بوستر الفيلم |
ترير هنا يقدم لنا، ظاهريا، قصة حب شديدة الرومانسية، عميقة في الاستحواذ على مشاعر المُشاهد، فضلا عن استحواذها على مشاعر الشخصيات الفيلمية، لكنه في واقع الأمر يوغل في تأمل المُؤسسات الدينية، والأصولية المسيحية، والجمود الفكري الذي يتمتع به رجل الدين، حتى أنه يسخر من كل شيء، بل وتصل سخريته من الله نفسه الذي يبدو لنا شريرا، راغبا دائما في التلاعب والانتقام من البشر لمُجرد الرغبة في التلاعب واللهو وكأنه يشعر بالملل في ملكوته الذي يوجد فيه وحيدا- تبعا للفكرة الدينية- وليس لديه من وسيلة لتزجية وقته سوى الإضرار بالبشر على الأرض، وإلقائهم في عُمق المآسي! لذلك سنُلاحظ مع التقدم في مُشاهدة الفيلم أن المُخرج إنما يسخر من فكرة الخلاص المسيحي في نهاية الأمر باعتباره مُجرد وهم تضيع حيوات البشر بسببه نتيجة إيمانهم به، وكأنما أسطورة تضحية المسيح بحياته من أجل خلاص البشر مُجرد فكاهة ساخرة لا بد لنا من التخلص من تأثيرها علينا؛ لأنها لم تؤد بنا في النهاية إلا نحو المزيد من الشقاء!
هذه الفكرة الصادمة، للوهلة الأولى، هي لُب ما رغب المُخرج في تقديمه بشكل مُوغل في الفنية من خلال أسلوبية المُخرج التي تخصه، وهي الأسلوبية التي يعمل على تطويرها فيلم بعد آخر ليصل بها إلى آفاق أكثر رحابة يتميز بها عن غيره من المُخرجين الآخرين، لا سيما مُخرجي أوروبا.
إذن، فمن خلال السيناريو الذي اشترك المُخرج في كتابته مع السيناريست
Peter
Asmussen بيتر أسموسن يُقدم لنا أنشودة روحانية
مُعادية للدين، وهي لفرط روحانيتها تبدو لنا أكثر شفافية وجمالا من أي تدين- حيث
يبدو التدين أمامها مُجرد شيء شديد الصلافة والجمود، والقسوة!الممثلة الإنجليزية كاترين كارتليدج
يبدأ ترير فيلمه على لقطة مُقربة Close Up على وجه بيس- قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية Emily Watson إميلي واتسون- التي يقوم رجال الكنيسة باستجوابها بصرامة عن الرجل الذي ترغب في الزواج منه، فيسألها أحد الآباء بسخرية: هل تستطيعين إخبارنا ما هو الزواج؟ لترد عليه ببراءة: عندما يجتمع اثنان تحت كلام الله!
نعرف من خلال المشهد الأول رغبة بيس في الزواج من يان- قام بدوره المُمثل السويدي stellan skarsgård ستيلان سكارسجارد- الذي يعمل على ظهر إحدى السُفن المُنقبة عن البترول في بحر الشمال؛ لذلك يرفض آباء الكنيسة زواجها منه؛ حيث تعيش بيس في إحدى قرى اسكتلندا المُنغلقة تماما على نفسها، والتي لا يفعل سُكانها سوى عبادة الله في الكنيسة بشكل أصولي جامد تماما، بل ويرفضون تواجد الغرباء بينهم، كما لا يفوتنا للوهلة الأولى الأداء المُذهل للمُمثلة إميلي واتسون التي برعت في تقديم شخصية بيس في شكل مُوغل في البراءة والطفولية والسذاجة، حتى أننا سنلحظ هذه الطفولية البريئة على كل قسمات وجهها، لا سيما حركة العينين اللتين عبرتا خير تعبير عن طفلة في جسد أنثى بالغة، كما نجحت المُمثلة كثيرا في التعبير عن هذه الطفولية من خلال حركات الجسد بالكامل، والتفاتاتها؛ الأمر الذي أقنعنا مُنذ مشهدها الأول بمدى براءتها وطفوليتها في التعامل مع كل شيء في الحياة، وهو الأمر الذي تستحق عليه المُمثلة العديد من الجوائز في فن الأداء التمثيلي. لكن المُلاحظة الأهم التي لا يمكن لها أن تفوتنا مُنذ المشهد الأول هو لجوء المُخرج لاستخدام الكاميرا المحمولة على الكتف في تصوير فيلمه، وهي أسلوبية في التصوير قد تُكسب المُشاهد الكثير من الشعور بالقلق والتوتر، لكن ترير هنا لم يقصد هذا الشعور بالتوتر، بل لجأ إلى التصوير بالكاميرا المحمولة ليضفي على الفيلم إحساسا وثائقيا مُزيفا، أي أن المُشاهد في قرارة نفسه سيشعر بأنه يشاهد فيلما تسجيليا، أحداثه حقيقية، حدثت بالفعل على أرض الواقع، وهو ما يجعل الفيلم أكثر حميمية والتصاقا بمشاعر المُشاهد؛ نظرا لشعوره بواقعية ما يراه أمامه على الشاشة بسبب تأثير الكاميرا المحمولة.
إذن، فنحن هنا أمام مُخرج يعي جيدا كيف يؤسس لفيلمه ويجعله يترك بأثره الذي
يرغبه على مُشاهده؛ الأمر الذي يجعله قادرا على الاستحواذ الكامل على المُشاهد،
فضلا عن الاستحواذ الآخر الموازي الذي سنشاهده على الشاشة أمامنا من قبل يان تجاه
بيس، حتى لكأنه نجح في نهاية الأمر في عملية الإحلال بين الاستحواذ على الشاشة،
والاستحواذ خارجها من خلال المُشاهد!المخرج الدانماركي لارس فون ترير
لكن لارس فون لا يكتفي بهذه الأسلوبية التي يقدم بها فيلمه، بل يوغل أكثر فيها بتقسيم فيلمه إلى مجموعة من الفصول، وكأننا نقرأ كتابا مكونا من سبعة فصول وخاتمة، أو كأنه يقدم لنا سبع لوحات فنية، كل منها لها عنوان ما يُدلل على محتواها، ثم لا يلبث أن يفصل بلوحة جديدة لالتقاط الأنفاس، أو للاستراحة قليلا بين اللوحة والأخرى، وسُرعان ما يعود مرة أخرى لاستكمال مشروعه الفني العذب المُختلف في أسلوبيته عن غيره.
بعد المشهد الأول- الذي يستجوب فيه رجال الكنيسة بيس عن يان- نراها تخرج من الكنيسة لتتأمل السماء لفترة، ثم لا تلبث أن تنظر مُباشرة للكاميرا مُبتسمة لها في كسر مُباشر وحاد ومُتعمد للإيهام الفيلمي، أو التواطؤ الفيلمي، أي أنها تكسر الحائط الرابع؛ الأمر الذي يؤكد لنا- مع وجود الكاميرا المحمولة- على رغبة المُخرج في إعطائنا إحساسا عميقا بتسجيلية الحدث، وهو ما سنراه غير مرة على طول الفيلم لا سيما في المشهد الذي ستنظر فيه بيس للكاميرا مرة أخرى بشكل مُباشر، سعيدة مُبتسمة، حينما سيعود زوجها من المشفى إلى البيت.
بعد هذين المشهدين الأولين يقطع المُخرج على مشهد أشبه باللوحة ليكتب على الشاشة Chapter One: Bess Gets Married الفصل الأول: زواج بيس، أي أنه يريد الإيحاء لنا بأنه يحكي حكاية من خلال فيلم تسجيلي حقيقي يقدمه لنا. إن هذه الآليات التسجيلية التي يحرص عليها فون ترير إنما تؤكد على وعيه التام بما يفعله وما يرغب في تقديمه للمُشاهد، ليترك عليه في النهاية الأثر الذي يريده هو كمُخرج.إذا كان المُخرج في مشهديه الأوليين من فيلمه قد حرص على تقديم بيس- من خلال أدائها الطفولي- باعتبارها مُجرد امرأة تتعامل مع الحياة بطفولية وبراءة فائقتين بشكل لا يمكن احتماله لفرط عذوبته، فهو في المشهد الأول من الفصل الأول يحرص على التكريس الكامل لذلك حينما نراها مُرتدية لفستان زفافها بينما يبدو عليها الغضب الشديد؛ بسبب تأخر يان عن الوصول، لكنه حينما تصل طائرته العمودية التي تنقله للحفل نراها تسرع إليه لتضربه بغضب شديد وطفولي في صدره ثم لا تلبث أن تختبئ في حضنه بحب، وسُرعان ما تخرج منه مرة أخرى لاستكمال التعبير عن غضبها الطفولي بضربه ثانية. إن هذا السلوك الطفولي منها رغم محاولة أرملة شقيقها دودو- قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية Katrin Cartlidge كاترين كارتليدج- منعها من مواجهة الزوج عند وصوله- حيث تقول التقاليد بأنه من النحس رؤية الزوجة لزوجها قبل إتمام الزواج- يُدلل على عدم اهتمام بيس بأي شيء سوى رغباتها الآنية، وشعورها الذي يتولد في التو، وهو ما يؤكد على امتلاكها لكل سمات الطفولة البريئة في تفكيرها وتصرفاتها.
إن رغبة المُخرج في إدانة هذا المُجتمع المُتدين المُغلق تتبدى لنا بوضوح
في حفل الزفاف الذي كان بمثابة المُقابلة الواضحة بين الحياة والموت، بين التمسك
بالحياة والاستمتاع بها، في مُقابل الإعراض عنها والزهد فيها باسم الدين؛ حيث نرى
رفاق يان، ممن يعملون معه على ظهر سفينة التنقيب عن البترول، يعزفون الموسيقى،
ويتبادلون المشروبات الكحولية راقصين، بينما نرى أهل القرية/ أهل بيس من رجال
الدين وغيرهم يراقبونهم رافضين إياهم، شاعرين تجاههم بالقرف والاشمئزاز الذي لا
داعِ له! ولعل المشهد الذي نرى فيه تيري- قام بدوره المُمثل الفرنسي الأصل
الأمريكي الجنسية Jean Marc Barr جان مارك
بار- يشرب "كان" البيرة دفعة واحدة بينما يتابعه جد بيس/ رجل الدين
الجالس بجواره مُشمئزا من خير المشاهد المُعبرة عن هذه الإدانة، أو المُقابلة بين
عالمين مُختلفين تماما؛ فنرى رجل الدين بعدما ينتهي تيري من شُرب بيرته يصب لنفسه
كأسا من الليمون ليجرعه دفعة واحدة أيضا، وكأنه يرد على تيري، هنا، وتصعيدا للتحدي
والمُقابلة بين العالمين يقوم تيري بسحق "كان" البيرة بكفه؛ فتتصاعد
وتيرة التحدي من رجل الدين الذي يمسك كوب الليمون الزجاجي الفارغ في كفه ضاغطا
عليه بقوة إلى أن ينكسر رغم انغراس الزجاج في لحمه!الممثلة الإنجليزية إميلي واتسون
إنه التعبير البصري عن فكرة رفض رجال الدين للحياة، وصلفهم الشديد تجاهها وتجاه كل من يرغب في الاستمتاع بها؛ حيث يرون دائما أن الحياة ليست للمُتعة، بل لخدمة الله! كما أن الجنس ليس للمُتعة، بل للإنجاب، فضلا عن أن الغرباء غير مُرحب بهم في مُجتمعهم المُغلق؛ لأنهم يأتون إليهم بعادات ومفاهيم مُنفتحة ومُختلفة تماما عما يؤمنون به! أي أن الغرباء يضربونهم في عمق أفكارهم التي تمثل، في حقيقتها، سبب وجودهم ومكانتهم في مُجتمعاتهم!
سنكتشف أن نشأة بيس في مثل هذا المُجتمع الشديد الإغلاق قد جعلها ما زالت عذراء حتى لحظة زواجها، وهو ما قدمه لنا المُخرج بشكل فيه الكثير من التلقائية البعيدة عن العمدية التلفيقية في تقديم المعلومة حينما تجذب بيس زوجها أثناء حفل الزواج لتدخل به إلى الحمام خالعة لسروالها الداخلي وهي ما زالت بفستان زفافها لتقول له ببراءة طفولية: احصل عليّ الآن! هنا يشعر يان بالكثير من الدهشة ليتساءل: هنا؟ ربما تريدين مكانا أكثر رومانسية. لكنها ترد عليه مُتشبثة برغبتها: هنا جميل. فيعود للتساؤل: مُتأكدة؟! لترد عليه: ماذا يجب عليّ أن أفعل!
أي أنها تجهل تماما كيف من المُمكن أن يتم الأمر بينهما؛ لذا تسأله عما يجب عليها أن تفعله من أجل إتمامه، ليقترب منها يان ويضاجعها واقفا بعدما ألصق ظهرها إلى الحائط.نُلاحظ أن المُخرج قد قدم المعلومة من خلال هذا المشهد، وحينما ينتهي يان من مُضاجعتها يلحظ دما على فستان زفافها؛ فيخبرها بالأمر، وهو ما يجعلها تغسل بقعة الدم قبل خروجها من الحمام لاستئناف حفل الزواج الذي ينتهي على ذهابهما إلى منزل الزوجية للاستمتاع ببعضهما البعض، فيقطع المُخرج على شاشة ثابتة مصحوبة بأغنيات السبعينيات ليكتب على الشاشة: Chapter two: Life With Jan الحياة مع يان.
إن هذا الاكتشاف- كونها عذراء- يجعل يان مُندهشا؛ حتى أنه يسألها حينما يختلي بها في منزلهما: كيف تحملت؟! كيف استطعت الابتعاد عن الشُبان؟! لترد عليه ببساطة وطبيعية: انتظرتك! فيقول: نعم، لكنك كنت وحيدة، مع من كنت تتحدثين؟ فيقطع المُخرج بفنية عالية على مشهد بيس في الكنيسة- باعتبار أن هذا القطع هو ردها عليه- لنراها تُجري مُحادثة مع الله تتقمص فيها شخصية الله تارة بإغماض عينيها وتقليدها لصوت عميق حاد، صارم، قاس، آمر باعتباره يتحدث إليها، بينما تتحدث بصوت رقيق ناعم طفولي حينما تُحادثه، فنراها تقول: أشكرك على أعظم هبة، هبة الحب، أشكرك على يان، إني محظوظة لأنك أعطيتني كل هذه الهبات. لكن رد الله عليها حينما تُغلق عينيها وترد بصوته كان مُدهشا، دالا على تهديده الدائم ووعيده حينما نسمعها تقول على لسانه: لكن تذكري أن تكوني بنتا جيدة يا بيس، لعلمك، أعطيتك إياهم وبإمكاني أخذهم! لترد بخوف: ماذا؟! لم أعن ذلك، نعم، سأكون جيدة، سأكون جيدة جدا جدا.
إن الرد الذي سمعناه، هنا، من الله على لسان بيس إنما يُدلل على إله مُهدد،
متوعد، صارم، قاس، حاد، مُخيف، يُشعر الجميع بالخوف والخشية منه في مُقابل أن يكون
محبوبا، أي أنهم يعبدونه خشية وليس حبا كما تقول تعاليم المسيحية، والأديان كلها،
كما سنلحظ، هنا، في المُحادثة الثنائية بين بيس ونفسها، أو بالأحرى بينها وبين
الله أنها قد تكون مُصابة بحالة ذهانية تتخيل فيها الله الحاد، الصارم، القاسي،
غير المُتعاطف، المُتمتع بالقسوة، وهي الفكرة التي رباها عليها آباء الكنيسة؛
الأمر الذي يجعلها تتخيل أنه يُحادثها ويرد عليها، أي أنها في نهاية الأمر قد
تحولت- نتيجة التربية الدينية الصارمة- إلى شخصية مُنقسمة على ذاتها قد تكون
مُصابة بالفصام؛ مما يجعلها تتقمص الشخصيتين معا عند إجراء الحديث معه- شخصية الله
وشخصيتها- وقد تكون لفرط حبها لله، وإخلاصها الشديد له، تصدق بالفعل أنه يحادثها؛
ومن ثم تكون هناك حالة من حالات الحلول لله فيها عند لحظات مُحادثتها معه، وربما
يكون هناك تفسيرات أخرى أكثر وجاهة لهذه المُحادثات، لكن ما يمكن اليقين منه
والاتفاق عليه هو أن الله هنا مُجرد كائن مُنفر، قاس، مُعذب للآخرين، يسعده
تعاستهم، وتهديدهم!بوستر الفيلم
سُرعان ما يقطع لارس فون مرة أخرى بعد هذا المشهد الذي كان بمثابة رد بيس على يان حينما سألها مع من كنت تتحدثين؛ ليعود إليهما في ليلة زفافهما الأولى التي نرى فيها بيس تتأمل يان مُندهشة ضاحكة كالأطفال حينما يتعرى تماما من ملابسه، بل نراها تبدأ في تلمس جسده ببراءة وكأنها تستكشف عالما غريبا، ساحرا تدخله للمرة الأولى، وسُرعان ما تضحك بصوت عالٍ كالأطفال كلما لمست عضوا من جسده لا سيما حينما تصل يدها إلى عضوه الذكري؛ فتستلقي على ظهرها ضحكا وكأنها اكتشفت لعبة جديدة!
إن رغبة المُخرج في الإيغال داخل هذا العالم المُتدين الصارم ووصفه لنا كمُشاهدين تتمثل في العديد من المشاهد التي حرص عليها من أجل وصفه وصفا دقيقا؛ وهو الوصف الذي لا بد له من دفعنا لأخذ موقف مُضاد ورافض له، فرجال الكنيسة، مثلا، يرفضون أن تكون للكنيسة أجراس باعتبار أنهم ليسوا في حاجة إلى وسيط من أجل عبادة الله! وهو ما نراه حينما يسأل يان أحدهم: لم لا يوجد أجراس للكنيسة؟! فيرد عليه بصرامة: لسنا بحاجة لأجراس لنعبد الله! وفي مشهد آخر تخرج بيس من الكنيسة لتقول: من الغباء أن الرجال فقط الذين يمكنهم التكلم في الخطبة. ليرد عليها أحد الآباء بقسوة: اصمتي يا امرأة! وفي مشهد ثالث تقول بيس لزوجها أثناء جنازة أحدهم: إنهم يدفنون أنطوني الآن، اذهب واستمع للخطبة. فيضحك يان غير مُهتم، لكن دودو/ أرملة شقيق بيس تقول له: نعم يمكنك فعل ذلك؛ مسموح بتواجد الرجال في الجنازة! أي أن النساء لا يمكن لهن التواجد في الجنازات، ولا الحديث في خطبة الكنيسة، وكأن وجودهن عار لا بد من التخلص منه. لكن، حينما يذهب يان للاشتراك في الجنازة يسمع القس يقول مُبتهجا: أنطوني جون الذي كان، أنطوني أنت آثم، مكانك بالجحيم! أي أن رجال الدين يمتلكون من التشفي والكراهية، والقسوة ما يجعلهم يبتهجون لأن من استمتع بالحياة- المحرومين منها برغبتهم- سيكون مكانه الجحيم- رغم أنهم لا يمكن لهم امتلاك اليقين في أنه سيكون في الجحيم أم لا، لكنهم يسقطون في النهاية آمالهم التي ستشعرهم بالراحة وإرضاء إلههم المُتجهم مثلهم!
تشعر بيس تجاه يان بعشق مجنون حتى أنه يستحوذ عليها تماما لتنسى العالم من حولها وكل ما يدور فيه ويصبح زوجها هو عالمها الوحيد الذي تدور في فلكه، حتى لكأنما المُخرج يرغب في الإيحاء لنا بأنها قد استبدلت الزوج وعشقه في نهاية الأمر بوجود الله؛ فبات هو إلهها الأوحد؛ لذا حينما يحين موعد عودته إلى عمله على ظهر السفينة التي تنقب عن البترول في بحر الشمال نراها تبكي بكاءا شديدا كالأطفال، بل وتبدأ في التصرف بتصرفات شديدة الطفولية من التشبث به، والخوف الشديد من ابتعاده عنها وفقده؛ لكن دودو تحاول السيطرة عليها، كما يعدها يان بأنه سيعود إليها بسرعة فتهدأ على مضض شاعرة بالحزن العميق لفراق زوجها.
هنا يقطع المُخرج ليكتب على الشاشة: Chapter Three: Life Alone الحياة وحيدة. في هذا الفصل يستعرض لارس فون حياة بيس بعيدا عن زوجها، والعذاب الذي تعاني منه لابتعاده عنها حتى أننا نراها في الكنيسة تتحادث مع الله بطريقتها الخاصة لتقول له: الحياة من دون يان صعبة. ليرد عليها بصرامة: أنت مُذنبة بالأنانية يا بيس؛ لم تأخذي بعين الاعتبار للحظة كم الأمر مُؤلم بالنسبة له أيضا، تضعين مشاعرك قبل مشاعر أي شخص آخر، لا أرى أنك تحبينه بتصرفات كهذه، الآن يجب أن تعدي بأن تكوني امرأة صالحة. لترد عليه بخوف وبراءة: أعدك أن أكون امرأة صالحة!
الممثل الفرنسي الأصل الأمريكي الجنسية جان مارك بار |
يبدأ المُخرج من خلال القطع المونتاجي مُتابعة حياة يان على ظهر السفينة تارة، وحياة الوحدة التي تعاني منها بيس تارة أخرى بشكل متوازٍ؛ فنرى يان أثناء عمله على ظهر السفينة، ومحاولته عدم نسيان زوجته بالاتصال بها عبر الهاتف، حيث نرى مشهدا يُدلل فيه المُخرج على العشق الغريب الذي تشعر به بيس تجاه زوجها حينما تذهب إلى كابينة الهاتف الوحيد في القرية مُنتظرة مُهاتفته لها، ولأنه تأخر عليها تظل داخل الكابينة إلى أن يغلبها النوم، وحينما يدق الهاتف يُصادف الأمر مرور قس الكنيسة الذي يوقظها للرد على زوجها، أي أنها لا يعنيها من العالم سوى هذا الرجل فقط الذي تحول بالنسبة لها إلى عالم مُغلق عليها لا يمكن لها أن ترى ما هو خارجه؛ لذا نراها كل يوم تضع علامة على التقويم اليومي لتحسب الأيام التي مرت عليها بعيدا عن يان وتستطيع معرفة اليوم الذي سيعود إليها فيه، وهو ما يجعل دودو تسرق التقويم منها، إلا أن بيس تطلبه منها باكية مما يجعل دودو تقول لها: بيس، يجب أن توقفي كل هذا، يجب أن تستمري بالعيش عندما لا يكون هنا، أعني أنه لم يمت، فلم تموتين أنت؟!
إن هذه الحالة من العشق الاستحواذي الذي جعل الحياة أمام غياب الزوج وكأنها مُنتفية تماما هي ما تجعلها تعود للحديث مع الله لتطلب منه عودة الزوج؛ ليرد عليها بصرامة: بيس مكنيل، لعدة سنوات صليتِ من أجل الحب، هل آخذه منك مُجددا؟ هل هذا الذي تريدين؟ فترد بخوف مُتضرع: كلا، ما أزال مُمتنة للحب. فيسألها: ماذا تريدين إذن؟ فتقول: أصلي من أجل عودة يان. ليرد: سيعود بعد عشرة أيام، يجب أن تتعلمي التحمل، تعرفين هذا جيدا. لكنها تقول وهي على وشك البكاء: لا أستطيع الانتظار. ليرد: هذه ليست أنت بيس، هنالك أناس يريدون يان في عمله، ماذا عنهم؟! فتقول: لا يهمونني، لا شيء آخر يهمني، أريد أن يأتي يان فحسب، أتضرع إليك، رجاء أعده لي. فيرد عليها الله بخبث: هل أنت واثقة مما تطلبين؟ لتقول: نعم.
إن هذا المشهد كان من المشاهد المحورية المُهمة في الفيلم، حيث يقطع المُخرج على يان على ظهر السفينة بينما يعمل مع زملائه ليحدث انفجار فجأة يُصاب فيه يان بإصابة خطيرة تجعله مشلولا من أسفل رأسه حتى قدميه، أي أن مشهد الحوار مع الله والجملة الأخيرة التي رد بها على بيس إنما تُدلل مُؤكدة على أن الله مُجرد إله مُتلاعب قاس يتلاعب بمشاعر البشر ورغباتهم وحيواتهم، حتى أنه يُعيد يان إلى بيس حينما طلبت منه، لكنه يعيده إليها مشلولا لا قيمة له في الحياة وكأنه ينتقم منها؛ لإلحاحها، وعدم مقدرتها على احتمال ابتعاد زوجها عنها!
يقطع المُخرج مرة أخرى على شاشة ثابتة ليكتب عليها: Chapter Four: Jan’s Illness مرض يان، حيث نرى بيس حينما يخبرها قس الكنيسة بأن زوجها قد تعرض لحادث على ظهر السفينة فتومئ برأسها صامتة ثم لا تلبث أن تقع مُغشيا عليها بمُجرد محاولة التفاتها وعودتها إلى داخل المنزل؛ مما يُدلل على أنها لن تستطيع احتمال ما حدث لزوجها؛ لذا نراها حينما تصل إلى المشفى في حالة هستيرية لا يمكن السيطرة عليها، راغبة في رؤية زوجها، بل والبقاء معه في غرفة العمليات لمُراقبته أثناء وجوده تحت أيدي الأطباء، وهو ما تسمح لها به دودو إشفاقا عليها حيث توافق بوقوفها خلف زجاج غرفة العمليات لمُراقبة زوجها، وحينما يطلب الطبيب مُقابلتها يخبرها أن الحياة أحيانا لا تستحق أن تُعاش فتسأله: هل سيعيش يان؟ ليقول: زوجك لن يتمكن من المشي مُجددا، نعتقد أنه سيشل تماما. لكنها ترد بسعادة: لكنه سيعيش. ليقول: نعم، سيعيش على ما يبدو. هنا تتسع ابتسامتها الراضية لمُجرد أنه سيظل على قيد الحياة حتى لو كان مشلولا تماما! إنه العشق الاستحواذي المتفاني تماما في الآخر الذي يجعل مُجرد حياته حتى لو كانت من دون أي فائدة نعيما لا يمكن الاستغناء عنه.
لكن بيس تشعر بالكثير من الدهشة وعدم الفهم للموقف الذي باتت فيه؛ لذا
تتوجه إلى الله للحديث معه وسؤاله: أيها الأب، هل أنت هناك؟ ما زلت هناك؟ ليرد
عليها: بالطبع بيس، تعلمين هذا جيدا. فتسأله حائرة: ماذا يحدث؟! ليرد عليها: لقد
أردتِ أن يعود يان. فتبكي بيس قائلة: لقد غيرت رأيي. هنا يرد عليها الله بقسوة
موبخا: لأنك بنت صغيرة وغبية بيس كان عليّ أن أختبرك، وضعت حبك ليان على المحك.
فترد يائسة راضية: شكرا لك لأنك لم تدعه يموت. فيقول: على الرحب والسعة بيس!الممثل السويدي ستيلان سكارسجارد
هذا هو الإله الذي يرغب لارس فون في تقديمه، الإله الذي يبطش بالجميع لمُجرد مشاعرهم الجميلة تجاه بعضهم البعض. وهو الإله الذي يتحدث عنه القس في الكنيسة قائلا لجمهور المصلين: أقول لكم، إذا كانت هناك إحدى الوصايا التي لا تحبون ولا تطيعون؛ لن يكون لكم مكانا في الجنة! أي أنهم يتوجب عليهم الطاعة العمياء من دون تفكير وإلا فسيكون الجحيم هو مصيرهم الأبدي- لاحظ أن جميع الأديان تنادي بنفس المبدأ الخانع اللاغي للعقل والتفكير- تظل بيس بجوار زوجها داخل المشفى راعية إياه بعشق أسطوري، ولا تنتقل بعيدا عنه للحظة واحدة مُؤكدة له عشقها غير المشروط، ومُبدية له سعادتها الجمة بوجوده حيا رغم عجزه التام عن أي حركة، لكنها تُفاجأ به يقول لها: هلا تفعلين شيئا ما لي؟ فترد بطاعة: نعم. يقول: في المرة القادمة حينما تأتين هل يمكنك لبس شيء فضفاض أكثر؛ كي لا أرى جسدك؟
إن هذه الجملة التي قالها يان لبيس كانت شديدة القسوة في وقعها على سمعها؛
الأمر الذي آلمها كثيرا، لكننا لا بد لنا من تفهم موقف الزوج هنا، فهو الشاب الذي
بات عاجزا تماما إلا عن النظر فقط؛ ومن ثم فهو يشعر بالكثير من الألم والحسرة
والعجز أمام زوجته الشابة الجميلة التي لا يستطيع مُمارسة الحب معها أو حتى لمسها
بيده المشلولة إلى جواره، وهو الأمر الذي يجعله أيضا ينحي بوجهه بعيدا عنها حينما
ترغب في تقبيل شفتيه؛ لأن تقبيلها له يشعره بالمزيد من العجز والألم الشديد.الممثل الإنجليزي أدريان رولينز
تشعر بيس بالكثير من الذنب تجاه زوجها؛ لظنها بأنها كانت السبب الرئيس فيما حدث للزوج حينما طلبت من الله أن يعيده إليها، وهو ما يتأكد لنا حينما تقول للطبيب ريتشاردسون- قام بدوره المُمثل الإنجليزي Adrian Rawlins أدريان رولينز: ما حدث على تلك السفينة كان خطأي. فيرد عليها مُندهشا: كيف؟! لتقول حزينة: تضرعت إلى الله كي يعيده إليّ. ليرد ضاحكا: حسنا، يا لها من قدرات تمتلكينها، هل تعتقدين حقا أنك تمتلكين مثل هذه القدرات؟! أي أن بيس تشعر بالذنب الهائل بأنها السبب فيما حدث لزوجها؛ لذا فشعور الذنب من المُمكن له أن يدفعها لفعل أي شيء من أجل إنقاذ حياة الزوج وعودته إلى حياته الطبيعية مرة أخرى.
يقطع المُخرج مرة أخرى على مشهد ثابت ليكتب على الشاشة: Chapter five: Doubt شك. وهو الفصل الذي ينتقل فيه يان من المشفى إلى منزل الزوجية حيث تتفانى بيس في تمريض زوجها والبقاء معه بسعادة بالغة لمُجرد أنه ما زال يتنفس، ومن ثم تنسى العالم بأكمله من حولها تفانيا في عشقه، فنراها تحتفل بعيد ميلاده لتأتي له بلعبة تُدلل على طفوليتها، وحينما ترغب في تقبيل شفتيه ينحي وجهه بعيدا عنها ليقول لها: لقد انتهيت يا بيس، يمكنك أن تحبي شخصا آخر من دون أن يلاحظ أحد، لكن لا يمكنك تركي؛ لن يدعوك تفعلين ذلك. لتتأمله بيس لفترة صامتة مُندهشة مُستنكرة، ثم تخرج صامتة من الغرفة، لكنها سُرعان ما تعود باكية لتقول غاضبة: هل هذا ما تعتقد إني أريد؟! أيها المسخ.
إن طلب يان من زوجته كي تبحث عن رجل آخر ليمنحها مشاعره واهتمامه فيه ما يمكن تقبله إلى حد ما؛ حيث يشعر تجاهها بالكثير من الذنب باعتبارها ما زالت شابة صغيرة ستُحرم من الحب والعشق للأبد ما دام قد وصل إلى هذه الحالة التي لا يمكن له فيها أن يتحرك قيد أنملة، أي أنه لفرط عشقه لها، ولشعوره بالذنب تجاهها قد طلب منها ذلك؛ ومن ثم يبدو الطلب حتى الآن طبيعيا مُغرقا في إنسانيته، كما أن رد فعلها كان أكثر طبيعية من امرأة عاشقة لزوجها حتى أنها لا ترى العالم إلا من خلاله هو، وهو الأمر الذي جعلها تشعر بالغضب الشديد من طلبه حتى أنها سبته وتركته وحيدا، لكن حينما تدخل عليه دودو وتجده وحيدا يقول لها: يجب أن تعترفي أنها كانت سعيدة عندما تزوجنا، أزهرت وتفتحت، أليس كذلك؟ لا أستطيع الرقود هنا فحسب، لا أستطيع حتى مُطارحتها الغرام، يجب عليها أن تذهب من هنا، ساعديني، دعيها تنطلق حرة. لترد عليه دودو: ستفعل أي شيء من أجلك يا يان، أنت تعرف ذلك، هي لا تهتم بنفسها مُطلقا، لكنها ستفعل أي شيء من أجلك، لترى بسمتك مرسومة، هل تفهمني؟
ألا نُلاحظ في مثل هذا الحوار بين دودو ويان ما يؤكد لنا أن الموقف برمته مُجرد موقف إنساني بحت يحاول من خلاله الزوج البحث عن سعادة زوجته التي حُرمت منها للأبد نتيجة عجزه التام؟ إذن فليس في طلبه الذي طلبه منها أي شيء غريب أو ما يمكن أن يُلام عليه، لكن رد دودو عليه كان من الخطورة ما جعل ذهنه وتفكيره يتطورا بشكل آخر ليطلب منها فيما بعد طلبات أكثر غرابة لم نكن نتوقعها منه.يُصاب يان بأزمة في التنفس؛ الأمر الذي استدعى نقله مرة أخرى للمشفى، وحينما تعود بيس إلى المنزل للاعتذار له عن سبابها لا تجده؛ فتسرع للمشفى مُضطربة، لتلومها دودو لأنها قد تركته وحده.
تعتذر بيس لزوجها لكنه يقول لها- في تطور خطير لتفكيره: الحب قدرة خارقة، أليس كذلك؟ إذا مُت سيكون الأمر لأن الحب لم يستطع إنقاذي، لكني لا أستطيع التذكر كيفية مُطارحة الغرام، وإذا نسيت هذا الشيء؛ عندها سأموت، هل تتذكرين عندما هاتفتك من السفينة؟ تطارحنا الغرام عبر الهاتف. فتسرع بيس قائلة: هل تريدني أن أتكلم معك بتلك الطريقة؟ أحب ذلك. لكنه يقول لها: بيس، أريدك أن تجدي رجلا تطارحينه الغرام، وتعودي إليّ لتخبريني! سأشعر أننا مع بعضنا مُجددا، هذا سيبقيني على قيد الحياة! فترد بعشق: لا، لا أستطيع. لكنه يقول لها: هذا الصباح، عندما قلت لك أن تحصلي على حبيب، لم يكن من أجلك، بل لأجلي، لأني لا أريد أن أموت، أنا خائف، أتفهمينني؟ سنكون أنا وأنت يا بيس، افعليها من أجلي! فترد بثقة أكبر: لا أستطيع. لكنه يقول لها: أرجوك!
الممثل الألماني أودو كير |
لكن، أيا كان السبب الذي دفعه إلى طلب مثل هذا الأمر من زوجته- وهو ما لم يهتم المُخرج بإيضاحه عامدا لاهتمامه بالفكرة أكثر من مُسبباتها- فهو ما لا يمكن لنا تقبله؛ لأن الأمر قد تحول إلى طلب مرضي مُدهش، كما أنه على ثقة تامة بأن عشق بيس له، وإيمانها به، وشعورها بالذنب لأنها تعتقد بكونها السبب فيما حدث له، ورغبتها العارمة في فعل أي شيء من أجل عودته للحياة الطبيعية، وثقتها بكل ما يخبرها به وكأنه حقيقة لا يمكن إنكارها، أو أنها من تعليمات الله، فضلا عن طفوليتها في سلوكها و تفكيرها، كل هذا سيجعلها تطيعه في أي شيء من المُمكن أن يطلبه منها، وهو ما اعتمد عليه هذه المرة في طلبه الغريب، واثقا أنها لا بد لها أن تطيعه في نهاية الأمر من أجل إنقاذ حياته!
لذلك حينما تصيبه نوبة أخرى من الاختناق ويدخل إلى غرفة العمليات؛ تسرع للحديث مع الله لتقول له: لا تدعه يموت. ليرد عليها: ولماذا لا أتركه يموت؟! فترد مُتضرعة: لأني أحبه. لكنه يرد عليها ببرود: تقولين هذا دائما، ولكني لا أرى هذا الحب. لتقول: لا شيء يمكن لي أن أفعله، لا يوجد شيء على الإطلاق. لكنه يقول لها: اثبتي حبك له، وبعدها سأتركه يعيش!
ألا نُلاحظ من خلال هذا الحوار مع الله أن بيس التي تُجري حوارها معه- الذي هو في وجه من أوجهه بيس ذاتها- إنما تحاول إقناع نفسها ودفعها لفعل ما طلبه منها يان؟ إنها ترفض أن يلمسها أي كائن آخر غير زوجها الذي تعشقه، لكن لأنه أقنعها بأنه من المُمكن له أن يموت إذا لم تنقذه من خلال مُمارستها للحب، فهي تحاول إقناع ذاتها الرافضة بالأمر من خلال الحوار الافتراضي مع الله؛ لذلك بمُجرد ما يخبرها الله بأنه من المُمكن أن ينقذه في حالة ما أثبتت حبها للزوج؛ تُسرع إلى بيت الطبيب ريتشاردسون ومعها زجاجة من الكحول مُدعية أنها قد ذهبت إليه من أجل الرقص، وبعد فترة تدخل غرفته لتتعرى تماما طالبة منه مُضاجعتها، لكنه يرفض طالبا منها ارتداء ملابسها؛ الأمر الذي يجعلها تبكي كالأطفال بسبب رفضه مُضاجعتها. لكنها تسرع إلى زوجها في المشفى لتبدأ تحكي له رواية مُختلقة عن مُمارستها للجنس مع أحد الرجال، وحينما يسألها عن الرجل تخبره بأنه الدكتور ريتشاردسون، لكن الزوج يؤكد لها بأنها كاذبة.
إن سوء حالة الزوج يوما بعد آخر يدفعها ذات مرة كانت قد استقلت فيها الباص
إلى الانتقال للجلوس بجوار أحد الرجال الذي حاول مُغازلتها؛ ومن ثم تمد يدها
لإخراج عضوه وتدليكه مُساعدة إياه في مُمارسة العادة السرية إلى أن يصل للقذف،
لكنها سُرعان ما توقف الباص هابطة لتبدأ في التقيؤ قائلة في حديث مع الله: سامحني
أيها الأب، لقد أخطأت. لكنه يرد عليها بلا مُبالاة، وربما للمزيد من التشجيع لها
وتهوين الفعل: مريم المجدلية أخطأت، وهي من ضمن أحبابي!السيناريست الدانماركي بيتر أسموسن
إن الله العابث يدفعها للمزيد من العبث الذي توغل فيه بسبب زوجها وعشقها له؛ لذا حينما تعود إلى زوجها في المشفى وتحكي له تُلاحظ أن حالته قد تحسنت؛ فتؤمن أن مُمارستها للجنس مع الرجال هو المُنقذ الحقيقي والوحيد له من الموت، وهو ما أوهمها به، رغم أن حقيقة الأمر غير ذلك؛ فالزوج حالته الصحية مُضطربة، وغير مُستقرة، وهو الأمر الذي يجعله في خير حال أحيانا، وفي أحيان أخرى شديد السوء على شفا الموت، ولكن لأن بيس يتملكها الهلع على فقدان زوجها المُحبة له، ولأنه قد زرع في ذهنها الطفولي العاشق بأن الحب هو الشيء الوحيد الذي من المُمكن له أن ينقذه من الموت، ولأنها قد صادف لها أن رأت زوجها في حالة جيدة بعدما فعلته وحكته له؛ فلقد اقتنعت بأن هذا هو السبيل الوحيد لإنقاذ يان.
ينتقل المُخرج إلى فصل جديد ليكتب على الشاشة: Chapter Six: Faith إيمان، وهو الفصل الذي ستؤمن فيه بيس بكل ما يطلبه زوجها وتفعله من أجل إنقاذه مما هو فيه! فنراها تذهب إلى بيت إحدى داعرات القرية طالبة منها إعارتها ثوبا لتلبسه، ومن ثم تذهب إلى أحد البارات لاصطياد أحد الرجال وتأخذه خلفها على دراجتها للذهاب إلى إحدى المناطق النائية في القرية لمُضاجعتها في الطريق، لكن قس الكنيسة يراها مُصطحبة للرجل خلفها على دراجتها؛ الأمر الذي يجعل رجال الدين في الكنيسة يغضبون منها بسبب سلوكها واختلاطها بالرجال؛ ومن ثم يحذرونها من غضبهم وغضب الرب عليها، لكنها حينما تعود إلى يان وتحكي له عن أمر مُمارستها الجنس مع أحد الرجال تشعر بأن حالته الصحية قد تحسنت إلى حد ما؛ وهو الأمر الذي يجعلها توغل في الأمر مُعتقدة أنه الصواب!
إن إيمان بيس بما وصلت إليه يجعلها غير راغبة في الاستماع إلى أي أحد؛ فالأهم لديها هو إنقاذ حياة زوجها الذي تعشقه، والذي نجح في الاستحواذ الكامل عليها؛ لذا لا تصدق دودو حينما تقول لها: لا تتأملي كثيرا، حسنا؟ دكتور ريتشاردسون قال: إن حالة يان من المُمكن لها أن تسوء مُجددا. لكن بيس ترد بإيمان: أنا التي أنقذت حياته، يمكنني إنقاذها مرة أخرى! فتقول دودو: بيس، عم تتحدثين؟! فتقول: أخبرت يان قصصا عن الحب وكأننا كنا مع بعضنا البعض، يمكن للحب أن ينقذ يان، يجب عليه ألا ينسى الحب، هو قال هذا، ويخبرني ماذا عليّ أن أفعل. لكن دودو ترد مُتشككة في قواها العقلية: بيس، أنا سعيدة لأنك تستمعين إلى يان، لكن لا تدعيه يستحوذ عليك، المرض له قوة خارقة. إلا أن بيس ترد بيقين: لقد أنقذت يان. الأمر الذي يجعل دودو ترد بغضب: لا تتكلمي هكذا؛ إنه غباء!
إذن، فلقد وصل الأمر ببيس إلى مرحلة لا يمكن الرجوع منها مرة أخرى؛ لذلك حينما يخرج يان من إحدى العمليات ويخبرها بأنها لم تفعل ما طلبه منها كما رغب تسمعهما دودو؛ فتنتحي بها صافعة إياها لتقول بغضب: هل تنامين مع رجال آخرين كي تشبعي تخيلاته المريضة؟! فترد بيس واثقة: لقد تحسن. لكن دودو ترد: لا، لم يتحسن، هذه هي الحالة يا بيس، في بعض الأحيان يتحسن، وفي بعضها يسوء وضعه، هذا ليس له علاقة بما تفعلين، كل هذا الهراء في رأسك فحسب! لكن بيس ترد بعشق: إنه زوجي، والرب قال أن أحترمه. لتقول دودو: حسنا، إذا كان ذلك هو الاحترام، إذن لعلي أنا المُخطئة. فترد بيس: حسنا، أنت لست من هنا، صحيح؟ لتقول دودو غاضبة: كلا، وأنا سعيدة بأني لست من هنا، كلام الناس يجعلني أتقيأ. فترد بيس: لكنك تسكنين هنا، وتذهبين إلى الكنيسة. تقول دودو: نعم، لكن هذا لا يعني ألا أنظر إلى الأشياء بمنظوري الخاص. فتقول بيس غاضبة: لم لا ترحلين إذن؟ زوجك قد مات!
إن رد بيس الصارم والحاد على دودو- أقرب الناس إليها- إنما يُدلل على أنها قد وصلت إلى حالة من الإيمان بمرض زوجها السيكولوجي- التلصص- لدرجة أنها لا يمكن لها أن تصدق سواه، بل لقد تبنت الأمر حينما اعتقدت أن ما تفعله سيشفيه ويُحسن من حالته الصحية بالفعل، وهو ما يجعلها تتحدى رجال الدين والقرية بالكامل، وتضرب برضاهم عنها، أو غضبهم عليها عرض الحائط، وتسرع إلى الساحل حيث تتجمع العاهرات لينقلهن أحد العاملين على مركب إلى السفن في عرض البحر من أجل مُضاجعة البحارة، ولذلك تسأل الله: هل سأذهب للجحيم؟ لكنه يرد عليها بخبث: من تريدينني أن أنقذ؟ أنت أم يان؟! أي أن الله نفسه يدفعها للتوغل فيما هي فيه من جحيم حقيقي! ورغم أن يان قد قال لها مُؤخرا- وكأنه يرغب في التنصل مما دفعها إليه: Let me Die, I’m Evil In Head دعيني أموت؛ أنا شيطان في أفكاري، كتدليل منه بأنه يُدرك جيدا ما يفكر فيه ومرضه فيما يطلبه منها، إلا أن إيمانها بأنها ستنقذ حياته يجعلها ترد عليه بقولها: أحبك بغض النظر عما تفكر فيه! أي أنها بدورها قد وصلت لحالة من الهذيان التي لا يعنيها فيها سوى إنقاذ حياة زوجها، حتى لو تأكدت من خطأ ما تفعله، فهي تأمل أن يكون الأمل سببا في بقائه على قيد الحياة!
تطلب بيس من قائد المركب الصغير أن ينقلها إلى السفن مع العاهرات: هل تستطيع أخذي للقوارب؟ فيرد عليها ببرود وحيادية: لا أستطيع أخذك هناك؛ الفتيات الأخريات لن يروق لهن ذلك. لكنها تقول: لن يزوروا جميع القوارب، ليس لديهن الوقت الكافي. فيرد: على الأغلب. لكنها تسأله: ماذا عن القارب الكبير؟ ليقول: مُنذ مُدة وأنا لا أذهب هناك، لن تصعد الفتيات على متنه. هنا تنتهز بيس الفرصة قائلة: حسنا، يمكنك أن تأخذني، لن نؤذي أحدا!
إن جنونها بفكرة إنقاذ الزوج تجعلها تكاد أن تضحي بحياتها حينما تطلب من الرجل أخذها إلى القارب الكبير الذي عوملت فيه الفتيات عدة مرات مُعاملة قاسية، سادية، ووحشية ممن على ظهره من البحارة؛ الأمر الذي جعلهن يحجمن عن الصعود إليه مرة أخرى، ورغم أنها قد سمعت ذلك إلا أنها تكاد أن تضحي بحياتها من أجل حياة زوجها- تبعا لظنونها وتخيلاتها!
حينما تصعد بيس على ظهر القارب الكبير تُقابل البحار السادي- قام بدوره المُمثل الألماني Udo Kier أودو كير- لتسأله عما يطلبه؛ فيرد عليها طالبا منها مُضاجعة البحار أمامه وهو سيشاهد. هنا توافق على طلبه خائفة، لكنها تُلاحظ أن البحار يحاول مُعاملتها بشكل غير قليل من القسوة السادية؛ الأمر الذي يجعلها تطلب منه خائفة تركه لها للانصراف، لكن البحار السادي ينهض مُمسكا بسكينه محاولا شق ملابسها من ظهرها بالسكين، فتدفعه بقدمها وتتناول المُسدس الذي كان أمامه على الطاولة مُهددة إياهما به وسُرعان ما تُغلق عليها غرفة الملاحة هاربة.تعود بيس إلى الكنيسة لتسمع أحد رجال الكنيسة يقول: عبر الحب غير المشروط للكلمة المكتوبة، عبر الحب غير المشروط للقانون. لكنها تُقاطعه بينما ترتدي ملابس العاهرات: لا أفهم ما تقوله، كيف تستطيع أن تحب كلمة؟ لا تستطيع أن تحب كلمات، لا يمكنك أن تكون في حب مع كلمة، تستطيع حب إنسان آخر، هذا هو الكمال. لكن القس يرد عليها بصرامة قاسية: لا امرأة مخول لها الحديث هنا، بيس مكنيل، جلسة الكنيسة قررت من الآن فصاعدا بأنك لن تستطيعي الدخول للكنيسة، الذين يعرفونكم يجب ألا يعرفونكم، اذهبي من بيت الرب! أي أن القس من خلال كلماته السابقة قد حكم عليها بالطرد من رحمة الله، بل وطلب من جميع أهل القرية مُقاطعتها باسم الرب أيضا!
يقطع المُخرج ليكتب على الشاشة: Chapter seven: Bess Sacrifice تضحية بيس، حيث نراها قد باتت منبوذة من جميع سُكان القرية، حتى أن أمها ترفض دخولها إلى المنزل، كما يقوم الأطفال في القرية برجمها بالحجارة باعتبارها خاطئة- في إسقاط مُباشر وصريح على قصة مريم المجدلية- إلى أن تقع في الطريق مُغشيا عليها، لكن دودو تجدها وتعمل على إفاقتها، هنا تسألها بيس المُستنفذة الطاقة تماما: كيف حاله؟ هل تحسن؟ في اعتقاد منها أنها بفعلها وذهابها إلى المركب الكبير قد نجحت في تحسين حالته الصحية، لكن دودو ترد عليها بالنفي، مُؤكدة لها بأنه على وشك الموت؛ مما يجعل بيس تقول مُندهشة: ظننت أنه من المُمكن أن يتحسن الآن. لذا تطلب من دودو الذهاب إلى يان وتصلي من أجله، وتسرع بأخذ دراجتها والذهاب إلى الشاطئ طالبة من الرجل أخذها مرة أخرى إلى المركب الكبير!إن ذهاب بيس مرة أخرى إلى المركب الكبير، الذي كادت أن تُقتل فيه، بعد معرفة أن زوجها على وشك الموت إنما يُدلل لنا على أنها ستضحي بحياتها من أجل أن يعيش زوجها، ورغم أن ما تفعله مُجرد أوهام لا يمكن لها أن تُعيد زوجها إلى الحياة، إلا أنها تؤمن بيقين أن ما تقوم به هو السبيل الوحيد من أجل إنقاذه.
من خلال المُونتاج المتوازي يقطع لارس فون على يان الذي يدخل إلى العمليات مرة أخرى وهو بالفعل على وشك الموت، بينما ينتقل إلى بيس التي تصعد إلى المركب الكبير ليتلقفها البحاران، وفي الوقت الذي يخرج فيه يان من غرفة العمليات ينتقل المُخرج إلى مشهد إخراج جسد بيس محمولا من المركب الكبير مُلطخة بالدماء! أي أنها قد قدمت نفسها كقربان، وضحت بحياتها من أجل إنقاذ حياته، تماما كما فعل يسوع!
يصل جسد بيس الدامي إلى المشفى وقد تم تقطيعه تماما من قبل البحار السادي، لكنها ترفض الدخول إلى غرفة العمليات من أجل إنقاذها إلا بعد إلقاء نظرة على يان والاطمئنان عليه، إلا أن نبضها ينخفض تماما أثناء محاولة الإنقاذ إلى أن يتوقف، وتموت مُتأثرة بجراحها!
يقطع المُخرج للمرة الأخيرة ليكتب على الشاشة: Pilogue The Funeral الجنازة، وهو الفصل الأخير الذي نُفاجأ فيه بيان وقد شُفي ومشي على قدميه، وكأنما تضحية زوجته بحياتها من أجله كان بالفعل هو القربان الحقيقي الذي لا بد منه من أجل عودته للحياة مرة أخرى، أي أن المُخرج يرغب في إحداث مُقاربة بين ما حدث لبيس وتضحيتها من أجل الزوج، وبين ما حدث ليسوع ومُعاناته إلى أن تم صلبه وتضحيته بحياته من أجل أن يكون المُخلص لجميع البشر!
ألا نلمح في هذه المُقاربة الكثير من السُخرية من فكرة الدين والتضحية من أجل خلاص الآخرين؟ إن المُخرج يرغب في القول: إن الأديان تؤكد بأن سعادة الآخرين لا يمكن أن يتم منحها لهم إلا من خلال عذاب ومُعاناة غيرهم، وشعورهم بالألم، بل والتضحية بحياتهم من أجل غيرهم، وهي فكرة لا بد لنا من السُخرية منها.
تُقرر الكنيسة عدم وجود جنازة لبيس لأنها كانت خاطئة، لكن يان يختطف جثمانها ليخفيه على ظهر إحدى السُفن، ويملأ تابوتها بالرمل، حيث يدفنها آباء الكنيسة مُخبرين إياها بسعادة وبهجة بأنها ستذهب إلى الجحيم، وهو الأمر الذي يجعل دودو تصرخ فيهم غاضبة: ولا واحد منكم لديه الحق ليسلم بيس للجحيم!
يقوم يان وأصدقائه في مُنتصف الليل بإخراج جثمانها، ويحرص على تقبيلها، ثم إلقاء الجثمان في مياه البحر، وينتهي الفيلم على صوت أجراس الكنيسة التي لم يكن لها أجراس فيما قبل، وكأنما التغيير والإعراض عن التعصب الديني لا يمكن أن يكون إلا من خلال المرور على أجساد العديد من الضحايا المُمثلة في بيس من خلال الفيلم.
يأتي فيلم Breaking The Waves كسر الأمواج للمُخرج الدانماركي لارس فون ترير كفيلم يتحدى المُؤسسة الدينية بأفكارها العقيمة الجامدة التي تؤدي إلى عذاب وفقدان حيوات الكثيرين بسبب مُعتقداتها الجامدة، وطريقة تنشئتها الصارمة الخاطئة، كما لا يفوتنا أنه يرغب في القول: إن الله مُجرد فكرة/ أو مأزق رومانسي بالمفهوم الفلسفي، ووقوعنا في مثل هذا المأزق هو ما يجعله يدمر حيوات الجميع من حولنا! ولعل المُخرج كان بارعا في التعبير عن أفكاره بشكل بصري يخصه وحده من خلال أسلوبيته السينمائية البارعة، لكن الخاتمة التي أصرّ عليها المُخرج قد أضعفت كثيرا من التأثير الذي كان يرغب في إيصاله؛ حيث كان من المُمكن للفيلم أن ينتهي بعد موت بيس، لينتقل لمشهد وحيد نرى فيه الزوج قد شُفي، بينما تدق أجراس الكنيسة، لكن الخاتمة التي اختارها المُخرج كانت طويلة ومُثرثرة، وفيها الكثير مما لا يمكن أن يفيد فكرته رغم جودة الفيلم وبراعته فيما رغب أن يقوله.
محمود الغيطاني
مجلة ميريت اثقافية.
عدد أكتوبر 2021م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق