نحن أبناء تاريخنا الشخصي، بمعنى أن ما نحياه مُنذ اللحظة الأولى لميلادنا
يلعب بالضرورة دورا جوهريا ورئيسا في سيكولوجيتنا وشخصيتنا التي ستتكون فيما بعد
لنواجه بها الحياة والمُجتمع المُحيط بنا، صحيح أن بعض هذه التجارب التي نمر بها
قد تنزوي بعيدا في اللاشعور، غير شاعرين بها ولا بتأثيرها النفسي علينا، وربما غير
مُدركين لتواجدها، لكنها تكون سببا رئيسا في سلوكنا وردود أفعالنا في العديد من
المواقف، وهو ما قد يجعلنا نتوقف هنيهة لتأمل رد الفعل الذي يصدر منا ليبدو لنا
مُدهشا إلى حد بعيد، ومدعاة للتساؤل: ما الذي جعلني أسلك مثل هذا السلوك رغم إني
قد أكون غير مُقتنع به، أو لا يتناسب مع ما أؤمن به من مبادئ؟
إنها الإرهاصات الاجتماعية الأولى التي ننشأ عليها، العديد من المواقف التي
نمر بها لتشكيل شخصيتنا، كلمة قيلت، أو موقف عابر حدث في حياتنا هو ما يستقر من
دون وعي داخل اللاشعور، ويظل كامنا في الخفاء ليحرك سلوكنا في الحياة ويعمل على
تشكيله مُتخذا منا أداة أساسية كرد فعل رئيس على ما سبق أن حدث معنا، ولم نتوقف
أمامه كثيرا رغم استقراره بعيدا في الذاكرة غير المُباشرة؛ لذا حينما نلحظ في بعض
الأحيان تشوهاتنا النفسية التي لم نكن نُدركها، أو نظن بأننا لم نكن عليها؛
ينتابنا الكثير من الشعور بالدهشة مما بدر منا، لنتساءل عن السبب في هذا التشوه
السلوكي والاجتماعي الذي طفا فجأة على السطح وجعلنا نتوقف امامه- هذا في حالة
الانتباه إلى ما نفعله، لأن الغالب هو عدم الالتفات لما نقوم به لنمضي قدما في
الحياة موغلين في المزيد من التشوهات، والتحول باتجاه الوحشية التي قد تبدو
أسطورية!
هذا السلوك العابر الذي يُشكل شخصياتنا هو من الضرورة بمكان لتأمله، وتأمل
كل ما مر بنا طوال التاريخ الشخصي لكل منا؛ لأنه من خلال هذا التأمل فيما مررنا به
نستطيع وضع أيدينا على أسباب التشوه، ومحاولة تفاديه أو علاجه للوصول إلى كائن
إنساني أكثر إنسانية واستقرارا، واتزانا نفسيا، بعيدا عن الشخصية الوحشية التي
تنمو داخلنا من دون وعي، وبالتالي قد تُفسد الحياة علينا، فضلا عن إفسادها لكل ما
يحيط بنا- بوعي منا أو من دون وعي.
إذن، فالحقيقة التي لا سبيل لإنكارها، أو تجاهلها هي أن ذكرياتنا القديمة
التي تمر في حياتنا تلعب دورا جوهريا فيما سنكون عليه فيما بعد، تحركنا من دون
شعور، تُسيطر علينا، مُتحكمة فينا طوال فترة كمونها في اللاوعي، تستخدمنا كأداة
قاسية لرد الإهانات، أو رد الاعتبار، أو البطش بالآخرين ممن لا علاقة لهم بما حدث
من قبل، أو الرد على موقف ما لم تكن لدينا المقدرة- حين حدوثه- على التصرف بإزائه
مما جعله ينزوي بعيدا من دون زواله، مُتحينا الفرصة المُناسبة للخروج مرة أخرى،
ولكن بشكل أكثر سطوة، وعنفا، وتشوها أكثر مما يحتمل نتيجة لكبته مُدة ليست
بالقصيرة في اللاوعي.
من هنا تأتي ضرورة الالتفات الواعي لما نمر به، حتى لو كانت تجاربنا في
الصغر، لأنه من دون هذا الانتباه فنحن نرعى وحشا مُخيفا داخلنا يتحين الفرصة
المُناسبة للانفجار فينا وفي كل ما يُحيط بنا ليحيل كل شيء إلى دمار حقيقي لا مفر
منه.
هذا التأمل في الوحوش المشوهة المُعبرة عن شخصياتنا التي تتكون وننشأ عليها
كانت هي الشغل الشاغل للروائي التشادي روزي جدي في روايته "التاريخ السري
المُعلن لآدم حواء" الذي حاول التوقف الطويل أمام تشوه الشخصيات في روايته،
وهو التشوه الذي أدى بها جميعا إلى التآكل، وإيذاء بعضها البعض، والتخلص من بعضها
البعض، والانقلاب على معاييرها الإنسانية من أجل محاولة محو الماضي الذي مرت به-
ظانين أن حياتهم ستكون أفضل، وتكتسب اتزانها وسلامها النفسي في حالة التخلص من كل
من شهدها في حالة من الضعف، أو التشوه، أو العجز عن القيام برد الفعل المُناسب
أمام الموقف الذي حدث لها في لحظة ما.
يحاول الروائي روزي جدي بناء روايته بشكل فيه قدر غير قليل من البانورامية
الاجتماعية والسياسية والتاريخية للمُجتمع التشادي، وهي بانورامية كان لا بد منها
لفهم التحولات الاجتماعية والسيكولوجية لشخصياته، فضلا عن الحراك الاجتماعي
بالكامل لهذا المُجتمع الذي نجهل عنه الكثير لانقطاع أواصر الصلة الثقافية بيننا
وبينهم بسبب اللغة، وندرة، أو عدم وجود ترجمات من الرواية التشادية إلى العربية.
لعل الشرارة الأولى، أو الفقرة الأولى من أي عمل روائي تكاد أن تُشكل أهمية
جوهرية في هذا العمل المُقبلين على قراءته، وربما كان السبب في ذلك يعود إلى أن
هذه الفقرة الأولى، أو افتتاحية العمل هي المنوط بها المقدرة على جذب انتباه
القارئ، وجعله يتمسك بالاستمرار في قراءة ما بين يديه، صحيح أن الرواية قد لا
تنكشف مُنذ سطورها الأولى- وهذا هو الغالب- لكنها حتى لو لم تنكشف لقارئها مع
بدايتها، فالفقرة الأولى من الأهمية بمكان ما يجعلها قادرة على فرض المزيد من
السطوة على من يقرأ، وبالتالي اتخاذ القرار في استمرارية عملية القراءة/ التلقي من
عدمه.
لذا كان توقفنا أمام الفقرة التي افتتح بها الروائي روايته من الأهمية
بمكان ما يجعلنا نتأملها في سياق السرد، لإدراك القيمة الفنية والجمالية لما قام
به: "المرة الأولى التي رأيت فيها آدم حواء، كنت في الخامسة عشرة، وحديث عهد
بالمدينة، كان جميلا مثل أميرة صغيرة، لم أصدقهم حين قالوا لديه أعضاء تناسلية
مزدوجة. لما رآني شعر بالخطر فتقهقر دون جدوى. طاردته، ولحقت به، ونزعت عنه
سرواله، ورأيت العضوين بعينيّ، فرج مشوه يبزغ من وسطه إير بحجم إيور الأطفال في
الخامسة، فاندهشت من رؤية الفرج والقضيب متجاورين على جسد شخص واحد. تركته يلملم
سرواله وينتحب دون أن أعرف بأننا سوف نصبح أصدقاء".
إن هذه الفقرة السابقة التي افتتح بها الروائي روايته كانت من أهم فنيات
السرد التي لجأ إليها الروائي، وخير فقرة من المُمكن لها أن تعمل على جذب الانتباه
من أجل الاستمرار في مُتابعة عالمه الروائي، لا سيما أن الروائي حينما انتهى من
هذه الفقرة لم يحاول الاستمرار في الحديث عن آدم حواء المُمتلك لعضوين تناسليين
مُجتمعين وما حدث بينهما فيما بعد، بل تجاهل الأمر، وتناساه تماما وكأنه لم يذكره لنا
لتوه، ومن ثم بدأ في خط آخر من السرد، ومُتابعة خط درامي آخر بعيد تماما عما ذكره
مُنذ قليل، لذا نقرأ في السطر التالي مُباشرة: "وصلت إلى العاصمة في صيف عام
2000م، كان سُكان أنجمينا يتحدثون عن نهاية العالم، وكنت أريد بدء حياة جديدة.
وصولي إلى العاصمة كان صدمة كبيرة. أنجمينا كانت أول مدينة أتمشى فيها، وأشاهد
السيارات تعبر وسط حشود من الناس الذين يتحدثون بلغات عديدة. دكاكين كبيرة واسعة
تبيع التليفزيونات والمشروبات الغازية، وآلاف المأكولات والملابس، والسجادات
المعروضة في الطرقات الإسفلتية التي تدهورت وعلاها الغبار والطين. كانت دهشة كبيرة
وصدمة لا مثيل لها".
إن التفات الروائي هنا إلى خط درامي جديد بمُجرد انتهائه من فقرته الأولى
التي يتحدث فيها عن آدم حواء من شأنه أن يجعلنا مُنتبهين، وراغبين في معرفة المزيد
عن هذا الشخص المُمتلك لعضوين جنسيين، فضلا عن أن التقنية التي استخدمها الروائي
في هذا السرد- تقنية الاستباق- كانت بارعة في فنيتها؛ فهي تكاد أن تتطابق تماما مع
تقنية Avant Titre مشاهد ما
قبل التيترات في الفيلم السينمائي الذي يقدم لنا أحد مشاهده قبل نزول تيترات بداية
الفيلم، ثم يستمر فيما بعد التيترات في عالمه السينمائي الذي يرغب في تقديمه، ومن
ثم يكون المشهد الأوليّ الذي حرص على تقديمه فيما قبل التيترات يحمل أهمية فنية
قصوى وجوهرية من أجل جذب انتباه المُشاهد لما سيتم عرضه فيما بعد.
هنا، في هذه الرواية، يستخدم الروائي نفس التقنية بأسلوب أدبي لاجئا
للمُفردات اللغوية كبديل للصورة المُتحركة في الفيلم السينمائي، بمعنى أنه يدرك
تماما أهمية ما قام به من ذكر طرف من حكاية آدم حواء، ثم تجاوز هذا الطرف إلى أمر
آخر لا علاقة مُباشرة له بما سبق، أي محاولة الإيهام بالانقطاع الشكلاني بين ما
تقدم، وما أتى من بعده، ليعود فيما بعد- مع التقدم في السرد- لتواشج الصلات بين
هذا الخط الدرامي، وذاك الذي حاول الانصراف عنه بشكل فني.
ألا يُدلل ما سبق أن قرأناه على مقدرة الروائي على امتلاك عالمه الفني،
والتلاعب به كيفما شاء من أجل المزيد من جذب الانتباه، والتجويد من العمل الروائي
الذي بين يديه؟
إنه العالم الفني الذي سنشاهد فيه العديد من الشخصيات التي تبدو لنا للوهلة
الأولى مُجرد شخصيات طبيعية من الناحية الشكلانية، لكننا كلما حاولنا الاقتراب
منهم كلما تبدى لنا فيهم شكلا من أشكال التشوه، والاهتراء حتى يصل بنا الروائي- مع
اكتمال العالم- إلى ما يُشبه اللقطة التفصيلية في السينما Detail
Shot، وهي اللقطة التي تنقل لنا التفاصيل في صورتها الدقيقة والحقيقية
بشكل مُكتمل لتنكشف لنا تشوهاتهم التي لا يمكن إدراكها مع النظرة الشاملة البعيدة،
وهو في هذا الاقتراب التفصيلي يلجأ إلى العديد من الأحداث- التاريخية منها والسياسية-
التي من شأنها أن ترسم لنا المشهد التشادي الكلي بشكل بانورامي، يُفسر لنا الأسباب
الاجتماعية والنفسية التي أدت إلى كل هذه التشوهات التي سيجابهنا بها في شخصياته
الروائية.
يحاول "جدي" بالاعتماد على راويه القروي "يسكو"
الاستمرار في مُتابعة الخط الدرامي الثاني الذي التفت إليه بعد الفقرة الأولى التي
تركها لفترة من السرد مُستقلة بذاتها، في انتظار العودة إليها للاستمرار في عالمها
الذي لا نعرف عنه شيئا، والذي نرغب في معرفة كيفية اكتماله، أو ما هو مساره
الحياتي فيما بعد. فيتحدث على لسان يسكو/ الراوي الرئيس عن كيفية تركه لعالم
القرية، والسبب في ذلك والانتقال إلى المدينة المُمثلة في العاصمة التشادية
أنجمينا: "غادرت قريتي من أجل دراسة الثانوية، كما غادرها أبي من أجل
الالتحاق بثورة فرولينا، هربت من الوحدة والخواء، وهرب من الخوف والاضطهاد. حين
أقنعته أمي بضرورة دراستي الثانوية في بيت أخيها، جلس خائبا كجندي وقع في كمين
واستسلم. نظرت في عينيه الصغيرتين، وضع يديه على كتفي ونظر إليّ مليا وكأنه لن
يراني مرة أخرى. واصل يوصيني والسيارة البيضاء تهتز. قال لي: أنت ذاهب إلى مكان
خطير، يعود الجندي من المعركة أو لا يعود، لكن أنجمينا ربما تعود منها حيا، ولكن
بلا روح. أنجمينا مدينة غريبة، سترى وتسمع أشياء لا يصدقها العقل، المُهم كن حذرا،
لا تفقد إيمانك ولا بداوتك"، إنه هنا يحاول وصف خيال أهل القرى، أو كيفية
رؤيتهم للعاصمة، و المدينة بشكل عام، فالمُدن بالنسبة لهم أماكن مُخيفة، أسطورية،
مُلتهمة يُحتمل فيها كل شيء، وأي شيء، لذا فهي سالبة لروح من يدخلها، وبالتالي
يخرج منها على غير ما دخلها. |
الروائي التشادي روزي جدي |
إنها نظرة تتقارب إلى حد بعيد مع الواقع رغم أسطوريتها الشكلانية، ولكن مع
تأمل المُدن من حول العالم بالمُقارنة مع القرى يتأكد لنا أن المدينة بالفعل قادرة
على التغيير، والتجريف الكامل لشخصية من ينزح إليها، فض بكارته تماما، والسطو على
براءته، إكسابه الكثير من الصفات التي لم تكن فيه، ليس معنى ذلك بالطبع أن المدينة
تبدو لنا هنا كوحش مُخيف لمن يدلفها، فهي بالتأكيد ليست سالبة بشكل مُطلق، بل فيها
من المُميزات الإيجابية ما يفوق سلبياتها بقدرتها على إحالة المرء من طور القرية
الساذج إلى الطور المديني الناضج، فهم الكثير من مُفردات الحياة وآلياتها، وهي
المُفردات التي كانت تستعصي عليه، ولا يمكن له إدراكها، اكتساب الخبرة، والتطور
والإدراك الناضج والمعرفة، وغيرها من الأمور التي بالتأكيد هي غير متوفرة لأهل
القرى في بساطة حياتهم في مُقابل التعقيد الذي تتميز به حياة المدينة. بمعنى أن
المدينة لديها المقدرة بالفعل على إحالة ساكنها الجديد إلى إنسان آخر وجديد تماما،
ومن هنا فإن خروج من يدخلها من أهل القرى وقد فقد فيها روحه- كما قال الأب- هو
إمكانية مُتحققة ومُمكنة بالفعل اعتمادا على التجارب والخبرات التي يخبرها من طول
إقامته فيها، واحتكاكه بسُكانها، لا سيما أن ثقافة أهل المدينة تتيح لهم ما لا
يتيحه عالم القرية الضيق الذي لا يمتلك المجال لإمكانية التجربة والانطلاق بها إلى
آفاق أكثر ارتفاعا واتساعا- ربما لا بد من مُلاحظة أن فقد الروح هنا التي ذكرها
الأب لا تعني في جوهرها المعنى الذي تدل عليه رغم أن ذلك من المُمكن أن يكون،
لكنها قد تعني التغيير الكامل والشامل، وهو التغيير الذي قد يجعل أهل القرى حينما
ينتقلون إلى المدينة غير قادرين على التآلف مرة أخرى مع القرية، ومن ثم يصبح غريبا
عن عالمه الأول الذي خرج منه، عاجز عن التعامل المُريح معه.
ربما لا بد لنا هنا التوقف أمام مقدرة الروائي على الوصف الدقيق من خلال
استخدامه للمُفردات اللغوية- الأداة الأولى والرئيسة للروائي في كتابته- فهو ماهر
إلى حد بعيد في نقل صورة بصرية أقرب إلى المشهد السينمائي أثناء السرد، وهو ما
يُدلل على مقدرته على امتلاك أدواته الفنية- اللغة- والتعبير بها بسلاسة أسلوبية
واضحة تجعل القارئ قادرا على تخيلها والاندماج معها: "حين تحركت السيارة نحو
البيت، مُتهادية في الشوارع الترابية الواسعة، شعرت بالراحة. الرائحة بدأت تتغير
والهواء يهب. رأيت طابورا يضم مئات الأشخاص يترنحون وكأنهم في طابور صباحي. عرفت
أنهم ينتظرون دورهم من أجل الحصول على جالون من البنزين. رأيت رجال الشرطة يطاردون
رجلا نشل جيب امرأة عجوز، وطفلا يساوم رجلا على ثمن شوال بصل. رأيت رجلين
يتعاركان، كلمات وصراخ، والشرطة تتفرج على سكير يبول تحت الجسر. أبي قال لي: سترى
ما لا يسرك، عليك بالصبر، فأهل المُدن ليسوا بأخلاق وعفة أهل البادية، وتذكر أنه
في أنجمينا قد يحدث أي شيء، وترى أي شيء"
إن الجمل الإخبارية الوصفية المُتلاحقة بشكل لاهث وسريع في الاقتباس
السابق، تنقل لنا بشكل بصري ماهر ما يسقط على شبكية عين يسكو للوهلة الأولى من
دخوله المدينة، وربما هو في هذا الشكل الوصفي البارع أقرب كثيرا إلى ما نعرفه في
السينما بتقنية Photomontage
الفوتومُونتاج، وهي التقنية التي تسعى إلى تجميع أكبر قدر من الصور لبناء مشهد
واحد خاص بها، أي أنه يقوم من خلال فسيفساء من الصور ببناء مشهد جديد لا بد أن
يكون ذو أهمية فنية قصوى تُدلل على ما يريده المُخرج، وهو ما رأيناه بشكل نموذجي
في الاقتباس السابق، حيث ينقل لنا يسكو بشكل لاهث مُتلاحق الصور المُتعددة
والكثيرة التي سقطت على شبكية عينه، ومن خلال هذه الصور الكثيرة التي تمور بالحركة
والحيوية ينجح في تشكيل صورة كلية جديدة للتعبير عن فوران عالم العاصمة النشط الذي
يمور بالحركة التي لا تتوقف، وهو في هذه الحركة سنُلاحظ أنه يبدو لنا وكأنه مجموعة
من الجزر المُنعزلة التي لا يوجد بينها أي رابط يربطها، فكل مشهد من هذه المشاهد
له خصوصيته، وفرادته، ولا يتقاطع مع المشهد الآخر في أي شيء اللهم إلا أنه في عالم
المدينة، ومُميزاتها التي قد تبدو للوهلة الأولى مُتناقضة، وإن كانت تمتلك في جوهرها
آليات انسجامها مع بعضها البعض.
إذن، فالروائي هنا قادر إلى حد بعيد على امتلاك أسلوبيته السردية، وآليات
السرد التي من شأنها أن تنقل لنا بدقة ما يرغب في التعبير عنه، ونقل الحالة
الشعورية لشخصيته الرئيسية، وهي مقدرة تستطيع إلى حد بعيد مُساعدته على امتلاك
القص والقارئ معا، باعتبارها من أهم الميزات التي تجعل العمل الروائي ناجحا، قادرا
على الإدهاش، والرغبة في الاستمرار.
امتلاك ناصية القص، أو القبض على القارئ من أجل الاستمرار في مُتابعة العمل
الروائي في حاجة ماسة إلى العديد من الأساليب الفنية التي من شانها بناء عالم
روائي مُتماسك يسلم بعضه بعضا، ويؤدي في النهاية إلى وجود نسق فني قادر على
الاستمرارية والتفرد بذاته، وهي من الضرورات التي لا بد منها من أجل بناء أي عمل
فني، لذا سنُلاحظ أن روزي جدي في روايته يحاول بناءها بالاعتماد على ثلاثة خطوط
درامية/ روائية تسير بشكل متوازٍ تماما، وهي في توازيها تعمل على إثراء العمل
الفني، وإضافة المزيد من المعلومات التي لها علاقة عضوية ببعضها البعض مما يرسم
لنا الصورة المُكتملة البانورامية لهذا العالم إلى أن تلتقي مع بعضها البعض في
نقطة رئيسية في نهاية السرد واكتمال العمل الروائي، بمعنى أن الروائي هنا يبني
عالمه من خلال ثلاثة أزمنة: زمن السرد الآني على لسان راويه يسكو، القروي المُنتقل
من البادية إلى المدينة، وزمن السرد في الماضي القريب المُتداخل مع الزمن الآني،
وهو ما نراه في مُذكرات آدم حواء التي حرص الروائي على انقطاع السرد غير مرة في
تناميه باتجاه المُستقبل من أجل قراءة ما جاء فيها، وزمن السرد في الماضي البعيد
من خلال حكايات الأب التي لا تتوقف عن الحركات الثورية التي حدثت في تشاد،
والتقلبات السياسية المُتعددة التي مرت بها بالتركيز على ثورة فرولينا التي نشأت
في الأساس للتخلص من ديكتاتورية تمبلباي، بالإضافة إلى عروجه على "حرب
التويوتا" التي قُتل فيها عشرة آلاف جندي ليبي، وألف من التشاديين، والسبب في
ذلك، أو ما هي الظروف التي أدت إلى ذلك.
بناء الرواية هنا من خلال ثلاثة أزمنة، أو حكايات/ خطوط درامية متوازية نجح
إلى حد بعيد في اكتمال النسق والشكل الروائي، فضلا عن تدليله على المقدرة الفنية
للروائي في تقديم عمل فني قادر على القبض عليه من دون أن يفلته حتى نهايته.
مع الانتقال إلى مُذكرات آدم حواء نستطيع إدراك المُعاناة العميقة التي
يشعر بها في مُجتمعه المُحيط به؛ ومن ثم التعاطف مع هذه الشخصية التي تلاقي الكثير
من الرفض الاجتماعي رغم أنها لا يد لها فيما هي عليه، فقد وُلد هكذا، ولم يختار ما
هو عليه، ورغم ذلك فالمُجتمع يرفضه ساخرا منه، عاملا على شيطنته: "لست ذكرا
ولا أنثى. أبي تمنى ولدا، وأمي تمنت بنتا، فولدت أحمل ما يحمله الأولاد والبنات
معا في مكان واحد. الناس كانوا ينظرون إليّ وكأنني من كوكب آخر. شعرت لمرات لا
تُحصى بأني لا أنتمي لهذا المكان، الجميع ينظرون إليّ بطريقة غريبة، الكبار
والأطفال يحدقون في وكأني بلا ملابس. باكرا غرزوا القلق والشك في ساقيّ، أمشي
فألتفت، أطأطئ رأسي كي لا يراني الذين يتنمرون عليّ. مشيت خائفا في طرقات حارتي
حتى شعرت بأن عليّ الاختفاء أو الهروب إلى بلاد أخرى كي أنجو من نظرات الناس
وكلماتهم. لم يحبني أبي أبدا، أراد ولدا ولم أكن. كان يناديني آدم، ويغضب حين
أرتدي ملابس البنات، أو ألعب معهن".
ربما من خلال هذه الفقرة من مُذكرات آدم حواء نستطيع إدراك مدى المُعاناة
التي يعانيها في مُجتمع يرفضه بالكامل، يتأمله بوقاحة وفضول قاتلين، يضغط عليه
لدرجة رغبته في الاختفاء من أمام أعينهم، الشعور العميق بغرابته وشذوذه، وهو ما
يؤدي به إلى الاغتراب العميق عن كل ما يحيط به، الخجل من ذاته وتعميق مشاعر
المهانة والدونية داخله، كل هذه الأمور زاد في إيغالها داخل نفس آدم حواء رفض الأب
له، وخجله منه: "لم يقف في صفي ولم يُدافع عني، كان يتعامل معي وكأني مثل
بهاق ظهر على عنقه، يسعى ليخفيني، ويطلب ألا يسمحوا لي بالدخول عليه حين يكون مع
أصدقاء أو زملاء"!
هنا، تتبدى لنا السيكولوجية المُهترئة التي نشأ عليها آدم حواء؛ فكل هذه
الظروف المُحيطة به، وردود الأفعال التي لا يمتلك بإزائها المقدرة على منعها، أو
الرد عليها، أو التعامل معها بمنطقية تعمل على تشكيل شخصيته التي سينشأ عليها، وهي
الشخصية التي من المُمكن أن تجعله خاضعا تماما، خائفا من المُجتمع، غير قادر على
مواجهته، أو تدفع به نحو الاتجاه الآخر، ومن ثم تصنع منه وحشا حقيقيا شائها نتيجة
لما يمر به من مواقف مُهينة، ومُخجلة. مما يعني أن الكاتب هنا يعي جيدا ما يقوم به
في نسج العالم الروائي الخاص به.
يحاول الروائي هنا التأكيد على أن علاقة الآباء بالأبناء هي المُشَكِل
الأول والضروري والجوهري الذي يلعب دورا رئيسا في تشكيل سيكولوجية الأبناء وما
سيكونوا عليه فيما بعد، أي أن العلاقات الأولى والمواقف الأولى هي المُحرك الأساس
لشخصياتنا التي نكون عليها، هي ما تجعلنا قادرين على اكتساب القوة والاستقلالية،
أو الانهزام والتشرذم التام أمام المُجتمع من حولنا؛ لذا يتأمل آدم حواء كثيرا في
علاقته بأبيه، وعلاقة أصدقائه بآبائهم: "غريبة هي علاقة الآباء بالأبناء، أبي
تخلى عني، حمودي لا يعرف والده، وأبو الشين يكره ابنه، ويسكو مُتعلق بوالده، ولا
يمضي يوم دون أن يقول: أبي قال لي ذات يوم. أما عليو فأبوه يحبه لدرجة يجعلنا نغار
منه".
ألا نُلاحظ هنا أن عقد المُقارنة السابقة بين الآباء وجميع شخصيات الرواية
من الضرورة بمكان ما سيفسر لنا فيما بعد البناء النفسي لكل شخصية من شخصيات
الرواية والسبب فيما ستصل إليه في نهاية الأمر؟ يبدو لنا الروائي هنا مُستمتعا
أيما مُتعة ببناء ونسج عالمه الروائي بتؤدة وتأمل ومقدرة على إكماله، وعدم ترك أي
مجال للثغرات أو التساؤلات فيه.
يحاول الكاتب في بناء عالمه الروائي إعطائنا نظرة عامة شاملة لهذا المُجتمع
الذي يغرق تماما في الفقر، والمُعاناة، والحاجة، والأساطير الشعبية، والتدين
الظاهري، والشعوذة والاعتماد عليها كمُكمل طبيعي لحياتهم- سواء في المدينة أو
البادية- لذا نقرأ في مُذكرات آدم حواء على لسان الأم حينما تتحدث عن ضرتها:
"حين سمعت أنني حامل لم تتحمل وذهبت إلى المشعوذين والسحرة. طلب منها المشعوذ
دجاجة بيضاء عاقرا، وديكا هرما، وضفدعة، ولترا من دم كلب مُصاب بالجرب، لما وفرت
كل هذا، جمعه الرجل وخلطه داخل فخار من الطين المحروق، وضعت الفخار أمام بوابة
بيتي وأنا حامل بك في الشهر الثالث. دفعني العطش لأخرج من البيت، وحين وضعت رجلي
خارج الغرفة، دست على الفخار الذي تشظى بما فيه، والتصق السائل بقدمي، وبقيت تلك
الرائحة داخل البيت وتحت قدميّ لأشهر، رغم أنني استخدمت العديد من عطور
العود"، إنه التفسير الميتافيزيقي اللامنطقي لميلاد آدم حواء حاملا لجينات
الأنوثة والذكورة معا في عضوين متجاورين، وبما أننا هنا نتحدث عن مُجتمع جاهل،
خاضع للسحر والشعوذة والأساطير من دون محاولة إعمال العقل؛ فمن الطبيعي ألا يكون
هناك تفسيرا علميا وعقلانيا لامتلاك آدم حواء لعضوين جنسيين متجاورين، مما يحيل
تفكير أبناء هذا المُجتمع إلى التفسير الأسهل، وغير المُجهد لعقولهم، والراغب في
تأكيد الشرور والدسيسة من بين أفراد المُجتمع على بعضهم البعض.
هذا اللجوء الدائم إلى الماورائيات اعتقادا منهم بأنها قادرة على تحقيق ما
يرغبون فيه بسهولة بدلا من الاجتهاد أو الاعتماد على العلم وأسبابه، هو ما سنراه
مرة أخرى حينما تنتاب حمودي الرغبة العارمة في التحول إلى أنثى والتخلي عن ذكورته،
رغم أنه مُكتمل الذكورة، ويضاجع العديد من النساء: "ارتبط بفتاة مارقة، كان
يحدث بينهما ما يحدث بين الرجل والمرأة، حتى إن الفتاة قالت: إنها لم تر رجلا
مثله، رغم أنها فتاة ليل، وعاشرت عشرات الرجال. كل ذلك تغير في ليلة واحدة. رافق
الفتاة إلى أحد الفنادق المُحاذية لنهر لوغون، وهناك شاهد رجلا يُقبل رجلا لأول
مرة. تلك الصور لم تسمح له بالنوم لثلاثة أيام، ظل يهذي ويحلم، ورأى رؤية تُعلمه
بأنه يريد أن يكون شيئا آخر. مُنذ تلك اللحظة وهو لم يعد يريد أن يصبح رجلا. واصل
لبس سراويل خشنة ليؤذي فيها عضوه، ولم يعد ينظر إليه أو يضعه في البال".
الرغبة التي قد تبدو هنا مُفاجئة في إرادة حمودي للتحول من ذكر إلى أنثى
كان لا بد من إيجاد سبيل لحلها من أجل الوصول إلى ما يرغبه، وبما أننا في مُجتمع
يسبح في الجهل، ولا يقتنع بالعلم كثيرا، فلقد لجأ من أجل تحقيق هذه الرغبة إلى
الشيخ الزقزاقي/ الساحر من أجل تحويله إلى أنثى: "حمودي لم يتردد للحظة وذهب
إلى ذلك الساحر أو المشعوذ، أو رجل الدين، سمه كما شئت. وهناك بقي ستين يوما تحت
الأرض يأكل اللبن ويدلك جسده بسائل غريب، قال لاحقا: إنه لبن مُرضعة مخلوط بدم
نفاس لأرملة، ويضع مُؤخرته على دخان الطلح مع ربط شديد لعضوه. حين خرج من جحره كان
حلمه قد تحقق. لم يعد يشعر بأنه ذكر، بل فتاة كاملة الأنوثة في الثامنة عشرة من
عمرها، غير أن الأعضاء لم تتغير رغم انكماشها".
لكن، هل تحول حمودي بالفعل من رجل إلى أنثى بمُساعدة الشيخ الزقزاقي كما
ظن؟
إن حمودي ظل رجلا كما هو، لم يتغير فيه أي شيء، بل ظل قادرا على مُضاجعة
النساء كما هو عهدنا به، لكن التحول الحقيقي الذي حدث هنا هو الإيهام الذي سيطر
عليه بمقدرة الشيخ الزقزاقي على تحويله، ومن ثم حينما خرج من عند الشيخ خرج
بسيكولوجية أخرى جديدة هي سيكولوجية الأنثى لظنه بأن الشيخ لا يمكن أن يفشل في هذ
الأمر، ومن ثم بدأ يتعامل مع المُجتمع من حوله بسيكولوجية جديدة، مُؤمنا بأنوثته،
مما جعله يرتدي ملابس النساء، ويتجمل بأدوات التجميل، ويتزين بزينتهن، ويضاجع
الرجال باعتباره امرأة.
حينما وصل يسكو للعاصمة أنجمينا بدأ في التعرف على الآخرين، وعقد الصداقات
التي كان من بينها صداقته مع آدم حواء، وحمودي، وعليو، ثم الشين فيما بعد، وهو في
صداقته بآدم حواء كان يسبغ عليه المزيد من الحماية من الآخرين الذين يحاولون
إيذائه إما بالسُخرية منه، أو مُضايقته، أو محاولة اغتصابه، كما كان يتعامل مع آدم
حواء طوال الوقت باعتباره رجلا وليس أنثى، في حين كان حمودي يتعامل مع آدم حواء
باعتباره أنثى كي يكون مثله. ومن خلال مُتابعة علاقات الصداقة هذه بين يسكو ابن
البادية، وهذه الشخصيات من أبناء المدينة يستطيع الكاتب رسم الصورة البانورامية
الاجتماعية لهذا المُجتمع المُتآكل بفعل الفقر، والحاجة، والجهل، والضغط
الأيديولوجي الأسطوري باسم الدين، فضلا عن الفساد السياسي الذي لا نظير له،
والصراع على السُلطة، العديد من الانقلابات، بالإضافة إلى الفساد الأكبر بين أبناء
الطبقة السياسية الذين يمارسون الفساد بشكل عادي باعتباره مُفردة طبيعية من
مُفردات حياتهم اليومية التي لا يمكن لهم الاستغناء عنها، وهم فوق هذا الفساد
يتعاملون مع المواطنين من المدنيين باعتبارهم حيوانات، ليس لهم أي حقوق، أي أنهم
يحتقرونهم لمُجرد ظنهم أن وجودهم في الحياة العسكرية أو السُلطة السياسية هي ميزة
لهم على غيرهم من البشر، مما يُكسبهم أحقية القداسة على البشر، نلحظ هذا في
مُذكرات آدم حواء حينما التحق بالعسكرية: "المدرسة العسكرية جعلتني شخصا قويا
يحترم زملائه، ويحتقر المدنيين لأنهم طفيليات، وغير مُنظمين، ويعبرون بطريقة
فوضوية عن الإنسان، الذي هو الكائن الأسمى. أدين بكل شيء إلى الشيخ الزقزاقي وإلى
المدرسة العسكرية"، مما يؤكد على أن المُنضمين إلى المُؤسسة العسكرية وامتلاك
السُلطة يرون في أنفسهم تساميا، وقداسة تجعل منهم نموذجا للإنسان، في مُقابل
المدنيين الذين يتم وصفهم بالطفيليات، والنظر إليهم بنظرة استعلائية فيها الكثير
من الرفض لهم.
لكن، ما السبب في هذا التحول الفجائي لكل من حمودي الذي قرر أن يكون أنثى،
وآدم حواء الذي اتخذ قراره بأن يكون رجلا، وذهب بدوره إلى الشيخ الزقزاقي كي
يساعده في هذا التحول؟
إذا ما انتبهنا إلى العديد من المواقف المُبكرة في حياة كل منهم لتبين لنا
صدق ما ذهبنا إليه مُنذ البداية، وهو ما يفيد بأن الإنسان هو ابن تاريخه، وأن ما
يمر به من مواقف، وما يحدث معه في حياته المُبكرة- وهي الأمور التي قد لا تكون ذات
أهمية للوهلة الأولى- هو في الأساس المُشَكِل لشخصياتنا التي سنكون عليها فيما
بعد، يقول آدم حواء في مُذكراته: "حمودي وُلد ذكرا مثلنا، حتى أنه أحب فتاة
لسنتين، وكانت هناك شائعات بأنه ينام معها. في آخر أيام الثانوية، وفي تلك الأيام
التي نذهب فيها إلى المسبح في مجموعات، كان يظهر للشباب عضوه مُفتخرا بأن عضوه
أكبر من أعضاء رفاقه، كنا نرتدي سراويل طويلة لشعورنا بالخجل من العري، وكان يرتدي
ملابس داخلية تلتصق بجسده، وتصبح كأنها على جلده"، أي أنه بالفعل كان رجلا
مُكتمل الرجولة لا يمكن الشك في أنه قد يفكر في التحول إلى امرأة في يوم من
الأيام، ولكن بما أن ثمة مواقف مُختزنة دائما في اللاوعي، فهي دائما ما تنشط لتعمل
على تغيير ما نؤمن به، أو نظنه فينا، وبالتالي تنجح في تغييرنا، واتخاذ قرارات،
وردود أفعال لم نكن نحن نتخيل في يوم من الأيام أنها قد تصدر منا.
إن أسباب الرغبة في التحول من أنثى، أو كائن مُخنث، إلى ذكر بالنسبة لآدم
حواء تعود إلى العديد من المواقف التي اختزنها في ذاكراته، والتي عملت على تشكيله،
فهو يعيش في حالة صراع نفسي لا ينتهي بسبب اختلافه وخنوثته، نلحظ ذلك في:
"حين قررت الدفاع عن نفسي، فعلت ذلك بقسوة وبعنف لا مثيل له. أردت أن أكون
قاتلا أو مقتولا. وُلدت بلا إخوة، شعرت بالوحدة، في الشارع كنت وحيدا ولم يُدافع
عني أحد، لم أتمكن من الدفاع عن نفسي حتى مرت السنون، لكن ما كان يزعجني أكثر هو
أسئلة الناس. لا أعرف لماذا يتساءل الناس عن جنسي؟ غريب هو فضول البشر. الناس لا
يهمهم ما إذا كنت سعيدا أو حزينا، هل أكلت أم أنني جائع. لكنهم يريدون معرفة نوع
ما بين فخذيّ! حاولت أن أبدو كرجل، لقد أردت ذلك باكرا، وبدأت أجلس مع أبي وأبتعد
عن والدتي رغم أن أبي لم يردني قربه".
هذا الصراع الذي لا ينتهي، والشعور بالحرج، بل والرفض من الأب يجعله في
حالة من المُعاناة النفسية المُستمرة، وهي المُعاناة التي نلحظها غير مرة في:
"صغيرا أجبروني على ارتداء السروال دوما. لم أمر بتلك المرحلة التي يلعب فيها
الأطفال دون سراويل. عورتي كانت مصيبتي، وجب عليّ حجبها وإخفاؤها أكثر مما ينبغي.
مُنذ كنت طفلا أدركت أن ثمة خللا فيّ، نقص يراه الناس فيّ حتى صرت أشعر به. في
السابعة من عمري أخبرتني أمي بأن الصحابي عليّ بن أبي طالب لم ينظر إلى عورته قط!
لم يرها أبدا من شدة احتشامه. فكرة أحببتها كثيرا وأحببت عليا بسببها. ومُذ معرفتي
بهذه الحكاية لم أعد أنظر إلى عورتي التي كانت تثير في القلق والدونية في كل مرة
أراها. باكرا تعلمت التكور والبقاء بعيدا عن الأعين، الإناث كن مثلي يتوارين
ويخفين عوراتهن، لكنهن على الأقل يظهرن شعرهن الذي يتم العناية به من قبل والدتهن".
هذه النظرة المُختلة من قبل المُجتمع باتجاه آدم حواء جعلته يعاني مُعاناة
عاصفة تكاد أن تقتلعه من الحياة نفسها، وهي نظرة قاسية لم تقتصر على من حوله من
جيرانه، أو أصدقائه فقط، بل انصبت عليه من كل الجهات، من رجال الدين، ومن آباء
الأطفال الذين هم في عمره مما يجعلهم يمنعونه من اللعب من أبنائهم حتى لا يؤثر عليهم،
أي أن امتداد هذه النظرة وسيادتها لدى الجميع أدت إلى تمزيقه تمزقا تاما، ولنتأمل
حديثه عن يسكو ذات مرة: "يتوضأ قرب الماسورة ويذهب إلى المسجد، لا يطلب مني
الذهاب إلى المسجد، لأنه حتما سمع من عليو والآخرين أن الإمام والمأموم رفضا أن
أصلي في المسجد بحجة أنني لست ذكرا ولا طاهرا"! هذا الرفض في واقع الأمر هو
جريمة مُكتملة الأركان ضد آدم حواء تعمل على المزيد من تشويهه وقتل إنسانيته فيه،
وتربية وحش مُخيف في داخله، وهو الوحش الذي سينفجر في الجميع في نهاية الأمر،
ولنتأمل مدى القسوة والجرائمية في هذه النظرة حينما نقرأ في مُذكراته: "غريبة
هي الأشياء التي يفرضها علينا المُجتمع، غريبة هي الأحكام التي يطلقونها. أتفهم
نظرات التعجب، لكن لا أفهم سبب الكراهية. لسنوات نظر إليّ أشخاص غرباء بكراهية
وتقزز، رغم أنهم لا يعرفونني وإنما سمعوا عن امتلاكي لعضوين. ما الذي يدفعهم إلى
كراهيتي رغم أنني لم أقتل لهم قريبا، ولم آخذ منهم حقا، أو ألقي تجاههم بكلمة
جارحة؟ لا وجود لكلمة قاسية أو بذيئة لم أسمعها، استخدموا كل العبارات السيئة في
القواميس. بدءا من "ملعون ومسه الشيطان". سمعت شتائم وإهانات كثيرة مثل:
هذه لعنة من الله، لأن والده لا يُخرج الزكاة. أو أمه تحب أن تكون فوق زوجها، وهذا
جزاء المُنحرفين. أو ماذا يفعل إذا كبر، هل يمارس الجنس مع نفسه؟ أو وجهها جميل،
لكن من يتزوج ابنة الشيطان هذه. أو أعتقد أنها جنية تحب البشر، المصاصة تتسكع مع
البنات والأولاد معا، يجب إبعاد الأطفال عنها. أبعدوهم عني ولم أحظ بصديق قط حتى
بلغت العاشرة. حتى اليوم لا يثق الناس في، ولا يتقبلون وجودي في بعض الأماكن، كما
لا يسمحون لي باللعب مع الأطفال أو التحدث معهم".
ألا تؤدي كل هذه المواقف والأفعال التي يعاني منها آدم حواء طوال الوقت إلى
قتله تماما على المستوى النفسي، والعمل على تشويهه وتآكل إنسانيته لتصنع منه وحشا
مُخيفا في نهاية الأمر إذا ما انفجر في المُجتمع المُحيط؟
لكن، ثمة عوامل أخرى لا تقل أهمية عن هذه المواقف أدت إلى ميل آدم حواء لكي
يكون ذكرا، ويبتعد تماما عن عالم الأنوثة، أي محاولة اختيار هويته، منها:
"فكرت كثيرا في إمكانية اختفاء القضيب لأصبح فتاة. سأغدو فتاة جميلة دون شك،
لكن من يرغب في فتاة خنثى؟ من يتزوج بامرأة بلا رحم؟ ثم كيف أتحمل حياة كهذه؟
الفتيات لا يخرجن إلى الشارع إلا نادرا وبإذن من أجل سبب وجيه. لا يملكن حق اللعب
في الشارع، وفوق ذلك عليهن غسل الملابس والطسوت. الأمر الآخر الذي يخيفني هي حمالة
الصدر التي يربطونها على صدورهن، لمرة واحدة جربتها فكانت مُؤلمة لدرجة أن الحديد
السُفلي كاد أن يشق بطني، عدا قلقي من الجري حاملا أثداء كبيرة تترجرج وتتدلى
مُرسلة رأسي إلى الأسفل. لا يمكن اعتبارها حياة هذه التي تعيشها المرأة في تشاد.
المرأة هنا إما سجينة في البيت لإرضاء المُجتمع، أو تبحث عن حريتها لتعيش احتقارا
وإلغاء من المُجتمع". إذن فثمة أسباب اجتماعية لا يمكن التغاضي عنها هي التي
جعلت آدم حواء يميل باتجاه الذكورة ويرفض الاستقرار الهوياتي كأنثى، فالمرأة لا
حقوق لها في هذا المُجتمع، مُضطهدة ويتم التحكم فيها تماما لدرجة خنقها.

إن الميل باتجاه الذكورة يحاول آدم حواء التأكيد على أسبابه غير مرة في
مُذكراته، فنقرأ: "حين تُولد خنثى فمن الصعوبة تكوين صداقات، لا تثق بك
الفتيات ولا يحترمك الذكور، وفي الوقت نفسه لا يمكنك تحديد نفسك، فما زلت لا تثق
بالذكور رغم رغبتك في اللعب معهم، ولا تعجبك ألعاب الفتيات رغم أنك تشعر بالأمان
معهن"، ونتيجة لهذا الاضطراب النفسي الهوياتي الذي يجعله حائرا ما بين
العالمين، غير قادر على الانتماء لأي منهما؛ فهو لا بد له من اتخاذ القرار وتحديد
أي من الجنسين يجب عليه الانتماء إليه، وبما أنه يتعرض للكثير من الإهانات الدائمة
التي من المُمكن لها الاستمرار في التعرض
لها لو فضل اختيار الأنوثة- بما أن الأنثى في هذه المُجتمعات مُهانة ويتم السيطرة
الكاملة عليها والتحكم فيها- فهو يُفضل الانتماء إلى عالم الرجال، والقوة،
والسُلطة، والسطوة، والعنف، فالإهانات الكثيرة التي تركت بأثرها فيه تجعله راغبا
في امتلاك القوة للانتقام ممن أهانوه طوال الوقت: "الإنسان كائن هش، أتأثر
الآن بتعليقات قالها والدي قبل سنوات طويلة، كلمات مُهينة مثل صفعة من غريب وسط
الأصدقاء. ذات مرة قال لي: أتمنى لو أنني لم أنجبك. أشياء كثيرة نسيتها، إساءات
مُهينة تجاوزتها، إلا أن هذه العبارة بقيت في ذاكرتي مثل صداع مُزمن. أشياء كثيرة
ينساها المرء، لكن نظرة الاحتقار وأفعال الإهانة هي من الأمور التي تبقى في قاع
الذاكرة، وتستيقظ في الأيام التي تصبح فيها مياه الذكريات عكرة".
إذن، فعلاقة الأب هنا هي المُؤثر الأول والجوهري الذي دفع آدم حواء للتفكير
باتجاه الذكورة، هو لم يكن يعنيه شكل جنسه، أو ما يميل إليه- فهو يمتلك جينات
الجنسين معا، ولا يُسبب له هذا الأمر أي مشاكل مع نفسه- لكن المُشكلات التي
يلاقيها مع المُجتمع من حوله، ورفض الأب له، وكراهيته لوجوده في حياته، كل هذه
الأمور مُجتمعة قد جعلته يختار الذكورة والقوة، والقسوة في نهاية الأمر؛ لذا فهو
بمُساعدة الشيخ الزقزاقي وجد نفسه في الذكورة، والتحق بالمدرسة العسكرية، وبات
بعدها من رجال السُلطة العسكرية الذين يتميزون بالقسوة والوحشية المُفرطة في
التعامل مع الجميع- إسقاط نفسي لإثبات رجولته كلما كان أكثر قسوة- بل وبات يرتاد
البارات ويتناول الكثير من الكحول، ويرافق العاهرات وبنات الليل لإثبات فحولته
الذكورية، أي أن آدم حواء تحول في نهاية الأمر إلى وحش شديد التشوه بسبب المُجتمع،
ودور الأب في هذا التشوه برفضه له لأنه ليس بذكر.
نفس هذه الأسباب التي دفعت آدم حواء لاختيار الذكورة ورفض البقاء في عالم
الأنوثة هي ما دفعت حمودي إلى رفض عالم الرجال والرغبة في التحول إلى عالم النساء،
إنه دور الأب أيضا في حياته، مما يؤكد لنا على أن الأب هو المُشَكِل الأهم للشخصية
مُنذ الصغر: "هو يكره الرجال ويعتبرهم جميعا مُجرمين، أبوه عقيد في الجيش،
ورجل قوي في الدولة، لكنه لم يمكث في العاصمة كثيرا، لسنوات اشتغل كمُحافظ لولاية
البحيرة، ثم ولاية حجر لميس، ولم يتمكن من البقاء كثيرا في البيت، وبسبب رفض والدة
حمودي مُرافقته في أسفاره وتعييناته العديدة تزوج عليها، ثم طلقها ولم يعد مسؤولا
سوى عن إرسال المال نهاية كل شهر. حين وُلد حمودي كان والده قائدا للمنطقة الشرقية
المُلتهبة بالثورات والتحديات الأمنية، لم يحضر ولادته، ولم يره حتى بلغ الثانية،
ثم حصل ذلك الطلاق وترعرع حمودي وسط أخواته اللائي غمرنه بالحنان والحب، وأدخلنه
في عالم النساء الذي أحبه لدرجة أنه قرر أن يصبح أنثى رغم ذكورته
البيولوجية". أي أن ابتعاد الأب عنه، وعدم اهتمامه به، وعدم وجوده في حياته،
وتطليق الأم وهجرها من دون أسباب، كل هذه الأسباب مُجتمعة كانت هي السبب الرئيس في
كراهية، أو نفور حمودي من عالم الرجال الذين يراهم يتصفون بالقسوة والإجرام
والعنف، ومن ثم مال باتجاه عالم النساء الذي عاش في كنفه، وما يميزه من تعاضد
وتعاون، وحب، وحنان، ولطف.
إنه نفس التفسير النفسي الذي ذهب إليه والد يسكو حينما حكى لأبيه عن
أصدقائه؛ فقال: "أما حمودي هو رجل ربما، لكنه لا يريد ذلك، هو ينكر رجولته
لأنه يكره هذه الرجولة، وغالبا لأنه لا يريد أن يصبح مثل والده، أو أنه لم يجد
رجلا في البيت ليعتبره نموذجا يجب الاقتداء به. أنت تدري يا بني، يحتاج الطفل إلى
نموذج، إلى مثال وقدوة، الطفل الذكر بحاجة لوالده أمامه كي يعتبره قدوته، والبنت
أيضا تحتاج لأم رائعة تحلم بأن تصبح مثلها". هذا التفسير العقلاني والمنطقي
من والد يسكو لسبب ميل حمودي باتجاه الأنوثة هو ما يؤكد على كل ما مر به من مواقف
من قبل، وهو النتيجة المنطقية لكل ما مر به في حياته- سواء كان هو أو آدم حواء-
وبالتالي تكون كل هذه المواقف التي مرا بها في حياتهما قد أدت إلى تشكيل شخصياتهما،
وسيكولوجياتهما، بل وميولاتهما باتجاه الهوية، فاختار كل منهم الجنس الذي يرغب فيه
لأسباب قد تبدو من الناحية الشكلانية غير منطقية، وإن كانت في جوهرها شديد
المنطقية والإقناع، مما يعني أن هذه المواقف، فضلا عن أثر الأب في حياة كل منهما،
كانت السبب في اختياراتهما.
دور الأب في حياة الأبناء لا غنى عنه؛ فهو يعمل على تأسيسهم من كافة
النواحي، ورغم أثره هنا على جميع الشخصيات الروائية إلا أن آدم حواء يحاول إنكاره
ظاهريا لتوهمه بأنه حينما امتلك السُلطة، وتحول إلى رجل عسكري لاهٍ، قد بات قويا
مُتحديا في ذلك تأثير أبيه عليه- رغم أن كل ما فعله آدم حواء في حياته، واتجاهه
للذكورة والعنف المُفرط، والقسوة كان بسبب تأثير الأب في عقله اللاواعي، لكنه
يحاول طوال الوقت إنكار أثر أفعال الأب معه، وكأن ما فعله لم يكن له علاقة بأبيه-
ولنتأمل قوله في مُذكراته: "اليوم حين أفكر في حياتي السابقة وأنا على مكتب
في رئاسة الجمهورية، أحرس حياة ابن الرئيس الذي بدوره يحمي والده، أشعر بأن كل
الذي جرى لي كان سببه الجوع والفقر. الشين كان يقول: الآباء يحددون مصائرنا، أنت
تصبح شيئا وضع أُسسه والديك. لم أصدقه، وأجد أنه مُخطئ، لأني لم أعد ذاك الطفل
الذي لم يتمكن والده من جعله شيئا سوى خنثى لخنوثة وجبن في جيناته. بل أصبحت رجلا
كامل الصفات داخل هذه البدلة المُرقطة التي غيرت حياتي، إلا أنني قضيت خمس عشرة
سنة على المسار الذي رسمه لي والدي"!
هل حاول والد آدم حواء بالفعل رسم هذا المسار له، وجعله مُجرد خنثى كما يظن
هو؟
في الحقيقة لم يحاول والده فعل ذلك معه، فهو رفضه لأنه يقع هوياتيا ما بين
عالمين مُختلفين، هو كان يريد طفلا ذكرا، لكنه فوجئ بطفل يمتلك السمات الجينية
لكلا الجنسين مما جعله يرفضه، ويخجل من تواجده في حياته، ومن ثم الابتعاد عنه، مما
يعني أن امتلاك آدم حواء للقوة والسطوة، وتحوله إلى ذكر قد جعله يحاول رفض ماضيه،
التنصل منه، تحدي الجميع والرغبة في التخلص منهم، وهو ما أوقعه في مثل هذه الظنون
التي يُدرك تمام الإدراك في قرارة نفسه أنها غير صحيحة، وبأنه اختار الرجولة
المشوهة على المستوى النفسي كنوع من التحدي لأبيه الذي رفضه، وتخلى عنه.
إذا ما تأملنا الخط السياسي والتاريخي في رواية "التاريخ السري
المُعلن لآدم حواء"، وهو الخط الذي يرويه أبو يسكو له لتبين لنا أهميته في
تفسير المُجتمع التشادي بالكامل على كل المستويات- السيكولوجية منها والاجتماعية-
والتحولات الطارئة الحادثة فيه؛ فالسياسة تترك بالضرورة بأثرها على الجميع حتى لو
لم يكونوا مُنخرطين فيها لأنهم يعيشون في كنفها في نهاية الأمر؛ لذا يحرص الروائي
على تتبع هذا المسار السياسي داخل روايته، فهو لن يقدم لنا من خلاله نظرة
بانورامية للمُجتمع التشادي فقط، بل سيفسر لنا كذلك أسباب الحراك الاجتماعي داخله،
والمُحددات التي من المُمكن لها أن يتجه هذا أو ذاك إلى هذا المسار، فضلا عن رغبته
في حكي التاريخ كما هو بعيدا عن تزوير التاريخ على ألسنة المُنتصرين، أو الذين
يمتلكون السُلطة، وهو ما نراه في جميع المُجتمعات حيث يكتب التاريخ من يمتلكون
السُلطة، وبالتالي يلجأون إلى تغييره، وتزييفه بما يتوافق مع مصالحهم الخاصة.
يقول والد يسكو لابنه حينما قرر الذهاب إلى أنجمينا من أجل الدراسة:
"لكي أشرح لك الأمر ينبغي العودة قليلا إلى الوراء. أحكي كل هذه الأحداث لأني
أريد أن تعرف إلى أين أنت ذاهب، ولماذا لا أريد العودة إلى أنجمينا، مدينة
الدسائس. وبما أن مُدرسي التاريخ السياسي سيحكون لك الأكاذيب سعيا لتشويه عقلك
وذاكرتك، وجب عليّ سرد بدايات القصة لأنها من تاريخك وتاريخ بلادك". مما يؤكد
لنا هنا على أن تزوير التاريخ هو من الأمور المعهودة طوال الوقت في الكثير من
المُجتمعات والقوميات، يرويه المُنتصر في النهاية، لذا لا بد من وجود حافظة للتاريخ
حتى لو كانت شفهية، فهي على الأقل ستحاول الحفاظ عليه، وربما تدوينه كما حدث ذات
يوم، لذلك يحاول الروائي هنا تعريف ثورة فرولينا التي لعبت دورا جوهريا في التاريخ
التشادي، ومن ثم يسوق على لسان القائد العسكري قوله: "فرولينا هي أول ثورة في
إفريقيا من أجل العدالة. هذه هي الثورة الوحيدة التي عرفتها إفريقيا من أجل وضع حد
للظلم والتهميش. ثورتنا ليست من أجل الاستقلال أو الانفصال"، فهي بالفعل كما
عرفنا كانت ثورة من أجل الكرامة الإنسانية قبل أي شيء، استرداد الإنسانية، وليس
الانفصال عن تشاد.
لكن، رغم أهمية هذا الخط الدرامي التاريخي الذي اعتمد عليه الكاتب من أجل
إكمال الحدث الروائي والمُساعدة على فهم التحولات الحادثة للشخصيات داخل الرواية
إلا أنه يحاول تفسير سوقه لهذا المقطع من تاريخ تشاد تفسيرا مُختلفا للوهلة
الأولى، وإن كان لا ينفي ما سبق أن ذهبنا إليه، ومن ثم يقول لابنه يسكو:
"أحكي لك كل هذه التفاصيل لأنك تغادر قريتك، منطقتك، لأنك تبتعد، ذاهب إلى
مكان غريب. لا أريد لك أن تذهب بعيدا عن موطنك، لا أفضل أن تنشط في أماكن لا تعرف
جغرافيتها ولا تاريخها. لكن التعليم شيء ضروري، وهو أحد الأشياء القليلة التي
تستحق الهجرة. السفر يغير الناس يا بني، والمدينة تُفسد أخلاق الرجال، أعرف أنك
ستتغير، لكني أريدك فقط ألا تنسى من أنت، ومن أين أتيت". بالتأكيد سنُلاحظ
أنه رغم هذا التفسير الذي قد يبدو الغرض منه ربط السرد التاريخي بالحدث الروائي،
وتبرير اللجوء إليه، إلا أنه في عمقه لا ينفصل عن ضرورة وجوده؛ لأنه المُفسر
الأقوى والأول لكل التحولات الحادثة في هذا العالم الذي نخوض فيه في العاصمة
التشادية أنجمينا.
إن اللجوء إلى ثورة فرولينا، وهي الثورة التي لعبت دورا جوهريا في التاريخ
السياسي القريب في تشاد، مُرتبط ارتباطا قويا وجوهريا بكل الأحداث التي رأيناها
داخل هذا العمل الروائي؛ فالثورة تأسست في الأصل في السودان من قبل أحمد حسن
مُوسى، وهو أصولي إسلامي مُقرب من الإخوان المُسلمين، أي باعتمادها على أيديولوجية
إسلامية، لكنها سُرعان- بعد الاتحاد مع جبهة التحرير الوطني- ما تحولت إلى ثورة اشتراكية،
أو تحتكم إلى الأيديولوجية الاشتراكية، ورغم احتكامها إلى الأيديولوجية الاشتراكية
نتيجة تواجد إبراهيم أباتشا- زعيم جبهة التحرير الوطني فيها- إلا أنه لم يتم
تعريفها، باعتبارها اشتراكية أم إسلامية، وهو ما نراه كذلك في المُجتمع التشادي
اليوم، فتشاد هي دولة علمانية من الناحية الرسمية المُعلنة، لكنها على أرض الواقع،
وفي الحياة اليومية ليست إلا دولة دينية في كل ما يقوم به مواطنيها، أي أن ثمة
تشوه هوياتي هنا أيضا على المستوى الأيديولوجي يجعل كل شيء في تشاد واقعا ما بين
هويتين، غير قادرة على الارتكان إلى أي منهما- تماما كآدم حواء، وحمودي اللذين
وقعا بين هويتين جنسانيتين، واكتسبا تشوههما على المستوى السيكولوجي- وبالتالي
يكون التشوه الواقع فيه الشخصيات هنا هو انعكاس طبيعي للتشوه على المستوى السياسي،
لذا لن يكون من الأمور المُدهشة لنا حينما يحاول والد يسكو تفسير ثورة فرولينا
تفسرا جنسانيا، أو هوياتيا حينما نقرأ ما يقوله يسكو: "قررت أن أحكي هذه
المرة، أخبره عن بعض ما أدهشني في المدينة التي أصبحت من أهلها. حكيت قصة حمودي
باختصار، وقصة آدم حواء بشفقة، وسألت والدي عن السبب الذي دفع حمودي ليصبح هكذا.
قال: مُشكلة صديقك آدم حواء أنه يعاني من أزمة هوية، ثورة فرولينا كانت تعاني أزمة
هوية، فهي لم تعرف ما إذا هي ثورة شيوعية أم إسلامية، إبراهيم أباتشا كان بصدد عقد
مُؤتمر يجمع كل الحركات والجيوش التابعة لها لوضع هوية للحركة، لأننا لا يمكن أن
ننجز الكثير ما لم نُحدد من، وما نحن"، مما يعني أن كل هذه التحولات
الاجتماعية، والتشوه السيكولوجي، والشخصيات الروائية المتآكلة والمُهتزة هي في
جوهرها التمثيل، والانعكاس الأدبي للتاريخ السياسي التشادي الحديث الذي لم يكن
يمتلك هويته تماما كشخصياته، وربما ما زال حتى اليوم بسبب التناقض في التعريف ما
بين التمثيل الرسمي للدولة كدولة علمانية، وما يدور بالفعل على أرض الواقع من
تصرفات دولة عسكرية دينية.

هذه الازدواجية الهوياتية سنراها في كل شيء؛ فجوزيف حمداني، والد صديقهم
عليو الذي كان يحب "جميلة" ابنة الجنرال إدريس، كان في الحقيقة يهوديا
قادما إلى تشاد، وادعى بأنه مُسلم، بل وبات يؤم الناس في الصلاة رغم أنه في الواقع
يقوم بمُضاجعة الكثير من النساء، ورغم كل شيء فلقد اكتسب مكانة اجتماعية وسطوة
دينية داخل المُجتمع فضلا عن علاقاته القوية والمنفعية مع رجال السُلطة الذين
يقومون بحمايته، يتبيّن لنا هذا الأمر من حكاية الشين ليسكو حينما يقوله له:
"جوزيف أصبح يوسف بفضل المال، تمكن من الزواج من امرأة تشادية مُدعيا أنه
مُسلم يمني، لم يكن يهمه من الزواج سوى الجانب الاجتماعي، لذا كان ينام مع أي
امرأة يجدها جميلة، أنجب ابنتين وابن خارج إطار الزواج، احتفى بهم، وذبح لكل واحد
منهم ثورا أكبر من الآخر، حتى في عقيقة
البنتين ذبح ثورا بدل نعجة أو خروفين لأنه يؤمن بمساواة الرجل مع المرأة كما قال
الكاتب. ازدهرت تجارته في بضع سنوات، وازداد ماله ونفوذه، وعندها أعلن عن الحقيقة.
في تلك السنوات كان عليو- وهو الابن الثالث من التشادية بعد فتاتين- مُجرد طفل
يعيش في قصر والده في حارة الفرنسيين وسط المدينة. إعلانه عن الحقيقة لم يغيّر من
حياته الكثير، لديه مال وعلاقات مع وزراء ومُدراء في الدولة. لكن جيرانه لم يعودوا
يتعاملون معه بسلاسة، لذا أرسل أولاد الزنا إلى تل أبيب وباريس، واشترى عقارات في
أحياء أنجمينا بعيدا عن المكان الذي عرف الناس فيه أنه يهودي وعند وصوله إلى هذا
الحي اشترى هذا القصر من أبي الذي باعه المكان بكيس من السُكر. في ذلك الوقت كانت
هذه الحارة عبارة عن بركة كبيرة، ووادٍ للطحالب والضفادع وسمك البلبوط، تعوي فيها
الذئاب ليلا، ولا يمكن الوصول إليها في موسم الخريف بسبب الوحل والجداول والطين
الذي يتكوم حتى يُغلق الطرق الترابية. الرجل الذي زنا بأكثر من عشرين امرأة، وصلى
بالناس في المسجد الكبير رغم أنه يهودي، وتزوج بمُسلمة دون أن يسلم تمكن من النجاة
من كل هذه الجرائم، وظهر لنا بريئا ناصعا كنوايا طفل مُعاق. ظل يرتدي الجلباب
الأبيض، ويداعب سبحة سوداء، ويوزع الصدقات صباح كل جمعة. عاش هنا كمُسلم لا يمارس
كل الطقوس الدينية ما عدا الذهاب إلى المسجد. الناس أطلقت عليه لقب "الحاج
يوسف" رغم أنه لم يحج. رغم أن المُجتمع لم ينبذه ولم تعاقبه الحكومة، أرسل
بناته إلى خارج البلاد ونصف ماله معهن، وما زال المقاول الأول للحكومة، يفوز
بالصفقات الكبيرة".
ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة لتأمل كيفية نسج الكاتب للعالم الروائي
في روايته، فلقد وصلت الرواية بعد مُنتصفها تقريبا إلى ما يشبه السدة، أو الانقفال
الذي لا بد له أن يجبر الروائي على التمهيد لانتهاء هذا العالم الروائي، ولكن بما
أنه ما زال في جعبته الكثير الذي من المُمكن له أن يستمر في كتابته وإضافته لهذا
العالم؛ فلقد ابتكر لنا شخصية الشين، وهي شخصية فقيرة تماما، لا تتوقف عن تناول
الكحوليات والمُخدرات، أي أنه مُغيب كلية، لكن هذه الشخصية بدورها كانت نتاجا
للمُجتمع الذي يضطهده، ويرفضه، ويسخر منه بسبب الفقر الشديد الذي يعاني منه، مما
جعله يحاول مقاومة هذا المُجتمع والانتقام منه بطريقته الخاصة التي تمثلت في
التلصص على حكايات الآخرين، وأسرارهم التي يحاولون إخفائها، ومن ثم يبدأ في إذاعة
هذه الحكايات للجميع، أي أنه يقوم بفضحهم لأن هذا الفضح يجعلهم أمامه مُجرد أناس
ضعيفة، وهو يرغب في رؤية ضعفهم نتيجة تنمرهم وقسوتهم عليه، أي أنه ينتقم من
المُجتمع من حوله بطريقته التي لا تؤذيهم بقدر ما تكشفهم أمام الآخرين، وتجعله
يشعر بالسعادة لرؤيتهم في مواقف الضعف والإحراج، بالإضافة إلى أنه يستغل هذه
الحكايات في بيعها لأحد الكتاب الذي فقد قدرته على الخيال، وبالتالي فهو يستمع إلى
حكايات الشين، وأسرار الآخرين التي يعرفها في مُقابل المال، رغم أن الكاتب بدوره
يعاني من الحاجة والفقر والتهميش.
إن اللجوء إلى شخصية الشين من أجل الاستمرار السردي، ونسج المزيد من
الحكايات التي تتوالد من بعضها البعض بالاعتماد على الفساد الغاص به المُجتمع
التشادي كان من أكثر الحلول، والحيل الفنية ذكاء من الكاتب الذي رغب في استمرار
السرد بشكل أكثر سلاسة للتعبير عن المزيد عن مُجتمعه، وبالتالي اكتمال الرواية كما
يراها هو.
حينما وصل آدم حواء إلى رأس السُلطة بتوليه منصب حماية ابن الرئيس، الذي
يحمي بدوره الرئيس، كذلك حينما أصبح هو الحارس الشخصي للرئيس بعد اغتيال الرئيس
وتولي ابنه المسؤولية عنه، بل وأصبح مُرشحا لتولي مسؤولية وزير الدفاع في تشاد؛
حاول قطع علاقاته مع ماضيه بالكامل، ومن ثم فلقد ابتعد عن الجميع، ولم يعد يعرفهم،
ويتنصل منهم، ورغم أنهم جميعا قد لعبوا دورا مُهما في حياته الماضية، بل وحمايته
من المُجتمع الذي كان يعمل على تهميشه، واضطهاده، والسُخرية منه، إلا أنه كان حريصا
كل الحرص على التخلص من علاقته معهم لأنهم هم الذين يعرفون لحظات ضعفه، وقلة حيلته
الماضية، فضلا عن أنهم الوحيدون الذين يعرفون بأنه لم يُولد رجلا، وهو ما من شأنه
التأثير على مركزه العسكري، ومن ثم إمكانية فقدانه، أو عدم نيله لمنصب وزير
الدفاع، لذا حينما يفتتح يسكو محلا لبيع الملابس في أنجمينا لرغبته في كسب المال
من أجل اللحاق بجميلة- في باريس- التي وقع في حبها، يفكر في دعوة صديقه القديم آدم
حواء، لا سيما أن جميع الأصدقاء سيجتمعون من أجل هذا الافتتاح، إلا أن آدم حواء
يرفضه، ويحذره من إمكانية الاقتراب منه مرة أخرى: "حضر الجميع في الحفل
الافتتاحي للمتجر الذي سميته "يسكو للأناقة"، إلا الكاتب وآدم حواء الذي
اتصلت به ولم يرد. لاحقا اتصل بي وتحدث دون إلقاء التحية أو السماح لي بالكلام أو
السلام: اسمع، لم أعد ذاك الصبي الذي عرفته، لم أعد مدنيا يبيع ويشتري. لا تناديني
آدم هكذا، بل من الآن فصاعدا اسمي المُلازم صندل، وعليك نسياني والعيش مع أشخاص
مثل حمودي والشين. لا أريد أي احتكاك مع حياتي القديمة، لدي مُذكرات عن حياتي
سأتركها لك عند ماما صندل. كنت كتبتها لأني رأيتك تكتب حكايات والدك عن أيامه في
فرولينا. خذها لتتعرف عليّ ولا تتصل بي، لو كان هذا الاتصال من شخص آخر غيرك لما تحدثت
معه بهذا الأدب. يرد يسكو: يا رجل، أردت لك دائما هذه الحياة لو تذكر. اتصلت بك
لأن هذا يوم مُهم لي، عدا ذلك يمكنني العيش دونك. ليقول آدم حواء: أعرف ذلك، حصلت
على ما أردته لي، إلا أن رؤيتك تذكرني بما كنته، وهذا ما لا أريده، لقد غيّرت
جلدي، ولا أريد أن يتعرف الناس على ماضيّ، لأن ذلك يُقلل من مكانتي في الجيش، وإلا
لما تحدثت معك بهذه القسوة".
إذن، فلم يعد آدم حواء- الوديع- الذي عرفناه هو نفس الرجل الموجود الآن على
رأس المُؤسسة العسكرية في تشاد، بل بات رجلا آخر تماما شديد القسوة والعنف مع
الجميع، وكلما أوغل أكثر في عنفه وساديته كلما تأكد في قرارة نفسه- أو هكذا يظن، ويحاول
التأكيد للآخرين- على ذكورته التي لا يمكن أن يرقى إليها أي شك، مما يعني التشوه
الكامل الذي حدث لشخصية آدم حواء بسبب ما لاقاه طوال حياته مُنذ الميلاد، وهو
التشوه الذي أخرج من داخله الوحش الذي لم يعد من المُمكن السيطرة عليه أو ترويضه،
ومن ثم عاث فسادا في كل ما يحيط به.
بالتأكيد شارك آدم حواء بدوره في الفساد المُتنامي داخل جميع مُؤسسات
ومرافق الدولة، وهو الفساد المُنعكس بالضرورة على المُجتمع بالكامل؛ فالفساد دائما
ما يدور في حلقات مُتشابكة تُسلم بعضها البعض، تماما كالظلم الواقع على الأفراد،
وإذا ما كان كل شخص يحاول إسقاط الظلم الواقع عليه بمُمارسته على من هو أضعف منه،
فكذلك الفساد ينتقل من الأعلى إلى الأسفل بسرعة غير مُنتظرة ليسود كل شيء في نهاية
الأمر مما يؤدي إلى الانهيار الكامل على كل المستويات.
كذلك حمودي الذي تحول من رجل إلى امرأة، هو لم يكتف- في هذا التحول إلى
أنثى- بمُجرد تحوله فقط، بل بات امرأة قوادة، تجلب النساء والطفلات لأصحاب السُلطة
من أجل المُتعة والمُتاجرة بهن، فالمُجتمع بالكامل يسبح في هذا المُستنقع الفاسد،
ومن ثم فهو يصيب الجميع بالخراب: "بعد شهر من الهناء والبيع والشراء والربح
الكبير بفضل زبائن حمودي، مُديري مُؤسسات، ووزراء، وموظفين في السفارات يأتون
ويأخذون بضع قطع، ويطالبون بحجز الأحذية الجلدية الغالية. كل شيء كان يمضي بشكل
جيد، الشتاء خفيف، وجميلة تأتي وتروي بذور السعادة في قلبي، حمودي يأتي لأخذ طلبات
الوزراء ويخلف قصصا مُثيرة عن ليل أنجمينا، وعن رغبات الزبائن الغريبة عن الجسد
والجنس، ورغبة الكثير من الوزراء في الذهاب بعيدا في التجربة. وعن جوع أصحاب
السُلطة إلى أجساد الأطفال، وسيطرة أصحاب الرغبات السُفلية على مقاليد السُلطة
وأشياء أخرى عن نظريات المُؤامرة".
إن المُجتمع هنا بالكامل قد تحول إلى مُجتمع فاسد، ومن لم يُشارك في الفساد
هو من يقع عليه أثر هذا الفساد في النهاية، ومن ثم يعاني منه.
إن التحولات السريعة والمُتتالية والمُتلاحقة التي لحقت بالجميع أدت إلى
تغير كبير في شكل العلاقات ما بين الأصدقاء، بل وشارك البعض منهم في هذه السلسلة
التي لا تنتهي من الفساد؛ فآدم حواء بتحوله إلى ذكر التحق بالمُؤسسة العسكرية،
وبات على شفا التعيين كوزير للدفاع، وهو يمارسه سُلطته وساديته، وعنفه باتجاه
الجميع، وقام بالتخلص من كل علاقاته القديمة رغم أنهم كانوا أول من عملوا على
حمايته من الآخرين، وحمودي بتحوله إلى امرأة فضل المُشاركة في الفساد الدائر من
حوله بجلب النساء والطفلات لرجال السُلطة الفاسدة كقوادة مُحترفة، وأُثرى ثراء
فاحشا من هذا الأمر، وعليو ابن جوزيف اليهودي أنشأ مُنظمة تعمل في مجال دعم الأسر
الفقيرة، وبات متوقعا له أن يصبح وزيرا في الحكومة الجديدة، والشين أغلق مغسلته
التي يتعيش منها، ويعقد عليها الكثير من الأمل في الثراء، وبات يعمل مع يسكو في
محل بيع الملابس، ومع اغتيال الرئيس والفوضى التي شاعت في العاصمة خسر يسكو محله
بسبب اقتحامه من الناس أثناء الفوضى والسطو عليه، والجنرال إدريس- والد جميلة
حبيبة يسكو- تعرض للموت أثناء مواجهة الانتفاضات التي حدثت بعد اغتيال الرئيس،
ولولا شجاعة وجلد آدم حواء وإنقاذه لكان قد مات، لذا أقسم الجنرال إدريس على
تزويجه من ابنته جميلة كمُكافأة له على ما قام به، والكاتب خسر الفيلا التي تركتها
له والدته حينما قامت الحكومة الجديدة بتأميم البيوت السكنية داخل حارة السفارات،
ووعدته الحكومة بالتعويض دون أن يحصل على فرنك واحد، وعليو الذي كان مُرشحا لحقيبة
وزارية في التشكيل الجديد تم إبعاده تماما، لأن الجنرال آدم حواء بات هو المسؤول
عن السياسات في الدولة، وحينما رأى اسم عليو من ضمن المُرشحين أمر بتأميم قصر والد
عليو، وتهديد حياته، حتى فر عليو ووالده إلى فرنسا، وأصدر من هناك جريدة تعمل على
فضح الفساد السائد داخل المُؤسسة العسكرية التشادية.
لكن، آدم حواء الذي بات الجنرال آدم صندل، والمُنتظر أن يكون وزيرا للدفاع
في الحكومة التشادية، فوجئ بالمقال الذي كتبه الكاتب عنه من دون ذكر اسمه، وإن كان
قد أشار فيه إلى أن هذه الشخصية التي يتحدث عنها مُرشحة لتولي مسؤولية وزارة
الدفاع في الحكومة الجديدة، حيث فضح الكاتب آدم حواء، وأكد على أنه لم يولد ذكرا،
بل كان خنثى قبل التحول إلى ذكر، وهو ما أدى إلى إقالة آدم حواء، وحرمانه من منصب
وزير الدفاع.
هذه التطورات المُفاجئة أدت إلى انطلاق الوحش الحقيقي من داخل آدم حواء
لتدمير كل شيء، فلقد اتخذ قراره بالتخلص من الجميع بسبب ما حدث، أي إنهاء وجود كل
من يعرف ماضيه؛ فعُثر على حمودي مقتولا في جناحه بفندق ماركاتو، واختفى الكاتب
تماما من الحياة وكأنه قد تبخر بعدما تم اختطافه من قبل مجهولين، والشين دهسته
سيارة أثناء خروجه من نُزل "لافونتين" الذي ينام فيه، لذا نقرأ قول
يسكو: "بعد مقتله- يقصد الشين- عرفت أن الجنرال يقضي على كل شخص يعرف أنه كان
مُخنثا قبل أن يلتحق بالجيش، ولم يبق منهم سواي، ورغم ذلك ظننت أنه لن ينوي بي شرا
نظرا لعلاقتنا القديمة وصداقتنا". لكن ظن يسكو لم يكن صحيحا، فالجنرال آدم لم
يعد هو آدم حواء الذي كان يعرفه من قبل، لذا أرسل من يغتاله بدوره، حيث توجه شخصان
إليه في محله الفارغ بعد السطو عليه، وألقوا عليه قنبلة يدوية، لكنها استطاع
النجاة منها بالهروب من المحل قبل انفجارها، وهو ما جعله يُسارع بالهروب إلى
فرنسا، لاحقا بعليو هناك للكتابة معه ضد السُلطة الفاسدة في جريدته التي أنشأها
هناك، ومن ثم عرف يسكو بمصير الكاتب الذي اختفى: "تحقيقات صحيفة "كواليس
أنجمينا" كشفت أن الكاتب اعتقل من القودالا، واقتيد إلى ضواحي العاصمة ليحتجز
داخل حديقة تملك المُخابرات فيها مخبئا سريا، وهناك تعرض للجوع وقلع الأظافر، ثم
الأنامل قبل أن يتم قطع لسانه، وقتله شنقا، ورمي جثته في نهر شاري، ليظهر بعد
أسبوع حين رآه صياد خرج باكرا بحثا عن سمكة في النهر الذي بات مشرحة للحُكام
الجُدد"!
إذن، فلقد تخلص آدم حواء من الجميع من حوله بسبب انتشار مقال الكاتب الذي
أشار إليه، وأكد على أنه لم يُولد رجلا؛ الأمر الذي أدى إلى حرمانه من منصب وزير
الدفاع، بل وخروجه بالكامل من الحكومة، وإبعاده.
حاول آدم حواء مُقابلة الرئيس الذي كان زميله وصديقه مُنذ أيام الثانوية
العسكرية، فقابله على مضض، وحينما حاول آدم مُفاتحته في أمر وزارة الدفاع، رفض
الوزير، وأخبره بأنه سيعينه سفيرا في إحدى الدول الأوروبية مما جعل آدم يستشيط
بالمزيد من الغضب، والعنف، ويفكر في الانقلاب على الرئيس، وقتله!
إن آدم حواء هنا لم يعد هناك أي شيء من المُمكن له إيقافه عن الوصول إلى
رأس السُلطة، فالسُلطة والقوة أصابتاه بالجنون الفعلي، والرغبة في التخلص من كل من
يقف في طريقه، لذا بدأ في تدبير الانقلاب على الرئيس للتخلص منه، ومن ثم نقرأ:
"في تلك الأرض البور المفتوحة على كل الاحتمالات، لم يكن بإمكان أحد تصور ما
سيحدث في الغد. قرار الرئيس أعاد الجنرال إلى مُربعه الأول، أن يكون منبوذا
مرفوضا، وهذا ما هرب منه طوال حياته، اختفى من تلك الصفات داخل البدلة العسكرية،
ظن أنه أسكت كل الشائعات ودفن الموضوع، إلا أن صديقه الرئيس أعلن له أن العسكر لا
يحترمون شخصا مشكوكا في رجولته، وما آلمه أكثر ودفعه إلى طأطأة رأسه، هو أن الرئيس
يعرف الآن أنه وُلد خنثى واحتاج إلى زيارة المارابو ليصبح رجلا".
كل شيء هنا ينهار من حول آدم حواء، عالمه بأكمله بعد التخلص من كل من كانوا
يعرفونه، كل ما قام بتشييده وسعى إليه فلت من بين يديه، وهو ما أصابه بحالة عميقة
من الهياج والجنون، والرغبة في التدمير واستعادة مقاليد السُلطة والقوة مرة أخرى؛
لذا نظم بشكل مُتقن لاغتيال الرئيس بالانقلاب العسكري عليه والاستيلاء على الحُكم،
وبالفعل نجح الجنرال آدم ومن معه من المُتمردين في اقتحام القصر الرئاسي، والوصول
إلى فراش الرئيس إلا أنهم لم يجدوه هناك: "زوجته الأولى، وأم ابنه البكر خرجت
بغلالة وردية شفافة وقالت: البارحة نام في بيت زوجته الثالثة، وهو خارج القصر، في
حارة فرشا، أرجوك لا تُؤذِ ولديّ". لكن الجنرال آدم الذي أعماه الغضب والإصرار
على الانقلاب على السُلطة والاستيلاء عليها لصالحه لم ييأس، وأصر على النيل من
الرئيس، وبالتالي نقرأ: "خرج الجنرال صندل تاركا صديقه في الانقلاب في ذهول،
وأخذ الطريق المُؤدي إلى فرشا داخل سيارة تويوتا، تردد من رافقوه، وتردد الجنرال
الآخر. وقف وحيدا، حملق في الوجوه، رفع يده المُضرجة بالدماء مُرسلا تحية عسكرية
إلى زميله الذي شاركه الهجوم. لم يقل شيئا، نظر حوله، رفع رأسه إلى سماء أنجمينا
الصافية في أيام شباط، أحكم قبضته على مُسدسه البلجيكي، ثبت أصابعه على الزناد،
وداس على دواسة سيارته، واختفى داخل الأدخنة صوب فرشا"، أي أنه ما زال مُصرا
على الانقلاب واغتيال الرئيس مهما حدث، ورغم أنه قد بات وحيدا، وجبن الجنود الذين
معه على الذهاب معه إلى حارة فرشا لاغتيال الرئيس المُصر عليه، فلقد قرر الذهاب
وحده، رغم أن احتمالات اغتياله للرئيس وحيدا من الاحتمالات الضعيفة التي لا يمكن
لها أن تتحقق، أي أن غضبه وعنفه، ورغبته في السُلطة التي لا يريدها أن تفلت من بين
يديه تدفعه بالضرورة إلى موته الحتمي.
ربما كان هذا الاقتباس السابق الذي أنهى به الروائي التشادي روزي جدي
روايته يُعد بمثابة التأكيد على أن الفساد في تشاد سيظل دائرا في دورات مُتتالية،
ليبتكر المزيد من أوجه الفساد الأخرى، بمعنى انسداد الأفق السياسي، والأمل فيي
التغيير، ومن ثم سيظل التشوه في حالة تطور برهة بعد أخرى، ليزداد أفراد المُجتمع
التشادي تشوها فوق التشوه الذي يعانون منه، فالتشوه في مقاليد السُلطة من شأنه
ابتكار تشوها نقسيا اجتماعيا على مستوى الدولة، والمواطنين معا.
إن رواية "التاريخ السري المُعلن لآدم حواء" للروائي التشادي
روزي جدي من الأعمال الروائية المُهمة التي تؤكد على التشوه في جميع المُجتمعات
التي خضعت للإمبرياليات السابقة- وليس تشاد وحدها- محاولة إفقارها قدر المُستطاع،
وهو الإفقار الذي من شأنه إفراز المزيد من الديكتاتوريات، والأكثر من الفقر الذي
يؤدي بدوره إلى إفساد المُجتمع بالكامل بمثل هذا الشكل الشائه الذي رأيناه على طول
الرواية، والذي سيطر على جميع شخصياتها، فضلا عن أنها من الروايات المُهمة التي
نجح فيها الروائي بالفعل في الإمساك بزمام الحكي الروائي، وإسقاط مُشكلة الهوية
السياسية على الهويات الاجتماعية، وهو في هذا الإسقاط نراه يقف موقف الحياد، فهو
لا يحاول فرض أي أحكام أخلاقية مُسبقة على شخصياته الروائية بقدر ما يرصدها محاولا
قدر الإمكان توصيفها والإشارة إلى الأسباب التي أدت بها إلى مثل هذا الاضطراب
الهوياتي، بمعنى أنه راغب في وضع يده على المُشكلة الأساسية في تشاد- مُشكلة عدم
الاستقرار على شكل سياسي مُعين- وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى اضطراب المُجتمع بمثل
هذا الشكل الذي ذهب إلى نسجه بشكل أدبي، مما أعطانا في النهاية صورة بانورامية
مُكتملة وبارعة على المستوى الفني عن المُجتمع التشادي وما يعاني منه، ساعده في
ذلك هدير السرد الذي يتميز به الكاتب، ومقدرته على الحكي بسلاسة وبساطة، وامتلاكه
للغة التي يستخدمها بسهولة يحتاجها السرد الروائي ليكتسب تميزه.
محمود الغيطاني
مجلة "نقد 21".
عدد فبراير 2025م.