الجمعة، 10 يناير 2025

إبليس يطلب المغفرة: مهارات سردية للإيذاء!

إن التأمل في المجموعة القصصية "إبليس يطلب المغفرة" للقاصة الجزائرية سارة النمس من شأنه أن يثير في القارئ الكثير من التأملات حول ما تقوم به الساردة من سرد يمكن لنا وصفه بالقسوة، والأكثر من محاولة التمعن في هذا السرد المُحكم الذي تُدرك فيه الكاتبة بيقين ما الذي ترغب في فعله، أو تريد تقديمه بشكل يكاد أن يكون مُكتملا، مما يعني أنها قبل قيامها بعملية الكتابة تضع نصب عينيها هدفها جيدا، ومن ثم لا يعوقها أي شيء من أجل الوصول إلى هذا الهدف، وإصابته في القلب بمهارة.

وصف الشر، والتنويع عليه، والإيغال في أشكاله المُختلفة، وطرائقه المُتعددة حتى لكأنها تمتدحه، أو تتغزل فيه هو ما نُلاحظه في هذا الشكل من الكتابة. ربما يجول في ذهن القارئ لوهلة ما رغبتها في الإعلاء من هذا الشر، اصطفائه، ورفعه إلى منزلة القداسة. إنها تفعل ذلك بالفعل بمهارة بارعة، وتلقائية سلسة لا يبدو فيه أي شكل من أشكال العمدية، أي أن الكاتبة هنا ترتدي قناع البراءة والملائكية ببراعة رغم عدم براءتها فيما تقوم به، فهي تُعد له إعداد جيدا ومُحكما قبل البدء في عملية الكتابة التي تبدو لنا في شكلها النهائي مُكتملة فنيا، شديدة الإحكام، مُمتعة إلى حد بعيد، بل ومُؤلمة، شديدة الإيذاء لمن يتماهى معها من القراء، ومن ثم يصبح هذا الشكل من أشكال الكتابة مُؤذيا لقارئه على المستوى السيكولوجي بشكل عمدي لرغبة الكاتبة في اللعب الفني، ومُمارسة هذا الشكل الكتابي- إنه نفس الإيذاء الذي سبق لنا أن لاحظناه بمهارة في روايتها "جيم" مما يُدلل على أن الكاتبة ماهرة في هذا الشكل السردي الخاص.

لكن، هل ترغب القاصة هنا في الإعلاء من قيمة الشر بالفعل، واصطفائه، والاقتراب به من مفهوم القداسة؟

إذا ما تأملنا المجموعة التي بين أيدينا بتمعن وتؤدة لاتضح لنا أنها تقوم بهذا الفعل من قبيل مُمارسة اللعب الفني، أي أنها تمتلك من المهارة السردية ما يجعلها قادرة على التلاعب بالقارئ ومشاعره وأفكاره- في حالة اندماجه وتماهيه مع السرد الذي يقوم بقراءته- ولنتأمل هذا القسم الذي أصرت الكاتبة على وجوده في نهاية مجموعتها رغم أنه يبدو لنا للوهلة الأولى شديد المُباشرة والسذاجة مما قد يُقلل من القيمة الفنية للمجموعة؛ فبعدما انتهت الكاتبة من جميع قصص المجموعة البالغة عشر قصص رأت أن تُضيف إليها جزءا سرديا قد يبدو لنا وكأنه لا علاقة عضوية وفنية له بكل ما سبق أن قرأناه، أي أنه جاء هنا من قبيل التزيد، وشهوة الكتابة فقط لا غير، لكن مع التأمل العميق للعمل الفني بصورته الكلية لا بد من تغيير وجهة النظر هذه، وبالتالي يتغير التلقي لهذا الجزء السردي الشديد المُباشرة في شكلانيته، وإن كان- من الناحية الفنية- مُكملا للرؤية الكلية للمجموعة في شكلها العام.

"دردشة مع القارئ"، هو عنوان القسم السردي الأخير بعد الانتهاء من قصصها، ولعلنا نُلاحظ للوهلة الأولى المُباشرة والسطحية في العنوان اللذين من شأنهما إفساد الحالة الفنية التي سبق لنا أن رأيناها فيما قرأناه، بل وإبداء الكثير من الدهشة لوقوع الكاتبة في مثل هذا المُنزلق غير الفني؛ بسبب الالتفات إلى القارئ بشكل مُباشر وصريح من أجل الحديث معه- المُباشرة جلية هنا في العنوان أولا- وإذا ما حاولنا الانسياق معها لمعرفة ما الذي ترغبه من هذا القسم السردي- الذي لم يتعد صفحة واحدة وسطرين- لازدادت دهشتنا مُتضاعفة مما تقوم به الكاتبة؛ فكل ما كتبته في هذه الصفحة ليس إلا كلاما مُبتذلا، كثيرا ما تم ترديده من قبل العامة، ولا علاقة له بفنية الكتابة السردية!

إذن، فما الذي تهدف إليه القاصة من وراء هذا القسم، وكيف يمكن له أن يكون مُكملا للرؤية الفنية التي وضعتها نصب عينيها من هذه المجموعة؟

سنُلاحظ أن النمس هنا إنما تُردد من خلال ما أسمته بالدردشة نفس الأفكار التي كانت تدور في ذهن المُتلقي أثناء قراءته لمجموعتها، حتى لكأنها هنا تحاول الإيغال في القسوة والإيذاء بكشف القارئ وأفكاره أمام نفسه بعدما انتهى من قراءة مجموعتها. إنها تُدرك جيدا العصف الذهني، والتأملات التي من شأنها أن تثيرها مجموعتها القصصية في ذهن قارئها، ولأنها تتعمد الإيذاء هنا- بشكل فني- فهي تكشفه أمام ذاته، وكأنها تقول له: هذا ما كان يدور في ذهنك، ولكنك خائف من التصريح به، وبما إني أعرف أن هذا الخوف ينتابك- إما لأسباب عقائدية، أو اجتماعية- فها أنا أسوقه أمام عينيك على لساني، رغم أنك توقن جيدا بأنها أفكارك أنت، التي أشاركك فيها.

لنتأمل ما ساقته القاصة في هذا القسم لنفهم ما نعنيه مما سبق: "يُعرف إبليس بسُمعة سيئة مُنذ عصور، فهو المُتمرد الأول الذي قال لله: "لا، أنا ابن النار، لن أسجد لهذا المسخ الذي سيفسد في الأرض، ويقتل شقيقه لأجل الخبز والمال، والنساء، والسُلطة، وكذلك لأجل لا شيء"، وحسب روايات الكتب السماوية يتجلى لنا بأن إبليس كان مُؤدبا في جداله مع الله، فنحن لم نقرأ له جملة مُستفزة أو جارحة، فقط أعلن عن رفضه، وأراد أن يلعب لعبته ليكون الطرف الثالث في علاقة غريبة بين الإله ومخلوقه الجديد! سيوسوس فقط، هذا كل ما سيفعله، وسيكون الإنسان عاقلا وحرا ليختار طريقه بين الخير والشر وينتقي أشهى حماقاته وأخطرها! فلماذا نلوم الشيطان وهنالك من بني جنسنا من هو أخبث منه، وأسوأ فعلا؟! وهذه المُقارنة تُذكرني بنكتة طريفة سمعتها في طفولتي: يُقال بأن الشيطان قابل فرعون في جهنم، فسأله: ما خطيئتك؟ قال فرعون: قلت للناس أنا ربكم الأعلى وأقنعتهم بأن يعبدوني. تفاجأ الشيطان وضحك ساخرا: يا رجل أنا الشيطان وسوست للناس، ولم أقل لأحد أنا ربك الأعلى. اتخذ إبليس، إذن، قراره عن قناعة كاملة، ولم يندم، ولا طلب المغفرة، بل تمادى في التحدي، واقترح على الله فكرة الرهان، كان بوسع الله أن يرفض، يعاقبه على تمرده ويترك آدم سعيدا مع حوائه في جنته أو يأمرهما بالانتقال بهدوء إلى الأرض الموعودة بلا خطيئة ولا ندم، إلا أنه قبل برهان إبليس".

إن الاقتباس السابق هو الجزء السردي بالكامل الذي كتبته سارة النمس تحت عنوان "دردشة مع القارئ"، ولعلنا نُلاحظ أنه لا علاقة له بالفعل بالسرد الفني، بل هو حديث مُباشر، شديد الابتذال لفرط ما تردد على ألسنة الغوغاء، وغيرهم من الناس. لكن، رغم هذا الابتذال والمُباشرة فهي تقصده تماما، إنها تعرف أن البعض من قراء المجموعة ستدور في أذهانهم بعض هذه الأفكار، لكنهم سيحاولون لفظها خشية الأسطورة الدينية وسطوتها القامعة عن التفكير، أي أن وجود الأسطورة وقمعها عن الانطلاق بالتفكير المنطقي والتحليل الذي سيتعارض معها- ومن ثم يؤدي إلى لفظها تماما، وعدم الإيمان بها- سيكون مانعا للقارئ في الاسترسال في مثل هذه الأفكار التي تثيرها قصص المجموعة، وبما أن القاصة تُدرك ذلك جيدا، فهي تحاول وضع القارئ أمام نفسه، وأفكاره، وذهنيته في حالة من التحدي، والقسوة، وربما الإيذاء الفني المُتعمد، أي أنها تثير داخله عاصفة لا بد منها، وترغبها من كتابتها للمجموعة، وتقترب به من الحالة الفكرية المنطقية التحليلية التي تنزع عن الأساطير سطوتها إذا ما اشتعلت داخل أي شخص.

هنا تكون الكاتبة قد نجحت أيما نجاح في الوصول بمجموعتها القصصية التي تم تكريسها بالكامل من أجل موضوع واحد، هو موضوع الشر، وتجلياته المُختلفة، وإذا كانت فيما قبل قد نجحت في سوق هذه التجليات في شكلها الفني، فهي تحاول بالمزيد من النزق الفني إكمال هذه الحالة بشكل شديد المُباشرة، لكنه رغم مُباشرته وسطحيته يتكامل مع الحالة الفنية ككل.

إن تأمل الأمر كما ترغبه سارة النمس من شأنه أن يستدعي المزيد من التأملات التي لا بد من طرحها والتفكير فيها، فالأسطورة الدينية بالفعل أكدت على أن الشيطان رفض السجود لآدم باعتباره مخلوقا من نار، بينما آدم مخلوق من طين، أي أنه أقل منه في المكانة، وبما أن إبليس يعتز بنفسه، لديه من الكرامة ما يجعله غير راغب في السجود لمن هو أقل منه، أو السجود لمخلوق مثله؛ فلقد رفض، بل وتحدى الله أنه سيوسوس له على فعل الشر، وراهن الله على ذلك، وقبل الله بالرهان.

إذا ما تأملنا هذه الأسطورة التي ساقتها لنا كتب الأساطير الدينية، فهل ثمة عاقل من المُمكن له القبول بها إلا إذا ما حاول تنحية عقله، وإيقافه عن العمل؟ نحن هنا أمام الله/ الخالق، المُتحكم في كل شيء، يتحداه إبليس/ أحد الملائكة حسب الأسطورة، ورغم أن إبليس في حالة تحدٍ لله، ورغم أنه عرض على الله الرهان بأنه سيوسوس لآدم من أجل الشر، فلقد قبل الله الرهان! نحن هنا أمام شخصيات كرتونية تتلاعب، وتتراهن، وتتقامر، وتتحدى! شخصيات ربما تشعر بالكثير من الملل، وترغب في إزجاء وقت الفراغ بمثل هذه الرهانات والألاعيب- لاحظ هنا التشابه الكبير بين هذه الأساطير، والأساطير اليونانية القديمة، حيث كانت الآلهة تتعارك، وتتآمر، وتتقامر، وتقتل، وتخطف بعضها البعض- بل ستكون الطامة الكبرى فيما بعد، أن آدم حينما نزل إلى الأرض- حسب الأسطورة أيضا- ساد الشر في كل مكان، ولم يعد هناك جزءا جغرافيا على وجه هذا الكوكب من دون شر، وسفك للدماء، وتعذيب، وظلم، مما يعني أن إبليس/ الشيطان قد ربح الرهان أمام الله وكان هو المُنتصر، بينما كان الله هو الخاسر الأوحد، مما يُدلل على صحة ما ذهب إليه إبليس، وخطأ ما ذهب إليه الرب!

ألا نُلاحظ هنا أن الأسطورة الدينية تضرب نفسها بنفسها في مقتل بهذه الرواية غير العقلانية التي ساقتها للبشر في جميع الكتب السماوية؟ فما ساقته بالمُقارنة مع الواقع، ومع ما حدث فعليا يؤكد لنا بشكل مُنقطع النظير على محدودية الرؤية المُستقبلية لله في مُقابل صحة وجهة نظر إبليس ورؤيته المُستقبلية، مما يعني أن الله لا يعلم الغيب كما تؤكد الأسطورة الدينية، ومن ثم نصبح هنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن القصة الأسطورية المتداولة في الكتب السماوية مُجرد كذبة، أو أسطورة لم تحدث بالفعل، هذا من جهة، أو الإيمان بها بشكل مُطلق، رغم أن الإيمان بها سيجعلنا إذا ما نظرنا إلى الواقع، وما حدث فيه نتيقن- مع إعمال العقل- أن الله قد خسر الرهان، ولم يكن يعلم ما سيحدث مُستقبلا- من جهة أخرى.

هنا تضع سارة النمس قارئها أمام نفسه، تربكه، تضغط عليه من أجل التفكير، تقسو عليه قسوة لا طاقة له بها، لا سيما إذا ما كان يفضل الإيمان بالأسطورة من دون التفكير فيها، ومن ثم فهي تسعى إلى إيذائه!

مع تأمل العنوان الذي اختارته القاصة لمجموعتها القصصية "إبليس يطلب المغفرة" سنُلاحظ فيه أمرين: أولا: مُباشرته وابتذاله الواضحين، لكننا مع قراءة قصص المجموعة سيتبين لنا أنها تقصد هذا الابتذال في العنوان الذي يحمل من خلفه مقدرة ليست بالهينة على السرد الفني، وبناء القصة بالشكل الذي تهدف إليه، لا سيما أن قصص المجموعة بالكامل تصب في هدف واحد، الشر، وتوصيفه، وصناعة المزيد منه.


المُلاحظة الثانية التي سيوحي لنا بها العنوان أن ثمة مُفارقة ليست بالهينة ما بين هذا العنوان، وما بين القسم السردي الأخير الذي تحدثنا عنه مُنذ قليل؛ فإبليس لم يطلب المغفرة من قبل، ولن يفعلها أبدا، ولعل القسم السردي أكد لنا بعقلانية وتأمل- مُبتذلين- أنه كان على صواب، وسيظل دائما على هذه الصوابية، بينما الله في الأسطورة الدينية هو الذي لا يرغب في الاعتراف بخطأه، أو محدودية رؤيته المُستقبلية!

في قصة "السيدة بركاهم" ثمة شر مُستمر لا ينتهي، شر أبدي يظل حيا حتى بعد موت صاحبته، وهو يذكرنا هنا بأفلام الرعب السينمائية التي يلجأ فيها المُخرج في نهاية الفيلم إلى الانقلاب الفني Twist، والتي تُدلل لنا على استمرار الشر حتى بعد انتهائه، واعتقادنا بزواله، وزوال أسبابه، سنُلاحظ هنا أن الكاتبة تسوق لنا القصة مُنذ المُفردة الأولى في شكل حكاية ترويها، وكأنها تجلس إلينا لتحكي الحكايات فنقرأ: "في لهجتنا الجزائرية، فعل "بركا" يعني يكفي أو توقف، ومن هذا الفعل اشتقت العائلات الأمية مُنذ قرن اسم "بركاهم"، اسم تعيس يطلقه الوالدان على الأنثى بعد سلسلة ولادات خائبة أثمرت البنات فقط! هذا عن الاسم، أما السيدة التي سأتحدث عنها اليوم تكون خالة أمي، عجوز تسعينية قبيحة تبدو دائما غاضبة وفي شجار مع نفسها، كما أنها تختار دائما التوقيت الحرج للابتسام سُخرية ممن يحدثها، وللعجوز رائحة غريبة تشمها في النحاس القديم، مُمتزجة برائحة بهارات مجهولة تقتنيها من دكاكين سرية لا يعرفها إلا قلة من زبائن يقطعون مسافات هائلة لشراء ما يحتاجونه بأسعار خيالية!".

إذا ما توقفنا أمام الاقتباس السابق، وهو الاقتباس الذي افتتحت به القاصة قصتها سيتبين لنا أنها قد عمدت إلى أن تأتي القصة على شكل حكاية تحكيها لنا- الرجوع إلى المفهوم الثقافي للكلمة في اللهجة المحلية الجزائرية، ثم الالتفات إلى اسم السيدة التي ستتحدث عنها- "أما السيدة التي سأتحدث عنها اليوم تكون خالة أمي".

هذا الالتفات الذي سُرعان ما لجأت إليه، هو التقنية الفنية التي ستؤكد لنا على أن ثمة حكاية ستحكيها لنا سارة النمس ذاتها، أي أنها لم تحاول هنا التخفي من خلف شخصية قصصية بقدر ما تحدثت على لسانها هي، صحيح أن الجملة فيها شيء من عدم السلاسة والقلق في التركيب "تكون خالة أمي"، لأن الشكل الأكثر سلاسة وانسيابية للجملة يكون إذا ما كتبت: "أما السيدة التي سأتحدث عنها اليوم فهي خالة أمي"، أي أن الفعل الناسخ الناقص هنا أدى إلى الكثير من القلق والتوقف في انسيابية الجملة، لكن بغض النظر عن هذا القلق اللغوي في التركيب فثمة تأسيس لما ترغب الكاتبة في الإفضاء به مُنذ المقطع الأول في قصتها، أي أنها تؤسس لعالمها القصصي بتؤدة، وإدراك لما تقوم به.

تستمر القاصة هنا في سردها لنعرف المزيد عن السيدة بركاهم، فالراوية في القصة تعمل لدى السيدة بركاهم، تقوم بخدمتها مُنذ عشر سنوات بسبب حاجتها للمال، وفقر أسرتها، وهو ما جعلها تعمل لديها في منزلها رغم خوف الجميع منها، وتحاشيهم لها، ورغم أن بركاهم تعمل في تغسيل وتكفين الموتى؛ لذا فهي تستمر في الحالة الوصفية للسيدة لمعرفة المزيد عنها: تستيقظ الخالة بين الساعة الخامسة والسادسة بمسحة كئيبة على وجهها وكأنها مُرغمة على التواجد في هذا العالم، تتجه إلى مطبخها، وهناك تقوم بطحن البهارات ومزجها بسوائل غريبة تحتفظ بها في قارورات صغيرة لإعداد وصفات غامضة، أجهل كيفية استخدامها. نحو الساعة التاسعة تذهب لزيارة الموتى، فالمقبرة مكانها المُفضل! تتسكع بين القبور عاقدة يديها خلف ظهرها أثناء دردشتها مع الحارس الذي يشبع فضولها عن أخبار السُكان الجُدد، أعمارهم، وظروف موتهم! في القيلولة تنام ساعتين مُقدستين، أراقب ملامحها العابسة حتى في نومها وأتساءل: ما الذي عاشته هذه البائسة لتكون بهذه القسوة التي عليها اليوم؟ في خزانتها العتيقة أعثر على الكثير من الخردوات! علبة شموع، مسامير صدئة، أقفال ثقيلة، خواتم فضية ونحاسية، عقد من الشعر المصبوغ بالحناء، أسنان وضروس إنسان، كيس صغير فيه تراب أحمر وجمجمة حيوان لم أستطع التعرف عليه".

ألا نُلاحظ هنا أن الاستمرار في الوصف للسيدة بركاهم يوحي لنا بالكثير من الغموض، ولجوء السيدة للسحر، ومُمارسة العديد من الألاعيب السرية المُخيفة؟ إن الكاتبة هنا تُلمح أكثر مما تفضي، وهذا من شأنه أن يعمل على المزيد من جذب الانتباه، وإثارة تساؤلات القارئ عن هذه الشخصية الغامضة. لكننا سنُلاحظ أيضا أن القاصة لا تستمر في الإدلاء بالمزيد عن الخالة بركاهم، بل تعرج إلى إخبارنا بأن الخالة قد أصيبت بمرض ما غامض جعلها تسقط في الحمى والهلوسة، مما دفع بالفتاة إلى الاهتمام بها ورعايتها في محاولة منها لإنقاذها من الموت الذي كان قريبا منها، وهو ما أدى إلى أن الخالة بركاهم حينما استعادت عافيتها تغيرت مُعاملتها للفتاة، ومن ثم بدأت تحنو عليها، وتتعامل معها وكأنها ابنة لها.

هنا تبدأ القاصة في اقتحام العالم القصصي بشكل كامل والإفضاء لنا بما حاولت تأخيره عن علمنا، فتخبرنا بأن الخالة عادت إلى تغسيل الموتى، وجعلتها مُساعدتها الوحيدة التي تثق فيها: "جربتني أولا مع ليندا الشابة التي عثروا عليها ميتة اختناقا مع حبيبها في سيارته. على صوت هطول المطر ونحيب أم الميتة وشقيقاتها، قصت بركاهم أظافر الميتة، وخصلة طويلة من شعرها، ثم جمعت ما أزالته وخبأته في صدرها. كانت أطراف ليندا مُتصلبة بسبب بقائها طويلا في المشرحة، ولكي تُسهل مهمة تعريتها قمنا بقص ملابسها لننتهي بسرعة، بالقطن ملأت الخالة فمها وأنفها، وبدأت بصب الماء وغسل الجثة ببرود عجيب كما لو كانت تغسل ثلاجة بيتها! أراها تعلك اللبان المر بين فكيها وهي تربط تلك الأحزمة بعد كل لفة مُحكمة. تخرج بعد ذلك لتناول الطعام دون حتى أن تغسل يديها!".

هذا المشهد الذي استرسلت القاصة في قصه يحمل في باطنه الكثير من الأذى للقارئ، والخوف من هذه الشخصية الغامضة المُخيفة، لكنها تسترسل في المزيد من الحكايات والمشاهد الأكثر أذى وشرا عن هذه الشخصية التي تُمارس شرها ببساطة فعل التنفس: "العالية، كانت ضحيتنا التالية- لاحظ هنا اختيارها لمُفردة "الضحية" وليس لمُفردة "الجثة"، أو "الميتة"، أو غيرها من المُفردات المُناسبة- عجوز وحيدة عاشت في بيت شقيقها حتى وفاتها، قبل أن تبدأ بصب الماء على الجثة، طلبت مني إخراج السميد المفتول من الحقيبة التي جلبناها معنا، قربته من الميتة، وحملت يدها الشاحبة، وبحركات دائرية جعلت تلك اليد التي لا روح فيها تقوم بفتل السميد. الميتة الثالثة التي غسلناها معا في ذلك الصيف الطويل كانت سيدة خمسينية مجنونة، عاشت في الشارع مما يتصدق به الناس، كنا نُستدعى لغسل هذه الحالات التي ينبذها المُجتمع لأن سُمعة خالتي بركاهم لم تكن جيدة. ما فعلته بركاهم بالمجنونة كان مُختلفا، فقد وضعت في فمها حجابا ودفعته جيدا حتى مُؤخرة الحلق، وبعد ذلك بدأت بخياطة الشفتين بإبرة سميكة، واثقة من أنه لا أحد سيرغب بإلقاء النظرة الأخيرة على وجه هذه المنبوذة"!

إن العالم القصصي الذي نسجته القاصة هنا وأدخلتنا إليه هو عالم فيه الكثير من الشر الذي تمارسه هذه السيدة، وهو شر يكاد أن يكون مُطلقا من دون هدف، فهي تمارسه وكأنه السبب في بقائها حية على ظهر هذا الكوكب، بمعنى أنها لو توقفت عنه فقد تفقد حياتها، فضلا عن التمثيل بالجثث التي لا تمتلك أي إرادة بعدما فقدت حياتها، كما أنها تكره كنتها كراهية مُطلقة لاعتقادها بأنها قد سلبت منها الرجل الوحيد في حياتها ودفعته لكراهيتها/ ابنها؛ لذا فهي ترغب في إيذائها أيضا: "كي تنتقم من كنتها تنبش بركاهم قبرا منسيا، لا شاهد عليه، لتدفن فيه صورة أمينة لتُنسى كما يُنسى الموتى. تقطر العجوز من بولها في فنجان ابنها ليخضع لها ويطيعها، تجمع براز الكلاب لتستخدمه بعد جفافه في الأكل حتى يشمئز الرجل من زوجته، ويشعر كلما حدق إلى وجهها وكأنه يرى الخراء أمام عينيه! امراة أخرى قيل تسببت لها العجوز بالأذى، هي ضرتها حليمة، قيل قتلتها بالسحر! بحثت عن ضفدع سمين، حبسته لأيام في مكان مُظلم، وبدأت بتجويعه وتعذيبه ليموت ببطء، في التوقيت نفسه سقطت حليمة مريضة لا يفهم طبيب ما خطبها، يُقال بأنها عاشت مُعاناة الضفدع، يُقال بأنهما شهقا في اللحظة ذاتها!".

إن الشر والأذى هنا هما العمود الفقري الذي ينشأ عليه السرد القصصي، كما أن القاصة تتفنن في وصف هذا الشر بشكل لا بد أن يؤدي إلى إيذاء المُتلقي في ذات الوقت، لكن المُفاجأة هنا، أو فلنقل المهارة في إحكام السرد، واستخدام تقنية الالتواء، أي قلب الحدث بما لم نكن نتوقعه، نعرفها في ختام القصة حينما تموت السيدة بركاهم، وتغسلها القاصة بيديها، فنقرأ: "قبل موتها بسنة، قررت بركاهم أداء مناسك الحج، قالت: أريد أن أغسل عظامي وأطلب المغفرة. حقق لها ابنها الوحيد هذه الأمنية، ووقفت العجوز مثل ملاك طاهر أمام الكعبة بثيابها البيضاء، عادت مُطمئنة تردد لي: الآن أشعر بأن الجنة لن تُغلق أبوابها في وجهي. توفيت على غفلة منا جميعا، بكامل وعيها العقلي وصحتها الجسدية، تناولت غداءها في ذلك اليوم بهدوء تام، وصلت الظهر لتنام بعد ذلك على جنبها الأيمن، شعرت بانقباضات أليمة في صدرها، وصعوبة في التنفس: يبدو أنني راحلة اليوم، أحضري لي الصندوق يا ابنتي. ركضت إلى الخزانة، وفتحته بسرعة، بحثت العجوز عن قفل ثقيل وفتحته بمفتاح كان بين مجموعة مفاتيح في قاع الصندوق، تشبثت بيدي بقوة وقالت: أنت الآن حرة يا ابنتي"!


في الاقتباس السابق الذي أنهت به القاصة قصتها يتبين لنا الهدف الرئيس من السرد القصصي، وبناء هذه القصة، إنه الشر المُطلق، فضلا عن أنه يحمل في طياته شكلا من أشكال التساؤل، وربما السُخرية من الأسطورة الدينية التي تؤكد على أن الإنسان من المُمكن له أن يلهو كيفما شاء، ويؤذي البشر كما يريد، ويعيث في الأرض فسادا، لكنه إذا ما استطاع أداء فريضة الحج قبل موته للتكفير عن كل آثامه وعبثه الذي اقترفه فهو مغفور له كل ذلك الأذى الذي ألحقه بالآخرين، وكأنه لم يفعل بهم شيئا! يؤكد ذلك قول بركاهم: "الآن أشعر بأن الجنة لن تُغلق أبوابها في وجهي"، واطمئنانها المُطلق لذلك- إذن فلا عدالة في الأرض ولا في السموات ما دام هذا الشرط موجودا بمثل هذه الآلية- لكن المُفارقة هنا كانت في أن بركاهم رغم ذهابها لأداء طقوس الحج والرغبة في التكفير عن ذنوبها، لم تتراجع عن السحر الذي فعلته للقاصة، والسيطرة عليها طوال عمرها إلا حينما شعرت بأنها ستموت في هذه اللحظة بعينها. هنا كان عليها أن تفك أسر الفتاة المسحورة بألاعيبها السحرية الشيطانية لتطلقها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.

إنه الشر المُطلق الذي برعت فيه سارة النمس للتعبير عنه بشكل فني، شديد الإحكام، وهو القص الذي من شأنه أن يثير في المُتلقي العديد من التساؤلات التي قد يمسك عنها، مثل: هل بعد كل هذا الأذى من المُمكن بالفعل أن يُغفر لها لمُجرد أداء مجموعة من الطقوس الحركية من حول الكعبة؟!

في قصة "العشيق البوهيمي" ثمة محاولة من القاصة في التأكيد على أن أصل الإنسان هو البدائية، وأن كل ما يُقال عن أن العودة إلى الدين، أو التظاهر بالخضوع لعادات المُجتمع الأخلاقية مُجرد وهم يحاول الإنسان اللجوء إليه حينما يشعر باليأس من حياته، لكنه بمُجرد ما تُتاح له الفرصة مرة أخرى في أي مكان أو زمان؛ فهو يعود إلى طبيعته التي جُبل عليها، ولا يستطيع الخلاص منها، وهي الطبيعة البدائية التي يحاول إنكارها، أو التجمل أمام الآخرين بأنه يرفضها، ويبتعد عنها.

إنها بتلك القصة تحاول ضرب المُعتقد- الديني والاجتماعي والأخلاقي في قلبه مُباشرة- والتأكيد على زيفه من خلال الحديث عن بطلة قصتها "آسيا" التي عاشت حياتها بالطول والعرض من دون أي رادع أو منطق، أو عقل جريا وراء رغباتها الجنسية المُلتهبة لسنوات ثلاث في فرنسا، لكنها تعود إلى الجزائر فيما بعد لتدعي الطهر والعفاف، وبأنها لم يمسسها رجل من قبل، لتتزوج رجلا، تقضي معه الكثير من السنوات دون أن يعرف عنها أي شيء، ظانا أنه قد تزوج من امرأة لم يمسسها غيره كما كان يريد.

هنا تقتحم الساردة القص من قلبه مُباشرة من دون أي تمهيد، ومن خلال هذا الاقتحام المُباشر سُرعان ما تعود بنا فيما بعد إلى الماضي، وكأنها تستخدم تقنية Flash Back الفلاش باك في السينما: "هل نزلت آسيا في ذلك اليوم عمدا إلى القبو في منزل عائلتها لتنفض الغبار عن دفاترها القديمة؟ كان المصباح محروقا واضطرت لإضاءة السلالم بضوء هاتفها المحمول كي لا تتعثر، الطريق إلى الدفاتر كان مُظلما تماما مثل الطريق إلى ذكرياتها التي خبأتها في علبة سوداء داخل رأسها لم تفتحها لأحد مُنذ ثلاثين سنة! هي نفسها نادرا ما تعود لإزاحة غطاء تلك البئر من أجل تأمل ما ألقته فيها. اتخذت قرار التكتم والتناسي وهي تُزف إلى رجل انتقته بعناية كما تنتقي امرأة أنيقة فستانا مُناسبا لجسدها، يغطي عيوبها، ويضيء أنوثتها".

إذن، فالقاصة هنا تحاول الدخول إلى عالمها القصصي من خلال اللجوء إلى مُذكرات الشخصية القصصية لنعرف حياتها السابقة، وما فعلته فيها، ومن ثم تبدأ آسيا في قراءة مُذكراتها التي ستكشفها أمام القارئ للتعرف عليها، فنعرف أنها كانت في باريس في التاسعة عشرة من عمرها، وهناك قابلت شابا اسمه مُنير لأبوين جزائريين، لكنه وُلد في فرنسا، وهو ما يجعله ينكر دائما أصوله العربية مُؤكدا على فرنسيته، ورغم شعور آسيا بالنفور منه، ورفضه- ربما لأنه يمثل لها فرنسا المُحتلة للجزائر- إلا أنها في ذات الوقت تشعر بالانجذاب الشديد تجاهه؛ فهو: "يعيش الحياة مُكرسا نفسه لإمتاع أعضاء جسده، الأذن يمتعها بالمُوسيقى، والفم بالطعام اللذيذ، والعينان بتأمل الطبيعة والفن والجمال، أما عضوه السُفلي لا يدخل سوى امرأة تستفز كل حواسه".


قد نُلاحظ هنا أن أسلوبية مُنير التي يمارسها في حياته، والتي كرس نفسه من أجلها هي في جوهر الأمر ما جذب آسيا باتجاهه، فهو يمارس ما هو ممنوع عليها اجتماعيا، ودينيا، وأخلاقيا، ولأنها في قرارة نفسها تشعر بالرغبة العارمة في مُمارسة هذا الشكل من الحياة الممنوعة عنها؛ فهي تشعر تجاهه بشعورين مُتناقضين، الإعجاب لأنه يعيش هذه الحياة، والكراهية والنفور، لأنه يفعل ما لا تستطيع فعله.

تكتب سارة: "يريدها منير أكثر من أي وقت، يكفي أن يفكر بها ليقف عضوه مُنتصبا رغم ما عرفه عنها من صديقتها، أخبرته نينا بأن آسيا ليست كما يظن، هي شابة تقليدية جدا، ومُتدينة، تصوم، وتصلي خمس مرات في اليوم! بعد شهر من صفعة المكتبة تفاجأت آسيا برفيقتها في الغرفة تستقبل منير في غرفة نومهما ليعملا على مشروع دراسي. استأذنتهما نينا لدقائق بحجة شراء أدوية من الصيدلية، حينها استغل منير الفرصة لاكتشاف جسد آسيا، سد الباب بظهره، وأمسكها بقوة من معصميها ليلقي بها إلى السرير، ثبتها عليه بيديه وراح يشمها من خلف الأذن، ثم العنق، مُمررا أنفه على الخط الذي شكّل التقاء ثدييها. بأسنانه رفع القميص وبدأ يلعق بطنها، ويطبع القبلات حول سُرتها، هي التي كانت في البداية تطلب منه بعدائية المُغادرة، سُرعان ما ارتخت أطرافها المُتمنعة ما إن بدأ قضيبه يغوص داخلها لتمنح عذريتها لرجل لا تحبه، ولا تعرف عنه شيئا!".

إذن، فإعجاب آسيا السري بمُنير، ورغبتها في أن تعيش حياته قد دفعها إلى منحه لجسدها، وهو الأمر الذي أزال كل الكراهية والنفور السابقين اللذين كانت تشعر بهما تجاهه، فهي لم تعد تنفر منه لأنها بدأت تعيش ما كانت محرومة منه من قبل، وبالتالي بدأت في تناول الكحوليات، وتدخين الحشيش، ومُمارسة الجنس بكل أشكاله بشراهة وكيفما اتفق: "هي التي أكدت لصديقاتها بأنها لن تضع في حياتها عضو رجل في فمها، أصبحت تضعه مُستمتعة إذا تعلق الأمر بعضو منير! في الفراش، لا ممنوعات بينهما، يجربان كل يوم وضعيات جديدة، ويُعدان خططا مشوقة لمُمارسة الجنس. عندما عرض عليها حبيبها علاقة ثلاثية، ترددت قليلا ثم وافقت، فعلتها مرتين، مرة معه ومع صديقه، ومرة معها ومع صديقتهما نينا".

أي أن آسيا استحالت هنا من شخصية إلى شخصية أخرى تماما، تمارس نفس الأفعال التي كانت تصفها بالحيوانية، واللاأخلاقية من قبل. لكنها استيقظت ذات يوم، وبعد ثلاث سنوات من مُمارسة هذه الأفعال بشكل يومي، وهي تشعر بالكثير من الخوف، والرغبة في التوقف عنها، بل والعودة مرة أخرى إلى الجزائر، ورغم أن منير حاول إثناؤها عن هذا التفكير، ورغم أنه وعدها بأن يتزوجها وقضاء العطلات معها في الجزائر، إلا أنها رفضت وعادت إلى بلدها محاولة تناسي كل ما فعلته في هذه السنوات: "تزوجت آسيا من طبيب لامع في مدينتها، فيه كل مواصفات الزوج الصالح لأية امرأة تفكر بالزواج! شرطه الوحيد ألا يكون لامرأته ماضٍ أسود من العلاقات مع الرجال. اضطرت لتلفيق حكاية عن خسارتها عذريتها، وأخفت عنه مُغامراتها في باريس، وبعد ثلاثين سنة من الزواج قررا السفر إلى مكة لتأدية مناسك الحج. قبل الاغتسال من ذنوبها وحرق ذكرى منير إلى الأبد، فكرت بالنزول إلى ذلك القبو المُظلم مرة أخيرة لتقرأ قصتها وتحرقها في نية للذهاب إلى مكة بذاكرة نظيفة"!

إنها نفس السُخرية السابقة بشكل أكثر إمعانا وقسوة، وإثارة للتفكير: هل من المُمكن أن نفعل كل ما نرغبه، ثم نكفر عنه في لحظة بمثل هذه الطقوس لنصبح وكأننا لم نفعل شيئا في حياتنا السابقة؟ إن سارة النمس هنا تسخر بشكل فني، ترفض الاستكانة للأساطير وعدم إعمال العقل فيها، وهي في هذا الرفض إنما تمارس شكلا من أشكال القص الفني المُحكم.

بالفعل تذهب آسيا مع زوجها إلى الحج، لكنها أثناء طوافها بجوار زوجها حول الكعبة تُلاحظ رجلا وسيما يسوق كرسيا مُتحركا لحاج هرم: "إنه منير بعد ثلاثين سنة من الغياب. منير الذي افتك عذريتها، والتهم قلبها، ولم يبق على العقل شيئا. تأملت وجهه جيدا بالجوع الأول الذي عرفته معه، هو لا يبدو اليوم مُتأثرا بشعائر الحج، بل كرجل آلي يقوم بواجبه الإنساني تجاه والده المريض! ما زال جسد هذا الكهل جذابا، وتلك التجاعيد حول عينيه زادته فتنة على فتنة، تأملت يديه القويتين بعروقهما النافرة، وتذكرت كيف كان يمررهما على مواطن إثارتها، شفتيه العجيبتين اللتين توصلانها إلى النشوة، والصدر العريض الذي كانت تُمرغ عليه وجهها، أحست آسيا بإحساس غادرها مُنذ سنين، ببرودة تجتاحها! بهبوط سريع بدأ من معدتها، نزولا إلى أسفل بطنها، وصولا إلى مركز شهوتها: يا إلهي! اغفر لي، يبدو مُثيرا أكثر من أي وقت!".

إن هذا المقطع الذي أنهت به القاصة قصتها يحمل في باطنه الكثير من السُخرية، والأكثر من الاستخفاف بالمفاهيم الجمعية عن الأخلاق، والعادات، والتدين الذي من شأنه أن يطهرنا، وغير ذلك من الأفكار التي تبدو مُقدسة في ظاهرها، وإن كان المُجتمع هو الذي أضفى عليها صفة القداسة في حقيقة الأمر، بينما هي أفكار من المُمكن التخلي عنها ببساطة في أي لحظة، وفي أي مكان حتى لو كان حول الكعبة، وها هي آسيا بعد كل هذه السنوات التي ادعت فيها الأخلاق، والطهارة، وتقديس علاقة الزواج بزوجها، بمُجرد أن رأت منير مرة أخرى في مثل هذا المكان- الروحاني كما يتم وصفه- تشعر بالكثير من الإثارة والرغبة فيه مرة أخرى؛ فهو كما خاطبت الله: "يبدو مُثيرا أكثر من أي وقت"! أي أنها كانت شديدة البراعة في إغلاق العالم القصصي هنا.

هذه الثورة على الثوابت، وأسطوريتها، وإكسابها المزيد من القداسة بعدم إعمال العقل فيها، وتعطيله الكامل عن التفكير في لاعقلانتيها توغل القاصة فيها عميقا مرة أخرى، وبشكل مُحكم الفنية والمنطقية في قصتها "مُلحد في المسجد" التي تتحدث عن شخص وُلد كفيفا، لم ير أي شيء في حياته، مما يجعله حينما يتنمر عليه ابن الجيران، مُخبرا إياه بأنه أعمى، يسرع إلى والده ليسأله عن معنى ذلك، فيخبره بأن الأعمى هو من لا يرى سوى اللون الأسود، ومن هنا يبدأ في التساؤل عن الألوان، وعن شكل الأشياء الأخرى، وعن السبب في كونه أعمى: "وُلدت أعمى، أو ربما رأيت بعض المشاهد حين كنت رضيعا كما ذكرت والدتي، ثم توقفت عيناي عن مُلاحقة يديها، في سنواتي الأولى، وبسبب سذاجة الطفولة ظننت بأن جميع البشر لا يرون مثلي! لأفهم حالة الاستثناء لدي لمّا نعتني ابن الجيران بالأعمى، شرح والدي هذه الصفة الجديدة، والتي ستلتصق بي كل حياتي: الأعمى هو الذي عيناه مريضتان، ويرى العالم أسود. شعرت بقلبي يخرج من فمي من الخوف، والإحساس بالظلم. هل تراني الآن؟ نعم أراك. كيف أبدو؟ تبدو جميلا".

إن الكاتبة هنا تحاول شرح تلك المُعاناة التي يعانيها البعض ممن يولدون من دون بصر، وهو ما من شأنه استدعاء الكثير من الأسئلة بالفعل: لِمَ هذا الشخص بعينه أعمى، وما ذنبه، ولِمَ يريد الله أن يحرمه من نعمة الإبصار، أليس هذا شكل من أشكال التمييز، أو الظلم؟ وغير ذلك الكثير من الأسئلة التي لا بد أن تنطلق في ذهن أي إنسان.

لذا نقرأ بذكاء: "ستحدث لك مُعجزة إلهية ذات يوم. مُنذ بدأت أفهم العالم حولي وأمي تؤكد لي بأنني لن أبقى كفيفا إلى الأبد، هنالك كثيرون ممن يحبهم الله منحهم ما أخذه منهم بعد الابتلاء. ماذا يعني الابتلاء؟ يعني أن يختبرك في شيء تحبه ليرى إلى أي حد ستتحمل. ماذا لو اختطفت شخصا أحبه وبترت ساقيه وطلبت منه التحمل؟ كيف له أن يحبني بعد أن أقوم ببتر ساقه؟ تحقنني أمي الحبيبة كل يوم بآمال كاذبة، أدعي تقبلي لإعاقتي وبأنني لم أعد أحلم باستخدام عينيّ، ولكن في الحقيقة ذلك الأمل داخلي لم يمت".

إن الكاتبة هنا تسوق تلك المُسلمات- التي يؤمن بها الكثيرون من دون إعمال عقولهم- بعفوية كاملة، وبراءة، وكأنها لا تقصدها، وإن كانت تسخر منها بالشكل الفني المُناسب، فإذا ما كان الله يمنح من يحبهم ما سبق له أن حرمهم منه، هنا يكون السؤال: ولِمَ حرم هذا الطفل من بصره، ولماذا لا يحبه، وما ذنبه في هذا الحرمان من البصر؟ وغير ذلك من الأسئلة المشروعة والضرورية أمام هذا الموقف اللاعقلاني.

بالطبع هذا الموقف الذي يعاني منه الطفل لا بد أن يؤدي به إلى عدم الإيمان بهذه الغيبيات، ولا حتى بفكرة وجود إله، فلِمَ يريد الله به ذلك، ولِمَ فعل به هذا إذا ما كان موجودا؟

تكتب الكاتبة على لسان الشخصية في القصة: "أحدهم قال لي: أنت أكثر الناس حاجة إلى الله، لو أحببته لما حرمك من البصر كل هذا الوقت. أحببته؟ ولكنه حرم آخرين يؤمنون به. "سيجازيهم في الآخرة"، أكد لي. ولكنك لو كنت تصلي له ربما كان ليغير قدرك، ربما هو يعاقبك على كفرك بهذا الظلام"!

ألا نُلاحظ هنا لاعقلانية الفكر الأسطوري الديني الذي يرتكن إلى مجموعة من الهراءات غير المنطقية، والتي لا يمكن الاقتناع بها باعتبار أن هذا هو الدين؟ إنه الفكر الديني الشائع بالفعل من حولنا، والذي نستمع إليه من الكثيرين، ويردده العامة. الاستسلام الكامل للقدر تحت المزيد من الدعاوى التي لا معنى لها باعتبار أن الله يريد ذلك، لاحظ جملة "لو أحببته لما حرمك من البصر كل هذا الوقت"، إنه الإيغال في السُخرية، واللاعقلانية، والرفض الفني لهذا الهراء الذي يسود المُجتمعات من حولنا. فالفتى هنا قد وُلد كفيفا، أي أنه لم يكن يعرف بعد معاني الحب والكراهية، والإيمان، والكفر، وغير ذلك من هذه المفاهيم التي نقوم باختراعها، ورغم ذلك فهو مُتهم بأنه السبب في عدم إبصاره.

"لم أجرب الصلاة، ولا أعرف إذا كانت مُجدية حقا كما يدعون؟ والدتي التي تتوسلني كي أرافقها إلى السعودية لأجل فريضة الحج، تحدثني عن قريب كفيف استعاد بصره أمام الكعبة، عن مشلولة نهضت من الكرسي المُتحرك ما إن وصلت أمام قبر النبي. تقول: لو ذهبت إلى الله بقلب لا يعرف الحقد سيصغى ويعيد إليّ بصري"!


ألا يبدو لنا الأمر هنا وكأنه مُعاقب من قبل الله على ما لا يعلم سببا له؟ وأن الجميع من حوله يؤكدون له على المُعجزات التي لا تحدث سوى في أذهانهم؟ إنها المزيد من الأساطير التي يخترعها البشر تحت دعوى الإيمان بالقدر، وغير ذلك من الادعاءات. لذا يفكر الفتى في الأمر، فربما كانوا على صواب- رغم أنه غير مُقتنع بكل ما يذهبون إليه- ومن ثم يذهب مع أمه إلى الحج كي يعود إليه بصره مرة أخرى كما يدعون.

يؤدي الشاب كل طقوس الحج كما يفعلها غيره، وكما طُلب منه، وهو في هذا الأداء يحاول أن يبعد عن ذهنه الشك في تحقق الأمر، لكنه يتأمل هذه الأفعال غير العقلانية تحت مُسمى الدين: "أتجه إلى منى لأرمي الجمرات، إنه أكثر الطقوس- بالنسبة لي- استفزازا وتعارضا مع منطقي، لو كان الشيطان موجودا هنالك ليُرجم، لماذا لم ينته الشر من العالم؟ لماذا يصر الناس دائما على اتهام الشيطان بذنوب استمتعوا بارتكابها؟".

إن هذا التفكير المنطقي من الشخصية القصصية الكفيفة إنما هي نفس أفكار الكاتبة المُتخفية من خلف هذه الشخصية، والتي تحاول بث أفكارها من خلالها بفنية سردية تلقائية بشكل لا يبدو لنا قصديا، لكن رغم أن الفتى يؤدي كل الطقوس بالكامل فهو لا يعود إليه بصره مما جعله يكاد أن يُصاب بالجنون: "سنقوم الآن بطواف الوداع، الهدوء المُخادع تحول إلى عصبية لم أعش مثلها من قبل. عاجز عن ربط أفكاري ومعرفة ماذا أقول ولا أقول، أنا أعمى من الداخل أيضا! أمام الكعبة، وبصوت مُرتفع ألعن اليوم الذي أصغيت فيه إلى أمي الجاهلة، أهاجم كل من يحاول الإمساك بي، يحاول الناس إبعادي عن المسجد، يتعوذون بالله مني وكأن الشيطان في نظرهم ليس أحدا سواي"!

لكنه في مكتب التحقيق، وحينما يجد نفسه في ورطة حقيقية بسبب ما بدر منه أثناء غضبه الشديد يحاول ادعاء الجنون بتأدية جُمل حفظها من مشهد كوميدي للمُمثل الجزائري عثمان عريوات، وهي جمل ينطقها باللهجة الجزائرية التي لن يفهمها السعوديون، لكنه يتساءل بينه وبين نفسه: هل هو مجنون بالفعل؟

بالتأكيد إن الإغلاق على مثل هذا التساؤل يستدعي منا بالضرورة تساؤلا آخر: إذا ما كان هذا الفتى مجنونا بسبب تفكيره المنطقي، فماذا عن كل هؤلاء المجانين الذين يصدقون كل هذه الهراءات والمُعجزات التي يؤمنون بها؟ هل هم العقلاء؟!

هذا الانتقاد لما يسود المُجتمع من الإيمان بالأساطير والغيبيات اللاعقلانية تستمر فيه الكاتبة في غير هذه القصة من قصص المجموعة، وهو ما نقرأه أيضا في قصة "منزل العمة فايزة" التي تتناول فيها فتاة في العاشرة من عمرها يقحمها والدها في تجربة غريبة كدرس لها في التقدير، وعدم الدلال بشكل مُطلق، وهو الدلال الذي أفسدها وجعله غير قادر على التعامل معها، فيرسلها إلى بيت عمتها فايزة، وهي المرأة المُتدينة مثل زوجها وأطفالها الذين تربيهم على هذا الشكل من التدين الصارم، القاتل للحياة فيهم، وبالتالي فهناك مواعيد للنوم، والاستيقاظ، وممنوع رؤية التلفاز إلا على برامج الحيوانات، والبرامج التربوية فقط، لأن الكارتون حرام، والمُوسيقى حرام،  كما أنهم لا بد أن يستيقظوا في البرد فجرا من أجل أداء صلاة الفجر، والتوضؤ بالماء البارد، وغير ذلك من القواعد الصارمة التي تجعل الشخص ينفر من الدين والتدين: "في الساعة الخامسة صباحا لم أستطع التمييز ما إذا كنت أحلم أم أنني فعلا أرى شبحا طويلا يقف عند قدميّ. كلا، ليس كابوسا، ولا وهما، إنها عمتي تحاول إيقاظي لأصلي الفجر مع أولادها: أريد أن أنام. هل تحبين النوم أكثر مما تحبين الله؟ ولكن الماء بارد جدا. قالت: ألن تتحملي لأجل الله؟ لماذا لا نسخنه؟ البارد أفضل كي نصحو ونعرف ما نرغب بتلاوته"!

إنه الله، والتدين له، وعبادته التي لا بد أن نتعذب فيها لإثبات خضوعنا وعبادتنا له كما يراها الكثيرون من المُتدينين في العديد من الديانات، وهو ما من شأنه أن يجعل الشخص الذي يتربى على ذلك شاعرا بالكثير من النفور من هذا التدين، وعدم الرغبة الحقيقية فيه.

تعود الطفلة إلى بيتها بعد الحياة لمُدة يوم واحد مع هذه العائلة، وهو اليوم الذي أكسبها الكثير من الخبرة والالتزام في بيت والدها والابتعاد عن الدلال المُفرط، لكنها تأملت عائلة العمة فايزة فيما بعد، وما آل إليه مصيرها: "ما الذي تغير في تلك العائلة بعد عشرين سنة من الحياة؟ شكلا، حافظت عمتي على وزنها، ولم تكتسب سوى بضع تجاعيد حول عينيها، أنفال تخلت في الجامعة عن جلبابها، كما أغرمت بشاب منحته عذريتها قبل أن تتزوج به بعد عامين. ساجدة أصبحت عازفة كمان، وطلبت من المحكمة تغيير اسمها إلى سامية لأنه يتناقض مع ميولاتها الفنية. بسملة أقرب البنات إلى أمها، تزوجت رجلا اختاره والدها، وخرجت يوم زفافها بالجلباب الأسود في مراسم حزينة، خالية من علامات الفرح والاحتفال. عاصم التحق بالجيش، مُخالفا رغبة والده الذي كان يمقت المُؤسسة العسكرية، يُثبتُ عاصم شعره، ولا يطيل لحيته حتى مواكبة للموضة، أما ياسين فشاب وسطي، من الأشخاص الذين لا يجدون حرجا في أداء الصلاة، وبعدها الإصغاء إلى أغنية لأم كلثوم. في عامها الستين، ركعت عمتي فايزة أمام الكعبة مُحطمة القلب تتساءل عن الخطأ الذي ارتكبته لتجتاز ابتلاء كهذا في أبنائها؟ فعلت كل ما بوسعها لتمنحهم تربية صحيحة، فلماذا كبروا ليكونوا ما هم عليه الآن؟ لو سألتني لقلت لها: الخطأ الوحيد الذي ارتكبته، هو أنك جعلتهم بنفسك يكرهون الله".

رغم أن الكاتبة تُدرك جيدا كيفية صياغة قصة بشكل فني مُحكم، ورغم لغتها السلسة الشديدة الانسيابية في القص، ورغم جمالية التشبيه الاستعاري الذي قرأناه في مثل هذه القصة حينما كتبت: "ببطء مُعذب للأعصاب ينقضي اليوم في بيتهم، ظلت الشمس حاضرة وكأنها لن تغيب عن ذلك البيت، إلا أنها غابت أخيرا مثل سيدة ثقيلة الوزن تستغرق وقتا في النزول من سيارة الأجرة"، ورغم تركيزها على موضوع الشر الذي يحيطنا في هذا العالم، والسُخرية المُنتقدة للأساطير الدينية، إلا أننا سنُلاحظ أن القاصة قد أنهت قصتها هنا بشكل غير فني تماما، بل كان شديد المُباشرة والسطحية. فالإغلاق الفني والحقيقي للقصة كان لا بد أن ينتهي عند "فعلت كل ما بوسعها لتمنحهم تربية صحيحة، فلماذا كبروا ليكونوا ما هم عليه الآن؟".

إن التوقف عند هذا التساؤل هو الإغلاق المنطقي للقصة كي تظل مُتماسكة، مُحتفظة بفنيتها، لكن الكاتبة لم ترغب في التوقف هنا، ومن ثم فشهوتها للكتابة، دفعتها إلى الاستمرار بالجملة الأخيرة التي أفسدت القصة؛ لأنها بهذه الجملة فقدت فنيتها، ودخلت مجالا آخر لا علاقة له بفنية السرد في القصة القصيرة، بل باتت من قبيل الحكمة التي لا بد أن نتعلم منها، ونأخذ منها الموعظة، وبالتالي أفسدت القصة.

في قصة "حاتم" تعود القاصة إلى توصيف الشر، وتفصيله بشكل مُطلق، شديد الإيذاء- سواء على المستوى الفني الذي تبرع فيه، أو ساديتها الكامنة فيها والتي تُمارسها على القارئ- ففي هذه القصة تتحدث عن امراة أنجبت طفلا مُصابا بشلل دماغي ثلاثي الأطراف، ورغم أنها كأم حامل كانت حريصة كل الحرص على الامتناع عن أي شيء من المُمكن له أن يؤدي بها إلى ولادة طفل مريض، أو ناقص، إلا أن الطفل الذي أنجبته كان مشوها. إن القاصة هنا تبدأ قصتها من قلبها مُباشرة، من دون أي مُقدمات أو تمهيدات، أي اقتحام الحدث القصصي، لذا نقرأ على لسان الزوج: "بعد وفاة ابننا حاتم دخلت زوجتي في حالة اكتئاب عميقة! قوقعة منيعة يستحيل على أي أحد اختراقها، حالة قاتمة من الحزن المُدمر للذات، فهي لا تستحم، ولا تمشط شعرها، ولا تأكل إلا القليل بعد الإلحاح، أراقب وزنها ينخفض، وأتأمل تساقط شعرها على الوسائد، أراها بهالاتها السوداء، ووجهها الذابل تقضي وقتها شاردة بين الإحساس بالفقد، والغضب، والكثير من الاحتقار لنفسها. تتقلب على سرير رائحته نتنة لأنها لم تعد تغيّر ملاءاته، والعناكب تغزو زوايا غرفنا لأن الضوء لا يدخلها أبدا. لقد حوّلت غرفة نومنا إلى قبر أرغمتني على العيش فيه إلى جانبها. عبثا حاولت إنقاذها من الحفرة التي وضعت نفسها فيها، أشتري لها هدايا لا تفرح بها، أجبرها على الأكل، وفي حوض الاستحمام عندما أغسل شعرها، وأفرك ظهرها يخيل إليّ وكأنني أقوم بذلك لجثة! أحضر لها خريطة العالم، وأطلب منها أن تشير إلى مدينة نسافر إليها، ولكنها لم تعد معي مذ رحل عنا حاتم، رافقته روحها إلى السماء، وظل جسدها المريض بالحزن إلى جانبي".

نحن هنا أمام أم مكلومة في فقد ابنها الوحيد الذي قضت حياتها معه، وتركت وظيفتها من أجل رعايته، ومُساعدته على عجزه الذي وُلد به- مرة أخرى طفل يولد بعاهة من دون ذنب، ورد الأمر إلى قضاء الله وإرادته ليثور داخلنا التساؤل: لماذا، وما هي الحكمة، وما ذنبه- وبالتالي فلقد فقدت روحها بمُجرد فقدها له، وكأنها لا تعيش معنا على ظهر هذا الكوكب.

هذه البداية من القاصة من شأنها أن تثير داخلنا الكثير من التعاطف مع هذه الأم المكلومة في طفلها، ومن هنا يأتي الإحكام في كيفية صياغة العالم القصصي الفني الذي تصوغه لنا القاصة؛ لأننا مع استمرارنا في مُتابعة السرد سيتكشف لنا مجموعة من الأحداث التي لم تكن لتخطر على بالنا مُطلقا، إنها فنية البوح بالحقائق حينما يرى الكاتب مُناسبة البوح بها، والإمساك عنها حينما لا تكون ضرورية.

"في أكتوبر المُنصرم، قدر الله أن أدخل البيت في ساعة أبكر من المُعتاد، وجدتها مُستلقية تحدق إلى السقف بشرودها الذي أصبح جزءا من طبيعتها، وعلى الأرض أربع علب فارغة من المُهدئات! أجبرتها على الوقوف، وأدخلت إصبعي في حلقها لتتقيأ بالقوة ما ابتلعته للتو. على ذلك السجاد الأحمر تقيأت الكثير من الأقراص، بعضها بدأ يتحلل في معدتها، وأنا أرتجف خوفا من خسارتها وهي كل عائلتي ودنياي. أحاول ألا أبكي في انتظار وصول سيارة الإسعاف، أما هي فمكثت جاثية على الأرض، واضعة رأسها على ركبتي، بدأت ألاحظ بأنها بعد محاولتها قتل نفسها غادرت غيبوبة كآبتها، وعادت للتواصل معي على الأقل بصريا، تُحدق إلى عينيّ مُباشرة بعينيها الباكيتين، وتتشبث بيدي خائفة لا أدري من ماذا: أنا قتلت حاتم. ما الذي تقولينه؟ يا حبيبتي حاتم كان مريضا وارتاح من مُعاناته. قتلته بكراهيتي! كنت أحتقره وأتمنى أن يموت أحدنا على الأقل. أنت تقولين أي شيء، أنا أعلم كم أحببته، وكم حزنت لموته. أنت لا تعرف أي شيء، لم تكن هنا حين كنت أتجاهله كي لا أغيّر له الحفاضات، وأدعي أنني مشغولة أو نائمة. لماذا تصرفت هكذا؟! لأنني مللت مسح الخراء عن مُؤخرته، ذهبت إليه في آخر مرة عابسة ومُستاءة، هل تعرف ماذا قال لي وأنا أنظفه؟ قال: ماما، اسمحيلي، غدوة.. تواليت. نفدت كل قدرتي على التحمل، كرهته وكرهت نفسي على إنجابه. قبل ليلة موته وقفت أتأمل ملامحه الغبية، لسانه الذي يعضه خارج فمه، لعابه الغزير كلعاب الكلاب، رائحته النتنة، أطرافه المعوجة، لقد أنجبت مسخا، هذا ما كنت أفكر به، الكراهية التي يكنها قلبي له، نظر إليّ بعينيه البريئتين، لا يفهم وجهي، ولكن يحس به، هل تعلم ما هي آخر جملة قالها؟ قال: ماما، حاتم يحبك. في اليوم التالي مات!".

ربما سنُلاحظ هنا في النصف الأول من هذا الاقتباس ما يجعلنا نتعاطف مع الأم والحالة النفسية التي وصلت إليها بسبب موت ابنها، ولكن كل هذا التعاطف سيتحول فجأة إلى ازدراء، وكراهية، ودهشة مما فعلته بابنها بمُجرد بداية اعترافها للزوج عما اقترفته في حق الطفل الذي لا حول له ولا قوة؛ لذا حينما يأتي الإسعاف من أجل إنقاذها لا يقوى الزوج المذهول على مُرافقتها إلى المشفى، بل يتركها وحدها مع المُسعفين ليظل وحده، تتردد في أذنه الجمل التي سمعها لتوه من زوجته.

سيتضح لنا مع التقدم في السرد أن شخصية الزوج في القصة إنما يحكي لصديق له عبر الإيميل عن حياته مع زوجته، وطفلهما الذي مات، وأن الزوج والزوجة في السعودية لأداء مناسك العمرة بعدما تصالحا، وحاولا طي هذه الصفحة القاسية في حياتهما، وإخبارها له بأنها في حاجة ماسة إلى هذه الرحلة الروحية بعدما حدث، لكن الزوج يستمر في الحكي لصديقه بقوله: ثمة حلم يؤرقني لا أستطيع التوقف عن التفكير به! رأيته في الليلة الأولى التي قضيتها في الفندق، حلم يشغلني عن الصلاة والتسبيح والاستغفار، نعم لهذا الحد! رأيت ابني حاتم بصحة جيدة، يلعب في البيت بأطراف سليمة ويتكلم جملا واضحة، ركعت على ساقيّ لأشاركه اللعب فقال: تعال أريك كيف قتلتني ماما. وأمسك بيدي لندخل غرفة نومه. على السرير كان هنالك حاتم آخر نائم! حاتم الذي أنجبناه مريضا، كانت زوجتي تقف أمام السرير تتأمل ملامحه بكراهية مُخيفة، وبشر لم أر مثله في وجهها، حملت وسادة ووضعتها على وجهه حتى فارق الحياة! هل يُعقل هذا؟ هل يُعقل أنها أخفت عني حقيقة كهذه؟ ربما تكون حقا من قتلته ولا أدري، أم أنها أضغاث أحلام؟".

هنا تكون القاصة قد أغلقت قصتها بشكل شديد الفنية والإحكام، والاكتمال، حيث تترك القارئ على شفا الشك والتساؤل الذي لا جواب لهما، فهي أولا قد أدخلت زوجها إلى كابوس لن يخرج منه مدى الحياة، بل سيموت وكابوسه ما فتئ يطارده ويفسد عليه ما تبقى له من الحياة مع زوجته، ومن جهة أخرى فإن ما صرح به الزوج من شكوك ربما يكون بالفعل هو ما قامت به الزوجة، وهو الأقرب إلى الظن، أي أنها عجزت عن التصريح بكل ما قامت به تجاه الطفل، وهنا تكون القاصة قد أمعنت كثيرا في قسوتها، مُتعمدة توصيفها بسادية، وشكل أعظم من الأذى الذي قرأناه بشكل فني. ونحن نميل هنا إلى أن الزوجة بالفعل قتلت الطفل بهذه الطريقة، لا سيما أن هذا الظن يتناسب مع قول الزوج في القصة: "مهما ادعيت بأنك تحفظ زوجتك، هنالك ما لن تعرفه إلا إذا سمعته بالحرف من فمها"- لاحظ هنا أيضا أن الزوجة للتكفير عن جريمتها وقتلها لطفلها، رأت أن تتجه لأداء مناسك العمرة، كي تعود مُتطهرة من فعلها، وكأنها لم تفعله، وبالتالي تعود وقد شعرت بالطمأنينة النفسية، والرضى عن نفسها.

في قصتها "إبليس يطلب المغفرة" توغل سارة النمس بعيدا في توصيف الشر المُطلق، والإيذاء النفسي للشخصيات القصصية، والقارئ معا، وهو المستوى الأعلى من السرد المُحكم في هذه المجموعة القصصية، وأقصى شكل من مُمارسة السادية على قارئ هذه المجموعة، إن القاصة في هذه القصة ترويها على لسان شخص بيدوفيلي على شفا الموت، وهو يعيش لحظاته الأخيرة في هذه الحياة، مُتذكرا ما سبق له أن فعله بإحدى الفتيات الصغيرات من وقوعه في عشقها، وشغفه بها، ثم اغتصابها، وقتلها، وحرقها، ودفنها. ورغم مرور العشرات من السنوات على هذا الحادث الذي لم يكتشفه أو يعرفه أحد، إلا أنه يحاول استرجاعه، بل والاعتراف لأم الطفلة بما حدث، وبأنه هو الذي اغتصب ودفن ابنتها التي لم يكتشف أحد من قبل ما الذي حدث لها، أي أنه من شأنه أن يعيد موت الطفلة واغتصابها من جديد وكأنه حدث لتوه بهذا الاعتراف الذي يرغب فيه لأم الطفلة التي لم تكن تعرف شيئا.


لا بد أولا من التأكيد على أن الكاتبة برعت إلى حد بعيد في تقمص شخصية الرجل البيدوفيلي في هذه القصة، حتى أنها تصف لنا بكل دقة مشاعره المُلتهبة، وشغفه الذي يشعر به تجاه الطفلة، بل ومُبرراته التي اقتنع بها من أجل الاستمرار في إغواء، والتغرير بهذه الطفلة.

تمهد القاصة أولا لقصتها التي هي على وشك سردها برجل مريض، يعاني من سكرات الموت، وشكله الذي بات نحيفا بسبب العلاج الكيميائي، ووجود أمه إلى جانبه ظانة أنه مات، لكنه كان يفيق ليطمئنها. إنه يعاني من كوابيسه التي يرى فيها "توتة" حبيبته الأبدية، وكابوسه المُطلق، ومن ثم يرى أنه لن يرتاح إلا بالاعتراف إلى أم "توتة" لذا يطلب من أمه استدعائها من أجل الاعتراف لها.

لعل وصف سارة النمس للطفلة على لسان الرجل في هذه القصة كان من الدقة والبراعة ما يجعلنا نتأمل: "ينادونها "توتة" وهي شهية تماما كحبة التوت السوداء الحلوة مع درجة خفيفة من الحموضة، ثمرة عمرها خمس سنوات، نبتت في البيت المجاور لبيتنا، كانت تأتي للعب مع ابنة أختي وتتطفل عليّ في غرفتي، تطرح الأسئلة، تعبث بالأشياء، تُقلد الكبار، وتحب أن ألعب معها لعبة الوحش الذي إذا وجدها يدغدغها حتى تبكي من الضحك، تتبختر في فنائنا بفساتينها الملونة، وتتصرف مثل سيدة وهي ترتب خصلات شعرها أثناء تحديقها إلى انعكاس أنوثتها في المرآة. لقد أحببتها! ليس كما يحب الرجال الأطفال ويرغبون بإنجابهم، كلا، لقد أُغرمت بها مُنذ الأيام الأولى. أراها تحمل مصاصة وتدخلها بين شفتيها الحمراوين فأحس بحرارتي ترتفع، وقضيبي يتحرك، أتخيلني أنزع المصاصة من فمها، وألحس شفتيها الصغيرتين، أشم رائحتها الطازجة التي لم تتلوث بعد بتأثير الهرمونات وعرق النساء، وتسلب الإثارة عقلي إذا حملت الصغيرة على ساقيّ بينما أفكر بأن مُؤخرتها مُلتصقة بفخذي، أرغب بقلبها على بطنها وتقبيلها بجنون حتى أقذف. علمت أن حبي لتوتة غلطة لن يغفرها لي أحد، ولم يكن بيدي فعل شيء إزاء شعوري نحوها. في الثانوية أحدق في زميلاتي، نهودهن، مُؤخراتهن، لا شيء يحذبني إليهن، أتصفح المجلات الإباحية فأجد أجساد النساء مُقززة بحلماتهن الكبيرة، أشمئز من شعر العانة واسمرار المهبل وحجمه الكبير، إن البراءة هي الصفة الوحيدة التي تفتن حواسي وأحاسيسي، خاصة وقد تجسدت في أجمل طفلة، توتة. لماذا ليس مُتاحا لمن مثلي الزواج من طفلة يحبها؟ ولكن حتى لو كان مُتاحا ستكبر، وسيتحول اهتمامي إلى طفلة أخرى"!

إن الرجل هنا مُصاب ببيدوفيلية خالصة لا يمكنه الخلاص منها، وهي بيدوفيلية- من خلال الوصف الذي وصفته القاصة- شديدة الإيلام، تشعره بالكثير من الحرمان، والوجد، والحاجة، حتى أن القارئ- رغم الجرم، وهول ما يشعر به تجاه طفلة- قد يتعاطف مع عذابه الذي يشعر به تجاه طفلة عمرها خمس سنوات؛ فهو لا تثيره النساء، بل يشعرنه بالقرف والاشمئزاز، والرغبة الوحيدة التي تحركه هي الطفولة، وبراءتها.

يحاول الرجل الهروب من مأزقه القاسي الذي يشعر به بالعمل بعيدا عن البلدة بمسافة تبتعد حوالي الثلاث ساعات ونصف الساعة، لكنه رغم ذلك ظل يتعذب بخيال توتة التي يرغب فيها، وهو ما جعله يفكر في جلبها إلى مكان عمله، والانفراد بها، ومن ثم خطط للعودة إلى البلدة عند الظهيرة حيث تكون الأمهات نائمات في قيلولتهن، بينما الأطفال يلعبون أمام أبواب بيوتهم، وينجح في ذلك بالفعل، وعندما ينفرد بها نقرأ: "بعد العشاء نزعت ثيابي مُحتفظا بالشورت، أراقب حركتها في الغرفة وضحكتها الخلابة أثناء مُشاهدة الرسوم المُتحركة، أداعب عضوي الذي بدأ يتضخم في يدي مأخوذا بها كما لو كنت أحلم. بدأت أُقبل الصغيرة خلف أذنها، وأدس يدي في كيلوتها البنفسجي، تتهرب توتة مُنزعجة: لا أريد أن ألعب هذه اللعبة. أنزع فستانها بالقوة فتنكمش من الخجل، وتُعبر عن رغبتها بالعودة إلى بيتهم. أحدق إليها بعينين غاضبتين بعد أن تلقيت عضة مُؤلمة منها، تبكي: أنت تؤلمني، اترك شعري. أُبدي صرامة ترعبها: هل تذكرين كيف ذبحت كبش العيد؟ إذا فعلت شيئا خاطئا سأذبحك مثله وآكلك. أُقبلها بنهم في كل مكان في جسدها الصغير، قضيبي الآن مُنتصب، يُشكل زاوية قائمة مع ساقي، أدخلها، تتألم، أغلق فمها بيدي، لا تتوقف عيناها عن سكب الدموع، أكمل الإيلاج لاهثا، غائبا عن الوعي، أنا الآن في جنتي ألتهم التوت الذي اشتهيت، أقذف، أصرخ من اللذة وأفتح عينيّ. فقدت توتة وعيها! ودمها لوث مساحة كبيرة من السرير، قلبي يدق بسرعة، أنا خائف، لا أعرف ماذا أفعل بها؟ لا يمكنني أن أعيدها إلى والديها، ستشي بي وأدخل السجن، وأصبح ملعونا في قريتي. هل ألقي بها في أي مدينة بعيدة؟ لكن، لا، قد تعثر عليها عائلتها لتنتهي حياتي، وأتعفن في السجن، على توتة أن تختفي من هذا العالم! لكن يا ألله لا أستطيع، أحبها، لا يمكنني قتلها هكذا ببساطة، عليّ أن أختار بيني وبينها، كانت حلما جميلا، ويكفيني ما حصلت عليه ليوم واحد لأعيش بقية عمري سعيدا. الآن وقد حسمت أمري، كيف أقتلها؟ هل أذبحها بالسكين؟ لا يمكنني احتمال رؤية المزيد من الدم، ولن أعرف كيف أنظفه، أسممها؟ قد يتأخر موتها، وتتقيأ طويلا قبل أن ينتهي كل شيء. استيقظت توتة عارية تحدق إليّ بوجه حزين وملامح خائفة، تقول بصوت يكسره البكاء: اديني لماما. نامي الآن. ترفع صوتها: قلت لك اديني لماما. أقفز عليها، وأجعلها بين ساقيّ: ابقي عاقلة كي لا أعاقبك مرة أخرى. تتوسلني: ربي يعيشك، خلاص ما نبكيش، والله نقعد عاقلة. أضع يدي على عنقها، أخنقها بكل ما أملك من قوة، تسعل، تتغير ملامحها، تتسع عيناها، تتخبط ثم تهدأ أخيرا، ألصق أذني بصدرها، لا أسمع نبضات قلبها، توقف كل شيء حي فيها. أعانقها باكيا ونادما، ولم أملك حلا آخر لأصحح غلطتي، أضعها في كيس زبالة أسود، وأسوق السيارة في الثانية بعد مُنتصف الليل باتجاه الغابة، أسير على قدميّ مسافة كيلو مترات حتى أبتعد عن الطريق، هنالك أفرغ عليها البنزين، وأضرم النار في جسدها، وبينما تحترق وتتفحم أحفر قبرا صغيرا وعميقا لما سيتبقى من عظامها".

ربما حرصنا على هذا الاقتباس الطويل لدقة الوصف، والتفاصيل التي ساقتها الكاتبة، فهي تتأمل، تُعبر عما يشعر به، تنجح في الغوص بعيدا في أعماقه ونقل مشاعره، وشغفه، وإثارته، وخوفه، وارتباكه، وقلقه، لا سيما أنها تحكي على لسانه، أي أنها تتقمص شخصيته الذكورية المريضة.

بالتأكيد إن كل من سيقرأ هذه القصة سيشعر بالمزيد من الشر الذي يسود هذا العالم، والأكثر من القسوة التي لا تنتهي بين البشر، بل سيشعر بإيغال الكاتبة في ساديتها ورغبتها القاسية في إيلام القارئ أيضا مع شخصياتها الفنية، لكننا مع الاستمرار في القراءة سنشعر بالمزيد من الدهشة، حيث ستستخدم القاصة هنا مرة أخيرة حيلتها الفنية، وسُخريتها من الأفكار الدينية، ورفضها لما يؤمن به الآخرون: " كي أرتاح من عقدة الذنب سافرت إلى مكة، صليت بقلب نادم ورجمت الشيطان أطلب من الله المغفرة بلا جدوى، هذه الكوابيس لن تتوقف إلا بتوقف النبض في قلبي".

إن الظاهرة الشعبوية الجمعية التي يؤمن بها جل مُتبعو الأساطير الدينية ترى أن الحج، أو التوبة من شأنها أن تنفي كل ما كان، وكل ما سبق، وكأن البشر الذين تم قتلهم، أو إيذائهم، أو الاعتداء عليهم لا حقوق لهم، ما دام الشخص قد تاب، ولجأ إلى الأساطير الدينية، وهو ما ترفضه الكاتبة هنا، وتسخر منه في جميع قصصها، ولعلنا نُلاحظ أن تسع قصص من قصص المجموعة البالغة عشر قصص فقط- فيما عدا قصة المرأة السهلة- تنتهي بالذهاب إلى مكة من أجل الحج، أو العمرة، ومن ثم خلاص جميع من يتميزون بالشر من شرهم، والعودة شاعرين بالراحة والاطمئنان وكأنهم لم يفعلوا أي شيء من المُمكن له أن ينغص عليهم حياتهم!

يصر الرجل الذي على فراش الموت أن تستدعي أمه "أم توتة" لرغبته في الحديث إليها ، فنقرأ: "تتقدم سيدة ستينية إلى جانب والدتي، تغيرت كثيرا! لقد أعاد كل من الحزن والزمن تشكيلها، لكن على الأقل ليس كما أعاد المرض تشكيلي، أطلب منهم أن يتركونا بمُفردنا، تجلس على الكرسي المُقابل لسريري مُرتابة والفضول ينهشها، وليس لها الصبر على تحمل بطئي في الكلام، أحدق إليها بنظرات آسفة وأقول: اليوم أدلك على قبر توتة".

بهذه الجملة التي تختتم بها القاصة قصتها تكون قد أعادت مقتل توتة واغتصابها للمرة الثانية في نفس أمها، وهو شكل آخر من أشكال القسوة والإيذاء الذي تُصر الكاتبة على اللجوء إليه بشكل فني.

إن المجموعة القصصية "إبليس يطلب المغفرة" للقاصة الجزائرية سارة النمس، هي مجموعة قصصية مُكتملة إلى حد كبير على المستوى الفني، تعي فيه الكاتبة جيدا كيفية كتابة القصة القصيرة ببراعة، وذكاء، وإحكام من خلال لغة شديدة السلاسة والانسياب، لكنها براعة تحمل في داخلها الكثير من القسوة الفنية على العالم القصصي نفسه، بل وعلى القارئ أيضا، مما يجعل من تجربة القراءة- مع انسجام القارئ وتماهيه في العالم القصصي شاعرا بالإيذاء والمزيد منه بسبب إصرار القاصة على ىالتلاعب الفني الذي من شأنه أن يقوي من هذا الشعور داخل نفس المُتلقي.

 

 محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد يناير 2025م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق