الجمعة، 31 مايو 2024

افتتان البوهيمية: سيرة الاغتراب

ربما تكون من أهم عيوب سينما السيرة الذاتية أن صناع هذه السينما يكونون حريصين كل الحرص على الالتزام بسيرة من يصنعون عنه فيلمهم، وكأنهم إذا ما تجاوزا الواقع، وأخذوا جزءا يسيرا من أحد جوانب حياته، وعملوا على التركيز عليه من خلال رؤيتهم الفنية التي تخصهم؛ فسيؤدي ذلك بهم إلى الفشل في تقديم ما يرغبونه عن الشخصية التي يتحدثون عنها، وربما هذا هو السبب الذي يجعل الكثير من أفلام السيرة الذاتية تكاد أن تكون باردة لا اندماج أو تعاطف كبير معها من قبل الجمهور، أو أنها تخرج لنا في النهاية جافة لا روح فيها؛ بسبب محاولة الالتزام الكامل بسيرة الشخصية المُقدمة. رأينا ذلك في العديد من الأفلام التي كانت بحاجة إلى المزيد من التركيز، أو المُراجعة، أو المونتاج مثل الفيلم الإنجليزي The Professor and the Madman البروفيسور والمجنون 2019م على سبيل المثال، لا الحصر.

لكننا إذا ما تأملنا ما قُدم لنا في الفيلم الأمريكي Bohemian Rhapsody افتتان البوهيمية للمخرج الأمريكي Bryan Singer بريان سنجر، وهو الفيلم الذي يتناول قصة حياة مغني وأسطورة الروك الإنجليزي فريدي ميركوري المتوفي في 1991م؛ لتأكد لنا أن هذا الجنس من الأفلام من الممكن له أن يكون من أكثر الأفلام أهمية سواء على المستوى الفني، أو المستوى التاريخي إذا ما حاول صُناع الفيلم عدم الالتزام الحرفي بقصة الشخصية التي يتحدثون عنها، أو من خلال تناول زاوية مُعينة من حياتهم والتركيز عليها.

من اللافت للنظر في هذا الفيلم أنه عمل على التركيز على قصة الصعود والنجاح التي عاشها فريدي ميركوري هو وفرقته المُسماة Queen، وهوسه بالموسيقى والنجاح وبناء مجده الشخصي، وبالتالي لم يشغل المُخرج نفسه كثيرا بالحديث عن نشأته وميلاده، وأصوله الزنجبارية، وهجرته هو وعائلته، وتعليمه وديانته وغير ذلك مما يخص مُغني الروك الإنجليزي، كما يُحسب للمخرج كذلك عدم تركيزه على الجانب الجنسي من حياته رغم أن ميركوري كان ثنائي الجنس، وليس لديه الاستقرار الكامل في هويته الجنسية، وهو الأمر الذي أدى لإصابته بمرض الإيدز ووفاته بسببه في 1991م.


يحرص المخرج بريان سنجر على أن يبدأ فيلمه، أثناء نزول التيترات، على استعداد فريدي ميركوري- قام بأداء دوره الممثل الأمريكي الجنسية المصري الأصل Rami Malek رامي مالك- للدخول إلى خشبة المسرح في آخر حفل موسيقي قدمه في حياته مع فرقته عام 1985م، وهو الحفل الخيري الذي أُقيم من أجل مجاعات إفريقيا، ثم سرعان ما ينتقل بعد انتهاء التيترات إلى عمل فريدي في مجال شحن الحقائب في المطار قبل بداية تعرفه على الفرقة الموسيقية وبداية طريقه في عالم الشهرة والروك.

إن بداية المخرج أحداث فيلمه على عمل فريدي في قرية شحن البضائع في المطار، ووصف أحدهم له بأنه باكستاني، ثم رفض فريدي هذا الوصف بتواضع وهدوء، كان خير بداية للحدث؛ حيث انتقل في المشهد التالي على فريدي في بيته يستعد للخروج للسهر في أحد الملاهي التي تقدم وصلات غنائية لإحدى الفرق الموسيقية، وعودة الأب من الخارج مُبديا اعتراضه على سهر الابن في الخارج كل ليلة.

ربما نلاحظ منذ بداية الفيلم أن فريدي تبدو عليه التصرفات والسلوكيات التي تميل للأنثوية أكثر من الذكورية، وإن لم يصرح لنا الفيلم بأي شيء عن هويته الجنسية، إلا أن المُشاهد المُدقق سيلاحظ نعومة حركاته، والتفاتاته، وخجله، وطريقة ملبسه، ومشيته، ونظراته التي تؤكد في مُجملها على هذه الهوية الجنسية التي لم يذكرها الفيلم صراحة، وإن كان قد أداها ببراعة الممثل رامي مالك بشكل يوحي بقوة ميله باتجاه الأنوثة أكثر من الذكورة.


نرى فريدي في الملهى الليلي مُنغمسا فيما تؤديه الفرقة الموسيقية أمامه على المسرح من مجموعة من الطلاب الذين يقيمون حفلاتهم في الجامعة وبعض الملاهي، وحينما ينتهي العرض يتجه إليهم عارضا عليهم أغنية قد كتبها، لكنهم يؤكدون له أن الفرقة قد انتهى أمرها؛ نظرا لأن المغني الرئيسي قد تركها للتو؛ فيؤكد لهم أنهم في حاجة إلى مغنٍ جديد قد يكون هو، لكن أحدهم يسخر منه بسبب أسنانه الأمامية البارزة بشكل واضح، إلا أن فريدي يؤكد لهم أنه قد وُلد بأربعة أسنان أمامية تعطيه ميزة في الغناء حيث تؤدي هذه الأسنان إلى فراغ فمي أكبر يساعده على الغناء، ولم يلبث أن غنى أمامهم أحد المقاطع الغنائية التي جعلتهم ينبهرون به ويوافقون على اشتراكه معهم في الفرقة الموسيقية كمغنٍ.

يبدأ ميركوري طريقه الفني مع الفرقة الموسيقية، ورغم أنه في أول عرض فني له معهم يوجه له الجمهور الكثير من السخرية قبل بداية العرض، إلا أنه بمجرد الانتهاء من فقرته الغنائية يكون الجمهور قد اقتنع به، وبطريقة أدائه على المسرح. يتعرف فريدي على ماري- قامت بدورها الممثلة الأمريكية الجنسية الإنجليزية الأصل Lucy Boynton لوسي بوينتون- التي يقع في عشقها، ويعرض عليها الزواج بعد التعرف على والديها.

نلاحظ هنا أن فريدي رغم أنه كان المُلتحق الأخير والجديد بالفرقة الموسيقية إلا أنه يتمتع بالكثير من السمات الشخصية القيادية رغم أنثويته الواضحة؛ لذلك حينما تتعطل بهم الشاحنة في إحدى المرات وهم في طريقهم إلى أحد الحفلات، يعرض عليهم ضرورة أن يكون لهم ألبوما غنائيا كي يعرفهم أكبر عدد من الجمهور، وحينما يخبرونه أنهم لا يمتلكون المال من أجل إنتاج ألبوم غنائي، يرد بأنهم لا بد لهم من بيع الشاحنة وصناعة ألبوم من أموال بيعها.


تصنع الفرقة ألبومهم الخاص بهم بالفعل بعدما يتصرفون في الشاحنة، وهو الألبوم الذي ينتشر انتشارا كبيرا في كل مكان ويعشقه الجمهور في أمريكا؛ الأمر الذي يجعل أحد كبار المنتجين يتواصل معهم وينظم لهم العديد من الحفلات في أمريكا، وهي الحفلات التي امتدت إلى جميع أنحاء العالم فيما بعد. سنلاحظ أن الفرقة الموسيقية بالكامل كان لديهم من العشق للموسيقى ما يجعلهم دائمي الرغبة في التجديد وعدم الثبات على شكل واحد سواء في موسيقاهم، أو كلمات الأغاني التي يقدمونها، بل كان فريدي أكثرهم جنونا ومُغامرة، وشطحا في تقديم كل ما هو جديد، وهو ما كانوا يرونه جنونا في بداية الأمر، رغم أن شطحاته كانت لها الكثير من الفضل في المزيد من النجاح الفني لهم.

يفكر فريدي في أغنية طويلة مدتها ست دقائق بعنوان افتتان البوهيمية، وهي الأغنية التي تأخذ من الموسيقى الأوبرالية افتتاحياتها وأسلوبها وإن كان قد مزجها بموسيقى الروك؛ الأمر الذي جعل المُنتج يرفضها؛ نظرا لطولها، ولأن الإذاعات سترفض بثها لطولها، لكنه يصر على ما يريد، وبالفعل تتم إذاعة الأغنية في إحدى الإذاعات، وهي الأغنية التي يقابلها الجمهور بالكثير من النقد السلبي في البداية، ولعلنا نلاحظ أسلوبية المخرج الذكية هنا- وهي الأسلوبية التي تختصر الكثير من الثرثرة- حينما حرص من خلال المونتاج على كتابة النقد السلبي للجمهور على الشاشة أثناء إذاعة الأغنية، لكن رغم رد الفعل السلبي الذي واجه به الجمهور لأغنيتهم الجديدة، والتي ستصبح فيما بعد من أهم ما قدمته هذه الفرقة، لم يؤثر الأمر عليهم، وواجهوه بشجاعة إلا أن تقبلها الجمهور.


ينشغل فريدي في الكثير من الحفلات حول العالم، وهو الأمر الذي يجعل زوجته تشعر بافتقادها له، وحينما يعود بعد جولة طويلة يفتح التلفاز على إحدى حفلاته ثم يجلس على الطرف الآخر من الأريكة التي تجلس عليها رغم عشقه الكبير لها، وبديهية أن يكون بجوارها بعد هذا الغياب الطويل، وهو الأمر الغريب الذي لا بد سيلاحظه الجمهور كما ستلاحظه زوجته أيضا، إلا أنها تقترب منه لتسأله عن سبب تغيره الذي تلحظه منذ فترة طويلة؛ فيخبرها مُترددا بأنه يشعر بكونه ثنائي الجنس.

ثمة مُلاحظة مُهمة هنا لا بد لنا من التوقف أمامها قليلا، صحيح أننا كمُشاهدين نلحظ منذ بداية الفيلم نعومة وأنثوية فريدي في كل تصرفاته مما يوحي لنا بهويته الجنسية، أو ميله الجنسي، لكن المخرج قدم الشخصية بشكل لا يمكن منطقته بشكل عقلي، أو تقبله بسهولة؛ ففريدي لم يكن يدرك عن نفسه حقيقة هويته أو ميله الجنسي، وهو أمر غير عقلاني؛ فمن الطبيعي أن يكون واعٍ تماما لمثل هذا الميل الذي لا يمنعه، بالضرورة، من تكوين علاقة جنسية أو عاطفية مع امرأة كعلاقة عادية وطبيعية، لكن أن يقدمه المخرج وكأنه لا يدرك هذه الحقيقة هو ما لا يمكن قبوله عقلانيا، لا سيما أنه حينما كان في إحدى الحفلات في أمريكا نظر إليه سائق إحدى الشاحنات نظرة تحمل دعوة جنسية، وهي النظرة التي علقت في ذهن فريدي وتأملها كثيرا، وإن بدا غير مُدرك لها أو لحقيقتها، أو حتى لحقيقة ميوله، كما أن بول، مدير أعمالهم- قام بدوره الممثل الأيرلندي Allen Leech ألين ليتش- قد قام بتقبيله فجأة؛ ولم يُبد فريدي أي رغبة في علاقة معه، بل أخبره أنه مجرد شخص يعمل معه، وأنه يحب زوجته ماري التي تعرفه جيدا.

إن حرص المخرج على تقديم شخصية فريدي كشخص غير مُدرك لحقيقة ميوله الجنسانية الحقيقية غير مُبرر وغير منطقي، لا سيما أننا نلاحظ بالفعل سلوكه الأنثوي، وميله للأنوثة أكثر من الذكورة، أي أن الأمر قد بدا لنا متناقضا إلى حد بعيد؛ لأن المرء لا يمكن له أن يدرك فجأة حقيقة جنسانيته التي يميل إليها، كما أنها لا تنبت فجأة من الفراغ لتسيطر على عالم صاحبها.

يؤكد فريدي لماري مدى عشقه لها، وأنه لا يرغب في الابتعاد عنها، بل يريدها في حياته، لكنها لا تستطيع الاستمرار معه كزوجة، وإن كانت قد استمرت معه كأقرب صديقة له، والوحيدة التي تهتم به حتى مماته. تزداد شهرة فريدي والفرقة الموسيقية في جميع أنحاء العالم، وينتقل من نجاح إلى نجاح أكبر، ولعلنا نلاحظ هوس فريدي بالنجاح والتميز الذي لا يشبع منه، وهو النجاح الذي جعله كثير الغرور والنرجسية والاعتزاز بذاته، لكنه بات رافضا لاستماع أي نصيحة من الآخرين حتى لو كانوا من أفراد فرقته الذين يصفهم دائما بأنهم عائلته.


يشتري فريدي بيتا واسعا وفخما في نفس الشارع، وفي الاتجاه المقابل للشقة التي تقيم فيها ماري؛ ليكون قريبا منها دائما، لكنه يشعر رغم نجاحاته الكثيرة والمُتكررة، والازدحام الذي يملأ حياته بالكثير من الفراغ والاغتراب والسأم من كل شيء، ولعلنا نلاحظ ذلك حينما اشترى هذا البيت وطلب من أحد أفراد الفرقة أن يبقى معه للعشاء، لكنه يعتذر مُتعللا: لا أستطيع، الزوجة والأطفال، أنت تعرف؛ فيقوم بمُهاتفة ماري- على الجانب الآخر من الشارع- حينما يجد نفسه وحيدا في البيت الواسع، ويطلب منها الاتجاه نحو النافذة لتراه يضيء ويطفئ النور عدة مرات، طالبا منها أن تفعل مثله، ثم يدعوها لتناول الشراب معه في بيته، لكنها تعتذر مُتألمة مُتعللة بتأخر الوقت. هنا يشعر فريدي بالخواء الحقيقي والاغتراب الكامل؛ الأمر الذي يجعله يتصل بمدير أعماله، بول، مُخبرا إياه أنه يريد تنظيم حفل كبير في منزله، وحينما يسأله بول عن الضيوف الذين يرغب في دعوتهم يقول: الناس، أريدك أن تهز الشجرة الغربية، وقم بدعوة أي شخص على سطح الأرض، الأقزام والعمالقة، السحرة، رجال قبائل الزولو، المُهرجين، آكلو النار، والقساوسة؛ سنحتاج إلى الاعتراف.

ألا نلاحظ في إجابة فريدي الكثير من الاغتراب والخواء والوحدة والملل، والسأم رغم نجاحاته المُتتالية والكبيرة، والثروة المالية الضخمة التي هبطت عليه، وازدحام حياته بالكثيرين جدا من الناس؟

هو بالفعل يشعر بالكثير من الخواء رغم حياته المُمتلئة، وهو الأمر الذي يجعله يرتدي قلنسوة وزيا غريبا كأنه أحد الملوك في الحفل المزعوم، ويقول لضيوفه الكثيرين: يقولون: لا يمكن للمال شراء السعادة يا أعزائي، لكنه يسمح لك بمنحها بينما يوزع هداياه على الجميع بسأم. هذا السأم هو أيضا ما يجعله يتعامل بفظاظة ولا مبالاة مع أعضاء فرقته؛ الأمر الذي يجعلهم يغادرون الحفل غير راغبين في البقاء معه.

المُخرج الأمريكي بريان سنجر

ينتهي الحفل قرابة الصباح ويرحل الجميع تاركين فريدي وحيدا مرة أخرى وقد انتشى تماما من فرط تناوله للخمور، وبينما يقوم بالعزف على البيانو يشاهد أحد العاملين على تنظيم الحفل يحاول ترتيب الفوضى التي تركها الضيوف- قام بدوره الممثل الأيرلندي Aaron McCusker آرون ماكوسكر- فيداعب فريدي مؤخرة النادل؛ الأمر الذي يجعل الرجل غاضبا مُحذرا إياه من تكرار هذا الفعل مرة أخرى؛ فيعتذر له فريدي عارضا عليه تناول كأسين من البيرة كسبيل للاعتذار. يقبل النادل الذي يسأله: إذن فقد تركك أصدقائك وحيدا، ليرد فريدي بلامبالاة وسأم: إنهم ليسوا أصدقائي، ليس حقا، الأمر مجرد إلهاء؛ فيسأله: مم؟ ليقول فريدي: ما بين اللحظات، على ما أظن، إنهم لا يطاقون جميعا، الظلام الذي ظننت بأنك تركته خلفك يتسلل عائدا. فيميل عليه النادل مقبلا شفتيه قائلا: تعال وابحث عني عندما تقرر أن تحب نفسك.  

إن في إجابة فريدي على جيم- النادل- ما يُدلل على مدى شعوره العميق بالوحدة رغم وجود الجميع من حوله، لكنه لا يشعر بحب أحد له رغم تظاهره دائما بأن حياته مشغولة بهم، أي أنه يحاول الهروب من هذا الإحساس العميق بالخواء والاغتراب بوجود الكثيرين الذين لا يعنونه في شيء من حوله، وهو ما نلاحظه كثيرا حينما يترك هذه الأعداد الكبيرة الموجودة في حفلات الصخب المنزلي المُكتظة بالخمور والمخدرات؛ ليجلس وحده في أحد زوايا منزله بعيدا عن أعينهم غير راغب في تواجده بينهم، كما أن في جملة جيم الأخيرة له ما يُدلل على أن الرجل يدرك جيدا أن فريدي لا يمتلك من مشاعر التصالح مع ذاته والتوازن معها ما يكفي ليكون معه في علاقة متزنة، أو مستقرة؛ لذلك طلب منه البحث عنه حينما يبدأ في الشعور بحب ذاته.

يحاول بول السيطرة على حياة فريدي بالكامل، وإبعاده عن فرقته الموسيقية، ويقنعه بالتعاقد مع إحدى الشركات الفنية بشكل منفرد في ميونيخ مقابل أربعة ملايين من الدولارات، وحينما يحاول مُفاتحة أفراد فرقته في الأمر- وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تفرق الفرقة وانتهائها- يقول له أحدهم: نحن عائلة؛ فيرد فريدي مُنفعلا غاضبا: كلا، لسنا كذلك، لسنا عائلة، لديكم عائلات، أطفال، زوجات، ما الذي لدي؟ فيرد عليه آخر ساخرا: ستحصل على أربعة ملايين دولار، ربما تشتري عائلة.

الممثل الأمريكي الجنسية المصري الأصل رامي مالك

ربما نلاحظ أن الانفعال الشديد لفريدي حينما قال له أحد أفراد الفرقة بأنهم عائلة، ومثل هذه العبارات التي رد عليه بها يُدللان على الكثير من الغضب، والأكثر من شعور الاغتراب العميق؛ فهو بالفعل لا يستطيع التكيف مع حيوات أصدقائه الذين لديهم أُسر، وزوجات وأطفال، وما يستتبع ذلك من التزام وحياة عائلية مُستقرة، بينما هو ليس لديه زوجة بعدما انفصلت عنه ماري، كما أنه لا يطيق الحياة مع والديه الغير راضين عن سلوكه في حياته، والطريق التي اختارها لنفسه، ولا يوجد من حوله أي إنسان سوى الكثيرين من المنتفعين الراغبين في أمواله ومُضاجعته الجنسية فقط. ينفصل فريدي بالفعل عن فرقته ويبدأ في تنفيذ تعاقده، وينغمس تماما بشكل يومي في الحفلات الصاخبة المُكتظة بالمُخدرات والخمور، والجنس المثلي مع الكثيرين ممن لا يعرف عنهم شيئا، وإن كان بول يجلبهم له بعدما حاول السيطرة الكاملة على حياته وتنظيمها كيفما يرغب، وعزله الكامل عن أعضاء فرقته، بل وماري أيضا.

تحاول ماري الاتصال به غير مرة، لكن بول لا يخبره، كما يهاتفه محاميه لإخباره بحفل خيري مُهم سيشاهده العالم كله، ولا بد له أن يشترك فيه، لكن بول يخفي الأمر عنه أيضا، وحينما تشعر ماري بالقلق عليه تزوره لتخبره بالأمرين، وتنصحه بأن هذا المكان ليس مكانه، وعليه العودة إلى فرقته مرة أخرى، في الوقت الذي يدخل فيه بول إلى المنزل ومعه مجموعة من المثليين لحفلة جديدة. تغادر ماري ويطرد فريدي بول من حياته؛ فيهدده بالكثير من الصور الجنسية له مع العديد من الرجال وإفشاء حياته الخاصة للإعلام، لكنه لا يهتم بالأمر، ويحاول العودة إلى فرقته مرة أخرى، ويقنعهم بالفعل، ويبدأون في التدرب على الحفل الخيري العالمي لصالح المجاعات في إفريقيا.


يكتشف فريدي إصابته بالإيدز، ويعترف لأصدقائه بأنه مُصاب وعليهم ألا يخبروا أحدا بالأمر، كما يحاول البحث عن جيم، ويخبره بأنه الآن يشعر بالتصالح مع نفسه، ويقيم الحفل الناجح الذي كان آخر حفل له في حياته مع فرقته، وعاش حتى 1991م مع صديقه جيم الذي ارتبط به عاطفيا إلى أن مات مُتأثرا بمرضه، كما ظلت ماري على صلة به حتى وفاته.

ربما كان أهم ما في الفيلم الأمريكي افتتان البوهيمية للمخرج الأمريكي بريان سنجر، بعيدا عن الرؤية الفنية الخاصة لصناع الفيلم البعيدة عن الالتزام الكامل بحياة فريدي ميركوري، هو الأداء المُدهش والمُقنع تماما للمثل الأمريكي الجنسية المصري الأصل رامي مالك، وهو الأداء الذي لولاه لما كان هناك أي شيء من المُمكن له أن يميز الفيلم فنيا، لا سيما أن الفيلم من أفلام السيرة الذاتية القائمة على سحر وأسطورية وكاريزما وسيطرة ونجاح نجم الروك الإنجليزي فريدي ميركوري، وبالتالي فمثل هذه الشخصية تحتاج إلى ممثل ماهر ومُقنع تماما في أدائه؛ كي يستطيع جذب المشاهد إليه، جاعلا إياه مُلتصقا بمقعده طوال ساعتين وربع الساعة هي مدة الفيلم الموسيقي الذي يراه أمامه، ولعل الحرفية الأدائية للممثل رامي مالك هي ما جعلتنا لا نشعر بالملل في الـ20 دقيقة الأخيرة من الفيلم التي لم نشاهد فيها سوى فريدي على خشبة المسرح يقوم بالغناء، ولكن الأداء المُذهل للممثل ومقدرته على التعامل مع المسرح كمغني روك حقيقي، وواندماجه الكامل مع الشخصية التي يؤديها هو ما جعلنا لا نشعر بالملل مع هذه الـ20 دقيقة، وهو الأمر الذي جعل المُشاهد مُنفعلا ومُقتنعا بأداء رامي مالك وكأنه بالفعل يرى أمامه الشخصية الحقيقية الكاريزمية لفريدي ميركوري، صحيح أننا لم نقتنع بعدم إدراك فريدي لميوله الجنسانية في بداية الفيلم، لكن أداء مالك جعلنا نتغاضى عن هذه الأمر لاهثين خلفه للاستمتاع بما يقدمه لنا من سحر الشخصية.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21

عدد مايو 2024م

 

الأحد، 19 مايو 2024

مُقدمة لوصف عالم لا إنساني!

في عام 2004م كان ثمة مشروع سينمائي لفيلم يشترك فيه مجموعة كبيرة من المُخرجين الأوروبيين- مُمثلين لجميع دول الاتحاد الأوروبي في ذلك الوقت- ليقدم كل مُخرج منهم رؤيته السينمائية باتجاه أوروبا- فكرة الهوية الأوروبية.

اشترك في الفيلم 26 مُخرجا، ليتم تقديم 25 فيلما قصيرا[1]، على ألا تتجاوز مُدة كل فيلم من الأفلام خمس دقائق، وإن بلغت مُدة عرض الفيلم المُجمع ساعتين وعشرين دقيقة، أي حوالي خمس دقائق ونصف الدقيقة لكل فيلم- ومن ثم رأينا في النهاية فيلم Visions of Europe رؤى أوروبا- الذي اشترك فيه مجموعة كبيرة من أهم مُخرجي أوروبا الذين كان منهم المُخرج الإنجليزي Peter Greenaway بيتر جريناواي[2]، والمُخرج التركي الأصل الألماني الجنسية Fatih Akin فاتح أكين[3]، والمُخرجة البرتغالية Teresa Villaverde تيريزا فيلافيردي[4]، والمُخرج الفنلندي Aki Kaurismäki آكي كاروسماكي[5]، وقد كان من ضمن مُخرجي الفيلم المُخرج المجري Béla Tarr بيلا تار بفيلمه الوثائقي القصير Prologue مُقدمة، وهو الفيلم شديد التركيز والبساطة الذي يكاد أن يكون نموذجا مُكتملا على فلسفة تار السينمائية، والوجودية، والأيديولوجية، والمفاهيمية، بل والأسلوبية- رغم أنه لم يتجاوز الخمس دقائق!

إنه الفيلم الذي يؤكد لنا- ربما لمئات المرات- على أن تار ليس مُجرد مُخرج، بل هو في حقيقة الأمر فيلسوف يتخذ من السينما وسيلة للتأمل والتفكير فيما يدور من حوله. هو مُنشغل بعمق الأشياء، وجوهرها- فهي دائما موجودة، ومُتاحة، ونمر عليها يوميا من دون مُلاحظتها، أو إدراك مدى خطورتها، وبشاعتها، وقسوتها- لا بسطحيتها، فهي تبدو لنا مألوفة وعادية- ظاهريا- لكنها في الباطن تحمل خطرا فادحا يحيق بالبشرية بالكامل، وإن كان الجميع غير مُنتبهين إليه، أو يتغافلون عنه!

لكن، هل معنى ذلك أن تار إنما ينظر إلى الأشياء من خلال نظرة مُباشرة تحمل في طياتها صوتا عاليا يثير الكثير من الضجيج من حولنا؟


إن تار- في صناعته للسينما- لا يميل إلى المُباشرة، أو الصوت العالي. صحيح أنه قد وقع في هذا الخطأ- المُباشرة، وربما السطحية- في مرحلته السينمائية الأولى، لا سيما في صناعته لثلاثيته الروائية الطويلة الأولى Proletarian Trilogy ثلاثية البروليتاريا، وهي المرحلة الأسلوبية الأولى في صناعته للسينما، حيث مال كثيرا باتجاه الواقعية الاجتماعية النقدية التي حدت به إلى الوقوع في هذا الخطأ، بل وميل أفلامه باتجاه الطابع التسجيلي الذي كان من السهل مُلاحظته في أفلامه الروائية، كما ظهرت هذه المُباشرة أيضا- وربما القصدية العمدية- في أفلامه التسجيلية الأولى لا سيما فيلمه الطلابي Cinemarxisme ماركسية السينما 1979م- لاحظ مُباشرة العنوان، وعمديته- إلا أنه حينما بدأ تحوله الأسلوبي إلى مرحلته الأخيرة التي استقر عليها، وهي المرحلة الأكثر نضجا، واكتمالا لم يمل إلى المُباشرة، أو السطحية أبدا، بل اكتسبت أفلامه الكثير من العمق، والاستغراق، والأكثر من التفلسف، ومحاولة تأمل الأشياء بتؤدة، وتمهل لا ينتهيان، فضلا عن حياديته التامة في تناول الأمور- فهو يتأمل فقط من دون أي موقف شخصي بالإيجاب أم بالسلب تجاه ما يقدمه- أي أنه يقدم لنا الكارثة التي يتأملها طالبا منا الوقوف إلى جانبه لنشاركه في المزيد من التأمل، وسُرعان ما يتركنا فيما بعد لتقرير ما يجب علينا أن نفعله تجاه ما قدمه إلينا من دون أن يكون شريكا فاعلا فيه، أي أن تار يلفت أنظارنا إلى ما يراه خطيرا في هذا العالم، ثم يمضي في طريقه كأنه لم يفعل أي شيء.

نُلاحظ في فيلم تار البسيط أن الكاميرا تتأمل فقط، تتتبع الأشخاص بصمت، وتدقيق، وكأنها تحاول حفر ملامحهم المُقربة في الذاكرة، تحفظهم محاولة التماهي مع قسماتهم الشديدة البؤس، المُستغرقة في الحزن واليأس.


يبدأ تار فيلمه على الكاميرا المُتأملة تتحرك على وجوه مجموعة لا تنتهي من البشر البائسين، أي أن المُخرج هنا قد فضل استخدام اللقطة القريبة التي تُظهر الوجوه وتفاصيل قسماتها، ومن هنا ضخم من معاني البؤس، والحزن، واليأس البادية على الوجوه. كما سنُلاحظ أن المُخرج يستعرض عددا لا ينتهي من البشر البائسين المُصطفين في طابور لا ينتهي، ومع بدء حركة الكاميرا مع اللحظة الأولى من الفيلم سنُدرك بالمُشاهدة أن ثمة أناس لم تستعرضهم الكاميرا التي تتحرك ببطء وتمهل مُستعرضة للبشر الذين يمثلون الطابور الأبدي- بدت لنا الكاميرا تتحرك دائما باتجاه يسار الشاشة، أي أن يمين الشاشة كان يوجد به مجموعة من البشر الذين لم نرهم من خلال الكاميرا حينما افتتح المُخرج فيلمه.

إن بداية تار فيلمه على الكاميرا المُتتبعة/ المُستعرضة في حركتها بدت لنا وكأنها تتحرك هذه الحركة المُستعرضة مُنذ الأبد- فلا بداية ولا نهاية تبدو لها- فثمة أناس لاحظناهم على يمين الشاشة، بينما الكاميرا تتحرك باتجاه اليسار لنرى المزيد منهم، أي أن تار يرغب في إشعارنا بأبدية حركة الكاميرا التي كانت تتحرك من قبل- أي قبل بداية الفيلم ولقطته الافتتاحية- وهي الحركة التي ستستمر طوال مُدة الفيلم- وكأنما الطابور البشري لا ينتهي، وله امتداد لم نلحق رؤيته قبل بدء الفيلم- في إيحاء بثقل الزمن وكثافته التي لا تُحتمل- فلسفة تار في أفلامه بالكامل.


إذن، فتار يُقدم فيلمه من خلال لقطة واحدة مُستمرة لا تنتهي إلا مع إغلاق فيلمه- من المُميزات الأسلوبية السينمائية للمُخرج اللقطات الطويلة التي لا تنتهي بسهولة للتدليل على كثافة الزمن، وتأثيره- وهو يحرص على تصويره باللونين الحياديين- الأبيض والأسود- أسلوبية تار في جل أفلامه التي قام بصناعتها- بالإضافة إلى تجهيل كل من الزمان والمكان- فهو في النهاية يقدم بشرا، محض بشر فقط، فضلا عن الكاميرا المحمولة، وعدم إغلاق عالمه السينمائي الذي يتركه مفتوحا على كل الاحتمالات.

مع استمرار حركة الكاميرا المُتمهلة على وجوه البشر المُصطفين؛ سنشعر لوهلة ما بأن الأمر لن ينتهي- أبدية الإحساس بالزمن الذي يرغب المُخرج في نقله إلينا كمُشاهدين- كما أن ملامحهم الشديدة االبؤس، والحزن، واليأس ستجعلنا نتساءل: لِمَ يصطف كل هذا الجمع من البشر البائس؟ وإلامَ ينظرون في النهاية- فنظراتهم تتجه للأمام في انتظار شيء ما-وما الذي ينتظرونه؟

بعد فترة طويلة من تتبع الكاميرا تتوقف أمام نافذة في جدار، لنكتشف أن كل هذا الجمع البشري الضخم يصطف بجوار أحد الجدران في انتظار فتح النافذة من أجل الحصول على الطعام! حيث تتوقف الكاميرا ثابتة أمام نافذة في الجدار تفتحها إحدى الفتيات المُبتسمات، لتناول كل فرد من الأشخاص المُنتظرين كيسا من الخبز، وكوبا من الشراب، ثم تخط بالقلم الذي في يدها، في دفتر أمامها كلما ناولت أحدهم طعامه، وكأنها تعدهم- تحول البشر لمُجرد أرقام.

المُوسيقار المجري ميهالي فيج

إذا ما تأملنا مشهد الكاميرا الثابت أمام النافذة للاحظنا أن الكاميرا تُراقب الفتاة التي تناولهم الطعام مُحدقة، بينما الأفراد المُنتظرين للطعام يدخلون الواحد تلو الآخر إلى الكادر- لا نرى في هذه الحال سوى ظهره فقط- وسُرعان ما يخرج من الكادر بعد استلام طعامه، ليحل غيره محله، وهكذا- أي أن تار الذي اهتم طوال فيلمه بتأمل تقاسيم، وملامح وجوه المُنتظرين- باعتبارهم أفرادا لهم كياناتهم الخاصة/ الفردية- قد أطاح بهذا الاهتمام بالعالم الخاص لكل شخصية تماما في مشهده الأخير وحولهم جميعا إلى مُجرد أشياء، أو مُجرد مُتتالية عددية، لا قيمة لها، ولا أهمية؛ فهم يستلمون طعامهم، ليخرجوا من الكادر كي يدخل غيرهم في شكل آلي لا قيمة له سوى الحركة في النهاية- التشيؤ!

إن التأمل فيما قدمه تار من شأنه أن يفتح أمامنا أفق التساؤلات على مداه الأوسع: فمن هؤلاء البشر؟ وما الذي يدفعهم إلى التوقف هكذا في انتظار الطعام؟ هل هم مجموعة من المُشردين الذين يحصلون على طعامهم من أحد المطابخ المجانية؟ أم أنهم مجموعة من العمال الذين حان وقت طعامهم، وبالتالي يستلمون وجباتهم البائسة- لاحظ أن الكادر الثابت الذي تأملت فيه الكاميرا لموظفة النافذة التي تناولهم الطعام كان في عمقه ساعة تُشير إلى الثانية عشرة، وبما أنه من المُفترض عدم وجود أي شيء مجاني في الكادر السينمائي، فهذا يعني أن وجود الساعة لا بد له من دلالة، وهذا من شأنه قد يحيلنا على أنهم مجموعة من العمال الذين حان وقت غدائهم- لاحظ أيضا أن أحدهم يرتدي غطاء رأس صوفي على رأسه مكتوب عليه Toyota كما تعلو الكلمة شعار شركة توتوتا. لكننا سنستمر في التساؤل: هل هم في المجر- بلد المُخرج- أم في أوروبا- باعتبار الفيلم الجامع هو فيلم عن رؤية كل مُخرج للاتحاد الأوروبي.

إذن، فتار هنا يفتح أفق التساؤلات التي لا تنتهي لأنه في حقيقة الأمر لم يقدم لنا أي قصة بالمعنى المعروف للقصة. ولكن، ما الذي قدمه لنا تار؟


في الحقيقة هو لم يقدم لنا أي شيء؛ فتار لا يعنيه الحدث، أو القصة بشكلها الكلاسيكي/ الخطي، بل هو يكره حكاية القصص والحكايات، لأنه غالبا ما يرى أنه لا شيء يحدث في هذا العالم البائس- لاحظ أيضا أن الفيلم لا توجد فيه جملة حوار واحدة، أي أنه يقدم لنا صورة سينمائية نقية فقط- في جوهر الأمر إن اهتمام تار الرئيسي ينصب على تفاهة الأفعال الإنسانية، ولاجدواها، وعدميتها، وابتذالها، وكثافة الوقت، وأبديته، وهو ما فعله في فيلمه هذا، وغيره من أفلامه الأخرى.

فالكاميرا- والمُخرج أيضا- هنا تتأمل، ولا تقوم بأي فعل آخر سوى التأمل الذي يشاركها فيه المُخرج. هو يرغب في نقل تأمله إلينا، وكأنما يقول لنا: شاهد فقط، تأمل، ثم فكر.

فيمَ يجب أن يفكر المُشاهد؟ فليفكر في أي شيء، في الأزمة الوجودية لهؤلاء البشر، في فقرهم، في إهانتهم بشكل لا أخلاقي نتيجة انتظارهم للطعام في هذا الطابور الطويل المُمتد وكأنهم مجموعة من الحيوانات التي يتم العطف عليها في نهاية الأمر بالقليل جدا من الخبز البائس.

إن تار هنا يستعرض لحظة أبدية، ومُخجلة للبشرية، يضغط عليها، يضخمها في نفوسنا لنتأمل معه. هو كفيلسوف سينمائي يحاكمنا أخلاقيا من خلال هذا الفيلم- لكنها مُحاكمة صامته لا يتدخل فيها تار بشكل مُباشر، بل تتحول فيها عيناه إلى كاميرا تنقل لنا ما يراه.

ألا يُذكرنا هذا الطابور الطويل من البشر في انتظار الطعام بمجموعة ضخمة من الكلاب أمام مالكيهم في انتظار طعامهم؟

إنه المعنى الذي يرغب تار في إيصاله إلينا في نهاية الأمر- إسقاط الفعل من الإنسانية إلى الحيوانية الذليلة، وإسقاط الكرامة، وتجريد الإنسان من إنسانيته في مُحاكمة أخلاقية لأوروبا بالكامل، بما أن الفيلم في جوهره يقدم الرؤية الفنية لكل مُخرج باتجاه الاتحاد الأوروبي.


مع المزيد من التأمل والتروي في فيلم تار القصير جدا، لا بد من التساؤل: ما الذي يقصده تار بعنوان فيلمه المُلتبس؟ إذا ما كان العنوان هو مُفردة "مُقدمة" وكأنه كتاب ما، فهذه المُقدمة لمن، ولماذا؟

هل هو مُقدمة للفقر والجوع اللذين يراهما تار في مُستقبل الاتحاد الأوروبي- باعتباره مُتشائما باتجاه مُستقبل الإنسانية دائما؟ هل يُعد العنوان باعتبار أن فيلم تار كان هو مُقدمة الأفلام التي تم تقديمها في الفيلم الجامع Visions of Europe رؤى أوروبا؟ هل هو مُقدمة سينمائية فلسفية للبؤس الإنساني، وسيادة الشر، وامتهان الكرامة؟ ربما هو المعنى الأول، أو الثاني، أو الثالث، ولكن، إذا ما عرفنا أن المجر لم تنضم إلى الاتحاد الأوروبي سوى في عام 2004م[6]- عام صناعة الفيلم- سينفتح باب التأويل بشكل مُختلف تماما؛ وبما أن المجر من دول أوروبا الشرقية- الكتلة الاشتراكية السابقة- وهي الدول التي يسودها الكثير من الفقر، والعوّز، والحاجة، والبؤس، واليأس، وإظلام الحياة، وانعدام الأمل والمُستقبل، سيأخذ الفيلم في تأويله معانٍ أخرى تماما- لا سيما أن مُخرج الفيلم ليس مُجرد مُخرج سينمائي، بل هو فيلسوف السينما الأوروبية، والأكثر ثورية، والشيوعي اليساري، والمُتشائم الأبرز، وصاحب الموقف دائما.

من هذا المُنطلق، أو المُعطى الجديد- انضمام المجر للاتحاد الأوروبي- سيحمل عنوان الفيلم هنا تأويلا يفيد بأن هذا الفيلم الذي قدمه تار لرؤيته الفنية باتجاه أوروبا بمثابة المُقدمة التي يقدمها تار لدول الاتحاد، فهو يصور من خلاله المُجتمع المجري الفقير البائس، اليائس من كل شيء، وغيره من دول أوروبا الشرقية، وكأنه يقول لهم: ها أنا قد تقدمت لكم بمُقدمة اندماجنا مع بعضنا البعض، فهذا هو ما نحن عليه. وبالتالي يكتسب هنا الطابور الطويل للبشر الذين لا ينتهون في انتظار الطعام معنى انتظار سُكان أوروبا الشرقية من الفقراء المعوزين الذين يقفون في طابور لا ينتهي في انتظار أن تجود عليهم دول أوروبا المُرفهة بالطعام- مُجرد الطعام فقط- من أجل سد جوعهم الأبدي!


إن تار يصفع الجميع على وجهه بهذا المعنى، يرى أن أوروبا في جوهرها غير أخلاقية، بل إن العالم بأكمله غير أخلاقي لأن هناك أعدادا ضخمة من البشر يصطفون كالحيوانات في انتظار القليل من الفتات ليسدوا به جوعهم. إنها فقدان الكرامة الإنسانية، والمعنى، والأخلاق التي يتشدق بها الآخرون. أي أن تار يرغب في التركيز على معاني الشر التي لا يرى سواها في البشرية، حيث الشر يسود كل شيء، وكل الأفعال، وكل الأوقات؛ وبالتالي فلا بد من نهاية هذا العالم الذي امتلأ بكل هذه الشرور. إنها فلسفة تار في كل أفلامه التي قام بصناعتها.

إن تار هنا يهمه- في المقام الأول- التركيز على أبدية الوقت أكثر من الفعل، فهو لم يقل أي شيء، ولم يقدم أي حدث، ولا أي حكاية، أو قصة، أو حوار، أو كلمة واحدة. هو يقدم فعلا يدور في الحياة فقط، وهو بالتأكيد فعل تافه لا قيمة له وسط الأفعال البشرية المُتزاحمة، لكنه صفعة قاسية على وجوه الجميع. إنه يتأمل بكاميرته الشبيهة بالكائن الحي، مُتماهيا معها، وكأنما الكاميرا هنا هي عينيه نفسه التي يرى بهما، ومن ثم فهي بطيئة، مُتفحصة، وربما حزينة، باكية على ما تراه أمامها- لكنها حريصة على الصمت وعدم التعليق، أو اتخاذ أي جانب ضد جانب آخر- لكن، مما زاد من أثر الفيلم وقوته المُوسيقى التصويرية المُصاحبة للكاميرا مُنذ اللحظة الأولى حتى اللحظة الأخيرة؛ فثمة جملة مُوسيقية واحدة يتم تكرارها بشكل أبدي لا يكاد أن ينتهي تُعبر عن الكثير من اليأس، والشجن لما تنقله الكاميرا، وهي المُوسيقى المُميزة التي تلعب دورا لا يُستهان به في أفلام تار كلها تقريبا للمُوسيقار المجري Mihály Vig ميهالي فيج؛ الأمر الذي يحوّل مُوسيقى فيج في أفلام تار إلى بطل رئيسي، وأساسي- تماما كالكاميرا التي تتحول إلى كائن حي، وشخصية مُشاركة من شخصيات الفيلم- أي أن المُوسيقى التصويرية هنا كانت هي الأبطل الأول في الفيلم، أو أنها البديل الأساس للحوار.

في الفيلم المجري "مُقدمة" للمخرج والسيناريست بيلا تار، ثمة سينما مُتعالية، مُعتزة بذاتها، تعرف قدرها، شديدة العمق والتفلسف، تحاول الربط بين العالم الفيلمي للمُخرج- لاحظ أن مشهد الطابور الطويل، أو التجمع، والحشد البشري الضخم يتشابه إلى حد كبير مع الحشد الذي رأيناه في فيلمه Werckmeister Harmonies تناغمات ويركميستر 2000م، صحيح أن الجمع في الفيلم الروائي الطويل "تناغمات ويركميستر" نجح في تدمير المشفى بالكامل، وتفريغ شعورهم بالغضب، لكننا هنا لن نرى أي شكل من أشكال التفريغ، بل إذلال كامل من أجل الطعام فقط وربما كان الرابط الجوهري بين الجمعين، فضلا عن الشكل والأسلوبية التي تم تقديمهما بها، هو الفقر، والبؤس، والحاجة الشديدة.

المُخرج والسيناريست المجري بيلا تار

إن تار يقدم رؤيته الفنية لأوروبا من خلال اللاشيء- مُجرد مشهد بائس- لكنه من خلال هذا المشهد الذي تتأمل فيه الكاميرا يطرح كل فلسفته، وعمقه، وطريقة تفكيره في حياته؛ الأمر الذي يجعل هذا الفيلم- رغم قصره الشديد- يكاد أن يتساوى تماما مع مجموع الأفلام التي قدمها تار من حيث القيمة الفنية، والأسلوبية أيضا. صحيح أن الفيلم قد يبدو لنا- ظاهريا- شديد البساطة، لكنه من أكثر أفلام تار عمقا، وربما قسوة في التناول، وتشاؤما، وكأنما تار بتقديمه لهذا المعنى الذي رأيناه يؤكد لنا على أن هذا العالم لا يستحق الاستمرار، وأنه لا بد من كارثة كونية أن تحل به من أجل إنهائه بعدما نكل البشر ببعضهم البعض، وجردوا بعضهم من الكرامة والمعنى الإنساني، ليقف جزء منهم في طوابير طويلة كالحيوانات في انتظار الفتات من الطعام كي يستطيعوا الاستمرار في الحياة، ولكن من دون أي كرامة.

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "الشارقة الثقافية"

عدد مايو 2024م.

 

 

 

 

 



[1]  وضع بيلا تار اسم زوجته Ágnes Hranitzky أجنيس هرانيتسكي على الفيلم كمُخرج مُشارك؛ الأمر الذي جعل عدد المُخرجين 26 بينما عدد الأفلام 25 فيلما.

[2]  Peter Greenaway بيتر جريناواي من مواليد 5 إبريل 1942م، وهو مُخرج سينمائي، وسيناريست، وفنان بريطاني. اشتهرت أفلامه بتأثيرها الواضح على عصر النهضة والرسم الباروكي، والرسم الفلمنكي على وجه الخصوص. السمات المُشتركة في أفلامه هي التكوين الخلاب، والإضاءة، والتناقضات بين الأزياء والعري، والطبيعة والهندسة المعمارية، والأثاث والناس، والمُتعة الجنسية والموت المُؤلم. من أفلامه The Falls الانهيارات 1980م، وThe Draughtsman’s Contract عقد الرسام 1982م.

[3]  Fatih Akin فاتح أكين، من مواليد 25 أغسطس 1973م، وهو مُخرج سينمائي، وسيناريست، ومُنتج تركي ألماني. حصل على العديد من الجوائز عن أفلامه، منها جائزة Golden Bear الدب الذهبي في مهرجان Berlin Film Festival برلين السينمائي عن فيلمه Head- On وجها لوجه 2004م، وجائزة Best Screenplay أفضل سيناريو في مهرجان Cannes Film Festival كان السينمائي عن فيلمه The Edge of Heaven حافة النعيم 2007م، وجائزة Golden Globe Award for Best Foreign Language جولدن جلوب لأفضل فيلم بلغة أجنبية عن فيلمه In the Fade من العدم 2017م.

[4]  Teresa Villaverde تيريزا فيلافيردي، من مواليد 18 مايو 1966م، وهي مُخرجة أفلام برتغالية. عُرض فيلمها Os Mutantes المسوخ في قسم Un Certain Regard نظر ما في مهرجان Cannes Film Festival كان السينمائي عام 1998م.

[5]  Aki Olavi Kaurismäki آكي أولافي كاروسماكي، من مواليد 4 إبريل 1957م، هو مُخرج سينمائي، وسيناريست فنلندي. اشتهر بأفلامه الحائزة على جوائز مثل Drifting Clouds الغيوم المُتهاوية 1996م، وThe Man Without a Past رجل بلا ماضي 2002م، وLe Haver مدينة هافر 2011م، وThe Other Side of Hope الجانب الآخر من الأمل 2017م، بالإضافة إلى الفيلم الوثائقي الساخر Leningrad Cowboys Go America رعاة بقر ليننجراد يذهبون إلى أمريكا 1989م، وقد تم وصفه بأنه أشهر مُخرج سينمائي في فنلندا.

[6]  في عام 2004م انضمت عشر دول للاتحاد الأوروبي، وهي: إستونيا، وبولندا، وجمهورية التشيك، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، ولاتفيا، وليتوانيا، والمجر، وقبرص، ومالطا. ولعلنا نُلاحظ أن غالبية الدول المُنضمة للاتحاد هي من دول أوروبا الشرقية التي كانت تُمثل الكتلة الاشتراكية سابقا.