يقول المؤرخ "كريستيان" في كتابه "إفريقيا الفرنسية": "تلقى الجند أمرا من القائد العام الجنرال "روفيقو"، بالخروج من مدينة الجزائر ليلة 16 إبريل سنة 1832م؛ ففاجأ قبيلة العوفية عند الفجر وهي نائمة تحت خيامها، وأمعن في ذبح أولئك المساكين الذين لم يستطع أي واحد منهم الدفاع عن نفسه، وهكذا وقع قتل كل نفس حية في القبيلة، دون أي تمييز بين جنس وسن، وعند الرجوع من هذه الحملة المخجلة كان الفرسان الفرنسيون يحملون رؤوس القتلى على أسنة رماحهم"، ويقول الجنرال شانقارنيني: "لقد كانت التسلية الوحيدة التي أستطيع أن أسمح بها للجند أثناء فصل الشتاء، هي السماح لهم بغزو القبائل المعادية التي تسكن فيما بين وادي الحراش وبورقيقه"، ويقول المؤرخ دبوزايد عن ذلك ما نصه: "أما الغنيمة من الحيوان فقد بيعت إلى ممثل قنصلية الدانمارك، وأما بقية الغنائم الصامتة فقد عُرضت للبيع في سوق باب عزون، وكان من بين الغنائم أساور نساء وهي لا تزال في أيديهن المقطوعة، وأقراط نساء لا تزال تلتصق بها قطع من آذانهن، ثم وزع ثمن كل ذلك على السفاكين من رجال الطابور الفرنسي. وفي ذلك اليوم أصدرت السلطة أمرها لسكان الجزائر المسلمين بأن يضيئوا ليلا حوانيتهم؛ إظهارا لسرورهم بذلك الانتصار".
هذا ما يذكره المؤلف أحمد
توفيق المدني في كتابه المهم "هذه هي الجزائر" الذي صدر قديما في أول
طبعة له عام 1956م عن مكتبة النهضة المصرية، وهو الكتاب الذي يهتم بتاريخ الجزائر
ووصفها، والحديث عن جغرافيتها، وأهم المعادن والنشاطات الاقتصادية فيها. إلا أنه
يركز على المقاومة التي اندلعت للرد على الفرنسيين الذين كادوا يعملون على محو
الجزائريين تماما في أكبر عملية إبادة تكاد تكون منظمة للشعب الجزائري الذي استطاع
الانتفاض الحقيقي من أجل طرد المستعمر الفرنسي ورده مرة أخرى.
هذا المستعمر الذي تميز
بالكثير من الخسة في تعامله مع الجزائريين يشهد على ذلك حريق الكهف الذي آوت إليه
قبيلة بأسرها، سنة 1845م فارة أمام الجند الفرنسي، ولم يكد الجند يكتشفون ذلك
الكهف الفسيح، حتى وضعوا أمامه وعلى مداخله أكواما من الحطب والقش، ثم أوقدوا
عليها النيران، واستمروا على تغذية النار كامل الليلة، فما جاء الصباح، ودخل الجند
الكهف حتى كانت جثث 780 من الضحايا بين رجال ونساء وأطفال مفككة الأوصال ممزقة
الأشلاء، تحت أقدام الثيران والحيوانات التي دفعتها غريزتها نحو الباب؛ فداست كل
شيء ثم لقيت حتفها. ومن أفظع ما شوهد داخل الكهف رجل أسلم الروح وهو ممسك بقرن أحد
الثيران دفاعا عن امرأته وصبيه، وقد مات الرجل والمرأة والصبي والثور وهم على ذلك
الوضع.
كما قال أحد قوادهم، سانت
أرنسو، في كتاب مطبوع يُعتبر من ديوان الفظائع والفضائح: "لقد كنت أستطيع مع
جنودي اقتفاء أثر القائد العام دون أن أضل الطريق؛ لأني كنت أسير على ضوء الحرائق التي
يوقدها من هم قبلي في القرى والمدائر والدواوير العربية التي كان يمر بها".
ذُكر في تقرير لجنة البحث
الرسمية التي بعث بها ملك فرنسا للبرلمان من أجل إطلاعه على حقيقة ما وقع في
الجزائر ما يلي: "إننا قد ضممنا إلى ممتلكات الدولة سائر عقارات الأوقاف
الإسلامية، ووضعنا تحت الحجز ممتلكات طائفة من السكان تعهدنا لها باحترام أشخاصها
وممتلكاتها، وبدأنا أعمالنا في ميدان السلطة بمظلمة، ألا وهي إرغام الناس على
المشاركة في قرض إجباري (100000 فرنك)، واستولينا على ممتلكات خاصة دون أن ندفع
مقابلها أي تعويض، بل قد أجبرنا في كثير من الأحايين أصحاب الديار على دفع نفقات
تهديمها، كما أجبرناهم على دفع نفقات تهديم مسجد. ولقد اعتدينا من دون أي مراعاة
على حرمة الأضرحة والزوايا والمساجد، وعلى المنازل الخاصة التي تعتبر مقدسة عند
المسلمين.
لقد ذبحنا جماعة من الناس
كانت تحمل جوازات مرور ممهورة بختمنا، وقد أبدنا في مذابح عامة، لمجرد شك، طوائف
عديدة من السكان تبين فيما بعد أنها كانت بريئة مما اتهمناها به، ولقد حاكمنا
جماعة من وجوه القوم وأشراف الأمة ورجال الصلاح فيها، ما كان لهم من ذنب إلا أنهم
تقدموا أمام بطشنا، يسألوننا الشفقة والرحمة بأبناء البلاد المساكين؛ فلقد وجدنا
حكاما منا يصدرون أحكاما بإعدامهم، ووجدنا جلادين منا يقومون بتنفيذ تلك الأحكام.
إننا قد فقنا في أعمال الوحشية هؤلاء الوحشيين الذين جئنا لتمدينهم". (لجنة
البحث 1833م).
هذكا يحاول المؤلف سوق العديد
من الشواهد على وحشية المستعمر الفرنسي تجاه الجزائريين الذين عانوا كثيرا، ودفعوا
كل ما هو غال لديهم من أجل تراب هذا الوطن الذي لم يكن له أي ذنب فيما يحدث له سوى
أنه كان وطنا كريما مع الفرنسيين حينما كانت فرنسا في حاجة إليهم، فلم يتخل عنهم
الجزائريون، بل وقفوا إلى جانبهم، وساندوهم، وأطعموهم من جوعهم المشرفين عليه؛
وهنا كان جزاء الجزائر هو احتلالها للتهرب من رد الديون التي يُطالب بها
الجزائريون.
هذا ما يذكره الكتاب والتاريخ
بقوله: "جاعت فرنسا أيام الثورة الفرنسية، وأوصدت دونها إنجلترا ودول أوروبا
أبواب العالم، فلم تلق نجدة إنسانية إلا من أرض الجزائر الحرة، وحكومة الجزائر
الجمهورية الحرة، فكانت المراكب تترى بين الساحلين تحمل لفرنسا من الحبوب ما وقاها
شر المجاعة، ولقد اشتركت خزينة الدولة مع بعض التجار- كشركة اليهوديين بوخريص، وبوشناق- في تموين تلك العملية الإنقاذية، فما
كادت الثورة الفرنسية تنجح ويستقر أمر حكومتها، حتى كانت فرنسا مدينة للخزينة
الجزائرية بمقدار 2500000 من الفرنكات الذهبية، وتلكأت فرنسا في الدفع، وألحت
الحكومة الجزائرية في المطالبة. وسقطت حكومة الجمهورية الفرنسية الأولى، وانتهى
أمر الحكم الإمبراطوري، وتسلم السلطة الملك الطاغية شارل العاشر، وفرنسا تمتنع عن
الدفع، والديوان يوالي الاحتجاج والإلحاح.
كان شارل العاشر يحكم حكما
استبداديا لا يتحمله الشعب الفرنسي، وكانت رياح الثورة تهب خفيفة تنذر بوقوع
كارثة؛ فأراد الملك أن يباشر حربا أجنبية ضد دولة مسلمة؛ ليستدر عطف رجال الكنيسة
من جهة، وليتخلص من عدد كبير من العاطلين المشاغبين من جهة أخرى؛ فأرسل- كما يؤكد
أعظم المؤرخي الفرنسيين هنري قارو- أمرا لقنصل فرنسا في الجزائر بأن يغتنم فرصة
مغيب الأسطول الجزائري في نفارين؛ لخلق حادث يبرر غزو الجزائر والاستيلاء عليها.
ففي يوم العيد ذهب القنصل
لتهنئة الداي حسين باشا، في قصر القصباء، وبعد تبادل التحية وعبارات التهنئة قال
الباشا: لماذا لم أتلق إلى الآن جوابا من الملك عن رسالتي المتعلقة بتصفية حساب
الدين؟ فتعمد القنصل دوفال العجرفة كما أُمر وقال: هل تظن أن جلالة ملك فرنسا
يتنازل لجواب داي الجزائر؟! فوجم الجميع، وفهموا أن الحادث متعمد، ووقف الباشا وسط
الديوان يرد الإهانة المقصودة، وقال للقنصل: اخرج يا ابن الكلب! وأشار بمروحة من
الريش كان يحملها، إلى الباب؛ فادعى القنصل أن ريش المروحة قد لمس وجهه، وخرج
صاخبا محتجا، وعلم قناصل الدول كافة أن الحادث قد وقع وأن الخاتمة قريبة.
هنا وقف شارل العاشر ملك
فرنسا يقول في خطاب العرش يوم 2 مارس 1830م ما نصه: "إن العمل الذي سأقوم به
لترضية شرف فرنسا سيكون بإعانة العلي القدير لفائدة المسيحية جمعاء"، وكان
إذاك قد هيأ أسطولا ضخما يشمل 103 من السفن تحمل نحو الثلاثة آلاف مدفع، و34000
مقاتل، مع 383 سفينة لنقل المؤن والذخيرة، وعزم على اتخاذ قاعدة أعماله ضد الدولة
الجزائرية، شبه جزيرة سيدي فرج على نحو 20 كيلو مترا غربي الجزائر، حسب الخطة التي
كان هيأها الجاسوس الفرنسي بوتان "أيام الإمبراطور نابليون".
كان الديوان على علم بما
يهيؤه الفرنسيون، وخلافا للمعتقد الشائع فإن الجزائريين استعدوا للمقاومة، وهيأوا
برامجها، وقرروا إخلاء شبه الجزيرة التي كانوا يعلمون أن الفرنسيين سينزلون بها،
ثم مبادرتهم بالهجوم إثر ذلك، للرمي بهم إلى البحر وللاستحواذ على كل ما بأيديهم.
وأخذت جموع الجزائريين تحتل مراكزها حول شبه الجزيرة، ثم نزل الجند الفرنسي بقوته
وعتاده يوم 13 يونيو 1830م ، وقام الجند الجزائري بالهجوم في المعركة الحاسمة يوم
19، وكان هجوما عنيفا موفقا، زلزل أقدام الفرنسيين، وألحق بهم خسارة عظيمة، وكاد
يرمي بهم إلى البحر لولا فرقة عسكرية فرنسية صغيرة بقيت وراء الصفوف وخافت أن
يُقضى عليها؛ فصعدت ربوة وأخذت تستغيث وتشير لمعظم الجيش، فظن أحد قادة الجيش
الجزائري أن الفرنسيين المذكورين قد عملوا حوله حركة التفاف؛ قصد قطع خط الرجعة
عنه، فتقهقر كيلا يحدق به، وكانت في تقهقره القاضية؛ لأن القيادة الفرنسية أعادت
الكرة وأرجعت الجزائريين إلى مركزهم الأصلي، واغتنمت فرصة الاضطراب الذي وقع في
الصفوف للاستيلاء على معسكر "مصطفى ولي" فكانت هذه المعركة من أكبر المعارك
الحاسمة في التاريخ.
نتيجة ما حدث اضطرت مدينة
الجزائر للاستسلام؛ فدخلها جنود فرنسا صبيحة يوم 5 يوليو 1830م، وكان يوما من أسود
أيام التاريخ الجزائري. ولم يحترم الفرنسيون عهدهم باحترام الأشخاص والحريات،
فطفقوا ينهبون ويسلبون، وينتهكون الحرمات، واشترك في الاختلاس واللصوصية كبراؤهم
وصغارهم؛ فسجلوا على فرنسا صفحة عار لا تُمحى أبد الدهر".
لعل هذه التفاصيل التاريخية
التي ذكرها المؤلف في كتابه كانت من الأهمية بمكان ما يعطينا صورة للشعب الجزائري
الحريص على الوقوف إلى جانب من هم في حاجة إليه رغم أن رد الفعل الفرنسي في ذلك
الوقت يدل على خستهم؛ حيث حاولوا إبادة الجزائريين واحتلال وطنهم من أجل التخلص
والهروب من ديونهم التي بلغت الملايين من الفرنكات الذهبية الفرنسية.
يتحدث المؤلف منذ بداية
الكتاب عن الجزائر فيعمل على التعريف بها جغرافيا والحرص على وصفها، ثم لا يلبث أن
ينتقل إلى وصف التركيب البشري الذي تتكون منه الجزائر فيذكر أنها تنقسم من حيث
السكان إلى المسلمين فيقول في ذلك: "إنهم سكان البلاد الأصليون، وأصحابها
الشرعيون، عرف التاريخ منذ عهده الأول أصولهم وأنسابهم، وسجل لهم أمجادهم قبل
الإسلام وبعده، والمسلمون الجزائريون عصبة واحدة هي عصبة الإسلام، وأمة واحدة هي
أمة القرآن، وجماعة واحدة هي جماعة القومية الجزائرية، قد اعتنقوا الإسلام دينا منذ
القرن الأول الهجري بصفة إجماعية واتخذوا العربية لسانا، والسنة المحمدية مذهبا،
لا فرق في ذلك بين جبال الجزائر وسهولها ونجودها وصحرائها"، ولكن إذا ما
تأملنا هذا الحديث الذي أورده المؤلف؛ لابد لنا من التوقف أمامه كثيرا للبحث في
تاريخ الجزائر؛ فالمؤلف هنا يعمل على التقسيم الديني الذي لا معنى له، لأن تركيب
السكان يكون بناء على العرقيات وليس على أساس ديني، كما أن التاريخ يؤكد أن
المسلمين لم يكونوا هم السكان الأصليين للجزائر كما ذكر المؤلف، بل هم الأمازيغ،
أو البربر كما أطلق عليهم هذا الاسم اللاتينيين ومن والاهم، وهؤلاء الأمازيغ لم
يكونوا مسلمين كما يذكر المؤلف في كتابه، وهنا يتضح لنا أن المؤلف حاول تغيير
الحقيقة التاريخية القائلة بأن الأمازيغ هم أهل البلاد الأصليين، ولعل ما دفعه إلى
ذلك هو تحيزه إلى العرب والمسلمين باعتباره مسلما يرفض حقيقة أن كل قطر له أهله
الأصليون، وأن العرب والمسلمين كان مكانهم الحقيقي هو شبه الجزيرة العربية فقط
وليس كل الأقطار كما يذهب إلى ذلك الكثيرون من المسلمين مخالفين للحقيقة في ذلك.
ثم يذكر أن الفرع الثاني من
سكان الجزائر هم العرب- وهذا خطأ في التصنيف؛ لأن المسلمين هم جماعة منتسبة إلى
دين، بينما العرب هم عرقية، وفي التركيب السكاني يكون الأمر قائما على العرقيات
وليس الديانات-، فيقول: "العرب هم الأغلبية الساحقة من الجزائر (7 من10)، وقد
استقرت أقدامهم في بلاد المغرب العربي منذ أيام الفتح الإسلامي الأولى وتغلغلوا
بين السكان الأولين الأمازيغ- نسبة إلى جدهم الأعلى مازيغ- يعلمونهم الدين
يجمعونهم حول القرآن".
هنا يتضح لنا أن المؤلف كان
مخطأ حينما اعتمد كلمة "المسلمون" كتصنيف سكاني لسكان الجزائر؛ لأنه
يعود إلى مناقضة ما ذكره مرة أخرى حينما يذكر أن الأمازيغ كانوا هم أصل البلاد،
كما أن التركيبات السكانية لا علاقة لها بالأديان بل بالعرقيات، ويستمر في قوله:
"لكن الجند العربي الأول، جند الرواد، لم يكن كثير العدد؛ فبقيت أكبر أقسام البلاد
على أمازيغيتها، إلى أن حدثت تلك الهجرة التاريخية الشهيرة، هجرة قبائل بني هلال
وبني سليم من صحراء شرق النيل إلى المغرب العربي سنة 444 ه؛ فتدفق سيلهم وتكاثر
عددهم، وانتصبوا في سائر السهول والواحات وأغلب الجبال، واختلطوا بالعنصر
الأمازيغي المسلم اختلاطا وثيقا فتصاهر العنصران وامتزجا"، فإذا كان المؤلف
يذكر أن عدد الجند العربي لم يكن كبيرا، وأن دخول العرب المسلمين إلى الجزائر كان
في 444ه، فكيف لنا تقبل قوله أن المسلمين هم من يشكلون التركيب السكاني الجزائري-
على فرضية أن التصنيف الديني يمكن أن يكون صحيحا-، ومتى دخل الإسلام بمثل هذا
الشكل الضخم الذي يجعل من النسبة الأكبر من السكان مسلمينا في حين أن الجزائر لم
تُفتح إلا في فترة متأخرة عن ظهور الإسلام؟!
يتحدث المؤلف عن الفرع الثالث
من التركيب السكاني- كما يذكر- فيقول عن الأمازيغ: "هم أصل سكان المغرب
العربي كافة"، كما يذكر: "وهل الأمازيغ الأحرار بعداء عن العرب أغراب عن
العروبة الأولى؟ كلا، فابن خلدون مؤرخ البربر الأكبر، وعمدة تاريخ البلاد القديم،
والمعتز بأصله البربري كما يبدو من تاريخه، يؤكد أن الأمازيغ أو البربر من أبناء
مازيغ بن كنعان بن حام، وأن أصلهم من جهات ما بين النهرين بآسيا، ثم ارتحلوا إلى
بلاد المغرب مارين بالبلاد المصرية، وقد أخذوا منها بعض الطقوس الدينية كعبادة
"عمون" وآثارهم المنقوشة العتيقة ببعض جهات الجنوب تؤكد هذا، ثم إن بني
كنعان من أهل فينيقيا قد اختلطوا بالأمازيغ اختلاطا وثيقا منذ سنة 1000 ق.م، وإذا
كانت لغة الفينيقيين عربية تشبه إلى حد بعيد اللهجة العامية العربية المستعملة
اليوم في بلادنا، فاستعمل البربر الأمازيغ تلك اللغة، وأصبحت لسان المعاملة والعلم
بينهم قبل انبثاق فجر الإسلام بنحو 1700 سنة".
غلاف كتاب هذه هي الجزائر |
إذا ما تأملنا ما ذهب إليه
المؤلف باعتبار أن ما قاله هو الدليل الدامغ على العلاقة الوثيقة بين الأمازيع
والعرب سنتأكد أنه هنا يستخف بذهن القارئ ولم يحاول أن يسوق على ما ذهب إليه أدلة
مقنعة وقوية على علاقة العرب بالأمازيع وأنهم تعلموا اللغة العربية ومن ثم
اعتمدوها لغة لهم؛ فالمعروف تاريخيا أن لغة العرب لم تنتشر عند الأمازيغ المغاربة
إلا بعد الغزو العربي الإسلامي لبلاد المغرب وليس قبل ذلك، وربما يعود كل هذا
الخلط والمغالطات التاريخية إلى تعصب المؤلف إلى دينه وقوميته.
يتحدث المؤلف عن الأمازيغ
قائلا: "وأغلبية الأمازيغ المستقرين في الجزائر، والذين لم يندمجوا اندماجا
تاما مع العرب من قبائل البرانس ومنها: صنهاجة، وكتامة، ومصمودة، ولمطة.
والأمازيغي البربري في الجهات التي يسكنها بالبلاد الجزائرية يمتاز بالصلابة
والشجاعة والتصلب للرأي، وعشق الحرية إلى درجة الهيام، وهو يسكن غالبا الجهات
الجبلية الوعرة، التي آوى إليها إثر الحروب الكبيرة التي اصطلى بنارها منذ عهد
روما، ويعيش فيها عيش الكد والعمل والإقلال، فيشترك الرجل والمرأة والصبي في
الأعمال المرهقة للاحتفاظ بالحياة في بلاد الآباء والأجداد".
ينتقل المؤلف بعد ذلك في
تصنيفه للتركيبة السكانية البشرية في الجزائر إلى الفرنسيين فيقول:
"الفرنسيون المستقرون اليوم بأرض الجزائر على نوعين: النوع الأول مؤلف من
أبناء فرنسا الذين دخلوا البلاد مع جنود الاحتلال؛ فاستولوا بحكم الفتح على أرضها
وعلى خيراتها وأموالها، أو الذين جاءوا بعد الفتح جموعا متوالية، تنشطهم على ذلك
حكومتهم وإدارة البلاد لكي ينالوا الثروة والسلطان دون تعب أو مشقة، وأكثرهم من
جزيرة كورسكا، وجهات الإلزاس والورين"، أما النوع الثاني فهو خليط من أبناء
العنصر اللاتيني من إيطاليا وإسبانيا، جاءوا البلاد واستقروا فيها وأغدقت عليهم
السلطة الأموال ومنحتهم الأرض الشاسعة؛ لكي يتضخم بهم عدد الجالية الأوروبية
المسيحية؛ فنالوا الجنسية الفرنسية".
يتحدث المؤلف بعد ذلك عن
اليهود باعتبارهم عنصر جديد من العناصر السكانية التي يتألف منها الجزائر- ولعلنا
نلاحظ أن هناك خلطا بين الديانات والأعراق في هذا التصنيف-، فيقول: "يبلغ عدد
اليهود في القطر الجزائري نحوا من مائتي ألف نسمة- هذا الحديث في عام 1956م، وهو
العام الذي صدر فيه الكتاب- ولقد كانوا يُعاملون في القطر الجزائري قبل الاحتلال
معاملة أهل الذمة، ويعتبرهم المسلمون جيرانا لهم يرعون عهدهم ويحققون لهم حرية
العمل وحرية المعتقد، بل كان اليهود ينالون أحيانا المناصب الرفيعة في الإدراة،
وخاصة أيام الجمهورية الجزائرية العثمانية، ودولة الجزائر الحرة العربية. وكان
اليهود يلجأون إلى قطر الجزائر كلما نابتهم نائبة في أقطار البحر المتوسط، فمن
أيام "بختنصر" 320 ق.م إلى انهيار الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس، أواخر
القرن الرابع عشر، كانت وفود اليهود ترد على البلاد الجزائرية، فتحل فيها على
الرحب والسعة، لكن اليهود كانوا يعتبرون أنفسهم جالية مستقلة؛ فلا يشاركون في
الدفاع عن البلاد، ولا يراعون مصالحة الوطن في معاملاتهم التجارية والاقتصادية،
وجاء الاحتلال الفرنسي فعملوا إلى جانبه، واشتغلوا له سماسرة وتراجمة، وأثروا ثراء
عظيما، وأخذوا في الاستيلاء على مرافق البلاد التجارية والاقتصادية، وكانوا لا
يزالون معتبرين من الأهالي إلى أن انتصبت حكومة الثورة 1870م في باريس وكان من بين
أعضائها اليهودي "كريميو"؛ فأعلن فرنسة كل يهود الجزائر الشمالية،
وأخذوا من ذلك الوقت يندمجون في الحياة العامة الفرنسية اندماجا تاما، وغيروا
أسماءهم وألقابهم، وتصاهروا مع الفرنسيين وتغلغلوا وسط عائلاتهم إلى أن قامت ضدهم
فتنة من الفرنسيين في البلاد الجزائرية 1897م فما نجوا من المذبحة إلا بأعجوبة، لكنهم
عادوا بعد قليل إلى مكانتهم ونفوذهم".
كما يتحدث المؤلف عن تعاملات
اليهود مع أبناء البلاد الجزائريين بقوله: "أعلن اليهود أنهم يلازمون سياسة
الحياد ولو بصفة ظاهرية، وأبدى صغارهم للمسلمين- خاصة في المدن الصغيرة- عطفه، كما
أبدى كبارهم للمستعمريين تأييدهم، وربط مستقبلهم بمستقبلهم، إلى أن تحرج الموقف
أخيرا في مايو 1946م إذ شارك رعاعهم في أعمال التنكيل والزجر في مدينة قسنطينة إلى
جانب الفرنسيين؛ فقتلوا جماعة من المسلمين وهددوا بقتل جماعة أخرى، بدعوى أن أحد
اليهود قد قتل أثناء عملية من عمليات الثورة؛ فأعلن المسلمون أخيرا في جهة قسنطينة
مقاطعة التجار اليهود- تأديبا لهم- وأخذت هذه الحركة تنتشر وتعم".
هكذا يتحدث المؤلف عن التركيب
السكاني في الجزائر، وإن كان تصنيفه فيه الكثير من الخلط بين الأديان والأعراق؛
الأمر الذي جعله يقول خطأ: إن المسلمين هم أهل البلاد الأصليين في الجزائر، وفي
هذا ما يخالف الحقيقة التاريخية، ثم ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى الحديث عن التاريخ
الجزائري القديم واختلاط الأمازيغ- أهل البلاد الأصليين- بالفينيقيين وغيرهم من
الأعراق والحضارات الأخرى؛ فيقول: "في سنة 480 ق.م حدث في بلاد المغرب العربي
حدث غيّر مجرى التاريخ، ذلك أن أميرة فينيقية أسست مع جماعة من الأشراف مدينة
جديدة في الشمال الشرقي من مملكة تونس اسمها "قرطة حدثت" أي القرية
الحديثة، وهي التي أصبحت بعد تحريفها: قرطاجنة"، فهذه القرية الحديثة أصبحت
بعد قليل الدولة الحديثة، وما عتمت أن صارت الإمبراطورية الحديثة، فالدولة
القرطاجنية الكنعانية وطدت أركانها في كامل أطراف المملكة التونسية، ثم بسطت
نفوذها وسلطانها بصفة رسمية على كامل بلاد المغرب العربي، وعلى الأخص بلاد
الجزائر، وكان من تأثير قرطاجنة على أمراء البربر الأمازيغ أنهم أخذوا يقتدون بها
في إنشاء الممالك الواسعة، والعواصم الفسيحة، وتمدهم بالخبراء الذين يساعدون على
تدوين الدواوين، وتنظيم أمور المملكة، وهكذا نشأت في الجزائر دولة
"نوميديا" العظيمة".
نلاحظ أن المؤلف قد اتخذ من
الدولة الجديدة الناشئة وهي دولة "قرطاجنة" تمهيدا من أجل الحديث عن
الدولة التي تهمنا في الحديث عن الجزائر وهي دولة "نوميديا" وفي هذا
يقول: "في قرطة "قسنطينة" اليوم، استقر الملك شامخا عظيما وحاول
ملوك دولة نوميديا أن يجمعوا شمل كامل قطر المغرب الأوسط، فيما بين دولة قرطاجنة
"مملكة تونس" ودولة موريطانيا "مملكة مراكش" ونجحوا في ذلك
إلى حد بعيد، وكانت الدولة الجزائرية قد انتظمت وتوحدت لأول مرة في التاريخ حوالي
سنة 300 ق.م وتولى أمرها ملوك سجل التاريخ أسماءهم بأحرف بارزة، وهنا اصطدم القطر
الجزائري بالاستعمار، والاستعمار اللاتيني بعينه لأول مرة في تاريخه حوالي سنة 250
ق.م؛ ذلك أن دولة روما الناشئة قد أخذت تتحدى دولة قرطاجنة الضخمة المترفة، ودخلت
معها في سلسلة من الحروب الفظيعة التي دامت نحو المائة عام، ظهرت أثناءها شخصية
أعظم قادة الدنيا على الإطلاق، "حن بعل"، ويسميه الأوروبيون
"هانيبال"، وإذ كانت روما أكثر نظاما وأوفر قوة، وإذ كان جندها جندا
منظما منقادا أحسن انقياد، بينما كان جند قرطاجنة من المرتزقة، كتبت الغلبة لروما
ومحت بصفة إجرامية فظيعة مدينة قرطاجنة من الوجود، فطمست بذلك صفحات مدنية من ألمع
مدنيات العالم القديم، وكان سكان قرطاجنة العاصمة يبلغون ساعة الفتك بالمدينة 800
ألف نسمة لم يبق منها بعد النكبة إلا 35 ألفا".
يتحدث المؤلف عن قرطاجنة لينتقل
من هذا التمهيد إلى دور الأمازيغ في هذا الصراع، ويوضح الدور الكبير الذي قامت به
دولة "نوميديا" الجزائرية فيقول: "لعب الأمازيغ دورا حاسما في هذه
الحروب وانقسموا إلى حزبين: حزب أراد الوفاء لقرطاجنة وتحقيق الاستقلال الوطني
بواسطتها، وكان على رأس هذا الحزب الملك "صفاقس"، وحزب آخر رأى أن كفة
روما هي الراجحة وأن دولة قرطاجنة قد دالت، واعتقد أن الحكمة تقضي عليه بنصرتها
والإحراز على رضاها، وعلى رأس هذا الحزب الملك "ماصينيسا" وكانت الغلبة
له وللرومان المستعمرين الذين أيدهم وساندهم برجاله ودهائه"، وهنا انتهى وجود
ونفوذ دولة قرطاجنة في المملكة التونسية، وهي الدولة التي كانت تشع نورا وعلما
ومعرفة؛ وهو ما توارثه فيما بعد الجزائريين في دولتهم الجديدة القوية الناشئة "نوميديا".
كان للرومانيين دورا كبيرا في
الاعتراف بالدولة الجزائرية الجديدة الناشئة وهي دولة "نوميديا":
"فقد اعترفت روما بمملكة "نوميديا" وتركت "ماصنيسا"
يديرها إدارة مستقلة تحت إشرافها ونفوذها الذي أخذ يعظم وينتشر، ولكن النزاع
المسلح بين الوطنية النوميدية "الجزائرية، وبين الجيوش الرومانية كان قويا
فيما بعد إذ كاد الملك العظيم "يوغورطا" يتربع على عرش قرطة ويحكم
نوميديا، ورأى الرومانيون أنهم إن تركوا هذا الملك وشأنه؛ عظم أمره، فاستعدوا له
واستعدوا عليه، وما عتمت الحرب أن اشتعلت شديدة قاسية بين الجانبين، واستبسل
النوميديون "الجزائريون استبسالا في الدفاع عن استقلالهم وحريتهم، ولم يسع
المؤرخ الروماني "سالستس" إلا تسجيله وتمجيده، ودامت هذه الحرب زهاء
الثلاثين سنة وعمت سائر جهات القطر الجزائري، وانتهت بموت البطل
"يوغورطا" جوعا في سجون روما".
يتحدث المؤلف عن التطور الذي
حدث في الجزائر فيما بعد وعن "الوندال" وهم مجموعة من القبائل الجرمانية
التي التي هاجمت إسبانيا وانتقلت منها إلى الجزائر؛ ومن ثم وقف إلى جانبهم
الأمازيغ من أجل التخلص من الحكم الروماني ونجحوا في ذلك بالفعل، ثم عن الروم
الذين حاولوا احتلال الجزائر ولكن الأمازيغ قضوا عليهم. إلى أن يصل إلى الغزو
العربي الإسلامي للجزائر وهنا يتحدث عن نشأة الدولة الرستمية الإسلامية فيقول:
"مما يسجله التاريخ لأمة المغرب الأوسط- الأمة الجزائرية- أنها كانت أول أمة
حققت استقلالها ضمن دائرة الإسلام؛ فأول مملكة إسلامية مستقلة منظمة إنما نشأت في
مدينة تيهرت- على مقربة من تيارت الحالية- سنة 169ه، وقد أسسها القاضي عبد الرحمن
بن رستم؛ فانضمت لها كل أرجاء البلاد الجزائرية الحالية ما عدا بعض جهات قليلة في
الجنوب والشرق، وبهذا سبق الجزائريون بتأسيس دولتهم الرستمية المصريين الذين شادوا
ملك بني طولون، والمراكشيين الذين أقاموا دولة الأدارسة".
يستمر المؤلف في الحديث عن
الدولة الرستمية بقوله: "كان نظام الدولة الرستمية الإباضية نظاما محكما
قائما على الشورى وانتخاب الإمام، وله مجلس يدعى مجلس "الشراة" يمثل
أصحاب الحل والعقد، وقد عملت الدولة على مد الطرقات التي خربتها الحروب السابقة،
ونشرت العدل والأمن بين الناس، وأحسنت تنظيم فرقتي الشرطة لحفظ النظام، والحسبة،
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت دولة من أرفع الدول الإسلامية المحلية
التي سجل التاريخ ذكرها، ولقد دامت هذه الدولة 136 عاما وتولى أمرها ستة من الأئمة
أشهرهم أفلح، وابنه أبو اليقظان، وقد ازدهر في عهدها أمر البعث العلمي؛ فعمت دروس
العلم سائر المساجد، واشتهر في الأدب والعلم والحديث أمثال: إبراهيم بن عبد الرحمن
التنسي المالكي، وقاسم بن عبد الرحمن، والأديب الكبير ابن الهرمة، والشاعر العظيم
بكر بن حماد المتوفي سنة 216، ومن أغرب ما يُذكر عن هذه الدولة في ذلك العصر
تسامحها الديني مع اليهود من أبناء البلاد، ونبغ منهم يهود ابن قريش الذي ترك
كتابا برهن فيه على أن العربية، والعبرية، والكنعانية، والبربرية ذات أصل واحد،
ولا تزال نسخة منه في مكتبة إكسفورد".
ينتقل الكتاب إلى الحديث عن
الدولة الفاطمية التي ظهرت بعد انقراض وسقوط ثلاث دول في المغرب العربي وهي: دولة
بني الأغلب في تونس، ودولة تيهرت في الجزائر، ودولة الأدارسة في المغرب لتنشأ على
أنقاض هذه الدول الثلاث الدولة الفاطمية الشيعية، التي كانت إرهاصا مهما لنشأة دولة
بني حماد العظمى حينذاك فيقول: "رأى خليفة الفاطميين المعز لدين الله
الانتقال إلى مصر بعدما اختط له قائده المغربي جوهر الصقلي مدينة القاهرة؛ فعهد
بأمر المغرب إلى قائد من أعظم قادته هو بلقين بن مناد الصنهاجي، وقد كان هذا البطل
مؤسس عدة مدن جزائرية مثل مدينة جزائر بني مزغنة، والمدية وغيرها، ثم إن زعماء
صنهاجة في الجزائر اتفقوا مع الأمير حماد على تأسيس دولة مستقلة؛ فاختط حماد مدينة
"القلعة" وأنشأ ملكا عظيما شمل سائر جهات القطر الجزائري عام 398ه، وقد
عظم هذا الملك واتسع، واستقرت إدارته على أسس متينة؛ فترك ملوك بني حماد القلعة
واختطوا لأنفسهم عاصمة جديدة هي مدينة بجاية؛ فأخذوا في تعميرها وبناء الأسوار
والقصور والدواوين فيها، والبساتين والمنتزهات ونقلوا إليها عاصمة المملكة عام
538ه، وفي هذه الدولة أصبحت الجزائر من أكثر أقطار الإسلام رفاهية وعلما ورخاء
وأمنا، واشتهرت بعلمائها وشعرائها وحكمائها، ممن ألفت فيهم وفي أعمالهم المجلدات
من أمثال محمد بن علي الصنهاجي، صاحب كتاب "نبذة المحتاجة، في تاريخ
صنهاجة"، والمؤرخ ابن علي، واللغوي النحوي ابن العفراء، والمجتهد ابن الرماح
ومئات من أمثالهم".
بعد انتهاء عصر دولة صنهاجة
نشأت دولة جديدة هي الدولة "الموحدية" التي نشأت في بلاد المغرب الأقصى
"مراكش" التي كان من أبرز أبطالها عبد المؤمن بن علي الندرومي، وفي هذا
يقول المؤلف: "جرد عبد المؤمن جيشا من مائة ألف رجل، كانوا- كما يروي
التاريخ- يصلون خلف إمام واحد، وتقدم إلى المشرق، فتسلم زمام المغربيين الأوسط،
واستطاع تكوين دولة جديدة هناك".
ينتقل المؤلف إلى الجمهورية
الجزائرية العثمانية بعد استعراض الدولة الموحدية حتى انهيارها، وفي هذه الفترة:
"احتل الإسبان مرسى وهران، والمرسى الكبير، وهددوا مدينة جزائر بني مزغنة
تهديدا مباشرا، واستولوا على أكبر الجزيرات الوافعة تجاهها، وجعلوا فيها حصنا يضع
البلدة تحت رحمته، ثم أخذوا يوالون غاراتهم البرية قاصدين مدينة تلمسان، ولم تكن
دولة بني زيان في آخر عهدها مستطيعة أن تجمع الأمة؛ لقتال هؤلاء المستعمرين الذين
كانوا تحت قيادة راهب متهوس ربما لم يعرف التاريخ راهبا أكثر منه تعصبا وبعدا عن
دين عيسى عليه السلام، فكانت الحملة الإسبانية حملة نهب ولصوصية، وانتقام من
الإسلام، وانتهاك فظيع لحرمات المسلمين، وكانت أخبار غارات الإسبان على سواحل
المغرب العربي حديث الناس أجمعين في ذلك العهد، أما عن لصوصية البحر فالإسبان
والبرتغاليون أنشأوا مع غيرهم من رجال أوروبا سفن القرصنة، وانهالوا على مهاجري
الأندلس التعساء، فما كان يصل منهم إلى أرض الجزائر إلا القليل الذي فقد كل متاع
وكل مال، وكاد المغرب العربي كافة يسقط تحت تلك الضربات الفتاكة، لولا أن تدخل
القدر وحدثت المعجزة، كانت المعجزة هي تدخل بطلين من أبطال الإسلام هما: بابا عروج
التركي وشقيقه خير الدين في ميدان الكفاح الجزائري، وقد كانا على رأس عمارة بحرية
من القرصان الأتراك، يعملان متطوعين في سبيل الله لإنقاذ مهاجري الأندلس،
والاجتياز بهم إلى أرض المغرب، ووقعت بينهم وبين الإسبان وقائع ذاع صيتها في البحر
المتوسط، وتحدث بها المهاجرون المساكين في كل جهات البلاد، وأخذت وفود المسلمين
الجزائريين تترى على الزعيمين البحريين، طالبة منهما النجدة والإنقاذ، والإعانة
على دفع الإسبان عن السواحل وعن البلاد؛ فتدخل التركيان بالفعل وحاربا الإسبان
جنبا إلى جنب مع مقاتلي الجزائر الذين التفوا حولهما، وتكونت قوة جديدة في البلاد
مالبثت أن طهرتها من التدخل الإسباني".
لم تستطع دولة بني زيان
الثبات وسط هذه الزعازع، إذ تخلى عنها الناس، فانتهى أمرها، وأصبح خير الدين باشا،
ويلقبه الفرنج "بارباروس" صاحب الحكم في القطر الجزائري سنة 1519م؛
فاتخذ من جزائر بني مزغنة عاصمة للملك الإسلامي الجديد، وأمر بردم البحر بين مختلف
الجزيرات الصغيرة، وأقام عليها جدارا وقلعة يحتمي وراءهما مرسى المدينة، وهكذا
نشأت مدينة "الجزائر" وبسطت في مدة قليلة جدا سلطانها على كامل البلاد
التي أصبحت تدعى البلاد الجزائرية.
ينتقل الحديث إلى الاستعمار
الفرنسي الذي حرص على فرنسة الجزائر بشكل كامل واعتبارها جزءً لا يتجزأ من فرنسا
بقول المؤلف: "ما كادت تستقر أقدام الجند الفرنسي ببعض جهات البلاد
الجزائرية، رغم المقاومات والحروب المستمرة، حتى أصبحت سياسة حكومة فرنسا تتبلور
حول غايتين: الأولى: إقطاع الأرض للفرنسيين والإتيان بأكبر عدد منهم إلى الجزائر،
حتى تمحي صبغتها العربية والإسلامية، وتغدو أرضا لاتينية مسيحية، والثانية: حكم
البلاد حكما مباشرا، لا دخل لأهل البلاد فيه، فبلاد الجزائر كانت تحكم بادئ ذي بدء
بواسطة قادة جيش الاحتلال، وقد اشتهر منهم الكثير بأعمال التنكيل والمذابح
الجماعية، وإفناء المسلمين بالجملة، حتى تخلو الأرض لساكنيها الجدد، وكان شعار
المارشال "بيجو"، السفاح الشهير: احتلال الجزائر بالسيف وبالمحراث؛
السيف في رقاب العرب، والمحراث بيد المستعمر الفرنسي، وكانت الأرض تُوزع على
حثالات الفرنسيين العاطلين، فأنشأت الإدارة أول الأمر 42 مركزا استعماريا، وزعتها
مجانا على عشرين ألفا من الباريسيين، نُقلوا بنفقة الحكومة إلى أرض الجزائر، ووزعت
عليهم الأرض التي ذهب أهلها شهداء الإرهاب بين السيف والنار".
في عام 1848م أعلن مجلس
النواب الفرنسي أن أرض الجزائر قطعة طبيعية من فرنسا، وأنها جزء من أم الوطن، وأن
الفرنسيين ينتخبون نائبين عنهم للمجالس القومية الفرنسية بباريس- كأن لا وجود
للمسلمين.
هكذا يستعرض الكتاب في 248
صفحة الدول التي مرت على الجزائر وكيفية احتلالها، وعنائها مع الكثيرين من
المستعمرين؛ الأمر الذي جعلها تضحي بالكثير جدا من الدماء في سبيل هذا الوطن، حتى
يصل إلى المقاومة ثم الثورة الكبرى التي انتهت باستقلال الجزائر في نهاية الأمر.
محمود الغيطاني
مجلة "عالم الكتاب"
عدد نوفمبر 2016م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق