الأربعاء، 8 مايو 2024

زهرة: حساسية فون ترير المُبكرة!

كم هو العالم قبيح!

تلك هي الفكرة التي لا تفتأ تضغط بثقلها على ذهن المُخرج والسيناريست الدانماركي Las Von Trier لارس فون ترير طوال الوقت، مُنذ أن كان طفلا حتى اليوم، وهي الفكرة التي يعمل عليها في جل أفلامه لتأكيدها وإكسابها الكثير من العمق الذي يثبت لنا في نهاية الأمر أن ثمة إشكالية قصوى في التواصل الإنساني، إشكالية في الرحمة، في التعاطف، في المُشاركة، هذه الإشكالية سببها الرئيس هو قبح العالم وما ينتهجه أفراد المُجتمع من أفكار مزدوجة، شكلانية في جوهرها، لا علاقة لها بما يدعونه مُتظاهرين به في حقيقة الأمر، بل نحن نحيا وسط مُجتمعات تتظاهر طوال الوقت بالحُب والخير في حين أن الشر مُتأصل، مُتجذر في نفوس الجميع!

الشر هو أصل البشر لدى لارس فون، جبلوا عليه، تشربوه تماما، تشبعوا به، بات جزءا من تكوينهم الأصيل، وبالتالي يؤدي بهم إلى الكثير من الجرائم والقبح- رأينا هذا من قبل في فيلمه الروائي القصير Why Try to Escape From Which You Know You Can’t Escape From? Because You Are Coward لماذا تحاول الهروب مما تعرف أنه لا يمكنك الهروب منه؟ لأنك جبان 1970م، وهو الفيلم الذي قام المُخرج بصناعته وهو لم يتعد الرابعة عشر من عمره، حيث عبر عن الشر المجاني الذي من المُمكن لأحد الأشخاص مُمارسته على شخص آخر رغم أنه لا يعرفه، ولم يقابله من قبل، لكن لأنه يرغب في المزاح، مارس شكلا من التخويف والذعر تجاه شخص آخر حاول إنقاذه من الموت؛ الأمر الذي أدى إلى انهياره في نهاية الأمر بسبب الخوف.

رحلة الشر القبيح في نفوس المُجتمعات هي الفكرة الجوهرية التي يعمل لارس فون على التركيز عليها، والتعبير عنها بأنماط مُتعددة في أفلامه السينمائية مُنذ أن كان طفلا، وحتى بعد انتقاله إلى مرحلة الأفلام الروائية الطويلة التي قدمها- في أغلبها- على شكل ثلاثيات فيلمية.


فهي الفكرة التي أدت إلى تدمير القارة الأوروبية بالكامل بسبب الحرب العالمية التي نشبت فيها، وهو ما جعل ترير يدين القارة بكل ما فيها من أشخاص وسياسات، ويرى أنها لا تستحق سوى الخراب، بل والمحو من على خارطة العالم، والحياة داخل المُستنقعات والمجاري وهطول الأمطار الغزيرة والظلام الدائم، فهذا المصير هو نتيجة ما اقترفته أيديهم من قبح، لذا رأينا ثلاثيته الأولى Europa Trilogy ثلاثية أوروبا التي كان عنيفا تماما فيها في إدانة القارة الأوروبية من خلالها!

لم يلبث ترير- بعد إطلاق بيانه الثوري على صناعة السينما Dogme 95 عام 1995م- إلا وقام بصناعة ثلاثيته الثانية Golden Heart Trilogy ثلاثية القلب الذهبي، والتي كانت من أعنف الإدانات للمُجتمعات، مُؤكدة على أن هذه المُجتمعات في جوهرها تتميز بالقبح والرغبة في مُمارسة الشر، وإن كانت دائما ما تتظاهر بعكس ما تبطن، وهو الأمر الذي يؤدي بالأشخاص إلى تدمير حيوات بعضهم البعض؛ نتيجة رغبتهم في التدمير المجاني الذي جبلوا عليه! ورغم أن الأفراد غالبا ما يتشدقون بصفات الخير، والتسامح، والشفقة، والحُب، ومُساعدة الآخرين، إلا أن وضعهم على المحك من أجل تطبيق ما يتشدقون به يجعلهم على النقيض تماما مما يدعونه، ومن ثم يبدأون في تدمير الآخرين، وازدرائهم، واحتقارهم، والتنكيل بهم حتى الموت من دون الشعور بأي ذنب أو شفقة تجاه من ينكلون بهم!


هذه الفكرة الشريرة - الشر البشري الخالص- هي ما جعلته يستمر في التعبير عنها حينما شرع في صناعة ثلاثيته الثالثة- وهي الثلاثية التي لم تكتمل، وانصرف المُخرج عن صناعة الجزء الثالث منها- USA:The Land of Opportunity Trilogy ثلاثية أمريكا: أرض الفرص، حيث تحدث المُخرج فيها عن الشر الأمريكي الخالص تجاه العالم، وهو ما جعل مُعظم صُناع السينما الأمريكيين، ونقادها يثورون عليه، ويتهمونه بالتحامل على أمريكا، وكراهيته لها- رغم أن ما ذهب إليه إنما يعبر في حقيقته عما تمثله أمريكا في واقع الأمر!

يستمر ترير في إدانة العالم وما يدور فيه من خلال أفلامه السينمائية، ومن ثم قام بصناعة ثلاثيته الرابعة The Depression Trilogy ثلاثية الكآبة التي يعبر فيها عن كآبة هذا العالم بسبب ما يدور فيه من أمور قد لا تبدو لنا عقلانية، وإن كانت لا عقلانيتها تنبع من قبح العالم الذي يسببه الشر المُتأصل فيه.

لكن، هل اكتفى لارس فون ترير بذلك حينما قام بصناعة ثلاثياته الأربع؟


أوغل لارس فون فيما يفعله للتعبير عن قبح العالم، حتى أنه حينما قام بصناعة الفيلم الكوميدي الوحيد- هو فيلم هزلي ساخر في حقيقة الأمر- The Boss of it All الرجل الكبير 2006م، لم يرغب سوى في التعبير عن القبح الكامن داخل النفوس البشرية من خلال رئيس عمل يبدي لموظفيه الحب الشديد والمُساندة، في حين أنه يتفق مع أحد المُشترين الفنلنديين، سرا، من أجل بيع الشركة وتشريد موظفينه من دون منحهم أي حق من حقوقهم- رغم أنهم هم من أسسوا الشركة معه، بل وكان التأسيس بأموالهم!

كما لا يفوتنا هذا الشر الذي رأيناه داخل Jack- هو في وجه من أوجهه لارس فون ترير نفسه- في فيلمه الروائي الطويل الأخير The House That Jack Built  المنزل الذي بناه جاك 2018م، وهو الفيلم الذي شاهدنا فيه مشهدا من أكثر المشاهد قسوة حينما نرى جاك يُطارد أم وابنيها من أجل قتلهم؛ فيقتل الطفلين أمامها أولا، ثم يتخلص منها فيما بعد لمُجرد رغبته في اللعب والتسلية والقتل!

هل ثمة سادية ما يمارسها لارس فون على جمهوره من خلال ما يقدمه من أفلام سينمائية؟


لا يمكن إنكار سادية لارس فون العميقة التي يمارسها على مُشاهده بشكل فيه الكثير من اللذة والانتشاء، لكن هذا الانتشاء الذي يشعر به المُخرج يرى من خلاله أن المُشاهد لا يمكن أن يستحق سوى ذلك، لأنه كلما أوغل في السادية تجاهه، كلما كشف للمُجتمع/ المُشاهد نفسه، وأوغل في تعريته، وفضحه، وقال له: أنت مُجرد حقير، مُدعِ، يسكنك الشر الذي تمارسه بطبيعية على الآخرين؛ الأمر الذي أكسب العالم كل هذا القبح الذي نراه من حولنا!

إذن، فترير إنما يعبر عن رؤيته للعالم- وهي رؤية تقترب إلى حد بعيد من الحقيقة- من خلال الصدمات الفنية، إنها الصدمة التي لا بد لها أن تؤدي بالمُشاهد إلى التوقف هنيهة، وتأمل ما يدور من حوله، بل وتأمل ذاته المُمارسة للشر بشكل طبيعي من دون أن يشعر به، وكأنه لاهٍ عنها لفرط مُمارسته لهذا الشر بشكل تلقائي!

لكن، هل تأمل العالم ما يفعله بشكل جيد من أجل التخلي عنه؟


لا، لم يتخل المُشاهد/ المُجتمع عن شره، بل أمعن في مُمارسته، واتهم ترير بالاختلال النفسي، واحتقار، وازدراء العالم من حوله، ومُمارسة السادية بشكل مرضي، ومُعاداة المرأة، والنازية، وعايره باكتئابه المُزمن، والكثير من الاتهامات التي واجهها المُخرج على طول حياته الفنية! أي أنهم كي يحاولوا الهروب من سوءاتهم؛ ألصقوا بالمُخرج ما لا يعد ولا يحصى من السوءات المُقابلة في شكل من أشكال الحيل النفسية، أو الإسقاط النفسي على الآخرين، كي يشعروا بالراحة والرضى عن النفس، ويسقطوا عن كاهلهم الشعور الثقيل بالذنب!

إن الشر الغارق فيه العالم هو ما يجعل ترير يتحرك على المستوى الفني من أجل التعبير عنه بأسلوبيته الخاصة؛ لذا حينما قام بصناعة فيلمه En Blomst زهرة 1971م، حيث كان في الخامسة عشر من عمره، تتبدى لنا بجلاء حساسية المُخرج المُفرطة والمُبكرة تجاه ما يدور من حوله في العالم، فهو يرفض كل هذا القبح، يشعر بالكثير من الاستياء مما يدور، يأنف من الانخراط فيه؛ الأمر الذي يجعله حريصا على التعبير عنه بشكل فني في العديد من الأفلام، لا سيما أفلامه المُبكرة مما يُدلل على حساسيته.

رغم أن الفيلم لم يتعد السبع دقائق ونصف الدقيقة إلا أنه يعبر عن عالم مُتكامل من القبح المواجه لكل ما هو جمالي- أي أن المُخرج حريص على وضع النقيضين مُتقابلين أمام بعضهما البعض- حيث تتابع كاميرا ترير أحد الشباب في عمر المُراهقة يسير في الطرقات من دون هدف، ليجد بجوار أحد الأرصفة زهرة صغيرة في حاجة للاعتناء والنمو فيأخذها إلى أحد الأماكن بجوار منطقة إنشاءات عمرانية ليقوم بغرسها في الأرض، وتنظيف التربة من حولها، ثم الجلوس إليها بالساعات مُعتنيا بها، متأملا، في انتظار إنباتها.

يحرص ترير من خلال القطع المتوازي على تصوير الشاب المُراهق في رحلته اليومية إلى مكان الزهرة، والاعتناء بها وبالتربة من حولها، بينما نشاهد القطع المُونتاجي دائما على الرافعات الإنشائية الضخمة، والزهرة التي يعتني بها الشاب جالسا إليها بالساعات.


إن اهتمام ترير من خلال القطع المُونتاجي بالتركيز على الآلات الضخمة للإنشاءات بالتبادل مع مشهد الشاب في اعتنائه بزهرته لا يمكن له أن يوحي لنا إلا بأن هذه الزهرة سوف تُدهس من خلال هذه الآلات العملاقة، أي أن ترير يحاول التأكيد لنا كمُشاهدين بأن العالم الصناعي الحديث قادر على تدمير وقتل الطبيعة في كل شيء.

لكن، هل هذا بالفعل ما كان يرغب ترير في إيصاله إلينا؟

يمتلك فون ترير من الذكاء الفني، والحيل الفنية ما يجعله قادرا على كسر أفق التوقع لدى المُشاهد رغم أن كل المعطيات لا يمكن لها أن توحي لنا إلا بأمر واحد ستنتهي عنده الأمور، وهو دهس آلات البناء الإنشائية العملاقة للزهرة وربما للفتى أيضا معها، لكن ما أن يصل المُشاهد إلى هذه الحالة اليقينية مما سيتحقق مُستقبلا، إلا وينقلب عليه لارس- فنيا- ليمحو ما توقعه المُشاهد تماما، ويتجه إلى سياق جديد آخر قادر على التدمير أيضا حينما نرى الطائرات الحربية النفاثة التي تجول في السماء؛ فيتابعها الفتى بخوف ناظرا باتجاهها. هنا يضع ترير لمسته الأخيرة والصادمة المُعبرة عن قسوة العالم وشره الذي يرغب في الحديث عنه حينما تُحدق الكاميرا في الفتى وقد انطرح أرضا ميتا بينما الدماء تسيل من فمه، لتنتقل الكاميرا إلى الزهرة التي كان يرعاها وقد نمت بالفعل، لكن الطائرات التي قتلت الفتى كانت قد دمرت الزهرة التي بدت لنا وقد انسحقت تماما!

المُخرج والسيناريست الدانماركي لارس فون ترير

إنها حساسية لارس فون ترير تجاه ما يدور من حوله في العالم، هذه الحساسية التي لمحناها في كل أفلامه تقريبا، نتيقن هنا في هذا الفيلم المُبكر وغيره من الأفلام التي قدمها في مرحلة المُراهقة إلى أن المُخرج إنما كان يمتلك بذور حساسيته الفنية مُنذ سنوات تكوينه الأولى، وهو ما حرص على إنضاجه، ورعايته، وتعميقه مُستقبلا حينما بدأ مرحلة أفلامه الروائية الطويلة التي أثارت الكثير من الخلاف واللغط من حولها بسبب قسوتها المُفرطة، وازدرائها لما يدور في العالم، وسُخريتها من الجميع، بل وصدمتها الفنية القوية للمُشاهدين حينما يقدم لهم القبح والشر عاريين أمام أعينهم بشكل لا مواربة فيه.

إن مُشاهدة هذه التجارب الفنية المُبكرة للمُخرجين- حتى لو كانت مُجرد تجارب ساذجة لم تكتمل على المستوى الفني بعد- من الأهمية بمكان لأي دارس أو باحث في مجال السينما من أجل الوقوف على خطوات التطور الأسلوبي، والفكري، والثقافي للمُخرج، بل ومحاولة البحث عن البذور الأولى التي يتشكل من خلالها الفنان مُنذ الصغر؛ لذا تُعد هذه التجارب من الأهمية بمكان ما يجعلنا غير قادرين على تجاهل هذه التجارب أو التغاضي عنها- رغم عدم أهميتها بالنسبة للمُشاهد العادي.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "الأقلام" العراقية

عدد مايو 2024م

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق