الثلاثاء، 15 يوليو 2025

فيلسوف أم مُخرج سينمائي؟

المُخرج المجري بيلا تار
حادث صغير وعارض- قد يكون غير ذي معنى على المستوى الشكلي- في حياة المُخرج والسيناريست والمُنتج المجري Béla Tarr بيلا تار أدى إلى تحوّل حياته بالكامل إلى اتجاه آخر لم يكن يرغبه، أو يفكر فيه، أو يحلم به، لكنه اضطره في النهاية إلى أن يحيا حياة لم يسع إليها، وإن كان قد أبدع فيها بشكل لم يكن يتخيله هو، محاولا أن يحيا ما أضحى عالقا فيه باستمتاع ما دام قد علق به في نهاية الأمر، حينما قام عام 1971م، وهو في السادسة عشرة من عمره بصناعة فيلم تسجيلي عن حياة العمال المُؤقتين بعنوان vendémunkások العمال الضيوف، الذي عبر فيه عن الموقف القانوني لهؤلاء العمال، وما يعانون منه، وتحدث عن حقوقهم المُهدرة، وهو الفيلم المفقود الآن.

رغم فقدان الفيلم، ورغم أن تار كان مُراهقا في السادسة عشرة من عمره إلا أن هذا الفيلم قد أدى إلى تحوّل حياته إلى وجهة مُختلفة تماما، وجهة تكاد أن تكون كابوسية بالنسبة له، حينما غضب منه النظام السياسي الحاكم في المجر، لا سيما رئيس الوزراء المجري János Kádár يانوس كادار الذي قام تار بانتقاده ظنا منه- في هذه الفترة المُبكرة من حياته- أنه قادر- من خلال الأفلام- على تغيير مجرى الحياة، وتحويلها إلى الوجهة التي يرى أنها صحيحة؛ فانقلب الأمر عليه في نهاية الأمر؛ مما أدى إلى منعه من دراسة الفلسفة التي يعشقها ويفكر من خلالها حينما رفض النظام السياسي استكمال تار لدراسته، بل وحرمانه أيضا من دراسة السينما بشكلها الأكاديمي في بداية الأمر!

إذن، فثورية تار المُراهقة التي جعلته يظن بأنه قادر على تغيير العالم نحو الأفضل أدت إلى حرمانه من حلمه الأساس- دراسة الفلسفة- لكن، بما أن تار حالم كبير، ومُقاتل أكبر، يتحلى بالمبادئ الثورية اليسارية الديمقراطية- في ذلك الوقت- على الحُكم الشيوعي المجري؛ لم يعنه حرمانه من الدراسة كثيرا رغم تأثير ذلك عليه، ومن ثم واصل التعبير عن المُجتمع من حوله- العمال، والمعوزين، والبؤساء، والمحتاجين، والفقراء واليائسين- من خلال صناعة الأفلام والمزيد منها، وتسجيل حياتهم وتأملها، وعرضها على الغير، وفضح النظام السياسي والاقتصادي والأثر الذي تتركه سياساته على المُجتمع المجري، وهو المُجتمع الذي مال باتجاه التفسخ الكامل بسبب السياسات المجرية.

حاول تار دراسة السينما بشكلها الأكاديمي- مُتخليا في ذلك عن حلمه في دراسة الفلسفة التي يميل إليها، والتي مُنع منها- لكنه لم يستطع أيضا؛ فاستسلم لصناعة الأفلام متوجها إلى ستوديوهات Béla Balázs بيلا بالاز التي كانت تتبنى التجارب السينمائية الشابة والجديدة، مُتبعين في ذلك ما أُطلق عليه أسلوبية Budapest School مدرسة بودابست، وهي الأسلوبية التي تعمل على المزج ما بين الروائي والتسجيلي مما يؤدي إلى الخلط بينهما، وعدم معرفة الخيالي من الوثائقي في الفيلم.

طلب تار من ستوديو Béla Balázs بيلا بالاز صناعة فيلم؛ فمنحوه عشرة آلاف دولار وطلبوا منه أن يقوم بالتجربة، وبالفعل أنجز تار "واقعته" الأولى- صناعة الفيلم- في خمسة أيام فقط، وبمُمثلين غير مُحترفين ليقوم بتقديم فيلمه الروائي الطويل الأول Family Nest عش العائلة 1979م الذي التزم فيه التزاما كبيرا بأسلوبية مدرسة بودابست، حتى أن فيلم "عش العائلة" يُعد هو الفيلم الرسمي في التعبير عن مدرسة Béla Balázs بيلا بالاز- مع ما في الفيلم من خلط كبير بين الروائي والتسجيلي، وغلبة التسجيلي إلى حد كبير على الروائي فيه.

يانوس كادار

إذن، فلم يستسلم تار للظروف التي وجد نفسه فيها، ولم يندب حظه العثر الذي منعه من تحقيق حلمه، بل قام باستبدال الحلم بالتعبير عمن لا يستطيعون التعبير عن كرامتهم الإنسانية- لا سيما أن تار دائما ما يؤكد على أن السينما التي يقوم بصناعتها هي سينما لا يعنيها سوى التعبير عن الكرامة الإنسانية، أي أنها لسان من لا لسان لهم- صحيح أنه قد عبّر عن كرامة الآخرين بالفعل في كل أفلامه، لكننا سنُلاحظ أنه في مرحلته السينمائية الأولى- وهي المرحلة التي التزم فيها بالأسلوبية الواقعية الاجتماعية- كان مُباشرا إلى حد كبير في التعبير عن قضاياه التي يتناولها- وهو الشكل الأنسب إلى مدرسة بودابست.

هذا الأسلوب الذي يمكن وصفه بالمُباشرة الفجة سنراه في ثلاثيته الروائية الواقعية- وهي الأفلام التي تناول فيها ما يعاني منه المُجتمع المجري تحت الحُكم الاشتراكي، محاولا عرض قضاياه، وتفسخه، وانهياره، وانتشار الأمراض الاجتماعية فيه بسبب السياسات الاشتراكية التي يمارسها النظام الشيوعي على المواطنين- المعروفة بثلاثية البروليتاريا Proletarian Trilogy والتي تضم أفلامه الثلاثة الأولى Family Nest عش العائلة 1979م، وThe Outsider اللامُنتمي 1981م، وThe Prefab People أناس سابقو التجهيز 1982م.

لكن تار لم يلتزم بهذه الأسلوبية طوال الوقت- وهو ما كان واضحا من خلال تطور أسلوبيته المتراوحة في الثلاثية فيلم بعد الآخر- وحينما قام بصناعة فيلمه التليفزيوني الوحيد Macbeth ماكبث 1982م لصالح التليفزيون المجري، وهو الفيلم الذي اضطر إليه كي يلتحق بمدرسة السينما، حيث يقول: "عندما ذهبت إلى مدرسة السينما؛ قال أستاذي: إن عليّ إجراء نوع من الفحص، وتصوير شيء لا يناسب أسلوبي، شيء كلاسيكي. كنت أفكر: حسنا، أستطيع أن أمثل ماكبث. لقد كان مُتفاجئا جدا. لكن، على أي حال، لقد فعلت ذلك، وأحببت فعل ذلك حقا. أحببت أن أفعل ذلك لأن نفس هوسي ظهر[1]". نقول إن تار حينما اضطر إلى هذا الفيلم قام بتصويره على لقطتين اثنتين فقط- اللقطة الأولى خمس دقائق من زمن الفيلم، بينما اللقطة الثانية تستمر حتى نهاية الفيلم البالغ طوله 62 دقيقة من دون قطع- أي أن تار قد بدأ يتبع أسلوبية جديدة ومُختلفة عن أسلوبيته الأولى التي عرفناه من خلالها- أسلوبية مدرسة بودابست- فضلا عن أنه كان دائما ما يميل إلى الكادرات الخانقة، القريبة جدا من وجه المُمثل حتى إنه لا يسمح لأي شيء آخر من المُمكن له مُشاركة وجه المُمثل داخل الكادر مما يشعرنا بالكثير من الاختناق.

بوستر فيلم عش العائلة

صحيح أنه استخدم نفس الكادرات الخانقة في فيلمه Macbeth ماكبث كآخر مرة يلجأ فيها لهذه الأسلوبية- حتى لكأن المُمثلين يتنفسون من فم بعضهم البعض- لكنه بدأ يميل بشكل ملحوظ إلى الكادرات الطويلة التي تُشعر المُشاهد بأنها لن تنتهي نتيجة عدم رغبة المُخرج في اللجوء إلى القطع المُونتاجي.

بيلا تار هو عدو المُونتاج الأول في صناعة السينما؛ فهو لا يميل إلى القطع المُونتاجي إلا حينما يجبره شريط/ علبة الكوداك Kodak على القطع، ولولا ذلك لاستمر تار في مشهده من دون قطع:"تار مشهور، أو سيئ السُمعة بسبب اللقطات الطويلة المُذهلة. يستمر عرض Sátántangó تانجو الشيطان لأكثر من سبع ساعات، ويتكون من 150 لقطة فقط، كان يرغب في الحصول عليها لفترة أطول لو استطاع، مُتذمرا من أن حده الوحيد هو طول فيلم Kodak كوداك الذي يمتد إلى 300 متر، أي حوالي 11 دقيقة. وهذا أمر غير عادي للغاية وفقا لمعايير اليوم، فمتوسط مُدة المشاهد الآن لا يتجاوز بضع ثوانٍ؛ مما يجعل مشاهدة أفلامه صعبة[2]"، وهو في هذا يرى أنه يمارس المُونتاج من خلال المشهد الواحد الطويل الذي يستطيع فيه الانتقال والتنويع من اللقطة العامة، إلى المتوسطة، إلى القريبة منوعا في ذلك ما بين اللقطات داخل المشهد الواحد من دون القطع المُونتاجي- فالتنويع ما بين اللقطات في المشهد الواحد بالنسبة له هو شكل من أشكال المُونتاج- أي أنه يمارس مُونتاجه بطريقته الخاصة التي يراها؛ لذا تتميز أفلام تار بأنها أفلام طويلة المشاهد بشكل قد يوحي للمُشاهد بأن المشهد قد تحول إلى مشهد أبدي لا يمكن له الانتهاء.

كما أنه يميل إلى تصوير جل أفلامه باللونين الحياديين- الأبيض والأسود- حيث يرى فيهما جمالية خاصة وخالصة فيها الكثير من التميز على التصوير بالألوان، فهو شديد المهارة في التلاعب بالظلال والإضاءة؛ مما يُكسب الأبيض والأسود سحرهما الخاص في أفلامه؛ حتى إننا حينما نرى فيلما لتار بالألوان نشعر شعورا عميقا بأن ثمة شيئا جماليا ما ناقصا يجعل الفيلم غير مُنتمٍ لتار، وهو ما يبرره المُخرج بأن الألوان في كوداك تكون غير طبيعية، أو غير صادقة، شديدة الإشباع؛ مما يجعله يفضل اللونين الحياديين في التصوير: "عندما غيّرت Kodak كوداك لونها السلبي من السليلويد إلى مادة تعتمد على البوليستر في مُنتصف الثمانينيات؛ اختار تار التوقف عن استخدامه، والتصوير بالأبيض والأسود فقط. أوضح تار: ألوان البوليستر تلك زائفة، الأحمر أحمر للغاية، والأصفر أصفر للغاية، وعندما تقوم بالتدرج تُصاب بالجنون لأنك لا تستطيع العثور على الدراماتورجيا المُناسبة للألوان[3]".

بوستر فيلم اللامُنتمي

في أفلام بيلا تار ثمة فيلسوف هارب من عالم الفلسفة إلى عالم السينما، أو سينمائي يفكر بطريقة فلسفية تتميز بالكثير من الحكمة، والتأمل، والصبر على جميع الكائنات؛ الأمر الذي أكسب حركة الكاميرا لدى تار أسلوبية خاصة يختلف فيها عن غيره من صُناع السينما، ويتميز بها عنهم جميعا؛ فالكاميرا هنا هي كائن حي تشعر، وتفكر، وتتخذ قرارها المُنفرد، وتتأمل، وتتلصص، وتراقب الجميع. كائن مُعتز بذاته، قادرة على الفعل، والرفض، والقبول، كائن حريص على ترك مسافة بينه وبين الشخصيات الفيلمية، حتى لكأن الكاميرا هنا تتحول إلى كائن مُضاف، وشخصية من شخصيات الفيلم القادرة على الأداء تماما كأي مُمثل داخل الحدث الفيلمي.

نتيجة لسيطرة هذا الفكر الفلسفي على بيلا تار- وهو ما حُرم منه- اصطبغت جل أفلامه السينمائية بالصبغة الفلسفية مما جعلنا أمام فيلسوف يُعبر عن أفكاره من خلال الصورة؛ الأمر الذي جعل الكثيرين من صُناع السينما يحترمون ما يقدمه من أفلام، وهو التقدير الذي ساد عالم صناعة السينما تجاه المُخرج، وجعله صاحب تيار سينمائي يحاول الكثيرون اتباعه من حول العالم باعتبار أن تار هو رائد صناعة السينما الفلسفية، فضلا عن السينما البطيئة التي تتميز فيها الكاميرا بالكثير من الكسل، وعدم الرغبة في الحركة بسهولة، بالإضافة إلى التمسك والاعتزاز بالتصوير بالأبيض والأسود.

لكن، رغم الأفكار الفلسفية التي تدور في ذهن تار أثناء صناعته لأفلامه إلا أنها ليست أفلاما جافة- للنُخبة فقط- بل هي أفلام يستطيع مُشاهدتها الجميع- باعتبار أن السينما هي فن شعبي من المُمكن للجميع الإقبال عليها وفهمها- الأمر الذي أكسبها الكثير من الشعبية رغم فرادتها الفكرية التي تميل إليها.

مع استمرار تار في العمل على تجويد أسلوبيته السينمائية الخاصة، والوصول بها إلى الشكل الجمالي المثالي الذي يرغبه- وهو ما نراه بشكل جلي في فيلمه الأخير The Turin Horse حصان تورينو 2011م، فضلا عن غلبة الشكلانية الجمالية على فيلمه قبل الأخير The Man from London الرجل من لندن 2007م- أدى ذلك إلى اطمئنان تار إلى الشكل الجمالي الذي يرغبه، والوصول به إلى الاكتمال، وبما أن الاكتمال لا يحمل في جوهره سوى معنى الموت- لأنه لا يمكن له التقدم للأمام بما أنه قد اكتمل، أي أصبح استاتيكيا بالمفاهيم الفيزيائية- فلقد رأى تار أنه لم يعد لديه الجديد الذي من المُمكن له أن يقدمه؛ ومن ثم فإنه إذا ما استمر في صناعة السينما سيؤدي ذلك إلى تكرار نفسه، وبما أنه يحترم فنه، ويحترم الجمهور الذي يقدم له هذا الفن، وبما أنه غير راغب في التكرار لمُجرد الاستمرار في صناعة المزيد من الأفلام؛ فلقد أعلن تار بعد فيلمه "حصان تورينو" 2011م أنه لم يعد مُخرجا، وأنه قد توقف عن صناعة الأفلام لأنه لم يعد لديه الجديد الذي من المُمكن له أن يقدمه، فلقد اكتمل العالم السينمائي بالنسبة له، وقام بإغلاق الدائرة التي بدأها، وبالتالي فلا بد له من التوقف! ولنتأمل: "في عام 2008م قرر تار وضع حد لمسيرته الإخراجية مع فيلم The Turin Horse حصان تورينو الذي يدور حول نهاية العالم، وبعد عرضه في مهرجان New York Film Festival نيويورك السينمائي عام 2011م، قال للجمهور عبارته الشهيرة: على محمل الجد، هذا هو فيلمي الأخير. صناعة الأفلام هي وظيفة برجوازية لطيفة. أستطيع أن أصنع عشرة، أو خمسة عشر فيلما آخر، يمكنني أن أكرر نفسي، لكني لا أريد ذلك. لا أريد عمل نُسخ فقط لكسب المال. أنا أحترم الجمهور، وأحترم عملي، ولدي شعور بأن العمل قد تم. ليس لدي أي سبب لفعل المزيد، أريد حماية عملي، ومن نفسي أيضا[4]".

بوستر فيلم أناس سابقو التجهيز

إذا ما تأملنا فيلم تار الأخير "حصان تورينو" سيتأكد لنا أن العالم الفلسفي، السينمائي، الجمالي والأسلوبي، وحتى الأيديولوجي منه قد اكتمل بالفعل؛ فلقد حرص تار من خلال هذا الفيلم على إغلاق العالم، وإنهائه بتقديم قصة تقترب كثيرا من سفر التكوين بشكلها المعكوس، وإذا ما كان سفر التكوين يصور لنا كيفية خلق العالم في سبعة أيام، فتار يقدم لنا في هذا الفيلم سفره الخاص، أي كيفية زوال العالم في سبعة أيام، وبالتالي يكون تار قد أنهى العالم الجمالي والفلسفي في فيلمه التاسع بعد "الواقعة"- أي واقعة صناعة السينما بعد فيلمه الأول "عش العائلة" 1979م.

إن السينما التي يقدمها لنا بيلا تار ليست مُجرد سينما ترفيهية- رغم أن السينما قد نشأت في البداية باعتبارها فنا ترفيهيا- لكنها بالنسبة إليه سينما تحمل وجهة نظر، وموقفا من العالم، وأداة من أجل التغيير، والوصول بها إلى عالم أفضل خالٍ من الشرور والمُؤامرات، سينما تعبر عن الكرامة الإنسانية، مُشفقة على البشر وما يعانونه في حياتهم، سينما ترغب لشخصياته الفيلمية في الخلاص من عالم قاسٍ، لكنهم يحاولون الخلاص مما يعانونه وحدهم، من دون أي مُساعدة في عالم من دون إله، خلق العالم ثم تناساه مُنصرفا عنه؛ مما أدى إلى مأزق وجودي لا يمكن الخلاص منه، يشعر بوطأته جميع شخصيات أفلامه، لذا فهم يتحايلون على مأزقهم الوجودي بكل السُبل التي قد تبدو خبيثة أحيانا، إلا أنه الخبث الساذج الذي لا يضر أحدا، فهم لا حيلة لهم في الحياة من أجل الاستمتاع بها، أو الخلاص من بؤسهم، ورغم أنهم يحاولون دائما التغلب على هذا المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه من خلال الإقبال على المزيد من الخمور ومُمارسة الجنس، لكنهم لا يجدون ما يسعدهم في نهاية الأمر، ليظلوا عالقين في مأزقهم الأبدي بعدما تخلى الله عن مسؤوليته تجاههم رغم ارتكابه جرم إيجادهم بإرادته الكاملة!

إذن، ففي عالم تار السينمائي نحن لسنا أمام موقف أخلاقي- فتار ليس أخلاقيا- بل هو موقف فلسفي في المقام الأول، موقف يشعر بوطأة تواجد الإنسان في الحياة، يتأمل العبء الوجودي الضاغط في عالم من دون إله يمكن اللجوء إليه، أو الاستناد عليه- فالكائنات جميعا في فراغ كامل لا معنى له- ومن ثم فعلى كل كائن أن يتحمل مأزقه الوجودي، وعليه أن يتعامل معه بأسلوبيته الخاصة من أجل الخلاص، وهو الخلاص الذي لا يصل إليه أحد في نهاية الأمر.


سينما بيلا تار من السينمات التي لا يمكن التعاطي معها بسهولة، فهي في حاجة إلى مُشاهد خاص، مُشاهد قادر على احتمال مشاهده الطويلة الأبدية، تلاعبه بالوقت الذي لا ينتهي، وهو الوقت الذي يتم تشييئه حتى إنه يكاد أن يجثم على صدور الجميع.

الوقت لدى تار هو كائن مُستقل بذاته، له كثافة وثقل لا يمكن احتمالهما، قادر على تغيير حياة البشر إلى ما هو أسوأ في غالب الأمر، دافع للجنون، صانع لمجموعة من السلوكيات غير الطبيعية بسبب وطأته، لذا فجميع الشخصيات تحت سطوة الوقت القاسي، الراسخ، الثابت، المُتشيئ، الكثيف وكأنه ذو ثقل، تحاول الدفع بالوقت إلى الأمام بكافة الطرق، رغم أنه لا يتحرك بسهولة مع كل محاولاتهم؛ مما يشعرهم بالكثير من الاختناق، والإحباط، الأمر الذي يصيبهم بالجنون ومُمارسة الكثير من الأفعال التافهة التي لا معنى لها، وإعادة تكرارها بشكل أبدي رغم عدم جدواها لمُجرد تمرير الوقت، أو محاولة دفعه للأمام خطوات قليلة؛ لذا فشخصياته الفيلمية في مُعظمها تتناول الكحول طوال الوقت- ربما لنسيان وطأة الوقت- كما أن البارات من أهم مُفردات العالم الفيلمي لدى تار رغم البؤس المُبالغ فيه الذي يحيطها من جميع الجهات، والفقر الشديد.



محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد يوليو 2025م.

 



[1]  للمزيد انظر مُقابلة المُخرج مع R. Emmet Sweeney آر إيميت سويني بعنوان: Interview: Béla Tarr, the Complete Works مُقابلة: بيلا تار، الأعمال الكاملة/ filmlinc.org/ بتاريخ 2 فبراير 2012م.

[2]  للمزيد انظر ما كتبته Rose Mclaren روز ماكلارين بعنوان:  The Peosaic Sublime of Béla Tarrسامية بيلا تار النثرية/ thewhitereview.org/ بتاريخ ديسمبر 2012م.

[3]  للمزيد انظر المقال الذي كتبه Carlos Aguilar كارلوس أجيلار في جريدة لوس أنجلوس تايمز بعنوان Béla Tarr in Hollywood: A film world “enfant terrible” charms L.A. by being himself بيلا تار في هوليوود: عالم سينما "الطفل الرهيب" يسحر لوس أنجلوس بكونه على طبيعته. Latimes.com/ بتاريخ 16 يونيو 2023م.

[4]  للمزيد انظر ما كتبه Michael Guarneri مايكل جوانيريري بعنوان: Fade to Black: Béla Tarr, the Anti- Mystic التلاشي إلى السواد: بيلا تار المُضاد للتصوف/ mubi.com/ بتاريخ 10 مارس 2016م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق