الأحد، 12 يناير 2025

برتقالات بغداد وحب صيني: ذاكرة مُثقلة بتاريخها وتوليد الحكايات

ثمة مُلاحظة سنجدها بوفرة لدى الأغلبية من كتاب القصة والرواية العربية، لا سيما المُهاجرين منهم، وهي أنهم يحملون كل تاريخهم في ذاكرتهم، يحافظون عليه كإرث لا يمكن التخلي عنه، يطاردهم طوال الوقت ككابوس لا يمكن التخلص منه، وبالتالي كثيرا ما يتراءى لهم في كل لحظاتهم، يجترونه في كل المُناسبات المُمكنة، يجثم على صدورهم محاولين الحديث عنه طوال الوقت مما قد يؤدي في نهاية الأمر إلى تدمير حيواتهم الآنية نتيجة اضطرارهم للحياة في الماضي، وتجاهلهم للحاضر الذي يحيون فيه! بمعنى أن الكاتب العربي- المُهاجر منهم- ليس إلا تاريخا عتيقا يمشي على الأرض أينما اتجه، تاريخ في أغلبه دموي شديد العبثية؛ مما يجعله غير قادر على الحياة الآنية، وإن كان يساعده هذا الاحتفاظ بتاريخه على توليد الكثير من الحكايات، وانبثاقها من بعضها البعض في متوالية حكائية لا يمكن لها أن تنتهي، فهو يأخذ من تاريخه، ويضيف إليه، ويعمل على صياغته بالشكل الذي يحلو له، مما يساعده- على المستوى الإبداعي- على المزيد من الثراء الحكائي، واختلاق الأحداث والحكايات، وهو لُب العملية الإبداعية في نهاية الأمر.

هذه الحالة الاجترارية لاحظناها لدى العديد من الكتاب، منهم، على سبيل المثال، الروائي السعودي عبد الرحمن منيف الذي ما فتئ طوال حياته الإبداعية يجتر الديكتاتوريات، والتعذيب، والظلم، والتعسف الذي يلاقيه مُعتقلي الرأي في المُعتقلات السعودية في العهد السابق- خماسية مُدن الملح كمثال- كما لاحظناها كثيرا لدى الكثيرين من الكتاب العراقيين المُهاجرين خارج العراق.

حمل التاريخ على الأكتاف، أو إثقاله للذاكرة هي الحالة البارزة لدى الغالبية العظمي من الكتاب العراقيين المُهاجرين- وربما غير المُهاجرين فهناك مثلا خضير فليح الزيدي الذي ما زال مُقيما داخل العراق وتبدو لنا هذه الحالة في كتاباته، لا سيما روايته المُستغرقة تماما في دموية الأحداث العراقية "فاليوم عشرة"- حتى أننا قد نظن بأن كتاب العراق قد انفردوا بهذه الحالة الغريبة التي تجعلهم يعيشون في عمق تاريخهم الذي يزخر بالظلم، والتعذيب، والقتل، والتدمير، والكثير من الموت والعدمية، مما يجعلنا نتساءل: هل الكتاب العراقيين يعشقون تذكر جلادهم؟ هل ثمة مُتعة ما من محاولة اجترارهم الدائم للخراب الذي عاشوا فيه طوال حياتهم؟ هل هم يخطون تاريخ الفناء العراقي الذي شهدوه طوال تاريخهم بهذا التدوين الإبداعي؟ أم أن كتابتهم عن التدمير الدائم الذي عهدوه مُنذ صغرهم هي مُجرد كابوس لا يفتأ يطاردهم في كل لحظاتهم فيضطرون إلى الاستسلام له، مُتحدثين عنه، شاعرين بالكثير من الراحة لمُجرد هذا الحديث والإفضاء به للآخرين، وكأنه مُجرد حِمل ثقيل لا بد أن يعهدوا به لغيرهم للتخلص منه؟

رأينا هذه الحالة الإبداعية الغارقة حتى الثمالة في التاريخ لدى الروائي العراقي المُقيم في بلجيكا حازم كمال الدين في جل أعماله الروائية تقريبا، لا سيما روايته "مياه مُتصحرة" المُستغرفة تماما في التاريخ الدموي للعراق رغم إقامته بعيدا عنها مُنذ عدة عقود، كما تبدو واضحة لنا لدى الروائي العراقي حسين السكاف المُقيم في الدانمارك في الكثير من أعماله، لا سيما روايته "كوبنهاجن: مُثلث الموت"، ولعله لا يفوتنا في هذا المقام الروائي والشاعر العراقي- الذي هاجر إلى سوريا ومات فيها- يوسف الصائغ وروايته المُهمة "السرداب رقم 2" التي يتحدث فيها عن التنكيل بالمُعتقلين السياسيين في سجون البعثيين بقيادة الرئيس الراحل صدام حسين- وهو ما حدث للصائغ نفسه بشكل شخصي- بالإضافة إلى الروائي العراقي المُقيم في ألمانيا برهان شاوي، لا سيما روايته "مشرحة بغداد".

إذن، فالروائي العربي غير قادر على التخلص من عبء تاريخه الشخصي الفجائعي، لا سيما الكاتب العراقي الذي عاش وسط الفجيعة لقرون مديدة- بالتأكيد لا يمكن إنكار لحاق الكاتب السوري، والفلسطيني، وغيرهم من الكتاب الذين عاشوا وسط الدمار الدائم- لكن رغم الانحباس داخل هذا التاريخ، وإثقاله للذاكرة الإبداعية لهؤلاء الكتاب؛ فلقد ساعدهم إلى حد بعيد في المزيد من الثراء الإبداعي، نظرا لأن هذا التاريخ الدموي بات مجموعة من الحكايات المتوالدة من بعضها البعض، وهي الحكايات التي تُكسب السرد الروائي والقصصي الكثير من العمق والدهشة نتيجة تنويعهم على هذه الحكايات، وربما ابتكارها، أو إعادة صياغتها كما يرونها في الوقت الآني، أي أنهم يعملون على إكسابها المزيد من الفرادة والدهشة من خلال استغلال السرد الروائي والقصصي.

الروائي العراقي مُحسن الرملي

هذه التأملات في انحباس الكاتب العربي، لا سيما العراقي، في تاريخه الدموي، وعجزه عن التخلص منه للانطلاق إلى آفاق أخرى بديلة وأكثر اتساعا كانت شغلنا الشاغل طوال قراءتنا للمجموعة القصصية "برتقالات بغداد وحب صيني" للقاص العراقي المُقيم في إسبانيا محسن الرملي؛ فلقد لاحظنا أن الرملي مُستغرق تماما في تاريخه، يجتره طوال الوقت ليعيد نسجه وتشكيله في شكل قصصي يتوالد من بعضه البعض ليكسبه المزيد من الدهشة- صحيح أن الواقع ببؤسه ودمويته مُدهش إلى حد بعيد، لكن إكسابه لأسلوبية السرد القصصي أو الروائي يزيد من دهشته وإكسابه شكل الحكايات السحرية- لا سيما أن الرملي يكتب القصة زاخرة بالكثير من الحكايات المُجتزأة من سياقها- أي مُناسبتها للموضوع الذي يحكي فيه من دون إكمالها- بطريقة انسيال الأفكار والحكايات- تيار الوعي- وهو ما يجعل القصة غاصة بالكثير من المواقف والأحداث المُتخمة التي تتناسب تماما مع ما يتحدث فيه؛ مما يزيدها إثراء وعمقا.

هذه الأسلوبية في سوق الحكايات المُجتزأة، أو توالد الحكايات من بعضها البعض من أجل بناء نسق قصصي مُتماسك ومُتكامل نلحظه لدى الرملي في قصته "التليفزيون الأعور" الذي يحرص من خلالها على بيان كيفية التكريس للأسطورة في مُجتمعاتنا العربية التي قليلا ما تفكر، وتُفضل الارتكان إلى الأساطير الدينية، أو المُتحدثين باسم الأسطورة الدينية وكأنهم يمتلكون حقيقة السموات والأرض رغم جهلهم وزيفهم وادعائهم.

في هذه القصة يصوغ الرملي عالمه القصصي على لسان طفل، وهو في لجوئه إلى تقمص شخصية الطفل نجح إلى حد بعيد في إكساب القصة المزيد من الدهشة الأولى، وهي الدهشة التي تتناسب مع عالم الطفولة إلى حد بعيد، حيث الاكتشاف، والتعرف على العالم لأول مرة، أي تكوّن المعرفة- حتى لو كانت هذه المعرفة مُستغرقة في الأساطير والكثير من المعلومات المغلوطة.

هو هنا يتحدث عن أبيه، أي أنه يتخذ من الأب تكأة من أجل بناء العالم والانطلاق منه إلى العالم الأوسع المُحيط به. إذن، فالأب هنا- كما في حياة كل الأطفال- هو المُنطلق الأساس من أجل تكوين المعرفة واكتسابها، المثال الذي يحتذي به الابن من أجل تكوين شخصيته، وبناء خياله، كما لا يفوتنا أنه ينطلق في سرده القصصي من قلب الحدث مُباشرة، أي أنه لم يحاول التمهيد له بقدر ما لجأ إلى اقتحامه مُباشرة؛ لذا يبدأ قصته بقوله: "ما إن بدأت السنة الثالثة عشرة من عمري حتى بدأت الحرب العراقية- الإيرانية، وقبل أن تُكمل عامها الأول قُتل أخي الكبير، وأُسر أحد أبناء عمومتي؛ فصرت أسمع أبي يشتم (السيد الرئيس) كلما وجد نفسه مُنفردا مع أمي في البستان أو في المطبخ وغرفة النوم، أو وهي تحلب أبقارنا في الزريبة؛ فأصاب بحيرة لا أعرف لها حلا بين هذا الشتم البذيء وتلك الصور والأناشيد الجميلة التي يعلموننا إياها في المدرسة مدحا بالقائد، المُعلم الكبير، البطل، الشجاع، العبقري، القوي، الضرورة والمُلهم.. إلخ من قائمة أسماء وصفات طويلة بكلمات كبيرة لم نكن نفهم معانيها كلها آنذاك، ومع ذلك صرنا نحلم أن نراه ولو في المنام. وكان بيننا من يدعي أن ذلك تحقق له- أو أن نكون أمثاله حين نكبر. كما سمعت أبي يشتمه بعد مُنتصف الليل حين كنت أستيقظ لأشرب ماء، أو لأبول وأمر من قربه جالسا في الصالون مع أمي وعمتي والدة الأسير التي كانت تجيء إليه بعد أن ينام الناس في القرية كي تستمع معه سرا إلى إذاعة طهران العدوة التي كانت تبث برنامجا يوميا لرسائل الأسرى إلى ذويهم، وما أن ينتهي دون ذكر ابنها حتى تنفجر في البكاء وتُشاركها أمي. عندها يبصق أبي على الأرض خلفه بحنق ومرارة، وأحيانا يسحب نعله ويروح يضرب بصقته بحقد كأنها عقرب، ويطلق شتائم قذرة وهو الذي كان يعاقبنا على مُجرد نطق أحدنا بكلمة نابية. وهذه حيرة أخرى من كثيرات أوقعتني بها شخصية أبي".

في الاقتباس السابق، وهو مطلع القصة كما بدأ بها الرملي، سنُلاحظ انطلاق القاص بالحدث من قلبه مُباشرة من دون أي تمهيد- الحرب العراقية الإيرانية، وموت الشقيق وأسر ابن العمة، ولعله لا يفوتنا أن الروائي العراقي مُحسن الرملي هو شقيق الكاتب والفنان التشكيلي العراقي حسن مطلك الذي شُنق في عام 1990م لاشتراكه في محاولة لقلب نظام الحُكم الصدامي- أي أن القاص هنا يأخذ من عالمه الواقعي، وتاريخه المُثقل به ليصوغه بالشكل الذي يتناسب مع عالمه القصصي- مقتل الأخ في القصة بسبب الحرب العراقية الإيرانية، وليس شنقه على يد النظام الصدامي- وهو النظام الذي كان يكرهه الأب في القصة، ويسب رأسه طوال الوقت. هنا سنُلاحظ محاولة الكاتب وصف الاستبداد الذي كان يتميز به صدام حسين؛ فهو صاحب الصفات العظيمة التي لا تنتهي والتي يعلمون الأطفال إياها في المدارس حتى أنه قد بات أسطورة تتشابه مع أساطير الإله أو الأنبياء التي يطمح المُؤمنون بالأسطورة الدينية أن يرونها في منامهم، إنه التعليم الذي يتعارض مع الواقع المُحيط- كراهية الأب لصدام، وسبه الدائم- مما يكسب الطفل شكلا من التشوش وعدم الاستقرار، وضبابية الفهم، أي خلق طفل مُهتز، غير قادر على الاستقرار على الحقيقة.

هذا التناقض ما بين الواقع والمثال- الأب والمدرسة- سنُلاحظه أيضا في سب الأب لصدام بأقذع الشتائم رغم أنه يعاقب أطفاله على أي كلمة نابية من المُمكن لها أن تصدر من أحدهم، أي أن القاص هنا يؤكد على ازدواجية الواقع العربي، والاعتراف لنا بأنها ازدواجية أصيلة، وهي الازدواجية التي من شأنها أن تُنشئ لنا شخصيات مُصابة بالشيزوفرانيا والكثير من الأمراض السيكولوجية والاجتماعية، أي نشأة مُجتمع مريض بالكامل نتيجة لأن الواقع الاستبدادي الديكتاتوري المُحيط هو في حقيقته واقع مريض.

يتحدث القاص/ الطفل هنا عن أسطورية عالم القرية التي يعمها الجهل، ونقص المعرفة مما يسهم في التكريس للأساطير- فالجهل رديف الأسطورة بالضرورة- هذا الجهل هو الذي جعل لأبيه مكانة يجلها ويحترمها جميع أبناء القرية النائية التي يعيشون فيها لمُجرد أن الأب يمتلك راديو يستمع من خلاله لأخبار العالم وما يدور فيه بينما جميع أهل القرية لا يعرفون أي شيء عن العالم الخارجي، وبالتالي فهو يمتلك معرفة واسعة بالقياس إليهم، ورجل عليم، وربما حكيم لأنه يعرف كل شيء، ويحدثهم عن أمور لا يعرفون عنها شيئا: "لا أنكر مدى فخري به- يقصد الأب- كونه الوحيد الذي كان يمتلك صندوقا صغيرا يتكلم ويغني اسمه (راديو) وإن كان لا يدعه يغني أبدا، فبمُحرد سماعه لمُوسيقى سُرعان ما يبحث عن أخبار أو قراءة قرآن، فهو يجيد تقليب خيطه الأحمر، ويعرف محطاته، ومواعيد برامجها، لذا كان محور المجالس، والنجم اللامع في مقهى القرية صباحا حيث يلتف الرجال حوله يسألونه عن أخبار الدينا البعيدة، وعن رأيه، فيجيد صياغتها بأسلوبه الخاص وهم مُنبهرون بسعة معرفته وفصاحته، ويقدمون له أقداح الشاي وفناجين القهوة على حسابهم. وهذا أمر أثار حسد جليل الحداد فصنع صندوقا حديديا شبيها، لكنه لم يتمكن من إنطاقه".


إذن، فالجهل المُحيط بكل أهل القرية هو الذي جعل للأب مثل هذه المكانة المعرفية الناقصة في حقيقتها؛ فالأب ليس واسع المعرفة كما يظنون فيه، لكنه يمتلك أداة يعرف من خلالها ما لا يعرفونه، وهو ما أكسبه هذه المكانة الاجتماعية بينهم، ولعلنا نلاحظ هنا سعي القاص لإعادة بناء العالم من خلال توالد الحكايات من بعضها البعض مُرتكنا إلى أسلوبية تيار الوعي؛ فهو حينما يتحدث عن مكانة أبيه التي اكتسبها بسبب الراديو يميل إلى أن هذه المكانة قد أكسبت الحسد على أبيه، مما جعل جليل الحداد يقوم بصناعة صندوقا مُشابها كي يكتسب نفس المكانة، لكنه فشل في ذلك لأنه لم يستطع إنطاق الصندوق، أي أن القاص هنا ماهر في توليد الحكاية من أخرى تبعا للموقف الذي يتحدث عنه، وسُرعان ما يعود إلى الخط السردي الذي توقف عنده مرة أخرى، أي أنه ماهر في إعادة صياغة العالم المُحيط به بالشكل الفني الذي يراه.

كما لا ينسى التأكيد على أسطورية عالم القرية الغارق في جهله، أي الذي لا يعلم أي شيء عن العالم الخارجي، وهو ما يجعل القاص يعرج على قصة فرعية تخص هذا العالم، وهي قصة ليلى التي عشقت أحد باعة العطور الجائلين، وهربت معه للزواج منه بعد رفض أهلها الاقتران به، وبما أن من عادات القرية أن يتم قتلها من قِبل من يراها من أقاربها على مدى سنتين، أما إذا مر هذا الوقت دون أن يحظى بها أحد فعند ذلك يمكنها العودة والاعتراف بزاوجها، فلقد عادت ليلى بعد عامين من أجل زيارة القرية، وهي الزيارات التي كانت بالنسبة لأهل القرية وأطفالها بمثابة العيد لأنها تحكي لهم حكايات لا يعرفون عنها أي شيء، حكايات بين البشر وبعضهم البعض، وليست حكايات بين الكائنات الخرافية كتلك التي تحكيها الجدات؛ مما أكسب ليلى مكانة أيضا بين أهل القرية الذي يندهشون من حكاياتها، والتي سنعرف فيما بعد أن هذه الحكايات ليست سوى الأفلام التي تراها في التلفاز الذي لا يوجد مثله في القرية، ولا يعرفونه.

صحيح أن الرملي هنا كثيرا ما يترك خط السرد الرئيسي ليستغرق في بعض الحكايات الجانبية التي تثري عالم القص، لكنه سُرعان ما يعود إلى الخط الرئيسي مرة أخرى، مما يؤكد على أن مهارة الرملي هنا في بناء العالم القصصي تعود إلى توالد الحكايات من بعضها البعض، وهي الحكايات التي تتضافر لبناء العالم القصصي الذي يريده.

إذن، فلقد أسس الرملي بمهارة لعالمه القصصي مُنذ السطر الأول- الحرب العراقية الإيرانية، موت الأخ، الأب الذي يبغض صدام حسين، والذي يمتلك مكانة خاصة في القرية بسبب الراديو، والمكانة التي يحاول صدام التكريس لها طوال الوقت، ومكانة ليلى الاجتماعية بسبب امتلاكها للتلفاز الذي لا تعرف عنه القرية أي شيء- هنا يبدأ القاص في التنويع والانطلاق داخل عالمه القصصي بمهارة ليسوق لنا العديد من القصص الأخرى التي تعمل على هدم ما أسس له في البداية؛ ومن ثم يُحدثنا عن كيفية دخول التليفزيون للقرية. وهو في حديثه عن دخول التليفزيون لم يكن القصد الأساس له هو التليفزيون وهدم ما أسس له فقط، صحيح أنه قد ساعد إلى حد بعيد في هدم ما سبق أن ذهب إليه، لكنه كان يقصد من جانب آخر الحديث عن براجماتية الحاكم الطاغية، وهو جوهر الأمر الذي يقصده الرملي: "عرفنا ذلك في العام الثاني من الحرب حين أهدى (السيد الرئيس) تليفزيونا لكل عائلة لا تملكه، وذلك بعد زيارة له إلى قرية كردية، وهرب الناس منه حين حطت طائرته الهليوكوبتر في ساحة القرية، وعندما جلب له حمايته بعض الهاربين سألهم بتعجب: أنا السيد الرئيس القائد، ألا تعرفونني؟! فزاغت عيونهم خائفين وهازين رؤوسهم بالنفي. عندها أصدر قراره هذا كي يراه ويعرفه كل أبناء الوطن، وجاءت التليفزيونات مكتوبا على إطارها بالألمونيوم الفضي عبارة تشير إلى أن هذه هدية من السيد الرئيس القائد، واسمه وصورة صغيرة له، وعلم العراق، وشعار الجمهورية، ونُسخ من كراسات خطاباته بدل الكتالوجات التي تتعلق بالجهاز نفسه، ومن أجل التليفزيونات أمر بإيصال الكهرباء إلى كل القرى، بل وحتى إلى خيم البدو في الصحراء التي كنا نراها بعيدة في الأفق وراء الضفة الأخرى من النهر، ولأنهم رُحل فلقد أهداهم مولدات كهرباء يحملونها معهم على ظهور جمالهم هي والتليفزيونات أينما رحلوا"!

ألا نُلاحظ هنا أن الرملي يصوغ عالمه بمهارة؟ إنه يتحدث عن براجماتية الحاكم الطاغية كثنية من ثنيات السرد الروائي التلقائية، وهي البراجماتية المُثيرة للكثير من الدهشة؛ فهو لم يهدِ جميع أهل القرى التليفزيونات لمُجرد أنها تنقصهم، أو زيادة معرفتهم بالعالم، بل كي يعرفونه، يبجلونه كإله، بما أن هناك من البشر المواطنين من لا يعرفونه، بل وحرص على إيصال التيار الكهربي لجميع القرى كي تساعد على تشغيل التليفزيونات التي يظهر فيها، وبالتالي يعرفه جميع المواطنين العراقيين، والأكثر مدعاة للسُخرية هو إهدائه للمولدات الكهربائية والتليفزيونات للبدو الرحل في الصحراء كي يعرفونه بدورهم.

بالتأكيد لم يسق الرملي هذه الحكاية الفرعية لمُجرد الرغبة في كتابتها، بل من أجل هدم ما سبق أن أسس به قصته، والانطلاق بها إلى آفاق أخرى أكثر رحابة، أي أنه يصوغ عالمه القصصي بمهارة وتؤدة. فدخول التليفزيون إلى القرية أدى إلى انفضاض أهل القرية عن أبيه، ومن ثم فقد مكانته الاجتماعية التي اكتسبها بسبب امتلاكه للراديو: "مات أبي بعد شهر من دخول التليفزيونات إلى قريتنا، وأمي تقول: لقد قتلته الحسرة".

كما فقدت ليلى بدورها مكانتها الاجتماعية، ولم تعد زياراتها للقرية بمثابة يوم عيد، يلتف من حولها الجميع من أجل سماع حكاياتها، فلقد عرفوا أن هذه الحكايات هي الأفلام التي يعرضها التلفاز، وبالتالي لم يعد أحد في حاجة إليها.

لكن الرملي يعيد بناء العالم الأسطوري مرة أخرى بشكل جديد حينما يؤكد: "إن الذي لمع نجمه حقا مع وصول التليفزيون هو إمام المسجد الذي صار يناصب الجهاز العداء، ويكرس كل خطب الجمعة ضده، بحيث أربكنا جميعا في طروحاته حتى اليوم. فمرة يقول بأن هذا الصندوق هو النافذة التي تدخل منه سموم جهنم، ومرة يقول: إنه الشيطان بعينه، وبأنه خراب للعقول وللعوائل وللبلاد، وأخرى يقنعنا بأنه (المسيح الدجال) والدليل أنه كما تصفه الكتب القديمة، أعور وبعين واحدة، يغوي الناس بيسر نحو الفساد، وخاصة النساء، ومن هنا صار يسميه (المُفسديون)، فحتى اللغة العربية الأصيلة، لغة القرآن الكريم تنزهت أن تُوجد له اسما فظل يحمل اسمه الأجنبي (تليفزيون)". أي أن إمام المسجد قد استغل الظروف المُستجدة لاكتساب المزيد من السُلطة التي يمتلكها، وبما أنه يمثل الدين بالنسبة لأهل القرية، وهذا يكسبه مكانة اجتماعية عميقة في نفوسهم، فلقد ازدادت هذه المكانة لديهم، وأضاف سُلطة على سُلطته باسم السماء حينما أكد للجميع على أن هذا الجهاز هو الشيطان، وبالتالي لا بد من مُحاربته، وبما أنه رجل دين بين مُجتمع من الغوغاء الجهلاء بكل شيء في الحياة حتى أنهم كانوا يظنون أن الناس الذين يظهرون في التليفزيون أناس حقيقيين يحيون داخله، مما يجعل النساء يغطين شعورهن إذا ما جلسن أمامه حتى لا يراهن الرجال الذين فيه، فلقد بات إمام المسجد صاحب سُلطة حقيقية، ومكانة أكبر من الجميع في مُقابل زوال سُلطة ومكانة الأب الاجتماعية، ومكانة ليلى بدورها.

إن توليد الحكايات، أو الاعتماد على تيار الوعي الذي اتخذه الرملي منهجا قصصيا له في هذه القصة وغيرها من قصص المجموعة يتبدى لنا في: "بالمُقابل صار التليفزيون أيضا يُسمي أطفال القرية الجُدد بأسماء لم تكن شائعة من قبل، ومن ذلك أن جليل الحداد المعروف بقوة عضلاته وعنفه مع الناس كعنفه مع الحديد، ولعناده نصفه بصاحب المُخ الحديدي، حين أنجبت له امرأته توأما ذكرين أسماهما: رامبو وطرزان لشدة إعجابه بقوة هؤلاء. ولكنه حين أخذهما إلى المدينة لتسجيلهما في دائرة الأحوال المدنية اعترض الموظف قائلا له بأن القانون يمنع الأسماء الأجنبية، وخاصة أن هذه أسماء لشخصيات من العدو الأمريكي. فغضب جليل وأصر على الاسمين، وأصر الموظف على الرفض، عندها قام الحداد بتمديد طفليه على الطاولة أمام الموظف وأخرج من جيبه سكينا وضعه على رقبة طفل قائلا: إما أن تسجلهما بالأسماء التي أريدها أو أذبحهما هنا وأترك جثتيهما لك، فأنا أبوهما وأنا حر بتسميتهما، وبأن أفعل بهما ما أشاء، فرضخ الموظف لطلبه". أي أن الحكايات هنا تأتي تباعا، تبعا للموقف الذي يحكيه الرملي، وكلها ذات صلة في بناء المشهد الكلي للقصة التي تتحدث عن كيفية تشكيل الأسطورة في مُجتمع جاهل من الغوغاء حرص حُكامه على المزيد من تجهيله. ولعلنا نُلاحظ هذه البراعة في: "في اليوم الأول دُرنا نحن الصغار حول هذه الصناديق وتحتها باحثين عن أرجل المُذيعين وبقية أجسادهم، فيما كان الأهل يهددون الأصغر منا ويخيفونهم بالفرق السيمفونية بكونها عصابة مُتجهمة الوجوه تحد سيوفها وتحمل عصيها، تُصدر ضجيجا غريبا ينخفض ويتصاعد فجأة، وإذا ما رافقها مُغني أوبرا فالأمر أشد إخافة بهذا الصراخ القوي، فيرتعبون، ويطيعون، ويبولون وينامون".

إذن، فالقاص هنا بارع إلى حد بعيد في إعادة صياغة عالمه القصصي إلى عالم شديد الخصوصية، قادر على الوصول به إلى ما يرغبه، وهو مقدرة القمع السُلطوي على تشكيل مُجتمع غارق في الأساطير، ومنها سُلطة الأسطورة الدينية التي تُمثل أخطر أنواع السُلطة على المُجتمعات كافة؛ لذا سيحاول إمام المسجد منع الناس عن التلفاز، ويحاولون التداول في كيفية التخلص منه بكافة الطرق المُمكنة- التلفاز هنا رديف المعرفة، والمعرفة من شأنها أن تُخل من سيطرة وقوة السُلطة الغيبية الدينية، بل والسُلطة السياسية أيضا: "طال التداول في الأمر وتعددت الاقتراحات على مدى أشهر، حيث كان الجميع يعصر تفكيره لإيجاد سُبل للتخلص من هذه المصيبة. البعض قال: نلقي بها إلى النهر. فأجابه البعض بأن ذلك سيفسد الماء الذي نشرب منه نحن وحيواناتنا، ويفسد أسماكه وضفادعه وحتى ثمار بساتين الشاطئ. قال آخر: نحرقها. فأجاب الإمام بأن العقوبة بالحرق هي شأن واختصاص الله وحده، وليس من حق أي كائن أو مخلوق أن يعاقب بالنار مخلوقا أو كائنا آخر فالله وحده الذي يعاقب بالنار والجحيم، وفي هذا الصندوق كائنات تنطق وتتحرك وإن كنا لا نعرف ماهيتها ومن أية مادة مخلوقة، أي انها أمم أخرى مثل الملائكة والجان والشياطين. قيل فلنكسرها إذن بالعصي ونرجمها بالحجارة، لكن البعض حذر من ذلك لأن الحكومة لو علمت بالأمر فسوف تأخذنا جميعا إلى السجن أو تعدمنا، أو تقصفنا بالطائرات لأن هذه التليفزيونات مكتوب عليها اسم السيد الرئيس وفيها صورته. آخرون قالوا: فلنبعها إذن، أو نهبها لأهل المُدن. لكن الاعتراض كان هو أننا، وفي عرفنا وأخلاقنا أن "الهدية لا تُهدى ولا تُباع". استمرت الحيرة والجدل إلى أن تم التوصل إلى الاتفاق بتفويض الأمر إلى الإمام كي يناجي ربه، ويصلي صلاة استخارة عل الله يهديه إلى الحل الصحيح"!

ألا نُلاحظ هنا مقدرة السُلطة الغيبية على المداورة بمكر من أجل امتلاك زمام الأمور في يدها بالكامل ومن ثم إحكام السيطرة على الناس باسم الأساطير الدينية؟ فلقد انتهى الأمر بهم جميعا إلى تفويض الإمام- المُمثل للإله على الأرض- كي يتعبد لله ويستخيره من أجل إيجاد حل لمُشكلة ليست موجودة في حقيقة الأمر، لكن رجل الدين افتعلها لتوطيد سُلطته، وبما أنهم يرون أنه الوحيد القادر على التواصل مع الله، فلقد فوضوه للتواصل معه كي يخبره الله بحل هذه المُعضلة التي لا حل لها! هذا المكر الذي يتميز به رجال الدين سنُلاحظه أيضا في قول الإمام: "بأن العقوبة بالحرق هي شأن واختصاص الله وحده، وليس من حق أي كائن أو مخلوق أن يعاقب بالنار مخلوقا أو كائنا آخر فالله وحده الذي يعاقب بالنار والجحيم"! إنه إقرار خطير وكامل على قسوة هذا الإله الدموي السادي الذي يستمتع بحرق مخلوقاته، وشوائهم في النار!

هنا تحل الأسطورة الكاملة، ويتمكن رجل الدين بأسطوريته الغيبية من السيطرة على جميع أهل القرية، وهو الرجل الذي لا يمكن أن يصدقوا عليه أي شيء، باعتباره خليفة الله في الأرض. لذا ينتهي بهم الأمر إلى: "تأخر الإمام أيضا في إبلاغنا بالحل، وهو يجيب سائليه على أنه ما زال يدعو الله، يُكثر من الاعتكاف والصلاة وقراءة كتب الدين، ويُطيل النوم أيضا فالحلول التي يلهمها الله لمُستخيريه إما أن تأتي في المنام، أو تحل فجأة في العقل والرأي بوضوح تام". إلى أن يخرج عليهم ذات يوم ليخبرهم بأن وجود التليفزيون بينهم هو اختبار من الله، وعليهم أن يستسلموا له لأن المُؤمن مُبتلى، وهذا امتحان للمُؤمنين، فاستسلم الجميع للأمر، إلى أن خرجت زوجة الإمام ذات يوم لتخبرهم بالحقيقة التي لم يصدقها أحد على الإمام، وهي أنه لم يكن يصلي ويناجي الله، أو يستخيره من أجل إيجاد حل، بل كان يسهر معها أمام التليفزيون، وبالتالي أفضت لجارتها: "اسمعي يا أختي، هو لم يحلم بشيء ولا بطيخ، ففي الليلة التي ادعى بأنه قد حلم بالإلهام لم ننم فيها أصلا، لأننا بقينا أنا وهو ساهرين أمام المُفسديون وشاهدنا أشياء أخجل من وصفها، أنت تعرفينها، وإثر الذي شاهدناه عشنا ليلة مجنونة، ليلة لم نذق مثل حلاوة عشقها ولا حتى في أيام شهر العسل، ولا أظن بأننا سنتذوق مثلها ما بقي لنا من حياة. وبعدها أصابه هوس الزيجات. لقد أخذه التليفزيون مني فأخذت التليفزيون منه".

بهذا الاقتباس ينجح القاص محسن الرملي في الوصول بنا إلى نهاية قصته وإحكام كيفية صناعة الأساطير في المُجتمعات العربية التي ترزح تحت ثقل الجهل وعدم الوعي، والانسياق خلف الأديان وغيبيتها وأسطوريتها، ومن يتحدثون باسم السماء، إنها الأساطير التي تنشأ من كل أنواع السُلطات، السياسية منها والدينية، وهو في هذا البناء القصصي إنما اعتمد على العديد من القصص، وتوليد الحكايات من بعضها البعض تبعا لتيار الوعي الذي ساعده على إحكام بنائه القصصي.

توليد الحكي داخل الحكي، أو الاستفادة من الذاكرة المُثقلة بتاريخها سيتبين لنا بشكل جلي في قصته "برتقالات وشفرات حلاقة في بغداد"، وهي القصة التي يعتمد فيها القاص بشكل أساسي على تيار الوعي أيضا، لينهل من ذاكرته العراقية الكثير من الحكايات التي تُساهم في البناء القصصي الذي قرره، حيث الراوي في القصة يركب إحدى الحافلات مُتجها إلى دائرة الجنسية من أجل استخراج هوية بدل الضائعة منه، وهو في انتظار زحام المرور الخانق، ودرجة الحرارة غير المُحتملة والتي قاربت على التاسعة والأربعين يهيم داخل أفكاره وحكاياته التي تتوالد من بعضها البعض لبناء النسق القصصي الذي يكتبه، لذا يبدأ صياغة عالمه القصصي باقتحام الحدث كما يفعل عادة: "لا أحد يجلس في المقعد الأخير ومع ذلك يستطيع شم رائحة إبطي سائق الحافلة إلا في ظهر صيف بغدادي، حيث يلتهب الهواء وتغلي الأدمغة، ويقول الجالس في المقعد المجاور: إنها جهنم. يسيل إسفلت الشوارع فيمخره الأولاد بأصابعهم على شكل كرات بحجم بيضة العصفور، يلوكونها كأنها علوك مجانية بعد أن يبصقوا أول الأمر ثلاث مرات كي يخلصوها من طعم إطارات السيارات، ودخان عوادمها، وعطن بول الكلاب السائبة. ثم يبتعدون في السراب الذي يحيط بكل كائن هنا على مسافة ثلاثين مترا، ويتحولون إلى أشباح ملونة كضربات فرشاة رسام يظن بأن كل ترهاته حداثة أو ما بعدها".

إذن، فلقد افتتح الرملي عالمه القصصي باقتحامه من داخله من دون تمهيد كذلك، وبأسلوبية قصصية قادرة على جذب انتباه المُتلقي والاستمرار معه حتى النهاية، لكنه يبدأ في استعادة مجموعة من الحكايات المُختلفة من تاريخه العراقي الشبيهة بالصور التي تتواتر على ذهنه، والتي لها علاقة وثيقة بالعالم القصصي الذي يخوض فيه، ليتحدث عن قصة ينوي كتابتها مُنذ عام بعنوان "شفرات" وهو ما يجعله يشرد مع قصص الشفرات التي قد تصلح لعالمه القصصي المُقدم على كتابته، فيحكي لنا عن طفولته حينما كانوا يقومون بصناعة مُنزلق طيني ليتزحلقوا عليه إلى النهر مثل مدينة الألعاب، وكيف أن اثنين منهما قد تشاجرا ذات مرة فألغم أحدهما المنزلق بشفرة حلاقة غرسها في الطين، وأخبر الثاني بأنه يسامحه لذا سيسمح له بأن يأخذ دوره في الانزلاق قبله لإثبات حُسن نيته: "صفقنا لهما ضاحكين، لكن جمال قد صرخ بعد أن انزلق إلى الماء مصبوغا بالدم حيث شاهدناه يخرج من الشاطئ ناظرا إلى قفاه، فرأينا معه الجرح المُمتد رفيعا من كعب قدمه اليسرى صاعدا مع طول ساقه حتى آخر مُؤخرته"، وسُرعان ما تنزلق ذاكرة القاص إلى قصة أخرى لها علاقة بالشفرات: "كنت ألعب مع بنات الجيران صغيرا حين رأيت سعاد تقنع أختها سعدية كي تقص لها شعر جبهتها مُستقيما كصور المُمثلات، وافقت سعدية بعد أن طردت من رأسها فكرة احتمال غضب أمها، وغابت سعاد لتعود بمسطرة الدرس ومشط وشفرة حلاقة. أجلست سعدية على صفيحة زيت فارغة، مشطت لها شعر الجبهة، ثم وضعت المسطرة في المُنتصف وخطت بالشفرة ضاغطة، فصرخت سعدية ورأينا الخط الأحمر الرفيع قبل أن تغطيه بكفيها وتركض باكية نحو الأم في المطبخ".

ربما لاحظنا هنا أن الرملي يحاول ابتكار مجموعة من الحكايات التي لها علاقة بالشفرات كي يستمر في بناء عالمه القصصي الذي بدأه باعتباره في الطريق ذاهبا لتجديد هويته، وهو ما يجعله يعرج بخياله إلى قصة زوجة عمه في ثاني أيام عرسها، حيث امتد إصبع في مُنتصف الليل من النافذة التي تعلو فراشهما، وما أن لمح زوجها الإصبع الذي يحاول أن يزيح الستائر ليراهما، إلا وأسرع إلى درج السرير ليلتقط شفرة حلاقة، ويمسك اليد ليحز الإصبع بها كي يعرف في الصباح صاحب هذه اليد. ثم ينتقل إلى ذكر الحكايات عن الأشقياء الذين يضعون الشفرة بين ألسنتهم وشفاههم السُفلية والأسنان ليتعاركوا بها بمُجرد خصامهم مع الآخرين.

الروائي السعودي عبد الرحمن منيف

إن محاولة الرملي التفنن بابتكار الحكايات الخاصة بالشفرات تجعله يحاول الاستفادة من تاريخه المُثقل على الذاكرة، وبالتالي يبدأ في ذكر الحرب التي عانت منها العراق طويلا- فالحرب هنا هي الخلفية التي تدور عليها جميع الحكايات- إنه يذكر مجموعة من الحكايات التي تتميز بالكثير من القسوة والبشاعة باعتبارها حكايات عادية- رغم فرط دمويتها- من المُمكن لها أن تحدث في أي وقت، وأي مكان، أو باعتبارها مُجرد مزحة حدثت ذات يوم، فيذكر صديقه هشام الراعي أيام الحرب الذي يُقدم على قطع العضو الذكوري لأحد الكلاب بالشفرة لأنه رآه فوق كلبته: "عرّست الكلاب أثناء حديثه ذات مساء، اجتمعت كلابه وكلاب راعٍ آخر يقضي وقته عند جنود الدبابة الأخرى، على التل القريب، كانت جميعها تتشمم مُؤخرة كلبته، وتتنابح فيما بينها، كل يحاول امتطاءها إلى أن فاز بها الأسود، أقوى كلاب الراعي الآخر. فهب هشام من جلسته وراح ينحدر على السفح راكضا صوب الكلاب، ضرب الأسود بالعصا، وركله بأقدامه حتى تمكن من إنزاله عن ظهر كلبته، لكنه بقي مشدودا بها عبر المُؤخرة، يمتد عضوه الأحمر من بين قائمتيه الخلفيتين إلى فتحة الكلبة، وكل منهما ينظر باتجاه مُعاكس ويعوي تحت ضربات هشام التي لم تفلح بفكهما عن بعضهما البعض. فمن طبيعة الكلبة أن تقبض بقوة على عضو ذكرها في لحظات الحب كما أكد لنا هشام ذلك فيما بعد حين صعد إلينا وهو يحمل العضو الأحمر للكلب الأسود داميا، ما زال يلبط، في قبضته وفي أصابع يده الأخرى شفرة حلاقة"!

لكن أكثر القصص قسوة، وهي من القصص المُعبرة ببراعة عن أثر الحروب على سيكولوجية الآخرين وإكسابهم الكثير من القسوة والبشاعة غير المُحتملة هي ما نقرأه في: "الصورة الأخرى من أيام الحرب حين تقدمنا إلى الخطوط الأمامية للجبهة بعد هجوم غطى الأرض بالجثث التي انتفخت حتى فتقت بدلاتها العسكرية، وعند الفجر، قبل مجيء الضابط للتفتيش، بحث داود عن مكان مُناسب يركن فيه مرآته التي ما هي إلا كسرة على شكل مُثلث من حطام مرآة أكبر. وضعها على درع الدبابة وبجانبها صحن الماء وقطعة الصابون، لكنه لم يشعر بالراحة في أن يحلق ذقته واقفا، أراد الجلوس. دار في المكان مرتين يحمل أدوات حلاقته بيديه، وعلى كتفه منشفته المُتسخة، لم يجد مكانا مُناسبا لجلوسه ولجلوس مرآته المُثلثة كما يريد؛ فاتجه إلى جثة قريبة، أزاح لحية الميت، فتح فكه، ثم ثبت طرف مرآته بين الأسنان، وجلس على صدر الجثة واضعا صحن الماء وقطعة الصابون أمامه، وموزعا ساقيه على الجانبين"!

إن استغراق الرملي في العديد من الحكايات عن الشفرات من أجل بناء قصته جعله في حاجة ماسة للخروج من هذه الدائرة التي استغرق فيها من أجل إغلاق البناء القصصي الذي بدأه، وهو ما يجعل الراوي في القصة يلتفت إلى إحدى الطفلات في الحافلة: "جاءت ماشية باتجاهنا وقامتها بارتفاع الكراسي، حاملة بين يديها برتقالة، فقلت لنفسي: لماذا لا أتخلى عن كتابة قصة بعنوان (شفرات) وأكتب أخرى بعنوان (برتقالات) إنه عنوان جميل، كلمة جميلة، رحت أرددها باستمتاع: برتقالات، برتقالات، فيما دنت الطفلة من الرجل الأسود ، وراحت تلمس ذراعه وتنظر إلى كفها، تمسح وجهه وتنظر إلى كفها هل اصطبغت؟ ثم قالت له وسط صمت الجميع: عمو، لماذا لا تأكل لبنا؟ فضحكنا بما فينا الرجل الأسود والبدين جواري والسائق".

سنُلاحظ أن انتقال الرملي من حكاياته السابقة التي تدور كلها في عالم الشفرات إلى القصة الموازية للطفلة التي تظن أن الرجل الأسود قد يترك لونه الأسود على يدها فيه من البراعة والتلقائية ما يجعل هذا الانتقال بسيطا وفنيا، كي يصل في نهاية الأمر إلى دائرة الجنسية في أطراف المدينة، ليهبط إليها محاولا إنهاء مُعاملته، لكن الموظف- كعادته معه مُنذ شهر كامل، وكعادة البيروقراطية في جميع الدول العربية- يخبره أن مُعاملته ما زالت تنقصها بعض الأوراق، ليرد الراوي في القصة غاضبا: "يا أخي، لماذا لم تقل لي مُنذ البداية ما هي كل الأوراق المطلوبة بدل أن تبهدلني طوال هذه الأيام؟ فنهض من وراء مكتبه بهدوء، عدل من وضع نظاراته، وقال لي: تعال. ثم قادني إلى النافذة وأضاف: أترى هذا؟ فنظرت وقلت: ما هذا؟ إنها مقبرة! إنهم أموات! فقال: كل هؤلاء لم ينهوا مُعاملاتهم، ماتوا ولم يكملوا أوراقهم الناقصة، فلماذا أنت مُنزعج يا أخي؟"!

إنه العبث الحقيقي الذي تحيا فيه جميع البلدان العربية، وهو العبث الذي يجعل من حياتهم لا قيمة لها، بل مُجرد سعي دائم في الفراغ ومن أجل المزيد من الفراغ، أي أن القاص هنا قد أخذنا في هذه الرحلة الطويلة الملتوية حول الشفرات وحكاياتها الوحشية، وقصص الموت والقسوة اللامُتناهية للتأكيد لنا على أن هذه القسوة والسادية في حياة هؤلاء المواطنين العرب، وتعذيبهم لبعضهم البعض إنما هي نتاج طبيعي وضروري وأكيد للعبث الذي يحيون فيه، وبالتالي فإن موتهم في نهاية الأمر من دون أن يحققوا أي شيء في حياتهم هو أمر طبيعي لا غرابة فيه، وربما كان هذا هو السبب الرئيس فيما وصل إليه جل مواطنو الدول العربية من اللامعنى.

الروائي العراقي حسين السكاف

إن الحديث الدائم عن التاريخ المُثقل به الكاتب العربي قد يكون من شأنه تدمير حياته الآنية نتيجة اضطراره للحياة في الماضي، وتجاهله للحاضر الذي يحيا فيه، وهو ما سنُلاحظه في قصته "حب عراقي صيني"، حيث يتم تدمير علاقة الحب، وموته بسبب الانحباس داخل التاريخ، وعدم المقدرة على الخروج منه، لذا سنقرأ في افتتاحية القصة: "لأنني أعرف بأنك لن تقرأي هذا النص، ولأن علاقتنا قد تفككت فلا يهمني أن يكون هذا النص مُفككا، فأنت والصين والعراق وأنا خليط حطام في داخلي. ربما أن هذا الأمر لا يُحسب كقصة في قراءة آخرين لأنه مُجرد حكاية (امرأة ورجل) مُتكررة بشكل يومي مُنذ أول الزمان، والاختلاف هنا في كونهما (صينية وعراقي). فلم يكن يخطر ببالي أن أعشق إلى هذا الحد عينيك الصغيرتين، وأنا المُبرمج على تذوق الجمال بالعيون الواسعة مُنذ السومريين. ماذا كانت ستقول أمي والجيران لو أننا تزوجنا وامرأتي من الصين؟ كيف سيكون شكل أولادنا؟ وكيف سيعيشون مُستقبلا في عراق غليظ القلب؟ كيف ستعقد الدهشة ألسنة الناس إذا ما رأوهم بأشكال صينية وهم يتحدثون لهجة (الشكو ماكو) العراقية؟".

إن الرملي يبدأ قصته هنا مُثقلا بالتاريخ، والعادات العراقية، إنه التاريخ الذي يتبدى لنا في عودته إلى السومريين، واعتياده كعراقي عربي على عشق العيون الواسعة، والعادات التي ستجعل من هذا الحب مرفوضا من الجميع، لكن الرواي في القصة هنا لا يكتفي بذلك، بل كثيرا ما يحاول عقد المُقارنة بين التاريخ العراقي والتاريخ الصيني والعلاقة بينهما أثناء علاقته مع حبيبته؛ الأمر الذي كان من شأنه تدمير هذه العلاقة وانتهائها تماما، لذا قالت له: "أنا أحبك، ولكنني لا أحتملك، لا أستطيع أن أفهمك بالطريقة التي تريدني أن أفهمك بها. أنا أحبك، لكن رأسي يوجعني بسبب كلامك ودمعي، أحبك لكنني لا أريد أن أعيش كما تريد. أنت أثقف مني، أنت مُعقد وأنا لا أريد. أنا سأرحل". أي أن إصرار الراوي هنا على الاتغماس في التاريخ مع حبيبته، ومحاولة الحديث عن هذا التاريخ طوال الوقت قد جعلها غير قادرة على الاستمرار، فهي ترى أنه أثقف منها، مُعقد، يريدها أن تعيش كما يراها هو، وليس كما هي؛ مما دفعها إلى هجرته في نهاية الأمر.

يقول الراوي: "كنت أنتقد فيك كل شيء، وأنتقدك على كل شيء، كأنني أحاول إعادة خلقك على هواي. كنت أطالبك بمعرفة ديني وقضايا (الأمة العربية!)، أن تُحملي رأسك نسخة من ذاكرتي الموجوعة بالقهر والحروب، وأن تعامليني بالعطف عليّ باعتباري إنسانا ناجيا من الموت بالصدفة، ولم تُطالبيني بما يقابل ذلك من معرفة لدينك وقضايا (الأمة الصينية!)، أو أن أحمل معك ذاكرة فقرك ووأد حلمك بالدراسة، وأنك أنت الأخرى قد نجوت من الموت بالصدفة كونك أنثى قد وُلدت في صين لم يكن يسمح بأكثر من مولود، والآباء كالعادة يفضلون الذكور".

إذن، فالرملي كقاص، والشخصية الراوية في القصة كراوٍ يعترفان بأنهما مُنغمسان تماما داخل التاريخ، غير قادرين على التملص منه، عالقين في أرضه الضحلة، وهي الأرض التي تُفسد حاضرهما، وتحيله إلى جحيم، قاتلة فيه كل ما هو جميل، لا سيما مشاعر الحب، لأن العربي هنا- العراقي- يحاول أن يضفي تاريخه على كل من يحيط به، يرغب في أن يحمل معه ذاكرته المُثقلة، وهو العبء الذي لا يجب فرضه على الآخرين في واقع الأمر.

إن إلحاح الراوي على حبيبته بتاريخه، ومحاولة إيجاد الصلات التاريخية بين العرب والصين من أجل تبرير حبهما كعراقي وصينية أفسد كل شيء بينهما، حيث يقول: "في ليلة أخرى، اسمعي يا شوجي، قرأت أيضا: أن رهاب بن رعشة هاجر إلى الصين بعد هجرة النبي إلى المدينة، فوصلها بعد جهد مُضن، تعلم لغتكم وعاداتكم وأخلاقكم، ثم أخذ ينشر دينه، والتف حوله خلق كثير، فقابله الامبراطور تاي تسونف عام 628م باحتفاء، ثم مات بعد أن عاش مُبجلا، لذا أقام له الصينيون تذكارا تخليديا. عثمان بن عفان بعث سعد بن أبي وقاص سفيرا له في بلاط فاو تسنج (هل هذا صحيح؟) وبنى سعد أول جامع في كانتون، ما زال قائما، ويعرف حتى اليوم باسم (واي شن زي). تقولين: لا أحتاج إلى شواهد تاريخية لتبرير حبنا، فلماذا تتعب نفسك بالبحث عنها؟ لكنني أستمر بالحديث على مائدة الطعام: قتيبة بن مُسلم الباهلي في زمن عبد الملك بن مروان (705- 715) دخل مُدن بخارى وسمرقند وصولا إلى حدود الصين، وأقسم ألا ينصرف حتى يطأ أرضها، فبعث له امبراطورها وفدا، وبعد مفاوضات طويلة، وهدايا كثيرة من الحرير وصحاف الذهب، وسلة فيها تراب من تراب الصين ليطأه بقدمه ويتحلل من قسمه، قبل قتيبة الهدايا، ووطأ التراب بقدمه، ثم قفل راجعا. تضحكين وما زالت لقمة الرز في فمك، فأزيد: يؤسفني أن شارك العراقيون في قمع ثورتكم سنة 755م عندما طلب امبراطوركم، حينها، المُساعدة من الخليفة أبي جعفر المنصور؛ فأرسل له خمسة آلاف رجلا قويا تمكنوا من قمع الثورة، وتثبيت عرش الامبراطور. ولكن تذكري أن ثمة عراقيين مثلي يحبونكم. هل تعرفين هادي العلوي وما كتبه عنكم؟ هل أقرأ لك مرة أخرى قصيدة نجمة شاعرنا السياب عن المسكينة كونغاي التي ألقت بنفسها في حوض المعادن المصهورة لأن أحدهم قال لأبيها الملك الحالم بصناعة جرس كبير: إن المعادن لن تمتزج إلا بدم فتاة عذراء؟ فظل سيابنا الطيب يبكيها".

محاولة الراوي الدائمة الربط ما بين تاريخ الصين وتاريخ العراق من أجل إثبات، أو البرهنة على علاقة الحب التي تربطهما كان من شأنه موت هذا الحب، وقتله. إنه لم ينتبه إلى تذمرها من حكايات التاريخ، رفضها له، قولها: "لا يعجبني التاريخ، فكف عن تصديع رأسي به. وأقول لك: أنا عربي يعيش حاملا التاريخ ثقلا على كاهله كمن يحمل صليبه. حسنا، دعك من تاريخ الآخرين واسمعي تاريخي الشخصي معكم، مُبتدئا من حفظي لحديث النبي نقلا عن أبي: اطلب العلم ولو كان في الصين. قال الشيخ أبي في خطبة الجمعة: إنكم يأجوج ومأجوج، لكني لم أقرأ أو أعرف عنكم محاولة لاستعمار بلادي وقتل أجدادي كما فعل الغربيون. لم تفرضوا علينا فكرة لكم، ولا دينا، واستقبلتم ديننا بتسعة ملايين شخص. آسف، أكاد العودة كالعادة إلى التاريخ". أي أنه يصر دائما على العودة إلى تاريخه الثقيل الذي يحمله على كاهله، ويعرف ثقله، لذا يرغب في إلقائه على الآخرين، ومنهم حبيبته التي شعرت بوطأته عليها، ومن ثم هجرته.

إن قصة "حب عراقي صيني" هي خير تمثيل من الكاتب، واعتراف منه، بأن إثقال الذاكرة بتاريخها من شأنه أن يعمل على تدمير حياته وحياة كل من حوله، لذا فلقد برع في التعبير عن ذلك من خلال هذه القصة.

لكن، هل معنى هذه المهارة في صوغ الحكايات المُختلفة المُنبثقة من الذاكرة المُثقلة بتاريخها الذي لا يمكن التخلص منه قد جعل جميع قصص المجموعة مُكتملة، ناضجة فنيا؟

بالتأكيد لا، فثمة قصص في المجموعة لا يمكن اعتبارها قصصا بالشكل، أو المفهوم، الفني، بل إن ثقل التاريخ على ذهنية الكاتب أدى إلى تحويل القص إلى مجموعة من التأملات والثرثرات التي ابتعدت بالسرد كثيرا عن المفهوم الفني للقصة، وأحالتها إلى مُجرد ثرثرة فارغة تحاول صناعة شكل فني لقصة قصيرة، لكنه لم ينجح في صياغة قصة في نهاية الأمر.

هذه الثرثرات، أو التأملات سنراها في قصة "مُختلسات من رأسي الهِذرام"، على سبيل المثال، فالقاص يبدأ قصته ويحاول بنائها مُعتمدا على حدث اعتقال شقيقه ذات يوم، وإلقائه قي المُعتقل من أجل تعذيبه، وبذلك فهو يبدأ السرد بالفعل بشكل قصصي: "ذات يوم ربيعي طالع في غير أوانه وسط إخوته من أيام شتائية، لذا كان يمارس خضرته بحيادية عما يحدث فيه وحوله، مُتباهيا بشمسه العذبة كرغيف طازج. يوم أسميه أسود من أيام تلك السنة التي أسميها سوداء لأن أحداثها التي نتفق على سوادها توالت كقطيع ماعز وحشي نرى انحداره نحونا من جبل غريب، والقرون مشرعة كخناجر مُتأهبة للطعن. اعتقلوا أخي في صباحه على مرمى نظرة أخيرة من تلاميذه اللاعبين في ساحة المدرسة غير المُسيجة. أحدهم أخطأ في قصد ضربته للكرة لأن عينيه صوب أستاذه، فتاهت خارجة وراء خطوط الملعب، مُبتعدة عنهم، مُقتربة من أخي، فنظر إلى مُعتقليه السبعة وذراعاه في القيد خلف ظهره. نظر إلى الكرة، سحبهم إليها ورفسها بقدمه مُعيدا إياها إلى طلابه ثم همس، ربما دامعا، ربما مُبتسما: وداعا. ثم أضاف بهمس أخفض عبارته التي اعتاد على مُخاطبتهم بها: أبنائي الأعزاء. وغيبه السبعة في سيارة اللاندكروز مُنطلقين سراعا إلى الشعبة الخامسة للتعذيب الأمني في بغداد. ستة أشهر مُنعنا فيها من السؤال عنه. ستة أشهر وُلد وشب وشاخ ومات الربيع فيها بحياديته (السخيفة). ستة أشهر ليس لنا فيها غير الأدعية والدمع والانتظار. ستة أشهر أدمنت فيها الهذر والهذربة والهذرمة والهذيان الداخلي الصامت إذا ما كنت قريبا من بشر، والمسموع مني حين أكون وحيدا. أفعل ذلك كي لا يتهموني بالجنون. أفعل ذلك كي لا أصاب بالجنون. أهذي وأهذرم، وأنثال هذرا".


الكاتب هنا بالفعل يبدأ قصته بشكل قصصي مُعتاد، لكننا سنُلاحظ أن اللغة لم تعد سلسلة مُنسابة، بل هي لغة صعبة، ثقيلة، لا تؤدي إلى المعنى المُراد منها بسهولة، فالجملة الأولى الطويلة التي صاغها الرملي هنا، وهي الجملة السابقة على الإفضاء لنا بإلقاء القبض على أخيه كانت جملة شديدة الطول، ذات ثنيات، واستطرادات، ودهون، وترهلات من شأنها أن تصرفنا عن بدايتها مما قد يجعلنا نعود مرة أخرى للبداية من أجل محاولة استيعاب ما يرغب الكاتب في قوله. لكن رغم عدم انسيال اللغة ببساطة، وعوائق التكتلات اللغوية في هذا المُقتبس الذي بدأ به قصته إلا أنها ما تزال بداية سردية قصصية وإن كانت صعبة الصياغة، لكننا إذا ما استمررنا في القراءة سينتابنا عدم الفهم إلى حد بعيد؛ لأن الكاتب سيبدأ في الاستغراق داخل ذاته، والتأمل الطويل الذي سيخرجه من دائرة السرد القصصي بشكله الفني إلى مُجرد السرد من دون طائل لمُجرد أنه يتأمل في داخله.

يكتب الرملي مثلا: أرفع رأسي إثر صرخات عمال تعلو على هدير خلاطة الإسمنت وهم يسقفون بناية جديدة، أحيد عنهم قليلا وأحث سيري بلا التفات، مُستثمرا علو الصخب لإخراج هذري المكبوت إلى الهامس الذي أسمعه وحدي قائلا بأن الذين يشيدون من أديم الأرض أكواما لأديم الأرض ونعني المُشَيد والمُشِيد. تماما كقولنا: من مُؤخرته يُزيت منقاره. تماما كهذا النص الميت ككل النصوص الميتة. إنها اللعبة بانتظار ما بعدها الذي يبتعد، أو هو بعيد، أو قد لا يأتي على الرغم من إنذارات عابدي الشمس الذين انتحروا في أمريكا، أو ما قاله الدرويش لجنود السيطرة على طريق (أربيل- الكوبر) وهم يسألونه عن هويته فأشار إلى الأفعى الساكنة على المقعد الثاني في سيارته التويوتا، ولا نعني رموز الأفاعي المُدجنة في ساحة جامع الفنا المراكشي أو في نيودلهي، تلك التي ترقص طوال اليوم على صفير القصبات من أجل خبز صاحبها الذي اقتلع نابها الوحيد في أول لقاء بينهما وعاهدها على أن يلقمها غرابا كل ستة أشهر. فمن سماها أشهرا واعتقلنا- نحن الملايين من الكائنات التائهة- بانتظار نهاية شهر ما أن تأتي حتى ننتظر من بعدها نهاية الشهر الذي يليه، وإلا فالحل أن نُشهر المُسدسات ضد رؤوس أخرى، أو رؤوسنا، أو نتجرع تعريض سيقان بناتنا للشهرة غاضين الذهن عن انتصابات قديمة. يا للتلوث! يا للتلوث!".

إذا ما تأملنا هذا الاقتباس السابق سنُلاحظ أن الكاتب هنا قد انزلق داخل ذهنيته انزلاقا كاملا، ولم يعد يفعل سوى التأمل والمزيد منه، وهو ما من شأنه أن يجعل السرد غامضا، صعبا على الإدراك، أقرب إلى اللامعنى- فهو لا يحمل معناه إلا في ذهن كاتبه فقط، لكنه غامض على المُتلقي- ومن ثم يخرج السرد الذي يكتبه الرملي هنا من دائرة السرد القصصي بشكله الفني إلى السرد المُتأمل الذي يقترب كثيرا من الثرثرات التي لا معنى لها؛ لأنه يحمل معناه في ذهنية الكاتب فقط الذي يعجز عن إيصال ما يرغب في قوله بسلاسة ووضوح.

يستمر الرملي في هذا السرد المُفكك حتى نهاية القصة مما يؤدي إلى تجريديتها التامة، وإخراجها من دائرة السرد، وهو نفس السرد الذي سنراه في قصته "حب أيضا" التي خلت من الشكل الفني للقصة الكثيرة، ومالت كثيرا إلى الثرثرات والتأملات التي لا طائل من ورائها.

إن المجموعة القصصية "برتقالات بغداد وحب صيني" للقاص العراقي محسن الرملي من المجموعات القصصية المُتميزة، المُحكمة السرد، التي ينجح فيها القاص في بناء العالم القصصي من خلال مجموعة من الحكايات المتوالدة من غيرها من الحكايات، وهكذا في سلسلة سردية لا تنتهي إلا بعد بناء النسق القصصي بالشكل الذي يرغبه مُستغلا في ذلك ذاكرته العراقية المُثقلة بالتاريخ- شأنه شأن العديد من الكتاب العرب المُهاجرين إلى بلدان أخرى- ولعل هذا اللجوء إلى تاريخه المُعبأ في ذاكرته حد الاكتظاظ كان من أهم سُبل نجاحه في كتابة قصص غاصة بالحكايات الثرية مُستخدما في ذلك أسلوبية تيار الوعي، التي من شأنها أن تعطيه الحرية في الانتقال من حكاية لأخرى بحرية، ومقدرة على نسج البناء القصصي في نهاية الأمر.

 

 محمود الغيطاني

مجلة "كتاب" الإماراتية

عدد يناير 2025.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق