السبت، 19 يوليو 2025

الزرايب: السيرة الملحمية لآل أبي حماقة

هل من المُمكن للكاتب الاستمرار في السرد الروائي، مُنساقا من خلف توليد الحكايات والمواقف إلى ما لا نهاية، ورغم ذلك لا يمكن للمُتلقي أن يُصاب بالفتور، أو الملل، أو ينصرف عن هذا العمل الفني مهما طالت صفحاته، وتعددت أحداثه؟

بالتأكيد هناك العديد من الأعمال الفنية التي لا يمكن الانصراف عن مُتابعتها، واستكمالها حتى النهاية، وهي الأعمال التي قد تكتسب صفة الملحمية، أي الاستمرارية لفترات زمنية طويلة جدا، قد تتناول أجيالا مُختلفة، ولكن شرط عدم فتور المُتلقي هنا يكون رهنا لمقدرة الروائي السردية، والأسلوبية، بل واللغوية أيضا، فضلا عن مهارته في تضفير الأحداث، وابتكار الآليات الفنية، والانتباه الواعي للتفاصيل الدقيقة التي من شأنها أن تخلق لنا صورة كلية للعالم الفني في نهاية الأمر، لأنه لولا هذه التفاصيل الصغيرة في أي عمل فني لما قُدر لهذا العمل أن ينجح، مُكتسبا صفته البانورامية، أو الملحمية التي نتحدث عنها، بمعنى أن هذا العمل الذي نقصده في استمراريته- التي تبدو لنا غير نهائية- في حاجة ماسة إلى روائي لديه من النفس السردي الطويل، وسلاسة اللغة، وثراء التجربة، ما يساعده على اتساع العالم القادر على ابتلاع الشخصيات المُزدحمة، والأحداث المُتلاحقة التي تبدو لنا في نسيج السرد النهائي جزءا أصيلا منها، لا يمكن الاستغناء عنها، وإلا انهار العالم الروائي، أو انتابه النقص الفني الذي يُشعرنا معه بعدم الامتلاء.

لكن، ربما كان علينا الانتباه إلى أن العالم الفني هنا كلما اتسع وتعددت شخصياته وأحداثه كلما كانت السيطرة عليه أصعب؛ لأنه قد يميل باتجاه الترهل، وعدم التماسك، أو حدوث فجوات ما، أو عدم الاهتمام بشخصية من شخصياته في مُقابل شخصية أخرى يتوقف أمامها الروائي طويلا مُوليا إياها المزيد من الاهتمام؛ مما يُشعر القارئ هنا بأن ثمة خلل ينتاب اتزان السرد، وهو ما يؤثر عليه بالكثير من السلب، والفشل في امتلاك العالم الروائي، أو الإحاطة به.

مثل هذه الأعمال الملحمية سبق لنا أن رأيناها لدى العديد من الروائيين الآباء مثل نجيب محفوظ، وغيره من الروائيين الذين كانوا قادرين على خوض العوالم التي تتناول العديد من الأجيال، أي استمرار السرد لفترة زمنية طويلة تبلغ عشرات السنين، وهي الفترات الزمنية الواسعة التي تدور فيها الكثير من الأحداث المُختلفة، سواء على المستوى السياسي، أو التاريخي، أو الاجتماعي، أو الثقافي، بمعنى أن هذا الشكل من الروايات لا يمكن له أن يكون مُنغلقا على ذاته، مُنكفئا، مقطوع الصلة عما يحيط به من أحداث مُتباينة، بل هو شكل من السرد الطيّع، المُتماهي مع التغيرات المُحيطة به، وهي التغيرات التي تؤثر بدروها في الحدث الروائي، وتحولات الشخصيات، أي صعودها وهبوطها، وتقلباتها طوال هذه الفترة الزمنية العريضة.

هذا الشكل السردي، الثري على المستوى التخييلي هو ما نلمحه بوضوح حينما نقرأ رواية "الزرايب" للروائي المصري محمد صاوي، حيث يمتلك صاوي هنا سلاسة في الحكي، ومقدرة على توليد الحكايات المُختلفة التي من شأنها أن  تحوّل سرده إلى شكل من أشكال الهدير المُمتلك لقوة تقدمه بعنفوان نابع من قوته الذاتية المتولدة من مقدرته على امتلاك العالم، فضلا عن ميله باتجاه أنسنة الأشياء/ الجمادات، واستنطاقها، ومن ثم الاستعانة بها كسارد على طول الرواية بدلا من الاستعانة بالشخصيات الروائية نفسها، مما يتيح له التعامل مع العالم الروائي هنا بحرية أكبر- كشاهد خارجي على الأحداث من دون تدخله الشخصي، أو نقل وجهة نظر إحدى الشخصيات، أو الميل باتجاهها- بالإضافة إلى مقدرته على إقناعنا بأن تحوّل الأشياء والجمادات إلى سارد- من المُمكن لها أن تخبرنا بالأحداث- هو أمر طبيعي لا نبو فيه، ولا شطط، ومن ثم لا يمكن لنا في النهاية تخيل الرواية على ألسنة شخصياتها بقدر تقبلنا لتلقيها على ألسنة هذه الجمادات.

إذن، كيف حاول الروائي هنا تقديم مثل هذا العالم الملحمي الذي نتحدث عنه، جاعلا من الأشياء الجامدة أدوات لا غنى عنها للاستمرار في السرد، مُكسبا إياها واقعيتها في نفوسنا، ومن ثم تقبلها بطبيعية؟

يفتتح الروائي روايته هنا بعنوان وحيد- استهلال- بمعنى أنه لن يلجأ إلى العناوين مرة أخرى على طول السرد، بل سيعتمد على الفواصل والأرقام فقط فيما بعد، لنعرف من خلال هذا الاستهلال الشيخ حامد الذي اتخذت وزارة الأوقاف قرارها بنقله إلى زاوية صلاة صغيرة في منطقة اسمها الزرائب، تابعة لمنطقة الخصوص التي تقع على تخوم القاهرة الكبرى، وهي منطقة لا يمكن الحياة فيها لفرط الفوضى، وانتشار الجريمة، والفساد، فنقرأ: "تلقيت اليوم جواب نقلي بوزارة الأوقاف، كنت أعمل في جامع النور بالعباسية، ورأوا بأنني مُناسب لأن أنتقل إلى زاوية صلاة صغيرة في منطقة اسمها الزرائب بالخصوص، لم أسمع عنها من قبل، لكن مُكالمة هاتفية من الشرطة كانت كفيلة أن أفهم الأوضاع بداخلها. بعض الإخباريات تُشير إلى أن الناس لا يعرفون الصلاة، وإن أدوها فتكون باطلة، بعيدون عن الدين، وزادوا تأكيدا أن المنطقة مقام للمُخدرات والدعارة والفساد والمعاصي، وعليّ أن أغيّر وأبدل ما فيها من جحود، وقبلت، مُتعجبين استسلامي؛ إذ أن الأمر عُرض على شيوخ كُثر قبلي"، أي أن الكاتب هنا يبدأ روايته بمهمة مُستحيلة للشيخ الأزهري الذي تم نقله إلى هذه المنطقة، ولعل منطقة مثل هذه، يشيع فيها الكثير من الفساد العبثي لا يمكن في الواقع إصلاحها؛ لأنها هنا تكون أكثر شبها بالثقب الأسود الذي يبتلع كل ما حوله ليحوله إلى جزء من نظامه الخاص، مما يعني هنا أنها عصية تماما على التغيير.     ألا يذكرنا هذا الموقف- إلا حد ما- برواية الروائي الجزائري الطاهر وطار، وروايته "عرس بغل" التي رغب فيها "الحاج كيان"- الذي درس العلوم الشرعية في جامعة الزيتونة- التواجد بين مجموعة من العاهرات في ماخور من أجل هدايتهم إلى الدين الصحيح- اعتمادا على أفكار حسن البنا وكيف أنه يستنهض همم المُسلمين في كل مكان حتى في دور البغاء- فما كان منه إلا أن أصبح جزءا من عالمهم، وانتمى إليهم بدلا من انتمائهن إليه، ومن ثم وقع في عشق معلمة الماخور "العنابية"؟

إنه نفس الموقف تقريبا مع اختلاف أن "كيان" في رواية الطاهر وطار فعل ذلك اقتداء بأفكار حسن البنا، بينما الشيخ حامد هنا كان مُرغما على هذا الأمر نتيجة لقرار نقله، ورغبته في هداية الآخرين واكتساب المزيد من الثواب على هداية الضالين!

لكن، كي نعرف فساد هذه المنطقة التي انتقل إليها الشيخ حامد، ومدى خطورتها، واستحالة النجاح في مهمته التي أوكلت إليه، يلجأ الروائي إلى وصف المكان بمُجرد وصول الشيخ: "دهست أرضها، فتأففت من نسمات الرائحة الكريهة، كأن الأموات يُدفنون على سطحها! فالشوارع مُخضبة بالخراء والصنان والقمامة ومجاري الصرف الصحي، النجاسة والرجس هيمنا عليها، وتلقت أذناي ما يجرحهما ويُغضب الله، قحة، أقذع السباب، وشافت عيناي الرذائل والمناقص، الناس يسيرون كأنهم وحوش، لا تستقيم ظهورهم إثر مُعاقرتهم للمُخدرات، والأسلحة مُلتحمة بمقابضهم، ينتصبون على رؤوس الشوارع ولذع لسانهم يخدش النساء من دون حيطة، يبيعون المُخدرات عيانا"، أي أن المنطقة موبوءة تماما، مما يؤكد على عدم وجود أمل في إصلاحها، وهو ما يعود الشيخ حامد للتأكيد عليه مع طول تأمله لما حوله: "وقفت أتطلع إلى الحياة من حولي بعينين مُترقبتين، شهدت فظائع، رهقا، كُفرا، تدنيا أخلاقيا، اختلالا في الموازين وشجارات، حتى إن واحدا كاد يقتل آخر اختلافا على جرعة مُخدرات، وفكرت في أن المكان يحتاج إلى نبي ليغيره".

بالتأكيد مكان مثل هذا المكان الذي يصفه لنا الروائي من خلال عينيّ الشيخ حامد لا يمكن إصلاحه بأي وسيلة مهما حاولنا فيه. لكن، مع وصول الشيخ إلى زاوية الصلاة التي سيتولى أمرها يُفاجأ بأنها مُغلقة، ولن تُفتح مرة أخرى؛ لأن ثمة رجل قد اشترى البيت الواقعة فيه وسيقوم بتحويلها إلى زريبة للقمامة- أي مكان لجمع القمامة- فيطلب الإذن فقط في جمع الكتب الدينية من داخلها وأخذها، وأثناء انتظاره للموافقة على ذلك يتحدث إليه أحد العجائز مُتسائلا عن سبب وجوده في المنطقة، وحينما يعرف السبب يبدآن في تبادل الأحاديث مما يجرهما إلى حديث العجوز عن عائلة أبي حماقة، وحينما يستفسر منه الشيخ عنها يخبره العجوز بأنهم: "كانوا ناسا صالحين عاشوا هنا من زمن، وسيرتهم الطيبة ما زالت حية بيننا حتى الآن"، ثم يطلب منه مُصاحبته كي يخبره بسيرتهم العطرة، ولكن موافقة صاحب البيت على السماح للشيخ بأخذ الكتب الدينية يجعله ينصرف عن الرجل من أجل دخول الزاوية.

إذا ما تأملنا ما أطلق عليه الروائي هنا "بالاستهلال" يتبيّن لنا أنه كان بمثابة تكؤة سردية يحاول الاستناد إليها من أجل اقتحام عالمه الروائي الذي هو بصدد خوضه، أي أن وجود الشيخ حامد هنا، وانتقاله إلى هذه الزاوية في الزرائب لم يكن أكثر من مُجرد حيلة فنية يستطيع منها الروائي النفاذ إلى العالم الذي يدور في ذهنه، والذي هو بصدد اقتحامه؛ لذلك فهو لن يعود إلى الشيخ حامد مرة أخرى، وسيختفي تماما من السرد الروائي وكأنه لم يُذكر في الرواية من قبل، مما يعني أن كل هذا المقطع كان بمثابة ما نُطلق عليه في السينما Avant Titre مشاهد ما قبل التيترات، وهو المشهد الأوليّ- قبل تيترات الفيلم الأولى- الذي يلجأ إليه المُخرج من أجل اقتحامه لعالمه الفني، ورغم انفصاله جزئيا عن العالم التالي له، إلا أنه ذو صلة وثيقة بالعالم الفني، لا يمكن فصله عنه بشكل كامل في نهاية الأمر باعتباره مُؤسسا له.

إذن، فالكاتب هنا يُدرك جيدا، ويعي ما يقوم به، وهذا الإدراك هو ما ساقه إلى ابتكار شخصية الشيخ حامد الذي سُرعان ما سيذوب من العالم الروائي، ليبدأ الكاتب في ابتكار أدواته السردية الخاصة التي تعينه على بناء العالم بمهارة فنية يتميز فيها الروائي على غيره من الروائيين لو كان قد قُدر لهم امتلاك مثل هذا النسيج الروائي وحاولوا بنائه بطريقتهم الفنية الخاصة.

يبدأ صاوي بعد هذا الاستهلال- المُقدمة الفنية- بتتبع عائلة أبي حماقة التي ذكرها الرجل العجوز للشيخ حامد، وهو في مُغامرته الفنية من أجل تتبع تاريخ هذه العائلة يلجأ إلى الحكي من خلال عصا جاد الله أبو حماقة: "سحماء كفؤاد مالكي، غليظة، قاسية، تخضبت بدماء أبرياء كُثر، أنا عصا جاد الله أبو حماقة، أعينه على الخُطى، فهو سيدي، خليلي، ومكروهي، ولا أميل إليه، لكن شاء المولى أن أكون عكازه، مُعينه على الظلم، وضرب الكلال ممن يزرعون أرضه. عشر سنوات عمري في قبضته، حافري مُدبب، ورأسي ذهبي لامع، مُتشكل كصقر، يظن أنها علامة على القوة. وهل يوجد سمو كهيئته، وعملقته، وهيكله المُفزع، وشاربه المُتحرش بوجهه، الكث، المهيب، المرفوع، المقوس حول فمه البارز أسفل أنفه الأقنى، ونظراته المروعة التي تطل من عينيه العسليتين المحفورتين تحت حاجبين سميكي الشعيرات تُرهب البدن؟ رجل عُتُل، حتى بعد أن شاب فؤاده وقارب على إتمام عقده السبعين".


نُلاحظ هنا أن الروائي إنما اعتمد في تتبع آل أبي حماقة على عصاه المُلازمة ليده، أي أن السرد هنا يعتمد على أنسنة الجمادات، وهي الجمادات التي يكسبها الروائي العديد من المشاعر، فهي تشعر، وتفكر، وتدلو بدلوها في الأحداث المُحيطة بها، وكلما انتهت مهمة أداة من هذه الجمادات- كأداة للسرد- اختفت ليبتكر الكاتب أداة جديدة من شأنها أن تنقل لنا المزيد من الأحداث التي تحدث لهذه العائلة المُمتدة لبدايات القرن العشرين؛ حيث بدأ في مُتابعة آل أبي حماقة من هذه الفترة؛ لذا ستكون أدوات السرد هنا هي عصا جاد الله، وخاتمه المُلازم لإصبعه، والذي سينتقل إلى أكثر من شخصية، وروح صابر حفيد جاد الله- التي تتحدث عن نفسها وعن الجسد الذي يحتويها باعتبارهما اثنين- وزاوية الصلاة الصغيرة في منطقة الزرائب.

يكتب الروائي لبيان أصل أبي حماقة: "في أوائل القرن العشرين، ارتحل جاد الله أبو حماقة إلى أسيوط، مركز منفلوط، كعفريت حط على المكان، رسخ على قطعة أرض، وابتاعها، ثم بنى بيتا فسيحا بحجارة لبنة، سُرعان ما ترمم على الطريقة المدنية ليضحى قصرا ملكيا. تزوج بابنة العمدة بعد أن هز جيبه ونزح بالجنيهات، فلمعت أعين المخبول وسال لعابه، جمع العمالة من الفلاحين، وزرع أرضه بمحاصيل جمة، وعاث في خادميه فسادا وتخريبا بنفوسهم الهشة، كجبروت فرعون وقايين في عصيانه، يبين بهيبة تنحني أشنبة الرجال في حضرتها، "ألم ينطق من أي داهية أتى؟"، هكذا ردد العوام، ولم يعثروا على إجابة حتى تسلل الخبر على لسان أحد خدامه، بعد أن سقطت من فيه- جاد الله- لأحد باشوات مصر الذين يزورونه، فصيته واسع يصل إلى كبراء البلد، وقيل إن أباه "أبو حماقة" كان يتاجر بالعبيد في أسوان. علم جاد الله أن الخبر سُرب، سجن الخادم في الليمان بضعة أيام، ذاق تنكيلا واغتصابا لكرامته المُهانة، ثم نُفي من المركز".

إذن، فالكاتب هنا حريص على رسم شخصيته الرئيسية. الشخصية التي ستتفرع منها العديد من الشخصيات الأخرى؛ بما أن هدفه في هذا العالم الروائي هو مُتابعة هذه العائلة ونسلها لفترة زمنية طويلة مرت بالكثير من الأحداث السياسية والتاريخية في تاريخ مصر الحديث. وهو ما يجعله يصف الظلم والقسوة اللتين يمارسهما جاد الله ببساطة وكأنه يمارس مُفردة طبيعية من مُفردات حياته اليومية؛ لذا حينما يحدث حريق في أحد أجران القمح الخاصة به على سبيل المثال، نراه يأتي بالحارس ليقول: "احكِ ما حدث. مسح الرجل مخاطه ثم تنهد وقال: أحمد بيه عندما كان واقفا معك، كان يشرب سيجارة، ورماها قبل أن تنتهي، أخذتها واحتفظت بها، كنت أريد أن أجربها، بعد رحيله أشعلتها، ووقفت أشربها بالقرب من جرن القمح، لم تعجبني وسعلت، رميتها، نسيت أن جرن القمح خلفي، والله يا حاج لم أره، وتابعت عملي، وفجأة أمسكت النار في المخزن، والمُصحف على عيني لم أره. أحمد بيه هذا صديق الحاج من مصر. ركض الرجل يُقبل قدم الحاج، فسحبه خطاب لاعنا له، ضاربا: يا ابن الكلب كلفتنا أكثر من خمسمئة جنيه اليوم. ثم نظر إلى جاد وأردف: حُكمك يا حاج. تهيأت لأضرب، ذلك قضاؤه، أن تُكسر ذراعاه ورجلاه، التقط جاد نفسا عميقا، ثم قال بهدوء مهيب ناظرا إلى خطاب: اطردهم من الغد، لا أريد أن أرى أي فلاح منهم في أرضي، واحضر لي فلاحين جُددا. لم يُسمع بعد كلامه إلا بكاء وصراخ ولطم على الأوجه وكلمات بخراب البيوت، ونساء يكبشن من الأرض ويُغرقن رؤوسهن، هجم الفلاحون على الحنطور يتذللون، لكنه أشار إلى السائق بالانطلاق فضرب الجواد وحلق".

إن قسوة وظلم جاد الله أبو حماقة هنا يبدوان لنا غير مُحتملين، فالظلم شامل للجميع- من أخطأ، ومن لم يفعل- بينما يمارسهما جاد الله ببساطة وطبيعية وكأنه لم يتخذ أي قرار من شأنه تشريد العشرات من الفلاحين الفقراء غير القادرين على توفير لقمة عيشهم في اللحظة التالية.

هذه القسوة- التي يتعامل بها مع الفلاحين الأجراء لديه- غير قاصرة عليهم فقط، بل هي مُمتدة لتشمل أهل بيته أيضا، بداية من زوجته/ سمنة مرورا بأبنائه الثلاثة- عبد القادر، وخطاب، ونوفل- وزوجاتهم، بل وأبنائهم أيضا! مما يجعل هذا البيت غاصا بالكثير من الحقد- سواء على جاد الحق نفسه، أو بين بعضهم البعض- مما يؤكد على أن البيت في جوهره خرب تماما: "كلٌ في بيت آل أبو حماقة يحمل في نفسه ضغينة وكرها ونفاقا، ولا خير فيها، الحقد يترسخ، والقلوب يجري فيها العتم، والبعض يموج بين الحب والبغض، والتفكك يهتك بحال العائلة، ولا حال تدوم". لذا حينما يجتمع جاد الحق مع أولاده الثلاثة بزوجاتهم وأبنائهم في حضور زوجته، يخبرهم بأنه قد عُرض عليه بأن يكون العمدة بعدما مات حماه، ورغم أن الجميع يتعاملون معه باعتباره العمدة وكبير البلد بالفعل حتى من دون أن يكون عمدة بشكل رسمي، إلا أنه يفكر في الرفض وترشيح ابنه عبد القادر كي يكون عمدة مكانه، ولكن بما أن عبد القادر لديه مُشكلة في النطق وإن كان يستطيع السمع فقط، يسخر أخوه خطاب- الطامع في المال والسُلطة- من الأمر، ليسأل أباه عن كيفية مقدرة عبد القادر في التواصل مع أهل البلد، وحينما يرد الأب بأن لبيبة زوجته هي من ستترجم لهم ما يريده عبد القادر باعتبارها تفهم لغة الإشارة التي يتحدثها؛ تزداد سُخرية خطاب من الأمر باعتبار أن لبيبة في هذه الحالة ستكون هي العمدة.

هذا الحقد المُظلل على الجميع حتى بين الإخوة نُلاحظه حينما يرفض عبد القادر رغبة والده في أن يكون عمدة، ليشير بلغة الإشارة عما يريده، ومن ثم يقوم خطاب بترجمة ما قاله لأبيه: "المجنون يقول لك: إنه لا يريد العُمدية، بل يريد الإحساس بأنه في بيت... سكت، يفكر، ثم نظر إلى لبيبة، وقال: الكلمة الأخيرة تعني دافئا، صح يا زوجة أخي؟ وضحك بصخب. نطر جاد الله خرطوم الشيشة، وبصوت كظيم قال: عنك ما أخذتها، فأنت عبيط كما يقولون. ثم تحامل عليّ ووقف، مشى حتى التصق بعبد القادر، وبوجه مُتنمر نطق: لكن قل لي يا ابن سمنة، أتراني ظالما؟ أحسست بإصابعه تعتصر رأسي، لم أشعر بدواخله وما يجري فيها، لكنني أظن أن بركانا سينفجر، وبدت نظرات عبد القادر بريئة هادئة، واسترسل فيما يقول على سليقته، فنظر إلى لبيبة التي تلفظت بصوت مبحوح: يقول: إنه يحبك، واعذره عن الحديث بسوء. صاح خطاب: يا بنت الكاذبة. حاولت أن تستعطفه بنظراتها، فرفع خطاب عقيرته: يقول لك يا حاج: إنك تفتري على الناس في الغيط، وتفتري علينا في البيت، وإنه يريد أن يعيش في سماحة وحب. رفعني عاليا، ونزل بي على يد عبد القادر الذي كتم أنينا في نفسه، فاحتضنته لبيبة، وظهر على أولاده الغيظ والكره"، مما يعني أن قسوة الأب على الجميع قد أسكنت في قلوبهم الخوف والحقد، فضلا عن أن خطاب يشعر بالحقد على الجميع- سواء كان أبوه أو إخوته وزوجاتهم وأبنائهم- ويرغب في الاستيلاء على كل شيء وحده- المال والسُلطة- بعد موت أبيه، وهو ما لاحظناه في محاولة تأجيج الصراع ما بين جاد الله وابنه عبد القادر حينما حاولت زوجته لبيبة ترجمة غير ما قاله، ولكن خطاب كذبها ليقول لأبيه ما قاله عبد القادر وهو ما أجج الغضب في نفس الأب.

هذا الخبث العميق الذي يتميز به خطاب هو ما يجعله أيضا شاعرا بالسعادة حينما يحتدم الغضب ما بين الأب وأخيهم الأصغر نوفل المتزوج من راقصة في الموالد، حينما يغضب الأب من سلوكياتها، وطريقة ملبسها وحديثها، ولنتأمل: "النظرات تختلف، نظرة غضب من نوفل، تقابلها أخرى باردة من جاد، وخطاب يشتاق ويدعو بأن تشتعل الدينا أكثر؛ فكل شيء يدور لصالحه، فالنار إن التهبت سيكون المُستفيد الأول"، وهو ما يجعل انفعال نوفل الشديد يسمل عين أخيه عبد القادر حينما يقف بينه وبين أبيه، فيدخل إصبع نوفل في عين عبد القادر ويفقدها.

لكن، الأب، جاد الله، ليس بغافل عن النوايا الخبيثة والسوداء التي ترتع داخل ابنه خطاب؛ لذا فهو كثيرا ما يزجره، ويشعر تجاهه بالكثير من القرف البادي في تعامله معه. هذا الخبث يخرج بالفعل لينصب على رؤوس الجميع حينما يمرض الأب، ويقول خطاب للبيبة زوجة عبد القادر أخيه: "صرّ عمنا على أسنانه ونطق: يا لبيبة، هذا البيت بيتي، وأنتم مُجرد ضيوف، كلها أيام وتُلقون في الشارع، فحين تتحدثين مع سيد البيت، عليك أن تكوني حذرة. تلقى نظرات تقزز من يونس وخباس، فالتفت إليهما بخيلاء وقال: عيشوا أيامكم الأخيرة مُعززين مُكرمين، فأنا لا أريد أن يُقال عني: انتظر مرض الأب، ورمى أخاه وأولاده في الشارع، هذا ليس معناه أنكم لن ترحلوا، بل سترحلون، لكن كل شيء بميعاد".

إنه الحقد الدفين الذي نلحظه أيضا مع أخيه عبد القادر: "طوّق عمنا ياقة جلباب أبينا، فبدا أمامه مهيض الجناح، وشرع في الحديث بكره العالم أجمع: لم تُشرّف العائلة يوما، أبوك كان يمشي في الغيط، وأسمع الناس يقولون عنه أبو العبيط، رغم هيبته التي كانت ترهب الناس، وتعلم، لم أرد غيبتك، لم أضربهم كما أفعل، كانت تصلني الكلمات وأسكت، يضحكون عليك عندما تزورنا، وأبوك كان يداري وجهه بعيدا، يشعر بالعار لأنك ابنه، تمنى لو لم ينجبك، يتبرأ منك أمام الباشوات، يخبرهم بأنه أنجب اثنين، وينكر وجودك. في يوم زاره باشا من مصر ورآك فسأله، فرد أبوك بأنك غلبان يعطف عليه، اعلم قدرك، واعرف من أنت في هذا البيت، لم تعمل يوما لتحصل على قوت يومك، تأكل وتشرب أنت وزوجتك وأبناؤك من دون أن توسخ يديك، وأنا من يحمل الطين على رأسه، جهز نفسك أنت وهؤلاء الأوساخ للرحيل من بيتي، ولا تحسب نفسك ستقف في جنازة أبيك، والله لن يحصل".

إذن، فالحقد وانعدام المشاعر يسيطران على خطاب الراغب في وراثة أبيه في كل ما يمتلكه له وحده، وهو ما يعد نفسه له مُنذ فترة ليست بالقصيرة رغم أن أباه يعمل على تهميشه طوال الوقت، ولا يسر إليه بأي أسرار تخص عمله، ولا بقيمة الثروة التي يمتلكها، ولا حتى مكانها. هذا العداء الغريب الذي يكنه خطاب لأخويه ينفجر في وجهيهما، ووجهي زوجتيهما أيضا بمُجرد موت الأب: "ما يُقارب الساعة انقضى، وفد عمنا خطاب وسار بمُباهاة ومعه الخفر، ولج وسط السرادق الذي يُنصب، وانتصب وسط الشارع، خلفه ثلاثون رجلا يحملون الشوم، وخمسة منهم يشدون على بنادق، رمقهم بعلو وقال: احرسوا باب الدار، ولا أحد يدخل. انتبه أبونا وعمنا نوفل لما يرتكبه من حُمق، فوقفوا، وسجع عمنا نوفل: ما خطبك يا خطاب؟ رمقه باشمئزاز: اسكت يا مرة، يا طبال الراقصة. ثم نظر إلى أبينا، وقال: قلت لك: لن تقف في جنازته. فبدت على أبينا الكسرة، رجل منكود، لا حظ له. ثم ولج عمنا خطاب إلى البيت ومعه الرجال الخمسة حاملي البنادق، فانقض عمنا نوفل على الباب محاولا الولوج؛ فزوجه هند بالداخل، طعنه أحد الخفر في بطنه بركبته، فتقهقر وأناخ، انقلب المأتم ذهولا، وانتشر الناس كغبار الخماسين مُشاهدين، والكفوف تضرب أخماسا وأسداسا"، مما يعني أنه بمُجرد موت الأب جاد الله؛ انقلب خطاب مُباشرة حتى قبل انتهاء عزاء الأب، وأظهر وجهه القبيح الكاره لأخوية وزوجتيهما، وأبنائهما، وقرر طردهم من البيت، والاستيلاء على كل ثروة أبيه وحده.

ربما نُلاحظ هنا وعي الروائي بما يقوم به بتؤدة وتمهل في بناء عالمه الروائي وتحريكه؛ فلقد بدأ في تتبع عائلة أبي حماقة مُنذ بدايتها، وقدم لنا العديد من الأحداث في حياة جاد الله وأبنائه، وهو ما استمر فيه قدرا غير هين من السرد في الرواية، وسُرعان ما لجأ إلى موت جاد الله ليحدث الانهيار ما بين الإخوة، ويتم طرد عبد القادر وأبنائه- يونس، وخباس، وحكوم، وصابر، وضاحي، وشربات- ومعهم أمهم لبيبة زوجة عبد القادر، أي أنه يحاول هنا سرد المُقدمات التي ستؤدي بنا بالضرورة إلى النتيجة التي يسعى من خلفها، وهي عزل عائلة عبد القادر بعيدا عن عائلة أبي حماقة بالكامل، ومن ثم مُتابعة عائلة عبد القادر وأولاده بعد رحيلهم عن بيت العائلة، ومن ثم سيتناسى الروائي في هذه الحالة بقية العائلة- خطاب، ونوفل، وأمهما- فهو يرغب في مُتابعة عبد القادر فقط والتغيرات الحادثة لعائلته على مر السنين.

إن مهارة الروائي في استخدام الأشياء كأدوات للسرد داخل الرواية تتبدى لنا مرة أخرى حينما يبدأ السرد على لسان روح صابر ابن عبد القادر أبو حماقة، وهو طفل حفظ القرآن بالكامل، ويعيش في عزلة تامة عمن يحيطون به؛ لأنه يرى فيهم الظلم، ومُمارسة الرذيلة، وهو ما يجعله غير راغب في الاختلاط بهم، وإن كان غير قادر على كراهيتهم أو بغضهم لأنهم في النهاية أهله، والدين يوصينا بالأهل، ومن هنا فضل العزلة عنهم، أي أنه هنا بمثابة المُراقب للأحداث، لا يشترك فيها بشكل مُباشر بالتعاطي معهم، وإن كان يشترك بالمُراقبة الحثيثة، وهو ما جعل الجد يظن بأن صابر به مس من الجن: "وحدنا نقعد، لا نحاور أحدا، ولا ننخرط مع ظلامهم، جحودهم، وفسادهم، وما تحمله نفوسهم من جهامة، نبحث عن النقاء، والهدوء والسكينة، والراحة، لا شيء يشغل بالنا في الدنيا إلا الفناء لأجل الله، ونبغي لو ندخل الجنة، أنا وصابر يساعد بعضنا بعضا، نحن أتقياء، نخاف الله في تصرفاتنا، ونخشى نهاية تعيسة، وعيشة ناكرة، وحياة بائسة، ونعشق الصمت، والتسبيح، والصلاة. وماذا عني؟ أنا روح صابر بن عبد القادر أبو حماقة الأخرس، لا أجد تعريفا آخر يليق بي، عندما سُئل النبي صلوات ربي عليه عن الروح، قال: إن الروح من أمر ربي، فلو سألتني عن نفسي، سأخبرك أنني لا أعرفني، فقط هناك بعض الأشياء تُعظم قوتي، وبعضها الآخر يصفعني"، مما يُدلل على مهارة الروائي في استخدام الأشياء هنا باعتبارها شخصيات روائية شاهدة على ما يدور من حولها، ومُتابعتها، ومن ثم نقلها لنا كقراء لهذا العالم الروائي.


هذه المقدرة على استنطاق الجمادات، يحاول محمد صاوي هنا تأكيد مهارته في استخدامها على طول السرد، وهو ما نراه حينما يلجأ، على سبيل المثال، إلى الحكي على لسان خاتم جاد الله أبو حماقة: "عمري كبير، لم أعد أحسبه، كنت خاتم "أبو حماقة" قبل موته ألف إصبعه البنصر، وقد خلعه جاد الله من يده قبل دفنه، ولفه على بنصره، حتى قُتل جاد وانتشله حكوم، أنا زاهٍ، مصنوع من حجر كريم، يظنني الملبوس بأنني كريم كحجري، ملفوف حولي الجن، كخاتم سليمان، كذبة لكنني صدقتها، فقيمتي لا تُقدر بمال، كان لي مُعجبون في حياة "أبو حماقة"، كانوا يهيمون عند رؤيتهم لحجري، وحين أخذني جاد، الإنجليز كانوا يقدرونني ويحترمونني، فأنا بالنسبة إليهم رمز قوة للرجال العرب، أما للمصريين فينم عن الخشونة، والاعتزاز بالنفس والتفاخر والقوة".

إذن فالكاتب هنا يمتلك من المهارة السردية ما يجعله يسعى طوال الوقت لاتخاذ الأشياء باعتبارها أدوات لتحريك السرد ودفعه إلى الأمام، وهو ما يجعل مثل هذه الجمادات لا غنى عنها طوال العملية السردية؛ فالشخصيات الروائية هنا لا تتحدث، ولا تُساهم في تقدم السرد بقدر ما تتم مُراقبتها من قبل الجمادات التي تقوم بجوهر العملية السردية بأكملها.

نعرف أن أباهم جاد الله أبو حماقة، له علاقات واسعة مع الكثيرين من الأجانب الإنجليز، وأن السبب في هذه العلاقات أنه كان قد اشترى ذات مرة قطعة أرض، ولكن أثناء الحفر يكتشف العمال كنزا أثريا، وحينما يخبرون جاد الله بالأمر، يحثهم على المزيد من الحفر، واعدا إياهم بالكثير من المال، فيتم اكتشاف مقبرة فرعونية، إلا أن جاد الله يقوم بقتل ودفن العمال داخلها، ومن ثم يبدأ في التجارة في الآثار، وتتضخم ثروته، ويدفن في المقبرة مئة وعشرين ألف جنيه، حصيلة تجارته في الآثار، وهي الأموال التي لا يعلم عنها أحد. لكنه ذات ليلة بعدما طرد ابنه نوفل وزوجته من البيت، وبعدما باع قطعة آثار جديدة واستلم مُقابلها ثلاثين ألفا من الجينهات، يتجه إلى بيته، ويدخل غرفته التي لا يدخلها سواه، لكنه يترك بابها مفتوحا، مما يجعل لبيبة التي تمر بالمُصادفة خارج الغرفة ترى الجنيهات، وبما أن عبد القادر وأبنائه يتم التنكيل بهم في البيت من قبل الأب والأخ، وبما أنها تعرف بأن خطاب سيطردهم من البيت، ولن ينالوا أي شيء من ميراثهم بعد موت جاد الله؛ فلقد بدأ الشيطان يتلاعب برأسها من أجل سرقة هذه الحقيبة الغاصة بالأموال، والتي تركها جاد الله تحت فراشه، وأغلق الغرفة عليها. هنا تحاول لبيبة إقناع عبد القادر بسرقة أبيه، لكنه يرفض، إلا أن ازدياد اضطهاد أخيه خطاب له ولأبنائه أثناء مرض الأب جاد الله جعله يرضخ لما ترغبه، وبالفعل ينجحان ذات ليلة في كسر باب الغرفة، وسرقة الحقيبة، ولكن دخول جاد الله عليهما فجأة يجعلها تقوم بخنقه والتخلص منه؛ ويساعدها أبناؤها يونس، وحكوم، وخباس، بحمل جثة الجد إلى الغرفة السُفلية حيث كان يلازمها أثناء مرضه ليبدو الأمر وكأنما مات ميتة طبيعية وهو في فراشه، وبالفعل يقوم خطاب بطرد عبد القادر وأولاده، كما يقوم بطرد أخيه الآخر نوفل، وزوجته.

ربما كان تأمل الطريقة التي يُدير بها الروائي لسرده هنا تؤكد لنا على مهارته في كيفية التخلص من جميع أفراد عائلة أبي حماقة الآخرين لصالح فرع واحد منها- عبد القادر وأولاده وزوجته لبيبة- وهو ما يجعله يتابع جيلا آخر من هذه العائلة، وهي العائلة التي ستسيطر أحداث حياتها، وأفاعيلها على طول السرد حتى نهايته.

إن الظلم البيّن الذي يعشش في عائلة أبي حماقة مُنذ القدم، يتم توارثه بين الأجيال المُختلفة لهذه العائلة؛ فبما أنهم جميعا نشأوا على الظلم، فبالتأكيد سيرونه أمرا طبيعيا من المُمكن مُمارسته ببساطة في أي وقت، وهو ما يجعلهم جميعا غير شاعرين بفداحة ما يقومون به تجاه الآخرين رغم أنه بادٍ على كل من يحيطون بهم، ولعل تأملنا للمشهد عند وفاة جاد الله يؤكد لنا ذلك: "ما أن خرجوا من البيت بالنعش، حتى هجم رجال القرية كلهم يحملونه، ومشى في جنازته ساكنو المركز جميعا. مسيرة مهيبة، كأن الميت أهم ملك في مصر، دبدبة الأرجل تشير إلى جيش يمشي في جنازته، والأصوات تُردد: إنا لله وإنا إليه راجعون. لا إله إلا الله. ما دائم إلا وجه الله. أنتم السابقون ونحن اللاحقون. ومن بين الحديث يتسلل بعضهم مهزوزا: الله يجحمه. الله يحرقه. في جهنم وبئس المصير. كان شيطانا. عند الله تجتمع الخصوم. الفلاحون لم ينسوا مُعاملته القاسية لهم"، فالظلم لا يمكن نسيانه، وأثره لا يزول من النفوس مهما طال الزمن، صحيح أنه قد يُختزن من دون الرغبة في رده، لكنه قد لا يتم اختزانه أيضا، ومن ثم ينفجر المظلوم فيمن ظلمه ليرد له الصاع صاعين، مائلا إلى الكثير من العنف، والبغض، والكراهية.

إذن، فلقد نجح صاوي هنا- بتحريكه للأحداث- في عزل أسرة عبد القادر أبو حماقة بعيدا عن باقي العائلة، وهو في هذا العزل إنما يرغب في مُتابعة هذا الفرع من العائلة وحدهم حتى النهاية- هذا العزل يعطي الكاتب هنا إمكانية روائية أخرى قد تجعله يعود فيما بعد إلى كل من خطاب، ونوفل من أجل مُتابعتهما إذا ما رغب في ذلك، ومن ثم إمكانية ابتكار ثلاثية روائية تتناول التاريخ الدموي لأولاد أبي حماقة، ومصيرهم في الحياة، لا سيما أننا سنعرف فيما بعد أن خطاب قد بات عمدة البلد، مستوليا على كل شيء وحده، بينما نوفل قد انتهت حياته بالغرق في الترعة.

يتابع الروائي فرع عائلة أبي حماقة الذي انسل وحده، في طريقه إلى مصر/ القاهرة بعد الاعتداء القاسي عليهم، وطردهم من بيت العائلة بمُجرد دفن الجد جاد الله الذي قامت لبيبة بخنقه حتى الموت أمام زوجها عبد القادر المغلوب على أمره، وساعدها أبناؤها في التغطية على الجريمة.

تصل العائلة إلى القاهرة، وهناك لا تعرف لبيبة التي أضحت قائدتهم جميعا أين من المُمكن لهم أن يذهبوا؛ فتوجهوا إلى منطقة السيدة زينب، وهناك أستأجرت بدروما أرضيا ليعيشوا فيه، بينما شعرا صابر وروحه التي تروي بالكثير من الغبطة لتواجدهما في رحاب السيدة زينب، مما جعلهما دائمي البقاء بجوار ضريح السيدة، غير راغبين في العودة إلى البيت/ البدروم لعدم مُشاركة العائلة في المال الحرام الذي يعيشون منه، وهو المال الذي سرقته الأم من الجد قبل قتله.

ربما نُلاحظ هنا التناقض الغريب الذي يعيش عليه الكثير من الأفراد في هذه المُجتمعات، وهو التناقض الناشئ عن الجهل، الذي يعيشون فيه؛ فلبيبة/ الأم مُقتنعة تماما بأنها من السهل لها ولغيرها التملص من الجريمة التي قامت بها، وكأنها لم تفعلها لمُجرد أنها ستصلي لله، بمعنى أن الصلاة هنا- تبعا لتفكيرها- من شأنها أن تمحو أي جريمة قد يقوم بها المرء، مهما كانت هذه الجريمة: "فرشت وشاحا في المُقدمة، ووقفت عليه، وبدا علينا جميعا التعجب، ثم لفت، ونظرت إلينا، وقالت: قال لي أبي مرة: حين نرتكب ذنبا، ونطلب من الله أن يُسامحنا، علينا أن نصلي وندعو؛ فيغفر لنا، إن الله غفور رحيم. ثم شرعت في إقامة الصلاة. تلك أول مرة نرى فيها سيدة ترفع الأذان، انتهت، ونطقت: علينا أن نصلي. لا نعلم إن كانت تُهدئ من روع أبينا، أم إن لوثة أصابتها، والذي كاد يُفجر عقلنا أن حكوم توجه ليتبعها، واصطف خلفها، كأنه خاضع لما تقوله أيا كانت نتيجته، ومن ثم قيام خباس الذي التصق بحكوم، ومن بعده أبونا الذي خطا بوجه مُرتخ، وسحب معه ضاحي، وشربات، ووقفوا مُستعدين للصلاة، ثم لحق بهم يونس رياءً وتقربا لأمنا حتى تعطيه نفحة من المال، ومن ثم سلطت ناظريها علينا، فارتعدنا وخفنا، بدت كشيطان، انقبض قلبنا، فانسقنا مُجبرين إلى الصلاة، أرخينا مشيتنا حتى وصلنا، واستوينا في الصف، فزعقت: الله أكبر. واتخذت دور الإمام، وكانت المرة الأولى مُنذ خمسة عشر عاما نرى سيدة تؤم الصلاة برجال، بل المرة الأولى مُنذ نزول الصلاة على الأرض".

هذه الفكرة التي تقتنع بها لبيبة إلى حد اليقين- غفران أي شيء تفعله بمُجرد الصلاة- ساقتها إلى المزيد من الذنوب والجرائم باسم الله الذي دائما ما يغفر لها- كما تظن- لذا نقرأ: "شرعنا نراقبها في صمت آملة أن نقلدها، تُخطئ فتصلي كأن التوبة فقط في الصلاة، ولا تتوب إلى الله توبة نصوحا، وتعود وتُذنب، الناس ينادونها بالحاجة رغم أنها لم تر الكعبة، وتسب الدين علنا، يسألونها عن أمور في الدين فتجيب، وجزء عظيم من إجابتها خطأ، تظهر برداء الدين أمامهم رياءً، وبداخلها إيمان مُهترئ، تصلي، وتكذب، وتنافق، تدعو الله وقت صلاتها، وتنساه في كل أوقاتها، تُساعد الناس حتى لو في الحرام، فيقولون عنها امرأة خير، رغم أعمالها القبيحة، وإن بغضت أحدا تُظهر له حبا كاذبا، وتتلفظ بالخير فيُخلص لها الجل، رغم ذلك إن اعتزمت عقابا لإحداهن تتلظى وتحرقها في سقر، وإن طلب محتاج مالا تُساعده، وحين يرده يكون بفائدة إن تأخر، الربا استأثر بنفسها، ضالة، تخشى على مال قارون من النفاد، ورغم أنها تنطق دائما بالخير، فإن لسانها يملك بذاءة لا حد لها في الضحك، وإن قلب وجهها يكون أسود".


إذن، فلقد تحولت لبيبة- الزوجة الصالحة، والأم الحنون- إلى شيطان حقيقي بعد نجاحها في سرقة الجد وقتله، وهو ما جعلها شديدة السيطرة فيما بعد على جميع أبنائها، الآمرة بما ترغبه هي فقط، المُحركة للجميع، الساخرة من زوجها الذي لا حول له ولا قوة؛ فهي التي تمتلك المال/ الكنز، والجميع في حاجة إليها في نهاية الأمر.

تنجح لبيبة إلى حد كبير في عقد الكثير من العلاقات الاجتماعية في منطقة السيدة زينب، ويتقرب منها الجميع لتصبح ذات مكانة وحظوة في المنطقة، ويشير عليها ابنها يونس أن تفتح مخبزا لصناعة الخبز، لتوافقه، ويصبح هو معلما كبيرا في المخبز، بينما كان ابنها الأقرب إلى قلبها حكوم يغيب كثيرا عن البيت، ونادرا ما يعود ليحل مشاكل الأم، ويعطيها ما تحتاج إليه حتى لو كان مالا، ليغيب مرة أخرى في أماكن لا يعرف عنها أحد شيئا. ولأن المخبز قد أتى بالكثير من المال، طلب منها يونس أن تفتتح ثانٍ، وثالث، ورابع، وراج الأمر، وابتنت لبيبة بيتا من دورين كالقصر، وتزوج يونس من امرأة، وثانية وثالثة، ورابعة، وهو ما جعله يستهلك الكثير من مال أمه، ومن ربح المخابز، كي يستطيع إعالة زوجاته اللاتي أنجبن له، حتى وصل به الأمر إلى أن بدأ في بيع المخابز لشح المال في النهاية، وهو ما أدى إلى إفلاس الأم، بل واختفاء يونس الذي ترك زوجاته وأبنائه بعد انتهاء المال، فضلا عن بيعه للبيت الذي كان يعيش فيه مع زوجاته، ومن ثم ظهر المُشتري راغبا في طردهن منه. ولأن حكوم ذات مرة يفتتح لأمه محلا للبقالة لتتعيش منه بعد نفاد المال، ولأنها بدأت مع خباس في بيع البيرة داخل المحل المواجه لمسجد السيدة زينب؛ فلقد بدأ جميع أهل الحي في تحاشيهم، والابتعاد عنهم، ونبذهم إلى أن اجتمع المعلمين- آباء زوجات يونس- مع بعضهم البعض، ورأوا أن ما قام به يونس هو إهانة لمكانتهم وهيبتهم في المنطقة، وبالتالي اتخذوا قرارهم بطرد لبيبة وأبنائها من المنطقة، ورد الإهانة لهم علنا أمام سُكان جميع أهل الحي: "أفقنا من نومنا على صوت أشياء تُكسر، وصراخ أمنا، وضربات مع تأوهات من أخينا خباس، وصياح غير مفهوم من أبينا، وكان صوت حكوم في المُنتصف يصدح بعنفوان وغضب، ومن ثم يتأوه، خرجنا من غرفتنا لنبصر الهول، نشع العرق من جسدنا، الأربعة المعلمون ينكلون بأهلنا، فامتقع وجهنا، راعتنا نظرتهم، ومعهم أكثر من خمسين رجلا يمسكون شوما، يلوحون بها في كل مكان، ضربوا خباس ودكوا جسده، فكان يصرخ باستغاثة ولا نجدة، وحاول حكوم التصدي لهم، لكنهم كسروا منكبيه، وهدموا ثباته، وأذلوه، وضربوا أبانا الضعيف المسكين وتفلوا عليه، وصفع المعلمون أمنا، وما إن أبصرونا حتى ناولنا أحدهم بشومة على أرجلنا فسقطنا، وسحبونا إلى الشارع، حزقوا بنا وألقونا أرضا كالغثاء، ورغم أن الحي مُكتظ بالناس، فإنهم ظهروا غائمين بسبب الغبرة"، أي أن العائلة ستُهاجر مرة أخرى إلى مكان ثالث، وهي في هجرتها الثانية إنما تُرغم على ذلك، وتتعرض للضرب والإهانة مرة أخرى بعد مرور السنوات على التهجير الأول، والإهانة الأولى؛ مما يجعل حكوم يأخذ أمه وأبيه وإخوته معه إلى منطقة الخصوص البعيدة وسط الأراضي الزراعية، حيث لا يوجد سوى القليل النادر من البيوت المبنية وسط هذه الأراضي، وهناك يدق الباب على أحد البيوت، وحينما يهبط من فيه، يناوله حكوم بعض المال الذي كان مُقابل بيت السيدة زينب، ويخبره بأنه قد اشترى منه البيت، فيوافق الرجل ويأخذ المال ويرحل.

نعرف أن هذا البيت كان لصديق حكوم، وهو لص يهجم على المنازل ويسرق محتوياتها، وقد ساعده حكوم في الكثير من هذه السرقات، كما كانا يستخدمان البيت لتدخين الحشيش، وشرب الكحول، والإتيان بالنساء لمُضاجعتهن، ولأن حكوم والرجل كانا قد سرقا أحد أهل المكان، وهو رجل قعيد، فلقد نفر منهما جميع أهل المنطقة، مُتحاشين إياهم، ومن ثم انتقل هذا الرفض، والنفور من قبل أهل المنطقة إلى عائلة حكوم بالضرورة، ورغب الجميع في مُغادرة هذه العائلة للمنطقة، وعدم العودة إليها مرة أخرى.

هذه الكراهية والنفور اللذين لاحظتهما لبيبة من قِبل أهل المنطقة الجديدة تجاههم جعلاها تُمارس المزيد من شرها، وتطلب من ابنها جلب السلاح من أجل ترسيخ هيبتهم بين الناس، ولأن المرحلة الزمنية كانت تعاني من العدوان الثلاثي على مصر في منطقة القناة، ولأن عبد الناصر قد أعلن بإمداد جميع الناس بالسلاح من أجل المقاومة الشعبية في بورسعيد، فلقد طلبت لبيبة من حكوم التوجه إلى بورسعيد وجلب السلاح لترهيب الناس، وعدم تعرض أي أحد لهم فيما بعد! أي أن الأم هنا إنما تُلقي بابنها في التهلكة لمُجرد امتلاك السلاح، وإرهاب سُكان الخصوص الرافضين لهم: "استطردت: وجمال عبد الناصر يعطي الناس بنادق. ثم صوبت نظرة ثاقبة نحو حكوم وأردفت: ستسافر بورسعيد يا حكوم، وتعود ببندقية، ولن يقدر شخص على النظر إلينا بكره. أي عبث هذا؟ الرجل يوزع على المواطنين الأسلحة للتصدي للأعداء، وأمنا تسعى لأن تمتلك واحدة لترتكب الجرائم؛ فتكلمنا: البلد في حالة حرب، ألا ترين يا لبيبة أن الأفضل أن يُساند بعضنا بعضا، ونكون يدا واحدة، لا أن نتقاتل؟ قامت من مكانها وصرخت في وجهنا: اسكت يا مجنون، لا تتكلم مرة أخرى، ولا تنادني لبيبة. فخفنا من لذع لسانها، واقتربت من حكوم وضمته إلى صدرها: ابني حبيبي، ربنا يحميك، ويخليك لأمك".

إن شر لبيبة الذي أصبح يحركها في كل ما تقوم به جعلها تلقي بابنها الأقرب إلى قلبها في أتون الحرب التي لا يعرف عنها أي شيء، ولا تعنيه، فهؤلاء البشر لا يعرفون ما معني الاحتلال، أو المقاومة، ولا الملكية، ولا الجمهورية، ولا الثورة، هم أناس مُنعزلون تماما عن الكوكب وما يدور فيه، ولا يعنيهم سوى عالمهم الضيق، والخاص جدا الذي يعيشون أحداثه، وبالتالي فهم لا يعلمون شيئا عما يدور خارج هذا العالم، ومن ثم فالحرب التي يسمعون عنها لا يعرفون أنها تخصهم، ولا حتى ما هو سببها، ومن الذي يحارب من، وما هي النتائج المُترتبة على النصر أو الهزيمة. إن لبيبة وأولادها، وكل من يحيطون بهم في الخصوص يبدون في نهاية الأمر وكأنهم على كوكب آخر بعيد تماما عن كوكب الأرض، كوكب يخصهم وحدهم، ولا يشاركهم فيه أحد، لذا يرضخ حكوم لما تطلبه منه أمه: "أقنعته لبيبة بأن نجاتهم في قعر الحرب ببورسعيد، بسرقة بندقية، فيحرسون أنفسهم من كلاب الشوارع، يلبي طلباتها ليس اقتناعا، بل انصياعا وحبا لها، واختار الموت أيسر من جرحها بالرفض".

هذا الشر الجامح يظل يسكنها، غير مُفارق لها حتى بعدما يتقدم بها العمر، وهو ما نلحظه في: "أمنا كبرت، وأصبحت ستا عجوزا، تسب الدين إن غضبت، لسانها بذيء، وتُسبح في أثناء جلوسها وحدها، وإن دخلت قطة منزلها تلقيها من النافذة، وتقسو على أبينا وتنهره، تقبل بأفاعيل حكوم المُحرمة، وتصلي إن ارتكبت ذنبا، ولا تواظب على أداء الصلاة، تميل على عكاز يسندها، وتستبد بالناس إن أبت، تستغل سُلطة ابنها، فبائعة جبن أحضرت لها كيلو، وبعد أن رحلت وزنته فكان أقل، أحضرتها وسلبت كل الجبن خاصتها، وحلفت الست بأن الميزان تلف في ذلك اليوم، لكنها لم ترحمها، وطلبت من حكوم أن يطردها من المنطقة، وهو لا يرفض لها أمرا، والمرأة كانت تصرف على أيتام، ولم يحنو عليها".

يبدو لنا الأمر هنا وكأنما الشر، والقسوة، والتحكم في البشر هو من ميزات هذه العائلة التي تمارسه مُنذ القدم، وتتوارثه معها جيلا بعد جيل؛ فنفس الشر الذي كان يمارسه الجد جاد الله، ومن قبله أبو حماقة الأكبر/ تاجر العبيد، هو ما مارسه الأخ خطاب على إخوته، وهو ما يمارسه الآن حكوم، وأمه على الجميع، أي أن سيرة أبي حماقة هي في جوهرها سيرة الشر المُستطير، والقسوة اللامُتناهية، والفساد، والإفساد المُمارسين على الجميع.

يتابع الكاتب رحلة حكوم إلى بورسعيد تاركا أهله من خلفه في الخصوص، من أجل سرقة سلاح يروع به أهل المنطقة الراغبين في طرد حكوم وأهله منها، وهو في مُتابعته له في هذه الرحلة إنما يتولى السرد الروائي هنا خاتمه المُلاصق له، والذي انتزعه من يد جده جاد الله حينما قتلته أمه، فيسرد لنا الأهوال التي رآها حكوم في بورسعيد وسط المُجاهدين، وتعرضه للقتل أكثر من مرة، وإصابته بالعديد من الإصابات الخطيرة أثناء مواجهته للإنجليز.

إن حكوم هنا لم يكن يعنيه بأي حال من الأحوال الاشتباك مع الإنجليز، أو محاولة طردهم، أو هزيمتهم والقضاء عليهم، فكل ما يرغب فيه هو الحصول على السلاح فقط، لكنه وجد نفسه متورطا في الأمر، وبات عليه قبول أمر من اثنين، إما المُشاركة في المواجهة مع المقاومة الشعبية ضد الإنجليز، أو القتل على يد أحدهم، لأن عدم الاشتباك لن يجعله يخرج حيا من هناك، وبالفعل يقوم بالعديد من العمليات، والاشتباكات إلى أن ينجح في نهاية المطاف في الخروج والعودة إلى الخصوص، لكنه في اللحظة التي عاد فيها إلى أمه وإخوته، كان أهل القرية قد اجتمعوا وأحاطوا بهم، وبدأوا في التنكيل بهم، وضربهم، وتعذيبهم، وتحطيم البيت من أجل إرغامهم على الخروج من المنطقة، لاسيما أن خباس قد أفرط في مُصاحبة نساء المنطقة، ومُمارسة الجنس معهن، حتى المتزوجات منهن، وهو ما أثار جميع أهل القرية على هذا الفساد الذي يمارسه خباس في حقهم جميعا، وبالتالي كانت لحظة عودة حكوم إلى الخصوص هي اللحظة الفارقة التي أنقذت أمه وإخوته من الموت، أو التهجير الثالث، ومن هنا بدأ في فرض سيطرته، وسطوته على الجميع بالقوة، والقهر، والسلاح، والتخويف، والمزيد من القسوة التي مارسها على الجميع من أهل المنطقة الجديدة، ومن ثم بات سيدا للجميع، حاكما لهم، لا يُعصى له أمرا، ولا تُرد له كلمة من أحد!

هنا يبدأ حكوم في بناء امبراطورية الفساد في منطقة الخصوص، وهي امبراطورية لا يمكن لأحد الاقتراب منها، أو محاولة هدمها أو تغييرها، حتى أن الشرطة لم تكن تجرؤ على دخول المنطقة، أو الاعتراض على ما يدور فيها من فساد، وتجارة للمُخدرات، وتجارة للسلاح، ومُمارسة للدعارة، وتفشي القتل بين سُكانها، أو لمن يدخلها من الغرباء، أي أن وجود حكوم على رأس منطق الخصوص هو ورجاله- العربجي، والوحش، والبغل- وغيرهم من المئات الذين رضخوا لسطوته قد حوّل منطقة الخصوص إلى مكان يكاد أن يكون مُنفصلا تماما عن العالم وما يدور فيه، مكان له قانونه الخاص الذي يضعه وينفذه حكوم ورجاله، وهو القانون الذي لا يمكن عصيانه، ومن المُستحيل أن يعترض عليه أحد حتى لو كان من رجال الشرطة.

يحاول الروائي هنا مُتابعة السرد في منطقة الخصوص من خلال استنطاق الخاتم الذي يلبسه حكوم، وروح صابر المُراقبة لما يدور من حولها، فضلا عن استنطاق زاوية الصلاة الوحيدة في المنطقة، وهي الزاوية التي بناها حكوم أسفل البيت الذي يعيش فيه مع أمه وإخوته وأبيه ليتوب فيها كلما ارتكب المزيد من الجرائم: "ألا تتعظون؟! تنكفئ جباهكم على بلاطي ابتغاء الرأفة من الله، كنتم ترابا، طينا، أصوركم الخالق لتذنبوا؟! تجترمون الكبائر في حق مساجده؟! في أنفسكم تخريب، ولا تقدرون على شياطينكم. أنا التي انتصبت على أيديكم، أقربكم من الله، تقدمون طاعتكم له من خلالي، وأكون وجهة للعته والتخلف؟ نجاستكم تخنقني، حتام يتلاعب بكم الخناس".

إن الأمور في امبراطورية حكوم لها منطقها الخاص المُختلف عن منطق الأشياء؛ فالجميع هنا يمارس الفساد، لكنهم جميعا لا ينقطعون عن الصلاة، وعبادة الله، بل إن خباس- الأكثر فسادا على الإطلاق- بات هو إمام الزاوية، وهو من ينصح الناس، وهو من يفتي في شؤون دينهم ودنياهم: "تجري حبات المسبحة في أصابعه، شق الجموع بخيلاء وتباهٍ مثل إمام محرابي، وصلى ركعتين مُتعجلا كقطار يخترق الدنيا هربا من نار الحمم، صعد المنبر وشرع يخطب فيهم، فخرج حديثه مُتخبطا لا يمت للدين بصلة، جاهل لا يفقه شيئا، مخارج الحروف عنده غير صحيحة، ويخلط العامية المصرية بالعربية الفصحى، ويتلفظ بما لا يصح قوله في مسجد، ويهتف الناس خلفه: الله ينور عليك يا شيخ خباس. العته عشش في قلوبهم وتمدد، يحيط بأنفسهم، ويعيشون في غفلة لا يفقهون، ولا يصلون بقلب طاهر ونقي، مُلطخ بالفواحش، فلتحمنا يا رب مما يصنعون".

ما فعله حكوم في منطقة الخصوص جعل منها منطقة نفوذه الأولى، وملكيته التي لا يمكن لأحد أن يتعدى عليها، أي أنه كاد أن يكون مالكها بالكامل، يفعل فيها ما يرغبه، ولو شاء اختفائها من على وجه الأرض لفعل؛ لذا انتشرت فيها كل أنواع الجرائم، والرذائل، والتجارة في السلاح والمُخدرات، والكثير جدا من جرائم القتل، والعنف، فضلا عن أن حكوم قد عقد صفقة مع رجل زار المنطقة ذات مرة- المحلمي أفندي- سعيا من خلالها إلى تحويل المنطقة بالكامل إلى ما أُطلق عليه الزرائب، أي تحويل المنطقة إلى مكان لجمع قمامة العاصمة، والبحث عن هذه القمامة في أي مكان من أجل نقلها إلى الزرائب في الخصوص، وهناك تتم تنقية هذه القمامة، فالزجاج وحده، والبلاستيك وحده، وبقايا الطعام وحدها، والمعادن وحدها، فكل شيء في هذه القمامة له ثمن، وهي بالكامل قابلة لإعادة التدوير، ومن ثم فهي عمل مُربح للجميع، ولحكوم نسبة ثابتة قي مُقابل إدارة الأمر، بينما يأخذ المحلمي أفندي باقي الربح بالكامل ليثرى ثراء فاحشا، بل وأدخل المحلمي أفندي بالاتفاق مع حكوم الخنازير إلى الزرائب من أجل تربيتها على بقايا الأكل التي يجدونها في القمامة، وطلب منهم أن يصنعوا وحلا للخنازير كي يعيشوا فيه: "قال الأخير مُشيرا إلى صفيحة قمامة: تلك الصفيحة بها ذهب، لكنك لا تراه. ثم أشار إلى أحد رجاله، قلبها أرضا وقال: الزجاج والبلاستيك والأكياس تُصنع من جديد، والحديد والألمونيوم والنحاس تدخل في صناعات كثيرة، ولقمة الخبز تلك تأكلها البهائم، كل شيء له قيمة. وطال الحديث، وانتهى باتفاق مُتقن بينهما، وعلمنا اسم الرجل، المحلمي أفندي، رجل أعمال مرموق في البلد، ويريد فتح مشروع في منطقتنا، أطلق عليه الزرائب. أن يبني علب صفيح ضخمة تكون مقلب قمامة"، فإلام أدى هذا الاتفاق بين كل من حكوم والمحلمي؟ أدى إلى: "بسبب المشروع ازدهرت منطقتنا، وأصبحت وجهة لكل باحث عن عمل؛ فنزح إليها عدد كبير من الناس، يشترون أرضا، ويبنون زريبة، أو يعملون عند مالك يبحث عن عامل، فيقعون تحت وطأة قانون حكوم والمحلمي أفندي، ومع الوقت حضر إلى المنطقة عدد كبير من المسيحيين، وعاملهم حكوم بطيبة، إذ أنهم سلكوا طريق العمل في القمامة، واجتهدوا به؛ فبنى لهم كنيسة على طرف المنطقة، وعرضوا عليه شراء الخنازير وتربيتها، لكنه رفض، وترك الأمر لأبي جرجس"، مما يعني أن المنطقة قد ارتضت هذا العمل لها في نهاية الأمر، وباتت هي المركز لمثل هذا الشكل من أشكال التجارة التي يعمل فيها كل من يسكنها: "بعد أن رسخ حكوم الفكرة في عقول الناس، لمّ القمامة بات شغلة من لا شغلة له، كل عيّل يمشي على قدمين يطلع على كارو أبيه، أو أي شيء من العاملين فيها بحثا عن لقمة العيش؛ امتهانا للخشونة وتشبها بالرجال، فلا عمل للقاطنين هنا إلا جمع القمامة"، أي أن حكوم قد حوّل منطقة الخصوص بالكامل هي ومن يحيا فيها إلى مجموعة من الزرائب، وبيوت القصدير التي يعيشون فيها بين القمامة الهائلة التي يصبونها في المكان، فضلا عن المُخدرات، والسلاح، والدعارة.

لذا يصف الروائي المنطقة وما آلت إليه ببراعة تفصيلية قادرة على نقل التفاصيل بمشهدية عالية: "بدأ العمل، يطلع الشباب على كارو، يلمون كناسة القاهرة، يحضرونها، فيعلمهم رجال المحلمي التفريق بين البضاعة الثمينة والبخسة، يخرجون ذهب زبالتهم ويبيعه المحلمي للمصانع والتجار، وينتفع الكل. يهبش حكوم خمسا بالمئة، والباقي يُقسم بالنصف بين مالك الزريبة والمحلمي، ومع الوقت انسدت مواسير الصرف الصحي، فكانت تنفجر كالبراكين وتُخرج جوفها في الطرقات، ورغم أن رائحة الزرائب خراء فائح، فالمجاري نجستها عن بكرة أبيها، أسابيع ويتبخر الماء من أشعة الشمس، ومن ثم يعود، وتجمعت كلاب المناطق المجاورة في منطقتنا لكثرة القمامة والجيف، وتكاثرت، وأصبحت الزرائب بيتها ومنزلها، والفئران نقبت جحورها وعاشت معنا، والقطط، ومن ثم قرر بعض أصحاب الزرائب شراء طيور ودواب وتربيتها، فكنا نسير في الشارع ندهس القرف أنواعا، وتركض أمامنا كل أنواع الحيوانات والطيور، وكانوا يرمون لها الطعام الذي يحصلون عليه في صناديق القمامة، وعلم المحلمي، لكنه لم يغضب، تركهم ينعمون بخيرات ما خلقه لهم".


إذن، فلقد تحولت المنطقة إلى مُستنقع لا يمكن تخيله، ولا يمكن الحياة فيه، وهو ما يوغل الكاتب عميقا في وصفه لنا: "ما يثير اشمئزازنا أننا نبصر الأطفال يعبثون في جثة حمار ليُخرجوا العظم فيبيعوه للتجار ويشحنه المحلمي أفندي للمصانع لصُنع العلف والغراء والشحم، وغيرها من الأشياء، فيعبث الطفل في الدود والهوام والعفن بجثة الدواب، ليجني في النهاية بضعة قروش، وأحيانا يمتهن جمع بذر المانجو ويبيعه، فيُغسل ويُزرع مرة أخرى".

إن إعادة بناء المنطقة وتغييرها تبعا لما يرغبه حكوم في نهاية الأمر، بالتأكيد لم يكن على هوى الجميع، صحيح أن المنطقة باتت جاذبة للخارجين على القانون، والفاسدين، والقتلة، والجميع هنا في حماية حكوم وقانون المنطقة الخاص التي لا يجرؤ أحد على دخولها، ولكن بعض السُكان لم يرغبوا في الانخراط في هذا الفساد الذي لا ينتهي، ومن ثم خرجوا من المنطقة، ولنتأمل وصف ما آلت إليه: "قُسمت الزرائب إلى شوارع، وسُمي كل شارع باسم، فهناك شارع السباخ الذي يرمي فيه الناس فضلات حيواناتهم، ويتردد عليه أصحاب الأراضي الزراعية يلتقطون الخراء ويصنعون منه سمادا للزرع. والوسعاية التي تشبه الخرابة في تكوينها، يقعد فيها السكارى يحششون ويغنون، ويحرقون الأسلاك، ويخرجون منها البضاعة النافعة، هؤلاء الذين لا يملكون زريبة، وتُلقى فيها مُخلفات المُستشفيات فتجد بها أطفالا مُخلقة، بعض منهم قد وُلد ميتا، وبعضهم الآخر سقْط نزل من بطن أمه قبل أوانه، أيادٍ وأرجل ودماغ وجسد، وأحيانا لا تجد بعض الأطراف. ومنطقة التل، ذلك المكان المُرعب الذي عُثر فيه على جثث أناس قتلى كُثر، وهو مقصد كل السريحة، فيلقون فيه الكناسة التي لا قيمة لها، وكل برهة يحرقونها لتتبخر ويتخلصوا منها، وفي بعض الأوقات تشتعل وحدها من تفاعل أشعة الشمس مع المواد فيها، وتخنق كل ساكني الزرائب كلما أمسكت بها النيران، وأهلك أوارها الجدران التي تحاوطها، ويتناقل عنها بأنها يسكنها الجن، فيسمعون منها أصواتا في الليل، ولا يقربونها إلا نهارا، ومن دخلها ليلا خرج بعقله لوثة، ورجحوا ذلك بأن الجن تلبسه، وهي عبارة عن جبل ضخم كبير من القمامة والعفن، ومن يرتكب جريمة قتل، ولا يكون مقصده الترعة، يدفس الجثة في التل فلا يُعثر عليه إلا بعد أن يتحلل وينتهي أثره. وشارع زرايب القرود المليء بصفائح الزرائب والعمل فيه على قدم وساق. والشارع القاطن فيه بيتنا، وقد أطلق عليه حكوم اسم "آل أبو حماقة". وشارع الكوم الموجود فيه ميزان ضخم لمن يريد وزن كمية كبيرة من الغلة، ودائما مكومة فيه الأشولة بإفاضة. وشارع المطراوي المسدود الذي كان موجودا اسمه قديما، وعرفنا أنه لشخص كان يعيش في الخصوص مُنذ قرون طويلة. والممر الكبير الفاصل بين الزرائب والترعة. ومن بعده المعدية التي يتجاوزها الناس للدخول إلى المنطقة الزراعية أو العكس".

ألا يبدو لنا هذا الوصف الطويل للمنطقة بعدما تحولت إلى زرائب شكلا عبثيا من أشكال الخيال التي لا يمكن أن يتخيلها العقل البشري، ولا يمكن تصديق أن ثمة بشري من المُمكن له أن يعيش فيها، أو يقوم بمثل هذه الأفعال التي تحدث في داخلها؟ إنها امبراطورية حكوم أبو حماقة القائمة على الفساد الكامل، وهي الامبراطورية التي ساعدته أمه لبيبة في إنشائها من أجل اكتساب السطوة، والسُلطة والكثير من المال في مُقابل صلاتهم جميعا، والتضحية بالحيوانات للفقراء وإطعامهم، وكأنهم بهذه الأفعال إنما يتطهرون من كل ما يقومون به من فساد في الأرض!

إن سيطرة حكوم على المنطقة بأكملها جعل منه هو الآمر الناهي فيها، القادر على حُكمها بقسوة وجبروت يفوق الجبروت الذي كان يمارسه جده جاد الله، ولنتأمل: "رحل حكوم والعربجي يومين، هدأت المنطقة إلا من ضاحي الذي أضحى فتيلا للمصائب، وكره الناس رؤيته، وكان يضرب صغارهم، وتعاظم الأمر معه بأنه قد تشاجر مع مُراهق فتغلب عليه الولد، غضب ضاحي فأحضر بنزينا وملأ به زجاجة، ثم أشعلها وألقاها على منزل أهل الغلام، فاشتعل، وعلا صراخ النساء، وكانت مصيبة. أخمد أهالي المنطقة النيران، وتكالبوا على ضاحي يؤدبونه فاستقبل قفاه أكواما من الصفعات، ومن ثم أجلسوه وسط المنطقة وجزوا شعر رأسه، وحضر حكوم ومعه شخص آخر اسمه الوحش، هيئته كالحرامي، ملابس مُهلهلة، جرح قديم في خده الأيسر يشقه نصفين، وملامح شرسة، أجرد الرأس، عظيم الجثة، مهيب الهيئة، مُخيف، يرعب من يلاقيه. أبصر حكوم ما حل بضاحي فسأل، وعلم بإهانة أخيه في غيابه، فرفع البندقية، وأمسك العربجي والوحش أسلحة بيضاء، وفي انتصاب الشمس فوق رؤوس الخلق، هجم على بيت الناس، وأذلهم وأخرجهم منه، ولم تسلم منه النساء فكشفهن بملابس البيت للمارة، ثم أحضر بنزينا وأجج النار في دارهم، ووقف الكل شاهدا، وأحضر حكوم كرسيا وجلس مشبكا الساقين، يتلذذ بالصرخات حوله، ومنع إخماد النار، ولم يرحل إلا بعد أن تفحم المنزل".

حكوم هنا يقوم بفرض قانون القوة والقهر على الجميع، فهو لا يعنيه إذا ما كان أخوه مُخطئا أم لا، بل كل ما يعنيه هنا ألا يُهان أحد من أسرته، لأن إهانة أحد أفراد أسرته بالضرورة يؤكد على عدم سيادة سطوته على الجميع، ومن ثم فهو هنا يعمل على فرضها بالقوة على كل من يسكنون منطقة الزرائب، وهي المنطقة التي باتت ملكية خاصة له، يفعل فيها ما يشاء من دون أي مُساءلة، لا سيما أن الفساد قد انتشر في كل مكان، وبالتعاون مع الشرطة التي تُبارك كل ما يقوم به حكوم بما أنه يرشوها بالكثير من الأموال، خاصة بعدما خان المحلمي، ومنعه من دخول الزرايب مرة أخرى، واستولى على تجارة القمامة له وحده: "مرت الأيام والشهور، وضيّق المحلمي الأفق على حكوم، فكانت الشرطة تدخل كل يوم المنطقة تفتش البيوت، وكانوا يزورون بيتنا في كل مرة، يبحثون عن مُخدرات وسلاح، وكانت تصل حكوم أخبار توجههم نحوه من داخل قسم الشرطة قبل وصولهم؛ إذ أن فساده التهم نفوسهم الهشة بنقوده، فطلب من الكل تخبئة ما يملكون من ممنوعات برهة من الزمن، وكلما حضرت الشرطة خرجت برشوة من حكوم، وقعدوا فأكلوا بطا وحماما ودجاجا ولحما وأحيانا فطيرا وعسلا وجبنا وكل خيرات الدنيا، ثم يتسامرون معه، يفتشون البيت بشكل صوري، ينتشلون بعضا من نقوده، ويرحلون، وتكرر الأمر، وبان أنه لن يتوقف؛ إذ أن أوامر القبض على حكوم خرجت من جهة عليا، ويفتشون عن سبب أو دليل إدانة".

لكن، أفعال ضاحي الذي رباه حكوم على الفساد والبلطجة لا تنتهي، ومشاكله في تصاعد كل يوم، وهو ما جعله يُطارد أحد الهاربين من الشرطة ذات يوم لرغبته في الاستيلاء على السلاح الذي معه، وبما أن الرجل في حالة هلع كامل بسبب هروبه من الشرطة، فلقد حاول إبعاد ضاحي الذي أصر على مُحاصرته، وسلب السلاح الذي معه؛ مما جعل الرجل يضرب عدة طلقات أصابت ضاحي في مقتل، وهي الأخبار التي وصلت لحكوم الذي كان نائما، ومن ثم دارت معركة مُخيفة ودموية بين حكوم ومن معه، وبين الرجل الهارب الخائف إلى أن وصلت الشرطة بقوات كثيفة، لكن حكوم أصر على عدم خروج الشرطة من الزرائب بالرجل، وأكد لهم بأنه لا بد أن ينفذ فيه حُكم الإعدام داخل الزرائب، وليس خارجها، وهو ما فعله بالفعل رغم تواجد رجال الشرطة الذين لم يستطيعوا فعل أي أمر له، لا سيما أن رئيس الشرطة "إسماعيل بيه" يستخدم حكوم ورجاله في الكثير من الأعمال الوسخة الباطنية لصالح الشرطة: "حضرت الشرطة الثلاثة أيام، كأنهم يُؤمنون المكان، وتكهنا بأن إسماعيل بيه يريد شيئا من أخينا حكوم، فقد قتل أمام أعين الشرطة، ولم يقبض عليه، مرغ هيبة الباشا في الطين ودعسها، وكان يحضر فيجلس ساعات طويلة مع أخينا، حاولنا معرفة ترابطهما ففشلنا، وكان يغيب حكوم من المنطقة أياما مع رجاله، ويترك الوحش ليدير شؤون الزرائب، ويعود فنبصر رجالا مجروحين، حتى يوم أغبر، عاد ناقصا رجلا، ولما تساءل أهله أغرقهم في المال تعويضا، وفطنا إلى أنه مات، وفهمنا أن حكوم يقوم ببعض الأعمال الوسخة إرضاءً للباشا"، مما يعني أن الفساد الذي ينشره حكوم من حوله قد طال الجميع حتى رجال الشرطة الذين باتوا موافقين على كل ما يقوم به في مُقابل الأموال، وقيامه بخدمات غير قانونية لهم!

هذا الفساد المُتبادل يتجلى في: "انعزلت المنطقة على أوشابها، وخاف الكل اقترابها، حتى الشرطة فقدت الأمل في السيطرة عليها، وظل الاحترام والعمل قائمين بين حكوم وإسماعيل بيه الخياط، فتركت الشرطة حُكم المنطقة وحل مآزقها لحكوم؛ فهو الحاكم الأول والآخر بالنسبة إليهم، رمز تدين المنطقة الكافر الفاسد، يظهر فيعظمونه، يغيب فيذكرون اسمه ويتشبهون بصفاته، ويرتكب المعاصي عيانا فيصلي ويتعبدون خلفه، يتاجر في المُخدرات ويذبح عجلا لله، يوزع الأموال على المحتاج، ويُقرض القادر بالربا، والله إن صفات أمنا كلها تجمعت فيه هو وخباس، ذلك الذي ينام مع الستات من دون خشية، ويعلم الكل عنه تلك الأفاعيل ويخافون مواجهته".

يكتب محمد صاوي واصفا ما آل إليه الحال: "المشهد العام أضحى مُرعبا، نعيش في رهق وسط وحوش تنهال على الدنيا فتقطعها بمخالبها، يأكل بعضهم بعضا ولا يرجعون لكتاب الله في مُعاملاتهم، السباب  أصبح لغة العامة وانتشاء، فقد اعتادته الآذان، فالغلام يشتم، والشاب يسب، والعجوز يلعن، والستات من كل لون يقذف بعضهن البعض بأقذع الصفات، والعيال تُولد من رحم أمها عالمة بكل ما هو خسيس ودنيء، الطفل تحسبه بريئا فيلعن كل من سكن قبر عائلتك حتى يصل إلى الجد الثامن عشر. وإن مر أحد من المنطقة يُعرض للنشل والسرقة والضرب، وإن اعترض يتطور الأمر فتكون جريمة قتل، ولا يهاب الناس السجن، والبنات يمشين في الشارع فلا يسلمن من لذع ألسنة الشباب، ويصنع ذلك مُشكلات كل يوم، ويتدخل حكوم؛ ففي يده لجام الأمور، ويحل أفظعها بكلمة، ويهابه الكل، ويخشون غضبه"، مما يعني أن الوضع في الزرائب قد تحول إلى وضع سيريالي لا يمكن تخيله على أرض الواقع.

إنها السيريالية التي يوغل فيها الروائي بشكل قد يبدو لنا ساخرا حينما يصفه- وهو ما قد يجعلنا راغبين في إطلاق توصيف الكوميديا الساخرة على الأحداث حينما يكتب: "اتجه خباس لإذاعة القرآن كي يحفظ، وسمعناه يؤم الناس في مُكبر الصوت، فكان صوته بشعا في قراءة القرآن، وربط آيات بعضها ببعض ليست في السورة نفسها، لعدم معرفته بالقرآن وترتيبه، فكان يقول آية من البقرة، ومعها واحدة من المائدة، واثنتين من الفلق، وواحدة من الجن، ومن ثم يعيد ترتيبها على نحو مُختلف، ثم يستخدم آيات وسورا أخرى، ويبدو أنه يجتهد في الحفظ ولكن بصورة خطأ، حتى إن النطق خرج منه غير صحيح، وأخذ مكانة عظمى بين الناس، وأصبح مسؤول الدين الأول والأخير في المنطقة، وكانوا يستفتونه في أمور دينهم، وترك لحيته فنبتت، ثم تمددت كأفرع الشجر. ومن العجاب أن المعلم سيد زكيبة جمع بين أختين وتزوجهما، فقد تزوج واحدة، وبعدها بخمسة أعوام تزوج الثانية، وأقام عرسا في المنطقة، وكانت كارثة بالنسبة إلينا، ولما تحرينا الأمر علمنا أنه أخذ الفتوى من خباس، وكانت حجة الأخير أن سيدنا يعقوب عليه السلام جمع بين أختين، ولا يعرف أن هذا الأمر كان مُباحا ومن ثم حُرم". فخباس الفاسد، الذي لا يترك امرأة إلا ويعاشرها، الذي يدير خمارة لتناول الكحول، ولعب القمارـ المُتاجر في المُخدرات، ومُتعاطي الحشيش هو شيخ الزاوية، وهو من يفتي الناس في شؤون دينهم ودنياهم!

ربما لاحظنا هنا براعة الكاتب في إنهاء وجود شخصية ضاحي بالموت بسبب أفاعيله؛ فالكاتب هنا يتابع جميع أفراد العائلة التي ستذوي وتتلاشى شخص بعد آخر في نهاية الأمر، وهو يفعل ذلك بتؤدة، وتمهل، وفنية بارعة.

الزرائب هنا تبدو لنا منطقة مُنعزلة عن العالم أجمع، وهي منطقة لا تتأثر بالأحداث السياسية أو الاجتماعية المُحيطة بها، فهي تبدو في نهاية الأمر وكأنها غير موجودة على سطح هذا الكوكب رغم عنفها وفسادها اللذين لا يمكن تصورهما، لذا يحاول الروائي التأكيد على هذا الأمر على لسان روح صابر: "سمعنا في الراديو ما عصر قلبنا حتى نزف، تحاول إسرائبل احتلالنا، لكن الأخبار طمأنتنا أن الفوز قريب، وأن جيش مصر وتدٌ في الأرض لا يُزحزح، وقد استطعنا تدميرهم ودحض هجماتهم، وكأنت الأخبار مُبشرة، حتى تكلم جمال عبد الناصر وعلمنا الأخبار الحقيقية، أننا هُزمنا، وأن إخوتنا في سيناء قُتلوا بدم بارد؛ إذ إن سلاح الجو الإسرائيلي قد ضرب القواعد الجوية المصرية ودمر جزءا كبيرا منها، وسلبت إسرائيل مدينة العريش، وسقط ضحايا كُثر لم تُحص أعدادهم، واستولت إسرائيل على شرم الشيخ، وسيناء، وسحبت الإدارة المصرية من قطاع غزة، وتعاظمت؛ إذ أنها استولت على الضفة الغربية من الأردن، واحتلت هضبة الجولان من سوريا، كأنها وحش قرر التهام العرب، وأعلن جمال عبد الناصر استقالته وتخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وسمعنا في الراديو بأن شعب مصر كله يتظاهر في الشارع رفضا لاستقالة عبد الناصر، يقولون مصر كلها ونسوا أن منطقة الزرائب من ضمن الخريطة، ولم نر فيها مُظاهرات، بل لم يتغير شيء فيها، كأنها في عالم وحدها".

هذا التغيب الكامل عن كل ما يدور من حولهم، وجهلهم بما يحدث يوغل فيه الروائي بكتابته: "علمنا أن جمال عبد الناصر مات، ورأينا جنازته على التلفاز، مصر كلها تسير فيها إلا نحن، المشهد مهيب، حزنٌ سقط على شعب مصر، وكان الهتاف عاليا: لا إله إلا الله، ناصر هو حبيب الله، كلنا ناصر. وأبصرنا رؤساء مُعظم دول العالم، أناس كالتراب يسيرون، ملايين، وشغل منصب رئيس الجمهورية من بعده محمد أنور السادات، ولم نشعر بأي شيء تجاهه، ولم تنمُ في أنفسنا راحة أو قلق".

ألا نُلاحظ هنا من خلال رواية الأجيال أن الرواية قد مر عليها الكثير جدا من الأحداث السياسية، والتغيرات الاجتماعية والثقافية، وكأن أحداث الرواية هنا شاهد على تاريخ مصر الحديث؟

إنها حال الروايات التي تتناول فترة زمنية طويلة من شأنها استعراض ما يحدث في التاريخ وتأثيره على الأحداث الروائية، فلقد بدأ الروائي هنا روايته من مرحلة الملكية، ومر بانقلاب الضباط الأحرار على الملك، وتزوير التاريخ وتسميه الانقلاب بالثورة، ثم الانقلاب على محمد نجيب وتحديد إقامته، وتولي عبد الناصر للحُكم، ثم العدوان الثلاثي على مصر وهو العدوان الذي دُفع بحكوم للاشتراك فيه لمُجرد جلب السلاح الذي أمرته به أمه، ثم هزيمة يونيو 1967م، إلى أن وصل لوفاة عبد الناصر، وتولي السادات للحُكم.


لكن، كما رسم محمد صاوي الأحداث، وهيأها من أجل الخلاص من ضاحي فيما قبل، فهو يعود لتهيئتها مرة أخرى من أجل الخلاص من أختهم شربات، حيث يصل إلى الزرائب أحد الأشخاص/ حسن أفندي مع أمه العجوز وشقيقته، وحينما يعرف حكوم أنه قد لجأ إلى المنطقة لعدم وجود مال يستطيع التعيش منه، وأنه مُجرد كاتب للقصص، يوافق على بقائه فيها، ولكن شربات تقع في عشقه، ويتقدم للزواج منها، ورغم رفض حكوم إلا أن شربات تصر على الزواج إلى أن يرضخ لها أخوها، بينما تتزوج شقيقة حسن من أحد الحلاقين في الزرائب، لكن الناس يبدأون في النميمة والحديث عن شربات بالسوء، وحقيقة ما حدث هو: "حسن أفندي مُنذ تزوج أختنا لا يعاشرها مُعاشرة الأزواج إلا كل شهرين أو ثلاثة، وينامان مُنفصلين، كل شخص في غرفة كأنهما أغراب، ولا يطؤها إلا عندما تتغنج عليه، وكثيرا من الأوقات يبتعد عنها بحجة أنه تعب؛ ذلك لأنه تسلم عملا في إحدى دور النشر ولا يعود للبيت إلا آخر الليل، ويتحجج بأمور العمل، وتتدلل عليه مرارا حتى يقبل بها، ورضيت ولم تعترض، حتى فاض بها ولم تعد تتحمل، ومُنذ شهر تقريبا تحدثت معه في الأمر، وأخبرته بأن طاقتها نفدت، وأنها زوجة ولها حقوق، وتشاجرا، ثم امتنع الاثنان عن الحديث معا".

المُثير للدهشة هنا هو أن ما يحدث بين الزوجين قد صار مثار حديث بين أهل الزرائب، بل وتم تحريفه إلى أن شربات تطلب من زوجها مُضاجعتها كل يوم، وأنه غير قادر على تحمل هذه الأعباء التي تطلبها، وحينما يعلم حكوم بالأمر يثور ثورة عاتية ليعرف تفاصيل خروج الأمر للآخرين بهذا الشكل، حينما يستجوب حسن أفندي الذي يقول مُرتعبا: "لم أحكِ إلا لأمي. رقيع من يُخرج سر غرفة نومه، فطوقه حكوم من ياقته حتى مزق قميصه وقال: كم مرة في الشهر تلبي احتياجات زوجتك؟ سكت ولم يتحدث، فعلمنا أن قصة أختنا شربات صحيحة، فأشار حكوم إلى الوحش ليركض الرجل صوب بيته، دقيقة وعاد ومعه أم حسن التي تسكن غرفة السطوح، وبالضغط على الست علمنا أنها أخبرت ابنتها بالأمر، فأحضر البغل ابنتها، وكانت المنطقة كلها قد انتصبت حول حكوم يسمعون التحقيق الجاري، كأنهم نمل، الملح إن أُلقي لن يسقط، ومن نظرة واحدة بعينيّ حكوم نحو أخت الأفندي أخبرته بأنها حكت لزوجها خليل الحلاق، وكان واقفا وسط الجموع بوجه وجل، وبسؤال واحد علمنا أنه حكى لقليل من زبائنه؛ فانتشر الأمر بين الناس، وتناقل اسم أختنا شربات على ألسنة الكل ينهشون عِرضها من دون شفقة، رغم أنها أخت كبيرهم المعلم حكوم، لكن هناك حلقة مفقودة، الذي قالته شربات غير ما يُردد، وبالتضييق على حسن أفندي علمنا أنه عندما حكى لأمه أخبرها بأن شربات تطلبه للفراش بكثافة، ولكنه لا يقدر على تلبية احتياجاتها بسبب عمله الذي يعود منه تعبا، وبهذا راج الأمر بين الناس، ورأوا أن أخت حكوم مولعة دائما".

هذا الموقف الذي حدث بين حسن أفندي وبين حكوم أمام الناس لم يُمرره حكوم بخير، بل تربص له شرا، ودفن غضبه في نفسه، ومن ثم تعرض حسن لحادث قاسٍ بعدها، حيث ضربه أحد سُكان الزرائب في قضيبه بسكين أدى إلى شق قضيبه وخصي حسن أفندي تماما: "كان حسن أفندي عائدا من عمله في الليل، فأوقفه على الناصية خميس الشمام، شاب من أشبال حكوم، وكانت المُخدرات قد أفسدت عقله، تطوح أمام الأفندي وخبطه في صدره، ثم صاح وجلجل بأن الأفندي هو من ضربه، وأخرج مطواة من جيبه ورشقها في أير الأفندي، فخصاه، وسقط الأخير صارخا بكل قوته يتمرغ في الأرض، أفاقت المنطقة على كارثة، تهتك عضو الأفندي ولم يعد رجلا، الأمر هنا حتمي وليس إشاعات تُنقل، وحمله الناس وأوصلوه إلى المُستشفى، وعلمنا أنه فقد خصيته وشق أيره، وعاد مكسورا برأس مدفوس عينيه أرضا، وشككنا بأن الحادثة مُدبرة، وعند دخوله المنطقة أوقفه حكوم أمام باب البيت، ونظر في عينيه وقال: طلقها"، أي أن حكوم لم يغفر لحسن أفندي الأقاويل التي انتشرت في الزرائب عن أخته بسببه، ومن ثم انتقم منه أولا قبل إرغامه على تطليقها، ولكن بما أن شربات كانت مولعة عشقا بحسن أفندي؛ فلقد ألقت بنفسها من فوق المنزل، ورغم أنها باتت مُقعدة ولم تمت، إلا أنها لجأت فيما بعد إلى قطع شرايين ذراعها حزنا على زوجها، مما يعني أن الروائي هنا يحاول التخلص من شخصياته الروائية بمهارة.

إنها المهارة التي تجعل الروائي لم ينس شخصية يونس أخيهم الذي اختفى عنهم في السيدة زينب بعدما أفقرهم جميعا واستولى على كل المال الذي معهم، بل وكان السبب في طردهم من المنطقة شر طردة بعد إهانتهم وضربهم، لذا يعود ذات ليلة ليطلب الدخول إلى حكوم، وحينما يخبره أحد رجاله بأن هناك مجنونا يدعي بأنه أخوه؛ يخرجون جميعا: "يونس أخوهم ينتصب أمام البيت، يتدثر بجلباب مُهترئ، شعره أشعث يغزوه القمل، بعض من خصلات شعر ذقنه التي تصل إلى نصف صدره بيضاء مُتسخة، تثرمت أسنانه، أعجف ضئيل، أظفاره طويلة سوداء، جسده مُتسخ، رائحته غائط عفن، يتفقد حكوم بعينين غائرتين، يجاهد ليبتسم، فأظهر أسنانا مُحطمة، ومد يده ببطء يخطو خطوات وئيدة، يحاول لمس حكوم، وما إن اقترب منه وكاد يلتصق به، حتى ردعه بشراسة وخشونة فانكب أرضا متوجعا صارخا بصوت ذابل، كحت جسده الأرض فخلق بعض الرضوض، وتخضب وجهه بماء المجاري، وانشق أوسط جلبابه فأطلت عورته، رمقه حكوم بجحود، وبرزت لبيبة من الخلف، فتحامل يونس واعتدل بجهد مضن ليقتعد، ومط يده إلى أمه باكيا، فبصقت في وجهه وعادت إلى الدخول، ولما تفقد بعينيه إخوته الاثنين، أحكم حكوم جسد خباس وأدخله البيت، ثم تبعه ودفع الباب الحديد بقسوة، فانغلق في وجه يونس، ثم خرج صوت حكوم بنفور وتنمر: عد من حيث أتيت، لا أهل لك هنا".

إن تصرف حكوم هنا مع ظهور أخيه يونس شديد القسوة، وهي القسوة التي رأيناها على الأم لبيبة أيضا التي بصقت على يونس ثم عادت إلى داخل البيت؛ لذا يتركونه مُشردا في شوارع الزرايب، يأكل من قمامتها، ويفترش العراء أمام زاوية الصلاة: "مرت شهور، وسقم يونس، ذبل وامتنع عن الأكل، وتخضب وجهه بالخمش إثر تنكيل يلاقيه يوميا، رجلاه لم يرتد بهما شبشبا فتتفصدان بالدم، وتتركان بصماتها أينما حل، وكان دائم ترديد اسم أمنا، وأنه يسعى لمغفرتها، ويقعد في مجسمه على عتبة الزاوية، يناديها، دمعه سافح، ثم يغلبه الألم فينام من دون دثار، تنغرز في عظامه إبر البرد حتى تسوست، وتقرح جسده من عض الهوام، وكان يعطف عليه أبونا فينهره حكوم، وعاش كفضلات الحيوانات، يدهسه الكل من دون خشية من كبيرهم؛ إذ أنه يعامل أخاه على أنه حمار، يسبه، يضربه، يعذبه، وأحيانا يتجاهل وجوده كأنه جماد".

لكن، لِمَ عاد الروائي هنا إلى شخصية يونس مرة أخرى؟ سبب العودة إلى يونس كان لا بد منه من أجل إنهاء تواجدها في العالم الروائي بشكل واقعي، فهو يتخلص من الشخصيات واحدة تلو الأخرى هنا بمهارة منطقية وواقعية لا يمكن الشك فيها أو رفضها، أو حتى اعتبارها مُقحمة على السرد؛ لذا يظل إذلال يونس طويلا إلى أن يموت: "في صلاة فجر يوم نزل خباس ليرفع الأذان، وكان خلفه حكوم، فأبصرا يونس نائما على جانبه، مُحتضنا ذاته، دافسا رأسه في صدره، سبه خباس ولعنه، ودفعه بقدمه، فكان ثقيلا مُتحجرا، جاهد ليبعده، فسقط جسده من فوق العتبة، وانكشف وجهه، فلم تنفتح عيناه، وبدا كأنه قد صمل، فتقدم إليه واحد من القادمين للصلاة، مال بجسده، وعبث في يد يونس، ولمس صدره وصفعه برفق على وجهه فقد كان قد تيبس، ومن ثم اعتدل وقال: البقية في حياتك يا معلم حكوم. فتسمر الكل كأن الدنيا خرست، ثوانٍ مرت حتى شق حكوم الهدوء وقال بنبرة صلبة كأن قلبه حجر لا يشعر: حضروه للدفن".

إذن، فصاوي هنا يمتلك من المهارة الفنية الكثير مما يجعله قادرا على التخلص من الشخصيات الروائية التي فقدت ضرورة وجودها في العالم الروائي، لتظل الشخصيات التي سيستمر العالم بها، ولا سبيل للاستغناء عنها.

يكتشف صابر أن أخاه حكوم يعاشر زوجة أخيهما خباس، وأن عزة زوجة خباس قد باتت حاملا من حكوم حينما يستمع إليهما بالمُصادفة: "رجل يهمس: إن نطقتِ بهذا الجنون سأذبحك. صوت نعرفه مثل اسمنا، صوت حكوم، يُحدث عزة زوجة خباس التي تجاوبت معه: والختمة الشريفة لا أكذب عليك، هو ابنك. انتبهنا للحديث الذي ارتجف قلبنا عند سماعه، فاستطردت بصوت مُتشنج بالبكاء: لم أكن سأخبرك، قبل حملي بيوسف ظل خباس شهورا لا يمسني، وكنت أعلم أنه يخون، وأنت زرتني ثلاث مرات، ثم اكتشفت أنني حامل، فنمت معه حتى لا يشك، إن لم تُصدق لا يهم، أنا فقط أخبرك للأمانة".

إن هذا الحدث غير المتوقع، المُوغل في فساده وقسوته جعل صابر غير قادر على البقاء بين هؤلاء البشر الذين لا يرتدعون بأي شيء: "لم نقدر على المكوث لحظة، خرجنا من البيت شاردين، عقلنا يتقلب على نار حامية، يُشوى، ولا نرى أمامنا إلا الظلام، الجحود، الكفر، المعاصي، وكل ما هو مُحرم وشنيع، فقررنا الخروج، الرحيل بلا عودة، ترك أهلنا في ظلال الدنيا، يرصون حطب جحيمهم، يأخذون موعدا مع الله لتكون نهايتهم سوداء قاتمة. مشينا حتى خرجنا من الزرائب، وقررنا عدم العودة، ولم نعلم وجهة نقصدها، فساقتنا قدمانا إلى حي السيدة زينب، ننبش في الماضي، ونتضاءل ضعفا، ولا نعلم ما يخبئه القدر لنا"، أي أن هذا الحدث كان بمثابة المُحرك القوي للسرد واستكمال العالم الروائي إلى عوالم أخرى أكثر ثراء، يستطيع الروائي من خلالها استعراض المزيد من الأحداث- سواء منها الروائية، أو السياسية التاريخية التي مرت بتاريخ مصر الحديث- وهو ما رأيناه فيما بعد مع أحداث الزاوية الحمراء الشهيرة في التاريخ المصري، والتي نجح الروائي هنا أيما نجاح في إدخال هذا الحدث التاريخي في جسد السرد الروائي بالشكل الذي يوحي لمن يقرأ بأن هذا الحدث هو خيال روائي بحت، يخص الرواية التي بين أيدينا، أكثر مما هو حدث واقعي تاريخي حدث بالفعل أثناء حُكم الرئيس السادات.

يتخفى صابر حينما يصل إلى منطقة السيدة زينب خائفا من تذكر الناس له والاعتداء عليه مرة أخرى، لكن قدميه تسوقانه إلى منطقة الزاوية الحمراء، وهناك يستقر أمام مسجد من المساجد الذي دائما ما يؤدي فروضه فيه، وسُرعان ما يخرج من أجل البحث عن عمل يستطيع التعيش منه. هنا يصف لنا الكاتب الرحلة الصعبة في البحث عن عمل، وهي الرحلة التي كادت أن تقتل صابر من الجوع لعدم عثوره على عمل في المنطقة، وامتناعه عن الأكل حتى لا يلجأ إلى التسول، إلى أن يجد عملا عند الحاج حسين، الرجل الذي يعمل كهربائيا، والذي كان قد تزوج من إحدى السيدات التي غيّرت دينها من المسيحية إلى الإسلام من أجل أن تتزوجه.

يحاول الروائي هنا إدخال الحدث التاريخي في نسيج العمل الروائي بمهارة مُتقنة، حيث يصف لنا مُلاحظات صابر لنمو الإخوان المُسلمين داخل المسجد الذي يصلي فيه: "كانت توجد ثلة من الشيوخ، وعلمنا بأنهم جماعة يُطلق عليهم الإخوان المسلمون، يترأسهم شيخ ضرير اسمه قاسم، وكانت أفكارهم مُتعصبة، من الدين ولكن لا لين فيها، فالسارق تُقطع يده من دون جدال، ولا يبحثون عن السبب الذي خلق منه سارقا، وحل مُشكلته، مثل إعطائه عملا ينتفع منه فيعرض عن السرقة، يبغون تطبيق الشريعة كما أُنزلت، ويفسرون الآيات من دون يُسر فيها"، أي أن مُلاحظات صابر لما يدور من حوله في مُجتمع الزاوية الحمراء قد جعل الروائي ناجحا في إدخال أحداث الزاوية الحمراء والتمهيد لها من خلال النسيج الروائي باعتبارها من جوهر الرواية التي لا يمكن الاستغناء عنها، أو حذفها وإلا اختل العالم الروائي.

يبدأ صابر في تعليم أطفال المنطقة القرآن بجانب عمله مع الحاج حسين، ويعرف أن ثمة فتاة تقوم بتحفيظ القرآن أيضا لبنات الحي، وهو ما يجعله يخبر الحاج حسين برغبته في الزاوج منها، وبالفعل يتزوجها صابر، ولكن ذات مرة، وبعدما احتقن الأمر بين المُسلمين والمسيحيين في منطقة الزاوية الحمراء بسبب قطعة أرض كان يمتلكها ميخائيل أخو زوجة الحاج حسين، حيث يؤكد ميخائيل ملكيته لها، بينما يؤكد أحد المُسلمين ملكيته هو الآخر لها إلى أن أخذذها المُسلم منه، بدأ المسلمون والمسيحيون يثيرون الكثير من العداوة والبغضاء ضد بعضهم البعض بسبب هذا الحدث. نقول: إنه في غمار هذه الأحداث، تنشر إحدى السيدات المسيحيات غسيلها في منشرها، ومن ثم يؤدي ذلك إلى تساقط المياه على نافذة زوجة صابر، وحينما تصعد زوجة صابر لها للومها، تُهاجمها الزوجة المسيحية وزوجها الذي يدفعها فتقع من النافذة وتموت، ومن ثم تنشأ فتنة بين المُسلمين- يؤججها الإخوان المُسلمين- والمسيحيين، حيث تؤدي إلى مئات القتلى، وتحويل منطقة الزاوية الحمراء إلى منطقة من الجحيم الذي يسوده القتل، والفتنة، والبغضاء، والكراهية، والدموية التي لا تنتهي، حتى أن الشرطة عجزت عن دخول المنطقة من أجل إنهاء هذه الفتنة الدموية: "أيام مرت، الشارع أضحى مُوحشا، غريبا، مُريبا، ففي كل ركن، وكل ساعة اشتباك بين مُسلم ومسيحي، وتمنينا أن تكون هناك مُهادنة، ولكن زادت البلوى، إذ أن هتافات خرجت من منشية الصدر إلى الوايلي مُتجهة إلى الزاوية الحمراء تُطالب بحرق منازل النصارى، تترأسها مجموعة من العيال الصغيرة، وقد كانت تركض في الحي وتترك علامات على بيوت المسيحيين ليعرفها المُسلمون، وتكاثرت الأقاويل في المساجد والكنائس فينضحون بالشر في أحاديثهم، وأحسسنا بأن شيئا يُدبر من المُسلمين والمسيحيين، كأن حربا ستندلع، وتوالت الأحدث المُرعبة".

إن الفتنة هنا تتم تغذيتها من الطرفين، وكلا الطرفان مُحتقنان بشكل لا يمكن تهدئته، إلى أن تحدث حادثة فاطمة زوجة صابر وتموت: "الناس يقولون إن الست فريال، زوجة سمعان المسيحيين اللذين يسكنان فوقك غسيلها نقط على غسيل زوجتك، فخرجت في النافذة تشكو لها، فالست فريال نهرتها وسبتها أمام الناس، حاولت زوجتك أن ترد الإهانة باللين رغم الجرح الذي سببته لها، وأن تبعد الخلق عن المُشاهدة، فصعدت إلى شقتهما تكلمهما، دخلت، فتطور الأمر ودفع سمعان زوجتك من دون قصد فسقطت من النافذة وصعدت روحها إلى خالقها، فاقتصصنا لها في الحال، وقتلناهما وجثتاهما بجانبك، فعلنا هذا إرضاء لك ولأنك رجل طيب وصالح"، أي أن الأمر تحول إلى دائرة دموية تستمر في الدوران والاشتعال من أجل أكل المزيد من الجثث من الطرفين: "تنوقل الحديث حولنا بين الناس، يذكروننا وزوجتنا، ومن ثم ميخائيل وما جرى له، فالنار اضطرمت عند منزله؛ إذ إن مجموعة من المُسلمين هجموا على بيته يريدون تأديبه على ما ارتكبه، فأخرج سلاحا ناريا وضرب رصاصات عشوائية عليهم، فأصاب واحدا، فاقتحموا المنزل وهجموا عليه كالأسود، ونهشوه، وقتلوه، وأحرقوا داره، وصعدت روحه كزوجتنا".

الفتنة التي اندلعت هنا لم تترك لصابر الفرصة من أجل دفن زوجته وإكرامها، فالقتل مُستمر ويبدو أنه لا نهاية له، ولن يتوقف عما قريب، والتصعيد الدموي مُستمر من الطرفين: "ظللنا ساعة نسمع طلقات وعويلا، وتصاعدت مُكبرات الصوت من المساجد والكنائس، وكل يدعو لإنقاذ طائفته، ففي المساجد يدعون لأن يتحد المُسلمون، وفي الكنائس يحضون على تكاتف المسيحيين، وأحسسنا بأن النهاية وشيكة، شغلنا الراديو، قلبنا على كل المحطات، فعرفنا ما يدور في الخارج، دعوات للقتال من المسيحيين والمُسلمين، وساحة حرب على وشك الاندلاع في الزاوية الحمراء".

لقد تحول الأمر إلى ما يشبه الكابوس الخانق للجميع، وبات الأمر سيرياليا إلى حد لا يقبله العقل: "أبصرنا دكاكين الناس حولنا، مُسلم يُعلق يافطة مكتوبا عليها: صاحب هذا المحل مُسلم، ويشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وعلامات على بعض البيوت تُثبت بأن أصحابها نصارى، والإخوان أشعلوا النار، ونتعجب البذرة التي صنعت الكارثة، وما آل لميخائيل وفاطمة".

هنا يعرف حكوم ما يدور في الزاوية الحمراء، ولأنه كان يراقب أخاه صابر طوال الوقت للاطمئنان عليه؛ فلقد قرر أن يأخذ رجاله ويتجه إلى الحرب الدائرة هناك من أجل إنقاذ صابر من الموت، ورغم أن الشرطة كانت قد طوقت الزاوية الحمراء بالكامل، إلا أن علاقات حكوم الفاسدة، ووجود ضابط الشرطة الذي يتعامل معه في الكثير من الأمور المُخالفة للقانون قد سمحا له بالدخول من أجل إنقاذ صابر والخروج به قبل اقتحام الشرطة للمنطقة من أجل القضاء على هذه الحرب الدموية الطائفية: "الخراب في كل ركن، وكأنها الحرب والعدو من أهلها، وأمر حكوم رجاله بعدم الانشقاق، وصُنع دائرة حتى لا يجرؤ أحد على خرقها، ومشوا من دون مس الناس بأذى رافعين أسلحتهم البيضاء بحذر، وهاب الناس الاشتباك معهم، وصل إلى القرب من بيت صابر، فهو يعرفه، تلفت حكوم يمنة ويسرة حتى وقعت عيناه على اثنين يشتبكان، فلمح الساقط أرضا، فوجده صابر، ركض صوبه والكل يتبعه، وحمل الرجل من فوقه، وغرز مطواة في جنبه عدة مرات، ثم ألقاه أرضا، وأوقف صابر على أقدامه".

ألا نُلاحظ هنا المهارة السردية للروائي محمد صاوي، وهي المهارة والتمكن اللذين مكناه من جعل الحادث التاريخي في نسيج السرد وكأنه من السرد الروائي في الأساس وليس من أحداث التاريخ؟

إنها المقدرة على امتلاك ناصية السرد، وعدم إفلات الحدث الروائي من بين يديه رغم تشعبه، واتساعه في رقعة زمنية واسعة، فضلا عن تزاحم شخصياته، وأحداثه، لكن رغم كل ذلك ظل السرد محكوما بقوة من قبل الروائي، لا يفلت منه.

يعود محمد صاوي لاستعراض مهاراته السردية في بناء العالم الروائي، والتخلص من الشخصيات الروائية التي لم يعد لوجودها ضرورة فنية، ومن ثم ففي اللحظة التي عرف فيها مكان صابر حينما ترك الزرائب إلى غير رجعة قبل أحداث الزاوية الحمراء، مات أبوهم عبد القادر أبو حماقة، وقاموا بدفنه ليكون الروائي قد تخلص من شخصية جديدة.

يُصاب إصبع حكوم بالتهاب شديد يؤدي إلى تورمه حينما يقلب في أحد أجولة القمامة ويوخزه شيء فيه، وحينما يصعد لعزة زوجة أخيه ذات مرة، يشرب من النبيذ الموجود في الثلاجة، وتلاحظ عزة تورم إصبعه مما يجعلها تحاول تصفيته من القيح المُتخزن فيه، وهو ما يجعلها تخلع الخاتم من حول إصبعه، لكنها تنساه في الحمام بعدما يتحمم حكوم ويخرج، وعندما يعود خباس من المهمة البعيدة التي كان حكوم قد أرسله إليها من أجل الانفراد بزوجته في غيابه، يُلاحظ أن زجاجة النبيذ ليست كاملة، وهو يعرف أن عزة لا تتناول الخمور، كما يعثر على خاتم أخيه داخل الحمام، وهو ما يجعله يتأكد بأن أخاه يخونه مع زوجته فيضمر لهما شرا، كما أنه يشير لأخيه- بشكل غير مُباشر- بأنه قد عرف ما يدور بينه وبين زوجته، وأعطاه خاتمه الذي وجده في حمام بيته؛ مما يُقلق حكوم، ويجعله يفكر في قتل خباس والتخلص منه قبل أن يقوم هو بقتله، لذا يقول حكوم للوحش قبل سفر الوحش لقضاء عمرة: "متى ستسافر؟ فرد الوحش: خمس ساعات وسأتحرك، أسبوع وسأعود، أتريد أن أدعو لك عند الكعبة؟لم يجب حكوم، لاذ بالصمت دقائق يتنفس الهواء العفن، ثم تمخض قائلا: لو احتجت إليك في شيء أجدك؟ بش الوحش وانحنى برأسه: عكازك يا سيد المعلمين. صمت مرة أخرى وقد ظهر العجاب على وجه الوحش، وظلا يتبادلان خرطوم الشيشة في معركة سُكر هادئة، فشق حكوم الصمت: ألم تحس بشيء غريب في الأيام الماضية؟ سعل الوحش بسبب الحشيش الذي أغلق صدره، ثم قال: كل شيء يسير كما تأمر. سرح حكوم ثم نطق: ألم تشم رائحة عفنة من ناحية الحكومة؟ صرح الوحش: الحكومة كلها في بطننا"، يستمر حكوم في الحديث وكأنه يشك في شيء، إلى أن يفضي للوحش بأنه يشك في خباس، وبأنه على علاقة مع رجال الشرطة مما يعني أن خباس يقوم بخيانتهم: "تبختر بالحصان صوبه ثم وقف قائلا: تعبت في هذا المكان، العمر كله هنا، فلو سُجنت أو قُتلت.. كشر الوحش بجزع: تموت الدنيا ولا تموت يا معلم، ما الذي تأمر به؟ رفع حكوم رأسه بشموخ وباح: ما الذي تراه؟ نبس الوحش هامسا بعد أن تفقد الشارع حوله فتأكد من فراغه: أرى أن الخيانة تلغي الأخوة. ترجل حكوم من فوق الحصان، وتحدث بلا مُبالاة: سأترك لك التصرف في هذا الأمر، ولا ترجع لي في أي قرار تأخذه، ثم التصق به، وحضنه بين ذراعيه قائلا: لا تنس أن تدعو لنا عند النبي، ولف ظهره يسحب الحصان من اللجام نافذا من باب مخزن البيت".


إذن، فلقد أعطى حكوم أوامره للقضاء على خباس الذي اكتشف خيانة أخيه له مع زوجته، وفي نفس الوقت تربص خباس شرا لأخيه بسبب هذه الخيانة، أي أن كل منهما قد عقد العزم على قتل الآخر بسبب الخيانة. لكن ذات ليلة يدخل حكوم إلى زاوية الصلاة للتكفير عن ذنب جديد اقترفه، وأثناء صلاته يتسلل خباس إلى الداخل، ليقطع الحبل الذي يربط الثريا التي تسقط على رأس حكوم، وسُرعان ما يسرع إليه خباس ليقوم بخنقه والتخلص منه، ليترك الجثة في وضع السجود كي يكتشفها الآخرون ويعتقدون بأن الثريا قد سقطت عليه فقتلته، لكن حينما يكتشف أهل الزرائب موت حكوم، تُسرع الأم إلى ابنها المُقرب لها، وتبكيه بقهر إلى أن تلفظ أنفاسها بجواره، ويتم دفن الاثنين في نفس الوقت.

هنا يكون الكاتب قد تخلص من أبناء أبي حماقة فيما عدا خباس وصابر فقط، حيث يتولى خباس السُلطة بالكامل في الزرائب، ويصبح هو المُتحكم في كل شيء، ويرث كل الثروة والمكانة، لكن بمُجرد عودة الوحش من العمرة، ومعرفته بموت حكوم، يتخذ قراره الذي كان قد وعد حكوم به، فلقد قدم زجاجة مياه إلى خباس وادعى أنه قد أتى بها له خصيصا من السعودية، حيث أنها تحتوي على ماء زمزم، وبالفعل حينما يتناولها خباس يموت مسموما وهو يخطب في أهل الزرايب في زاوية الصلاة؛ مما يجعل الوحش يحاول صناعة أسطورة جديدة كذبا: زعق الوحش: لا إله إلا الله، مات وهو على المنبر. ثم مشى وسط الناس وصاح: كان يقول كلام ربنا. ونظر إليه بيأس: الله يرحمك يا معلم خباس. فردد البعض: إنا لله وإنا إليه راجعون، واحد مات وهو ساجد، والثاني مات وهو يخطب بالناس في صلاة الجمعة. فتحزب آخرون: هؤلاء الناس فيهم شيء لله. فانتصب الوحش بجانب جثة خباس وصرخ فيهم: هذه الناس صالحة، سيرتهم يجب أن تعيش، حكايتهم تنتقل بينكم، عليكم أن تأخذوهم قدوة. ثم نظر إلى صابر الذي ظل مكانه يردد هامسا: إنا لله وإنا إليه راجعون، أنتم السابقون ونحن اللاحقون. فجلجل الوحش: البقية في حياتك يا شيخ صابر، البركة فيك".

إن الكاتب هنا ينتقل إلى المزيد من السيريالية الغريبة التي نشأت في منطقة الزرائب، أي أنه يرغب في الإشارة إلى كيفية صناعة الأسطورة، وتأكيدها من أجل اليقين بها، ومن ثم تناقلها على ألسنة الآخرين، ورغم أن الجميع يعرفون تماما ما كان يفعله خباس وحكوم، ورغم الفساد الذي عاشا فيه، إلا أن الجميع بدأوا ينسجون من حولهم قصص التقوى، لدرجة أنه لم ينقصهم إلا بناء مقام لهما وعبادتهما كوليان من أولياء الله الصالحين: "صنع سُكان المنطقة السفهاء حلقات وتجمعات يقصون فيها قصصا خرفة تعظيما لأخوينا حكوم، وخباس، وأمنا لبيبة الصالحة، شككونا في الأولياء وما بهم من تقديس، والأضرحة التي زرناها، فنحن أعلم بما بأهلنا من فسق، والناس يعرفون ولكن على أعينهم غشاوة".

إن العبث الذي يراه صابر من حوله بعدما تولى الوحش مسؤولية الزرائب خلفا لأخيه خباس، والحكايات التي يقوم الناس بنسجها من حول إخوته الفاسقين، هذه الأمور جعلته راغب في تغيير الناس من حوله، التأكيد لهم بأنهم كاذبون وواهمون فيما يقومون به، لكنهم شعروا بالغضب الشديد منه، ونكلوا به حتى كادوا يقتلونه: "اهتزت الأرض بسبب تدافعهم وهجومهم علينا، لكمات حلقت واصطدمت بوجهنا، فمادت الأرض وسقطنا، ركلات في البطن والجنب، فأصابت الكلى والطحال والمعدة، تألمنا من أعماقنا طابقين فمنا، وابتسمنا، يُنكل بنا، ونضحك، الرضوض والخمش غطونا من رأسنا حتى إخمص أقدامنا، وتشكلوا كالذئاب ينوون قتلنا، بششنا وسلطنا ناظرينا إلى السماء، نتفقد الله باغتباط، الشمس تداعبنا، لم نشعر بألم، رغم أن كل آلام العالم فينا، انبثقت المطاوي من أغمادها، وشرحوا أجزاء في جسدنا، فعلمنا بأن ملك الموت كُلف بانتزاعي اليوم. انتهوا منا، وطوقوا أقدامنا، وسحبانا على الأرض، فتخضب دماغنا بالوسخ، فئران ميتة، مجاري صرف صحي، خراء، بول، وسخام أسود، وزجاج مكسر شرخ جلدنا، وظلت الابتسامة مُتعلقة بنا، وانتصب الكل أمام زريبة أبو جرجس مربي الخنازير، جلجل الوحش باسمه فحضر، طلب منه أن يفتح الزريبة، فنفذ، رفعونا من الأرض بيسر، وألقوا بنا في عرضها، فسقطنا في خراء ووحل الخنازير، وأغلقوا علينا الزريبة".

إذن، فلقد كان قدر صابر هو الاعتداء عليه طوال حياته، سواء من قبل جده، أو أمه، أو إخوته، أو غيرهم من الناس، فهو الضعيف المُعتزل دائما الذي يراقب الآخرين، ويدعو لهم بالمغفرة، ويحاول تغييرهم، لكنهم يعتبرونه مجنونا، ومن ثم يقومون بالاعتداء الدائم عليه، وهو ما جعل صابر في نهاية الأمر يكاد أن يفقد عقله، فيترك الزرائب ذاهلا عما حوله غير قادر على معرفة أين هوـ وما الذي يفعله: "استمررنا في السير، الوحل ينقط منا، والدماء تخضبنا، والناس تتفقدنا بنفور، رغم الوسخ الذي يغطي أجسادهم، لم نقف، حتى رحلنا من منطقة الزرائب، ودببنا بقدمينا الحافيتين، لم نعرف كم من الوقت مر، مشينا أميالا، نسينا الدنيا، تاهت الزرائب خلفنا، وصلنا إلى ميدان واسع، الناس يشاهدوننا بتأفف، يتساءلون من أي مكان بُعثنا، بهيئتنا المُقززة والرعب مُرتسم على محياهم، كأننا وفدنا من الجحيم وهم في الجنة، يتهامسون ويبتعدون عنا، ونسير نحن في هدوء ودعة، آملين أن تكون نهايتنا في مكان نقي، أفضل وأطهر".

بهذا الاقتباس الذي يغلق به الروائي روايته يكون قد وصل إلى نهاية عائلة أبي حماقة، وسيرتها الدموية الفاسدة التي مارسوا فيها كل أنواع الفساد المُمكن ورودها على الذهن، وما لا يمكن وروده على الذهن أيضاـ، ورغم ذلك فسيرتهم ظلت عطرة، وتم إلباسها الكثير من الأساطير باعتبارهم كانوا أولياء من أولياء الله الصالحين، تبعا للعقل الجمعي للغوغاء والجهلاء القاطنين لمنطقة الزرائب، وما هو ما يجعلنا نستعيد مرة أخرى ما قرأناه على لسان الرجل العجوز الذي تحدث مع الشيخ حامد المُنتقل حديثا إلى الزرائب: "كانوا ناسا صالحين عاشوا هنا من زمن، وسيرتهم الطيبة ما زالت حية بيننا حتى الآن"، أي أن أولاد عبد القادر ألو حماقة قد باتوا أناسا صالحين، وظلت سيرتهم تُتداول على مر الأجيال باعتبارهم من الأولياء!

إن رواية "الزرايب" للروائي محمد صاوي من الأعمال الروائية الفريدة في ملحميتها، ومقدرتها على تتبع عائلة أبي حماقة لفترة زمنية طويلة سمحت للروائي في مُتابعة الكثير من الأحداث التاريخية في تاريخ مصر الحديث، ونسج هذه الأحداث مع الخيال لتصبح جزءا من الحدث الروائي لا يمكن لها الانفصال عنه، وكأنها حدثت في جوهر الأمر داخل الرواية وليس في الواقع، ساعد الروائي على ذلك امتلاكه للغة جيدة، وخيال ثري ساعده كثيرا على اختلاق الكثير من الحكايات والمواقف والشخصيات، ونسجها من أجل إثراء الحدث الروائي، فضلا عن استخدامه للأشياء من أجل الدفع بالسرد، أي أنسنة الجمادات، والحكي على لسانها ببراعة، ومقدرته الماهرة على امتلاك الحدث الروائي حتى المُفردة الأخيرة فيه، وهو ما يؤكد على بارع، يعي جيدا ما يقوم به، ومقدرته على خلق عوالم روائية مُختلفا فيها عن غيره من الروائيين، لا سيما رواية الأجيال، وهي من الأعمال الروائية الصعبة التي تحتاج إلى الكثير من الصبر والأناة والانتباه إلى التفاصيل الدقيقة، وعدم إهمالها؛ لأنها اللبنة الأساسية لبناء مثل هذه الأعمال الروائية.

 


محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد يوليو 2025م

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق