إن تار، في
حقيقة الأمر، إنما يُمارس من خلال السينما تفكيره الفلسفي، هو يتأمل من خلال
السينما، أي أنه قادر على تحويلها إلى أداة مُساعدة، ووسيطة، وجوهرية في عملية
التفكير من أجل الوصول بها إلى جوهر الوجود الإنساني من خلال تأمله الفلسفي،
المُتشائم غالبا، الأقرب إلى الحكمة، الذي يرى أن العالم لا يستحق سوى الفناء،
والقضاء عليه من خلال كارثة كونية؛ لسيادة الشر فيه على كل شيء.
يحاول تار
دائما جذب السينما باتجاه الفلسفة، التأكيد على أن الوجود الإنساني- رغم بؤسه،
وكآبته- له بُعد فلسفي عميق، وهو من خلال محاولاته الدؤوبة لفلسفة السينما، أو
تقديم سينما تنحو باتجاه التفلسف والعمق الفكري يستخدم مجموعة من التقنيات
الأسلوبية التي يتميز بها، والتي تتناسب تماما مع عالمه الفكري التأملي، ومن دون
هذه التقنيات الأسلوبية لما استطاع التعبير عما يدور في ذهنه من أفكار شديدة
الاشتباك، مُغرقة في الجفاف، والتي يستطيع تحويلها إلى فن بصري يمتلك الكثير من
القوة السحرية القادرة على استلابك تماما من ذاتك؛ ومن ثم تستسلم له ليتلاعب
بمشاعرك، وعقلك كيفما شاء، وكأنه تحوّل هنا إلى إله قادر على استخدامك من أجل
مصلحته الذاتية، بينما أنت- كمُشاهد- مُستلب تماما، غير قادر على الإفلات من الشرك
الذي جذبك إليه، وأوقعك فيه ليبدأ في التحكم فيك، ومُراقبتك بتمهل- تماما كما يفعل
مع شخصياته الفيلمية.
إذن،
فالجميع مُجرد أشياء صالحة للتأمل لدى تار- المُشاهد، والعالم، والشخصيات
الفيلمية، والطبيعة، والجمادات- وهو من خلال تأمله الدقيق، المُتمهل قادر على سلب إرادة
المُشاهد من خلال كاميرته التي تتحرك ببطء شديد، وتمهل أكبر، وتفحص مُخيف يصل إلى
عمق الأشياء. إن الكاميرا هنا بمثابة أداته الأولى والجوهرية التي يستخدمها من أجل
السيطرة عليك، وتنويمك مغناطيسيا!
أجل، فتار
ماهر إلى حد بعيد في تنويم المُشاهد بشكل أشبه بالتنويم المغناطيسي بمُجرد ما تبدأ
كاميرته في الحركة، نوع من التنويم الساحر، حيث نرى العالم ضبابيا، مُظلما، مُجردا
تماما وكأنه على وشك الانتهاء الآن، تتكاتف عليه كل عوامل الطبيعة في مُؤامرة
كونية قاسية من أجل تدميره وإرساله إلى العدم- فلقد تخلى الله عنه، ولم يعد يهتم
به!
يستعين تار بأداة أخرى من أجل السيطرة على المُشاهد، وهي المُوسيقى التصويرية القادرة على القضاء على أي مقاومة، وبالتالي يصبح المُتلقي لفيلمه مُستسلما تماما، طيّعا أمام المُخرج الذي يتلاعب به بمهارة، بينما تشعر في قرارة نفسك بالمُتعة بما يفعله بك- رغم قسوته، وساديته أحيانا!
إذن، فتار
هو المُتلاعب الأكبر في تاريخ السينما المجرية، القادر على التلاعب الذهني بأفكارك
ومشاعرك بسهولة من خلال كاميرته البطيئة، الكسولة، المُتفحصة، الناهشة لعالمك
الداخلي بجرأة مُقتحمة لا تعرف بروتوكولات الخصوصية. إنه لا يفعل ذلك بك وحدك، بل
بجميع شخصياته الفيلمية؛ مما يجعل الجميع أمامه مُجرد أدوات صالحة للفحص، والتأمل
السينمائي من أجل مزجها بعالم مُغرق في التفلسف- كما أكدنا آنفا.
نحن هنا-
كمُشاهدين- متورطين تمام التورط في عالمه الكئيب غالبا، الضحل بطبقات من الأوحال
التي تصنعها الطبيعة المُصرة على إغراق العالم بالأمطار طوال الوقت، المُترب غالبا
بسبب العواصف الشديدة، المُظلم جل الوقت- إما لوجود السُحب الكثيفة، أو لأن عالمه
يدور غالبا في الليل.
هل نحن في
عالم كابوسي طويل تُمثله السينما التي يقدمها تار؟
لا يمكن
التبرؤ من حقيقة أن تار يقدم لنا العالم في شكله الكابوسي الأعمق، إنه كابوس لا
يمكن له الانتهاء إلا بنهاية التواجد الإنساني نفسه، مما قد يؤدي إلى التفسير بأن
التواجد الإنساني في حد ذاته مُجرد كابوس يرغب تار طوال الوقت في انتهائه، والتخلص
منه في أقرب فرصة مُمكنة، ومن ثم تتحول أفلامه إلى مجموعة من البروفات،
والسيناريوهات، والمحاولات حول كيفية انتهاء العالم، والقضاء عليه، أي أنه يتخيل
كيفية انتهاء هذا العالم بأكثر من طريقة، وإن كانت جميعها مأساوية، مُغرقة في
السوداوية، لأن البشر لا يستحقون سوى هذه النهاية التي يراها المُخرج في جل ما قام
بصناعته من أفلام.
لكن، كيف يقدم لنا تار هذه السينما المُغرقة في البؤس والكآبة؟
إن تار من
المُخرجين الذين لا تعنيهم القصة السينمائية، أي أنه لا يُقدم لنا قصة/ رواية
بالمعنى المفهوم/ الخطي/ الكلاسيكي لحكاية الحكايات، بل هو يتأمل الحياة اليومية
لشخصياته من خلال موقف وجودي يضعهم فيه، يتناول مقطعا وحيدا من الحياة المُزدحمة ليتفحص
الأفعال الإنسانية، قد تتوقف الكاميرا لدقائق طويلة أمام شخص ما يمشي في الشارع-
مُجرد المشي في الشارع فقط- يتابع تكرارية ردود أفعال البشر أمام الأشياء، إنه
يحدق في طبيعة الأشياء، يتفحصها مُتماهيا مع كاميرته الحية- فلا نعرف الفرق بينه
وبين الكاميرا- يهتم بالتفاصيل التي قد تبدو لنا غير ذات فائدة، ومن ثم يستخرج
منها معانٍ جديدة لم ترد على بالنا من قبل، وبالتالي تكون هذه هي لحظة الكشف
السينمائي/ الفلسفي بالنسبة له ولنا. أي أنه مُخرج يؤمن بأن البُعد الفلسفي
للتواجد الإنساني على الأرض هو الأهم من تقديم الحكاية، بل هو ينظر إلى ما وراء
هذه الحكاية؛ لذا قد تبدو بعض أفلامه أمام المُشاهد العادي مُنغلقة تماما على
ذاتها، لا تكشف عن نفسها، ولا تقدم لنا مدلولاتها، لكنه يتقصد ذلك؛ فهو لا يمنح
نفسه بسهولة، بل يتركك أمام العديد من التأويلات التي قد تكون أحيانا مُتناقضة،
لكنه يفضل أن تجتهد وحدك من أجل الوصول إلى المعنى الذي يرغبه- أو ترغبه أنت تبعا
لثقافتك وتراكمك المعرفي- ويكتفي بمُساعدتك على منحك المُتعة البصرية من خلال ما
تراه بعدسة كاميرته السحرية التي تلقي بك في عوالم أكثر سحرا، وإن كانت عوالم
شديدة الكآبة والبؤس، فيبدو لنا في النهاية كقائد أوركسترا يقدم لنا عرضا أوبراليا
فريدا في فنيته، ومأساويته أيضا.
من خلال 39 مشهدا سينمائيا فقط، وفي فترة زمنية بلغت 145 دقيقة- هي زمن عرض الفيلم- يقدم لنا المُخرج بيلا تار فيلمه Werckmeister Harmonies تناغمات فيركميستر، أو Werckmeister harmóniák حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة المجرية، ليبدأ في التلاعب بذهن المُشاهد مُنذ اللحظة الأولى؛ مما يجعله غير قادر على الاستقرار على معنى دلالي واحد يعبر عنه الفيلم، وبالتالي يفتح أفق الإحالات الرمزية، والتأويلات على مداه- هو لا يعنيه الاستقرار على تأويل واحد بقدر اهتمامه بالتأمل المُتفحص للحالة السينمائية التي يستعرضها من خلال سحر الكاميرا الذي يمارسه.
ربما كان لا بد لنا من التوقف هنيهة هنا أمام العنوان
الذي رأى تار أن يكون عنوانا لفيلمه الجديد، ولعل السبب في التوقف أمام العنوان
يعود في المقام الأول إلى ذكر اسم Werckmeister كمدخل للفيلم[1]،
فمن المعروف أن المُوسيقى الغربية بالكامل تعتمد على نظام التوافقيات الذي وضعه فيركميستر
كأساس للتأليف المُوسيقي، وبما أن تار ابتدع شخصية جيورجي إستر- قام بدروه المُمثل
الألماني Peter Fitz بيتر فيتز- الرجل البرجوازي المُتفرغ للمُوسيقى ونقاش نظام
التوافقيات الذي وضعه فيركميستر فيما قبل، حيث يرى أن نظام فيركميستر المُوسيقي
خاطئ إلى حد ما، حينما اصطدم هذا النظام بمُوسيقى الأجرام السماوية، مما أدى إلى
أن حركات البيانو الموجودة الآن غير صحيحة. نقول: إن وجود شخصية جيورجي وما يبحث
فيه كان ذا أهمية في ربط العنوان بما يفعله، فضلا عن أننا من جانب دلالي آخر يخص مفهوم
السينما التي يقدمها تار يمكن تفسير العنوان باعتبار أنه قد قدم في حقيقة الأمر
سيمفونية أوبرالية تخصه، قد تتنافس إلى حد بعيد مع النظام المُوسيقي الذي وضعه فيركميستر،
ومن ثم اعتمدت عليه فيما بعد- حتى الآن- المُوسيقى الغربية.
يفتتح تار فيلمه- الذي كتبه بالتعاون مع الروائي والسيناريست المجري László Krasznahorkai لازلو كرازناهوركاي، مُعتمدا على رواية كتبها السيناريست المتعاون بعنوان Melancholy of Resistancep حزن المقاومة 1989م- على مشهد طويل- من دون قطع- وصل إلى 11 دقيقة من زمن الفيلم، حيث نرى مجموعة كبيرة من الرجال البسطاء في قرية بسيطة مُنعزلة من قرى المجر مُتجمعين في أحد البارات لتناول الكحوليات- حيث لا يوجد أمامهم أي مُتنفس آخر للحياة سوى البار- فنرى الكاميرا مُحدقة في مدفأة الفحم التي يقوم صاحب البار بإطفائها كإعلان منه لرواد البار على موعد الإغلاق وضرورة انصرافهم، إلا أنهم يلحون عليه في الانتظار قليلا لحين ظهور يانوس فالوسكا- قام بدوره المُمثل والمُوسيقار الألماني Lars Rudolph لارس رودولف- الفتى المحبوب والمعروف في القرية كلها، والذي يعمل كموزع للجرائد كي يشرح لهم بطريقته التمثيلية المُؤثرة الأخبار التي يتم تداولها عن كسوف الشمس الذي هو على وشك الحدوث. وحينما يصل يانوس للبار يلتفون حوله كالأطفال محاولين إزاحة المناضد إلى جانب الجدران كي يفسحوا له المجال من أجل شرح معنى كسوف الشمس.
يصنع يانوس من البار مسرحا قابلا للتمثيل، ومن ثم يقترب من أحدهم ليجعله
يقف في مُنتصف البار، ويخبره بأنه سيكون الشمس قائلا: الشمس لا تتحرك، هذا ما
تفعله. ويجذب آخر إليه ليجعله يقف أمام الرجل/ الشمس قائلا: أنت الأرض، الأرض هنا
كبداية، ثم تتحرك الأرض من حول الشمس، والآن سيكون لدينا تفسير كي يمكن للأشخاص
البُسطاء مثلنا فهم الخلود. كل ما أطلبه هو أن تخطو معي إلى اللاحدود، حيث يسود
الثبات، والهدوء، والسلام، والفراغ اللامُتناهي، وعليك تخيل فقط أنه في هذا الصمت
الرنان اللامُتناهي، في كل مكان يوجد ظلام لا يمكن اختراقه. هنا نختبر فقط الحركة
العامة، في البداية لا نُلاحظ الأحداث التي نشهدها؛ فضوء الشمس الساطع يلقي دائما
حرارته وضوءه على ذلك الجانب من الأرض الذي يتجه نحوها، ونحن نقف هنا في تألقها.
يقوم يانوس بجذب رجل آخر بالقرب من الرجل الذي يمثل الأرض قائلا: هذا هو القمر، القمر يدور حول الأرض، ماذا يحدث؟ نرى فجأة أن قرص القمر على كرة الشمس المُشتعلة، يصنع فجوة، وهذه الثغرة هي الظل المُظلم الذي ينمو أكبر فأكبر، وبينما يغطي أكثر فأكثر ببطء، يبدو لنا فقط هلالا ضيقا، هلالا مُبهرا، وفي اللحظة التالية- لنفترض أنها حوالي الساعة الواحدة ظهرا- يحدث التحول الأكثر دراماتيكية للأحداث، في تلك اللحظة يصبح الهواء باردا فجأة، هل يمكنك أن تشعر بذلك؟ تُظلم السماء، ثم يحل الظلام، وتعوي الكلاب، وتنحني الأرانب، وتركض الغزلان في ذعر، وتركض وتتدافع في خوف، وفي هذا الغسق المروع وغير المفهوم، حتى الطيور أيضا مُرتبكة، وتسرع إلى أعشاشها، ومن ثم صمت تام. كل ما هو حي ساكن، هل ستسير التلال، هل ستسقط علينا السماء؟ هل ستُفتح الأرض من تحتنا؟ لا نعلم، فقد حل علينا كسوف كلي. لكن لا داعي للخوف؛ فالأمر لم ينته بعد لأن القمر يسبح ببطء عبر مجال الشمس المتوهج بعيدا، وتشرق الشمس مرة أخرى، ويأتي الضوء من جديد إلى الأرض ببطء، ويغمر الدفء الأرض مرة أخرى، وتخترق المشاعر العميقة الجميع، لقد نجوا من ثقل الظلام.
مُنذ الوهلة الأولى يُشعرنا بيلا تار بدخولنا إلى عالم أسطوري عميق، عالم يختلط
فيه الجهل بالعلم، الخرافة بالحقيقة، ورغم واقعية المشهد الأول الذي رأيناه-
شكلانيا- إلا أن ثمة شعور قوي بسيطرة الأسطوري إلى حد بعيد؛ فرجال القرية غير
قادرين على فهم الأنباء التي تؤكد لهم على كسوف الشمس- وهو ما يشعرهم بالقلق
والخوف الشديد من كارثة ما غامضة ستحل بهم- والوحيد الذي يقرأ ويهتم بتحصل المعرفة
من بينهم هو يانوس/ موزع الجرائد، وبالتالي فهم جميعا في انتظاره كي يشرح لهم
الأمر المُخيف والمُرعب الذي هو على وشك الحدوث، أي أنهم يتخيلون بأن ثمة كارثة
قادمة، لكنها كارثة لا يفهمونها، وغير قادرين على إدراك فحواها، ساعد تار في إيصال
هذا الإحساس الأسطوري المُوسيقى العذبة التي سيطرت على نهاية المشهد الطويل، والتي
بدت لنا كألحان سماوية تخص حركة الأجرام السماوية، التي شرحها يانوس بينما الجميع
مُندمجين معه في دهشة الاكتشاف الأول للمُوسيقار المجري Mihály Vig ميهالي فيج.
إن انتظار/ توقع حدوث شيء ما
غير مُريح هو الإحساس الجوهري المُسيطر على عالم الفيلم، إحساس يملؤنا كمُشاهدين
بالترقب، إحساس مُسيطر على العالم الفيلمي وجميع الشخصيات الفيلمية، حتى أن كسوف
الشمس هو في جوهره مُعادل موضوعي وفني للظلام/ الكارثة/ الشر الذي سيسطر على
القرية مُنتشرا فيها، مُشعلا إياها. أي أن ثمة حالة انتظار دائمة، ومتوجسة لا
تنتهي في انتظار ما يُحمد عقباه، لكن لا يوجد أحد قادر على إدراك فحوى هذه الكارثة
التي قد تحل بهم.
إذا ما حاولنا العودة إلى المشهد الافتتاحي الطويل لفيلم تار مرة أخرى سنُلاحظ أن تار ماهر تماما في السيطرة على الكاميرا، حيث رأينا الكاميرا التي لم تقطع طوال 11 دقيقة- مازجة بين اللقطات القريبة، والطويلة- موجودة في كل مكان، تُحيط بالجميع، تكاد أن تحتضنهم بحنو، نراها في الأسفل، وفي الأعلى، على المناضد، والمقاعد، فوق رؤوسهم، وأمامهم مُباشرة، أي أنه رغم طول المشاهد لديه فهي مشاهد تتميز بحيوية وهارمونية خاصة تربطها بمكونات الكادر بالكامل- سواء مُمثلين أو أشياء/ ديكورات- وهو ما يُفسر لنا مقدرته على استخدام اللقطات الطويلة جدا، والشديدة البطء، الدالة على التأمل الطويل.
نُشاهد يانوس سائرا وحيدا
ليلا في شوارع القرية الخالية تماما، بينما يسيطر الظلام على كل شيء- والفيلم أيضا
في أغلب مشاهده- وقد بدت لنا من بعيد حاوية عملاقة يجرها جرار زراعي ببطء شديد
تدخل إلى شوارع القرية كظل ضخم مُخيف يكسو المباني بالكامل بالظلام الدامس- ربما
في محاولة أسلوبية من تار في الربط بين الكسوف الكلي للشمس في النهار الذي تحدث
عنه في مشهده الافتتاحي، وبين الكسوف/ الإظلام التام والدامس الذي يحدثه دخول
الحاوية العملاقة إلى شوارع القرية ليلا مما يزيدها إظلاما في شكل أقرب إلى
النبوءة على ما سيحدث فيما بعد- أي أن دخول الحاوية إلى شوارع القرية هنا إنما
ينذر بالكثير من الشر، والخوف، والقلق من شيء ما سيحدث، لكننا غير قادرين على
إدراكه، بل نشعر به فقط، وهو نفس الشعور الذي شعر به يانوس حينما مرت من أمامه
الحاوية التي توقف لتأملها، حيث بدا أمامها كقزم صغير، أو مُجرد جرم سماوي شديد
الضآلة أمام كوكب عملاق يمر من أمامه.
إذن، فتار ماهر في الربط بين
مُفرداته الفيلمية بشكل شديد التلقائية، لا عمدية فيه، مُبتعدا عن المُباشرة
وفجاجتها في إيصال المعنى الفيلمي الذي يرغبه، وسُرعان ما تتوجه الكاميرا مُتأملة
من خلال عيني يانوس لقراءة إعلان مُلصق على أحد الجدران يقول: أكبر حوت عملاق في
العالم، وعجائب الطبيعة الأخرى، ضيف الشرف الأمير.
أي أن الحاوية الضخمة التي دخلت شوارع القرية ليلا ببطء يثير الكثير من القلق، والتوجس، والرهبة، والغموض إنما تحمل في باطنها حوتا ضخما، مُتعفنا للعرض، باعتبار أن الحاوية هي سيرك مُتنقل يعرض الحوت، والأمير المجهول- الذي لم نعرف عنه شيئا، ولم نره طوال الفيلم، وإن كنا رأينا ظله، والأحداث التي ترتبت على وجوده من تدمير للقرية بالكامل، مما أدى إلى تدخل الجيش في نهاية الأمر لإنهاء الفوضى وإعادة الأمور إلى نصابها.
ثمة نبوءة شريرة تحوّم حول
الجميع، تلقي بظلالها على أحداث الفيلم وشخصياته، يشعر بها شخصيات الفيلم غير
قادرين على تحديد فحواها، تسيطر على المُشاهد المُتلاعب به من قبل تار، لكنه غير
قادر بدوره على وضع يده عليها، بل يظل دائما في حال انتظار منوّم حتى موعد حدوث
الكارثة، وهو ما ينجح فيه تار دائما من خلال أفلامه التي يقوم بصناعتها، والتي
تجعلنا دائما في انتظار كارثة ما لا بد لها من الحلول على البشرية التي تمثل
عالمه.
هذا الجو المتوتر، والشعور الدائم بالخطر المجهول يجعل الجميع يتحدثون عن مخاوفهم سرا، غير قادرين على الإفضاء بها بصوت عالٍ، وهو ما رأيناه من عاملة الجرائد التي يستمع إليها يانوس مُتحدثة إلى زميل لها: تأتي المآسي العائلية تباعا، الواحدة تلو الأخرى، الآن، إذا ما سيطرت عائلة على نفسها فإنها ببساطة تختفي، ولا أحد يعرف عنها شيئا. الآن لا تخبرني بأن هذا أمر طبيعي، إجراء عادي، لقد أصبح العالم مجنونا تماما، والآن، ليس هنا في الأسفل، ولكن هناك في الأعلى حيث حدث خطأ ما، ففي نوفمبر قال الراديو: إن درجة الحرارة 17 درجة تحت الصفر، وهناك نقص في الفحم، علاوة على ذلك هناك وصول السيرك، إنهم يجلبون ذلك الحوت الضخم الرهيب، وذلك الأمير الذي يبلغ وزنه عشرة كيلو جرامات، يقولون: إنه محمول بين أذرعهم، لا بد أن يكون كذلك، ولهذا السبب لديه ثلاث عيون. لا أعرف إذا ما كان هذا صحيحا أم لا، يقولون: إنه تم نقله من مدينة إلى أخرى، وإلقاء هذا الخطاب الوحشي المُلحد، لا أحد يعرف على وجه اليقين. حتى أولئك الذين كانوا هناك لا يفهمون ذلك. يقولون: إنه في ساحة السوق في سركاد، عندما كانوا يأتون بالأمير بدأت ساعة الكنيسة تدور- تلك الساعة التي توقفت مُنذ سنوات- وهنا بدأ الأمر من جديد، وسقطت شجرة الحور، وحدث صدع كبير، وخرجت الجذور من الخرسانة، فلا عجب أن الناس خائفون. لا يوجد أحد يجرؤ على مُغادرة المنزل بعد حلول الظلام، إنهم خائفون من التعرض للهجوم، والسطو، والسرقة، والنهب، والطعن، والاغتصاب. يجب أن تحتفظ بكلب، الأمر مُحيّر، يجب أن يكون لديك كلب لهؤلاء الأوغاد. لكن، مرة أخرى، لا يوجد شيء مُقدس، لقد ذهبوا وأسقطوا التماثيل في حدائق الجينديك، وسرقوا شواهد القبور من المقبرة، فهل يمكنك شرح كل هذا بعبارات عادية؟ الأوبئة الغامضة المجهولة موجودة هنا، وجبل كبير مُتجمد من النفايات في كل مكان، والناس يغلقون الباب ويرتجفون خائفين مما سيأتي، ومن المُؤكد أن شيئا ما سيأتي.
إن تار راغب هنا في الإيغال
في بناء عالمه الأسطوري ونسجه بمهارة، ومن خلال ما يتداوله الناس يصبح العالم
الأسطوري مثاليا. إنه ما نراه غالبا على أرض الواقع في القرى، والمناطق التي
يسودها الجهل، حيث تنشأ الأسطورة من قبل الجهل بما يدور من حولنا، ورغم أن الأمير
الذي يتحدث عنه الجميع لم يظهر من خلال الفيلم مرة واحدة، بل رأينا ظله فقط، إلا
أنهم بدأوا ينسجون من حوله الكثير من الأساطير: ذلك الأمير الذي يبلغ وزنه عشرة
كيلو جرامات، يقولون: إنه محمول بين أذرعهم، لا بد أن يكون كذلك، ولهذا السبب لديه
ثلاث عيون. فضلا عن الأحداث الغريبة التي بدأوا يتحدثون عنها لمُجرد وجود السيرك
في القرية، حيث الحوت العملاق، والأمير الغامض الذي لا نعرف عنه أي شيء.
المُتابع لسينما بيلا تار لا بد له من مُلاحظة أنه غالبا ما يقوم بعقد مُقارنات دائمة بين المدينة مُمثلة في العاصمة بودابست- بثقافتها القاسية، الطاحنة، الاستهلاكية، المُدمرة لإنسانية البشر وأحلامهم- وبين عالم القرية- المجهول دائما، المُحاط بالكثير من الأساطير والفقر المُدقع، والخوف من المجهول- رأينا هذه المُقارنة بشكل واضح في فيلمه الروائي الأول Family Nest عش العائلة 1979م، كما رأيناها مرة أخرى في فيلمه الثاني The Outsider اللامُنتمي 1981م، كما كان حريصا في أفلامه التالية على ثلاثيته الواقعية الاجتماعية الأولى على تقديم عالمه السينمائي دائما داخل العديد من القرى المجهولة النائية المُنفصلة عن العالم[2]، أي أننا نستطيع القول: إن تار إنما يأخذ موقفا ضديا باتجاه المدينة دائما، لصالح القرية في السينما التي يقدمها، وهو ما سنراه في كل أفلامه.
إذا ما تأملنا ما قالته عاملة الجرائد في المقطع السابق سنُلاحظ أنها تتحدث عن نقص الفحم، وجبل كبير من النفايات، وإذا ما تابعنا الفيلم المصنوع في عام 2000م سنجد العديد من المُفردات التي كانت قد انتهى عهدها مُنذ فترة طويلة، مثل المراوح للتهوية، واستخدام الهواتف العادية، أي أننا من المُمكن لنا تأويل ذلك ورده إلى المجر التي ما زالت تعاني من الفقر والفاقة، والفوضى التي تركها النظام الشيوعي السابق على الجميع، أي إدانة النظام الشيوعي السابق، ومن جهة أخرى يمكن رد ذلك إلى التعبير عن فقر عالم القرية الذي يعبر عنه تار، والذي يكاد أن يكون مُنفصلا تماما عما يحدث من حوله في العالم، فمع السينما التي يقدمها بيلا تار باب التأويلات مفتوح على مصراعيه، لا سيما أنه غالبا ما يرفض الحديث عن أفلامه، أو تفسيرها- سواء على المستوى المُباشر من خلال الأحاديث الصحفية، أو على المستوى الفني، بمنحك مفتاح فيلمه في نهاية الأمر، بل يترك الأمر للمُشاهد الذي لا بد له من الاجتهاد في تأويله للوصول إلى المعنى الذي يرغب المُخرج في التعبير عنه، بما أنه لا يعنيه في نهاية الأمر سوى تقديم الحالة الفنية الراغب في نقلها من خلال الكاميرا بشكلها المُرضي والمُكتمل فنيا كما يراه هو.
هذه
الأساطير، والأقاويل التي بدأت في الانتشار في كل مكان من أجل تضخيم العالم
الأسطوري الذي يرغبه تار، نراه أيضا في حديث حارس الفندق ليانوس حينما يقول له: هل
رأيتهم؟ فيرد يانوس: لا، من؟ ليقول الحارس مُتقمصا شخصية العارف بكل شيء: أنت لا
تعرف شيئا؟ اسمع، على ما يبدو أنهم قد جاءوا في قطار المساء أمس بسبب الحوت. حسنا،
لا يمكنك أن تعرف أبدا أي شيء على وجه اليقين، يقول البعض: إن هناك ما لا يقل عن
ثلاثمئة منهم، ويقول أشخاص آخرون: إن هناك اثنين منهم فقط في الواقع، ويُقال أيضا:
إن الأمر برمته مُجرد غطاء لأشياء أخرى عندما يأتي الليل، سينقضون على السُكان
المُسالمين. يقولون أيضا: إن الحوت ليس له أي دور في ذلك، وفي اللحظة التالية: إن
الحوت هو سبب كل شيء، الأمر المُؤكد هو أنهم ينهبون بالفعل، لقد كسروا نوافذ متجر
الملابس، ورأى أحدهم ذلك بأم عينيه. فيرد عليه يانوس بهدوء: إذا ما ذهبت من هذا
الطريق سألقي نظرة.
إنه عالم مُغرق تماما في الأساطير التي تنشأ من أقاويل الآخرين، حيث لا يوجد أي شيء مُؤكد سوى مُفردات "يُقال"، "يقولون"، "على ما يبدو"، في حين أنه لا يوجد أي شخص قد رأى أي شيء على أرض الواقع، كما أننا لم نر أي حالات سطو، أو نافذة مكسورة اللهم إلا أقاويل شخصيات الفيلم التي يتم تداولها في الخفاء؛ مما يزيد من خوفهم، وإيمانهم العميق بما يتم تداوله مهما كان غريبا، أي أن القطيع في حالة مُستسلمة تماما لبعضه البعض، ومن ثم تنتشر الخرافات، والأساطير كالنار في الهشيم، مُنتقلة من شخص لآخر، ومن زاوية لأخرى في القرية الصغيرة التي يشعر سُكانها بالكامل بالخوف من اللاشيء، بل هم يخشون أساطيرهم، وأفكارهم التي نسجوها بأنفسهم لمُجرد دخول السيرك الذي يحمل الحوت الضخم- الذي لم يرونه من قبل- إلى قريتهم، وبما أنهم يقفون دائما عاجزين أمام تفسير الأشياء العملاقة، أو الأشياء التي لا تستطيع عقولهم إدراكها- ضخامة الحوت وحجمه يعجزهم عن الإدراك- فهم يبدأون في محاولة التفسير من خلال معارفهم النادرة، ومن هنا تنشأ الأساطير دائما. إن ما يُدلل على عمق الأساطير والحكايات التي يتم تداولها نلحظه في قول حارس الفندق: على ما يبدو أنهم قد جاءوا في قطار المساء أمس بسبب الحوت. في حين أن الحقيقة التي رآها يانوس بالفعل غير ما يتم تداوله، فلقد دخلوا القرية بالحاوية الضخمة من خلال شوارعها، حيث كان يجر الحاوية جرار زراعي بطيء، كذلك قوله: إن هناك ما لا يقل عن ثلاثمئة منهم. في حين أننا لم نر منهم سوى ثلاثة فقط.
إن
تار راغب هنا في مُناقشة كيفية نشأة الأسطورة، وثقافة القطيع التي تؤدي إلى المزيد
من الغوغاء القادرين على تدمير كل شيء من حولهم بغوغائيتهم، واعتمادهم على معارفهم
الأسطورية المُقتنعين بها، والتي يرونها في نهاية الأمر مُجرد حقيقة مُطلقة، ويقين
لا يمكن نقاشه أو نقده، وإلا تعرض من يناقشه للقتل من قبل الغوغاء الذين يؤمنون به.
أي أن الإنسان هو من يصنع لنفسه الشر- الغالب- وبالتالي فهو يستحق تدمير نفسه، أو
حلول كارثة لا بد أن تُنهي وجوده كما يرى تار في جل أفلامه.
تعدد
الأقاويل المتداولة في القرية من حول يانوس، ورغبته في معرفة الحقيقة- فهو يبدو
طوال أحداث الفيلم كمُراقب، مُتفرج فقط على ما يدور من حوله، أي أنه غير مُشارك في
الحدث بقدر مُراقبته الصامتة فقط- تجعله يتوجه إلى ميدان السوق حيث تستقر الحاوية
لرؤية ما يدور، وهناك يرى عددا كبيرا من سُكان القرية من الغوغاء مُتجمهرين من حول
الحاوية، شاعرين بالخوف مما لا يدركونه، راغبين في الرؤية والمُراقبة عن بُعد،
فيتوجه يانوس إلى الرجل الجالس أمام الحاوية ليسأله عن ثمن تذكرة الدخول إلى
الحاوية من أجل رؤية الحوت الضخم، وبالتالي يخبره الرجل برغبته في مئة فورنت
مُقابل الدخول. يدفع يانوس صاغرا ليدخل الحاوية وقد ارتسمت كل آيات الدهشة على
وجهه لرؤية الحوت الضخم ذي الرائحة الكريهة، وحينما يدور من حوله دورة كاملة شديدة
التمهل والتأمل يخرج من الحاوية ليقابله أحد سُكان القرية سائلا إياه: قل لي، ماذا
هناك؟ الناس يتحدثون عن أمير ما. ليقول يانوس: بالتأكيد لا، لقد وصل الحوت
العملاق، هذا المخلوق الغامض من البحر جاء من المُحيطات البعيدة، بالتأكيد عليك
رؤيته أيضا. لكن الرجل يرد: لا أحب ذلك على الإطلاق يانوس. فيقول يانوس: لا حرج في
ذلك، انظر فقط ما هو الحيوان العملاق الذي يستطيع الرب أن يخلقه، وكم هو غامض ذلك
الرب لدرجة أنه يُسلي نفسه بمثل هذه المخلوقات الغريبة. ليقول الرجل: سيؤدي ذلك
إلى المتاعب يانوس.
سنُلاحظ في هذا المشهد مُلاحظتين مُهمتين في العالم الفيلمي لتار، أولها أنه يستعين بالأسطورة الدينية في التوراة التي تؤكد على لعب الله مع الحوت، وهو ما لاحظناه في قول يانوس: كم هو غامض ذلك الرب لدرجة أنه يُسلي نفسه بمثل هذه المخلوقات الغريبة. ورغم أن يانوس غير مُنساق للأساطير التي تنمو من حوله في عالم القرية، ويميل إلى حد ما للعلم، والتجربة، والمُشاهدة بنفسه، إلا أنه يلجأ للأسطورة الدينية في تفسيره للأشياء المُستغلقة عليه، تلك الأسطورة التي لا تختلف كثيرا عن الأساطير التي يختلقها الغوغاء من حوله، والمُلاحظة الثانية أن أهل القرية من الغوغاء يفضلون تداول الحكايات التي يتم نسجها من حولهم على أن يروا ويتأكدوا من الأمور بأنفسهم، وهو ما يجعلهم طوال الوقت أعداء ما يجهلونه، وبالتالي يرون أن كل ما هو مجهول بالنسبة لهم مُجرد خطر مُحدق بهم لا بد له أن يؤدي إلى كارثة حقيقية، لاحظنا ذلك في قول الرجل ليانوس: سيؤدي ذلك إلى المتاعب يانوس.
بالتأكيد
الحوت لا يمتلك أي شيء يستطيع من خلاله تسبيب المتاعب لأهل القرية، لكنهم هم من
يصنعون الخرافات والمتاعب لأنفسهم بالانسياق لها، والخوف مما يجهلونه.
ربما
نُلاحظ هنا أن تار يقوم بصناعة فيلمه بتمهل شديد، غير راغب في تقديم شيء، فالحدث
يكاد أن يكون ثابتا لا يتقدم للأمام- ثبات الزمن، وكثافته، وطبقاته الثقيلة،
ومحاولة الدفع به للأمام هو ما يتميز به المُخرج- وكل ما يهتم به هو مُراقبة
الجميع فيما يفعلونه، إنه يراقب مُتفحصا بتؤدة تؤكد لنا على ثقل الزمن، ورتابته،
وهي الرتابة التي تتشابه تماما مع حياة أهل القرية التي لا يحدث فيها أي شيء جديد،
وإذا ما رأوا جديدا يدخل حياتهم فهم يخشونه، ويبدأون في نسج الأساطير المُدمرة لهم
من حوله.
نعرف أن يانوس هو شاب محبوب في القرية بأكملها، يعيش وحيدا بجوار عمه لايوس صانع الأحذية- قام بدوره المُمثل المجري Alfréd Járay ألفريد جاراي- ويقوم برعاية السيد جيورجي إستر- البرجوزاي صاحب المكانة والاحترام في القرية، والمُنعزل عن الجميع داخل منزله للبحث في الأخطاء المُوسيقية التي اقترفها أندرياس فيركميستر حينما نشر نظامه المُوسيقي الذي اعتمدت عليه المُوسيقى الغربية، والذي تخلي عن زواجه من أجل التفرغ لأبحاثه المُوسيقية.
تظهر توندي- قامت بدورها المُمثلة الألمانية Hanna Schygulla حنا شيجولا- حيث تتجه إلى بيت يانوس حاملة حقيبة ملابس كبيرة، مُخبرة إياه بأنها في مهمة: لقد جئت بشأن عمل مُهم وخطير للغاية، يتعلق الأمر بزوجي السابق، أعلم بأنك قريب منه، وأنك مُخلص له، لقد فعلت كل شيء من أجله أيضا، لا، لم أتمن له الأذى أبدا، لقد قدمت أعظم التضحيات من أجله، لقد انتقلت بناء على طلبه حتى يتمكن من التفرغ لفنه، من خلال ذلك تخليت عن المنصب المُستحق لي في المدينة. الآن جاء دوره، الآن عليه أن يقدم تضحية يسهل فهمها، هل تفهمني يانوس؟ لذلك، بالتعاون مع قائد الشرطة، وبعض الأشخاص ذوي النوايا الطيبة نقوم بتأسيس حركة ستعيد النظام، وتخلق النظافة، ونعمل على توفير الأموال اللازمة، يمكنك أن ترى أن حركة مثل هذه في حاجة إلى رئيس، فرد قوي لديه التأثير على الآخرين، ومُقنع. هو هذه الشخصية، نعم، الآن يمكن طرح احتمالين: أحدهما أن يقبل الرئاسة ويبقى كل شيء كما كان، والثاني هو أن يقول: لا، وبعد ذلك، نعم، وبعد ذلك سأضطر إلى العودة للعيش معه، ولإقناعه بنيتي الجادة سأرسل حقيبتي أمامي، كل أغراضي موجودة. لقد تم إعداد كل شيء، هذه هي القائمة التي تضم جميع الأشخاص ذوي النوايا الطيبة في المدينة، يجب عليه البحث عنهم وكسبهم إلى القضية، فقط عدد قليل من التوقيعات، وبعد ذلك يمكنه الجلوس مرة أخرى على البيانو، ومُداعبة أوتار الآلة المُوسيقية بعيدا. عليك أن تفهم بأنه ليس هناك وقت لتأجيل هذا، إذا لم يجمع كل التوقيعات بحلول الساعة الرابعة بعد ظهر هذا اليوم على أقصى تقدير؛ فسأعود إليه بغض النظر عن مدى صعوبة الأمر بالنسبة لي، من المُستحيل في ذلك الكوخ البائس الذي أعيش فيه تنظيم كل هذا، هل تفهم؟ فقط قل له: إن ما أنتظره منه أن يفعله هو أن يقدم مثالا، وأن يأتي بالمال لهذه الحركة، إذا لم يفعل فسأتناول العشاء معه هذا المساء.
إذن،
فنتيجة لسيادة الفوضى وتجمع الغوغاء في ميدان السوق حيث الشاحنة التي يوجد بداخلها
الحوت، والأمير المجهول الذي ينتظر الغوغاء ظهوره وكأنه إله، أو نبي مُرسل إليهم،
ولإيمانهم بأهمية هذا الأمير المجهول، نشأت حركة سرية ما يتزعمها قائد الشرطة،
وتوندي/ الزوجة السابقة لجيورجي إستر/ نبيل القرية وكبيرها صاحب المكانة، لكن هذه
الحركة لا يمكن لها التقدم من أجل السيطرة على الغوغاء إلا من خلال مُساعدة جيورجي
إستر صاحب النفوذ بإقناعه للنافذين بالانضمام إلى الحركة، بل وتزويد الحركة السرية
بالمال، وبما أن جيورجي إستر راغب في العزلة والتفرغ لأبحاثه المُوسيقية- وهو ما
جعله يتخلى عن حياته الزوجية- فتوندي تستغل هذا الوضع بابتزاز إستر- إما مُساعدتهم
أو تعكير صفو حياته بالعودة إليه مرة أخرى- ورغم أن يانوس حاول إقناعها بكافة
الطرق بأن الوقت غير مُناسب لذلك حيث يعاني جيورجي إستر من المرض، كما أنه في حاجة
إلى الراحة لأنه كان يعمل طوال الليل، إلا أنها تصر على مطالبها مُهددة بالذهاب
إلى بيت جيورجي؛ مما يدفعه إلى الخضوع لرغباتها.
يسرع
يانوس إلى بيت إستر حيث يُقابل زوجه عمه لايوس/ صانع الأحذية، والتي تهتم بدورها
بتنظيف بيت جيورجي إستر؛ فتسأله عن الأساطير والأقاويل التي يتم تداولها في القرية
بخوف: هناك حديث عن أنهم حطموا نوافذ المتاجر وأضرموا النيران في الفندق، وكسروا
رأس الجزار، فلا عجب أن الشخص الصادق لا يجرؤ على الخروج إلى الشارع. لكن يانوس
يطمئنها بأنها تستطيع العودة إلى بيتها من دون أن يؤذيها أحد، وبأن الأمور مُستقرة
في القرية، ولا حقيقة لكل ما يتم تداوله من أقاويل.
يخبر يانوس جيورجي إستر بما قالته العمة توندي، ورغم رفض إستر الانصياع لما ترغبه، إلا أن يانوس يؤكد له بأنها عازمة على فعل ما هددت به بالفعل، وأنها قد أرسلت حقيبة ملابسها معه كدليل على إصرارها في تنفيذ ما قالته، وبالتالي فعليه أن يجمع لها التوقيعات التي ترغبها لتتركه في حياته وتبتعد عنه. يقتنع جيورجي إستر بما طرحه عليه يانوس، ويخرجان معا من أجل جمع التوقيعات التي ترغبها توندي للحركة.
لكن
أهل القرية يقابلون جيورجي مُستنجدين به بما آلت إليه أحوال القرية البائسة من
فوضى شاملة: لا يمكننا الاعتماد على إمدادات الطاقة، المدرسة ومبنى البلدية
مُغلقان بسبب نقص الفحم، مشاكل تدفئة المنازل اتخذت أبعادا فظيعة، لا توجد أدوية،
السفر بالحافلة أو السيارة انتهى، لقد انقطعت الهواتف، ولم تعد هناك إنارة في
الشوارع، وفوق كل ذلك يأتي هذا السيرك مع هذا الحوت والأمير المروعين، مع كلمات
تجديفية تُحرض الناس على الشغب، عندما لا نعرف ما إذا كان العالم سينتهي بحلول
الغد، ونسمح بذلك الكابوس المتنوع مع ذلك الوحش النتن، عندما تكون القرية نفسها
تحت التهديد، من يستطيع أن يفكر في التسلية في هذه الفوضى؟ أود أن ألفت انتباهكم
إلى ضرورة التضامن، فالحس السليم هو الأهم، لا يمكننا أن ننظر بسلبية بينما تحل
علينا الكارثة، والأطفال والأمهات يبكون، والأرض في خطر شديد- لاحظ التفكير
الأسطوري في قولهم: عندما لا نعرف ما إذا كان العالم سينتهي بحلول الغد. أي انهم
يعتقدون بأن الكسوف الكلي للشمس لا بد سوف يؤدي إلى نهاية العالم.
إذن،
فلقد سيطرت الفوضى على كل شيء، وربما كان هذا هو السبب الرئيس في قيام الحركة
السرية/ التنظيم بقيادة توندي، وقائد الشرطة- لا يمكن تبرئتهما من الطمع في
السُلطة والسيطرة الكاملة على القرية- يحاول جيورجي إستر تهدئة الناس، وجمع
التوقيعات كي يرسل يانوس بالقائمة إلى توندي الراغب في التخلص من ابتزازها بتعكير
صفو حياته، والعودة إلى بيته للحياة معه.
حينما يصل يانوس إلى بيت توندي، ويخبرها بانتهاء المهمة التي رغبت فيها قبل موعدها، تخبره بأن الأمر لم يعد يعنيها، وكل ما تطلبه منه هو التوجه إلى ميدان السوق، ومُراقبة ما يحدث فيه بين الغوغاء، وفيم يتحدثون مع بعضهم البعض، ومن يتحدث مع من، ومن ثم عليه العودة إليها بعد ذلك لإخبارها بكل ما رآه. يسعد يانوس بتكليفه بهذه المهمة ليسرع إلى ميدان السوق مُراقبا، ورغم أن عمه لايوس/ صانع الأحذية قابله في ميدان السوق، وحذره من الدخول إليه لأن الأمر قد بات خطيرا، إلا أن يانوس يطمئنه، ويندس بين الغوغاء المُتجمهرين، والذين يتزايد عددهم، وغضبهم، وثورتهم، وخوفهم لحظة بعد أخرى، وقد بدأوا في إشعال النار داخل الميدان.
إن
الجو المُسيطر على المشهد ينذر بالكثير من الشر، فالوجوه شديدة التجهم، والغوغاء
على المحك، كما أن الرجل يخرج من الحاوية ويخبر الغوغاء بأنه نظرا لأسباب تقنية
فإن الأمير لن يظهر لهم هذه الليلة، وعليهم الانتظار حتى الغد، وسُرعان ما يغلق
الحاوية.
يلحظ يانوس أثناء ترجله بالقرب من الحاوية مدخلا سريا إلى داخلها، وبالتالي يتسلل إليها بحذر، ويدور حول الحوت مُتأملا إياه، إلا أنه يصل إلى سمعه حوار غاضب بين رجلين فينصت لما يقولانه: إذا لم يهدئهم فسوف يشتعلون، ثم سيتوقف الأمر برمته مرة أخرى، أخبره بهذا، ترجم له. ليرد عليه الرجل: لماذا؟ كي يمر عبر جمجمته الطفولية التي لا يستطيع الخروج منها؟ ليقول الرجل الأول غاضبا: لن أقف أمام إثارة الرعاع بأكاذيبه، أخبره بأننا انتهينا الآن، وإلى الأبد. يقول الرجل الثاني: لم يرغب أبدا في الذهاب إلى أي مكان، المُخرج هو من يأخذه. ليرد الرجل الأول: أخذته لإظهار نفسه، وليس للإثارة والتحريض، لن أسمح له بالخروج، وأتركه يتكلم، ترجم ذلك. لكن الرجل الثاني يقول: لا فائدة من ذلك، لا يمكن لأحد أن يمنعه مهما فعل. يقول الرجل الأول: لن أؤيد قيامه بتمزيق المدينة بهؤلاء اللصوص، أنا لست على استعداد للمُخاطرة بالاسم الجيد للشركة، آخر مرة كانت بالتأكيد هي الأخيرة. يرد الرجل الثاني: مُستحيل، فهو لا يعترف بأي سُلطة عليا، لا شيء من هذا القبيل، في نظر أتباعه هناك هو الأمير، لا يمكن لأي قوة عادية أن تمسك به، لديه قوة مغناطيسية. يقول الرجل الأول بغضب: قوته المغناطيسية هي تشوه، انحراف، مولود غريب الأطوار لا يعرف شيئا عن أي شيء، لقب الأمير الذي منحته إياه كان لأسباب تجارية، أخبره بأني اخترعته. يقول الرجل الثاني: أتباعه ينتظرون في الخارج، وقد بدأ صبرهم ينفد، فهو بالنسبة لهم الأمير. يقول الرجل الأول: لقد تم طرده. ليرد الرجل الثاني: حسنا، من الآن سيسعى للاستقلال وسيأخذني معه، سأفعل ما يريد لأنه يعني المال، أنت فقير، الأمير بالنسبة لك يعني المال. يرد الرجل الأول بلين: لِمَ لا نحاول ترتيب شيء ما؟ أخبره بأني سأسمح له بالخروج بشرط ألا يفتح فمه، ولا حتى بكلمة واحدة، أن يصمت كالقبر، أخبره بذلك.
إذن،
ومن خلال الحوار السابق بين الرجلين- ثمة مُؤامرة تحدث بين رجال السيرك من أجل
تدمير القرية والسيطرة عليها باستخدام قوة الغوغاء والدهماء المتواجدين في الخارج،
والمُؤمنين بالأمير وكأنه نبي مُرسل إليهم، كما نعرف أن هذا الأمير هو شخص تم
تأجيره من الشركة الخاصة بالسيرك، وأطلقوا عليه لقب الأمير، ونسجوا أسطورتهم من
حوله من أجل التكسب فقط، وأنه لا يعرف اللغة المجرية، لكنه تمرد على الشركة،
والمُخرج/ الرجل الأول، وصدق الحالة الأسطورية التي تم نسجها من حوله، وبالتالي
فهو يرغب في السيطرة الكاملة على الغوغاء والقرية أيضا، وهو ما يرفضه المُخرج،
المُمثل الرسمي للشركة المالكة للسيرك. أي أن ثمة حالة تمرد من الرجل المُلقب
بالأمير، ورغبة في الانقلاب والاستيلاء على كل شيء، وهو الانقلاب الذي من شأنه
تدمير القرية باستخدام قوة الدهماء.
يترجم الرجل الثاني اقتراح الرجل الأول/ مُمثل الشركة للأمير الذي يقول بلغته بينما الرجل الثاني يقوم بالترجمة: لا يمكن للمُخرج أن يصنع أي قواعد، فالمُخرج يحصل على المال، والأمير يحصل على أتباعه، لا فائدة من الجدال، الأمير وحده يرى كل شيء، وكل شيء هو مُجرد هراء، في حالة خراب تام، ما بنوه، وما سيبنونه، ما فعلوه، وما سيفعلونه، هو وهم وكذب، تحت الإنشاء، كل شيء نصف مُكتمل فقط، في حالة خراب، إنهم خائفون، ومن يخاف لا يعرف شيئا، المُخرج لا يفهم أن أتباعه ليسوا خائفين ويتفهمونه، أتباعه سيدمرون كل شيء. لكن الرجل الأول يقول: اخبر ذلك للرعاع وليس لي، لن أستمع إلى هذا بعد الآن، سأغسل يدي منه، ولن أتحمل مسؤولية ما يفعله، أنتم أيها السادة من هذه اللحظة فصاعدا أحرار، يمكنكم فعل ما تريدون، إذا ما دمروا القرية، لن يبقى له مكان يذهب إليه بعد فترة، هل يعلم ذلك؟ ليقول الرجل الثاني: أخبره أتباعه أن هناك خيبة أمل في كل شيء، ولا يفهمون السبب، لكن الأمير يعلم جيدا أن السبب هو أن الكل لا شيء، لقد انتهوا، سنسحقهم بغضبنا، ونعاقبهم، سنكون بلا رحمة، لقد أتى اليوم، لن يتبقى شيء، الغضب سيصب على الجميع، فضتهم وذهبهم، لن يستطيعا حمايتهم، سنستولي على منازلهم، ستكون مذبحة، ولن نُظهر أي رحمة.
إذن،
فالأمير الذي نجح في اجتذاب الرعاع من أهل القرية إلى صفه باعتباره رجلا مُقدسا-
ربما بسبب جهلهم وتقديسهم لكل ما هو مجهول وخشيتهم منه/ سيكولوجية الرعاع
والدهماء- راغب في السيطرة على القرية وتدميرها من خلالهم، وبأيديهم، بل هو لا
تأخذه أي رحمة بالجميع في سبيل هذه السيطرة المُدمرة.
لكن،
ألا يذكرنا قول الأمير عن الدهماء، وأهل القرية بذلك الحوار الذي دار بين المرأة
العاملة في غرفة إيداع المعاطف في البار، وبين كارير في فيلم Damnation اللعنة
1988م للمُخرج نفسه؟
هل
نذكر قولها لكارير المُتلصص على بيت حبيبته في انتظار هبوط زوجها من أجل الصعود
إليها حينما قالت له المرأة: هل تعرف العهد القديم أيها الشاب؟ لقد نفخوا في البوق، وأعدوا كل شيء، لن
يذهب أحد إلى الحرب لأن غضبي شمل الجميع. في الخارج يوجد السيف، وفي الداخل الوباء
والجوع، الذين في الريف سيموتون بالسيف، ومن في المدينة سيأكلهم الجوع والطاعون،
فيهرب الهاربون إلى الجبال، يئنون كالحمام، كل واحد بخطاياه، وتضعف الركب كالماء
وينزل عليهم الرعب، يلقون فضتهم في الشوارع، فيكون ذهبهم نجسا، لا تقدر فضتهم
وذهبهم على إنقاذهم يوم غضب الرب، ولا يشبع جوعهم، ولا يملأ بطونهم، لأنهم قد
تعثروا بالخطية، أحوّل وجهي عنهم لأنهم يدنسون مكاني العزيز، وقد امتلأت الأرض
سفكا للدماء، وامتلأت المدينة ظلما، وسأجلب أشرار الأمم ليستولوا على بيوتهم. إذا
ما جاء الرعب سيطلبوا السلام، ولن يكون، يطلبوا رؤيا النبي باطلا، لا يقبلوا
تعليما من الكهنة، ولا مشورة من الشيوخ، أيدي شعب الأرض ترتعد، وأعاملهم حسب
سلوكهم، وبمقاييسهم، أدينهم؛ فيعلمون بأني أنا الرب.
إن ما ذكرته المرأة لكارير في الفيلم السابق من العهد القديم، يكاد أن يتطابق تماما مع ما يقوله الأمير عن أهل القرية، والرعاع المُنتظرين الإشارة منه في الخارج، أي أن ثمة نبوءة تكاد أن تكون أزلية، ومُقدسة تسير كاللعنة في كل عوالم تار، إنها اللعنة التي لا بد لها أن تحل بالجميع في كل أفلامه، النبوءة التي تنهي العالم الفيلمي بالدمار دائما من أجل القضاء على التواجد الإنساني بعدما امتلأ العالم بالشرور- في جل أفلام تار تقريبا تتجلى لنا مثل هذه النبوءة التي تبدو لنا مُقدسة- رأينا هذه النبوءة المُدمرة أيضا للبشرية في فيلمه الأخير The Turin Horse حصان تورينو 2011م حينما ترك الغجر لابنة الحوذي كتابا يشبه الكتاب المُقدس، وقرأت فيه نبوءة تدمير العالم نتيجة لاكتظاظه بالشرور، أي أن تار دائما ما يسوق لنا في أفلامه نبوءة مُقدسة، أو شبه مُقدسة لدمار العالم، وإنهاء التواجد الإنساني الذي لا بد له أن ينتهي بكارثة ما تحل به.
يسرع يانوس بالهروب بعد استماعه للحوار داخل الحاوية، لكن الغوغاء بلغ بهم
الغضب مبلغه- وربما تلقوا الأوامر من الأمير بالهجوم على القرية- ومن ثم بدأوا
يتدافعون بغضب شديد في شوارع القرية مُتجهين إلى المشفى راغبين في تدميره، وتمزيق
كل من فيه من مرضى لا حول لهم ولا قوة.
ربما لا بد لنا من التوقف هنا أمام المشهد الطويل الذي تابعت فيه كاميرا
تار الحشود الهائلة والغاضبة للغوغاء أثناء انطلاقها الغاضب في شوارع القرية
واتجاههم نحو المشفى، فلقد استمر المشهد 4 دقائق كاملة تتابع فيه الكاميرا مجموعة
من الجماهير الضخمة وعلامات الغضب بادية على وجوههم قبل وصولهم إلى المشفى. إن تار
ناجح إلى حد بعيد في التقاط التفاصيل، في استقطار المشهد ببطء وتمهل، وتأمله بروية
حتى آخر قطرة من المعنى الذي يرغب في إيصاله، في التوقف بالزمن ليصبح ذا كثافة غير
مُحتملة مهما كانت المشاعر التي تحيط بالمشهد. إن الكاميرا كانت تدور بينهم،
تتأملهم، تسبقهم، وسُرعان من تتأخر عنهم، تعلو فوقهم، ثم تنخفض، تتناولهم من جميع
زواياهم المُمكنة إلى أن سبقتهم إلى مدخل المشفى في انتظار هجومهم عليه. أي أن
كاميرا تار هنا كانت مُجرد كائن مُراقب، كائن لاهث. الكاميرا هنا هي كائن حي
حقيقي، يتنفس، يراقب، تمتلك عينيّ طفل مُندهش، لذا فهي تتلصص عليهم، تتسلل خفية
خائفة من أمر اكتشاف وجودها، نراها تدور وتختبئ في كل مكان من المُمكن لها أن
تتواجد فيه، تتجول هنا وهناك ببطء وكأنها تتأمل الفوضى التي أعاثوها داخل المشفى،
تشعر بالخوف من القتل أو إمكانية كسرها بعصا أحدهم، تتطلع عليهم من خارج أبواب ونوافذ
الغرف التي يتم تحطيمها خشية الدخول، تحاول دائما ترك مسافة آمنة بينها وبين
الرعاع الغاضبين، تتعقبهم في خطواتهم وتصرفاتهم الوحشية صامتة من دون تدخل، نشعر
بأنفاسها لاهثة مذعورة، تتحسس خطاها بحذر قبل التقدم في أي اتجاه، لكنها أثناء
انسحابهم تستمر في حركتها المُتسللة حتى تصل إلى إحدى الزوايا التي نرى فيها يانوس
مُختبئا، مُرتعدا، لاهثا، مما يؤكد لنا بأن المشهد بالكامل قد يكون قد نُقل لنا من
خلال عينيّ يانوس المُراقب برعب لما يحدث، أي أن الكاميرا هنا وعيني يانوس كانتا
في حالة تماهٍ كامل، ومن ثم نجح المُخرج في التأكيد لنا على أن الكاميرا هنا هي
كائن حي حقيقي. إنها الأسلوبية الخاصة بتار التي تجعل من كاميرته هي الأداة الأولى
للسيطرة على المُشاهد وتنويمه مغناطيسيا.
يحطم الغوغاء كل ما تطوله أيديهم داخل المشفى بغضب شديد، يمزقون الأسرة، ويقلبونها، يضربون المرضى ويقضون عليهم، يحطمون خزانات الأدوية بالكامل، ولم يوقفهم عن هذه الثورة الغاضبة المُدمرة سوى رؤيتهم لرجل شديد التقدم في العمر، شديد الهزال حتى أنه يبدو كهيكل عظمي، واقف في حوض الاستحمام مُرتعدا.
إن رؤية الرعاع للرجل العجوز المُرتعد عاريا في حوض الاستحمام كان هو الشيء
الوحيد الذي جعلهم يتوقفون عن الفوضى التي يقومون بها، ومن ثم بدأوا يتراجعون،
خارجين من المشفى وقد شعروا بالكثير من الخجل، على ما حدث منهم.
يظل يانوس مُختبئا داخل المشفى مُرتعدا، خائفا من الخروج، وقد عثر على كتاب
ما- الكتاب المُقدس، أو النبوءة المُقدسة المُعتادة في أفلام المُخرج- فنشاهده
يقرأ مُرتعدا بينما الكاميرا تجول داخل المشفى مُتأملة للخراب الذي حدث، والذي
يتناسب إلى حد بعيد مع ما يقرأه في الكتاب: فلما هدأ الصخب، قال الأمير: إن ما
بنوه، وما سيبنونه، ما فعلوه، وما سيفعلونه، هو وهم وكذب، ما فكروا فيه، وما
سيفكرون فيه، هو أمر مُثير للسُخرية. يفكرون لأنهم خائفون، ومن يخاف لا يعلم شيئا.
يقول: إنه يحب عندما تنهار الأشياء، يكون هناك بناء في جميع الأنقاض، عاطفة واحدة
للدمار، عنيدة، قاتلة، لم نجد الهدف الحقيقي لبغضنا ويأسنا، فاندفعنا إلى كل ما
صادفنا بغضب أكثر وحشية، دمرنا المحال التجارية، ورمينا ودسنا كل ما كان يتحرك،
وما لا يتحرك، حطمنا النوافذ، والقضبان الحديدية، قلبنا سيارات في الشارع، مزقنا اللوحات
الإرشادية البائسة، دمرنا مركز الهاتف لأننا رأينا النور بداخله، كان هناك فتاتان
في مركز البريد، لم نغادر إلا بعد أن أغشي عليهما وأصبحتا مثل اثنتين من الخرق
البالية، كانت الأيدي مُتشابكة بين الركبتين، ومُنحنية، ومُنزلقة من على الطاولة
المُلطخة بالدماء.
إن الكتاب الذي عثر عليه يانوس، ويقرأ منه هو أشبه بالنبوءة المُعتادة لدى تار، ولعلنا نُلاحظ أنه يقرأ فيه نفس الكلمات التي سبق أن سمعها من الأمير داخل الحاوية، ويُضاف إليها الأحداث التي حدثت من قبل الغوغاء الذين قاموا بتدمير القرية بالكامل، أي أنه من خلال قراءته في هذا الكتاب يحكي لنا ما حدث بعد مُغادرة الغوغاء للمشفى وتدميره.
يخرج يانوس من المشفى/ مخبأه متجولا في شوارع القرية التي تم تدميرها، وهبط
إليها الجيش من أجل حمايتها، وإعادة النظام إليها، ويلاحظ بأن ثمة تضامن بين
الحركة السرية التي أنشأتها العمة توندي مع رئيس الشرطة، وبين قوات الجيش؛ فيسرع
إلى بيته، لكنه يتعثر بجثة عمه لايوس/ صانع الأحذية الذي فتك به الغوغاء أثناء
ثورتهم المُدمرة.
يصل يانوس إلى بيته، وهناك تقابله زوجة عمه يانوس، لتسأله عن العم، مُخبرة
إياه بأنه غائب مُنذ الأمس، ولا بد أنه يدس أنفه فيما يحدث في الميدان، لكنه
يخبرها بأنه لم يره مُنذ ليلة الأمس، فتؤكد له بأن مصيره سيكون هو مصير العم
يانوس، لأنه يحاول دس أنفه مثله فيما لا يعنيه، وبأن قوات الجيش قد جاءت للسؤال
عنه، وأنها رأت اسمه في قائمة طويلة معهم، لكنه يؤكد لها بأنه لم يفعل أي شيء، ولم
يتدخل في الأمور، إلا أنها تنصحه بالهروب لحين استتباب الأمر.
يسرع يانوس بالهروب، مُتخذا من قضبان السكك الحديدية طريقا له- كما نصحته زوجة عمه- لأنها الأقل مُراقبة، لكن إحدى المروحيات تلمحه أثناء هروبه ويتم القبض عليه.
يُصاب يانوس بلوثة عقلية، ويتم إيداعه إحدى المُستشفيات- فلقد رأى أكثر مما
يستوعب عقله- لينتقل تار بكاميرته على مشهده جالسا على فراشه في المشفى، غائبا عن
العالم في وعيه الخاص، بينما تصدر منه أصوات أنين غير مفهومة، تشبه النحيب إلى حد
كبير، وقد جلس إلى جانبه نبيل القرية- جيورجي إستر- قائلا له بحزن عميق: أعيش في
المطبخ الصيفي الآن، لأن تلك المرأة ورئيس الشرطة أخذا على عاتقهما الانتقال للعيش
في منزلي، واستوليا على المكان بأكمله. لكننا سنكون على ما يرام في المطبخ الصيفي
بالخارج، وستكون الأريكة ذات البطانية الخضراء لك. في الجزء العلوي من الخزانة
سأوفر لك بعض المساحة، ويجب تجهيز النوافذ، فالجو بارد، أنا نائم هناك لليوم
الثاني الآن، الحمد لله، هناك لا يمكن سماع أي شيء، صمت تام. لقد أعدت البيانو
الآن مرة أخرى، إنه مثل أي لعبة أخرى يمكنك لعب أي شيء عليه، وإذا ما نفد منا
المال فسيكون الأمر سهلا. أخذت معطفي الرمادي إلى متجر أرجايلين، ووعدني أنه
سيصممه لك، وعندما تخرج سيكون جاهزا، لا شيء مُهم، لا شيء مُهم على الإطلاق، انتبه
لنفسك، سأعود مرة أخرى غدا في الوقت المُعتاد.
يخرج جيورجي إستر حزينا على ما آل إليه الحال بالنسبة ليانوس، ليتجه إلى
ميدان السوق الذي كان شرارة البدء في كل الدمار الذي حل بالقرية حينما دخلته
الحاوية التي تحمل الحوت والأمير. تتأمل الكاميرا من خلال عيني إستر الدمار الذي
حل بالميدان الذي يسبح في الضباب والدخان، بينما الحوت مُلقى على أرض الميدان.
يدور إستر حول جسد الحوت مُتأملا له طويلا لينظر في عين الحوت لفترة ليست
بالقليلة، ثم ينصرف بعيدا عنه، وقد سيطرت على ملامحه مشاعر البؤس والحزن العميق.
ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة للتساؤل: لم اختار المُخرج بيلا تار وجود الحوت في السيرك، ولم كان دخول الحوت إلى القرية مُنذر بالشر، وهو الشر الذي رأيناه في شكل فوضى الرعاع التي حدثت؟
إن بيلا تار يعتمد في جل أفلامه على مجموعة من الرموز والدلالات الدينية-
سواء من العهد القديم أو الجديد- هذه الدلالات الرمزية رأيناها غير مرة في أفلامه من
خلال الكتب المُقدسة، أو شبه المُقدسة التي لا بد لها أن تحتوي على نبوءة الخراب،
ونهاية العالم التي تحدث غالبا في أفلامه، وإذا ما كان الحوت قد تم ذكره في العهد
التوراتي القديم باسم ليفياثان- بمعنى ملتو أو مُنحنٍ- وإذا ما كانت الأساطير قد
ذكرت أن الرب قد خلق ليفياثانين- ذكرا وأنثى- ثم قتل الأنثى مُبررا ذلك بأن تناسل
الليفياثان سيدمر العالم، أي أن الليفياثان في العهد القديم هو رمز الخراب
والتدمير. وإذا ما تأملنا في العهد الجديد سنجد أن الليفياثان هو شيطان، أو وحش
طبيعي مُرتبط بالشيطان، وأنه مُمثل لقوى الفوضى التي سبقت الخلق، كما أن
الليفياثان في الأسطورة هو عدو نظام الخلق، وذبحه الإله الكنعاني بعل، ووفقا لتفسير
القديس توما الإكويني[3]
فإن الليفياثان هو الشيطان الذي يُعاقب أولا من بين الخاطئين. نقول: إذا ما كانت
هذه هي الرموز والإحالات التي تتحدث عن الحوت/ الليفياثان، يصبح اختيار تار للحوت
الذي دخل القرية مع السيرك نبوءة أسطورية/ دينية تعني أن دخول الحوت إلى القرية لا
بد له أن يؤدي إلى سيادة الفوضى فيها، ومن ثم دمارها، أي أن تار حريص على تغليف
الجو الفيلمي بالكامل بالأسطورة، وإشباعه بها، وإغراقه فيها- سواء كانت الأسطورة
الدينية، أو الأسطورة الدنيوية الواقعية.
كما لا يفوتنا أن تار في عالمه الفيلمي غالبا ما يعزله تماما عن العالم الواقعي الخارجي المُحيط، يغلقه تماما على فلسفته الخاصة، أي أنه يسجننا معه داخل الإطار الأسطوري، أو الفلسفي الذي يرغبه، وبالتالي يسهل عليه التلاعب بأذهاننا وعقولنا، ومن ثم الاستسلام الكامل له، فلا عالم آخر خارج هذا العالم الذي ألقانا فيه تار.
إن الفيلم المجري "تناغمات فيركميستر" للمُخرج والسيناريست بيلا
تار رؤية فلسفية/ سينمائية جديدة له عن عالمه الذي يفكر فيه، العالم الذي يرى فيه
أن التواجد الإنساني في حد ذاته خطأ كونيا حدث، ولا بد من انتهائه، أو تصحيحه من
خلال كارثة دموية، أو طبيعية تحل علينا من السماء، وهو هنا يرى أن هذا التواجد
الإنساني الذي كان عن طريق الخطأ هو خطأ فادح؛ فالإنسان بجهله، وشره المُتحكمان
فيه إنما يخلقان منه وحشا قادرا على تدمير كل شيء من حوله، وهو ما رأيناه حيث خلق
الجهل الأسطورة، وهي الأسطورة التي كانت دافعا، ومرجلا للغوغاء من أجل تدمير
أنفسهم، وتدمير كل من يحيطون بهم من بشر آخرين، أي أن دمار البشر هو المصير الذي
لا فكاك منه في نهاية الأمر لدى تار.
محمود الغيطاني
مجلة
"نقد 21".
عدد
يوليو 2025م
[1] Andreas Werckmeister أندرياس فيركميستر، وُلد في 30 نوفمبر 1645م، وتوفي في 26 أكتوبر
1706م، وهو عازف أرغن ألماني، ومُنظر مُوسيقي، ومُلحن من عصر الباروك. كان من
أوائل المُدافعين عن المزاج المتساوي، ومن خلال هذه الدعوة كان له تأثير كبير على
الأساس التوافقي الذي تقوم عليه مُعظم المُوسيقى الغربية اللاحقة.
[2] نستثني من ذلك فيلمه الروائي الطويل الرابع Almanac of Fall روزنامة السقوط 1984م الذي دارت
أحداثه بالكامل داخل شقة مُغلقة، تكاد تكون مُنفصلة تماما عن العالم الخارجي وما
يدور فيه.
[3] Thomas Aquinas توماس الأكويني، وُلد عام 1225م، وتوفي في 7 مارس 1274م، هو راهب
إيطالي، وكاهن دومينيكاني، وفيسلوف، ولاهوتي، وفقيه في التقليد المدرسي من مُقاطعة
Aquino أكينو في مملكة صقلية بإيطاليا.