الجمعة، 4 نوفمبر 2016

"تاريخ الرقابة على السينما في مصر".. الصحافة عدو السينما



"كانت الرقابة بمختلف أشكالها، وسوف تظل، تعبيرا عن السلطة السياسية الحاكمة أيا كانت هذه السلطة، في مصر، وفي غيرها من دول العالم. ويمكن تبين توجهات السلطة السياسية بوضوح من خلال ما تمنعه الرقابة أكثر مما نتبين من خلال ما تصرح به".
هذا ما يؤكد عليه الناقد السينمائي سمير فريد في مقدمة كتابه "تاريخ الرقابة على السينما في مصر"، وهو الكتاب الذي صدر مؤخرا عن مشروع مكتبة الأسرة. يؤكد سمير من خلال كتابه على أن الرقابة: "تنقسم إلى نوعين: رقابة على الفيلم قبل تصويره، وأخرى بعد تصويره. وتنقسم الآراء حول تفضيل أي منهما يخدم حرية التعبير. فهناك من يرى أن من الأفضل الرقابة قبل التصوير حتى لا تخشى شركات الإنتاج الإقدام على إنتاج الأفلام المجددة، وتكتفي بالأفلام المضمونة مائة في المائة، ولا تنتج غير الأفلام السائدة. وهناك من يفضل الرقابة بعد التصوير على أساس أن العمل الممنوع لن يُمنع للأبد، وأن العمل الذي حُذفت منه لقطات معينة لن تظل محذوفة إلى الأبد، وإنما سيأتي يوم يُعرض فيه الفيلم الممنوع، وسيأتي يوم يُعرض فيه الفيلم الناقص كاملا، وأن المهم أن الفنان حقق ذاته بمجرد وجود عمله".
من حُسن الحظ أن قوانين الرقابة في مصر لا تشير من قريب أو بعيد إلى نيجاتيف الفيلم. فالفيلم الممنوع يُمنع من العرض، ولكن من دون المساس بالنيجاتيف، وحذوفات الرقابة تُنفذ في نسخ العروض العامة، ولا تُنفذ على النيجاتيف الأصلي. ولكن عدم وجود نصوص قانونية تحول دون المساس بالنيجاتيف، ومع النمو المتزايد للتيارات الدينية المتطرفة يصبح من الضروري وجود النصوص القانونية، التي تحمي النيجاتيف من التدمير أو التشويه؛ فالرقابة كما وصفها "جودار" ذات يوم هي "جوستابو على الروح".
هكذا يتحدث الناقد سمير فريد عن الرقابة منذ بداية كتابه الذي قسمه إلى عشرة فصول يحاول من خلالها عرض العديد من القضايا الساخنة التي تعرضت لها العديد من الأفلام السينمائية في مصر، مُتعرضا في ذلك إلى موقف الرقابة من هذه الأفلام، وكيف كانت الصحافة هي السبب الرئيس في تأليب الرقابة على السينما، ومن ثم كان العديد من الصحفيين يدعون إلى مصادرة الأفلام ومنعها من دون الفهم النقدي أو الوعي بالمفهوم السينمائي للفيلم معتمدين في ذلك على جهلهم بفن السينما، بل شاركهم في هذا الجهل والمطالبة بالمنع في بعض الأحيان بعض النقاد الممالئين للنظام السياسي في محاولة منهم ليكونوا أكثر وطنية وأخلاقية ممن ينتمون إلى الأنظمة السياسية، فيعمل المؤلف على استعراض كل قضية وما كُتب فيها، وكيف تطورت الأمور إلى أن انتهت كل قضية بعرض الفيلم بعد عدة سنوات من المحاكمات والمنع.
يتحدث فريد عن أول قانون صدر للرقابة في مصر يوم 26 نوفمبر 1881م، وهو قانون الرقابة على المطبوعات الذي كان من بين ردود أفعال محاولة الثورة العسكرية التي قادها اللواء أحمد عرابي باشا في سبتمبر 1881م، وقد ذكر عرابي أن الغرض من هذا القانون هو "إيقاف سيل الصحف الوطنية واندفاعها الثوري والقضاء على حرية الصحافة"، وقد ذكر في هذ السياق مسرحية تُسمى "عرابي باشا" كانت تُعرض في الفترة من 1900 إلى 1907م وأن هذه المسرحية كانت تُهاجم قائد الثورة أحمد عرابي لتكلمه عن الحرية. حتى جاء اللواء عرابي بذلك النبأ الذي هش له الجميع وهو تعيين ثلاثة من الصحفيين في البوليس الملكي أو السري، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها المثقفون مع البوليس في الرقابة على حرية التعبير، وهو أمر ظاهره الرحمة وباطنه المزيد من القهر؛ مما أدى إلى مصادرة هذه المسرحية في 1909م.
يشير المؤلف إلى أن الظاهرة اللافتة للنظر فيما يتعلق بالرقابة على الأفلام هو القبول العام بها في أوساط السينمائيين والمهتمين بالسينما على الأقل حتى منتصف الثلاثينيات، ففي كتابه "فجر السينما" الذي صدر في بداية الثلاثينيات يقول محمود خليل راشد في الفصل الأول المعنون "الصورة المتحركة والأخلاق": "إن الصور المتحركة يجب أن تكون خالية من كل ما يُغري بالفساد ويدفع إلى الغواية، خصوصا أن هذه الصور يشاهدها الناس من كل طبقة فتيان وفتيات، أولاد وبنات، ورجال ونساء، فمن أقبح المناظر أثرا مناظر اقتراف الجرائم والمغازلة والموت وعقوق الأبناء والتعذيب إلى آخره"، كما يذكر أن ظاهرة القبول العام للرقابة في أوساط السينمائيين، والتناقض نفسه الذي يعكس النزعة التوفيقية للبرجوازية المصرية، نجده في كتاب السينما لصاحبه الصحفي والناقد والمخرج أحمد بدرخان الذي صدر عام 1936م؛ فهو يبدأ كتابه قائلا: "إن الفيلم المصري لن تقوم له قائمة إلا إذا عبر عن الروح المصرية التي تختلف عن الروح الأمريكية أو الفرنسية أو الألمانية. بل ويستشهد بما قاله لينين عن مدى تأثير السينما. كما يقول تحت عنوان "السيناريو وقلم الرقابة": "قلم الرقابة لا يتعرض فيما يُقدم له من سيناريوهات إلى الناحية الفنية، أو ما يتعلق بالذوق، إذ مرجع ذلك كله هو الجمهور، والحكم فيه له. ومهمة قلم الرقابة تنحصر في الأمور التالية: 1- منع تعلم ارتكاب الجرائم أو بث روح الإجرام أو تشجيع الميل الإجرامي في النفوس المستعدة له، 2- منع انتهاك حرمة الأخلاق والآداب العامة، 3- منع انتهاك حرمة الأديان السماوية، 4- منع انتشار التعاليم الاجتماعية الخطرة لاسيما التعاليم الشيوعية، 5- منع كل ما قد يؤدي إلى مشاكل سياسية أو دولية.
يتحدث الناقد سمير فريد عن أولى المعارك الحقيقة للرقابة مع السينما في مصر، وهي معركة موافقة يوسف بك وهبي على تمثيل شخصية الرسول "محمد" عام 1926م في فيلم ألماني دعمه مصطفى كمال أتاتورك رئيس الجمهورية التركية، وهي المعركة التي انتهت بتراجع يوسف وهبي عن موافقته بناء على فتوى من الأزهر، ويسوق في هذا ما كتبه وهبي في مذكراته في الجزء الثالث منها التي صدرت في حياته عام 1976م: "في أثناء الموسم زارني بمسرح رمسيس الأستاذ الأديب التركي وداد عرفي. وقدم لي سيدا يُدعى الدكتور كروس. وأفهمني أنه شخصية لها وزنها. وأنه رسول عاهل تركيا الرئيس أتاتورك ومستشاره الخاص وجنسيته ألمانية، وطلب مني أن أحدد موعدا معه لأمر هام جدا، ويقول يوسف وهبي أنه علم من هذا اللقاء أن د.كروس يُمثل مؤسسة سينمائية ألمانية مشهورة، وقد نال موافقة رئيس الجمهورية التركية على إنتاج فيلم إسلامي ضخم كدعاية مشرفة للدين الإسلامي الحنيف وعظمته وسمو تعاليمه تُشارك في نفقاته الحكومة التركية باسم "محمد رسول الله" وقد أعد السيناريو، وصرحت بتصويره لجنة من كبار علماء الإسلام في اسطنبول، ويظهر في الفيلم النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وتُصور مناظره الخارجية في صحراء السعودية. واقترح أن أرسم شخصية النبي"، وقد وافق يوسف وهبي على القيام بدور النبي، بل ووقع عقد التمثيل في السفارة الألمانية بعشرة آلاف جنيه، لكن ما أن نُشر الخبر في الصحف حتى ثار السادة رجال الأزهر، وثار معهم الرأي العام، على حد تعبير يوسف وهبي، وظهرت في الصحف فتوى من شيخ الأزهر تنص على أن الدين يُحرم تحريما باتا تصوير الرسل والأنبياء ورجال الصحابة رضي الله عنهم".
هنا ثارت ثائرة الصحافة المصرية بالكامل على يوسف وهبي لدرجة أنه قد تم اتهامه بالخروج عن الدين والمروق من السنة النبوية، وظل هذا الهجوم عليه لفترة طويلة على صفحات الجرائد؛ الأمر الذي دفعه في النهاية إلى عدم تمثيل الفيلم لاسيما أنه يقول في مذاكرته: "بعث إليّ الملك فؤاد تحذيرا قاسيا مُهددا إياي بالنفي، وحرماني من الجنسية المصرية، ويُذكر أن هذا لم يمنع الشركة من إنتاج الفيلم، وقام بالدور ممثل يهودي".
يتحدث المؤلف عن خضوع السينما للتقلبات السياسية من خلال قضية الفيلم الصامت "زينب" للمخرج محمد كريم الذي طلب في فبراير 1929م تصوير لقطات لقوات الجيش في الفيلم وذلك على حد تعبيره، لأن الجيش في كل الأمم عنوان نهضتها، ورمز قوتها، ولكن هذا الطلب قُوبل بالرفض التام، كما كرر كريم هذا الطلب مرة أخرى عام 1951م حينما عمل على تصوير نفس الفيلم مرة أخرى كفيلم ناطق لكنه قوبل بالرفض أيضا، كما أن فيلمه "أولاد الذوات" 1932م كتبت عنه جريدة "لابروص"، وجريدة المقطم مطالبتين بمنع الفيلم من العرض؛ لأنه يصور المرأة الأوروبية في صورة شائنة بالنسبة للمصريين، لكن الفيلم استمر في العرض رغم تأليب الصحافة للسلطة عليه، وفي عام 1937م بدأ عرض فيلم "ليلى بنت الصحراء" إنتاج وإخراج وتمثيل بهيجة حافظ، لكن الحكومة أوقفت العرض بسبب زواج ولي عهد إيران من الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق، وتعارض ذلك مع قصة الفيلم التي تصور الصراع بين العرب والفرس، وهو ما حدث أيضا مع فيلم لاشين" للمخرج فريتز كرامب عام 1938م حيث مُنع الفيلم؛ لأن به مساس للذات الملكية ونظام الحكم، ولولا تدخل طلعت باشا حرب لما عُرض الفيلم مرة أخرى.
يذكر الكتاب أهم معركة رقابية مع السينما المصرية من خلال أربعة أفلام في السبعينيات، وهي أفلام "العصفور" للمخرج يوسف شاهين، و"زائر الفجر" للمخرج ممدوح شكري، و"التلاقي" للمخرج صبحي شفيق، و"جنون الشباب" للمخرج خليل شوقي، وكان هذا المنع بالنسبة لفيلم يوسف شاهين أنه تعرض لهزيمة الخامس من يونيو 1967م وعن رغبة الشعب في تحرير أرضه بالقوة، كما عبر ممدوح شكري في زائر الفجر عن بشاعة القهر، وعن رغبة الشعب في الحرية والديمقراطية، وعبر صبحي شفيق في التلاقي عن الفساد والانحراف في أجهزة الدولة، وعن رغبة الشعب في الإصلاح والتغيير، وعبر خليل شوقي في جنون الشباب عن الطلاق بين الأجيال وعن الانحراف الجنسي، وكانت كل هذه الموضوعات من المحرمات التي لا يجوز التعبير عنها بلغة السينما.
ظلت هذه الأفلام ممنوعة لمدد تتراوح بين عامين إلى ثمانية أعوام، لكن المعركة الحقيقية التي أثارتها الصحافة وتسببت في منع الرقابة للفيلم كانت مع فيلم "المذنبون" 1976م للمخرج سعيد مرزوق، وهي المعركة الكبرى التي أدت إلى محاكمة موظفي الرقابة الذين أعطوا للفيلم تصريحا بعرضه، وكان سبب هذه المحاكمة تأليب الصحافة للرأي العام، بل والمطالبة بحرق الفيلم ومن اشتركوا فيه، وقد تعرض الفيلم للحذف أثناء عرضه أكثر من مرة، وفي عام 1977م فاز الفيلم بجائزة وزارة الثقافة المصرية كأحسن فيلم مصري عُرض عام 1976م، ومع ذلك وفي نفس العام، وبواسطة نفس الوزارة تمت إحالة 15 من العاملين والعاملات في الرقابة إلى النيابة الإدارية بسبب موافقتهم على عرض الفيلم وتصديره، رغم أن الفيلم كان عن قصة لنجيب محفوظ تتحدث عن تفسخ العلاقات الاجتماعية وتفشي الفساد في المجتمع المصري.
لعل من أشرس معارك الرقابة مع السينما كانت المعركة التي افتعلتها الصحافة المصرية مع فيلمي "خمسة باب" 1983م للمخرج نادر جلال، و"درب الهوى" 1983م للمخرج حسام الدين مصطفى، وهي المعركة التي استندت فيها الصحافة إلى حماية الأخلاق والعادات والتقاليد، وغيرها من هذه الأقوال باعتبار أن منع الفيلمين سيعمل على حماية أخلاقيات المجتمع من الفساد، لكن المعركة انتهت في النهاية بعرض الفيلمين بعد الوقوف أمام القضاء.
في عام 1992م طالب بعض الصحفيين ومعهم قلة من نقاد السينما بمنع فيلم "ناجي العلي" للمخرج عاطف الطيب وهو الفيلم الذي يصور حياة فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، رغم أن الفيلم قد تم افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي به، وكانت معركة شرسة بين الصحافة والسينمائيين أدت إلى اتهام كل من اشترك في صناعة هذا الفيلم بالخيانة العظمى وعدم الوطنية والانتماء نتيجة صناعته، وهو ما حدث أيضا مع فيلم "المهاجر" للمخرج يوسف شاهين 1994م حيث هاجمت الصحافة الفيلم والمخرج وطالبوا بمنعه مما أدى للجوء إلى القضاء، وكانت دعوات الصحفيين في هذا النزاع تستند إلى أن الفيلم يتعرض لحياة النبي يوسف ويصور حياته في الفيلم.
يتعرض كتاب "تاريخ الرقابة على السينما في مصر" إلى العديد من المعارك الكثيرة التي أثارتها الصحافة ضد السينما المصرية، وكيف كانت الصحافة هي السبب في منع الرقابة للكثير من الأفلام؛ الأمر الذي جعل الصحافة في نهاية الأمر رقيبا أقوى من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية رغم أن معظم الصحفيين الذين ينادون بذلك ويتحدثون في السينما لا يفهمون فيها أو في النقد السينمائي.




محمود الغيطاني


جريدة "الجريدة" الكويتية
عدد 4 نوفمبر 2016م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق