الاثنين، 14 أكتوبر 2024

نوفمبر الحلو: فكرة مُبتذلة لصناعة فيلم رومانسي!

هذا فيلم مبني بالكامل على مجموعة من الأكاذيب، والسلوكيات المرضية التي تبدو لنا وكأنها لا علاج لها، لكن صُناع الفيلم يرغبون، بإصرار، في الإيحاء لنا بأن ما يدور أمامنا هو في واقع الأمر النعيم الرومانسي الذي لا بد أن يتمناه، ويرغبه كل منا، وبالتالي سنحلم بأن نعيشه بتبادل الأدوار بيننا وبين المُمثلين في الفيلم- أي الرغبة في تمرير الأمراض السيكولوجية باعتبارها نعيما.

نحن أمام فيلم، في واقع الأمر، يتلاعب بالمُشاهد، وهو تلاعب يكاد أن يقترب من السُخرية منه، والاستهانة به وبمقدرته على التفكير ومنطقة الأمور. إنه الإحساس الطبيعي الذي لا بد أن ينتاب كل من يشاهد الفيلم، وبالتالي تبدأ مشاعر الغضب تتصاعد في داخله حينما يكتشف هذه الخدعة التي وقع ضحية لها؛ مما سيترك أثرا عكسيا، وشديد السلبية على الفيلم من قِبل من شاهده!

سبق أن تم تقديم هذا الفيلم فيما قبل بنفس العنوان Sweet November نوفمبر الحلو عام 1968م للمُخرج الأمريكي Robert Ellis Miller روبرت إليس ميلر، بطولة المُمثلة الأمريكية Sandy Dennis ساندي دينيس، والمُمثل الإنجليزي Anthony Newley أنتوني نيولي، ولعل كل من شاهد الفيلمين يُدرك جيدا أن الفيلمين يتطابقان في كل شيء، الأحداث، والمغزى، والشخصيات، والحبكة، حتى أن اسم المُمثلة في كلا الفيلمين كان هو "سارة"، أي أنه ليس ثمة اختلاف بين النسختين في عام 1968م، و2001م اللهم إلا في نوع المرض الذي تُعاني منه سارة، حيث كان في الفيلم الأصلي مرض نادر جدا لا يمكن الشفاء منه، ثم تطور الأمر في الفيلم الحالي إلى نوع من أنواع السرطانات التي أهملتها سارة، وفقدت الأمل في شفائها.


تطابق الفيلمين بهذا الشكل، وعدم اختلافهما في أي شيء من أحداثهما، أو شخصياتهما لا بد له أن يثير الكثير من الحيرة والتساؤل في نفس المُشاهد: لِمَ أقدم المُخرج الأيرلندي Pat O’connor بات أوكونور على إعادة إصدار الفيلم مرة أخرى رغم أنه لم يضف إليه أي جديد اللهم إلا مُمثلين جُدد فقط؟! وهل معنى إعجاب المُخرج بفيلم ما، أيا كان مستواه، يُعد مُبررا له من أجل إعادة صناعته مرة أخرى بنفس تفاصيله؟! أليس من الأجدى له أن يقوم بصناعة فيلم جديد ومُختلف قد يحمل نفس الروح والثيمة المُعجب بهما، لكنه يحمل في نفس الوقت بصمة المُخرج الخاصة، ومقدرته على صناعة سينما مُختلفة وذات خصوصية؟!

بالتأكيد ليس معنى حديثنا هنا أننا نرفض إعادة صناعة بعض الأفلام العلامات في تاريخ السينما العالمية، لا سيما أن هناك العديد من الأفلام التي من المُمكن لنا إعادة صناعتها في كل سينمات العالم، لكن مثل هذه الأفلام الصالحة للإعادة تحمل في جوهرها إمكانية صلاحيتها لكل الثقافات والأزمنة، فضلا عن قيمتها الفنية، ومُفارقتها عن غيرها من الأفلام، بمعنى فرادتها، مثل فيلم ChungKing Express للمُخرج الهونج كونجي Wong Kar Wai وونج كار واي، وهو الفيلم الذي أعلن المُخرج الأمريكي Quentin Tarantino كوينتين تارانتينو بحماس عن رغبته في إعادة إصداره في نسخة أمريكية، كما أعلن أنه فيلم لا بد من إصداره بنسخ مُتعددة في كل مكان من العالم، وكما رأينا أيضا مع الفيلم الإيطالي Perfect Strangers غرباء تماما 2016م، وهو الفيلم الذي تم تقديم نُسخ مُتعددة منه في الكثير من دول العالم نظرا لفرادته، وأهمية تيمته التي قام عليها.


إذن، فهذه الأسئلة، وغيرها من التساؤلات الخاصة بالصناعة، في جوهرها، لا بد لها من الانسيال على ذهن المُشاهد المُدقق، لا سيما من يعمل في مجال السينما، بمُجرد انتهائه من مُشاهدة فيلم Sweet November نوفمبر الحلو 2001م للمُخرج الأيرلندي بات أوكونور؛ نظرا لضعف الفيلم، وتهافته، وتلفيقيته التي انبنى عليها مُنذ المشهد الأول.

قد يبدو لنا فيلم "نوفمبر الحلو" فيلما رومانسيا ساحرا من الناحية الظاهرية- وهذا ما حرص عليه صُناعه جاهدين- وبالتالي سينجح في جذب المُشاهد في هوة لا قرار لها، مُستمتعا بالكثير من المشاعر الجميلة، والأحاسيس الدافئة، لكنه بمُجرد انتهاء الفيلم نهايته المُفاجئة؛ لا بد أن تنتابه حالة من الإفاقة الغاضبة، ومشاعر الانزعاج نتيجة للتلاعب به وبعقله.


يبدأ المُخرج فيلمه على صوت تأوهات جنسية مُلتذة، بينما تحدق الكاميرا في المنبه الذي سُرعان ما سينطلق صوته، لتمتد يد من خارج الكادر بعصبية محاولة إيقافه، ثم تنتقل الكاميرا إلى مُتابعة نيلسون- قام بدوره المُمثل الكندي Keanu Reeves كيانو ريفز- الذي يُشارك الفراش مع حبيبته أنجيليكا- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Lauren Graham لورين جراهام- فنراه ينهض من الفراش بمُجرد انتهائه من الجنس بينما هو في عالم آخر تماما، لنسمعه يقول ببرود: كان هذا جيدا. ثم يبدأ في الحديث إلى نفسه بينما يتجه نحو الحمام، غير مُهتم تماما بأنجيلكا التي كان يمارس معها الجنس مُنذ برهات.

إن بداية المُخرج لفيلمه بهذا المشهد لم يكن من قبيل المُصادفة؛ فهو يُدرك جيدا كيف يقدم لنا شخصيته المهووسة بالعمل حتى أنها تبدو دائما ذاهلة عن كل ما يدور من حولها، اللهم إلا العمل الذي تدمنه.


دعنا نتأمل مُفردات المشهد الفيلمي السابق بروّية للتدليل على ما ذهبنا إليه: منبه تقترب عقاربه من تمام الساعة، صوت تأوهات جنسية لزوجين في الفراش، ثم يدق المنبه في نفس اللحظة التي ينتهي فيها نيلسون من الجنس مع شريكته، نهوض نيلسون بمُجرد انتهائه ليقول عبارته: كان هذا جيدا. عدم الالتفات إلى أنجيلكا وكأنها غير موجودة، أو كأنه لم يكن يمارس معها فعلا حميميا مُنذ لحظة، انغماسه الكامل في ذاته أثناء اتجاهه للحمام بينما يُحادث نفسه عن حملته الإعلانية التي يقوم بها عن أحد مُنتجات "الهوت دوج".

إن تقديم المُخرج لنيلسون مُنذ المشهد الأول بهذا الشكل يؤكد على أن المُخرج يُدرك جيدا كيفية تقديم شخصيته المُدمنة للعمل، وهو ما يجعل الشخصية غير مُنتبهة، أو مُهتمة بكل ما يدور من حولها، وهو ما يجعله أيضا غير مُهتم بأنجيلكا، مما يجعلنا نؤكد على أن عبارته: كان هذا جيدا. بمُجرد انتهائه من الجنس، هو مُجرد مفهوم يخصه، أو اعتقاد داخلي لديه هو فقط بأن هذه الجولة الجنسية كانت جيدة، لكنها في واقع الأمر- إذا ما تأملنا المشهد جيدا- لم تكن جيدة بالنسبة لشريكته أنجيلكا التي يبدو على وجهها التبرم، وعدم الرضى أو السعادة. إنها جيدة بالنسبة له فقط، وفي عالمه الخاص به، في ذهنه، أي أن المُخرج هنا قدم لنا المشهد التأسيسي الأول بشكل يجعلنا نُحيط تماما بشخصية نيلسون التي لا يعنيها أي شيء في الحياة سوى عملها.

هذا الإدمان للعمل، والانغماس في الذات سيؤكد عليه المُخرج مرة أخرى حينما تطلب منه أنجيلكا أن يهدأ لأنها في حاجة إلى الحديث معه عن حياتهما، فنعرف أن والديها سيزوران سان فرانسيسكو، وأنها تطلب منه أن يقابلهما لأنها الزيارة الثالثة لهما، وهو لم يقابلهما من قبل، لكنه يتعلل لها بأنه لا يمتلك الوقت لذلك؛ فتقول: أتعلم، هناك بشر لا يعملون 24 ساعة في اليوم، هم يتوقفون، يرتاحون، لديهم حياة. ليرد عليها من دون أي اهتمام: أنا لدي حياة أنجيليكا، وأنا مُتأخر عليها!


هذا الرد من نيلسون لرفيقته لا يحمل في جوهره إلا الاستهانة، وعدم العناية أو الاهتمام بها، وربما السُخرية من حديثها ومُعتقداتها، أيا كانت، وهو ما من شأنه بالتأكيد أن يؤثر على أي علاقة بين رفيقين إذا ما كان هذا هو التعامل بينهما.

إدمان نيلسون لعمله سنُلاحظه حينما يخرج من حمامه، ويُعد فنجال القهوة، الذي يشربه سريعا أثناء وقوفه أمام عشر شاشات تلفاز مُختلفة تنقل لنا الأخبار، والعديد من الإعلانات، فضلا عن هاتفه المحمول الذي يتحدث فيه بسرعة مع شريكه في العمل فينس- قام بدوره المُمثل الأمريكي Greg Germann جريج جيرمان- أي أن نيلسون شخصية غير صالحة للحياة، بل هو مُجرد ماكينة من أجل إنتاج المزيد من الإعلانات التي يعمل في مجالها، وناجح فيها إلى حد بعيد.


إذن، فالمُخرج هنا ناجح في تقديم المشاهد التأسيسية لتعريفنا بنيلسون الذي ستتابعه الكاميرا في الذهاب إلى عمله، وانهماكه كلية في حملته الإعلانية التي يعدها عن أحد مُنتجات "الهوت دوج"، حتى أنه لم يهتم بالجائزة التي حصل عليها حينما حاولت السكرتيرة تقديمها له، وتركها لشريكه في العمل/ فينس ليستلمها، بينما ذهنه مُنشغل في الحملة. لكن إحدى مُساعداته تخبره بأنه لا بد له من الذهاب إلى المرور من أجل تجديد رخصة قيادته، وحينما يطلب منها إعادة جدولة موعده مع المرور؛ تخبره بأنه إذا لم يذهب سيفقد رخصته، وبالتالي لن يستطيع قيادة سيارته، وإذا ما قادها من دون رخصة سيتم سجنه، وهو بالتأكيد لا يمتلك الوقت الكافي لكل ذلك، مما يرغمه على الذهاب إلى اختبار المرور.


إن اضطرار المُخرج للجوء إلى تجديد رخصة القيادة كان لا بد منه- حسب المنطق الفيلمي الذي رأيناه- من أجل اللقاء بسارة هناك- وإلا ما استمرت الأحداث كما رسمها صُناع الفيلم- أي أنه كي يلتقي بسارة- قامت بدورها المُمثلة الجنوب إفريقية الأصل الأمريكية الجنسية Charlize Theron تشارلز ثيرون- ويكتمل الفيلم كما خطط له صُناعه كان لا بد من ذهابه إلى المرور، لكننا نعرف جيدا أن تجديد رخصة القيادة لا يتطلب اختبارا تحريريا في ورقة من أسئلة وإجابات، ومُراقب لمُراقبة المُمتحنين- قد نقبل ذلك إذا ما كانت هذه هي المرة الأولى لاستخراج رخصة القيادة، وليس تجديدها- لكن، لأن سارة لا بد لها من اللقاء بنيلسون، وكي يخلق المُخرج الحبكة التي تجعلهما يشتبكان، قام بإعداد لجنة تحريرية للاختبار من أجل تجديد رخصة القيادة، مُتجاهلا في ذلك واقعية الأمور ومنطقيتها!

تدخل سارة إلى لجنة الامتحانات مُحملة بأكياس بقالة كثيرة تقع منها أثناء محاولة تحركها مما يثير الكثير من الفوضى، وتجلس بالقرب من نيلسون، وأثناء الاختبار يحاول أن يعرف منها إجابة أحد الأسئلة مما يجعل المُراقب ينتبه إلى حديثهما، ويطردها من اللجنة بعد تمزيق ورقة إجابتها، مُخبرا إياها بأنها من المُمكن لها أن تُعيد الاختبار مرة أخرى بعد 30 يوما.


سنُلاحظ أن نيلسون في هذا المشهد لم يهتم أي اهتمام بطرد سارة بسببه رغم أنها لم تفعل أي شيء، بل هو الذي حاول سؤالها، فرأيناه يضع وجهه في ورقة الأسئلة الخاصة به، ولم يعرها اهتماما حتى حينما قالت له أثناء خروجها أنها ستخرج بعدما تم إلغاء اختبارها بسببه، مما يُدلل على عدم اهتمامه بالآخرين، أي أن اهتمامه الوحيد متمحور هنا حول ذاته فقط. هذه الأنانية في التعامل هي ما سبق لنا أن رأيناه بمُجرد انتهائه من مُمارسة الجنس مع رفيقته، وهو ما سنراه مرة أخرى حينما يخرج من اختباره ليجد سارة جالسة على مُقدمة سيارته، لتخبره بأنه مدين لها بتوصيلة لأنه قد حرمها من رخصتها وقيادة سيارتها لمُدة شهر، فنراه يجيبها بغير اهتمام: كم تكسبين في الشهر؟ لا يبدو أنه مبلغ كبير، أنا سأغطي نفقاتك. ثم يخرج بطاقته الشخصية ليمد يده بها إليها قائلا: خذي، اتصلي بسكرتيرتي، وسوف نعالج الأمر. أي أنه لا يعنيه البشر، وما قد يحدث لهم بسببه، ولا يمتلك أي شكل من أشكال التعاطف. نتأكد من ذلك حينما تسأله سارة: هل هذا بدافع الندم أم أنك خائف من أن جلوسي على السيارة سيسبب لها انبعاجا؟ ليقول بلا اهتمام: الانبعاج. لكن سارة تقول: هذا ما اعتقدته.


تستطيع سارة التوصل إلى عنوان بنايته التي يسكن فيها، وتصل إليه طالبة منه إيصالها إلى أحد الأماكن، وحينما يرفض بسبب ضيق الوقت لديه، ويبدأ في التعامل معها بصلف تقول له غاضبة: أعتقد إني لم أقابل وغد مثلك في حياتي، أتعرف أمك بأنك تعامل النساء كأنهن عاهرات أم أنها جعلتك تصدق أنه لكي تكون مُهذبا يجب أن تحتقر باقي العالم؟

هنا يكون المُخرج قد رسم لنا بالفعل السمات الشخصية بالكامل لشخصية نيلسون المُدمن لعمله، المُنغمس في ذاته، الذي يتعامل مع العالم بالكامل من دون اهتمام أو تعاطف، بل هم بالنسبة له مُجرد أشياء لا قيمة لها، فلا قيمة إلا لما يقوم به من عمل فقط.

لكن سارة تبدأ في إثارة الكثير من الضجيج أمام جيرانه في البناية، وتحرجه أمامهم؛ مما يجعله يرضخ لرغبتها في إيصالها إلى المكان الذي ترغب فيه، حيث تأخذه إلى مكان بعيد هو في حقيقته مُختبر حيوانات، وتقوم باقتحام المكان لسرقة كلبين صغيرين يخصانها، كان سيتم إجراء بعض التجارب عليهما، وتطلب منه الهروب من المكان بسرعة.


حينما يوصل نيلسون سارة إلى منزلها تطلب منه مُرافقتها للداخل لمُشاركتها في كوب من الكاكاو، لكنه يرفض، فتعرض عليه اتفاقا: أن يشاركها في كوب الكاكاو في مُقابل عدم الذهاب إليه من أجل إيصالها لأي مكان آخر، لكنه يؤكد لها على أنه لا يمتلك الوقت لذلك؛ مما يجعلها تهبط من السيارة مُخبرة إياه بأنها ستلقاه في الصباح من أجل إيصالها إلى أي مكان ترغب فيه، وهو ما يجعله يرضخ لطلبها بالدخول إلى منزلها ومُشاركتها.

لعلنا نُلاحظ هنا أن سارة تحاول الضغط على نيلسون بكل ما تستطيع من أجل إنشاء علاقة معه- ربما هي مُعجبة به- لكننا نُلاحظ أنها تقول له: أنت مُدمن عمل، وفي مثل هذه الحالة المُتقدمة كل علاقاتك العاطفية تذبل وتتحول إلى لا شيء، لو تُركت بدون علاج ستصبح مُنعدم العاطفة. ثم تقترح عليه أن تقوم هي بعلاجه باعتباره مسجونا في صندوق، وأنها هي الوحيدة القادرة على فتح هذا الصندوق ليرى أشعة القمر. وتطلب منه أن ينتقل إلى منزلها للإقامة معها لمُدة شهر بالكامل- لا أكثر ولا أقل- بشرط أن يتخلى عن أي شكل من أشكال العمل طوال هذا الشهر، لكنه يرفض، ويخبرها بأنه لديه حبيبة، لكنها تخبره بأنها تشفق على هذه الحبيبة، وتحاول إقناعه بقبول عرضها إلا أنه يرفضه ويغادر منزلها.


هل ما قالته سارة لنيلسون كان صحيحا؟ بالتأكيد هو صحيح؛ فهو مُدمن عمل، لا يرى في الحياة أي شيء سوى عمله، حتى أنه لا يرى حبيبته، لكن العرض الذي قدمته له هو المُثير للكثير من الحيرة والتساؤلات: ما معنى أن ينتقل للإقامة في بيتها لمُدة شهر، وهل هي طبيبة، وما الذي يدعوها لذلك، ولِمَ تُضيع وقتها لمُدة شهر من أجل علاجه- إذا ما كانت ترى أنه مريضا- ولِمَ تُصر على أنه في حاجة إلى المُساعدة، وما السبب في أنها مُصرة على أن تكون هي الوحيدة في هذا العالم التي لا بد لها من مُساعدته رغم أنه كان السبب الذي حرمها من رخصة قيادتها، بل وعاملها بالكثير من الصلف، والتعالي، والفظاظة؟

بالتأكيد هذه الأسئلة، وغيرها الكثير لا بد لها أن تتبادر على الذهن أمام هذا الموقف غير المنطقي، لكن نيلسون لا يهتم بها، ويمضي في طريقه الوحيد الذي يعرفه، إلا أنه في اليوم التالي حينما يعرض حملته الإعلانية على العميل، يقوم العميل برفضها، وهو الأمر الذي يثير الكثير من الدهشة داخل نيلسون الناجح في مجاله، وأكثرهم تقدما في هذا المجال، مما جعله الأكثر سعرا، فيشتبك مع العميل مُهينا إياه مما يجعل رئيس الوكالة الإعلانية التي يعمل بها يطرده من العمل، وحينما يعود إلى منزله يُفاجأ بأنجيليكا تحمل حقيبة ملابسها، وقد قررت هجره لعدم مقدرته على الإحساس بها. أي أنه كان يوما كارثيا بالنسبة له على كل المستويات، مما يجعله يجلس وحيدا يحتسي زجاجة من البيرة، لكن حارس البناية يصعد إليه مُخبرا إياه بأن السيدة الغريبة/ سارة قد أرسلت له طردا وطلبت منه تسليمه إياه، وحينما يفتح الطرد يُفاجأ بأحد كلاب سارة وفي رقبته مفتاح شقتها، أي أنها ما زالت مُصرة بكل الطرق على أن تقوم بعلاجه ومُساعدته كما تدعي، وبما أن نيلسون كان في حالة نفسية وعملية بائسة بعدما فقد عمله وحبيبته معا؛ فلقد ذهب إليها طالبا منها أن تبتعد عن طريقه، وألا تقوم بإرسال أي شيء إليه مرة أخرى، لكنها تحاول إقناعه بالبقاء، فيوافق لهذه الليلة فقط.


إن موافقة نيلسون هنا على البقاء مع سارة تبدو لنا منطقية إلى حد بعيد، وليست مُصطنعة؛ فلقد مر بيوم عصيب من أسوأ أيام حياته، ومن ثم كان من المنطقي له أن يستسلم لإلحاحها بعدما فقد كل شيء، لكنهما حينما يتبادلا القبلات ويحاول تنحية ملابسها عنها تتملص منه، طالبة منه المزيد من الوقت مما يجعله يستشيط غضبا لإحساسه بأنه يتم التلاعب به من قبلها، ومن ثم يرتدي ملابسه ويسرع بالخروج، لكن سارة تلحقه طالبة منه العودة، وتحاول إقناعه، وبالفعل حينما يصعدان تقترب من الفراش الذي يجلس على حافته لتقول له بصوت هامس: أتريد أن تكون ملكي في نوفمبر؟ فيومئ لها برأسه موافقا، مما يجعلها تمنحه جسدها بالكامل.

إن موافقة نيلسون هنا على أن يكون ملكية خاصة لسارة في شهر نوفمبر منطقية ومقبولة إلى حد بعيد في مثل هذا الموقف الذي هو فيه؛ فهو يائس من كل شيء بعد خسارة حبيبته وعمله، وهو في حالة كاملة من الاستثارة بعد المُداعبة الجنسية التي حدثت بينهما مُنذ قليل؛ ومن ثم لا يمكن لنا هنا أخذ قبوله وموافقته على مأخذ الجد، بل هو قبول لحظي وسريع من دون أي إعمال للعقل، أي أن رغباته هي التي أجابت بالنيابة عنه، وليس عقله. إذن، فلقد نجحت سارة في الوصول إلى ما ترغبه، وأقنعته- مُستغلة الظروف التي مر بها- بالبقاء معها لمُدة شهر- ساعدها في ذلك إغوائها الجسدي له، وضعفه أمام رغبته فيها.


لكن، هل معنى ذلك أن نيلسون الذي يتعامل مع الجميع باستعلاء وصلف وعدم اهتمام سيتوقف عن أسلوبيته في الحياة؟

ليس الأمر بهذه السهولة، فحينما تبرعت سارة في اليوم التالي بملابسه إلى أحد المُشردين، وجلبت له ملابس أخرى لا تناسبه، وحينما عرف أن هذه الملابس هي ملابس جارها الذي دخل البيت وقبلها أمامه حاول ترك المنزل؛ فأسرعت خلفه محاولة استعادته، لكنه قال لها بفظاظة: إن خطتك هذه تشعرني بأنك تبحثين عن سبب كي أضاجعك. مما جعلها تشعر بالكثير من الحزن لتتركه عائدة إلى منزلها، لكنه يلحق بها محاولا الاعتذار لها، مُخبرا إياها بأنه لا يستطيع البقاء إلا يوما واحدا فقط، فتوافق.

تأخذ سارة نيلسون في جولة على الشاطئ مُصطحبة معها مجموعة من الكلاب التي تبدأ في اللهو معها، وحينما يعودان من الشاطئ يسألها نيلسون: لماذا فعل الأشياء التافهة أفضل من أن أحيا حياة مسؤولة، الملل كما يبدو لك؟ ومن جعلك الخبيرة الدكتورة، المُرشدة الروحية؟ لماذا لديك كل الأجوبة؟ لكنها تخبره بأن معرفة هذه الأمور في حاجة إلى المزيد من الوقت، وهو يخبرها دائما بأنه لا وقت لديه، لذا لن يستطيع أن يعرف.


سنعرف أن سارة لديها مجموعة من القوانين التي لا تحيد عنها في حياتها، مثل أن تستدعي كل شهر رجلا جديدا للإقامة معها في بيتها تحت دعوى أنه في حاجة إلى المُساعدة، وأنها لا بد لها أن تقوم بمُساعدته، وهو ما تخبر به نيلسون: ميتش كان أكتوبر، كان خجولا جدا، أعتقد أنه كان أكثر الرجال الذين قابلتهم خجلا؛ لذا ركزنا على تعزيز ثقته. أي أنها المرأة الخارقة القادرة على علاج كل مُشكلات الرجال في العالم بالإقامة معها، ومُمارسة الجنس معهم، والحياة من دون عمل، وهدر الوقت من دون طائل، وهكذا يكون الرجل قد تخلص من كل مُشكلاته التي يعاني منها- يبدو لنا الأمر هنا أنها مُجرد امرأة مُصابة بالهوس الجنسي، وتغيير الرجال الذين يمارسون معها الجنس، والرغبة في مُضاجعة جميع رجال العالم تحت دعوى مُساعدتهم، أي أنها، في واقع الأمر، الشخص الذي يحتاج إلى مُساعدة نفسية عاجلة لعلاجها من الإدمان الجنسي، وليس من تتصيدهم.


لذا يسألها نيلسون: ولكن، لماذا شهر؟ لترد بثقة: إنه طويل بما يكفي ليكون ذو معنى، وقصير بما يكفي لأبقى بعيدا عن المشاكل.

يحاول نيلسون في نهاية اليوم المُغادرة، لكنه حينما يذهب إلى منزله يشعر بالكثير من الملل، ويبدأ في التفكير في سارة، ومن ثم يعود إليها مرة أخرى، أي أن الأمر هنا قد تحول إلى نوع من الإدمان النفسي، والاتكال على وجودها من أجل إخراجه من حالته النفسية السيئة، والفراغ اللذان يمر بهما نتيجة فقدانه لعمله الذي يدمنه، فضلا عن الجنس معها، والبهجة التي تضفيها على حياته، فهي شخصية مُبهجة إلى حد بعيد.

لكننا سنُلاحظ أيضا شكلا من أشكال السيطرة من قبل سارة، أي أنها ترغب في أن تكون هي المرأة المُسيطرة، المُتملكة للعالم، الراغبة في أن تكون كل خيوط الأمور في يدها، ومن ثم لا بد أن يقبل شريكها بكل ما تمليه عليه، وهو ما سيتضح لنا جليا حينما يخرجان ليركبا المترو، فيسألها نيلسون: أنا لا أفهم لماذا لم نأخذ تاكسي؟ لترد: لأني أنا من يضع القواعد نيلسون، القواعد التي يجب أن تمتثل لها بالتمام والكلية. ألا نُلاحظ هنا رغبة حقيقة في السيطرة على شريكها؟ أي أن سيطرتها على كل شيء هو أمر يمنحها شكل من أشكال القوة التي هي في حاجة إليها.


لعل ما يؤكد لنا ما سبق أن ذهبنا إليه قول تشاز- قام بدوره المُمثل الإنجليزي Jason Isaacs جيسون إسحاق- جار سارة المثلي الجنس لنيلسون: يجب أن تفهم شيئا، إنها معدومة القوة تماما، بهذه القواعد، أنت تعرف، إنها تعطيها الأحلام والأمل في التحكم، إنها تبقيها حية، أخبرتني أنها إذا لم تكن تستطيع أن تعيش حياة طبيعية، فهي مُصممة على أن تعيش حياة فوق العادة بأحسن طريقة تستطيع.

إذن، فنحن أمام امرأة لا يمكن إنكار أنها مُدمنة للجنس أولا، كما أنها مُدمنة لحُب السيطرة على شركائها، وامتلاك القوة من خلال التحكم في حيواتهم ما داموا معها!

لا يمكن إنكار أن حياة نيلسون قد بدأت في التغير بالفعل بفعل إقامته الدائمة مع سارة، فلقد بدأ يبتهج، ويستمتع بالحياة معها، بل وتغيرت طريقة تعامله مع الآخرين إلى الكثير من التواضع، وبدأ يتعاطف مع الغير، لا سيما جارهما الصغير أبنر- قام بدروه المُمثل الأمريكي Liam Aiken ليام أيكن- الذي يضطهده أقرانه من الصغار، ويصفونه بالأنوثة، ويحاولون عزله اجتماعيا، حيث نرى نيلسون في إحدى السباقات التي يشترك فيها أبنر مع رفقائه من أجل سباق لسُفن صغيرة يقوم برشوة أحدهم بمئة دولار من أجل هزيمة الأطفال الآخرين ليفوز أبنر، وحينما تخبره سارة بأن ما فعله كان جيدا، لكنه لن يجعل أبنر قادرا على التغلب على صعوبات الحياة، يرد عليها بأنه كان لا بد له أن يقوم بذلك لأن الأطفال جميعا قاموا بالسُخرية منه. أي أنه بات أكثر تعاطفا مع الآخرين. كما أن الطفل يطلب منه أن يتبناه، وحينما يخبره نيلسون بأنه لا يستطيع تبنيه، يخبره بأنه يرغب في ذلك لأنه لا يعرف أباه، ويرغب في وجود أب له في يوم الأب في المدرسة، فيوافق نيلسون على أن يصطحبه في يوم الأب باعتباره مُمثلا لأبيه.


هذا التغير نحو الأفضل يجعل نيلسون يرفض فرصة عمره في مجاله العملي، حينما يسعى مع شريكه بكافة الطرق لأخذ موعد مع أحد أكبر مالكي الوكالات الإعلانية، وحينما يلتقيان معه من أجل عقد صفقة يحدث أن تقترب النادلة من المنضدة لوضع بعض الأكواب، لكن قدمها تتعثر مما يؤدي إلى انزلاقها ووقوع الأكواب، فينظر إليها الرجل بقسوة قائلا ببرود: أتدرين جميلتي، نحن نكون بقدر ما نفعله في هذا العالم، وأنت نادلة، كل ما هو مطلوب منك أن تحضري الطعام والشراب من وإلى المائدة بدون أي فوضى، هذا كل شيء، لذا عندما تدمرين شيئا بسيطا إلى درجة لا تُصدق مثل هذا، لا يمكن أن يدل على أي شيء جيد فيك، أليس كذلك؟ فتنصرف النادلة باكية بينما يتابعها نيلسون، ليقول فينس لمالك وكالة الإعلانات: إذا أعطيتها أي كلمة جيدة يمكن أن تحصل على تغيير. ليرد الرجل ببرود: يجب أن يفصلوها، أنا دائما ما أقول: إن المُستخدم السيئ يزيد من شدة المُنافسة، القائد الجيد يقضي على مُنافسه.


هنا نُلاحظ أن نيلسون لا يشترك في الحوار، لكنه يظل مُتأملا للنادلة التي انتحت أحد الأركان للبكاء بسبب ما قاله الرجل، وحينما يعرض عليهما صاحب الوكالة عرضا باهظا لم يتلقيا مثله في حياتهما العملية من قبل، ينظر نيلسون إلى العرض بفتور ليخبره بأنه لا يعنيه، وحينما يسأله رجل الأعمال عما إذا لم يعجبه العرض، يرد عليه بأنه هو الذي لم يعجبه وليس عرضه، وسُرعان ما ينصرف تاركا إياهما مُتجها إلى منزل سارة.

إنها الأسلوبية اللاإنسانية التي يتعامل بها رجال الأعمال والأثرياء مع البشر، وهو ما سبق لنا أن رأيناه أيضا من خلال فينس- شريك نيلسون في العمل- حينما قابل نيلسون وسارة في أحد المطاعم، وحينما رغب في تقديم رفيقته لم يتذكر اسمها؛ مما جعل سارة تندهش مُتسائلة عما إذا كان لا يتذكر اسم رفيقته ليرد عليها ببساطة: إنها لا تهتم طالما إني أتذكر دفع الشيك، أليس صحيحا؟ أي أنهم يتعاملون مع النساء في النهاية من دون عاطفة باعتبارهن أشياء من المُمكن لهم شرائها وتغييرها وقتما رغبوا في ذلك، وهو نفس السلوك الذي كان نيلسون يتعامل به مع جميع البشر قبل تغيره مع سارة.


يقع نيلسون في حب سارة رويدا، ولا يستطيع التخلي عنها، وهو ما يجعله يشعر بأن الحياة بمثل طريقتها هو الشكل الأمثل والأكثر سعادة وبهجة للإنسان، ومن ثم يعرض عليها الزواج، لكنها رغم وقوعها في حبه بدروها ترفض الأمر، مُخبرة إياه بأنها لا تستطيع لظروف تخصها. يلح نيلسون أكثر من مرة على الزواج لكنها ترفض بإصرار إلى أن يكتشف نيلسون- ونحن معه- أن سارة مُصابة بالسرطان، وأنها قد انقطعت عن العلاج مُنذ عام حينما أيقنت أنها لا تستطيع هزيمته، وتأخذ فقط مجموعة من المُسكنات حينما تشعر بالآلام؛ لذا فلقد قررت الاستمتاع بحياتها إلى أقصى درجة مُمكنة قبل الموت، وهو ما جعلها تضع مجموعة القواعد التي تعيش من خلالها، أي صحبة رجل جديد كل شهر باعتبار أنها تقوم بمُساعدته رغم أنها في جوهر الأمر تقوم بمُساعدة نفسها هي.


ربما لا بد لنا من التوقف هنيهة هنا أمام ما تقوم به سارة، وإعادة النظر للأمور بشكل جديد بناء على المُعطيات الجديدة التي كشف لنا الفيلم عنها؛ فسارة فاقدة للأمل في الحياة التي سُرعان ما ستنتهي، وتنفلت منها بسرعة؛ لذا فهي ترى أن الطريقة الأمثل لها- بما أنها عاشقة لهذه الحياة التي تنسرب منها- أن تستمتع بها بأقصى درجة مُمكنة، وهذا الاستمتاع- تبعا لمفهومها- يكون بمُصاحبة العديد من الرجال واستبدالهم كل شهر، من خلال إيهامهم بأنهم في حاجة ماسة إلى المُساعدة، وأنها هي من سيقوم بمُساعدتهم وشفائهم من أمراضهم!

ألا نرى في هذا السلوك المرضي الكثير من الأنانية والإيذاء للآخرين؟ إنها تؤذيهم أكثر مما تُساعدهم، وإذا ما كانت قد نجحت بالفعل في مُساعدة نيلسون على تغيير حياته إلى شكل أكثر إنسانية إلا أنها أوقعته في مأزق عشقه لها، ثم تخليها عنه برغبتها في الابتعاد، أي أنها قد دمرت حياته العاطفية والنفسية، وتركته يعاني من جحيم مشاعره، كما لا يفوتنا أن جارها تشاز حينما أخبرته برغبة نيلسون في الزواج منها رد عليها مهونا من الأمر: وماذا في ذلك؟ لقد عرض عليك الآخرون الزواج أيضا. أي أن سارة هنا مُجرد امرأة مُتلاعبة، تُدمر حيوات الآخرين بما تفعله، وتعلقهم العاطفي بها، أكثر مما تساعدهم كما تدعي، تقوم بغشهم، ولا تقول لهم حقيقة وضعها وتتركهم يقعون في مأزقهم العاطفي الخاص.


صحيح أننا نستطيع النظر إلى الأمر من وجهة نظر أخرى مُخالفة، وهي وجهة النظر التي سبق لتشاز أن أخبر بها نيلسون: يجب أن تفهم شيئا، إنها معدومة القوة تماما، بهذه القواعد، أنت تعرف، إنها تعطيها الأحلام والأمل في التحكم، إنها تبقيها حية، أخبرتني أنها إذا لم تكن تستطيع أن تعيش حياة طبيعية، فهي مُصممة على أن تعيش حياة فوق العادة بأحسن طريقة تستطيع. أي انها تحاول من خلال هذه العلاقات الشعور بالمزيد من القوة التي تفتقدها- بما أن المرض يزيدها وهنا نفسيا وجسديا- ومحاولة السيطرة على الاتزان النفسي، لكنها محاولة مُؤذية للآخرين.

من جهة ثالثة، ربما يمكن لنا النظر إلى هذا السلوك باعتباره مُجرد محاولة منها لإثراء حياتها بحيوات الآخرين، ومن ثم تكون- من خلال فعلها- قد عاشت عدة حيوات مُكثفة ومُختلفة وثرية في حياة قصيرة واحدة ما دامت تعرف أنها ستموت، أي أنها تنهل من الحياة بإضافة حيوات أخرى متوازية إلى حياتها والانخراط فيها، وهذا شكل من أشكال عشق الحياة والتمسك بها، لكنه شكل لا أخلاقي مرضي يحاول صُناع الفيلم إقناعنا بأخلاقيته، واعتباره سبيلا إلى الفردوس العاطفي الذي وقع فيه نيلسون، والذي سُرعان ما تحول إلى جحيم حقيقي بمُحرد معرفته بمرض سارة، ورفضها له، ورغم أنه أبدى لها رغبته بالارتباط بها، والعناية بها حتى النهاية إلا أنها أصرت على الرفض، بل وطلبت منه مُغادرة منزلها تحت دعوى أنها غير راغبة في أن يراها هكذا رغم حبها له بدورها!


لقد حاول صُناع الفيلم بكافة الطرق المُمكنة إقناع المُشاهد برومانسية علاقة الحب التي نشأت بين كل من نيلسون وسارة، ورغبوا منا أن نذرف الدموع على مشهد اكتشاف مرضها، ورفضها للزواج من نيلسون لأنها مريضة- مفهوم التضحية الزائف- وتناسوا تماما أن الفيلم قد تم بنائه من الأساس على مجموعة من السلوكيات المرضية، والخداع، والزيف، وهو ما لا يمكن لنا التعاطف معه، أو التغاضي عنه من أجل قصة الحب المُلتهبة التي يرغب المُخرج منا التعاطف معها. فكيف لنا أن نتعاطف مع سارة باعتبارها تحب نيلسون، وترفض الارتباط به حتى لا يراها في لحظات ضعفها وموتها ومرضها، رغم أنها قد أوقعته في هذا المأزق عامدة وهي تعرف حقيقة مرضها، وكيف لنا أن نقتنع بهذا الحب العظيم كما يرغب الفيلم في تصويره رغم أنهما لم يمر على معرفتهما سوى ثلاثة أسابيع، ولم نر في حقيقة الأمر أي رومانسية بينهما اللهم إلى مُمارسة الجنس الكثيف بينهما، وكيف نستطيع الاقتناع بأن امرأة تحب رجلا ما من المُمكن لها أن تتخلى عن علاقتها به بمثل هذه السهولة والبساطة لمُجرد أن الأمور قد بدأت تسوء معها؟ إذن فالعلاقة هنا في جوهرها مُجرد علاقة شديدة السطحية، غير حقيقية، وإلا ما تم التخلي عنها ببساطة.


يبدو لنا الأمر هنا أن المُخرج قد قاد نفسه إلى هذه الفوضى الكاملة بيده لأنه بنى الفيلم مُنذ البداية على مجموعة من الأكاذيب الفوضوية، والكثير من المُخادعات، وهو ما جعله في مثل هذا المأزق مع المُشاهد.

يعود نيلسون مرة أخرى إلى سارة رغم أنها قد طلبت منه الرحيل، لنراه يصعد إليها من النافذة مُرتديا ملابس "بابا نويل"، حاملا معه حقيبة كبيرة مُنتفخة ليقدم لها العديد من هدايا رأس السنة، رغم أنهم ما زالوا في عيد الشكر، هنا لا بد من التوقف أمام الهدايا الاثنتى عشرة التي كانت في الحقيبة، والتي لن نتوقف أمامها جميعا، وإن كنا سنتوقف أمام غسالة الأطباق فقط!


فكيف يمكن لنيلسون أن يضع في حقيبة بابا نويل غسالة أطباق، ثم يتسلق بها للدخول من نافذتها؟! هل من المُمكن لنا تخيل ذلك أو تصديقه؟ بالتأكيد يمكن تصديق ذلك في الأفلام الكرتونية! نحن نعرف أن الفن هو شكل من أشكال التواطؤ بين صانع الفيلم والجمهور، وبالتالي من المُمكن للمُشاهد أن يتقبل أشياء لاعقلانية باعتبارها أشياء عادية من المُمكن لها أن تحدث رغم استحالتها في العالم الواقعي، ولكن ذلك يعتمد على شكل الاتفاق الذي يفرضه المُخرج مُنذ بداية فيلمه مع الجمهور، أي أنه يُحدد له بأنه يقدم فيلما سيرياليا، أو فيلما ساخرا، أو فيلما كوميديا يستدعي الكثير من الاصطناع، والأشياء غير المنطقية، أو فيلما أسطوريا- وهو ما يجعلنا نتغاضى عن الكثير من العقلانية- لكن الكارثة هنا أن مُخرجنا قد قدم لنا فيلمه مُنذ البداية باعتباره فيلما رومانسيا واقعيا، ومن ثم لا بد له من الالتزام بمثل هذا الاتفاق الضمني الذي عقده بينه وبين المُشاهد، أما أن يقدم لنا في سياق الفيلم أشياء غير منطقية، ولا يمكن لها أن تحدث في الواقع أو يتقبلها العقل، فهذا إخلال بالعقد، وعيب خطير في الفيلم يتحمل نتيجته صانع الفيلم، ومن ثم يصبح رفض المُشاهد للمشهد طبيعيا، وليس من قبيل التعسف مع المُخرج.


يحاول نيلسون البقاء مع سارة مرة أخرى، ويغطي جدران الشقة بالكامل بتقويمات حائط تشير إلى شهر نوفمبر فقط ليقول لها: كل شهر هو نوفمبر، وأنا أحبك كل يوم. لكن، رغم ذلك تُصر سارة في اليوم التالي على رحيل نيلسون، والابتعاد عنها، فنراهما متواجهين على أحد الجسور لتقول له: نيلسون، إذا ما رحلت الآن، كل شيء كان بيننا سيظل كاملا إلى الأبد، فيقول: الحياة ليست كاملة. لكنها ترد بإصرار: كل ما لدينا الآن هو كيف ستذكرني، وأنا أريد لهذه الذكرى أن تظل جميلة وقوية، ألا ترى؟ إذا ما عرفت إني سأظل مذكورة بهذه الطريقة، عندها سأستطيع مواجهة أي شيء. ثم تغطي عينيه بشالها، وسُرعان ما تنصرف عنه، لتتركه وحيدا يعاني في جحيمه الخاص الذي أدخلته إليه بإصرار كامل مُنذ بداية الفيلم.

إن الفيلم الأمريكي "نوفمبر الحلو" للمُخرج الأيرلندي بات أوكونور هو فيلم مبني مُنذ المشهد الأول على مجموعة من الأكاذيب، والأمراض النفسية، والسلوكيات اللاأخلاقية من أجل إيهام المشاهد بصناعة فيلم رومانسي لا بد له أن يتعاطف معه ويذرف الدموع في النهاية على مصير الحبيبين اللذين لم يستطيعا البقاء مع بعضهما البعض، ومن خلال ذلك حاول المُخرج بذل الكثير من الجهد من أجل إقناعنا بمشروعية كل هذا الخداع، والتغاضي عن كل هذه الأمراض النفسية التي رأيناها في فيلمه، لكنه لم ينجح في ذلك؛ لأن المُشاهد في النهاية لا بد أن ينتابه شعور بالخداع الشديد والتلاعب به؛ الأمر الذي يجعله يشعر بالنفور الشديد من الفيلم وليس التعاطف معه أو مع قصته الرومانسية المُصطنعة بطريقة موغلة في الابتذال. فنحن من زاوية أخرى- أكثر عملية- إذا ما تأملنا الفوضى العبثية التي قامت بها سارة في حياة نيلسون سيتبين لنا أنها قد قامت بتدمير حياته بالكامل سواء على المستوى العملي، أم على المستوى العاطفي، صحيح أن حياته كانت شديدة الجفاف، فيها الكثير من الأمور غير الصائبة، لكنها بدخولها إليها ساهمت في إفسادها، وخسرانه لعمله وفرصته التي نالها، ورفضها، فضلا عن أنه سيظل يعيش في جحيمه الخاص الجديد الذي أدخلته إليه.

 

 

 

 محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"
عدد أكتوبر 2024م.

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق