الجمعة، 31 مايو 2024

افتتان البوهيمية: سيرة الاغتراب

ربما تكون من أهم عيوب سينما السيرة الذاتية أن صناع هذه السينما يكونون حريصين كل الحرص على الالتزام بسيرة من يصنعون عنه فيلمهم، وكأنهم إذا ما تجاوزا الواقع، وأخذوا جزءا يسيرا من أحد جوانب حياته، وعملوا على التركيز عليه من خلال رؤيتهم الفنية التي تخصهم؛ فسيؤدي ذلك بهم إلى الفشل في تقديم ما يرغبونه عن الشخصية التي يتحدثون عنها، وربما هذا هو السبب الذي يجعل الكثير من أفلام السيرة الذاتية تكاد أن تكون باردة لا اندماج أو تعاطف كبير معها من قبل الجمهور، أو أنها تخرج لنا في النهاية جافة لا روح فيها؛ بسبب محاولة الالتزام الكامل بسيرة الشخصية المُقدمة. رأينا ذلك في العديد من الأفلام التي كانت بحاجة إلى المزيد من التركيز، أو المُراجعة، أو المونتاج مثل الفيلم الإنجليزي The Professor and the Madman البروفيسور والمجنون 2019م على سبيل المثال، لا الحصر.

لكننا إذا ما تأملنا ما قُدم لنا في الفيلم الأمريكي Bohemian Rhapsody افتتان البوهيمية للمخرج الأمريكي Bryan Singer بريان سنجر، وهو الفيلم الذي يتناول قصة حياة مغني وأسطورة الروك الإنجليزي فريدي ميركوري المتوفي في 1991م؛ لتأكد لنا أن هذا الجنس من الأفلام من الممكن له أن يكون من أكثر الأفلام أهمية سواء على المستوى الفني، أو المستوى التاريخي إذا ما حاول صُناع الفيلم عدم الالتزام الحرفي بقصة الشخصية التي يتحدثون عنها، أو من خلال تناول زاوية مُعينة من حياتهم والتركيز عليها.

من اللافت للنظر في هذا الفيلم أنه عمل على التركيز على قصة الصعود والنجاح التي عاشها فريدي ميركوري هو وفرقته المُسماة Queen، وهوسه بالموسيقى والنجاح وبناء مجده الشخصي، وبالتالي لم يشغل المُخرج نفسه كثيرا بالحديث عن نشأته وميلاده، وأصوله الزنجبارية، وهجرته هو وعائلته، وتعليمه وديانته وغير ذلك مما يخص مُغني الروك الإنجليزي، كما يُحسب للمخرج كذلك عدم تركيزه على الجانب الجنسي من حياته رغم أن ميركوري كان ثنائي الجنس، وليس لديه الاستقرار الكامل في هويته الجنسية، وهو الأمر الذي أدى لإصابته بمرض الإيدز ووفاته بسببه في 1991م.


يحرص المخرج بريان سنجر على أن يبدأ فيلمه، أثناء نزول التيترات، على استعداد فريدي ميركوري- قام بأداء دوره الممثل الأمريكي الجنسية المصري الأصل Rami Malek رامي مالك- للدخول إلى خشبة المسرح في آخر حفل موسيقي قدمه في حياته مع فرقته عام 1985م، وهو الحفل الخيري الذي أُقيم من أجل مجاعات إفريقيا، ثم سرعان ما ينتقل بعد انتهاء التيترات إلى عمل فريدي في مجال شحن الحقائب في المطار قبل بداية تعرفه على الفرقة الموسيقية وبداية طريقه في عالم الشهرة والروك.

إن بداية المخرج أحداث فيلمه على عمل فريدي في قرية شحن البضائع في المطار، ووصف أحدهم له بأنه باكستاني، ثم رفض فريدي هذا الوصف بتواضع وهدوء، كان خير بداية للحدث؛ حيث انتقل في المشهد التالي على فريدي في بيته يستعد للخروج للسهر في أحد الملاهي التي تقدم وصلات غنائية لإحدى الفرق الموسيقية، وعودة الأب من الخارج مُبديا اعتراضه على سهر الابن في الخارج كل ليلة.

ربما نلاحظ منذ بداية الفيلم أن فريدي تبدو عليه التصرفات والسلوكيات التي تميل للأنثوية أكثر من الذكورية، وإن لم يصرح لنا الفيلم بأي شيء عن هويته الجنسية، إلا أن المُشاهد المُدقق سيلاحظ نعومة حركاته، والتفاتاته، وخجله، وطريقة ملبسه، ومشيته، ونظراته التي تؤكد في مُجملها على هذه الهوية الجنسية التي لم يذكرها الفيلم صراحة، وإن كان قد أداها ببراعة الممثل رامي مالك بشكل يوحي بقوة ميله باتجاه الأنوثة أكثر من الذكورة.


نرى فريدي في الملهى الليلي مُنغمسا فيما تؤديه الفرقة الموسيقية أمامه على المسرح من مجموعة من الطلاب الذين يقيمون حفلاتهم في الجامعة وبعض الملاهي، وحينما ينتهي العرض يتجه إليهم عارضا عليهم أغنية قد كتبها، لكنهم يؤكدون له أن الفرقة قد انتهى أمرها؛ نظرا لأن المغني الرئيسي قد تركها للتو؛ فيؤكد لهم أنهم في حاجة إلى مغنٍ جديد قد يكون هو، لكن أحدهم يسخر منه بسبب أسنانه الأمامية البارزة بشكل واضح، إلا أن فريدي يؤكد لهم أنه قد وُلد بأربعة أسنان أمامية تعطيه ميزة في الغناء حيث تؤدي هذه الأسنان إلى فراغ فمي أكبر يساعده على الغناء، ولم يلبث أن غنى أمامهم أحد المقاطع الغنائية التي جعلتهم ينبهرون به ويوافقون على اشتراكه معهم في الفرقة الموسيقية كمغنٍ.

يبدأ ميركوري طريقه الفني مع الفرقة الموسيقية، ورغم أنه في أول عرض فني له معهم يوجه له الجمهور الكثير من السخرية قبل بداية العرض، إلا أنه بمجرد الانتهاء من فقرته الغنائية يكون الجمهور قد اقتنع به، وبطريقة أدائه على المسرح. يتعرف فريدي على ماري- قامت بدورها الممثلة الأمريكية الجنسية الإنجليزية الأصل Lucy Boynton لوسي بوينتون- التي يقع في عشقها، ويعرض عليها الزواج بعد التعرف على والديها.

نلاحظ هنا أن فريدي رغم أنه كان المُلتحق الأخير والجديد بالفرقة الموسيقية إلا أنه يتمتع بالكثير من السمات الشخصية القيادية رغم أنثويته الواضحة؛ لذلك حينما تتعطل بهم الشاحنة في إحدى المرات وهم في طريقهم إلى أحد الحفلات، يعرض عليهم ضرورة أن يكون لهم ألبوما غنائيا كي يعرفهم أكبر عدد من الجمهور، وحينما يخبرونه أنهم لا يمتلكون المال من أجل إنتاج ألبوم غنائي، يرد بأنهم لا بد لهم من بيع الشاحنة وصناعة ألبوم من أموال بيعها.


تصنع الفرقة ألبومهم الخاص بهم بالفعل بعدما يتصرفون في الشاحنة، وهو الألبوم الذي ينتشر انتشارا كبيرا في كل مكان ويعشقه الجمهور في أمريكا؛ الأمر الذي يجعل أحد كبار المنتجين يتواصل معهم وينظم لهم العديد من الحفلات في أمريكا، وهي الحفلات التي امتدت إلى جميع أنحاء العالم فيما بعد. سنلاحظ أن الفرقة الموسيقية بالكامل كان لديهم من العشق للموسيقى ما يجعلهم دائمي الرغبة في التجديد وعدم الثبات على شكل واحد سواء في موسيقاهم، أو كلمات الأغاني التي يقدمونها، بل كان فريدي أكثرهم جنونا ومُغامرة، وشطحا في تقديم كل ما هو جديد، وهو ما كانوا يرونه جنونا في بداية الأمر، رغم أن شطحاته كانت لها الكثير من الفضل في المزيد من النجاح الفني لهم.

يفكر فريدي في أغنية طويلة مدتها ست دقائق بعنوان افتتان البوهيمية، وهي الأغنية التي تأخذ من الموسيقى الأوبرالية افتتاحياتها وأسلوبها وإن كان قد مزجها بموسيقى الروك؛ الأمر الذي جعل المُنتج يرفضها؛ نظرا لطولها، ولأن الإذاعات سترفض بثها لطولها، لكنه يصر على ما يريد، وبالفعل تتم إذاعة الأغنية في إحدى الإذاعات، وهي الأغنية التي يقابلها الجمهور بالكثير من النقد السلبي في البداية، ولعلنا نلاحظ أسلوبية المخرج الذكية هنا- وهي الأسلوبية التي تختصر الكثير من الثرثرة- حينما حرص من خلال المونتاج على كتابة النقد السلبي للجمهور على الشاشة أثناء إذاعة الأغنية، لكن رغم رد الفعل السلبي الذي واجه به الجمهور لأغنيتهم الجديدة، والتي ستصبح فيما بعد من أهم ما قدمته هذه الفرقة، لم يؤثر الأمر عليهم، وواجهوه بشجاعة إلا أن تقبلها الجمهور.


ينشغل فريدي في الكثير من الحفلات حول العالم، وهو الأمر الذي يجعل زوجته تشعر بافتقادها له، وحينما يعود بعد جولة طويلة يفتح التلفاز على إحدى حفلاته ثم يجلس على الطرف الآخر من الأريكة التي تجلس عليها رغم عشقه الكبير لها، وبديهية أن يكون بجوارها بعد هذا الغياب الطويل، وهو الأمر الغريب الذي لا بد سيلاحظه الجمهور كما ستلاحظه زوجته أيضا، إلا أنها تقترب منه لتسأله عن سبب تغيره الذي تلحظه منذ فترة طويلة؛ فيخبرها مُترددا بأنه يشعر بكونه ثنائي الجنس.

ثمة مُلاحظة مُهمة هنا لا بد لنا من التوقف أمامها قليلا، صحيح أننا كمُشاهدين نلحظ منذ بداية الفيلم نعومة وأنثوية فريدي في كل تصرفاته مما يوحي لنا بهويته الجنسية، أو ميله الجنسي، لكن المخرج قدم الشخصية بشكل لا يمكن منطقته بشكل عقلي، أو تقبله بسهولة؛ ففريدي لم يكن يدرك عن نفسه حقيقة هويته أو ميله الجنسي، وهو أمر غير عقلاني؛ فمن الطبيعي أن يكون واعٍ تماما لمثل هذا الميل الذي لا يمنعه، بالضرورة، من تكوين علاقة جنسية أو عاطفية مع امرأة كعلاقة عادية وطبيعية، لكن أن يقدمه المخرج وكأنه لا يدرك هذه الحقيقة هو ما لا يمكن قبوله عقلانيا، لا سيما أنه حينما كان في إحدى الحفلات في أمريكا نظر إليه سائق إحدى الشاحنات نظرة تحمل دعوة جنسية، وهي النظرة التي علقت في ذهن فريدي وتأملها كثيرا، وإن بدا غير مُدرك لها أو لحقيقتها، أو حتى لحقيقة ميوله، كما أن بول، مدير أعمالهم- قام بدوره الممثل الأيرلندي Allen Leech ألين ليتش- قد قام بتقبيله فجأة؛ ولم يُبد فريدي أي رغبة في علاقة معه، بل أخبره أنه مجرد شخص يعمل معه، وأنه يحب زوجته ماري التي تعرفه جيدا.

إن حرص المخرج على تقديم شخصية فريدي كشخص غير مُدرك لحقيقة ميوله الجنسانية الحقيقية غير مُبرر وغير منطقي، لا سيما أننا نلاحظ بالفعل سلوكه الأنثوي، وميله للأنوثة أكثر من الذكورة، أي أن الأمر قد بدا لنا متناقضا إلى حد بعيد؛ لأن المرء لا يمكن له أن يدرك فجأة حقيقة جنسانيته التي يميل إليها، كما أنها لا تنبت فجأة من الفراغ لتسيطر على عالم صاحبها.

يؤكد فريدي لماري مدى عشقه لها، وأنه لا يرغب في الابتعاد عنها، بل يريدها في حياته، لكنها لا تستطيع الاستمرار معه كزوجة، وإن كانت قد استمرت معه كأقرب صديقة له، والوحيدة التي تهتم به حتى مماته. تزداد شهرة فريدي والفرقة الموسيقية في جميع أنحاء العالم، وينتقل من نجاح إلى نجاح أكبر، ولعلنا نلاحظ هوس فريدي بالنجاح والتميز الذي لا يشبع منه، وهو النجاح الذي جعله كثير الغرور والنرجسية والاعتزاز بذاته، لكنه بات رافضا لاستماع أي نصيحة من الآخرين حتى لو كانوا من أفراد فرقته الذين يصفهم دائما بأنهم عائلته.


يشتري فريدي بيتا واسعا وفخما في نفس الشارع، وفي الاتجاه المقابل للشقة التي تقيم فيها ماري؛ ليكون قريبا منها دائما، لكنه يشعر رغم نجاحاته الكثيرة والمُتكررة، والازدحام الذي يملأ حياته بالكثير من الفراغ والاغتراب والسأم من كل شيء، ولعلنا نلاحظ ذلك حينما اشترى هذا البيت وطلب من أحد أفراد الفرقة أن يبقى معه للعشاء، لكنه يعتذر مُتعللا: لا أستطيع، الزوجة والأطفال، أنت تعرف؛ فيقوم بمُهاتفة ماري- على الجانب الآخر من الشارع- حينما يجد نفسه وحيدا في البيت الواسع، ويطلب منها الاتجاه نحو النافذة لتراه يضيء ويطفئ النور عدة مرات، طالبا منها أن تفعل مثله، ثم يدعوها لتناول الشراب معه في بيته، لكنها تعتذر مُتألمة مُتعللة بتأخر الوقت. هنا يشعر فريدي بالخواء الحقيقي والاغتراب الكامل؛ الأمر الذي يجعله يتصل بمدير أعماله، بول، مُخبرا إياه أنه يريد تنظيم حفل كبير في منزله، وحينما يسأله بول عن الضيوف الذين يرغب في دعوتهم يقول: الناس، أريدك أن تهز الشجرة الغربية، وقم بدعوة أي شخص على سطح الأرض، الأقزام والعمالقة، السحرة، رجال قبائل الزولو، المُهرجين، آكلو النار، والقساوسة؛ سنحتاج إلى الاعتراف.

ألا نلاحظ في إجابة فريدي الكثير من الاغتراب والخواء والوحدة والملل، والسأم رغم نجاحاته المُتتالية والكبيرة، والثروة المالية الضخمة التي هبطت عليه، وازدحام حياته بالكثيرين جدا من الناس؟

هو بالفعل يشعر بالكثير من الخواء رغم حياته المُمتلئة، وهو الأمر الذي يجعله يرتدي قلنسوة وزيا غريبا كأنه أحد الملوك في الحفل المزعوم، ويقول لضيوفه الكثيرين: يقولون: لا يمكن للمال شراء السعادة يا أعزائي، لكنه يسمح لك بمنحها بينما يوزع هداياه على الجميع بسأم. هذا السأم هو أيضا ما يجعله يتعامل بفظاظة ولا مبالاة مع أعضاء فرقته؛ الأمر الذي يجعلهم يغادرون الحفل غير راغبين في البقاء معه.

المُخرج الأمريكي بريان سنجر

ينتهي الحفل قرابة الصباح ويرحل الجميع تاركين فريدي وحيدا مرة أخرى وقد انتشى تماما من فرط تناوله للخمور، وبينما يقوم بالعزف على البيانو يشاهد أحد العاملين على تنظيم الحفل يحاول ترتيب الفوضى التي تركها الضيوف- قام بدوره الممثل الأيرلندي Aaron McCusker آرون ماكوسكر- فيداعب فريدي مؤخرة النادل؛ الأمر الذي يجعل الرجل غاضبا مُحذرا إياه من تكرار هذا الفعل مرة أخرى؛ فيعتذر له فريدي عارضا عليه تناول كأسين من البيرة كسبيل للاعتذار. يقبل النادل الذي يسأله: إذن فقد تركك أصدقائك وحيدا، ليرد فريدي بلامبالاة وسأم: إنهم ليسوا أصدقائي، ليس حقا، الأمر مجرد إلهاء؛ فيسأله: مم؟ ليقول فريدي: ما بين اللحظات، على ما أظن، إنهم لا يطاقون جميعا، الظلام الذي ظننت بأنك تركته خلفك يتسلل عائدا. فيميل عليه النادل مقبلا شفتيه قائلا: تعال وابحث عني عندما تقرر أن تحب نفسك.  

إن في إجابة فريدي على جيم- النادل- ما يُدلل على مدى شعوره العميق بالوحدة رغم وجود الجميع من حوله، لكنه لا يشعر بحب أحد له رغم تظاهره دائما بأن حياته مشغولة بهم، أي أنه يحاول الهروب من هذا الإحساس العميق بالخواء والاغتراب بوجود الكثيرين الذين لا يعنونه في شيء من حوله، وهو ما نلاحظه كثيرا حينما يترك هذه الأعداد الكبيرة الموجودة في حفلات الصخب المنزلي المُكتظة بالخمور والمخدرات؛ ليجلس وحده في أحد زوايا منزله بعيدا عن أعينهم غير راغب في تواجده بينهم، كما أن في جملة جيم الأخيرة له ما يُدلل على أن الرجل يدرك جيدا أن فريدي لا يمتلك من مشاعر التصالح مع ذاته والتوازن معها ما يكفي ليكون معه في علاقة متزنة، أو مستقرة؛ لذلك طلب منه البحث عنه حينما يبدأ في الشعور بحب ذاته.

يحاول بول السيطرة على حياة فريدي بالكامل، وإبعاده عن فرقته الموسيقية، ويقنعه بالتعاقد مع إحدى الشركات الفنية بشكل منفرد في ميونيخ مقابل أربعة ملايين من الدولارات، وحينما يحاول مُفاتحة أفراد فرقته في الأمر- وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تفرق الفرقة وانتهائها- يقول له أحدهم: نحن عائلة؛ فيرد فريدي مُنفعلا غاضبا: كلا، لسنا كذلك، لسنا عائلة، لديكم عائلات، أطفال، زوجات، ما الذي لدي؟ فيرد عليه آخر ساخرا: ستحصل على أربعة ملايين دولار، ربما تشتري عائلة.

الممثل الأمريكي الجنسية المصري الأصل رامي مالك

ربما نلاحظ أن الانفعال الشديد لفريدي حينما قال له أحد أفراد الفرقة بأنهم عائلة، ومثل هذه العبارات التي رد عليه بها يُدللان على الكثير من الغضب، والأكثر من شعور الاغتراب العميق؛ فهو بالفعل لا يستطيع التكيف مع حيوات أصدقائه الذين لديهم أُسر، وزوجات وأطفال، وما يستتبع ذلك من التزام وحياة عائلية مُستقرة، بينما هو ليس لديه زوجة بعدما انفصلت عنه ماري، كما أنه لا يطيق الحياة مع والديه الغير راضين عن سلوكه في حياته، والطريق التي اختارها لنفسه، ولا يوجد من حوله أي إنسان سوى الكثيرين من المنتفعين الراغبين في أمواله ومُضاجعته الجنسية فقط. ينفصل فريدي بالفعل عن فرقته ويبدأ في تنفيذ تعاقده، وينغمس تماما بشكل يومي في الحفلات الصاخبة المُكتظة بالمُخدرات والخمور، والجنس المثلي مع الكثيرين ممن لا يعرف عنهم شيئا، وإن كان بول يجلبهم له بعدما حاول السيطرة الكاملة على حياته وتنظيمها كيفما يرغب، وعزله الكامل عن أعضاء فرقته، بل وماري أيضا.

تحاول ماري الاتصال به غير مرة، لكن بول لا يخبره، كما يهاتفه محاميه لإخباره بحفل خيري مُهم سيشاهده العالم كله، ولا بد له أن يشترك فيه، لكن بول يخفي الأمر عنه أيضا، وحينما تشعر ماري بالقلق عليه تزوره لتخبره بالأمرين، وتنصحه بأن هذا المكان ليس مكانه، وعليه العودة إلى فرقته مرة أخرى، في الوقت الذي يدخل فيه بول إلى المنزل ومعه مجموعة من المثليين لحفلة جديدة. تغادر ماري ويطرد فريدي بول من حياته؛ فيهدده بالكثير من الصور الجنسية له مع العديد من الرجال وإفشاء حياته الخاصة للإعلام، لكنه لا يهتم بالأمر، ويحاول العودة إلى فرقته مرة أخرى، ويقنعهم بالفعل، ويبدأون في التدرب على الحفل الخيري العالمي لصالح المجاعات في إفريقيا.


يكتشف فريدي إصابته بالإيدز، ويعترف لأصدقائه بأنه مُصاب وعليهم ألا يخبروا أحدا بالأمر، كما يحاول البحث عن جيم، ويخبره بأنه الآن يشعر بالتصالح مع نفسه، ويقيم الحفل الناجح الذي كان آخر حفل له في حياته مع فرقته، وعاش حتى 1991م مع صديقه جيم الذي ارتبط به عاطفيا إلى أن مات مُتأثرا بمرضه، كما ظلت ماري على صلة به حتى وفاته.

ربما كان أهم ما في الفيلم الأمريكي افتتان البوهيمية للمخرج الأمريكي بريان سنجر، بعيدا عن الرؤية الفنية الخاصة لصناع الفيلم البعيدة عن الالتزام الكامل بحياة فريدي ميركوري، هو الأداء المُدهش والمُقنع تماما للمثل الأمريكي الجنسية المصري الأصل رامي مالك، وهو الأداء الذي لولاه لما كان هناك أي شيء من المُمكن له أن يميز الفيلم فنيا، لا سيما أن الفيلم من أفلام السيرة الذاتية القائمة على سحر وأسطورية وكاريزما وسيطرة ونجاح نجم الروك الإنجليزي فريدي ميركوري، وبالتالي فمثل هذه الشخصية تحتاج إلى ممثل ماهر ومُقنع تماما في أدائه؛ كي يستطيع جذب المشاهد إليه، جاعلا إياه مُلتصقا بمقعده طوال ساعتين وربع الساعة هي مدة الفيلم الموسيقي الذي يراه أمامه، ولعل الحرفية الأدائية للممثل رامي مالك هي ما جعلتنا لا نشعر بالملل في الـ20 دقيقة الأخيرة من الفيلم التي لم نشاهد فيها سوى فريدي على خشبة المسرح يقوم بالغناء، ولكن الأداء المُذهل للممثل ومقدرته على التعامل مع المسرح كمغني روك حقيقي، وواندماجه الكامل مع الشخصية التي يؤديها هو ما جعلنا لا نشعر بالملل مع هذه الـ20 دقيقة، وهو الأمر الذي جعل المُشاهد مُنفعلا ومُقتنعا بأداء رامي مالك وكأنه بالفعل يرى أمامه الشخصية الحقيقية الكاريزمية لفريدي ميركوري، صحيح أننا لم نقتنع بعدم إدراك فريدي لميوله الجنسانية في بداية الفيلم، لكن أداء مالك جعلنا نتغاضى عن هذه الأمر لاهثين خلفه للاستمتاع بما يقدمه لنا من سحر الشخصية.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21

عدد مايو 2024م

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق