر إلى العزلة والصمت، ويفضلهما على الكثير من
الأحاديث؛ الأمر الذي يجعلها تشعر بالكثير من الغيرة من شخصياته الروائية التي
يكتبها: "لماذا لا يكتب لي قصائد شبيهة بهذه القصائد؟ لم يكتب لي قصيدة يوما،
لم يفعل. يكتب كلمات حب، يعرف بالطبع. لكنها على لسان شخصياته. لم يقل يوما كلاما
يشعرني بأني حبيبته، حتى عندما كنت أشعر بأني حبيبته. أعرف أعرف، الحب ليس
بالكلام. لكنني امرأة وأحب الكلام والغزل، إنها أقل الأشياء التي تسعدني وتسعدنا
نحن النساء"؛ مما يجعل هذا البوح النسائي بامتياز من أهم سمات السرد في هذه
الرواية.
إن فقد الراوية/ مريم
لجنينيها مرتين أدى بها في نهاية الأمر إلى حياة غير مستقرة تسودها الكثير من
العواصف التي تمر داخلها فقط ولا تخرج للآخرين، أي أنها هي وحدها التي تراها
وتعيشها؛ الأمر الذي جعلها شديدة التركيز مع الزوج، مُنتقدة له في كل حالاته، رغم
رعايته لها؛ مما أدى إلى إحساسها بفتوره تجاهها، رغم عدم صحة ذلك، بل أدى إلى نمو
المزيد من التوهمات التي كانت العقاقير سببا رئيسا فيها، لكن حالتها النفسية ساعدت
العقاقير أكثر على استفحال هذه التخيلات: "أنا إنسان أشعر بالآخرين وأستطيع
بكل إرادتي أن أعيش ما عاشوه، وأنقله للآخرين. لكِ. أنتِ التي بقيت معي، حين
اعتزلت الجميع. لكنه بعيد، رغم ملازمته المنزل وخروجه لوقت قصير وعودته إليّ
سريعا. إلا أنني أشعر به بعيدا، عقله في رواياته وباله مشغول بأشياء لا يخبرني
عنها. تلك الخطوتين اللتين خلته اقترب بمقدارهما ذلك اليوم أصبحتا عشر خطوات لكن
في الاتجاه المعاكس". في هذا المقطع نلاحظ مدى شعورها بفتور زوجها اتجاهها،
رغم عدم صحة ذلك، لكنها غير قادرة على تفهم تقلبات حالات الزوج حينما يكون كاتبا،
غير راغب في الكثير من الحديث بقدر رغبته الشديدة في الانكباب على ما يكتبه فقط.
هنا تتمكن التوهمات من الزوجة
تماما؛ حتى أنها تتيقن بأن الطفل الذي تتخيله ابنها موجود بالفعل، بل إن اللعبة
التي أتت له بها، قد حلت بها الروح وصارت كائنا حيا أيضا؛ فظنت أنها قد امتلكت
طفلين: "أسمع بكاء عبودي يختلط بصوت بكاء مختلف، إنه "كوازي" يقلد
صوت بكاء الأطفال. أدخل إلى الغرفة، "كوازي" مندهش ينظر إلى الاثنين.
عبودي وميثا يبكيان في الوقت نفسه، ماذا سأفعل الآن؟ لقد كانت دمية ابتعتها
لتؤنسه. من أين بُثت فيها الروح وصارت طفلة حية تبكي؟ تعالى صراخ الاثنين واختفى
"كوازي" بعد أن أطبق بيديه على أذنيه. شعرت أنا برغبة في البكاء وتناولت
حبة كاملة من دوائي". هنا تصل الكاتبة إلى الذروة في وصف معاناة بطلتها مريم
التي باتت على شفا الجنون؛ نتيجة معايشتها لكل هذه الأمور التي لا يدري عنها كل من
حولها أي شيء، بل هي فقط التي تراها وتتعامل معها؛ ومن ثم تتشكل رؤيتها للحياة
والمواقف من حولها من خلال ما تراه هي وحدها.
تبرع الروائية لطيفة الحاجة
في إنهاء روايتها التي بدت لنا شكلا من أشكال السرد المستمر الذي لا يمكن له أن
ينتهي- رغم عدم إملاله وعذوبته- حينما نقرأ المقطع الأخير الذي ختمت به روايتها
الجيدة: "فتحت عيني ورأيت البياض يحيطني، مستلقية على سرير في المستشفى
وأنبوب شفاف متصل بإبرة مغروسة في كفي الأيمن. أمي تجلس على الكرسي وبجوارها أبي،
وأمي "سعادة" تجلس على كرسي آخر بقربها أختي "هيا"، كان راشد
واقفا يتحدث إلى الطبيب الذي بدا وجهه مألوفا. "يستطيع جبر التفريق بين
التوأمين حين يبتسمان فقط، أحدهما فقد سنا إثر وقوعه من على حماره الذي خارت قواه
وهو في الطريق إلى "الفلج"؛ لجلب الماء. "بن شامل" الآخر يقول
بأن الحمار شرب من زجاجة خمر كانت نصف مدفونة في المكان الذي يربط فيه الحمار. لكن
"بن شامل" ذو السن المفقود يصرّ على أن الحمار لا يمكنه استخراج
الزجاجة، وأنها كانت في الأصل فارغة منذ زمن طويل لأن "شنان" السكير مات
منذ زمن، ولم يعد هنالك من يشرب الخمر في الفريج". أشعر بألم في ظهري وأسفل
بطني. تنبه راشد إلى أنني قد استفقت. هتف: مريم! نهضت أمي وأبي وأمي
"سعادة"، و"هيا" واقتربوا جميعا مني. قبلني راشد على رأسي وهو
يبدو في غاية الانفعال. كان الجميع يبكون. كان والدي يبكي، العميد حمدان بن مطر
يبكي. ماذا حدث؟ أخبروني بأنني كنت غائبة عن الوعي لثلاثة أيام. غسلت كليتي مرتين،
ووظائفي الحيوية كانت لا تعمل جيدا. لكن الطفلين بخير. انهمرت دموعي بلا توقف. كان
راشد يمسحها بيديه ويلثم وجهي. رفعت بصري أترقب "كوازيمودو" متدليا من
الحبل في بطن الجرس الكبير يلوّح لي برشاده، لكنني لم أجده. بقيت مشغولة البال
عليه أتساءل عما حل به، لعله في الشقة يحرسها في غيابنا أنا وراشد. حين جلبوا عبد
الله وميثا بعد ساعات من استفاقتي ووضعوهما على صدري رأيته يتسلق الحبل وينظر
نحونا مبتسما، لوح لي برشاده وغاب عني إلى الأبد".
إذن فإن لُب الرواية
وإشكاليتها الكبرى كانت في إجهاضها مرتين متتاليتين؛ الأمر الذي أشعرها بالكثير من
النقص في أنوثتها، وأدى بها إلى كل هذا الاضطراب الذي كانت فيه، ولربما كان الدليل
على ذلك أنها بمجرد ولادتها في نهاية الرواية تلاشى تماما العالم الذي كانت تحيا
فيه مع العديد من الشخصيات الخيالية ومنها شخصية "كوازيمودو" الذي أصبح
صديقها مع استمرار السرد؛ أي أن تلاشي العالم المُتخيل الذي كانت تحتمي فيه كان
مشروطا في حقيقته باكتمالها كأنثى حينما تُنجب، حيث كانت تحتمي بعالم الروايات
التي تقرأها سواء لزوجها وشخصياته أو لروايات غيره وشخصياتهم، وهذا ما يُفسر لنا
في النهاية العنوان الفرعي للرواية "تبا للروايات"؛ لأن هذه الروايات هي
التي جعلتها تعيش في مثل هذا الكابوس الذي عاشته، رغم أنه كان كابوسا منقذا لها من
الانهيار في نهاية الأمر.
تؤكد لنا رواية "نواقيس
العزلة" للروائية الإماراتية لطيفة الحاج مقدرة السرد الإماراتي على التقدم
والنضج؛ ليكتسب مكانة متميزة في السرد الروائي العربي، كما تثبت أن ثمة مقدرة
روائية ناضجة وجيدة للسرد النسوى إذا ما ارتكنت الكاتبة إلى موهبتها فقط، مراهنة
عليها؛ لتصوغ من خلالها عالمها الذي تحياه بعيدا عن الشكوى والضجيج والصوت المرتفع
مهما كان هذا العالم الذي يحيطها ضيقا.
محمود الغيطاني
مجلة مصر المحروسة.
عدد يناير 2022م.