السبت، 17 أغسطس 2024

تانجو الشيطان: لا شيء يحدث تقريبا!

ثمة سؤال جوهري، وضروري لا بد له أن يتبادر إلى ذهن من يتابع السينما التي يقدمها المُخرج والسيناريست المجري Béla Tarr بيلا تار، مفاده: ما الذي يقدمه بيلا تار؟

إن مُجرد السؤال وضرورته ستفيدنا كثيرا في التعامل، وفهم هذه السينما التي يقدمها المُخرج. لأن التأمل الطويل في سينما تار يؤكد لنا أنه لا يقدم شيئا تقريبا، على الأقل في مرحلته السينمائية الأسلوبية الثانية التي استقر عليها بعد مرحلة الواقعية الاجتماعية النقدية؛ فتار يكره حكاية الحكايات، ينفر منها، يحاول الابتعاد عنها قدر الإمكان؛ لذا فأفلامه لا تُقدم لنا الرواية بشكلها الكلاسيكي الخطي الذي يتنامى، ويستمر في التصاعد، بل هو يُقدم لنا مقطعا من الحياة- أو مقاطع مُفككة- مُجرد مقطع بسيط بشكل أفقي- لا نهائي في أفقيته- ليظل يتأمله لفترة طويلة مُتفحصا إياه. إن عينيه- اللتين تتماهيان مع الكاميرا- تظلان شاخصتان أمام هذا المقطع، تستعرضه من كل زواياه المُمكنة، ومن كل وجهات النظر المُتاحة لدرجة استنفاد كل معانيه، مُلقيا عليه بتفكيره الفلسفي التأملي الوجودي الشديد التشاؤم الذي يرغب في التأكيد على أن الوجود الإنساني في حد ذاته مأزق عارم يؤدي إلى الكثير من المُعاناة، فضلا عن أن هذه الحياة- أو مُجرد التواجد الإنساني- قد أدى إلى امتلاء العالم بالشر إلى حد الاكتظاظ؛ ومن ثم فالجزاء العادل لهذا الوجود الإنساني هو كارثة كونية ما- بأي شكل يمكن لنا تخيله- من أجل القضاء على هذا العالم الفاسد- ففعل الوجود الإنساني كان في جوهره خطأ إلهيا، أو كونيا فادحا، وبالتالي لا بد من تصحيح هذا الخطأ العارم بكارثة كونية أكثر فداحة على أغلب تقدير.


إن تأمل تار الطويل في الفعل الإنساني يجعله يراه تافها، لا يستحق الوجود بقدر استحقاقه للزوال؛ لذلك فالأفعال الإنسانية لديه هي أفعال أبدية رغم تفاهتها وتكراريتها، تمارسها شخصياته في كل لحظة، وكل يوم، وبتكرارية أبدية لا تنتهي، وهو ما يجعل الوقت في سينما تار شديد الكثافة والثقل، فالوقت ثابت، خانق، جاثم على صدور الجميع- الشخصيات والمُشاهد- لا يتحرك خطوة واحدة للأمام إلا بصعوبة بالغة؛ لذا فالجميع يحاولون دفع الوقت والتقدم به رغم أنه لا يتقدم، وبالتالي يكتسب الوقت هنا قوته القاتلة للجميع- فإن لم تكن هناك كارثة كونية تستطيع إنهاء العالم، فالوقت هنا كفيل بالقضاء عليهم واحدا تلو الآخر.

إن ثبات الوقت لدى تار هو السبب الرئيس في أسلوبيته السينمائية- السينما المنوّمة- والحركة البطيئة، والكسولة تماما للكاميرا الراغبة في التأمل الطويل، والتفحص، هذا التأمل يجعل الكاميرا تكاد أن تكون ثابتة لا تتحرك بسهولة، فهي شاخصة، شاردة، مُدققة- حتى أنها قد تتوقف لفترات طويلة أمام مشهد ثابت لا معنى له ظاهريا، وإن كان تار يقصد منه الكثير من المعاني الفلسفية التي يسوقها في إطار سينماه التي يقدمها، إنها الكاميرا المُستمتعة أيما استمتاع بمُشاهدة مجموعة من الشخصيات أمامها؛ فتظل مُتأملة لظهورهم فقط، وحتى بعد اختفاء هؤلاء الأشخاص في الأفق البعيد، وزوالهم من مُحيط الرؤية، سنُلاحظ أن الكاميرا ستظل ثابتة في مكانها وكأنها في انتظار حدوث شيء ما- لا يحدث غالبا- إنها كاميرا مُعتزة بذاتها إلى أقصى درجة، مُتعالية، حتى أنها تتمهل كثيرا في خطواتها ومُلاحقتها للمُمثلين في أفلام تار. إنها لا يعنيها مُلاحقتهم، فمن يخرج من إطارها لا يعنيها خروجه؛ لأنها تُدرك جيدا أنها ستلحق بهم إن عاجلا أم آجلا- فثمة أمور كثيرة من شأنها أن تعطلهم؛ ومن ثم ستلحق بهم!


هذه الأسلوبية الخاصة بتار تجعل المُشاهد في حالة حقيقية من التنويم المغناطيسي أثناء مُشاهدته لأفلامه، إنها أسلوبية سينمائية لسحق المُشاهد، وربما دفعه إلى الجنون، واختبار مدى قوته على المزيد من الصبر، بل هي تربط المُشاهد بفيلمه تماما، حيث يستغرق فيه استغراقا تاما، غير شاعر بالوقت الأبدي الذي يستغرقه تار في سرد أفلامه السينمائية، وبالتالي فمهما طالت المُدة الزمنية التي يستغرقها فيلم تار، فالمُشاهد هنا مُرتبط بعالمه، مسحور تماما، مُستلب حتى اللحظة الأخيرة.

إن السينما هنا لدى تار ليست وسيلة ترفيهية- الأساس الذي صُنعت من أجله السينما في البداية- بل هي وسيلة للتفكير، والتأمل في المعاني الفلسفية، ومعنى الوجود، وسيادة الشر والخديعة في العالم، أي أن المُخرج هنا يحولها إلى فلسفة عميقة تتأمل في معاني الأشياء، طارحة للكثير من الأسئلة الفلسفية الكبرى التي يبحث عن إجابة لها رغم أنه يرى أن الاستحقاق الوحيد لكل ذلك هو القضاء عليه بكارثة كونية، فلا مجال لتصحيح كل هذا الخراب- النفسي والمادي- الذي يستعرضه أمامنا!


هو في الحقيقة لا يرى أن ثمة شيء يحدث في العالم، مُجرد وقت يمر، يجر من خلفه وقتا آخر يمر في صيرورة دائمة وأبدية قادرة على قتل كل شيء، وإفقاده لمعناه الجوهري، وبالتالي فهو يحيل الحياة، وكل ما يحدث فيها من أفعال إلى وقت ثابت أبدي. هذه الأبدية العمدية للوقت هي ما تجعل كل الأفعال الإنسانية لا معنى أو قيمة لها، فكل شيء من حولنا مُجرد هراء، يفضي بنا إلى المزيد من الهراء واللامعنى!

هذه العدمية المُطلقة، والتشاؤم المُستغرق من وجود العالم هما ما رأيناهما في العديد من الأفلام التي قدمها تار مثل Damnation اللعنة 1988م المُستغرق في ثبات وقته الأبدي، وWerckmeister Harmonies تناغمات ويركميستر 2000م الغارق في الخرافة والأسطورة والتلاعب الذهني، وفيلمه الروائي الأخير The Turin Horse حصان تورينو 2011م الذي أغلق به عالمه السينمائي وقرر عدم الاستمرار في صناعة السينما من بعده؛ ومن ثم قدم رؤية سينمائية كونية لمحو وإزالة الكون تماما من خلال كارثة كونية طبيعية!


إذن، فتار يمتلك رؤية كونية سينمائية، وعالم واحد يخوض فيه بشكل بالغ من التشاؤم، وهو التشاؤم الذي لا يرى أي مجال يسمح للبشرية بتصحيح خداعها، وخبثها، وشرها المُستطير، بل لا بد من القضاء عليها كلية، وانتهاء هذه المسخرة الكونية التي عمد الله إلى صناعتها في لحظة مُنفلتة وأبدية من لحظات نزقه وتلاعبه بهذا بالكون!

في فيلم Sátántangó تانجو الشيطان- وهو رؤية تار الكونية للانهيار الاجتماعي والروحي للبشرية- ثمة تعويذة عدمية يلقيها علينا تار، هذه التعويذة تلفنا تماما كمُشاهدين مما يجعلنا مُستسلمين لها كلية، غارقين فيها، غير قادرين على الإفلات من تأثيرها علينا، أو الإفلات من مُتابعتها رغم طولها- مُدة عرض الفيلم 439 دقيقة، أي سبع ساعات و19 دقيقة مُتصلة قسمها تار على 12 حلقة، أو فصلا.


هذا الطول الزمني للفيلم يرغب من خلاله تار- بسادية- التأكيد على ثبات الزمن، وأبديته، بل وعدمية كل شيء، ولعل هذا الثبات الزمني يتأكد لنا من خلال لقطته الافتتاحية للفيلم- وهي اللقطة التي استمرت 9.9 دقائق مُتصلة- حيث تقف الكاميرا شاخصة أمام قطيع من الأبقار يخرج من الاسطبل ليبدأ في الحركة الحرة هنا وهناك، فنرى جزءا منهم يرعى لاهيا، بينما بعضهم يحاولون التزاوج الجنسي.

إن مشهد قطيع الأبقار الحرة في مزرعتها وحركتهم البطيئة المُتأملة- كالكاميرا تماما- تجعلنا نتساءل كثيرا: لِمَ تتوقف الكاميرا مُتأملة كل هذه الفترة الزمنية لمُجرد مُراقبة الأبقار التي تخوض في الأوحال، أو تأكل العشب، أو محاولة للتزاوج الجنسي؟ إن قطيع الأبقار هنا هو المُعادل الموضوعي والمُطابق تماما لأهل المزرعة كما سنعرف فيما بعد مع استمرار الفيلم في التقدم للأمام؛ فحركة الأبقار التي تتجول من دون أي هدف في الحياة هو نفس السلوك الذي يسلكه جميع أهل المزرعة- الحياة من دون أي هدف ذي معنى- وصوت خوارهم الذي يحدث ضجة عالية لا يختلف عن الضجيج الذي يثيره سُكان المزرعة من حولهم، وهو ضجيج فارغ بلا أي معنى، حتى محاولة التزاوج الجنسي لمُجرد الفعل الجنسي لدى القطيع هو ما سنراه فيما بعد لدى سُكان المزرعة الذين يتضاجعون مُمارسين الجنس مع بعضهم البعض لمُجرد الفعل الجنسي فقط، بل نستطيع الذهاب- تبعا للمعنى الذي بثه لنا الفيلم، وما رأيناه- أن هذا القطيع الراغب فيمن يقوده ويوجهه، لا يختلف إطلاقا عن أهل المزرعة الذين سيتم توجيههم وقيادتهم كالقطيع من قبل إريمياش القادم إليهم بعد عام ونصف من اختفائه، وادعاء موته؛ فينساقون إليه بطواعية من دون أي مُناقشة.


إذن، فبيلا تار يبدأ فيلمه- الذي استمرت فيه الكاميرا مُتابعة لقطيع الأبقار كل هذه المُدة- بعقد مُقارنة أولية، وجوهرية، أو مُطابقة ما بين أهل المزرعة وقطيع أبقارها، حيث تحولت الكاميرا في هذا المشهد- وكل المشاهد تقريبا- إلى كائن حي مُتلصص، مُتتبع، فنراها تترك مسافة كافية بينها وبين قطيع الأبقار- كمن يتلصص من بُعد في الخفاء- في لقطة عامة Full Shot، حتى أن القطيع حينما يبدأ في الحركة مُبتعدا من دون هدف، ومن ثم يغيب عن نطاق رؤية الكاميرا خلف المباني المُتهدمة للمزرعة فهي لا تُلاحقهم محاولة الاقتراب منهم، ولا تسير خلفهم، بل تتحرك ببطء شديد مُتلصص من خلف تلك المباني، حريصة على تتبعهم، فتتأمل الجدران المُتهدمة بشروخها حيث تمر من أمامها إلى أن تخرج من الجانب الآخر الذي يتيح لها رؤية القطيع ومُراقبته مُجددا.


إنها أسلوبية تار في صناعة السينما، وهي الأسلوبية التي ميزته عن غيره من صُناع السينما من حول العالم، وأكسبته هذه المكانة الرفيعة التي يحتلها ولا يتزحزح عنها حتى مع توقفه عن صناعة المزيد من الأفلام.

هل يمكن اعتبار هذا المشهد الافتتاحي- مشهد الأبقار المُتحركة من دون أي هدف- بمثابة Prologue مُقدمة للفيلم الذي يقوم تار بصناعته على مهل وصبر وتأنٍ بالغ؟

بالتأكيد قصد تار من هذا المشهد الافتتاحي أن يكون بمثابة المُقدمة لفيلمه- وإن لم يكتب ذلك على الشاشة- لا سيما أنه يُقسم الفيلم إلى اثنتى عشرة حركة/ حلقة/ فصلا، حملت كل منها عنوانا مُنفصلا كتبه على الشاشة قبل البدء فيه وكأنه يتقدم في فيلمه إلى الأمام- رغم أن الفيلم نادرا ما يتقدم فعليا للأمام- أي أن تار لديه قدر كبير من الوعي بما يقوم به؛ مما أكسب فيلمه هذا الشكل المُنظم والواعي، وهو الوعي الذي لا يمكن تجاهله، أو المرور عليه من دون التوقف أمامه لتأمله، لا سيما أن عنوان الفيلم "تانجو الشيطان" يرتبط ارتباطا وثيقا وموضوعيا بكيفية تقديمه وصناعته، وإذا ما كنا نعرف أن رقصة التانجو تعتمد في حقيقتها على ست خطوات للأمام، وست خطوات أخرى للخلف، فالفيلم الذي رأيناه مكون من 12 جزءا تتحرك فيه الحكاية للأمام والخلف عدة مرات، أي بين ما يحدث آنيا، وما حدث بالفعل مرة أخرى- حيث يتم تقديم المشهد الواحد عدة مرات ومن وجهات نظر مُختلفة تبعا للشخص الذي يراه- أي أن الزمن هنا ثابت لا يتقدم به المُخرج للأمام إلا نادرا؛ نتيجة لحكاية الحكاية لأكثر من مرة، وبأكثر من وجهة نظر.


إن محاولة الثبات بالزمن الفيلمي لأطول فترة مُمكنة- مما يوحي بثقل الزمن وسطوته، وأبديته- من خلال عرض الحكاية بأشكال مُتعددة، ووجهات نظر مُختلفة يؤدي إلى نتيجة أخرى إذا ما أمعنا النظر في الفيلم الذي رأيناه، فالحكايات المُنفصلة المُتصلة التي يتكون منها الفيلم ليست بنائية، بمعنى أن كل حلقة منها لا تنبني على الحلقة التي تليها- رغم أن جميع الحلقات تكوّن المعنى الكلي للفيلم- أي أنها لا تؤدي بنا إلى بناء تصاعدي، ومن ثم فهذا سيعني لنا في النهاية أن ترتيب الأحداث- كما رأيناه بالشكل الذي قدمه تار- هو ترتيب نسبي، يمكن لنا التلاعب به حسبما نرغب بالتقديم أو التأخير- فكل الحلقات ستؤدي بنا في النهاية إلى نفس المعنى الذي يرغبه المُخرج، وإن كان لا يمكن لنا الاستغناء عن أي حلقة منها مع إمكانية تحريكها من موقعها إلى موقع زمني آخر.

اعتمد تار في فيلمه على رواية بنفس العنوان- تمت ترجمتها إلى اللغة العربية بعنوان تانجو الخراب- كتبها الروائي المجري، والسيناريست المُساعد لبيلا تار László Krasznahorkai لازلو كراسناهوركاي، وهي الرواية التي صدرت في عام 1985م.


إن تاريخ صدور الرواية من الأهمية بمكان عند تناول فيلم تار؛ لأنه إذا ما كانت المجر الاشتراكية قد انتهى الحُكم الاشتراكي فيها عام 1989م، أي بعد صدور الرواية بأربع سنوات، نتيجة ثورات 1989م المعروفة باسم تغيير النظام؛ فهذا يعني أننا لا يمكن لنا تفسير الفيلم وتأويله باعتبار أن تار إنما يتحدث عن المجر بعد انهيار الاشتراكية فيها، بل كان النظام الاشتراكي في هذه الفترة ما زال قائما، وقويا مُمسكا بتلابيب الحُكم بقبضته الحديدية التي كنا نعرفها عنه، أي أننا نستطيع القول: بأن الإدانة التي يوجهها تار قد تكون موجهة للحُكم الشيوعي الاشتراكي السابق من جهة، وقد تكون موجهة- من وجهة نظر أخرى فلسفية- لإدانة البشرية تبعا لمفهوم تار الفلسفي.

بمُجرد انتهاء اللقطة الطويلة المُتأملة لقطيع الماشية، يقطع تار على شاشة مُظلمة لنستمع إلى صوت الراوي الإله يقول بصوت عميق مهيب: في صباح يوم من أيام شهر أكتوبر، وقبل أن تسقط أول قطرة من أمطار الخريف الغزيرة على الأرض الجافة، والتي تقطع الطريق وتعزل البلدة، استيقظ فوتاكي على صوت أجراس. الكنيسة الوحيدة التي تبعد 8 كيلو مترات لا تمتلك جرسا، وبرجها انهار أثناء الحرب، والبلدة بعيدة جدا، لن يسمعها أحد.


إن التوقف هنيهة أمام أسلوبية الراوي التي هي أقرب للأسلوب الروائي الأدبي، فضلا عن تقسيم تار فيلمه إلى اثنتى عشرة حلقة، تحمل كل منها لعنوان شارح للمحتوى يؤكد لنا التزام تار إلى حد بعيد بالرواية التي أخذ منها، لا سيما أن الروائي الذي كتب الرواية كان هو السيناريست المُشارك لتار في كتابة السيناريو، أي أن الحلقات الفيلمية هنا بمثابة الفصول الروائية في الرواية وكأننا نقرأ عملا أدبيا يتماهى بشكل فني سينمائيا من خلال الكاميرا.

بمُجرد انتهاء الراوي من قوله يكتب تار على الشاشة "أنباء عن أنهم قادمون" ليبدأ فيلمه على ما سبق أن قاله الراوي فنشاهد فوتاكي- قام بدوره المُمثل المجري  Miklós Székely B.ميكلوس سيكيلي بي- الذي نهض من نومه في الصباح الباكر، ناظرا من خلف النافذة بدهشة كبيرة مُتسائلة نتيجة سماعه لأجراس كنيسة ما تدق رغم عدم وجود كنيسة في المزرعة، أو في أي مكان قريب منها- فالمزرعة معزولة تماما عن أي بلدة قريبة- ومن ثم نستمع إلى مدام شميدت- قامت بدروها المُمثلة المجرية Éva Almássy Albert إيفا ألماسي ألبرت- تتساءل: ما الأمر؟ ليرد عليها فوتاكي: لا شيء، نامي. سآخذ نصيبي وأرحل الليلة، أو بالكثير غدا، غدا صباحا. أحلمتِ حلما مُزعجا؟ لتنهض جالسة على مقعد خلف النافذة مُتأملة للخارج- أي أن الكاميرا هنا تتأمل ظهرها فقط، وردفيها المُمتلئين أثناء حديثها: نعم، كنت جالسة في الغرفة، وفجأة سمعت طرقا على النافذة، لم أجرؤ على فتحها، اختلست النظر من خلف الستارة، تمكنت من رؤية ظهره فحسب، كان مُتجها ناحية مقبض الباب، وكان يصرخ بكلمات لم أفهمها، كان وجهه غير حليق، عيناه كأنهما من زجاج، حاولت أن أصرخ، لكن لم يكن لي صوت، وإذا بالسيدة هاليكش تنظر من خلال النافذة، وهي مكشرة، تعرف كيف تبدو وهي مكشرة، كانت تُحدق فقط ثم اختفت، ظل يركل الباب يكاد أن يقتلعه من مكانه؛ هرعت إلى دولاب السكاكين، أردت فتح الدرج، دخل مُحطما الباب. المُهم، هو آت عبر الرواق، أخيرا فتحت الدرج وأخرجت السكين، كان يتقدم باتجاهي، وفجأة صار مُستلقيا تحت طاولة المطبخ، كان معه قدور حمراء وزرقاء تدحرجت في كل مكان، وبعدها تحركت الأرض من تحت أقدامي، المطبخ كله بدأ بالحركة كسيارة. يرد عليها فوتاكي شاردا- يبدو حديثهما كمونولوج داخلي يخص كل منهما صاحبه فقط: أيقظتني الأجراس. فتسأله: أين؟! هنا؟! ليقول: دقت مرتين. فترد: سنُجن في النهاية. لكنه يقول: لا، أنا مُتأكد أن شيئا ما سيحدث اليوم.


إن تار يبدأ فيلمه على أوهام سمعية، وأحلام مُقلقة، أي أنه حريص على التلاعب الذهني بالمُشاهد مع مشاهده الأولى من فيلمه- ربما نذكر هنا تلاعبه الذهني العميق بالمُشاهد وشخصياته في فيلمه تناغمات ويركميستر 2000م- لكننا إذا ما أمعنا النظر في هذا المشهد الذي رأينا فيه مدام شميدت جالسة على مقعدها خلف النافذة بينما عيناها شاردتان في الخارج، والكاميرا تتأمل ظهرها وردفيها المُمتلئين، لا بد أن يتبادر إلى أذهاننا فيلم Damnation اللعنة 1988م ومشهده الافتتاحي الذي ظلت فيه الكاميرا شاخصة لمُدة ثلاث دقائق ونصف الدقيقة في ظهر كارير الجالس خلف نافذته ثابتا مُتأملا لدلاء الفحم المُعلقة على التليفريك في ذهابها وإيابها، وهو ما يذكرنا أيضا بالفتاة في فيلم The Turin Horse حصان تورينو 2011م، حيث كانت تجلس لفترات طويلة- هي أو أبيها- خلف النافذة لتأمل الفراغ في الخارج، أي أننا إذا ما تخيلنا بيلا تار مُجرد فنان تشكيلي يرسم لوحات أفلامه، أو اسكتشات لمشاهد هذه الأفلام سيكون هذا المشهد/ اللوحة هو نفس اللوحة في الفيلمين الآخرين، مما يعني أن تار يمتلك عالما سينمائيا واحد، يسير مُستغرقا تماما فيه، لا تنفصل أحداثه؛ مما يجعله يستخدم اللوحات في أفلامه أكثر من مرة، وهذا لا يعني في جوهر الأمر أن تار يُكرر نفسه في أفلامه، بل هو يستغرق فيها تماما حتى أنه قد لا ينتبه إلى أنه قد استخدم هذا المشهد من قبل، أو أنه يفعل ذلك مُتعمدا للتأكيد على استمرارية عالمه الفكري والسينمائي الذي يدور في ذهنه.


إن شخوص الكاميرا في ظهر وردفي مدام شميدت التي ترتدي قميص نوم خفيف، سنعرف معناه فيما بعد، حينما تنهض لغسل فرجها في إناء على الأرض، فهي زوجة شميدت- قام بدوره المُمثل المجري László feLugossy لازلو فيلوجوسي- المُثيرة، المُستعرة الرغبة، ذات الثديين المُمتلئين أيضا، حتى أنها لا ترفض مُضاجعة أي رجل يمر من أمامها، بل هي في حالة استعداد واشتعال دائم لمُمارسة الجنس مع أي رجل- جميع الشخصيات في الفيلم تمارس الجنس من أجل الجنس المُجرد- أي أن تار يبدأ فيلمه أيضا على شخصيات- أهل المزرعة- تعيش بجوار بعضها البعض، وتمارس حياتها بشكل مُشترك كأسرة واحدة، ورغم ذلك تسود بينهم الخديعة، والخيانة لبعضهم البعض من دون وجود أي وازع، أو ضمير رغم أنهم لديهم مرجعية دينية يتحدثون عنها!


تستمع مدام شميدت إلى صوت؛ فتطلب من فوتاكي الاختباء في إحدى الغرف، لثقتها في أن هذا هو زوجها قد عاد، وحينما يدخل الزوج نستمع إليه يقول لها بينما الكاميرا تتابع فوتاكي المُختبئ في الغرفة: افعلي ما قلته لك، مفهوم؟ ابدأي بحزم الأغراض، تحركي، سنذهب الليلة، احزمي الملابس، الأحذية، المعاطف، المذياع، كل شيء، علينا أن نختفي الليلة، أتفهمين؟ لكنها ترد: أيها المجنون! ما الذي تتحدث عنه؟! ليقول: تحدثت مع كرانر، سننتهي من أمر المال هذه الليلة، إذا ما قسمناه على ثمانية لن نخرج من هنا أبدا. لتقول: أتظن أن الآخرين سيتركونك؟ هاليكش، ومُدير المدرسة، وفوتاكي؟ لكنه يقول: افعلي ما قلت لك، لم أعمل عليه طوال سنة لأتركه يذهب الآن، سأرسلهم إلى الجحيم، لكنهم لن يعرفوا ذلك، أخيرا يمكننا أن نشتري مزرعة.

هنا يحاول تار إكمال عالمه الفيلمي الذي يمهد له، وهو العالم الذي يغص بالخيانات، والكذب، والشرور كما يرى دائما، ففوتاكي يخون شميدت مع زوجته، ويختبئ منه حينما يعود للمنزل- رغم صداقتهما- وسُكان القرية جميعا الذين يعملون العام بأكمله من أجل المال لا بد أن يقتسموا المال هذه الليلة- عمل العام بالكامل- لكن شميدت وكرانر- قام بدوره المُمثل المجري János Derzsi يانوس ديرزي- قد اتفقا على سرقة باقي أهل المزرعة الفقراء، والهروب بالمال بدلا من تقسيمه عليهم جميعا، أي أننا هنا أمام مجموعة من الشخصيات- رغم طيبتها، وفقرها الشديد، وحاجتها، وبؤسها، ويأسها من الحياة- تُخادع بعضها البعض ببساطة وعادية وكأنهم يمارسون طقسا من طقوس الحياة اليومية الطبيعية- سنعرف أيضا أن مدام شميدت تُضاجع مُدير المدرسة، وإريمياش، فضلا عن زوجها وفوتاكي، ولا تُمانع أن يدخل هاليكش يديه أسفل ثوبها لاعتصار ثدييها أمام الجميع.


يخرج شميدت للتبول خلف المنزل؛ فيسرع فوتاكي للخروج والاختباء مُراقبا خلف جدار أحد المباني المُتهدمة لحين دخول شميدت لمنزله مرة أخرى واللحاق به- لا بد من الانتباه إلى أن مشهد اختفاء فوتاكي خلف الجدار مُراقبا للزوج يتطابق مرة أخرى مع مشهد اختباء كارير في فيلم Damnation اللعنة 1988م مُراقبا لخروج الزوج من المنزل كي يلحق كارير بالزوجة العشيقة، أي أن مفهوم الخيانة الزوجية والشر واحد في كلا الفيلمين، بل وأدى الدور في الفيلمين نفس المُمثل، وبنفس المشهد تقريبا.

يلحق فوتاكي بشميدت بمُجرد دخوله للمنزل ليقول له: تريد الهروب بالمال؟ لم أتوقع منك ذلك. ليرد شميدت بهدوء: دعني أوضح لك. فيسأله فوتاكي: كرانر متورط أيضا؟ ليقول شميدت: النصف بالنصف. فيسأله فوتاكي: والآن، ماذا سيحدث؟ فيرد شميدت: ماذا سيحدث؟ أنت معنا أيضا، سننتظر حتى المساء، ثم نبدأ. ليسأله: ماذا تقصد؟ ليقول: سنقسم على ثلاثة، لا تخدعني، كل ما أطلبه هو أن أستعير حصتك لفترة قصيرة فقط، سنة، إلى أن نجد مكانا نستقر فيه. ليقول فوتاكي: لا بد أنك تمزح. ليقول شميدت: قلت أنك لن ترحل لأي مكان من هنا. لكن فوتاكي يقول: لا أريد أن أتعفن هنا إلى أن تنتهي حياتي. يرد شميدت: لا أريد المال هبة، بل سُلفة. فيقول فوتاكي: عملت بقدر ما عمل الآخرون، وها أنت تقول: سُلفة. يقول شميدت: إذن أنت لا تثق بي. فيقول فوتاكي: طبعا لا أثق بك، تتآمر مع كرانر وتريد الهروب بالمال كله، وعليّ أن أثق بك بعد كل هذا؟! ماذا عن الآخرين؟ يقول شميدت: وما أدراني. فيسأله فوتاكي: أخبرني فقط ما الذي اضطرك للرجوع؟ فيرد شميدت: حسنا، أدركنا فقط في الطريق، المرأة، لا نستطيع أن نتركها. ليقول فوتاكي: هذا صحيح، إنها حقا تستحق العناء.


إذن، فجميع أهل المزرعة راغبين في الرحيل منها وراء أحلامهم في حياة أفضل من هذه الحياة العدمية التي يحيونها محاولين دفع الوقت للأمام من دون فائدة، فهم في الحقيقة يفنون حياتهم في اللاشيء، ورغم أحلامهم في حياة أفضل إلا أن المال المُتاح لهم لا يمكن له أن يحقق لهم أحلامهم الصغيرة التي يرغبونها؛ مما يؤدي بهم إلى الخديعة لبعضهم البعض، ومحاولة الاستيلاء على المال القليل وحرمان الآخرين منه.

هذه الأحلام البسيطة تتمثل في قول فوتاكي لمدام شميدت: سأذهب إلى الجنوب، الشتاء أقصر هناك، سأستأجر مزرعة تكون قريبة من بلدة كبيرة، سأنقع قدميّ طوال النهار في طاسة من الماء الساخن، أو سأعمل حارسا لمصنع شيكولاتة، أو بوابا في مدرسة داخلية للبنات، وسأحاول نسيان كل شيء، حوض من الماء الساخن كل يوم ولا أفعل شيئا، أراقب فقط كيف تمضي هذه الحياة اللعينة.


أي أنه حتى في أحلامه البائسة لا يرغب في تطوير حياته أو فعل أي شيء، يراقب فقط كيف تمضي هذه الحياة اللعينة، تماما كما يراقب تار الحياة بتمهل وتفحص وتؤدة من دون أن يقول أي شيء، مُجرد المُراقبة للاشيء للتأكيد على ألا شيء يحدث في حقيقة الأمر.

إن تار هنا يرغب في التأكيد على ثقل الوقت الجاثم على صدور الجميع، فلا شيء يحدث، ولا أحداث من المُمكن مُتابعتها، أو تتقدم بالحياة نحو الأمام، بل رتابة وملل لا ينتهيان، ووقت ثابت مادي فقد ماهيته المعنوية ليتم تشييئه من أجل الشعور بوطأته على الجميع. هذه الرغبة في تشييء الوقت يمارسها تار بحرفية وإتقان حينما نرى كل من شميدت وفوتاكي جالسان أمام بعضهما البعض صامتين، لا يفعلان أي شيء سوى النظر لبعضهما البعض في انتظار تقسيم المال بينهما، إنه الوقت ومروره، وأثره، وما يثيره داخلنا من قلق وتوتر هو ما يركز عليه المُخرج؛ لذا يسود المشهد في خلفيته السمعية صوت عقرب الثواني مُتضخما بشكل يثير الكثير من القلق التوتر- رأينا اهتمام تار بالوقت وأثره القاتل المُثير للانهيار العصبي أيضا في فيلمه The Man from London الرجل من لندن 2007م حينما ظل صوت عقارب الساعة يدوي بعمق بعدما استولى مالوان على حقيبة النقود وخشيته من قتله أو إلقاء القبض عليه نتيجة لذلك- ورغم أنهما يتفقان على تقسيم المال إلا أننا سنُلاحظ أن شميدت- حتى مع تقسيم المال أمام عينيّ فوتاكي يغشه أيضا بأخذ المزيد- التركيز على الخيانات العادية بين جميع الشخصيات- لكن أثناء تقسيمهما للمال تصل السيدة هاليكش- قامت بدورها المُمثلة المجرية Erzsi Gaal أرزسي جال- المُتدينة، المُنكبة دائما على قراءة الكتاب المُقدس وتحذيرهم جميعا من الجحيم لتخبرهم بانتشار الأقاويل حول عودة إريمياش- قام بدوره المُمثل والمُوسيقار المجري Mihály Víg ميهالي فيج- ورفيقه بترينا- قام بدوره المُمثل المجري Putyi Horváth بوتيي هورفاث- ابنا المزرعة اللذان كانا قد أشيع عنهما موتهما مُنذ عام ونصف العام، وهو ما يثير الكثير من القلق في نفوس الجميع، لا سيما أنهم يرون في إريمياش القدرة على فعل كل شيء، فهو كما يقول فوتاكي: كل شيء سيتغير، إريمياش ساحر كبير، يمكنه أن يبني قلعة من روث البقر لو كان يريد ذلك.


إن السبب من وراء وقوفنا الطويل أمام هذا المشهد الأول من مشاهد الفيلم، ومحاولة تحليله من كل أوجهه إنما يعود إلى أنه المشهد التأسيسي للفيلم، وهو المشهد الذي يقدم لنا الحكاية التي يقوم عليها الفيلم بالكامل، حيث لا شيء أكثر من أن أهل المزرعة في انتظار المال السنوي من أجل تقسيمه، ومحاولة البعض منهم سرقته من الآخرين والهروب به خارج المزرعة، والخيانات السائدة بينهم- سواء سرقة المال أو الخيانات الجسدية- والتشدق بعودة إيريمياش الذي مات مُنذ عام ونصف، وهو ما سيحدث بالفعل- هذا هو العمود الفقري للفيلم بالكامل، وهو ما قدمه تار دفعة واحدة في هذا المشهد الطويل، ومن ثم سيكون تقدمه فيما بعد في الحكاية شديد البطء بشكل يكاد أن يقترب من الثبات؛ لأنه سيعيد تكراراه في مجموعة من الدوائر- للأمام أحيانا وللخلف في أحيان أخرى- من خلال وجهات نظر مُختلفة، تبعا لمنظور الشخصية التي تراه.


ينتقل تار إلى حلقته التالية؛ فيكتب على الشاشة: سنُبعث من الموت- في إشارة لعودة إريمياش، وربما لا بد لنا هنا من التوقف هنيهة لتأمل شخصية إريمياش، وأمر عودته، أو بعثه من الموت؛ فتار يُقدم لنا شخصية إريمياش- رغم أنه الأكثر شرا وخداعا للجميع- في موازاة واضحة وجلية للمسيح، أي أن عودة إريمياش هي قيامة المسيح مرة أخرى، ولكن ليس من أجل إنقاذ/ تخليص/ فداء البشر، بل من أجل تدميرهم، وسرقتهم، وخداعهم، وتفريقهم إلى مصائر مجهولة، وبذلك- ومن خلال إكساب تار لشخصية إريمياش دلالة دينية- فهو يقصد أن الدين- مُمثلا في المسيح- ليس إنقاذا للبشر كما يدعي الجميع، بل هو من أجل دمار البشر، وتعذيبهم، وخداعهم بالمعاني الدينية التي يستغرقون فيها ويصدقونها بسذاجة. إن تار هنا مُتشائم إلى أقصى حد؛ فهو لا يرى الخير في كل ما يدور من حوله، بل الشر الخالص فقط هو ما يحيطنا، الشر النقي القادر على القضاء على كل شيء، حتى أن المسيح هنا هو مُمثل الشر الأكبر- أكثر خداعا من أهل القرية في سلوكياتهم الساذجة إلى حد بعيد- لذا سنرى المُمثل والمُوسيقار المجري ميهالي فيج الذي يؤدي دور إريمياش يكاد أن يقترب إلى حد بعيد من الصورة الذهنية للمسيح التي يصورها الجميع في الكتب والقصص الدينية المصورة، أي أنه يحاول القول: انتبه، فهذا هو المسيح، وإذا لم تكن قد انتبهت إلى المعنى، فلا بد أن الصورة الشكلية ستثير انتباهك، وبالتالي إذا ما كان الله قد ارتكب خطأ فادحا بتواجد البشر على الأرض وملئها بالشرور في إحدى لحظات نزقه ولعبه في كونه الأكبر- لاحظ أن الله كان يلعب مع الحوت في فيلم تناغمات ويركميستر- فهو يمارس المزيد من اللعب الأحمق- الذي يحمل في طياته الكثير من السادية بقيامة المسيح ابن الله/ إريمياش من أجل المزيد من الشرور، وعذاب هذه الكائنات البشرية المُستحقة للكثير من الشفقة، أي أنه لا يحاول تصحيح خطأه السابق- تواجد البشرية- بإفنائها، بل بالمزيد من الأخطاء الحمقاء!


لكن، من وجهة نظر أخرى، وإسقاط دلالي آخر مُختلف، من المُمكن لنا اعتبار إريمياش إسقاطا على الأيديولوجية، لا سيما الأيديولوجية الاشتراكية، والسُلطة المُتحكمة في الفترة الاشتراكية التي تتحدث عنها الرواية، خاصة أنهم يؤمنون به إيمانا مُطلقا، وغير قادرين على تخيل أنه يقوم بخديعتهم- الدولة/ النظام الراعية لمصالحهم العامة- بل هو قادر على فعل أي شيء من أجلهم، حتى لو كان مُستحيلا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سنُلاحظ أن إريمياش إنما يعمل مُخبرا- مُجبرا- لرجال الشرطة- المُمثلين للدولة والنظام الاشتراكي- وبالتالي سيبيع الجميع للنظام، ويكتب عنهم تقارير يحتقرهم جميعا فيها، ويسلم قيادهم من خلالها للسُلطات، رغم أنهم لا خطورة من ورائهم، بل هم كائنات تدعو للشفقة عليهم، وعلى حياتهم الشديدة البؤس، والفقر، والعوز.

في مشهد مُغرق في التجريدية الكونية، ومُثير للكثير من الاكتئاب يصور لنا تار إريمياش وبترينا يسيران في شوارع المدينة الفارغة تماما، المُقفرة، الغارقة في أكوام من القمامة والفضلات المُتطايرة بفعل الرياح الشديدة، والأمطار التي لا تتوقف عن الهطول في طريقهما إلى أحد المباني الحكومية حيث تم استدعاؤهما من قبل الضابط المسؤول عنهما بعد خروجهما من السجن، والمُتحكم في إرادتيهما، والآمر لهما كي يعملا جواسيس/ مُخبرين لديه على أهل المُزرعة البؤساء، إنهما لا يمتلكان الحرية أمام السُلطة السياسية، وإن كانا يمتلكانها أمام مُمارسة الكثير، والمزيد من الشرور، وهو ما يتضح من قول الضابط بصرامة: الحرية على أي حال ليست من طبائع البشر، إنها شيء إلهي، شيء حياتنا أقصر كثيرا من أن نتأكد منه، إننا لا نجيد التعامل مع الحرية، نهدرها كما لو كانت قمامة، البشر لا يحبون الحرية، إنهم يخافون منها، الشيء الغريب هو أنه لا شيء مُخيف في الحرية.


إن مفهوم الحرية الذي يتحدث عنه رجل السُلطة الاشتراكية/ الضابط يتناسب إلى حد بعيد مع المفهوم الاشتراكية في هذه الفترة من جهة- فلا حرية لأحد أمام حرية النظام الحاكم الاشتراكي- ومن جهة أخرى يتناسب مع مفهوم الفيلم العميق حيث جميع الشخصيات الفيلمية من أبناء المزرعة لا يمتلكون حريتهم في الواقع، بل هم مُنساقون لأي شيء يدور من حولهم، مُنساقون لغرائزهم، وحاجاتهم، وأحلامهم البسيطة، وطمعهم، وخداعهم لبعضهم البعض من أجل الفتات، هم لا يمتلكون الحرية لأنهم في النهاية كقطيع الماشية الذي رأيناه في بداية الفيلم، يحتاجون إلى من يوجههم، ويمتلك قيادهم- إريمياش.

لذلك يأمر الضابط/ مُمثل النظام الاشتراكي كل من إريمياش وبترينا بالعمل لديه كمُخبرين على أهالي القرية، ومن ثم تقديم التقارير عنهم، وهما إذا ما امتنعا عن الخضوع لما يأمرهما به؛ فهما خارجان على القانون والنظام كما أخبرهما، لذا يوافقان على ما أمرهما به، ويتوجهان إلى إحدى الحانات لتناول شرابهما تمهيدا للتوجه إلى المزرعة، وهناك- في هذه الحانة- يراهما أحد أهالي المزرعة الذي يسرع إليها لإذاعة الخبر، ومن ثم يعرف "شاني" بالأمر، وهو الذي كان قد سبق له أن أذاع بين أهل المزرعة موت إريمياش مُنذ عام ونصف العام بالاتفاق مع إريمياش في مُقابل وعد من إريمياش له بأن يأتي له بمدام شميدت من أجل ليلة جنسية حيث يطمع فيها الشاب الصغير، وكذلك مدام كرانر ذات الصدر الكبير.


ينتقل تار بفيلمه إلى حلقة أخرى بعنوان "معرفة شيء ما"، حيث طبيب القرية الضخم الجثة، مُدمن الكحول الذي لا يخرج من بيته مُطلقا، بينما تساعده مدام كرانر في توفير مُتطلباته، لا سيما براندي الفواكة الذي يشربه ليل نهار، فنرى الطبيب- قام بدوره المُمثل الألماني Peter Berling بيتر بيرلنج- يلازم الجلوس أمام مكتبه خلف نافذة بيته، متناولا للبراندي في حالة سُكر كامل ودائم، بينما يتلصص على جميع أهل القرية، ويدون مُلاحظاته عنهم جميعا- حيث يمتلك دفترا باسم كل شخصية من شخصيات المزرعة- وهو في انعزاله الطويل والدائم داخل منزله أدى إلى أن منزله قد بات كريه الرائحة، لا يُطاق، لكنه لا يشعر بذلك لطول مُدة بقائه داخله.

إن شخصية الطبيب كما يقدمها تار في فيلمه هي شخصية ديكنزية بامتياز- نسبة إلى الروائي الانجليزي تشارلز ديكنز[1]- شخصية شديدة البؤس، ترى العالم من خلال الخمر، وتراقب الجميع. ينتقد من حوله، ويشعر تجاههم بالازدراء والتعالي، ثمل طوال الوقت حتى أنه لا يقوى على الوقوف أحيانا على قدميه فيقع نتيجة الإفراط في الشراب، مما يجعله يزحف على أربع من أجل الوصول إلى فراشه، وحقن نفسه بالدواء، ورغم ذلك فنحن نشعر تجاهه بالشفقة لطيبته، ووحدته الأبدية.


نُشاهد الطبيب في هذا المشهد جالسا في عزلته خلف نافذته بينما يمسك نظارة مُعظمة لمُراقبة الآخرين، فنرى من خلال نظارته المُعظمة فوتاكي ينظر من خلف نافذته مُندهشا، ليتناول الطبيب الدفتر المكتوب عليه اسم فوتاكي ويبدأ في الكتابة: فوتاكي، يبدو الأمر وكأنه خائف من شيء ما، في الصباح الباكر كان ينظر إلى الخارج عبر النافذة جافلا، فوتاكي يشعر بالهلع، هو يخشى الموت. ثم يقول لنفسه: هم سيموتون بأي حال، أنت أيضا يا فوتاكي ستموت.

مع التقدم قليلا في هذا المشهد/ الفصل سنُلاحظ أن تار يعيد من خلال هذا الفصل ما سبق لنا أن رأيناه في المشهد الأول مع بداية الفيلم، ولكن من خلال وجهة نظر جديدة، وزاوية أخرى مُختلفة تماما في تفسيرها للأحداث، فهو ينقل لنا ما سبق أن رأيناه من خيانة فوتاكي لشميدت مع مدام شميدت من وجهة نظر تُفسر ما تراه ظاهريا، من دون معرفه جوهره أو حقيقته، وبالتالي فنظرات فوتاكي من خلف النافذة، وهي النظرات المُندهشة لأنه استيقظ من النوم على صوت أجراس تدق لكنيسة ما، يفسرها الطبيب هنا تفسيرا مُختلفا تماما، تبعا لرؤيته الشخصية، ومعطياته الظاهرية، ومنظوره المُختلف؛ وبالتالي يراه خائفا مذعورا من الموت.


إن تار هنا يتراجع خطوة إلى الخلف في فيلمه من أجل إعادة تشكيل الحدث سينمائيا بزاوية جديدة، أي انه في الوقت الذي كان فوتاكي فيه ينظر من النافذة، وفي الوقت الذي عاد فيه شميدت إلى البيت، واختفى فوتاكي في الخارج مُراقبا، ودخل مرة أخرى كان الطبيب يراقب الجميع، لكنه يفسر الحدث بشكل جديد- إعادة تشكيل المشهد السينمائي، وبنائه بطريقة جديدة، ومنظور مُختلف.

تصل السيدة كرانر إلى بيت الطبيب- قامت بدورها المُمثلة المجرية Irén Szajki إيرين سزايكي- لتخبره بأنها لن تستطيع الاستمرار في خدمته: إنها تُمطر كما ترى، قريبا ستمطر ثلجا أيضا، زوجي يقول: بإمكانك التحدث إلى صاحب الحانة، لديه سيارة، بمقدوره إحضار كل ما تحتاج إليه. فيسألها الطبيب بتجهم: أتعنين أنك لن تقومي بذلك بعد الآن؟ لترد: سأفعل بالطبع، لكني لا أستطيع المشي إلى البلدة في المطر، إلى جانب أنه يستطيع إحضار ما يلزمك لأسبوعين أو ثلاثة، الحافلات تبدأ مع الربيع فحسب. فيرد الطبيب: حسنا سيدة كرانر، يمكنك الانصراف.


تنصرف السيدة كرانر تاركة مفاتيح منزل الطبيب أمامه على المكتب، بينما يمد يده إلى دفتر مكتوب عليه اسمها ليكتب: لقد غادرت كرانر، لم تستطع القيام بذلك بعد الآن، الخريف الماضي هي لم تبال بالمطر، ولم تُمانع اضطرارها للمشي، كرانر لديها خطة، إنها تُفكر في شيء ما- إنها خطة خروجها وزوجها من المزرعة حيث اتفق كرانر مع شميدت على سرقة أموال الآخرين والرحيل.

ينتبه الطبيب إلى أن براندي الفواكة الذي يتناوله بشراهة قد انتهى، ومن ثم فعليه الخروج للبحث عن المزيد، ورغم العاصفة الشديدة، والظلام، والأمطار الغزيرة المُخيفة التي لا تتوقف عن الهطول المُستمر؛ فإدمانه للكحول، وحاجته للمزيد- ورغم أنه في حالة سُكر- يجعلانه يرتدي ملابسه ببطء ليأخذ معه إبريق البراندي من أجل إعادة ملئه. يشعر الطبيب بالكثير من الإجهاد، كما أن غزارة هطول الأمطار لا تُحتمل مما يجعله يسرع إلى أحد الاسطبلات المهجورة المُتهدمة للاحتماء فيه، وفي فناء الاسطبل يستمع إلى صوتين أنثويين يتحدثان إلى بعضهما البعض آت إليه من الدور العلوي؛ فيصعد ليجد عاهرتين من بنات القرية تحتميان بالداخل من الأمطار والبرودة الشديدة، ومن ثم تعرض إحداهما جسدها عليه من أجل المال، لكنه يرفض مُتسائلا: كيف يسير العمل؟ لترد العاهرة: بشكل سيئ، نحن نجلس هنا يوما بعد يوم، ولا شيء يحدث أبدا- فلسفة تار في الحياة والفيلم أيضا- أعصابنا دائما متوترة، أحيانا نصبح على وشك الاشتباك سويا، ما الذي سيحل بنا يا دكتور؟ هكذا ينتاب المرء اليأس من كل شيء، ما الذي نكسب قوتنا منه برأيك؟

إن حديث العاهرة إلى الطبيب، وشكواها إليه يحمل من البؤس واليأس الشديدين ما لا يحتمل، أي أن تار يزيد من بؤس عالمه وشخصياته الذين يعانون من الفقر المُدقع، حتى أن الفتاتين اللتين تُتاجران بجسديهما من أجل الخبز، والاستمرار على قيد الحياة لا تجدان زبائن لجسديهما؛ نتيجة لأنهما تتاجران في بيئة أكثر بؤسا، وفقرا، وعوزا، وبالتالي فاحتياج الجميع للمال يجعلهم غير قادرين على التكاتف مع بعضهم البعض، بل يمنع أهالي المزرعة من الرجال عن مُضاجعة العاهرات لأنهم لا يمتلكون المُقابل الذي يتعين عليهم دفعه في سبيل لحظات من المُتعة الجسدية.


يخرج الطبيب بعدما يستريح مُتجها إلى الحانة الوحيدة في المزرعة من أجل الاستزادة بالبراندي، لكنه ما أن يقترب من باب الحانة إلا وتقترب منه فتاة صغيرة- كانت تتلصص على رواد الحانة من النافذة الخارجية- مُستنجدة به، وحينما يتجاهلها تحاول جذبه فيقع في الوحل الشديد مما يجعلها تشعر بالكثير من الخوف، وتهرب منه خشية إيذائها، ينهض الطبيب محاولا اللحاق بالفتاة الصغيرة، مُؤكدا لها على أنه لن يؤذيها لكنها تختفي، إلا أن الطبيب- نتيجة لأنه كان في حالة عميقة من السُكر- يقع أرضا مُغشيا عليه إلى أن يجده أحد سُكان القرية/ حوذي فيأخذه على عربته إلى المشفى.

هنا يُغلق تار حركته الثالثة ليكتب على الشاشة "توقف مُؤقت: وظيفة العنكبوت الأولى"، إن تار يتلاعب بأحداثه، وحكايته، وفيلمه، ومُمثليه، بل وبالمُشاهد أيضا من خلال تقدمه للأمام، ورجوعه للخلف، بل وتوقفه حينما يرغب في ذلك كأنه يحاول استراداد أنفاسه اللاهثة. إنه يبدو لنا في حالة سباق، وبالتالي فلا بد له من التوقف هنيهة كي يستطيع الاستمرار في هذا السباق.

ينتقل تار إلى داخل الحانة الوحيدة في المزرعة حيث نرى هاليكش- قام بدوره المُمثل المجري Alfréd Járai ألفريد جاراي- جالسا يتناول الشراب، ومعه أحد سُكان المزرعة الذي لا يدري بنفسه لفرط السُكر- لا بد أن نُلاحظ تأثير الوقت هنا مرة أخرى، حيث يسود هذا المشهد صوت دقات بندول الساعة المُتضخم بشكل مُزعج، ومُثير للانهيار العصبي- ويصل للحانة مُحصل الشاحنة الذي سبق له أن رأى إريمياش وبترينا في حانة المدينة؛ فيخبر جميع أهل المزرعة، وبالتالي يخبر صاحب الحانة بالأمر: إريمياش وبترينا قادمان نحو الساحة. ليرد صاحب الحانة: لا يمكن أن يكون هذا صحيحا. ليقول الرجل: إنه كذلك بالطبع كوقوفي أمامك الآن، السائق من ساحة الخشب كان هناك، وحمالان، ومُدير مدرسة 101، ومُدرس التربية البدنية، والساقي المسائي بحانة المحطة، وأنا، كلنا جلسنا هناك، جلسنا هناك فحسب، ولم أستطع تصديق عينيّ، وكانا هناك بدمهما ولحمهما، إريمياش وبترينا يحتسيان الروم والبراندي، بعدها انتظرت حتى انتهيا من شرابهما وهرعت إليهما، قام إريمياش بمُعانقتي، وقال: كيليمين، كيف الحال؟ ثم أخبرني بكل شيء. افترقنا بعدها، كان عليّ مُقابلة هوخان الجزار، ثم بعدها قابلت توش الصغير الذي كان يقطن بجواره في بوستانيا؛ فأخبرني أن إريمياش وبترينا كانا في مطعم شتايجرفالد وأتيا على ذكر البارود، أطفال شتايجرفالد كانوا يتحدثون عنه في الشارع، وعندما كنت في طريقي عائدا، وتركت الطريق عند مُفترق إيليكي لمحتهما أمامي على مرمى البصر، ومن ثم فهمت ماذا، أي طريق، ولماذا.


ثمة مُلاحظة مُهمة هنا لا يمكن أن تفوت على المُتابع للسينما التي يقدمها بيلا تار، فحديث مُحصل الشاحنة كيليمين عن رؤيته لإريمياش صحيحة تماما، وهو بالفعل كان جالسا في بار المدينة حيث ذهب كل من إريمياش وبترينا، لكنهما لم يرياه مُطلقا، وهو لم يتحدث إليه، وبالتالي فبقية حديثه عن إريمياش ليس صحيحا، بل هو من نسج خياله فقط. معنى هذا أن الرجل ينقل جزءا من الواقع مُضيفا إليه الكثير من الخيال، أو الآمال التي كان يتمنى أن تحدث، لكنه لم يجرؤ على فعلها. إنها حالة خلق الأسطورة، وتضخيمها، والإضافة إليها، والإيمان بها حتى تصبح يقينا واقعا داخل من يرويها- رغم أنها في الحقيقة ليست كذلك- وهي نفس الحالة التي رأيناها في فيلمه "تناغمات ويركميستر" حيث يزداد لغط أهل البلدة، وحكاياتهم، وإضافاتهم عن أشياء لم يروها بالفعل، لكن خيالهم ينسج من حولها المزيد من الحكايات حتى تصبح واقعا يؤمن به الجميع.


إن تار يرغب من خلال هذه الحالة- صناعة الأسطورة وتضخيمها- التأكيد على أن مُجتمع الفقراء والمعوزين والجهلاء، والبسطاء، والساذجين إنما هو مُجتمع خصب لصناعة الأساطير، ونموها، مُجتمع قادر على تدمير نفسه تدميرا ذاتيا من خلال خيالهم الذي يضفي على الواقع ما ليس فيه- هو ما رأيناه في فيلم تناغمات ويركميستر حيث دمر مُجتمع القرية نفسه بنفسه من خلال صناعة الأسطورة والانسياق خلفها- وما لم يحدث في الحقيقة حتى يضحى واقعا يؤمنون به ويصدقونه رغم أنهم يدركون جيدا بأنهم من سعوا إلى نسجه- سنُلاحظ أن كيليمين مع استمراره في تواجده داخل الحانة، ومع المزيد من السُكر سينسج المزيد من الحكايات، أي أنه كلما استمر في إعادة الحكاية يحكيها من منظور مُختلف، مُضاف إليها الجديد مما لم يقله من قبل.

يستمر المُجتمعون في البار في الحديث عن عودة إريمياش/ المسيح المُخلص، وتدخل مدام شميدت لتناول شرابها، والتأكد من صدق خبر عودة إريمياش، ليغلق تار مشهده/ حلقته ويكتب على الشاشة: يأتي غير مخيط.


هنا ينتقل بنا تار إلى حلقة جديدة من فيلمه الملحمي، ليضيف لنا شخصية جديدة من شخصايته البائسة، إشتيكا- قامت بدورها المُمثلة المجرية Erika Bók إيركا بوك- الطفلة التي لم تتجاوز عشر سنوات على أكثر تقدير، والتي نراها جالسة أمام منزلها في انتظار شقيقها "شاني"- الذي سبق أن أذاع بين أهل المزرعة موت إريمياش مُنذ عام ونصف العام- والذي يوهمها بأنها إذا ما دفنت نقودها بين الأشجار سيؤدي ذلك إلى نمو شجرة نقود خلال أيام مع الاهتمام برعايتها وريها، وهو ما يجعل الفتاة تنساق خلفه، وتذهب معه لدفن كل مُدخراتها، لكنها حينما تعود إليها للاطمئنان على نمو الشجرة تُفاجأ بأن النقود قد سُرقت، وحينما تُسرع باتجاه أخيها، تعرف بأنه من استولى على النقود، بل يعاملها بفظاظة كبيرة، طالبا منها الانصراف.


سنُلاحظ أن الجميع هنا يتعامل مع هذه الطفلة باستخفاف، وعدم اهتمام، وكأنها غير موجودة؛ الأمر الذي يجعلها تشعر بالوحدة المُطلقة، فرغم هطول الأمطار الغزير الذي لا يتوقف إطلاقا، سنرى أن الفتاة حينما تحاول الدخول إلى المنزل تنهرها أمها، طالبة منها الجلوس على المقعد الموجود أمام البيت- فالأم لديها ضيف يمارس معها الجنس- مما يجعل الفتاة تُفكر في الصعود إلى جزء مهجور من المنزل حيث تلعب مع قطتها التي تؤنس وحدتها. لكن القطة تهرب منها، وحينما تتتبعها الفتاة لتمسك بها مرة أخرى تُدرك أن القطة قد تبرزت؛ الأمر الذي يثير غضب الفتاة كثيرا، ومن ثم تبدأ في ضربها، مُؤكدة للقطة بأنها أقوى منها، وأنها باستطاعتها أن تقوم بقتلها نتيجة ما فعلته- فعل التبرز.

يقدم لنا تار مشهدا طويلا- بلغ طول المشهد 10 دقائق من زمن الفيلم- للفتاة التي تقوم بتعذيب القطة، وضربها، إلى أن تتسلل الفتاة داخل المنزل، وتضع الحليب وسم الفئران في وعاء للقطة، ومن ثم ترغمها على شربه إلى أن تموت.


إن مشهد تعذيب إشتيكا للقطة حتى الموت- رغم طوله- فهو مشهد لا يمكن لنا الاستغناء عنه في الإطار الفيلمي الذي يقدمه تار؛ فهو من خلاله يوضح لنا أثر إهمال الجميع للفتاة، ورغم بؤسهم جميعا، وعدم عمديتهم في إيلام بعضهم البعض، إلا أنهم يقومون بالفعل بإيذاء الآخرين، لا سيما أولادهم- كما حدث مع الفتاة.

تبدأ الفتاة بالتجول داخل المزرعة حاملة لقطتها التي ماتت على ذراعها- وكأنها ما زالت حية- لينتهي بها الأمر في الليل خلف نافذة الحانة الخلفية، فنراها تُراقب جميع أهل المزرعة السكارى داخل الحانة بينما هم مُغيبيين تماما بسبب السُكر، ويقومون جميعا بالرقص مع بعضهم البعض.

تُلاحظ إشتيكا اقتراب الطبيب من الحانة بينما الأمطار الغزيرة تغرقه؛ فتسرع إليه مُستنجدة به، لكنه يقع أرضا مما يجعلها تشعر بالخوف من أن يقوم بإيذائها- كما يفعل الآخرون عادة- وهو ما يجعلها تهرب بعيدا، بينما هو يحاول اللحاق بها.


إن تار هنا يرجع خطوة أخرى إلى الخلف؛ فهو يُعيد الحدث مرة أخرى- وهو ما سبق لنا أن رأيناه- ولكن من خلال منظور مُختلف، ووجهة نظر مُغايرة. وإذا ما كنا في المشهد- من وجهة نظر الطبيب- لم نعرف من هي هذه الفتاة المجهولة، وما الذي تفعله في الليل، وتحت الأمطار الغزيرة خلف نافذة الحانة، ولِمَ حاولت الاستنجاد بالطبيب، أو مُضايقته، ففي هذا المشهد- من وجهة نظر إشتيكا- عرفنا كل شيء، أي أنه يقدم لنا كل شيء من خلال مجموعة من الدوائر، وهذه الدوائر تُشكل في مجموعها الكلي الدائرة الكاملة، والأشمل والأوسع في نهاية الأمر.

تهرب إشتيكا من الطبيب الذي ظنت بأنه قد يلحق بها الأذى، لتتجه إلى إحدى الكنائس المُتهدمة، وهناك تنام على الأرض لتضع جسد القطة الميتة إلى جوارها، وتتناول قبضة من سم الفئران مُبتلعة إياها لتنام مُحتضنة لجسد القطة، بينما صوت الراوي يصل إلينا بقوله: نعم، قالت لنفسها بهدوء: الملائكة ترى هذا وتفهم، شعرت بسلام داخلي، وأن الأشجار والطريق، والمطر، والليل يشعون جميعا بالسلام، كل ما يحدث جيد، فكرت بذلك، كل شيء أصبح يسيرا في النهاية، استعادت أحداث اليوم السابق وابتسمت حينما أدركت كيف أن الأشياء مُتصلة ببعضها، شعرت أن تلك الأحداث لم تكن مُتصلة بمحض الصدفة، وإنما هناك معنى غير منطوق وجميل يربط بينها، عرفت أنها لم تكن بمُفردها لأن كل الأشياء والبشر وأبيها الأعلى، وأمها، وإخوتها، والطبيب، والقطة، والسنط، وهذا الطريق الموحل، والسماء، والليل هنا بالأسفل، كل هذا يعتمد عليها، كما أنها هي نفسها تعتمد على كل شيء، لم يكن لديها ما تقلق بشأنه، علمت أن ملائكتها قد جاءت بالفعل من أجلها.


ألا نُلاحظ هنا أن موت إشتيكا بتناولها لسم الفئران بمثابة إسقاط على المسيح المُخلص؟ فالفتاة بموتها كانت هي المُخلص لجميع هؤلاء البائسين- ومن ثم يصبح لدينا مسيحين في فيلم تار، المسيح الذي قام/ إريمياش، وهو المسيح الشرير المُخادع للبشر من البؤساء، والمسيح الذي كان فداء للبشر/ إشتيكا.

يُظلم تار شاشته ليكتب "وظيفة العنكبوت الثانية: حلمات الشيطان، تانجو الشيطان"، حيث ينتقل بنا إلى داخل حانة المزرعة الوحيدة، لكن هذه المرة سيكون جميع أهل المزرعة قد تجمعوا داخلها من أجل اقتسام المال، والمزيد من الضوضاء والسُكر.

سنُلاحظ في هذه الحلقة الجديدة من فيلم تار الملحمي أن الجميع، بلا استثناء، يستزيدون من تناول الكحول بشكل مُفرط، حتى السيدة هاليكش- المُتدينة إلى حد بعيد- تُشاركهم في تناول الكحول بشيء من الوقار. هل يحاول أهل القرية الاحتفال بتقسيمهم للمال؟ أم أنهم يمعنون في حالة التغيب التي تجعلهم يتناسون فقرهم، وبؤسهم، وحاجتهم الشديدة للمال والأمان، أم هم يحتفلون بآمالهم وأحلامهم في الخروج من عالم المزرعة، وتوديعها لرغبتهم في الرحيل عنها من أجل البحث عن حياة جديدة أكثر أمانا- وبما أن المال السنوي قد جاء، وحصلوا عليه فالرحيل عن المزرعة قد بات أكثر سهولة؟


ربما يمكننا الذهاب إلى تأويل آخر مُختلف؛ فعلم أهل القرية بعودة إريمياش يجعلهم في حالة بينة من القلق والتوتر، لا سيما صاحب الحانة الذي شعر بالغضب الشديد من قدوم إريمياش، ومن ثم بدأ في تناول الكحول بكثافة مثلهم تماما، كذلك فوتاكي الذي أكد سابقا بأنه يشعر بأن ثمة شيء ما سيحدث هذا اليوم. إن الذهاب إلى هذا التأويل يجعل تناولهم للكحول بمثل هذه الكثافة التي أدت بهم إلى التغيب جميعا يعني محاولة الهروب من التوتر الذي يشعرون به، ورغم أن هذا التوتر قد ظهر في صورة صخب، وضجيج، ورقص هستيري للجميع مع بعضهم البعض، إلا أنه شكل من أشكال الهروب في نهاية الأمر من مخاوفهم التي يشعرون بها.

إن مشهد أهل المزرعة في القرية يكاد أن يكون مشهدا مجنونا يصل فيه تار إلى ذروة فيلمه، فتناول الكحول يتم بكميات غير معهودة- صرح تار في أحد حواراته أن المُمثلين في هذا المشهد كانوا في حالة سُكر حقيقي أثناء التصوير- ومُحصل الشاحنة/ كيليمين قد وصل إلى درجة من السُكر ما أدى به إلى الهذيان، وعدم معرفة ما يقوله أو يفعله، وبالتالي فهو يُعيد حكاية رؤيته لإريمياش عشرات المرات بشكل مُتتالٍ رغم أنه لا يوجد من ينصت إليه، بل هو يتحدث مع نفسه بصوت صاخب، فضلا عن إضافته للحكاية في كل مرة المزيد من الأوهام، أو الخيال.


كما أن فوتاكي قد وصل إلى درجة من السُكر ما جعله يخرج للقيء، لكن صاحب الحانة أدخله مرة أخرى، وساعده في غسيل وجهه، وصاحب الحانة نفسه لم يعد يقو على الاتزان أثناء حركته، والجميع في حالة عميقة من الهذيان التي تجعلهم يقومون برقص التانجو بشكل مجنون، هزلي، لا عقلاني، لمُدة طويلة بلغت مُدتها 10.17 من زمن الفيلم. أي أن كاميرا تار المُتأملة الشاخصة إليهم كانت حريصة على تأملهم وثباتها أمامهم هذه المُدة الطويلة بينما لا يفعلون أي شيء سوى الرقص المُغيّب بعنف، فنري شميدت يتجول بينهم جيئة وذهابا بينما يضع على رأسه رغيف خبز محاولا لعب لعبة الاتزان- رغم تغيبه عن الوعي- بينما كليمين يقوم بضربهم جميعا بشكل مجنون، وصاحب الحانة وفوتاكي يضربان بقطعتي خشب على المناضد وكأنهما يعزفان، ومدام شميدت ترقص بعنف فيه الكثير من الإيحاءات الشهوانية مع هاليكش، والسيدة هاليكش تجلس في حالة سُكر مُراقبة، وكرانر يراقص زوجته السيدة كرانر، ليدخل مُدير المدرسة- قام بدوره المُمثل الروماني György Barkó جيورجي باركو- الذي يبدأ بدوره في الرقص مع مدام شميدت بشهوانية مُتبادلة، راغبا فيها، بينما نرى الفتاة إشتيكا تتأملهم من خلف النافذة، مُراقبة لهم، إلى أن يغيبوا جميعا عن الوعي، ويغلبهم النوم بسبب الإفراط في الخمر، فتبدو أجسادهم وكأنهم قد ماتوا جميعا، ليبدأ عازف الأوكورديون في شرب كل ما تبقى منهم من الكحول، وسُرعان ما يقيء بدوره، ويلحقهم في حالة التغيب.


إن تار حريص في هذا المشهد على تصوير العناكب التي تنسج خيوطها على زجاجات الكحول، والكؤوس، والمناضد، وسُكان القرية جميعا، وسُرعان ما تختفي بعد ترك خيوطها من حولهم. إن اهتمام تار بخيوط العناكب التي تحيط بهم فيها الكثير من الرمزية القدرية، فخيوط العنكبوت في جوهرها هي خيوط القدر الذي ينسج إرادته من حولهم بإحكام، ومن ثم يزيد من بؤسهم ويأسهم في هذه الحياة التي يمضون فيها من دون أي معنى، أو هدف.

حينما يقع عليهم جميعا الصمت التام نتيجة تغيبهم في النوم بعد الإفراط في الكحول والرقص، يظلم تار شاشته ليكتب: "توقف مُؤقت: إريمياش يلقي كلمة"، أي أن تار يمتلك هنا حرية التلاعب بالفيلم والمُشاهد، والتوقف حينما يرغب، والاستمرار مرة أخرى حينما يروق له ذلك، وهو ما يساعده على بناء الفيلم بشكل مُنظم، وأنيق، وشديد الملحمية كما يرغب له أن يكون للتعبير عن نظرته الكونية الفلسفية تجاه بؤس الكون، وحياة البشر فيه.


يفتتح تار مشهده الجديد على جسد الفتاة إشتيكا المُسجى على طاولة بينما جميع أهل المزرعة مُلتفين من حوله صامتين، غير قادرين على النطق نتيجة المُفاجأة والصدمة، والحزن على وفاتها، بينما يقف بينهم إريمياش الذي وصل ليجدهم جميعا نصف أموات في الحانة، أي أن وصول إريمياش هو الذي أدى لاكتشاف موت الفتاة، ومن ثم أخذها إليهم ليجدهم جميعا مُغيبين عن الوعي نتيجة الإفراط في تناول الكحول في الليلة الماضية.

يبدأ إريمياش في لومهم على ما حدث، محاولا تخويفهم من المُستقبل القريب، وتحقيقات الشرطة: لو أنكم شعرتم أن المزرعة محكوم عليها بالخراب، فلِمً لا تحاولون فعل شيء ما بشأنها؟ لقد فكرتم بمنطق عصفور في اليد خير من اثنين على الشجرة، ولكن هذا منطق الجبناء، إنه منطق شائن لا مُبالي، وله عواقب وخيمة، هذا ما يُسمى بالعجز، عجز آثم، هذا ضعف، ضعف آثم، هذا جبن، جبن آثم لأننا- وضعوا هذا في أذهانكم- لأننا لا نرتكب أخطاء لا تُغتفر في حق الغير فحسب، ولكن في حق أنفسنا أيضا، وهذا يا أصدقائي ما هو أشد خطورة. نعم، فعندما أفكر في الأمر أجد أن كل أنواع الآثام نرتكبها بحق أنفسنا، ولكن أتعلمون يا أصدقائي إذا ما عدت بذاكرتي وأنا أراكم مُستلقين نصف أموات على المقاعد والطاولات فوق بعضكم البعض يقطر منكم العرق، مُستنفدون، ينفطر قلبي، ولا أستطيع إدانتكم لأنني لن أعود قادرا على نسيان هذا عبر لهاثكم، شخيركم، تأوهاتكم، سمعتكم تصرخون طلبا للمُساعدة مما يحتم عليّ التلبية، أنتم تعرفون بعضكم البعض، كنت أراقب بأعين مفتوحة لعقود، ولاحظت بمرارة أنه تحت الحجاب الغليظ من المكر والخداع لا شيء قد تغير، البؤس ظل بؤسا، الملعقتان الإضافيتان من الطعام اللتان قد نحصل عليهما كل ما يفعلانه أنهما يجعلان الهواء أقل لزوجة أمام أفواهنا، لكني أدركت أن ما فعلته حتى الآن لا يساوي شيئا، نحتاج حلا أكثر جذرية، لذا، انتهازا للفرصة قررت أنا ومجموعة من الأشخاص إقامة مزرعة نموذجية؛ مما سيضمن حياة مُستقرة، ويربط هذه المجموعة الصغيرة من الأشخاص الذين بلا مأوى سويا، أنا أقوم بإنشاء جزيرة، حيث لا أحد عاجز، حيث الجميع سيعيشون بسلام وسيشعرون بالأمن، وهذا سبب مُغادرتي الضيعة في ألماز، المبنى الرئيسي في حالة جيدة، ومسألة العقد شأنها هيّن، توجد مُشكلة واحدة، لا فائدة من محاولة إبقائها سرا: المال. الفكرة لا وجود لها بدون المال، رأس المال مطلوب، من أجل الإنتاج، ولكن هذه مسألة مُعقدة قليلا، لا فائدة من الدخول في تفاصيل، وأنتم ستدركون أن مُلابسات اجتماعنا جعلتني أشعر بعدم التأكد مما إذا كنتم قادرين على فعل ذلك، مما إذا كنتم قادرين على المُساهمة بأموالكم القليلة الناجمة عن عمل شاق، وصعوبات جمة لإنجاز مشروع مُفاجئ، فكروا بالأمر، لا تتخذوا قراركم مُباشرة.


ألا نُلاحظ هنا أن حديث إريمياش لأهل القرية يحمل في باطنه إسقاطات دينية، بمعنى أنه يتحدث من مُنطلق رجل الدين الذي يقوم بنصيحة مجموعة من الآثمين، أو كأنه أب اعتراف؟ لاحظ قوله: هذا ما يُسمى بالعجز، عجز آثم، هذا ضعف، ضعف آثم، هذا جبن، جبن آثم لأننا- وضعوا هذا في أذهانكم- لأننا لا نرتكب أخطاء لا تُغتفر في حق الغير فحسب، ولكن في حق أنفسنا أيضا. إنه هنا يتحدث بمنطق المسيح الذي قام، وبالتالي يكون حديثه إليهم حديثا مُقدسا، لا شك فيه، مما يُسهل عليه مهمته في الاستيلاء على أموالهم التي عملوا من أجلها طوال العام، فضلا عن تفريقهم، وإخلاء المزرعة التي ترغب السُلطة في الاستيلاء عليها.


إن حديث إريمياش كان من الإقناع، والقدرة على الأداء ما جعل فوتاكي- رغم أنه أكثرهم ذكاء ودهاء- يقتنع به؛ وبالتالي يتقدم باتجاه الطاولة المُسجى عليها جسد الفتاة ليضع نصيبه من المال على الطاولة، وبما أن أهل المزرعة جميعا لا يختلفون عن قطيع الأبقار الذي رأيناه في المشهد الأول في شيء، وبما أن قطيع الأبقار يتبع بعضه بعضا إذا ما رأى أحد أفراده يسلك أي مسلك؛ فلقد اتبع فوتاكي في فعله جميع أفراد أهل المزرعة ليتقدموا الواحد بعد الآخر واضعين أموالهم كلها على الطاولة، ليتركونها تحت تصرف إريمياش/ المسيح المُنقذ الذي سيدخلهم الفردوس- المزرعة الجديدة المزعومة!

هنا يُظلم تار شاشته ليكتب عليها "منظور أمامي" لينتقل بنا إلى أهل المزرعة الذين صدقوا مسيحهم المُخلص بينما يحاولون جمع حاجياتهم الضرورية من أجل الهجرة من المزرعة، شاعرين بالكثير من الأمل والسعادة نتيجة لأن إريمياش سيحقق لهم أحلامهم التي يحلمون بها، وبأموالهم التي تعبوا من أجلها طوال العام.


نُلاحظ أن كاميرا تار تتابع أهالي المزرعة بينما يسيرون لمسافة طويلة جدا على أقدامهم، حاملين معهم أغراضهم حتى وصولهم إلى القصر المهجور في ألماز، حيث طلب منهم إريمياش التحرك إليه، وأخبرهم بأنه سيلتقي بهم هناك في اليوم التالي في السادسة صباحا. وهناك في القصر المهجور الذي لا يوجد فيه أي شيء يحميهم من العواصف والأمطار يبيتون ليلتهم في انتظار الصباح للقاء مُخلصهم، وإن كان ينتابهم بعض الخوق والقلق من أن يكون إريمياش قد قام بخديعتهم، واستولى على أموالهم وفر بها، ورغم أن السيدة كرانر تتذكر الطبيب في الطريق، ورغم أنها تُذكرهم بأنهم قد نسوا الطبيب هناك في المزرعة، إلا أنهم يردون عليها ساخرين، طالبين منها نسيان أمره، فهو لا يفعل شيئا في حياته سوى تناول الكحول والنوم فقط، بل وأخبروها أنها إذا ما كانت قلقة بشأنه فعليها العودة إلى المزرعة والحياة معه فيها هناك.


حينما يُظلم تار شاشته مرة أخرى ليكتب "أتذهب إلى الجنة؟ أتنتابك الكوابيس؟" يعود تار بفيلمه خطوة أخرى للوراء من أجل إعادة تشكيل جزء من فيلمه من وجهة نظر أخرى مُغايرة، أي أن تار يتقدم في فيلمه بصبر وأناة، وبطء شديد؛ نتيجة عودته عدة مرات إلى الحدث من الماضي لإعادة حكايته من منظور آخر مُغاير، وبالتالي نرى إريمياش في اللحظة التي انتهى فيها من أخذ أموال المزارعين في المزرعة، وأخبرهم بأنه سيلاقيهم في اليوم التالي في السادسة صباحا في القصر المهجور، ليتابع المُخرج إريمياش، وبترينا، وشاني- المُلازم لهما مُنذ عادا- في خروجهم من المزرعة حتى وصولهم إلى المدينة ودخولهم لبار شتايجرفالد، حيث يتناولون طعامهم، ويطلب إريمياش من شتايجرفالد سيارته لحاجته لها، لكن الرجل يطلب منه النقود مُقدما؛ فيعطيه إريمياش من أموال المُزارعين، بل يلتقي برجل كي يطلب منه كمية كافية من الديناميت- ربما من أجل تدمير المزرعة بعد رحيل أهلها عنها!


هنا نرى إريمياش يأتي بورقة وقلم، طالبا من بترينا أن يكتب ما سيمليه عليه، ومن ثم يبدأ في إملاء تقريره عن أهالي المزرعة للشرطة قائلا: عزيزي النقيب: الخلود يستمر إلى الأبد لأنه لا يُقارن بالشيء العابر المُبتذل المُؤقت، كثافة الضوء الذي يُبدد الظلام تبدو كأنما تضعف، هناك نقص في الاستمرارية، انقطاعات، فجوات، ثم هناك في النهاية العدم الأسود، ثم هناك عشرات الآلاف من النجوم النائية، من المُستحيل بلوغها مع ومضة بالغة الصغر في المُنتصف. الأنا، أفعالنا من المُمكن أن تُثاب أو تُعاقب في الخلود، وهناك فقط لأن لكل شيء مكان، مكان بعيد عن الواقع، حيث كل شيء له مكانه، حيث كل شيء كان دائما، حيث كل شيء سيكون، حيث كل شيء فيه الآن، المكان الأصلي الوحيد.


يستمر إريمياش يملي على بترينا تقريره الذي بدأه بهذه المُقدمة المُغرقة في التفلسف، بينما بترينا يكتب من ورائه. ولعلنا نُلاحظ أن تار هنا قد اهتم إلى حد بعيد بتفلسف إريمياش في كتابة مُقدمة تقريره الأمني عن أهل المزرعة للشرطة؛ فهذه المُقدمة ليست تفلسف إريمياش في جوهره، بل هو تفلسف بيلا تار ذاته، أي أنه يسقط على شخصية إريمياش شخصيته المُتفلسفة في النظر إلى الأشياء، ومن ثم يستنطق الشخصية بلسانه، وأفكاره هو. إنه تار المُستغرق في تساؤلاته، وأفكاره، وتأملاته حول الوجود والبشرية، ومدى جدواه من عدمها.

ربما يمكن لنا أخذ مُقدمة إريمياش الفلسفية في تقريره على محمل آخر لتكون بمثابة رد إريمياش على النقيب الذي أرغمه على أن يعمل مُخبرا معه على أهل القرية، وبما أن النقيب كان قد تحدث معه عن معنى الحرية، وبأن البشر لا يستحقونها، وأنها بمثابة أمر إلهي، فإريمياش هنا يرد عليه بطريقته التي نلحظ فيها أنها تحمل قدرا ما من الإيمان- رغم شره المُطلق- ولا عجب في ذلك؛ فجميع شخصيات الفيلم رغم شرهم، وخداعهم لبعضهم البعض، وخياناتهم، فهم يعتمدون على خلفيات إيمانية في نهاية الأمر.


يُظلم تار شاشته مرة أخرى ليكتب: "منظور خلفي"، وهي الحلقة التي يعود فيها مرة أخرى خطوة إلى الخلف، حيث يعود إلى أهل المزرعة المُنتظرين لمُخلصهم/ إريمياش كما سبق له أن وعدهم. لكن إريمياش يتغيب عنهم لفترة طويلة، ولا يذهب إليهم في الموعد الذي وعدهم به؛ مما يجعل أهالي المزرعة يتيقنون جميعا بأن إريمياش قد خدعهم، واستولى على أموالهم جميعا. نُلاحظ ذلك في قول مُدير المدرسة: أنا لا أفهم إريمياش، كان شخصا مثلنا والآن يبدو كإله، لا تستطيع ببساطة فهم ما الذي يريده، كل الهراء الذي قاله، جذوع محنية، وصرخات استغاثة، ثم التهديد بواسطة الطفلة، الطريقة التي تحدث بها أمس، كنت قد بدأت أصدقه، لماذا يثير المتاعب بحق الجحيم؟ لو عرفت أنه يريد نفس الشيء الذي نريده لكنت قد وفرت عليه المتاعب. هنا يبدأون في تجاذب أطراف الحديث المتوتر، حتى أن كل من شميدت، وكرانر يهجمان على فوتاكي ليوسعانه ضربا؛ لأنه كان أول من تقدم باتجاه إريمياش مُقدما له المال، ومن ثم فقد كان فعله هو السبب في انسياقهم من خلفه، وتسليمهم المال لإريمياش.


لكن، في هذه اللحظة التي ينزف فيها أنف فوتاكي يصل إريمياش ليبدأ في لومهم لأنهم لا يثقون به، وانتابهم الشك فيه للحظة مما يشعرهم بالخجل الشديد منه، فنراه يقول لهم بثقة ولوم- كأنهم مجموعة من الأطفال أمامه ويقوم بتأديبهم: أبذل ما في وسعي لمُساعدتكم، لم أذق طعم النوم لثلاثة أيام، مشيت لساعات تحت المطر المُنهمر، هرعت من مكتب إلى مكتب لأذلل العقبات، وأنتم تتصرفون كالخنازير الصغيرة عندما يتأخر عشاؤهم.

يستمر إريمياش في لومهم وإخبارهم بمُخططه قائلا: علينا تأجيل خططنا المُتعلقة بالمزرعة مُؤقتا؛ وذلك لأن بعض الناس لا يستحسنون خلق مشروع على مثل تلك الأسس الغامضة، اعتراضهم الأساسي هو حقيقة كون المزرعة مُنعزلة تقريبا وبعيدة عن البلدة؛ سيجعل التحكم فيها من الصعوبة بمكان، بناء على ذلك، وفي الظرف الراهن فإن الطريقة الوحيدة للنجاح في مشروعنا هي التفرق مُؤقتا في أنحاء البلاد حتى يُصاب هؤلاء الرجال بالحيرة الشديدة، ومن ثم نستطيع العودة إلى هنا والبدء في العمل في مشروعنا، من الآن فصاعدا أنتم أناس مُميزون لمُساعدتكم في أمر حيث الطاعة، والتفاني، والحزم أشياء ضرورية تماما، مغزى أهدافنا يتجاوز هذه الأهداف بحد ذاتها، التفرق هو مُجرد تكتيك، ربما لن تصبحوا على اتصال مع بعضكم البعض لبعض الوقت، ولكني سأبقى على اتصال معكم، خلال ذلك، لا تعتقدوا بأنكم ستبقون متوارين في خلفية الأحداث مُنتظرين تحسن الأمور من تلقاء نفسها، ما يتوجب عليكم فعله هو الاستماع إلى الناس المُحيطين بكم، المُشاهدات، القصص، الأحداث التي تتصل بالموضوع، سيحتاج كل منكم إلى اكتساب القدرة على التمييز بين الإشارات الجيدة والسيئة، بكلمات أخرى، بين الصواب والخطأ.


إن إريمياش هنا لم يكتف بالاستيلاء على أموال المُزارعين، سالبا إياها منهم، بل هو يعمل على تشريدهم، وتفريقهم، وقطع صلاتهم ببعضهم البعض إلى الأبد لتستولي السُلطة على المزرعة، ويكسب هو المال الوفير الذي أخذه منهم، بل هو- في حالة إسقاط- يحاول جعلهم مُجرد جواسيس/ مُخبرين على الآخرين بدعوى أن ثمة عدو ما يقف في طريقهم، ويمنع بناء المزرعة السعيدة الموعودين بها، وبالتالي فلا بد لهم من التجسس على الآخرين باعتبارهم عدوهم الوهمي، وإخباره بكل ما يسمعونه، رغم أننا نعرف أنه- مُستقبلا- لن يكون له وجود، وبالتأكيد سيختفي من حياتهم.

يشعر كرانر بالشك العميق في إريمياش مما يجعله يطلب منه استرداد المال، وبالفعل يخرج إريمياش المال مُعطيا إياه، طالبا منه تقسيمه على الجميع، لكن السيدة كرانر تطلب من زوجها إعادة المال لإريمياش، كما أن شميدت يطلب نفس الطلب، إلا أن إريمياش يتظاهر بالغضب، وبأنه لا يرغب في أخذ المال مرة أخرى، بل ويخبرهم بأنه قد صرف النظر عن مشروع المزرعة الجديدة نتيجة شكوكهم فيه.


إن إريمياش هنا يدفع التعساء المساكين من أهل المزرعة إلى محاولة استرضائه، والتوسل إليه من أجل أخذ المال مرة أخرى، أي أنهم يتوسلون إليه من أجل سرقتهم؛ مما يجعله في النهاية يتظاهر بأنه قد رضي، ويخبرهم بأنه سيقوم بنقلهم إلى المدينة من أجل إرسال كل أسرة منهم إلى مكان مُختلف- كما سبق له أن أخبرهم- إلى أن يعودوا مع بعضهم البعض فيما بعد من أجل بناء المزرعة المزعومة.

يقوم إريمياش بنقل أهالي المزرعة على ظهر السيارة التي استأجرها من شتايجرفالد، وهناك في المدينة يفرقهم كل على حدة إلى مكان ومنطقة مُختلفة لا يعرف أحدهم عنها شيئا، بل ويعطي كل أسرة ألف فورنت للطوارئ إلى أن يستقر كل شخص في المكان الذي قام بإرساله إليه.


يُظلم تار شاشته مرة أخرى ليكتب: "مجرد متاعب وعمل" لينتقل إلى رجال الشرطة الذين يقرأون تقرير إريمياش عن أهل المزرعة، وهو التقرير الذي يحتقرهم فيه جميعا، ويصف كل منهم واحد تلو الآخر بصفات نابية، وساخرة، ومُزدرية، كما يخبر رجال الشرطة عن خطته التي قام بها لتفريقهم جميعا عن بعضهم البعض، وإخلاء المزرعة.

يقوم رجلي الشرطة اللذان يقرآن التقرير بتعديله بطريقة احترافية لرفعه إلى رؤسائهما، باعتبارهما يؤديان عملا وطنيا لا بد منه، رغم أنهما يقومان بتشريد مجموعة من التعساء، والمُساهمة في المزيد من بؤسهم الأبدي الذي سيكون وقعه أقوى على نفوسهم.

في الإظلام الأخير للشاشة الذي كان بعنوان "الدائرة تكتمل" يعود تار مرة أخرى خطوات إلى الخلف، فهو لا ينسى شخصياته الفيلمية، وبالتالي نرى الطبيب الذي بات وحيدا في المزرعة، رغم أنه يظن بأن أهالي المزرعة ما زالوا موجودين فيها، لكنهم لا يخرجون من بيوتهم بسبب العاصفة، والأمطار الغزيرة التي لا تتوقف عن الهطول.


ربما نُلاحظ هنا أن تار- على طول فيلمه الطويل- قد دار بنا في مجموعة من الدوائر- للأمام والخلف- التي تُشكل في النهاية دائرة واحدة مُتسعة كثيرا، وبالتالي فهو يغلق فيلمه على نفس النقطة التي بدأ منها، وهو ما يفسره عنوان الفصل الأخير "الدائرة تكتمل"، أي أننا لم نذهب بعيدا، ولم يحدث الكثير من الأحداث التي رأيناها على مدى سبع ساعات ونصف الساعة، لذلك نرى الطبيب في بيته الذي لا يغادره إلا نادرا، بينما يجلس في مكانه أمام مكتبه، خلف نافذته ليكتب: أثناء ثلاثة عشر يوما أمضيتهم في المُستشفى، السيدة كرانر لم تُسيء التصرف مُجددا، كل شيء تماما كما تركته، لم يجرؤ أحد منهم على مُغادرة المنزل، لا بد أنهم مُستلقون في أسرتهم يشخرون، أو يحدقون في السقوف، ليست لديهم أدنى فكرة أن هذه السلبية الخاملة هي التي تتركهم تحت رحمة أشد مخاوفهم رعبا.

إن تار من خلال هذا المشهد يؤكد لنا على أن الحقيقة ليست ذات وجه واحد دائما، بل هي مُختلفة تبعا للمنظور الذي يتم النظر إليها منه، فالطبيب هنا يرى أهل القرية من خلال وجهة نظره، وبالتالي فهم كسالى، ينامون في أسرتهم، ليس لديهم الجرأة على الخروج، في حين أن المنظور العام/ الآخر يؤكد لنا بأن أهل القرية قد تركوها، ولن يعودوا إليها مرة أخرى، مُتبعين في ذلك أوهامهم التي أوهمهم بها إريمياش- هذا المنظور المُختلف سبق لنا أن رأيناه على طول الفيلم من خلال تقدم تار خطوة للأمام، وخطوات أخرى للخلف.


يستمع الطبيب إلى صوت أجراس الكنيسة مما يجعله يظن بأن ثمة ضعف ما قد انتاب سمعه، فيكتب: ثورة كونية، سمعي آخذ في الضعف. ولكن استمرار صوت أجراس الكنيسة في التعالي يجعله يتوقف عن الكتابة، ليرتدي ملابسه، ويخرج مرة أخرى تحت الأمطار الغزيرة، بل ويمشي لمسافة طويلة جدا- عدة كيلو مترات- حتى يصل إلى الكنيسة البعيدة المُتهدمة، والتي لا تمتلك برجا، ليجد هناك رجلا يكاد أن يكون مذهولا تماما، غائبا عن العالم المُحيط به حتى أنه لا يرى الطبيب الواقف أمامه- فهو يعيش في عالمه الداخلي- بينما يدق جرس الكنيسة بنشاط، وصبر، وأناة، ويردد جملته: الأتراك قادمون. وهي الجملة التي لا يتوقف عن تكرارها- ربما يقصد بيلا تار هنا من هذه الجملة "الأتراك قادمون" الإسقاط التاريخي على النزاع، والحرب القديمة التي دارت بين العثمانيين، والمملكة المجرية الضعيفة، حيث حكمت الامبراطورية العثمانية المملكة المجرية في الفترة من 1541م حتى 1699م، وقد شمل التواجد العثماني الأراضي الجنوبية، حيث كانت تقريبا منطقة السهول المجرية العظمى، وإذا ما عرفنا أن فيلم تار قد تم تصويره في منطقة السهول المجرية العظمى؛ يسهل علينا الربط بين التاريخ والجملة التي يرددها الرجل الذي يدق جرس الكنيسة باعتبارها تحذيرا من العثمانيين، وإسقاطا على التاريخ المجري.


يعود الطبيب مرة أخرى إلى منزله المُنعزل فيه، ليبدأ في سد نافذته بمجموعة من ألواح الخشب التي يدقها بالمسامير، مما يجعل المنزل يغرق في الظلام بالكامل- إظلام العالم الفيلمي وإنهائه، أو انتهاء العالم والقضاء عليه تبعا لفلسفة تار المُتشائمة- أي أن الطبيب قد سأم من هذا العالم، ويرغب في المزيد من العزلة والانقطاع الكامل عنه، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى موته داخل منزله بالضرورة.

نستمع إلى صوت الطبيب الذي أصبح في ظلمة دامسة بينما يكتب: ذات صباح، في نهاية أكتوبر، مُنذ مُدة ليست طويلة، القطرات الأولى من أمطار الخريف التي تهطل طويلا بشكل لا يُحتمل، سقطت على الأرض المُتصدعة العطشى على الجانب الغربي من المزرعة حتى أن المُستنقع الآسن جعل الدروب مُتعذر اجتيازها حتى بدايات الصقيع الذي عزل البلدة أيضا. استيقظ فوتاكي على صوت أجراس. الكنيسة الأقرب كانت على بُعد 8 كيلو مترات إلى جنوبي غرب حقل هوخمايز القديم. كنيسة مُنعزلة، ولكن ليس فقط لم يكن هناك جرس، بل إن برج الكنيسة قد تم تدميره أثناء الحرب.



إن تار لديه من المقدرة، والإتقان، والدأب ما جعله يستطيع إكساب فيلمه معناه الملحمي الأسطوري الذي لا بد أن يبقى عالقا لمُدة طويلة في أذهان من يشاهده، فلقد أغلق فيلمه على ما بدأه، وإذا ما كنا قد استمعنا إلى صوت الراوي في بداية الفيلم يردد نفس الكلمات التي كتبها الطبيب في المشهد الأخير، فإن تار قد أغلق فيلمه على الطبيب الذي غرق في الظلام الكامل بينما يبدأ في كتابة ما حدث في القرية- أحداث الفيلم- أي أن نهاية الفيلم هي بدايته التي ستعود مرة أخرى في شكل دائري، وبالتالي فالطبيب في النهاية سيبدأ في كتابة الأحداث التي سبق لنا أن شاهدناها، وهي الأحداث الأسطورية، الملحمية، التي ربما ستظل تحدث مُتكررة في دورات دائرية أبدية لا تنتهي، وهو ما يُكسب الفيلم معناه الأسطوري الملحمي في نهاية الأمر.

إن الفيلم المجري "تانجو الشيطان" للمُخرج والسيناريست بيلا تار من الأفلام الملحمية ذات الطابع الأسطوري التي تُقدم رؤية كونية شاملة للوجود الإنساني وانهياره، وتفسخه، وهي من الأفلام التي لا يمكن تكرارها كثيرا في تاريخ السينما العالمية، ورغم أن الفيلم كان من الطول المُبالغ فيه ما قد يجعل المُشاهد يشعر بالملل منه في النهاية، وبالتالي يقع المُخرج في مأزق انصراف المُشاهدين عن فيلمه، إلا أن تار كان بارعا من خلال أسلوبيته الخاصة في صناعة السينما، وهي الأسلوبية القادرة على تنويم المُشاهد تنويما مغناطيسيا، ومن ثم يصبح مسلوب الإرادة أمام كاميرا تار البطيئة الكسولة، القادرة على التأمل، والتلصص على الآخرين أيضا.

إنها السينما الواثقة من ذاتها، المُعتزة بنفسها، المُتعالية على الجميع لأنها تُدرك جيدا قيمتها، وأهمية ما يتم تقديمه من خلالها؛ لذا لا يهتم تار كثيرا بالجمهور لأنه بالتأكيد سيظل شاخصا لما يقدمه تار، ولا يعنيه كثيرا المُونتاج، لذا فكاميرته لا تقطع كثيرا، ولا تميل إلى القطع المُونتاجي، ولا يعنيه الوقت- كما يشعر به المُشاهد- لأنه يرى أن الوقت هو الأساس في هذا الكون، فضلا عن نسبية الشعور به، ومن ثم فالوقت يمتلك سطوة قادرة على تدمير كل شيء، ودفع الجميع إلى الجنون. إن تار هنا مُخرج يعرف قيمة ما يقدمه، استطاع في هذا الفيلم التعبير عن فلسفته السينمائية، والحياتية بالكامل بشكل نموذجي وملحمي، وكوني. لقد نجح في وضع كل ما يفكر فيه داخل هذا الفيلم، وبالتالي اكتسب مكانته التاريخية، وقيمته، وجلاله، ومهابته، واحترام الجميع له نتيجة استغراقه الكامل في فلسفته، ورؤيته السينمائية التي قدمت لنا نظرته للحياة، والوجود الإنساني الغارق في الشرور، والخداع.


إن المُخرج المجري بيلا تار حينما قام بصناعة هذا الفيلم امتلك من الجرأة ما لم يمتلكه غيره من المُخرجين، وبالتالي غامر بفيلمه، ومُمثليه، وأموال الإنتاج من أجل فيلم شديد الاستغراق والانغلاق على ذاته، مُنفصل تماما عن العالم الواقعي المُحيط به، فلا عالم خارج هذا العالم، ولا قانون غير قانونه الذي يحكمه- عادة تار في كل أفلام المرحلة الأسلوبية الثانية- حتى أن كل ما دار فيه، وكل شخصياته كانت مُنبتة الصلة بشكل كلي عن الحياة التي نعرفها، يدور في شكل حلمي ننتظر دائما الإفاقة منه، ورغم ذلك فنحن واثقين كل الثقة أنها شخصيات تُعبر عنا تعبيرا حقيقيا، لا يمكن لها أن تنفصل عن حيواتنا التي نحياها.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد أغسطس 2024م. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1]  Charles John Huffam Dickens تشارلز جون هوفام ديكنز، من مواليد 7 فبراير 1812م، وتوفي في 9 يونيو 1870م. هو روائي انجليزي، وناقد اجتماعي، ابتكر بعضا من أشهر الشخصيات الخيالية في العالم، ويعتبره الكثيرون أعظم روائيي العصر الفيكتوري. تمتعت أعماله بشعبية غير مسبوقة خلال حياته، وبحلول القرن العشرين اعترف به النقاد والعلماء باعتباره عبقريا أدبيا. رواياته وقصصه القصيرة تُقرأ على نطاق واسع اليوم. من أعماله Oliver Twist أوليفر تويست، وThe Pickwick Papers أوراق بيكويك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق