إنه- بلا شك-
راغب في تقديم رسالة ما من خلال جمعه لكل أفكاره، ومُعتقداته الدينية والروحانية-
التي طالما عبر عنها في أفلامه السابقة- وبثها داخل هذا الفيلم، هو يرغب في قول
كلمته الأخيرة كنبي يعلم تماما بأنها اللحظات الأخيرة له على قيد الحياة- كان
تاركوفسكي يعلم بنهايته المحتومة أثناء تصويره لفيلمه لا سيما أنه كان يعاني من
سرطان الرئة، كما أنه لم يشاهد العرض الأول للفيلم في مهرجان Cannes كان حيث كان نزيلا لإحدى مُستشفيات فرنسا يصارع السرطان.
هذا الإحساس
بأنه على وشك مُفارقة العالم بين ليلة وضحاها؛ جعل الفيلم مُزدحما بشكل خانق
برموزه، ورؤاه، وأحلامه السيريالية الرمزية الدينية، راغبا في تحذير العالم من
الهاوية التي اتجه إليها، وهي الهاوية المادية التي ستؤدي به إلى الدمار،
والانهيار الكامل، أي أنه من خلال الفيلم الأخير يحذر الإنسان الذي استغرق في
المادية في شكلها الأقصى، مُؤكدا له على أنه بماديته، وابتعاده الجذري والكامل عن
الروحانية، أو مفهوم الإيمان قد بات على شفا نهاية العالم، ومن ثم لا بد له أن
يلحق نفسه من هذه النهاية باللجوء إلى الإيمان قبل وقوعه الوشيك فيها.
ألا يبدو لنا تاركوفسكي هنا- بتماهيه مع صورة المُحذر/ النبي/ العالم بمُستقبل الأمور، وما ستكون عليه- شديد التعالي على الجميع، بمعنى أن شعوره بامتلاكه للحقيقة المُطلقة، ومحاولة تحذير الآخرين منها يحمل في معناه الأبعد والأعمق معنى الترفع والصلف، والنظر للعالم بنظرة دونية باعتبار أنه الأعلى والأكثر معرفة ويقينا، وامتلاكا للحقيقة؟- تختلف هذه النظرة الاستعلائية قي جوهرها وآليتها عن الاستعلائية التي رأيناها في فيلمي Dogville دوجفيل 2003م، وManderlay ماندرلاي 2005م للمُخرج الدانماركي Lars von Trier لارس فون ترير، فجريس في الفيلمين كانت ترى أنها بدورها من يمتلك الحقيقة الكاملة، وبالتالي كانت تنظر إلى البشر باعتبارهم مجموعة من الأطفال غير المُدركين لما يقومون به من أفعال مُؤذية لأنفسهم، ولها أيضا، وهو ما أدى إلى إيذائها كثيرا- التماهي مع المسيح- لكنها لم تقبل هذا الإيذاء وقامت بقتلهم في نهاية فيلم دوجفيل، بينما وقعت في مأزق في نهاية فيلم ماندرلاي، لكن غطرسة أندريه تاركوفسكي هنا في تناوله لموضوعه أدى إلى أن جعل من بطل الفيلم مسيحا حقيقيا، يضحي بكل شيء في حياته من أجل البشر، حيث يرى أنه الوحيد المُمتلك للحقيقة، وبالتالي فلا بد من التضحية من أجل إنقاذ البشرية.
بالتأكيد لا
يمكن إنكار النظرة الاستعلائية التاركوفسكية في هذا الفيلم، حتى أنه يتعالى على
المُشاهد ذاته، فهو في هذا الفيلم لا يعنيه المُتلقي، ومدى مقدرته على فك رموزه
وإحالاته الدينية المُزدحم بها فيلمه، أو حتى فهمها، فهو مُستغرق تمام الاستغراق
في حالته التحذيرية، في أفكاره، واعتقاداته الخاصة، في روحانيته التي يرى أنها
السبيل الأول والأخير من أجل إنقاذ العالم من الدمار الذي سار باتجاهه بقوة، غير
عاقد العزم على الرجوع منه مرة أخرى.
لكن، رغم شبهة الاستعلائية والصلف التاركوفسكيان في هذا الفيلم إلا أنها استعلائية رحيمة ناتجة عن طول تأمله لما يدور في العالم، مُعتمدا في ذلك على المُقدمات والدلائل التي لا بد لها أن تؤدي إلى النتائج التي خلص إليها من طول تأمله، هو يرغب في نهاية أكثر سعادة للعالم، يشفق عليه، لا يتمنى له الدمار الذي يفعله بنفسه؛ لذا فلقد ترك لنا كلمته الأخيرة، مثله في ذلك مثل أي نبي يقول كلمته الأخيرة لأتباعه قبل الرحيل الأخير.
في فيلمه
الثاني- بعد رحيله عن روسيا- والأخير في قائمة أفلامه السينمائية يصنع تاركوفسكي
فيلمه السويدي The Sacrifice القربان-
لاحظ هنا عنوان الفيلم الذي يتناسب تماما مع المفهوم الإيماني للمسيحية- صحيح أن
الفيلم من المُمكن لنا ترجمته بعنوان التضحية، لكن القربان هو الأقرب لمفهوم
الفيلم الذي قدمه المُخرج- ليس بالمفهوم الوثني بقدر التصاقه بالمفهوم العقائدي
الإيماني- فهو يعبر عن الوعد الذي وعد البطل به الله إذا ما تم إنقاذ العالم من
الكارثة المحدقة به، مما يعني هنا بأنه لم يكن مُضحيا، بقدر ما كان مُلتزما بالوعد
الذي وعد الله به، أي قربانه من أجل إنقاذ العالم، مما يحمل في معنى آخر أكثر عمقا
أنه كان المسيح المُخلص للبشر من شرورهم التي انتشرت، وخطيئتهم التي كان من
المُمكن لله أن يدمرهم بسببها.
نُلاحظ أثناء استعراض تيترات الفيلم أن التيتر يتم كتابته على الشاشة بينما نرى في الخلفية البصرية لوحة تشكيلية تقوم الكاميرا باستعراضها، هذه اللوحة هي لوحة سجود الملوك الثلاثة، أو لوحة عبادة المجوس[1] لليوناردو[2] Leonardo حيث نرى أحد الملوك في وضعية الركوع أمام العذراء الحاملة لطفلها المسيح، متوسلا إليها، طالبا منها الرحمة، وتقديم قربان ما لرضيعها الرب- هذه اللوحة لها أهمية جوهرية في تفسير المفهوم الأعمق للفيلم بشكل عام- وهي اللوحة التي سنراها فيما بعد مُعلقة على أحد جدران منزل ألكسندر- قام بدوره المُمثل والمُؤلف السويدي Erland Josephson إرلاند جوزيفسون- مما يؤكد لنا على أهميتها في سياق الفيلم، ومفهومه، ودلالتها الرمزية- لا يفوتنا هنا أيضا أن الأيقونات المسيحية هي مُفردة مُهمة من مُفردات العالم الفيلمي لدى تاركوفسكي، ولعله لا يمكننا نسيان فيلمه الملحمي Andrei Rublev أندريه روبليف 1966م الذي كان ثاني فيلم روائي طويل في مسيرة المُخرج، والذي خصصه لرسام الأيقونات الذي يحمل الفيلم اسمه.
يفتتح المُخرج فيلمه على ألكسندر الذي يقوم بزراعة شجرة نحيلة بالقرب من شاطئ الجزيرة التي يقيم فيها، بينما ابنه الصغير جوسن- قام بدوره المُمثل السويدي Tommy Kjellqvist تومي كيلكفيست- يلهو على مقربة منه، بينما يطلب ألكسندر منه الاقتراب منه، ومُساعدته في تثبيت الشجرة. يقول ألكسندر في مونولوج طويل مُتحدثا إلى ابنه الذي لا يتحدث نتيجة لجراحة ما في فمه: كان يا ما كان، في قديم الزمان، كان هناك راهب عجوز يعيش في دير أرثوذوكسي، كان يُدعى بامف، في أحد الأيام غرس شجرة جرداء على سفح جبلي، شجرة كهذه تماما، ثم قال لتلميذه الشاب، الراهب يوان كولوف، أن عليه سقاية الشجرة يوميا حتى تدب فيها الحياة، وفي الصباح الباكر من كل يوم كان يوان يملأ دلوا بالماء، ويخرج به، يتسلق الجبل ليسقي الشجرة الذابلة، وفي المساء عندما يعم الظلام كان يعود إلى الدير، ثابر على هذا العمل لسنوات ثلاث، وذات نهار جميل صعد إلى الجبل ونظر؛ فرأى كل فروع الشجرة مُغطاة بالبراعم، لتقل ما تشاء، لكني أعتقد أن المنهج أو النظام له حسناته، أحيانا ما أقول لنفسي: لو أنه في كل يوم، وفي وقت مُعيّن ثابت، أدى شخص ما فعلا مُعيّنا كأنه طقس شعائري، بمنهجية، ومن دون أي تغيير، في كل يوم، وفي نفس الوقت تماما، كان ذلك ليغير العالم، كل شيء سيتغير بالتأكيد، لا بد من ذلك.
هذا المشهد
الافتتاحي، والمونولوج المُصاحب له إذا ما رأيناه في أي فيلم آخر ربما لا يعني لنا
الكثير، ولن نُجهد أنفسنا من أجل محاولة تحليله، أو الوصول إلى معناه الأعمق، وما
يرغب المُخرج في القول من ورائه، ولكن، بما أننا أمام فيلم لتاركوفسكي الذي تزدحم
سينماه بالكثير من الإحالات، والدلالات، والإسقاطات، والتأملات، والتساؤلات،
وإعادة التفسير؛ فنحن لا نستطيع المرور من أمامه من دون التوقف وإجهاد العقل من
أجل تفسيره، فهل يقوم ألكسندر هنا بزرع شجرة باعتبارها امتدادا للحياة من بعده، أي
أنها البديل لحياته التي هي على وشك الانتهاء- بما أنه كبير في العمر- كما أنه لن
يعيش لحين إثمارها مما يعني أنها بمثابة تقديم حياة أخرى مُضافة لابنه الصغير؟ أم
أن المشهد يحمل في جوهره مدلولا آخر أكثر عمقا وجوهرية؟
إن المونولوج
المُصاحب لزراعة ألكسندر للشجرة يؤكد لنا على اعتبار الشجرة هنا رمزا للإيمان
ومفهومه، وهو الإيمان الذي لو حرص صاحبه على رعايته، والعناية به كل يوم- أي تقديم
الصلاة والطقوس الدينية- فهو بلا شك سيكبر ليصبح إيمانا مُتأصلا في نفس صاحبه، أي
أنه سيثمر لنرى نتائجه في النهاية. مما يعني أن الإيمان في حاجة ماسة إلى الرعاية
والاهتمام الدائم، وبشكل مُنتظم لا هوادة فيه، ومن دون هذا الانتظام على رعايته
فهو لن يقدم لنا ثمرته، وربما يموت داخل نفس صاحبه.المُخرج الروسي أندريه تاركوفسكي
إذن،
فتاركوفسكي لا يبدأ فيلمه فقط بمفهوم إيماني بصري- لوحة التيترات- بل يفتتح الفيلم
أيضا بمفهوم أكثر روحانية وإيمانا، وهو في ذلك يطلب من المُشاهد إعمال ذهنه من أجل
تفسير مشاهده، وإلا ضاع من خلال الفيلم المُرهق نتيجة لازدحامه بالدلالات الكثيرة
التي يرغب في الحديث عنها.
بينما يوغل
ألكسندر في مونولوجاته التي لا تنتهي بينه وبين ابنه الصغير، والتي نُلاحظ من
خلالها شعور ألكسندر بالكثير من السأم من العالم المُحيط به، وقلقه بسبب مادية
العالم، وزهده فيه، وبأنه لا يدور فيه سوى الكلام فقط، فهو يقول لابنه على سبيل
المثال: انظر يا بني، لقد أضعنا طريقنا، البشرية أيضا تمشي في الطريق الخاطئ، تمشي
في طريق خطر.
نقول: بينما
يتحدث ألكسندر إلى ابنه- أو بالأدق إلى نفسه- يصل أوتو- قام بدوره المُمثل
والمُخرج السويدي Allan Edwall آلان إدوال-
عامل البريد في الجزيرة، الذي يقوم بهذا العمل بعدما أُحيل إلى التقاعد من عمله
كمُدرس للتاريخ بعد تقدمه في العمر، لتسليم رسالة إلى ألكسندر- مفهوم تقديم
الرسالة يعني أنه رسول.
سنُلاحظ هنا أن أوتو يتميز بالكثير من الخصال الروحانية، أي أنه يشبه الملاك، وليتجاذب أطراف الحديث مع ألكسندر ويحمسه على الحديث فهو يتحدث معه عن نيتشه- لاحظ أن فلسفة نيتشه كانت هي الأساس الذي اعتمدت عليه الماركسية فيما بعد، وهي الماركسية التي أتى تاركوفسكي من قلبها، والتي تُقابل مفهومه الروحي والإيماني الذي يتحدث عنه- فألكسندر هو كاتب، ومُحاضر في الجامعة عن الجمال والفلسفة، كما كان مُمثلا مسرحيا سابقا؛ لذا يسأله أوتو: قل لي: كيف هي علاقتك مع الرب؟ يرد ألكسندر بهدوء: أخشى أنها مقطوعة، ماذا تعني؟ يقول أوتو: يكون الأمر أحيانا أكثر سوءا، ها أنت ذا، صحفي شهير، ناقد أدبي ومسرحي، تُلقي مُحاضرات في علم الجمال لطلاب الجامعة، المقالات تكتبها كذلك، لكنك كئيب جدا. يسأله ألكسندر: ماذا تعني بكلمة كئيب؟ يقول أوتو: حسنا، عليك ألا تكون حزينا إلى هذا الحد.
إن التوقف قليلا أمام الحوار بين كل من أوتو وألكسندر لا بد له أن يلقي بالمزيد من الضوء على ما يرغب تاركوفسكي في التأسيس له؛ فأوتو هنا لا يلوم ألكسندر على علاقته المُنقطعة مع الله، ولا يسخر منه، بل يشفق عليه، يحاول أن يدله على الطريق الصحيح من دون توجيه الأوامر، أو الإرشاد المُباشر، بل هو يوحي له فقط، وهو ما نفهمه من قول أوتو: لكنك كئيب جدا، عليك ألا تكون حزينا إلى هذا الحد. أي أن العلاقة المُنقطعة بين ألكسندر والله هي السبب الرئيس في هذا الاكتئاب الشديد، واللامبالاة والسأم الذين يشعر بهم ألكسندر رغم توافر كل شيء من حوله- سواء كان مكانة اجتماعية، أو حتى مادية كالثراء، فهو يعيش في منزل فخم على إحدى الجزر- ومن ثم يكون حديث أوتو إليه بمثابة النصح غير المُباشر من رجل يتميز في كل ما ينطق به بالروحانية والصوفية الشديدة ومحبة كل شيء من حوله. لذا يقول أوتو لألكسندر: إذا ما آمنت حقا، سيحدث ما أؤمن به، آمن أنه أعطى لك وسيعطي لك حقا- ربما لا يفوتنا هنا أن قول أوتو يتماهى مع الكتاب المُقدس.
بعد انصراف
أوتو من أجل تجهيز نفسه لحضور حفل عيد ميلاد ألكسندر في نفس الليلة نرى ألكسندر
يسير مع طفله شاعرا بالمزيد من السأم،
مُتحدثا بالأكثر من المونولوجات التأملية الخاصة به، فيقول لابنه الذي لا
يتحدث: في البدء كانت الكلمة، لكنك صامت، صامت كالسمك- لاحظ الاستعارة من الكتاب
المُقدس، إنجيل يوحنا.
إن ألكسندر في جوهره شخص يعاني، يشعر بالإيمان في قرارة نفسه، والميل باتجاهه، لكن عقله يمنعه من الاطمئنان إليه، والاستسلام الكامل لاستقرار روحه؛ لذا فهو يعاني هذه المُعاناة التي نُلاحظها عليه في مونولوجاته، يشعر بالقلق والانقسام، وبما أن هذه المُعاناة لن يفهمها الآخرون من حوله، فهو يفضل العزلة مع طفله، والإسرار إليه بما يفكر فيه، ويعانيه. هو يفكر في الكثير من المعاني التي تؤرقه، في معنى الموت، ومعنى التقدم المادي للإنسانية، ومعنى الحياة، مما يجعله يقول للطفل: ليس هناك شيء كالموت، هناك الخوف من الموت، وذلك خوف مُريع، وهو أحيانا ما يجعل الناس يفعلون أشياء لا يتوجب عليهم فعلها، كم ستختلف الأمور إذا ما استطعنا التوقف عن الخوف من الموت.
ألا نُلاحظ هنا
أن ألكسندر إنما يتحدث مع الطفل في مجموعة من المعاني الفلسفية الكبرى الشديدة
التجريد التي لا يمكن أن يعيها عقل الطفل؟ إنه في حقيقة الأمر لا يتحدث إليه- وإن
بدا لنا ذلك ظاهريا- لكنه يتحدث إلى نفسه، هو في حالة حوار طويل مع الذات، شاعر
بالكثير من القلق، راغب في الاطمئنان، وهي الطمأنينة التي لا يمكن لها أن تتأتى له
إلا من خلال الإيمان العميق الذي يفتقده.
التأملات العميقة التي يتأملها ألكسندر فيما حوله- وهي تأملات تاركوفسكي نفسه- تجعله يقول: دافع الإنسان عن نفسه دائما ضد الناس الآخرين وضد الطبيعة، دائما ما انتهك الإنسان الطبيعة، والنتيجة كانت حضارة مبنية على القوة، والتسلط، والخوف، والاتكال، كل هذا التقدم التقني الذي حققناه قدم لنا بعض الرفاهية، ونوعا من النموذجية فحسب، كما قدم لنا آلات العنف التي نحافظ بها على القوة، وأصبحنا مثل الوحوش نستخدم الميكروسكوب كهراوة، لا، أنا مُخطئ، الوحوش أكثر روحانية منا، كلما توصلنا إلى اكتشاف علمي ما نضعه للاستخدام في الشر، أما فيما يتعلق بالنموذجية فهناك حكيم قال ذات مرة: إن الخطيئة موجودة في الأشياء غير الضرورية، وإذا ما كان ذلك صحيحا فحضارتنا بأكملها مبنية على الخطيئة من بدايتها إلى نهايتها، لقد أنشأنا تنافرا رهيبا، اختلالا في التوازن، إذا ما أردت القول، بين تطورنا المادي وتطورنا الروحاني، حضارتنا المُختلة، إنها مُختلة من الأساس يا بني.
إذن،
فتاركوفسكي يتأمل- مُتخفيا من خلف شخصية المُمثل كعادته من أجل طرح أفكاره- في
العالم من حوله، وهذا التأمل القريب من التفلسف يؤدي إلى تجريدية الفيلم، وازدحامه
بالكثير من الثرثرات، والحوارات الطويلة المُناسبة تماما مع الشكل الفيلمي الذي
اختاره المُخرج لفيلمه، فضلا عن توقف الزمن الفيلمي- أي سكونه- وعدم تقدمه للأمام
إلا بصعوبة واضحة- لاحظ أن تاركوفسكي في هذا الفيلم فضل اختيار الشكل المسرحي له،
حيث نرى جميع الشخصيات الفيلمية مُزدحمة داخل منزل ألكسندر للاحتفال بعيد ميلاده،
بينما تدور بينها الكثير من الحوارات الطويلة، ويعمل المُخرج على تحريك الشخصيات
الفيلمية في المساحة المُغلقة التي حبسهم داخلها، لتتابعهم الكاميرا مُتلصصة
عليهم، مُتأملة بتمهل.
إن سأم ألكسندر مما يدور من حوله، ومُلاحظته بأن العالم يعتمد على المادية في كل شيء، وقانون القوة الذي سيدمر به نفسه يجعله يقول لطفله: يا إلهي! كم سئمت من هذا الحديث، كلمات، كلمات، كلمات، بت أفهم على الأقل ما عناه هاملت، كان قد سئم من الثرثرة- لاحظ أنه كان مُمثلا مسرحيا، وترك التمثيل لأنه بات يشعر بالخجل من تمثيل الأدوار المسرحية نتيجة لصدقه الشديد في تقديمها، أي أنه رأى ذاته قد باتت مُزيفة بسبب الصدق في الأداء، ومن ثم فهو يرفض أن يكون شخصية مُزيفة ليست على حقيقتها، كما أن سأمه من الكلمات التي كانت هي المُفردة الأولى في إنجيل يوحنا قد يوحي لنا بشكل من أشكال التناقض ما بين الإيمان والرفض، ولكن إذا ما كانت الكلمة التي من شأنها أن تصل بصاحبها إلى اليقين لا معنى لها، بل مُجرد ثرثرة؛ فهي بالتأكيد لا بد لها أن تدعو للزهد فيها.
يختفي الطفل عن
نظر أبيه، وحينما يحاول البحث عنه، نرى الطفل يتقدم من الخلف ليفاجئ أباه، لكن
أنفه يصطدم في رأس ألكسندر مما يؤدي إلى نزيفه، هنا ينتقل المُخرج إلى اللونين
الحياديين المُفضلين لديه في التعبير عن الرؤى والأحلام، فنرى ألكسندر في حالة
إغماء بمُجرد رؤية الدماء النازفة من أنف الطفل، وسُرعان ما يقطع المُخرج على مشهد
شديد السيريالية، يتناسب تماما مع العالم الحلمي، فنرى مشهدا يعمه الخراب والفوضى
الكاملة كمُرادف لنهاية العالم الذي يظل مُسيطرا على ذهنه كهاجس لا ينتهي، أي أنه
يعبر بالصورة عما يثقل كاهله الذهني والنفسي.
تصل أديلايد/ زوجة ألكسندر- قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية Susan Fleetwood سوزان فليتوود- إلى المنزل بصحبة فيكتور/ صديق ألكسندر وطبيب طفله الصغير- قام بدوره المُمثل والكاتب السويدي Sven Wollter سفين وولتر- بينما تصحبهما مارثا/ ابنة الزوجة- قامت بدورها المُمثلة السويدية Filippa Franzén فيليبا فرانزين- للاحتفال بعيد ميلاد ألكسندر المُنعزل طوال الوقت مع طفله. يهدي فيكتور كتابا ضخما لألكسندر، وهو كتاب غاص بالأيقونات المسيحية التي يتأملها ألكسندر سعيدا، لدقتها، وروحانيتها- أي أنه لديه انجذاب طبيعي، وميل باتجاه ما هو ديني، فضلا عن تقديره للفن- ويدور بينهما حديث طويل عن الماضي الذي تركه ألكسندر بإرادته حينما زهد في التمثيل؛ لأنه شعر من خلاله بالخجل والزيف؛ الأمر الذي يجعل الزوجة شاعرة بالضجر والرفض، لأنها حينما انجذبت إليه وأحبته كان بسبب أنه مُمثل ماهر، لكنه خدعها وتوقف عن التمثيل بعد زواجهما.
يصل أوتو بدوره إلى المنزل حاملا لوحة
ضخمة، ذات إطار عريض على دراجته، لنعرف أنها خريطة أصلية تعود إلى القرن السابع
عشر لأوروبا، وقد رأى أنها تصلح كهدية لألكسندر في عيد ميلاده. بالفعل يشعر
ألكسندر بالكثير من السعادة لهذه الهدية القيمة كما يراها، ويظل يتأملها للكثير من
الوقت، مُؤكدا على أنها لم تعد تشبه أوروبا الآن، مُتسائلا عن الكيفية التي كان
الناس يعيشون بها في ذلك الوقت البعيد، في إسقاط من المُخرج على ما فعله
الأوروبيون بالعالم نتيجة اعتمادهم على معايير القوة المُفرطة طوال الوقت، مما أدى
إلى تغيير شكل هذا العالم.
سنُلاحظ أثناء حديث الجميع مرور الخادمة ماريا- قامت بدورها المُمثلة الأيسلندية Guðrún Gísladóttir جورون جيسلادوتر- في الغرفة التي يجتمعون فيها؛ مما يجعل أوتو يحاول ترتيب هندامه ومظهره أمامها بشكل فيه قدر غير هين من القداسة والاحترام، ليخبر فيكتور بشكل فيه الكثير من الفخر والمُباهاة بأن ماريا جارته، وأنه يعرفها معرفة شخصية، كما يلاحظ أوتو لوحة "سجود الملوك الثلاثة" المُعلقة على الجدار فيسأل ألكسندر عنها، ثم يخبره بأنه يشعر بأن اللوحة فيها الكثير من الشر، وقد بدا على وجهه الخوف منها وكأنها تحوي شيطانا- فلنتذكر هنا أننا قد ذهبنا إلى أن أوتو يكاد يرمز للملاك، أو الرسول، يقوي من هذا التفسير أنه أثناء حديثه مع الأسرة يقع أرضا وكأنه قد أُصيب بنوبة قلبية، وحينما ينهض يخبرهم بأن أحد الملائكة الشريرة كان مارا بجواره ولمسه، كما أنه يؤمن بالكثير من الحكايات، والحوادث غير العقلانية، أو الماورائيات، وهو ما لا يتقبله العقل بسهولة، مثل ظهور ابن إلى جوار إحدى السيدات في صورة حديثة لها رغم أنه كان قد مات في الحرب مُنذ ما يقرب من العشرين عاما، فضلا عن أنه بدا في ظهوره في الصورة ما زال شابا، في نفس العمر الذي قُتل فيه، ومُرتديا لزي الحرب، بينما بدت الأم في عمرها المُتقدم، أي أن ثمة هوة زمنية تفصل بين عمريهما، رغم أنهما في نفس الصورة، ورغم أنه لم يكن له وجود مادي أو حقيقي حينما التقطت الأم الصورة وحدها من دون مُشاركة أحد لها، أو وجوده إلى جوارها!
ربما نُلاحظ هنا أثناء انغماس الجميع في الأحاديث الطويلة والثرثرة التي لا تنتهي أن أديلايد/ زوجة ألكسندر لديها ميل عاطفي ما باتجاه فيكتور/ صديق ألكسندر، أي أنها على علاقة عاطفية به، لكنه يحاول الابتعاد عنها حتى لا ينخرط في خيانة صديقه، وأن الابنة مارثا تشعر بنفس الميل العاطفي أيضا باتجاه فيكتور، أي أنها مُنافسة لأمها في هذا العشق- يؤكد لنا ذلك المشهد الذي رأينا فيه مارثا وقد تعرت تماما في الطابق العلوي، لتنادي فيه فيكتور كي يراها. أي أن ثمة جو تخيم عليه الخيانات هنا، وهي خيانات مُتناقضة، وغير مُناسبة إطلاقا مع الجو الروحاني والأخلاقي الذي يسبح فيه كل من ألكسندر وأوتو، مما يدفعنا إلى القول بأن هذا العالم المُنافق الذي يعيش فيه ألكسندر وأفكاره المثالية لا يتناسب مع ما يدور من حوله- على مستوى الأسرة الصغيرة، أو على مستوى العالم الأكبر، وربما يكون قد لاحظ ذلك، أو يعرفه، مما أدى إلى المزيد من انغماسه في اكتئابه وعزلته.
تمر العديد من الطائرات الحربية فوق البيت مما يؤدي إلى اهتزاز محتوياته بالكامل، وسقوط الأشياء داخله، كما ينطلق المذياع بالتحذير: جرى التنظيم في كل أنحاء البلاد، هذا واجب جميع ضباط الجيش، كل مواطن صالح، يتوقع أن يتصرف بشجاعة، وأن يحافظ على برود أعصابه، وأن يساعد الجيش في جهوده لاسترجاع السلام، التنظيم والانضباط، العدو الخطير الوحيد الموجود بيننا الآن هو الذعر، الذعر مرض مُعدٍ ولا يمكن التحكم به بواسطة الفطرة السليمة، الترتيب والتنظيم، ليس أقل من ذلك أيها المواطنون الصالحون، التنظيم، فقط التنظيم في مواجهة الفوضى، أنا أرجوكم وأناشدكم بتواضع، احتموا بشجاعتكم رغم كل شيء، اعتمدوا على فطرتكم السليمة، لدينا هنا لسوء الحظ قاعدة عسكرية فيها أربعة رؤوس صاروخية، هناك احتمال كبير أن هذه الرؤوس المُرعبة ستُستخدم ضدنا، يمكن أن تنقطع الاتصالات في أي وقت، لكني أخبرتكم سابقا بما هو مُهم. أعزائي المواطنون: ابقوا حيث أنتم، لا يوجد مكان في كل أوروبا أكثر أمنا من مكاننا هذا، نحن جميعا مُشتركون قسرا بنفس الوضع، ستكون كل المُقاطعات تحت سيطرة قوات عسكرية خاصة.
ثمة مُلاحظات لا بد من التوقف أمامها هنا مع مشهد البيان العسكري الذي تنصت إليه الأسرة، فأثناء إلقاء المُذيع ببيانه العسكري التحذيري نرى كاميرا تاركوفسكي تدور من حولهم مُتأملة، وهي في تأملها تتوقف لفترة أمام لوحة "سجود الملوك الثلاثة" المُعلقة على الحائط، والتي سبق لأوتو/ الملاك أن قال عنها بخوف: إنها مليئة بالشر، أي أن اللوحة التي تحمل مفهوما دينيا- بما أنها تحتوي على العذراء وطفلها بين يديها- والتي يرى أوتو أنها غاصة بالشرور لها علاقة عضوية بالبيان الذي تتم إذاعته وكأنها تأكيد على ما ذهب إليه أوتو، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سنُلاحظ المُذيع يقول في بيانه: لا يوجد مكان في أوروبا أكثر أمنا من مكاننا هذا. وهو ما يردنا مُباشرة إلى مشهد ألكسندر وهو يتأمل خريطة أوروبا الأصلية مُنذ القرن السابع عشر، والتي أهداها أوتو إليه مُنذ قليل، حيث علق ألكسندر أثناء تأمله للخريطة بقوله: إنها لم تعد تشبه أوروبا الحالية. أي أوروبا التي سيتم تدميرها الآن بسبب هذه الحرب النووية التي هي على وشك الوقوع تبعا لتحذير المذياع.
من جهة ثالثة، سنُلاحظ أن ما كان يتحدث
عنه ألكسندر في مونولوجاته التي سمعناها في بداية الفيلم، وكل مخاوفه من الشر الذي
تحكم في الإنسان، وماديته، وابتعاده عن الروحانية، واستخدامه للعلم في الشرور،
والاعتماد على القوة المُفرطة، وأن كل ذلك سيؤدي بالعالم إلى نهايته قد بدأ يتحقق
بالفعل، فها هو المذياع يؤكد على أن العالم على شفا حرب نووية من شأنها أن تدمره
بالكامل، مما يعني أن نظرة ألكسندر وتأمله الطويل، وشعوره بالاكتئاب الدائم لما
يراه من حوله كان بمثابة التبنؤ بما يسير العالم باتجاهه.
ينقطع البث الإذاعي والتليفزيوني فجأة، كما ينقطع التيار الكهربي، فضلا عن توقف خطوط الهاتف عن العمل، مما يعني أن العالم قد بدأ في الدخول إلى النفق المُظلم الذي لن يخرج منه أبدا، مما يؤدي إلى انهيار أديلايد خائفة تحت تأثير نوبة ذعر تجعلها تصرخ بشكل هذياني، ويتشنج جسدها؛ فيقترب منها فيكتور محاولا تهدئتها، كما يحقنها بحقنة مُخدرة من أجل محاولة السيطرة عليها، وهو ما يفعله أيضا مع جوليا/ مُساعدة الخادمة ماريا- قامت بدورها المُمثلة الفرنسية Valérie Mairesse فاليري ميريس- كما يحقن مارثا أيضا/ ابنة أديلايد- ألا يوحي حقن النساء هنا بالمُهدئ إلى اعتماد العالم الحديث على الانتشاء بالمُخدرات، أو محاولة تغييب نفسه عن الحقائق المُحيطة به، وإغفال النظر عن الكوارث التي يقوم بها والتي تُسرّع من نهايته، لا سيما أنهم بعد شعورهم بالانتشاء المُهدئ يبدأون في التصرف بطبيعية وكأنما شيئا لم يحدث، أي زوال الذعر بالكامل؟
إذن، فما يخشاه ألكسندر مُنذ بداية فيلمه قد تحقق بالفعل، وبات الجميع
يحيون في كابوس حقيقي لن ينتهي إلا بدمار العالم أجمع، ولعله لا يفوتنا المشهد
الذي رأينا فيه أديلايد مُنهارة تماما بسبب خوفها من الحرب التي هي على وشك
الوقوع، حيث نستمع إليها تقول بذعر شديد: هذا كله بسببي، إنه عقاب.
بالتأكيد حينما نستمع إليها تقول مثل هذا القول كتعقيب على البيان الإذاعي بالحرب سنعتبر قولها بمثابة شكل من أشكال الهذيان الذي تسبب فيه الخوف من الحرب النووية، لكننا حينما نستمع إليها تهذي أثناء وقوعها تحت انتشاء وتأثير المُخدر سنفهم معنى كلامها حينما تقول: يا إلهي! لماذا تُعاكس إرادتنا دائما؟ دائما، لقد أحببت رجلا، وتزوجت بآخر، لماذا؟
إذن، فذهابنا السابق إلى وجود شكل من الميل العاطفي باتجاه فيكتور من قبل
أديلايد يتأكد لنا من خلال هذا المشهد، أي أنها رغم عشقها لفيكتور فقد تزوجت
ألكسندر، لكنها تعيش بمشاعرها مع فيكتور. إنها المشاعر التي تجعل فيكتور يحاول
الهروب الكامل حتى لا يقع في خيانة صديقه، وهو ما يجعل فيكتور في بداية الحفل يخبر
ألكسندر بأنه سيهاجر قريبا إلى استراليا حيث سيعمل هناك كطبيب، وهو الحوار الذي
سمعته مارثا/ ابنة أديلايد، ومن ثم ستخبر به أمها فيما بعد كنكاية بها، بسبب
غيرتها من الأم التي تُعد المُنافسة الأولى والأساسية لها في حب فيكتور.
إن فيكتور هنا لا يشعر بمشاعر تجاه الفتاة المُراهقة، ولا يرغب في خيانة صديقه مع زوجته، ويشعر بالسأم والكثير من العبء تجاه هذه الأسرة، حيث يحاول دائما الاهتمام بالطفل الصغير/ جوسن، ومُساندة صديقه ألكسندر الذي مال في الفترة الأخيرة إلى المزيد من العزلة، والمونولوجات الطويلة مع نفسه؛ كل هذه الأمور جعلته راغبا في الهروب إلى مكان بعيد حتى لا يشعر بالمزيد من الذنب، وهو ما بدا في قراره بالهجرة إلى استراليا، أي إلى نهاية العالم على المستوى الجغرافي بالنسبة له.
ينام الجميع بينما يحاول ألكسندر تهدئة نفسه من خوفه بتناوله للكونياك القوي، لنراه يتضرع إلى الله في شكل صلاة كي ينقذ العالم من شرور هذه الحرب التي ستبيد كل شيء، يقول: أبانا الذي في السموات، فليتمجد اسمك ولتأت مملكتك، وليكن ما تشاء، اعطنا اليوم خبزنا اليومي، ونجنا من الشرور، لأن المملكة لك، ولك القوة، ولك المجد، آمين. يا إلهي، نجنا في هذا الوقت العصيب، لا تدع أطفالي يموتون ولا أصدقائي، ولا زوجتي، ولا فيكتور، نجِ أولئك الذين يحبونك ويؤمنون بك، وأولئك الذين لا يؤمنون بك نجهم لأنهم عميان، وأولئك الذين لم يفكروا بك لأنهم ببساطة لم يكونوا يوما بائسين حقا، كل أولئك الذين فقدوا في هذا الوقت أملهم ومُستقبلهم، وحيواتهم، وفرصة الاستسلام لإرادتك، أولئك المملوؤون بالرعب، الذين يشعرون بقرب النهاية ويخافون على أنفسهم ومن يحبونهم، كل أولئك الذين لا أحد غيرك قادر على حمايتهم، لأن ما يحدث الآن حرب مُطلقة، أمر فظيع لن يكون بعده منتصرون ولا مدحورون، ولا مُدن، ولا بلدات، ولا عشبة، ولا أشجار، ولا ماء في الآبار، ولا عصافير في السماء. سأقدم لك كل ما أملك، سأعطيك عائلتي التي أحب، سأدمر بيتي، وسأعطيك الرجل الصغير- يقصد جوسن- سأصوم عن الكلام، ولن أقول كلمة واحدة لأحد، سأهجر أي شيء يربطني بالحياة، فقط إذا ما أعدت كل شيء كما كان من قبل، كما كان هذا الصباح وبالأمس، فقط خلصني من هذا الخوف القاتل، هذا الخوف المُمرض، نعم، بكل شيء سأضحي، يا إلهي، ساعدني وسأفعل كل ما وعدتك به.
ثمة العديد من المُلاحظات التي لا بد لنا من التوقف أمامها هنا في تضرع، وصلاة ألكسندر الخائفة إلى الله، فرغم أننا قد عرفنا في بداية الفيلم أن علاقة ألكسندر مع الله ليست على ما يرام، أي أنه ليس مُؤمنا به كما يجب أن يكون الإيمان- فهو يرى مفهوم الله والإيمان به مُجرد معانٍ فلسفية- إلا أنه كان يمتلك في داخله بذور إيمانه التي لاحظناها من خلال مونولوجاته المُتتالية، هو يحمل داخله بذرة هذا الإيمان، والروحانية، والرغبة في سيادة الأخلاق بمفهومها الفلسفي والإيماني؛ لذا فهو يرى أن الإنسان إنما يدمر نفسه بماديته، واستغلاله للعلم في الشر، كما أن الذعر الذي يشعر به ألكسندر بعد البيان الإذاعي الحربي لا بد له أن يحيلنا إلى مونولوجه مع ابنه حينما قال له: ليس هناك شيء كالموت، هناك الخوف من الموت، وذلك خوف مُريع، وهو أحيانا ما يجعل الناس يفعلون أشياء لا يتوجب عليهم فعلها، كم ستختلف الأمور إذا ما استطعنا التوقف عن الخوف من الموت. أي أن الخوف من الموت بالفعل- على افتراض عدم إيمان ألكسندر مُطلقا- قد جعله يتحول إلى الإيمان بسبب خوفه، أي فعل الناس ما لا يتوجب عليهم فعله أثناء خوفهم من الموت، وهو ما يسلمنا بالضرورة إلى الاتفاق التي توصل إليه مع الله، أي التضحية بكل ما يمتلك في مُقابل إنقاذ الله للعالم وإعادته إلى ما كان عليه من قبل.
إن ألكسندر هنا
يعقد صفقة مع الله- قد تبدو الصفقة غير عقلانية من المنظور المادي البحت، أو
المنظور الشكلاني السطحي- لكنها قد تبدو مقبولة على المستوى الإيماني الأعمق، كما
أنها من وجه آخر- أكثر تأملية- تصيبنا بالكثير من الارتباك لأنها في هذا المفهوم
الأعمق قد تبدو لنا مُجرد طقس وثني يتعارض تماما مع المفهوم الإيماني والروحاني
للمُخرج مما يضرب مفهومه الذي يسعى إليه في مقتل!
فهل يعمد تاركوفسكي إلى طقس وثني من أجل إنقاذ العالم؟ هل هو في حالة من حالات المُقايضة مع الله؟ هل يشترط عليه ويجعله طامعا في مُمتلكاته من أجل إنقاذ العالم؟ وهل الله في حاجة إلى مُمتلكات ألكسندر؟ إن الطقس هنا شبيه بطقوس الوثنية تماما حينما كان الوثنيون قديما يقدمون القرابين إلى الله في مُقابل ما يطلبونه. لكن بما أن تاركوفسكي قد قدم هذا المشهد بهدوء، وروحانية كاملة، وخشوع خاضع وكامل إلى الله فهو يبعده عن هذا المعنى الوثني إلى حد ما- وإن كان لا ينفيه- ويقربه من التوسل، والطمع، والرجاء في رحمة الله بمفهومها الروحاني الذي يميل إليه المُخرج. أي أن تاركوفسكي لم يتناقض مع أفكاره، وإيمانه نتيجة تقديمه للمشهد بمثل هذا الشكل التوسلي الذي يحمل في باطنه الكثير من الإيمان، بمعنى أن الخوف من الموت، والخوف من خراب العالم، وخوف ألكسندر على عائلته جعله يتحول إلى الإيمان الذي كان يسير في طريقه، وإن كان لم يصل إليه بشكل كلي إلا في هذه اللحظة التي سيطر فيها الخوف عليه- وهو التحول الأول لألكسندر- لذلك فالذعر الشديد الذي يشعر به ألكسندر يجعل تاركوفسكي يقطع مُباشرة على اللونين الحياديين للتعبير عما يدور في مُخيلة ألكسندر، أي التعبير عن مخاوفه بشكل بصري، فيرى من خلال مشهد سيريالي كل شيء من حوله مُدمرا تماما، وحينما يتجه إلى أحد الأبواب المُغلقة نُشاهد الباب ينفتح لكنه ينفتح على جدار صلد من خلفه، دلالة على انسداد الأفق وعدم وجود أي أمل في إنقاذ البشرية مما تتجه إليه.
يستغرق ألكسندر في النوم لنرى أوتو يصل إلى البيت، داخلا من الشرفة بعد تسلقه لسلم خشبي لحرصه على عدم انتباه أحد إليه، فيهمس لألكسندر بصوت خافت: ما زال هناك فرصة أخيرة. يسأله ألكسندر مُندهشا: فرصة؟ أي نوع من الفرص؟ يقول أوتو: هناك فرصة، هناك أمل. فيسأله ألكسندر: أي نوع من الأمل؟ ما الذي جرى لك؟! يرد أوتو: لم يجر لي أي شيء، لكن بمقدور ماريا أن تفعلها، ماريا. يتساءل ألكسندر مُندهشا: ماريا؟! أي ماريا؟! وتفعل ماذا؟ يقول أوتو: عليك أن تذهب إليها وتقنعها، هل تفهمني؟ يسأل ألكسندر: إلى أين يجب أن أذهب؟ ومن عليّ أن أقنع؟ تعال وتناول كأسا، لقد تحسنت بعد أن تناولت واحدا. يصر أوتو: عليك أن تذهب إلى ماريا حالا. يسأله: أي ماريا؟ ألا تستطيع أن تكون أكثر وضوحا؟ يقول أوتو: ماريا، أنت تعرفها، إحدى خادماتك، سأشرح لك لاحقا، لا تتعجلني. يسأله ألكسندر: من الذي يتعجلك بحق الرب؟ لِمَ لا تقول ما تريد قوله مُباشرة أبدا؟ يقول أوتو: إنها تعيش في مزرعة بالجانب الآخر من الخليج، خلف الكنيسة، إنها مُغلقة تماما. يسأله ألكسندر: من؟ يرد أوتو: أنا لا أتحدث عن شخص، بل عن الكنيسة. يقول ألكسندر: لكني أسألك عمن يعيش هناك، ما دخل الكنيسة في الأمر؟ يقول أوتو مُستنكرا: تسأل عمن يعيش هناك؟! ماريا تعيش هناك بالطبع، خادمتك، مُنذ نصف ساعة وأنا أحاول إخبارك بذلك، أليس بمقدورك أن تكون أكثر انتباها؟! هذا أمر مُهم. يقول ألكسندر: تريدني أن أكون أكثر انتباها، لكنني أعرف أين تعيش، كانت زوجتي قد دلتني على المكان. يقول أوتو: عليك الذهاب إلى ماريا. يسأله ألكسندر: لكن لماذا؟! يقول أوتو: ألا تريد أن ينتهي كل هذا؟ يسأل ألكسندر: ما الذي سينتهي؟ يقول أوتو: كل شيء، كل هذا، هناك نهاية لهذا، عليك أن تذهب إلى ماريا وتضاجعها. يسأل ألكسندر مُندهشا: ماذا؟! يقول أوتو: الأمر سهل، إنها تعيش وحدها، في تلك اللحظة إذا ما تمنيت أي شيء كأن ينتهي كل هذا سيتحقق ذلك، لن يظل أي شيء من هذا. يقول ألكسندر: لكن هذا جنون يا أوتو. يرد أوتو: أنت لا تعي شيئا، هذا حقيقي، هذه حقيقة مُقدسة، لديها قدرات خاصة، لقد جمعت كل الأدلة على أنها ساحرة.
إن هذا الشكل الوثني من اتخاذ ماريا كوسيط بين ألكسندر وبين الله، فضلا عن ارتكابه للخطيئة مع خادمته- خيانة الزوجة- من أجل إنقاذ العالم بمثابة تدمير للمفهوم الروحاني والإيماني الذي يرغبه تاركوفسكي، فهل كان تاركوفسكي يتناقض مع ذاته؟ وهل رغب في تدمير المعنى الروحاني الذي يسعى إليه في كل أفلامه؟ إنه بذلك يطيح بكل ما قدمه سابقا من سينما، وبكل ما نعرفه عنه، لا سيما جانبه الروحاني، أي أنه يفقد مصداقيته بالكامل، لكننا إذا ما تأملنا المشهد السابق بروية لاتضح لنا أن هذا المشهد من مشاهد الفيلم هو المشهد الأهم فيه على الإطلاق، والذي يفسر لنا بشكل جلي رؤية تاركوفسكي الإيمانية، وما يسعى إليه من فيلمه، فالخادمة التي يحاول أوتو الإشارة إليها، أو ترغيب ألكسندر في الذهاب إليها من أجل مُضاجعتها تحمل اسم ماريا، أي أنها المُعادل الرمزي لمريم العذراء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سنُلاحظ أن تاركوفسكي ينهي هذا المشهد بين أوتو وألكسندر على الكاميرا التي تتحرك باتجاه لوحة "سجود الملوك الثلاثة" والتي نرى فيها العذراء تحمل المسيح كإسقاط مُباشر على أن ماريا الخادمة، هي التمثيل الرمزي لمريم أم المسيح، كما لا يفوتنا قول أوتو بأنها تسكن خلف الكنيسة، أي أنها خادمة الكنيسة تماما كالعذراء، وإذا ما كنا ذهبنا فيما قبل إلى اعتبار أوتو بمثابة الملاك أو الرسول الذي يوحي لألكسندر، لكنه لا يأمره، وإذا ما كان هذا الملاك في بداية الفيلم سبق أن رأيناه يرتب من هندامه، ويقف باحترام مُبالغ فيه أمام ماريا كلما مرت من أمامه في حفل عيد ميلاد ألكسندر فهذا يؤكد على أن ماريا الخادمة في بيت ألكسندر، هي مريم الخادمة في بيت الرب، أي أنها المُعادل الرمزي لها، كما لا يفوتنا أن ماريا حينما رغبت في الانصراف من بيت ألكسندر بعدما أعدت كل شيء يلزم الحفل أن أديلايد/ زوجة ألكسندر التي يبدو عليها بأنها لا تحب ماريا قد طلبت منها إعداد الأطباق، وإشعال الشموع، وفتح زجاجات النبيذ قبل انصرافها، وهو ما جعل ما ريا تلتفت باتجاه الكاميرا لتقول: أطباق، وشموع، ونبيذ، ولعله لا يفوتنا أن هذه الأدوات الثلاث هي أدوات المناولة المُقدسة في الطقس الديني المسيحي الأرثوذوكسي، والكاثوليكي.
إذن، فالفيلم هنا مُزدحم بالكثير من الرموز
الدينية التي تؤكد لنا على أن ماريا الخادمة هنا، هي مريم العذراء، هي قديسة هنا،
ومن ثم يكون اللجوء إلى القديسين والقديسات كوسيط بين الإنسان وبين الرب من أجل
التضرع له وتحقيق طلب من الطلبات ليس فعلا وثنيا في جوهره، بل هو فعل شديد الإيمان
كما تؤمن به العديد من الديانات- لاحظ أيضا أن ألكسندر كان يرتدي شالا أبيض يشبه
الشال الذي يرتديه الناس في المناولة الأولى أثناء محاولة أوتو إقناعه بالذهاب إلى
ماريا ومُضاجعتها.
لكن، يبقى هنا قول أوتو على ماريا بأنه قد جمع كل الأدلة على أنها ساحرة، إن الكلمة هنا يعنيها تاركوفسكي بالفعل، لكنه يعني بها معناها المعنوي وليس الفعلي، فمريم العذراء كأم للمسيح قادرة على أن تكون وسيطا بين البشر وبين الله، وبالتالي تتحقق لهم طلباتهم وآمالهم مما يكسبها مفهوم السحر بالفعل، فضلا عن قول أوتو عنها: هذه حقيقة مُقدسة، وقوله: لديها قدرات خاصة، وتأكيده على أن أي أمنية لألكسندر وهو بين ذراعيها لا بد لها أن تتحقق.
يزداد يقيننا من رغبة تاركوفسكي في التأكيد على أن ماريا هنا إنما يُقصد بها مريم العذراء حينما يتجه ألكسندر بالفعل إلى بيتها مُستقلا دراجة أوتو التي تركها له، فحينما يصل إلى البيت القديم الكبير الذي تسكن فيه نراه شبيها بكنيسة قديمة مُتهدمة- بيت أم الإله، أو خادمة الرب- وحينما تفتح له الباب وتدعوه للدخول تبدأ الكاميرا ببطء شديد في استعراض البيت، فنرى الكثير من الأيقونات المسيحية المُعلقة على الجدران، إلى أن تتوقف الكاميرا على مُجسم الصليب المصلوب عليه المسيح- ابن ماريا، أو مريم- فضلا عن أن المشهد بالكامل يسوده صوت دقات عقرب الثواني في الخلفية حتى ينتهي، وما هو يرمز به المُخرج إلى إمكانية نفاد الوقت، ودمار العالم، أي أن كل شيء هنا يتوقف على ماريا القديسة في مثل هذا الموقف.
إن المشهد هنا يحتاج إلى الكثير من التأويلات، حيث حمله المُخرج بعدد لا يُستهان به من الرموز مُعتمدا على ثقافة المُشاهد، وإعمال عقله من أجل الوصول إلى ما يرغب في قوله. فحينما يصل ألكسندر إلى ماريا تُلاحظ أن يديه مُتسختان- حيث كان قد سقط في الأوحال حينما كان في طريقه إليها- لذلك فهي تطلب منه غسيل يديه، وتصب على يديه الماء- غسل اليدين قبل القداس في المسيحية، إنه التطهر من وسخ الخطايا- كما أنه يروي لها قصة تخصه في ماضيه عن أمه، حينما رغب في إسعادها وتقليم حديقتها قبل موتها- مريم العذراء هنا أم جميع المُؤمنين كما أنها أم الإله- وحينما ينتهي من قصته يبدأ في التضرع إليها، ونراه في وضع مُتماهٍ تماما مع لوحة "سجود الملوك الثلاثة- حينما رأينا الكاميرا تستعرضها أثناء تيترات الفيلم- هنا نفهم سبب استعراض الكاميرا للوحة في التيترات- فتضرع ألكسندر أمام ماريا وركوعه أمامها يتشابه تماما مع ركوع الملك أمام مريم العذراء الحاملة لطفلها المسيح، كما يقول باكيا، راجيا: أحبيني، انقذيني، انقذينا جميعا، لا تقتلينا، ماريا انقذينا. نُشاهد هذا المشهد المُتضرع بينما نستمع إلى صوت الطائرات الحربية المُنطلقة خارج البيت ليهتز كل ما فيه، وهو ما يحيلنا مرة أخرى إلى مشهد بيت ألكسندر حينما مرت الطائرات الحربية فوق بيته أثناء الاحتفال ليهتز كل ما فيه ويقع وعاء اللبن مُنسكبا على الأرض، فاللبن المُنسكب هنا هو حليب العذراء الذي سينقذهم من الدمار، أو نعمتها.
إن طلب ألكسندر- المبني على إيحاء أوتو له- من ماريا كي تُضاجعه لا يحمل في معناه معنى جنسيا مُباشرا، بقدر ما يحمل التضرع، والرغبة في التطهر، والارتقاء، والتخفف من أعبائه المادية من أجل الوصول إلى الدرجة الأقصى من الإيمان والتقرب من الرب من خلال ماريا/ مريم العذراء- فهي أم الجميع- لذا فتاركوفسكي يقدم لنا هنا المشهد بشكل روحاني أقرب إلى الحلم، مُبتعدا به عن معناه المادي، ومُقتربا كثيرا من مفهومه الإيماني، حيث نرى ماريا المغرورقة عينيها بدموع الشفقة على آلام ألكسندر، وكأنها مريم العذراء الأم المُشفقة على ابن من أبنائها- أو المُشفقة على المسيح بما أن ألكسندر هنا يلعب دور المُخلص- فتعري ثدييها فقط- الثدي يحمل مفهوم الأمومة والحنان، ويرتبط بالحليب الذي سبق له أن انسكب، كما لا يفوتنا أن الأيقونات المسيحية مُتخمة بصورة العذراء العارية الصدر لإرضاع مسيحها المُخلص، أو إرضاع القديسين، أي أنها تقدم له ثدييها من أجل إرضاعه ونعمتها عليه كطفل- ثم تقوم بتقبيله على جبينه ووجنتيه- وهي قبلات تحمل في جوهرها معنى الأمومة، وليس معنى الرغبة- وسُرعان ما تأخذه في حضنها حانية عليه، مُهدهدة إياه فقط، لنراهما مُتعانقين، من دون تعرٍ اللهم إلا تعري ثديي ماريا، بينما جسداهما يحلقان فوق الفراش في إيحاء سحري، ليستمرا في الارتفاع خفيفين وكأنما ألكسندر قد تخفف من كل أعبائه المادية وصار روحانيا كاملا- ألا يذكرنا هذا المشهد وارتفاع الجسدين وتحليقهما فوق الفراش بمشهد آخر لتاركوفسكي في فيلمه The Mirror المرآة 1975م- إنه التحول الثاني لألكسندر حيث تمنى عدم زوال العالم وهو بين ذراعي ماريا.
هنا يقطع تاركوفسكي مشهده على حلم سيريالي
باللونين الحياديين، نرى فيه عددا كبيرا من البشر يحاولون الهروب راكضين بينما كل
شيء من حولهم مُدمرا تماما لينتهي الحلم على ألكسندر نائما في بيته على أريكته حيث
كان ينام قبل الذهاب إلى ماريا بينما يهذي، وقد عادت الحياة من حوله بكاملها إلى
طبيعتها السابقة، أي أن ماريا القديسة التي كانت وسيطا بينه وبين الله بالفعل نجحت
في إنقاذ العالم من دماره الذي كان مُوشكا.
هل كان مشهد ذهاب ألكسندر إلى ماريا مُجرد حلم من أحلام ألكسندر بعدما نام مُباشرة بعد كأس الكونياك القوي؟ إن الذهاب إلى هذا التفسير يجعلنا نؤكد على أن ذهاب الملاك/ أوتو إليه من أجل إقناعه بالذهاب إلى ماريا ومُضاجعتها لا بد أن يكون جزءا من هذا الحلم، وهو ما يؤكده أيضا أن مشهد وجود ألكسندر مع ماريا كانت الألوان فيه تتراوح ما بين اللونين الحياديين أحيانا، وما بين الألوان الطبيعة، وبما أن الألوان الحيادية في سينما أندريه تاركوفسكي تُدلل على الرؤى والأحلام فهذا يؤكد لنا على أن مشهده مع ماريا كان مُجرد رؤية، أو حلم من أحلامه، أدى في النهاية إلى عودة الأمور إلى نصابها الطبيعي.
ينهض ألكسندر ليجد الكهرباء قد عادت مرة أخرى،
وحرارة الهاتف عادية، وكل شيء كما كان، أي أن الخطر من الحرب النووية الوشيكة،
والخوف من نهاية العالم قد انتهت بالفعل، إذن، فلا بد لألكسندر أن يفي بقربانه
الذي وعد الله أن يقدمه له في حالة إنقاذه للعالم، أي التضحية بمنزله، وكل ما
يمتلك- ألكسندر هنا هو المُخلص، أي يسوع الذي يقدم ما يمتلكه، وروحه كفداء من أجل
إنقاذ البشرية من أخطائهم وذنوبهم.
يحاول ألكسندر التسلل من دون أن يراه أحد، لا سيما أن فيكتور ما زال يجلس في الحديقة مع الزوجة، وابنتها، والخادمة جوليا، فيكتب رسالة يؤكد لهم فيها بأنه قد تناول دوائه وأنه سينام لفترة أطول، كما يطلب منهم أن يذهبوا للنزهة ويأخذوا الطفل معهم، وبالفعل يقومون بذلك ليبدأ هو في إعداد البيت لحرقه، فيشعل فيه النيران التي تأكله بالكامل بينما يقف أمامه مُتأملا إياه برضى وخشوع، وتسليم بما فعله.
يسرع الجميع باتجاه ألكسندر محاولين إنقاذه من
الحريق، لكنه يلتزم الصمت، فلقد تعهد بعدم الحديث، وحينما يرى ماريا قادمة يسرع
إليها راكعا أمامها، راغبا في تقبيل يدها، لكن الزوجة تجذبه بعيدا إلى أن تأتي
سيارة إسعاف لتأخذه.
هنا نرى ماريا تركب دراجتها مُسرعة للاطمئنان على الابن الذي نراه يقف أسفل الشجرة- رمز الإيمان- التي سبق لألكسندر أن غرسها في بداية الفيلم، بينما يقوم الابن بريها كإحالة من المُخرج على حياة أخرى بديلة ومُمتدة تركها للعالم، أو إيمان أعمق قد تركه ألكسندر لابنه الذي يمثل الامتداد الطبيعي له في حياة جديد، ليقول الطفل في أول كلمات نطق بها على طول المُدة الزمنية للفيلم بعدما يستلقي واضعا رأسه أسفل الشجرة: في البدء كانت الكلمة، لماذا يا بابا؟ وسُرعان ما يغلق تاركوفسكي فيلمه ليكتب على الشاشة: هذا الفيلم مُهدى إلى ولدي أندريوشا مع الأمل والثقة.
لكن، لعل الجملة التي نطق بها جوسن في نهاية
الفيلم- بينما يستلقي أسفل الشجرة- لا بد لها أن تجعلنا نتأملها بدورها، فلقد
تساءل هنا: لماذا يا بابا؟ هل كان تساؤله استفهاميا، أم استنكاريا؟ وهل هو هنا
يقصد والده ألكسندر، أم الله الذي هو أب للجميع؟ أظن أنه بالمعنى الروحاني
لتاركوفسكي فهو يخاطب الله في جوهر الأمر.
إن ألكسندر الذي يكاد أن يكون هو المُخرج ذاته- مُمثلا إياه في الفيلم- كان حريصا على أن يهدي طفله جوسن حياة أخرى جديدة، حياة مُستغرقة في الأخلاقيات بمفهومها الفلسفي، والإيمان العميق، والكثير من التحذير من المادية التي استغرقت العالم حتى كادت أن تقضي عليه، وهو ما يؤكده المُخرج بإهدائه الفيلم إلى ابنه أندريوشا، أي أن المُخرج هنا إنما صنع الفيلم من أجل ابنه، ولأنه كان يعلم بأنه سيفارق العالم قريبا نتيجة مُعاناته الصعبة من السرطان، لذا فلقد ترك لنا، ولابنه هذه الوصية.
إن الفيلم السويدي "القربان" للمُخرج
الروسي أندريه تاركوفسكي هو فيلم شديد الإجهاد، والإنهاك على المستوى العقلي، فهو
مُزدحم بالكثير من الرمزية- رغم إنكار تاركوفسكي الدائم وجود الرمزية في أفلامه-
مُتخم بالأكثر من التأملات الفلسفية التي كان يستغرق فيها المُخرج، يكاد أن يحمل
كل ما قدمه في أفلامه السابقة من معانٍ روحانية وإيمانية، إنها رسالة تاركوفسكي
الأخيرة، ووصيته للعالم الغارق في ماديته، وشروره، حيث يحاول تحذيرنا من هذه
المادية التي ستقضي على كل شيء، مما يجعل الفيلم ما زال صالحا لعصرنا الآني حتى
الآن، حتى لكأنما تاركوفسكي قد قام بصناعته بالأمس فقط، وليس في عام 1986م.
[1] The Adoration of the Magi عبادة المجوس، أو Adoration of the Kings أو عبادة الملوك، أو Visitation of the Wise Men زيارة الحُكماء هو الاسم الذي يُطلق تقليديا على الموضوع في ميلاد
يسوع في الفن الذي يتم فيه تمثيل المجوس الثلاثة كملوك، خاصة في الغرب، بعد أن
وجدوا يسوع، ووضعوا أمامه هدايا من الذهب واللبان، والمر وعبدوه. جاء في الكتاب
المُقدس في إنجيل متى 2:11: "ولما دخلوا البيت، رأوا الصبي مع مريم أمه،
فركعوا وسجدوا له، وفتحوا صناديق كنوزهم، وقدموا له هدايا من ذهب، ولبانا، ومُرا،
ثم أُوحي إليهم في الحلم ألا يرجعوا إلى هيرودس، فانصرفوا في طريق أخرى إلى
وطنهم". وسع علم الأيقونات المسيحية بشكل كبير الرواية المُجردة لمجوس الكتاب
المُقدس الموصوفين في إنجيل متى. لكن بحلول العصور الوسطى اللاحقة تم استخلاص هذا
من مصادر غير قانونية مثل Golden Legend الأسطورة الذهبية لـJacobus de Voragine جاكوبوس دي فوراجين. وقد استخدم الفنانون الأيقونات المسيحية
الموسعة لتعزيز فكرة الاعتراف بيسوع مُنذ طفولته الأولى، كملك الأرض. غالبا ما كان
مشهد العبادة يُستخدم لتمثيل ميلاد المسيح، وهو أحد أكثر الأحداث التي لا غنى عنها
في دورات حياة العذراء، وحياة المسيح.
[2] Leonardo di ser
Piero da Vinci ليوناردو دي سير بييرو دافنشي.
من مواليد 15 إبريل 1452م، وتوفي في 2 مايو 1519م، كان عالما إيطاليا من عصر
النهضة العليا، وكان نشطا كرسام، ومُهندس، وعالم، ومُنظر، ونحات. ارتكزت شهرته في
البداية على إنجازاته كرسام، لكنه أصبح معروفا أيضا بدفاتر مُلاحظاته التي رسم
فيها رسومات ومُلاحظات حول مجموعة متنوعة من المواضيع، بما في ذلك علم التشريح،
وعلم الفلك، وعلم النبات، ورسم الخرائط، وعلم الحفريات. يُنظر إلى ليوناردو على
نطاق واسع على أنه كان عبقريا يجسد المُثل الإنسانية في عصر النهضة، وتشتمل أعماله
الجماعية على مُساهمة للأجيال اللاحقة من الفنانين لا يضاهيها سوى أعمال مُعاصره
الأصغر سنا Michelangelo مايكل أنجلو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق