اشترك في الفيلم 26 مُخرجا، ليتم تقديم 25 فيلما قصيرا[1]، على ألا تتجاوز مُدة كل فيلم من الأفلام خمس دقائق، وإن بلغت مُدة عرض الفيلم المُجمع ساعتين وعشرين دقيقة، أي حوالي خمس دقائق ونصف الدقيقة لكل فيلم- ومن ثم رأينا في النهاية فيلم Visions of Europe رؤى أوروبا- الذي اشترك فيه مجموعة كبيرة من أهم مُخرجي أوروبا الذين كان منهم المُخرج الإنجليزي Peter Greenaway بيتر جريناواي[2]، والمُخرج التركي الأصل الألماني الجنسية Fatih Akin فاتح أكين[3]، والمُخرجة البرتغالية Teresa Villaverde تيريزا فيلافيردي[4]، والمُخرج الفنلندي Aki Kaurismäki آكي كاروسماكي[5]، وقد كان من ضمن مُخرجي الفيلم المُخرج المجري Béla Tarr بيلا تار بفيلمه الوثائقي القصير Prologue مُقدمة، وهو الفيلم شديد التركيز والبساطة الذي يكاد أن يكون نموذجا مُكتملا على فلسفة تار السينمائية، والوجودية، والأيديولوجية، والمفاهيمية، بل والأسلوبية- رغم أنه لم يتجاوز الخمس دقائق!
إنه الفيلم الذي يؤكد لنا- ربما لمئات المرات- على أن تار ليس مُجرد مُخرج، بل هو في حقيقة الأمر فيلسوف يتخذ من السينما وسيلة للتأمل والتفكير فيما يدور من حوله. هو مُنشغل بعمق الأشياء، وجوهرها- فهي دائما موجودة، ومُتاحة، ونمر عليها يوميا من دون مُلاحظتها، أو إدراك مدى خطورتها، وبشاعتها، وقسوتها- لا بسطحيتها، فهي تبدو لنا مألوفة وعادية- ظاهريا- لكنها في الباطن تحمل خطرا فادحا يحيق بالبشرية بالكامل، وإن كان الجميع غير مُنتبهين إليه، أو يتغافلون عنه!
لكن، هل معنى ذلك أن تار إنما ينظر إلى الأشياء من خلال نظرة مُباشرة تحمل في طياتها صوتا عاليا يثير الكثير من الضجيج من حولنا؟
إن تار- في صناعته للسينما- لا يميل إلى المُباشرة، أو الصوت العالي. صحيح أنه قد وقع في هذا الخطأ- المُباشرة، وربما السطحية- في مرحلته السينمائية الأولى، لا سيما في صناعته لثلاثيته الروائية الطويلة الأولى Proletarian Trilogy ثلاثية البروليتاريا، وهي المرحلة الأسلوبية الأولى في صناعته للسينما، حيث مال كثيرا باتجاه الواقعية الاجتماعية النقدية التي حدت به إلى الوقوع في هذا الخطأ، بل وميل أفلامه باتجاه الطابع التسجيلي الذي كان من السهل مُلاحظته في أفلامه الروائية، كما ظهرت هذه المُباشرة أيضا- وربما القصدية العمدية- في أفلامه التسجيلية الأولى لا سيما فيلمه الطلابي Cinemarxisme ماركسية السينما 1979م- لاحظ مُباشرة العنوان، وعمديته- إلا أنه حينما بدأ تحوله الأسلوبي إلى مرحلته الأخيرة التي استقر عليها، وهي المرحلة الأكثر نضجا، واكتمالا لم يمل إلى المُباشرة، أو السطحية أبدا، بل اكتسبت أفلامه الكثير من العمق، والاستغراق، والأكثر من التفلسف، ومحاولة تأمل الأشياء بتؤدة، وتمهل لا ينتهيان، فضلا عن حياديته التامة في تناول الأمور- فهو يتأمل فقط من دون أي موقف شخصي بالإيجاب أم بالسلب تجاه ما يقدمه- أي أنه يقدم لنا الكارثة التي يتأملها طالبا منا الوقوف إلى جانبه لنشاركه في المزيد من التأمل، وسُرعان ما يتركنا فيما بعد لتقرير ما يجب علينا أن نفعله تجاه ما قدمه إلينا من دون أن يكون شريكا فاعلا فيه، أي أن تار يلفت أنظارنا إلى ما يراه خطيرا في هذا العالم، ثم يمضي في طريقه كأنه لم يفعل أي شيء.
نُلاحظ في فيلم تار البسيط أن الكاميرا تتأمل فقط، تتتبع الأشخاص بصمت، وتدقيق، وكأنها تحاول حفر ملامحهم المُقربة في الذاكرة، تحفظهم محاولة التماهي مع قسماتهم الشديدة البؤس، المُستغرقة في الحزن واليأس.
يبدأ تار فيلمه على الكاميرا المُتأملة تتحرك على وجوه مجموعة لا تنتهي من البشر البائسين، أي أن المُخرج هنا قد فضل استخدام اللقطة القريبة التي تُظهر الوجوه وتفاصيل قسماتها، ومن هنا ضخم من معاني البؤس، والحزن، واليأس البادية على الوجوه. كما سنُلاحظ أن المُخرج يستعرض عددا لا ينتهي من البشر البائسين المُصطفين في طابور لا ينتهي، ومع بدء حركة الكاميرا مع اللحظة الأولى من الفيلم سنُدرك بالمُشاهدة أن ثمة أناس لم تستعرضهم الكاميرا التي تتحرك ببطء وتمهل مُستعرضة للبشر الذين يمثلون الطابور الأبدي- بدت لنا الكاميرا تتحرك دائما باتجاه يسار الشاشة، أي أن يمين الشاشة كان يوجد به مجموعة من البشر الذين لم نرهم من خلال الكاميرا حينما افتتح المُخرج فيلمه.
إن بداية تار فيلمه على الكاميرا المُتتبعة/ المُستعرضة في حركتها بدت لنا وكأنها تتحرك هذه الحركة المُستعرضة مُنذ الأبد- فلا بداية ولا نهاية تبدو لها- فثمة أناس لاحظناهم على يمين الشاشة، بينما الكاميرا تتحرك باتجاه اليسار لنرى المزيد منهم، أي أن تار يرغب في إشعارنا بأبدية حركة الكاميرا التي كانت تتحرك من قبل- أي قبل بداية الفيلم ولقطته الافتتاحية- وهي الحركة التي ستستمر طوال مُدة الفيلم- وكأنما الطابور البشري لا ينتهي، وله امتداد لم نلحق رؤيته قبل بدء الفيلم- في إيحاء بثقل الزمن وكثافته التي لا تُحتمل- فلسفة تار في أفلامه بالكامل.
إذن، فتار يُقدم فيلمه من خلال لقطة واحدة مُستمرة لا تنتهي إلا مع إغلاق فيلمه- من المُميزات الأسلوبية السينمائية للمُخرج اللقطات الطويلة التي لا تنتهي بسهولة للتدليل على كثافة الزمن، وتأثيره- وهو يحرص على تصويره باللونين الحياديين- الأبيض والأسود- أسلوبية تار في جل أفلامه التي قام بصناعتها- بالإضافة إلى تجهيل كل من الزمان والمكان- فهو في النهاية يقدم بشرا، محض بشر فقط، فضلا عن الكاميرا المحمولة، وعدم إغلاق عالمه السينمائي الذي يتركه مفتوحا على كل الاحتمالات.
مع استمرار حركة الكاميرا المُتمهلة على وجوه البشر المُصطفين؛ سنشعر لوهلة ما بأن الأمر لن ينتهي- أبدية الإحساس بالزمن الذي يرغب المُخرج في نقله إلينا كمُشاهدين- كما أن ملامحهم الشديدة االبؤس، والحزن، واليأس ستجعلنا نتساءل: لِمَ يصطف كل هذا الجمع من البشر البائس؟ وإلامَ ينظرون في النهاية- فنظراتهم تتجه للأمام في انتظار شيء ما-وما الذي ينتظرونه؟
بعد فترة طويلة من تتبع الكاميرا تتوقف أمام نافذة في جدار، لنكتشف أن كل
هذا الجمع البشري الضخم يصطف بجوار أحد الجدران في انتظار فتح النافذة من أجل
الحصول على الطعام! حيث تتوقف الكاميرا ثابتة أمام نافذة في الجدار تفتحها إحدى
الفتيات المُبتسمات، لتناول كل فرد من الأشخاص المُنتظرين كيسا من الخبز، وكوبا من
الشراب، ثم تخط بالقلم الذي في يدها، في دفتر أمامها كلما ناولت أحدهم طعامه،
وكأنها تعدهم- تحول البشر لمُجرد أرقام.المُوسيقار المجري ميهالي فيج
إذا ما تأملنا مشهد الكاميرا الثابت أمام النافذة للاحظنا أن الكاميرا تُراقب الفتاة التي تناولهم الطعام مُحدقة، بينما الأفراد المُنتظرين للطعام يدخلون الواحد تلو الآخر إلى الكادر- لا نرى في هذه الحال سوى ظهره فقط- وسُرعان ما يخرج من الكادر بعد استلام طعامه، ليحل غيره محله، وهكذا- أي أن تار الذي اهتم طوال فيلمه بتأمل تقاسيم، وملامح وجوه المُنتظرين- باعتبارهم أفرادا لهم كياناتهم الخاصة/ الفردية- قد أطاح بهذا الاهتمام بالعالم الخاص لكل شخصية تماما في مشهده الأخير وحولهم جميعا إلى مُجرد أشياء، أو مُجرد مُتتالية عددية، لا قيمة لها، ولا أهمية؛ فهم يستلمون طعامهم، ليخرجوا من الكادر كي يدخل غيرهم في شكل آلي لا قيمة له سوى الحركة في النهاية- التشيؤ!
إن التأمل فيما قدمه تار من شأنه أن يفتح أمامنا أفق التساؤلات على مداه الأوسع: فمن هؤلاء البشر؟ وما الذي يدفعهم إلى التوقف هكذا في انتظار الطعام؟ هل هم مجموعة من المُشردين الذين يحصلون على طعامهم من أحد المطابخ المجانية؟ أم أنهم مجموعة من العمال الذين حان وقت طعامهم، وبالتالي يستلمون وجباتهم البائسة- لاحظ أن الكادر الثابت الذي تأملت فيه الكاميرا لموظفة النافذة التي تناولهم الطعام كان في عمقه ساعة تُشير إلى الثانية عشرة، وبما أنه من المُفترض عدم وجود أي شيء مجاني في الكادر السينمائي، فهذا يعني أن وجود الساعة لا بد له من دلالة، وهذا من شأنه قد يحيلنا على أنهم مجموعة من العمال الذين حان وقت غدائهم- لاحظ أيضا أن أحدهم يرتدي غطاء رأس صوفي على رأسه مكتوب عليه Toyota كما تعلو الكلمة شعار شركة توتوتا. لكننا سنستمر في التساؤل: هل هم في المجر- بلد المُخرج- أم في أوروبا- باعتبار الفيلم الجامع هو فيلم عن رؤية كل مُخرج للاتحاد الأوروبي.
إذن، فتار هنا يفتح أفق التساؤلات التي لا تنتهي لأنه في حقيقة الأمر لم يقدم لنا أي قصة بالمعنى المعروف للقصة. ولكن، ما الذي قدمه لنا تار؟
في الحقيقة هو لم يقدم لنا أي شيء؛ فتار لا يعنيه الحدث، أو القصة بشكلها الكلاسيكي/ الخطي، بل هو يكره حكاية القصص والحكايات، لأنه غالبا ما يرى أنه لا شيء يحدث في هذا العالم البائس- لاحظ أيضا أن الفيلم لا توجد فيه جملة حوار واحدة، أي أنه يقدم لنا صورة سينمائية نقية فقط- في جوهر الأمر إن اهتمام تار الرئيسي ينصب على تفاهة الأفعال الإنسانية، ولاجدواها، وعدميتها، وابتذالها، وكثافة الوقت، وأبديته، وهو ما فعله في فيلمه هذا، وغيره من أفلامه الأخرى.
فالكاميرا- والمُخرج أيضا- هنا تتأمل، ولا تقوم بأي فعل آخر سوى التأمل الذي يشاركها فيه المُخرج. هو يرغب في نقل تأمله إلينا، وكأنما يقول لنا: شاهد فقط، تأمل، ثم فكر.
فيمَ يجب أن يفكر المُشاهد؟ فليفكر في أي شيء، في الأزمة الوجودية لهؤلاء البشر، في فقرهم، في إهانتهم بشكل لا أخلاقي نتيجة انتظارهم للطعام في هذا الطابور الطويل المُمتد وكأنهم مجموعة من الحيوانات التي يتم العطف عليها في نهاية الأمر بالقليل جدا من الخبز البائس.
إن تار هنا يستعرض لحظة أبدية، ومُخجلة للبشرية، يضغط عليها، يضخمها في نفوسنا لنتأمل معه. هو كفيلسوف سينمائي يحاكمنا أخلاقيا من خلال هذا الفيلم- لكنها مُحاكمة صامته لا يتدخل فيها تار بشكل مُباشر، بل تتحول فيها عيناه إلى كاميرا تنقل لنا ما يراه.
ألا يُذكرنا هذا الطابور الطويل من البشر في انتظار الطعام بمجموعة ضخمة من الكلاب أمام مالكيهم في انتظار طعامهم؟
إنه المعنى الذي يرغب تار في إيصاله إلينا في نهاية الأمر- إسقاط الفعل من الإنسانية إلى الحيوانية الذليلة، وإسقاط الكرامة، وتجريد الإنسان من إنسانيته في مُحاكمة أخلاقية لأوروبا بالكامل، بما أن الفيلم في جوهره يقدم الرؤية الفنية لكل مُخرج باتجاه الاتحاد الأوروبي.
مع المزيد من التأمل والتروي في فيلم تار القصير جدا، لا بد من التساؤل: ما الذي يقصده تار بعنوان فيلمه المُلتبس؟ إذا ما كان العنوان هو مُفردة "مُقدمة" وكأنه كتاب ما، فهذه المُقدمة لمن، ولماذا؟
هل هو مُقدمة للفقر والجوع اللذين يراهما تار في مُستقبل الاتحاد الأوروبي- باعتباره مُتشائما باتجاه مُستقبل الإنسانية دائما؟ هل يُعد العنوان باعتبار أن فيلم تار كان هو مُقدمة الأفلام التي تم تقديمها في الفيلم الجامع Visions of Europe رؤى أوروبا؟ هل هو مُقدمة سينمائية فلسفية للبؤس الإنساني، وسيادة الشر، وامتهان الكرامة؟ ربما هو المعنى الأول، أو الثاني، أو الثالث، ولكن، إذا ما عرفنا أن المجر لم تنضم إلى الاتحاد الأوروبي سوى في عام 2004م[6]- عام صناعة الفيلم- سينفتح باب التأويل بشكل مُختلف تماما؛ وبما أن المجر من دول أوروبا الشرقية- الكتلة الاشتراكية السابقة- وهي الدول التي يسودها الكثير من الفقر، والعوّز، والحاجة، والبؤس، واليأس، وإظلام الحياة، وانعدام الأمل والمُستقبل، سيأخذ الفيلم في تأويله معانٍ أخرى تماما- لا سيما أن مُخرج الفيلم ليس مُجرد مُخرج سينمائي، بل هو فيلسوف السينما الأوروبية، والأكثر ثورية، والشيوعي اليساري، والمُتشائم الأبرز، وصاحب الموقف دائما.
من هذا المُنطلق، أو المُعطى الجديد- انضمام المجر للاتحاد الأوروبي- سيحمل عنوان الفيلم هنا تأويلا يفيد بأن هذا الفيلم الذي قدمه تار لرؤيته الفنية باتجاه أوروبا بمثابة المُقدمة التي يقدمها تار لدول الاتحاد، فهو يصور من خلاله المُجتمع المجري الفقير البائس، اليائس من كل شيء، وغيره من دول أوروبا الشرقية، وكأنه يقول لهم: ها أنا قد تقدمت لكم بمُقدمة اندماجنا مع بعضنا البعض، فهذا هو ما نحن عليه. وبالتالي يكتسب هنا الطابور الطويل للبشر الذين لا ينتهون في انتظار الطعام معنى انتظار سُكان أوروبا الشرقية من الفقراء المعوزين الذين يقفون في طابور لا ينتهي في انتظار أن تجود عليهم دول أوروبا المُرفهة بالطعام- مُجرد الطعام فقط- من أجل سد جوعهم الأبدي!
إن تار يصفع الجميع على وجهه بهذا المعنى، يرى أن أوروبا في جوهرها غير أخلاقية، بل إن العالم بأكمله غير أخلاقي لأن هناك أعدادا ضخمة من البشر يصطفون كالحيوانات في انتظار القليل من الفتات ليسدوا به جوعهم. إنها فقدان الكرامة الإنسانية، والمعنى، والأخلاق التي يتشدق بها الآخرون. أي أن تار يرغب في التركيز على معاني الشر التي لا يرى سواها في البشرية، حيث الشر يسود كل شيء، وكل الأفعال، وكل الأوقات؛ وبالتالي فلا بد من نهاية هذا العالم الذي امتلأ بكل هذه الشرور. إنها فلسفة تار في كل أفلامه التي قام بصناعتها.
إن تار هنا يهمه- في المقام الأول- التركيز على أبدية الوقت أكثر من الفعل، فهو لم يقل أي شيء، ولم يقدم أي حدث، ولا أي حكاية، أو قصة، أو حوار، أو كلمة واحدة. هو يقدم فعلا يدور في الحياة فقط، وهو بالتأكيد فعل تافه لا قيمة له وسط الأفعال البشرية المُتزاحمة، لكنه صفعة قاسية على وجوه الجميع. إنه يتأمل بكاميرته الشبيهة بالكائن الحي، مُتماهيا معها، وكأنما الكاميرا هنا هي عينيه نفسه التي يرى بهما، ومن ثم فهي بطيئة، مُتفحصة، وربما حزينة، باكية على ما تراه أمامها- لكنها حريصة على الصمت وعدم التعليق، أو اتخاذ أي جانب ضد جانب آخر- لكن، مما زاد من أثر الفيلم وقوته المُوسيقى التصويرية المُصاحبة للكاميرا مُنذ اللحظة الأولى حتى اللحظة الأخيرة؛ فثمة جملة مُوسيقية واحدة يتم تكرارها بشكل أبدي لا يكاد أن ينتهي تُعبر عن الكثير من اليأس، والشجن لما تنقله الكاميرا، وهي المُوسيقى المُميزة التي تلعب دورا لا يُستهان به في أفلام تار كلها تقريبا للمُوسيقار المجري Mihály Vig ميهالي فيج؛ الأمر الذي يحوّل مُوسيقى فيج في أفلام تار إلى بطل رئيسي، وأساسي- تماما كالكاميرا التي تتحول إلى كائن حي، وشخصية مُشاركة من شخصيات الفيلم- أي أن المُوسيقى التصويرية هنا كانت هي الأبطل الأول في الفيلم، أو أنها البديل الأساس للحوار.
في الفيلم المجري "مُقدمة" للمخرج
والسيناريست بيلا تار، ثمة سينما مُتعالية، مُعتزة بذاتها، تعرف قدرها، شديدة
العمق والتفلسف، تحاول الربط بين العالم الفيلمي للمُخرج- لاحظ أن مشهد الطابور
الطويل، أو التجمع، والحشد البشري الضخم يتشابه إلى حد كبير مع الحشد الذي رأيناه
في فيلمه Werckmeister Harmonies تناغمات ويركميستر 2000م، صحيح أن الجمع في
الفيلم الروائي الطويل "تناغمات ويركميستر" نجح في تدمير المشفى
بالكامل، وتفريغ شعورهم بالغضب، لكننا هنا لن نرى أي شكل من أشكال التفريغ، بل
إذلال كامل من أجل الطعام فقط وربما كان الرابط الجوهري بين الجمعين، فضلا عن
الشكل والأسلوبية التي تم تقديمهما بها، هو الفقر، والبؤس، والحاجة الشديدة. المُخرج والسيناريست المجري بيلا تار
إن تار يقدم رؤيته الفنية لأوروبا من خلال اللاشيء- مُجرد مشهد بائس- لكنه من خلال هذا المشهد الذي تتأمل فيه الكاميرا يطرح كل فلسفته، وعمقه، وطريقة تفكيره في حياته؛ الأمر الذي يجعل هذا الفيلم- رغم قصره الشديد- يكاد أن يتساوى تماما مع مجموع الأفلام التي قدمها تار من حيث القيمة الفنية، والأسلوبية أيضا. صحيح أن الفيلم قد يبدو لنا- ظاهريا- شديد البساطة، لكنه من أكثر أفلام تار عمقا، وربما قسوة في التناول، وتشاؤما، وكأنما تار بتقديمه لهذا المعنى الذي رأيناه يؤكد لنا على أن هذا العالم لا يستحق الاستمرار، وأنه لا بد من كارثة كونية أن تحل به من أجل إنهائه بعدما نكل البشر ببعضهم البعض، وجردوا بعضهم من الكرامة والمعنى الإنساني، ليقف جزء منهم في طوابير طويلة كالحيوانات في انتظار الفتات من الطعام كي يستطيعوا الاستمرار في الحياة، ولكن من دون أي كرامة.
محمود الغيطاني
مجلة "الشارقة الثقافية"
عدد مايو 2024م.
[1] وضع بيلا تار اسم زوجته Ágnes Hranitzky أجنيس هرانيتسكي على الفيلم كمُخرج مُشارك؛ الأمر الذي جعل عدد المُخرجين 26 بينما عدد الأفلام 25 فيلما.
[2] Peter Greenaway بيتر جريناواي من مواليد 5 إبريل 1942م، وهو مُخرج سينمائي، وسيناريست، وفنان بريطاني. اشتهرت أفلامه بتأثيرها الواضح على عصر النهضة والرسم الباروكي، والرسم الفلمنكي على وجه الخصوص. السمات المُشتركة في أفلامه هي التكوين الخلاب، والإضاءة، والتناقضات بين الأزياء والعري، والطبيعة والهندسة المعمارية، والأثاث والناس، والمُتعة الجنسية والموت المُؤلم. من أفلامه The Falls الانهيارات 1980م، وThe Draughtsman’s Contract عقد الرسام 1982م.
[3] Fatih Akin فاتح أكين، من مواليد 25 أغسطس 1973م، وهو مُخرج سينمائي، وسيناريست، ومُنتج تركي ألماني. حصل على العديد من الجوائز عن أفلامه، منها جائزة Golden Bear الدب الذهبي في مهرجان Berlin Film Festival برلين السينمائي عن فيلمه Head- On وجها لوجه 2004م، وجائزة Best Screenplay أفضل سيناريو في مهرجان Cannes Film Festival كان السينمائي عن فيلمه The Edge of Heaven حافة النعيم 2007م، وجائزة Golden Globe Award for Best Foreign Language جولدن جلوب لأفضل فيلم بلغة أجنبية عن فيلمه In the Fade من العدم 2017م.
[4] Teresa Villaverde تيريزا فيلافيردي، من مواليد 18 مايو 1966م، وهي مُخرجة أفلام برتغالية. عُرض فيلمها Os Mutantes المسوخ في قسم Un Certain Regard نظر ما في مهرجان Cannes Film Festival كان السينمائي عام 1998م.
[5] Aki Olavi Kaurismäki آكي أولافي كاروسماكي، من مواليد 4 إبريل 1957م، هو مُخرج سينمائي، وسيناريست فنلندي. اشتهر بأفلامه الحائزة على جوائز مثل Drifting Clouds الغيوم المُتهاوية 1996م، وThe Man Without a Past رجل بلا ماضي 2002م، وLe Haver مدينة هافر 2011م، وThe Other Side of Hope الجانب الآخر من الأمل 2017م، بالإضافة إلى الفيلم الوثائقي الساخر Leningrad Cowboys Go America رعاة بقر ليننجراد يذهبون إلى أمريكا 1989م، وقد تم وصفه بأنه أشهر مُخرج سينمائي في فنلندا.
[6] في عام 2004م انضمت عشر دول للاتحاد الأوروبي، وهي: إستونيا، وبولندا، وجمهورية التشيك، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، ولاتفيا، وليتوانيا، والمجر، وقبرص، ومالطا. ولعلنا نُلاحظ أن غالبية الدول المُنضمة للاتحاد هي من دول أوروبا الشرقية التي كانت تُمثل الكتلة الاشتراكية سابقا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق