الثلاثاء، 19 أكتوبر 2021

ما دوّنه الغُبار.. سيرة ذاتية للشتات!

هل تصلح أحداث تاريخ إحدى العائلات لأن تكون مادة أدبية من أجل صُنع رواية ما؟ وإذا ما كان هذا صالحا، فهل سيكون العمل الأدبي هنا بمثابة السيرة الذاتية أم الرواية الأدبية؟

ربما تحتاج هذه التساؤلات إلى العديد من التأملات من أجل الإجابة عليها؛ لا سيما أن أي حدث من أحداث الحياة المُحيطة بنا صالح، بالفعل، لأن نصنع منه فنا- سواء كان بصريا أم سرديا- ومن هنا يمكن التأكيد على أن تاريخ أي عائلة- بل التاريخ في عمومه- صالح لأن يكون مادة فنية، بل ومادة ثرية أيضا، لكن الأمر يتوقف، في النهاية، على الآلية التي ينتهجها المُبدع من أجل صناعة هذا العمل الفني، وهي الآلية التي تجعل منه عملا فنيا، أو غير فني، ولعل الكثير من المواقف التي لا يلتفت إليها الآخرون، والتي تمر من أمامنا في حياتنا، يتوقف أمامها المُبدع مُتأملا، قادرا على صناعة عمل فني جيد من خلالها، رغم أنها لا تثير اهتمام غيره من الآخرين ممن مروا عليها، لكن، ماذا عن العمل الذي ينكب عليه صاحبه من خلال تاريخ عائلته، أو تاريخ عائلة غيره، هل هو هنا بمثابة السيرة الذاتية، أم الرواية الأدبية.

لا بد لنا، بداية، من التأكيد على أن ما نُطلق عليه رواية السيرة الذاتية لا تختلف ولا تقل أهمية أو فنية عن الرواية الأدبية؛ لأن كل منهما فرع من فروع الأدب، ولا يمكن لنا بأي حال من الأحوال التقليل من شأن رواية السيرة الذاتية لصالح العمل الروائي؛ فهي تقوم على المواقف الذاتية والأحداث التي عاشها الروائي مُعتمدا فيها على هذه الوقائع مُضافا إليها الكثير أو القليل من الخيال الذي يطعم به أحداث روايته؛ فالمُهم أنه يصنع عالما، ولعلنا رأينا في تاريخ الأدب الكثير من روايات السيرة الذاتية التي كان لها الكثير من الأثر الفني في أدبنا الحديث مثل رواية "الأيام" للدكتور طه حسين، ورواية "جذور" للروائي الأمريكي أليكس هيلي Alex Haley، وغيرها من روايات السيرة الذاتية التي يزخر بها التاريخ الأدبي.

لكن، لكي تكتسب رواية السيرة الذاتية صفة الفن- ويمكن إطلاق توصيف الرواية عليها- لا بد لها من الالتزام بأسلوب السرد الروائي وآلياته، بل والقدرة على بناء عالم روائي، وإلا تحول العمل في نهاية الأمر إلى مُجرد كتاب تسجيلي، يحمل العديد من الشهادات المتواترة؛ ومن ثم يتشابه إلى حد بعيد في ذلك مع السينما التسجيلية التي تفتقد إلى حد ما الجانب الروائي، أي أن سرد الوقائع الذاتية التي تخص الكاتب في نهاية الأمر لا بد لها من عالم روائي، وأسلوب سردي، ولغة خاصة، ومقدرة على الخيال الذي يستطيع جمع هذه الوقائع في إطار روائي مُقنع نستطيع من خلاله توصيف العمل السردي بأنه رواية تحمل في طياتها جانبا فنيا في النهاية، أما أن نسرد الوقائع لمُجرد سردها، بل ونتدخل في العمل السردي بشكل مُباشر في إشارة إلى أننا نسرد سيرة سبق لها أن حدثت؛ فهذا ما يُخرج العمل من إطار الرواية إلى إطار التسجيل والبحث.

مثل هذه التساؤلات، وغيرها الكثير، كانت تدور في أذهاننا طوال فترة قراءتنا لرواية "ما دوّنه الغُبار" للروائية الفلسطينية دينا سليم حنحن، وهي الرواية التي اعتمدت من خلالها الروائية على أحداث واقعية حدثت لها، ولعائلتها الفلسطينية في مدينة اللد قبيل سقوطها في يد اليهود وإعلان الدولة الإسرائيلية، أي أنها بدأت قبيل النكبة بقليل، ثم لم تلبث أن استمرت في سردها ومُلاحقتها للأحداث الواقعية كما حدثت تماما، وما دار في المُستقبل لأفراد هذه العائلة ومصيرهم فيما بعد.

إذن، فالروائية تتخذ من حادث سقوط مدينة اللد محورا للسرد منذ البداية، بل تكاد أن تعمل على تجميد هذا الحدث باعتباره حدثا مفصليا وكارثيا؛ ومن ثم تظل تحوم من حوله لتستعرض كل الأحداث التي أحاطت به من خلال استعراض قصة عائلتها لا سيما جدها من ناحية الأم/ رشدي سابا الذي اختفى فجأة في خضم الأحداث وهجوم اليهود على المدينة، وزوجته، أو جدتها جميلة التي ظلت طوال حياتها، حتى النفس الأخير، في انتظار عودته غير راغبة في تصديق أنه قد مات؛ نظرا لأنها لم تر جثمانه، ولم يؤكد لها أحد إذا ما كان قد مات، أو هرب إلى مصر، أو تم أخذه كأسير لعصابات اليهود التي هاجمت المُدن الفلسطينية.

من خلال تجميد هذا الحدث، سرديا، لمدة طويلة على طول السرد تستعرض حنحن جميع أفراد عائلتها، وجيرانهم، وشكل الحياة في مدينة اللد، وأثر هجوم العصابات اليهودية عليهم، وما حدث في المدينة إلى حين استسلامها في نهاية الأمر، أي أن الكاتبة، هنا، تستعرض حياة عائلتها الذاتية وما حدث معهم، بل تتتبعهم في حياتهم المُستقبلية عارضة لنا هجراتهم، وتفرقهم، وتشتتهم في العديد من البلدان، منها مصر، والأردن، والعراق، وأمريكا، وأستراليا، ولبنان واليونان، وغيرها من البلدان.

لكن، هل نجحت الكاتبة بالفعل في كتابة رواية السيرة الذاتية بحيث يمكننا اعتبار ما كتبته عملا روائيا، أم كان ما قدمته لنا مُجرد كتاب يحرص على تسجيل الوقائع والأحداث التاريخية ليكون في نهاية الأمر أشبه بالوثيقة على ما حدث؟

ثمة مُلاحظة تحرص الكاتبة على كتابتها قبل الدخول في عالمها السردي، وهي من المُلاحظات التي من شأنها أن تدخلنا إلى العالم الذي نحن بصدده وتحديد موقفنا من كونه كتابة روائية أم لا. تقول الكاتبة: "مُلاحظة: اتّبعتُ موقف الحياد بما يتحتم عليّ نقله لخدمة العمل الأدبي، وذلك من خلال تدوين الأحداث، ونقل المعلومات، والشهادات التي جاءت على ألسنة المُتحدثين، ومما يقتضي التنويه له أن ما تمّ نقله لا يعني بالضرورة أنه يعبّر عن وجهة نظر الكاتبة".

إذن، فنحن هنا أمام كتابة توثيقية تُقر بها المؤلفة، وبأنها على مشارف تقديم عمل توثيقي في حقيقته، لكن، رغم هذا الإقرار ثمة جُملة لا بد من الانتباه إليها والتوقف أمامها؛ لأن الكاتبة توحي لنا من خلالها أنها ستقدم لنا عملا أدبيا، وليس عملا توثيقيا، يتضح ذلك في قولها: "اتّبعتُ موقف الحياد بما يتحتم عليّ نقله لخدمة العمل الأدبي"، وهي الجملة التي تجعلنا نحجم عن استباق الأمور، أو الحُكم عليها قبل التوغل فيها؛ لأنها توحي بأن المؤلفة استخدمت الشهادات والوقائع والمعلومات لخدمة النص الروائي، وإن كانت مُلاحظتها- بلا شك- سوف تلقي في نفوسنا الكثير من التشكك فيما إذا كان ما سنقرأه عملا روائيا فنيا، أم مُجرد كتاب وثائقي.

تبدأ الكاتبة عملها تحت عنوان "هل هي عبرة حياة؟"، ولعلنا نلاحظ أن ما جاء من حديث تحت هذا العنوان لم يكن إلا بمثابة المُقدمة للكتاب الذي بين أيدينا، وهي المُقدمة التي تحاول من خلالها المؤلفة شرح كيفية كتابة هذا العمل، وما الذي دفعها إلى كتابته، والصعوبات التي عانتها أثناء الكتابة، حتى لكأننا أمام كتاب بحثي لا بد من مُقدمة تفسيرية له، وليس أمام عمل روائي في المقام الأول، وهو ما لا يمكن تخيله أو تقبله في الأعمال الروائية، بل إن الكاتبة تكتب: "حاولت جاهدة تدوين الحكايات بكل عفويتها، لكنني لم أسلم من ضرورة أرشفة التأريخ، فخرج المؤلـَّف بلغة السرد العاطفي، ولغة التوثيق أيضا. ترددت بمن أبدأ؟ بمدينة اللد، أم بحيّ المحطة التابع لها؟ قسّمت الرواية إلى حياتين لا يمكن الفصل بينهما، وأتيت على ذكر أبطالي الذين عاصروا الاحتلال العثماني والاستعمار الإنجليزي، وعاشوا النكبة وما بعدها. الحياة الأولى، أو لنقل القسم الأول من هذا المؤلـَّف، اعتمدتُ فيه أسلوب التوصيف وكتابة الحقيقة دون تزييف، بدأتها بجدي من ناحية الوالدة والذي أقام في حي المحطة، أما القسم الثاني فيعود إلى جدي من ناحية الأب الذي أقام في مركز المدينة الغنية بحكاياتها".

إن هذا الاقتباس السابق لا بد له من أن يثير في نفوسنا الكثير من الدهشة والحيرة؛ فما كتبته الروائية هنا لا يمكن أن يُقال عن عمل روائي- حتى لو كان رواية سيرة ذاتية- بل هو لا يصلح سوى كمُقدمة لكتاب بحثي توثيقي، ففضلا عن أنها قد شرحت كيفية كتابة روايتها- حيث تؤكد هي بأنها رواية- فلقد ثنت الأمر بهذا الاقتباس الذي يجعلنا غير قادرين على الذهاب معها بأننا مُقبلين على عمل فني في نهاية الأمر، كما لا يمكن لنا تجاهل مُفرداتها في مثل هذا الاقتباس، وهي المُفردات التي تؤكد لنا أن ثمة اضطراب وعدم يقين في لاوعي المؤلفة تجاه عملها؛ الأمر الذي يجعلها تذهب إلى توصيفه مرة بقولها: "خرج المؤلـَّف بلغة السرد"، وتارة أخرى تصفه بقولها: "قسّمت الرواية إلى حياتين". إن هذا اللايقين والاضطراب الذي يشوب مُفردات الكاتبة نفسها تجاه عملها حينما تتحدث عنه لا بد له أن يؤدي، بالضرورة، إلى اضطرابنا نحن كمُتلقين في تلقيه.

لكن، لم لا نحاول تجاوز هذه المُقدمة، ونعتبرها غير موجودة، ونبدأ في العمل الذي تقدمه لنا؛ علنا ندخل إلى عالم روائي حقيقي؟

ربما نلاحظ منذ بداية العمل الذي بين أيدينا أن الأسلوب السردي للروائية دينا سليم حنحن هو أسلوب يتفاوت إلى حد بعيد ما بين الصعود والهبوط، ما بين اللغة الشعرية، والسرد الوصفي، والأسلوب التقريري الصالح لكتابة المقالات الجافة أكثر مما هو صالح لكتابة الأدب، والأسلوب التوثيقي الصالح للتسجيل بشكل يخلو من الروح الأدبية تماما. إن هذا التفاوت السردي يجعل الرواية في حالة من الصعود والهبوط الدائم؛ نظرا لعدم مقدرة المُؤلفة الحفاظ على أسلوبيتها السردية التي تهرب منها، وتنسرب من بين يديها كالسراب!

سنلاحظ ذلك في العديد من الفقرات على طول الرواية، فإذا ما تأملنا قولها: "زُرعتُ على خطوط سكك الحديد في محطات قُدرت بالأيام والسنين، اكتظت الأرصفة بالناس، تكاثرت القطارات وتعددت المحطات وامتلأت، ظلّ الرصيف الأول مجمع الحنين والأقرب إلى القلب. في طفولتي أتقنتُ نسج خطواتي نحو الرصيف، مشوار حياتي الطويل، مرت أيام عارية من اليقين، بحثتُ فيها عن وجه جدي، باءت كل توقعاتي بفشل ذريع، لم يصل، ولم يلتقطني عن الأرض، ولم يحملني بين ذراعيه، ولم يدخلني في قلبه"، لا بد لنا من الجزم بأن أسلوبيتها السردية هنا هي أسلوبية تعتمد على اللغة الشعرية المُتخمة بالتكتلات اللغوية والوصفية التي لا داعي لها، أي أن اللغة هنا تمتلك من الفائض والشحومات ما قد يصرف ذهن المُتلقي عنها، لكننا سنُفاجأ بأن الروائية لا تحافظ على وتيرة أسلوبيتها السردية التي استشهدنا بها في السطور السابقة، بل سرعان ما تنتقل إلى أسلوبية سردية أخرى حينما نقرأ: "عمّت الفوضى فلسطين، وتدهورت البنية التحتية، طفت المشاكل الاقتصادية على السطح، عانى المواطنون من أزمة اقتصادية حادة، تبعثر المُجتمع الذي كان مُتماسكا ويحتذى به، تفاقمت حالات الفقر والعوز والاحتياج، تضاعفت ظاهرتا التسول والبطالة، امتهن البعض السرقة العلنية، نشطت حركة اللصوص والمُرابين، تضاعفت ظاهرة تهريب البضائع، الذهب والجلود والمعاطف والصنادل، كذلك تهريب الحشيش والسموم وغيرها، نشط تهريب البشر أيضا، مُقابل أربعين جنيها مصريا تقاضاها، المهربون عن كل شخص تم تهريبه".

الروائية الفلسطينية دينا سليم حنحن

ألا نلاحظ في الاقتباس السابق أنه مُجرد أسلوب تقريري لا يصلح، في حقيقة أمره، سوى لكتابة المقالات في الصُحف؛ فهو يسرد وقائع من دون وجود أي لغة فنية؟ إذن فالتفاوت الشاسع في أسلوبيتها يجعلها تنتقل فجأة من أسلوب وصفي شعري إلى أسلوب تقريري جاف لا يصلح للكتابة الفنية؛ الأمر الذي يخرج القارئ من الاندماج مع ما تكتبه المؤلفة، وهو ما نراه مرة أخرى في قولها: "اضطر أثرياء سكان اللد ومنطقة المركز إلى بيع أملاكهم لعدم استطاعة المُلّاك الاعتناء بها بعد هروب العمالة المحلية إلى الخارج. امتناع العمال الغُرباء عن الحضور إلى العمل، تخوفا من قطّاع الطرق الذين انتشروا في الربوع. نقص في الأيدي العاملة وتطوع الأكثرية في فرق المقاومة، بعد أن ذاع صيت وصول الكتيبة الأولى من جيش الإنقاذ، إلى شمال فلسطين، في يناير 1948م، اتبع البائعون المثل القائل (أهرب بجلدك، مع ابنك، علشان تسلم، إذا فيك تسلم، إنتّ وابنك)".

لكن دهشتنا قد تصل إلى مداها الأقصى حينما نقرأ: "لنعد إلى الطفلة صوفيا، عاشت صوفيا بساق واحدة طوال حياتها، سألتُها رأيها بالحادث وإن كانت قد نسيته. قالت: أكره الحروب، لماذا لا نحيا جميعا بسلام وإخوّة؟ لا تدعني قدمي المبتورة إلى النسيان، لكنني عاتبه على الطبيب العربي الذي عالجني وتعجّل في بترها، لا أجد أي مبرر يدعُوني إلى العفو عنه، حصل الحادث في وقت لم يكن فيه المشفى مُكتظّا بالجرحى أو المرضى، كان بإمكانه استئصال الرصاصة وأن يُبقي لي ساقي، لكنه لم يفعل قاصدا، أذكر جيدا وجهه العابس وغضبه العارم عندما طلبت والدتي منه متوسلة أن يعدل عن قراره بالبتر، هل هو مُستريح في منفاه الآن؟ لقد خسر تراب الوطن، يكفيني ما ناله من عقاب، أما أنا، فقد حافظتُ على تراب الوطن بساق واحدة، أنام وأستيقظُ مُستريحة، هل ينام هو مُستريحا؟ على كل، أشكره لأنه ترك لي قدما واحدة على الأقل، ووطنا أنام فيه بضمير نقي رغم وحدتي القاتلة. قلتِ قاصدا؟ سألتها. نعم لأن الإصابة كانت سطحية، خانَ مهنته كطبيب، أتمنى أن يقرأ اتهامي هذا ويعلن عن نفسه، إن كان ما يزال حيا! هل تعرفين اسمه؟ طبعا، ولن أبوح لك به، لكن إن طُلب مني أستطيع التعرف عليه من بين جميع رجال الأرض، كيف أنسى وجه الانسان الذي ذبحني! لماذا لا تبوحين باسمه فلا شيء يدعوكِ إلى الخوف! قلتُ لها. حتى لو، فلن أبوح، أنا وحيدة وأريد أن أحيا بسلام، دعيني أحيا ما تبقى من عمري بسلام! ألهذه الدرجة أنت خائفة يا صوفيا؟ قلتُ لها مُعاتبة. من يحيا في كنف الخوف، لا يمكنه أن يشعر بالاطمئنان أبدا، الحَكي مش متل الشوف، أنتِ تكتبين كل شيء وهذا أكثر ما يخيفني!".

حينما نقرأ مثل هذا الاقتباس السابق الذي يتميز بالتوثيق والتسجيل، هل من المُمكن لنا أن نتخيل بأنه أسلوب روائي ورد في عمل روائي يتميز بالفنية؟ ألا تذكرنا أسلوبية الروائية هنا بالأفلام الوثائقية التي نرى فيها المُخرج محاورا لمن عايشوا الأحداث التي يتعرض لها في فيلمه ويعمل على تسجيلها؟

إن حذو الروائية هنا باتجاه التسجيل، وطرح الأسئلة على الآخرين التي تستدعي الإجابة عليها لا يمكن له أن يكون أسلوبا فنيا، بقدر ما يجعل السرد هنا مُجرد تسجيل بحثي لوقائع ما حدث في فلسطين، وهو ما نراه على طول الرواية غير مرة، ولنتأمل المقطع التالي: "أما أم أنطون، فهربَ ابنها أنطون مع النازحين، لكنه عاد مُتسلّلا عدّة مرّات في الهدنه، تمّ ضبطه وإعادته من جديد إلى ما خلف الحدود، عندما أُغلقت الحدود وأُعلن عن قيام الدولة اليهودية، بقيَ في الأردن وبقيت عائلته في الرملة، وتوفي والده دون أن يلتقيا. التقت أم أنطون مع ابنها أنطون عدة مرات خلال زيارتها للمملكة الهاشمية، بعد حصولها على تصريح زيارة قصيرة بحجّة زيارة بيت لحم، والاشتراك في مراسيم عيد الميلاد، تسرّب كثيرون خلسة إلى الأردن للقاء الأحباء والأهل النازحين في النكبة، كانت لا تزال بيت لحم تابعة للمملكة، لكن، انقطعت الزيارات بعد حرب الستة أيام 1967م، أسّست أم أنطون بعد وفاة زوجها، متجرا صغيرا لبيع الألبسة، بدأت تُصنّع حينذاك في البلاد منتوجات للملابس الجاهزة، فيما بعد، أصبح متجرها من أشهر المتاجر في مدينة الرملة، ارتبطت ابنتها وأقامت مع زوجها في يافا، فبقيت أم أنطون وحيدة، انتقلت فأقامت وحتى يوم وفاتها، مع ندى، أم النمر وابنتها جوزفين، بعد وفاة الوالد أبي النمر سنة 1965م. توفيت ندى سنة 1993م، مكثتا معا، أم أنطون وجوزفين في بيت واحد مُحاط بحديقة صغيرة، اقتسمتا الوحدة، وتشاركتا الذكريات الأليمة والحلوة، اعتبرت جوزفين أم أنطون والدتها التي لم تلدها"، وهو المقطع الذي يزيد في نفوسنا اليقين أن السرد قد تحول إلى التسجيل، أو ما يشبه العناوين في نهاية فيلم تسجيلي بعدما يقدم المُخرج فيلمه عن إحدى الوقائع ثم يستكمل سرده بالعناوين على الشاشة!

إذ ما حاولنا الاستمرار في تتبع أسلوبية السرد الذي لجأت إليه الكاتبة سيتبين لنا أن الرواية تتحول، من خلال سردها، إلى مُجرد بحث تاريخي لما حدث في فلسطين من وقائع وهو ما نراه مثلا في قولها: "مما أشاد به الدكتور الباحث مصطفى محمد عبد الله الفار، تولّد اللد سنة 1932م، والدته فريزة سليمان العكش الصالحي وهي من اللد أيضا. قال: لعبَ حسن حسونة، قائد منطقة تل الرّيش في يافا قبل سقوطها، لعبَ دورا كبيرا في تحصين المدينة، اقترح حفر خندقٍ وإقامة المتاريس مانعًا دخول القوات اليهودية، وذلك على مقربة من بيارة شنّير الواقعة غرب مدينتي اللد والرّملة. قام المقاومون بحفر خندق آخر في منطقة رأس العين على طريق المطار، لإعاقة دخول الدبابات اليهودية، هرع أهل اللد للمُساعدة وبدؤوا الحفر في الفؤوس واستكمل الحفر سريعا، احتل اليهود عددا كبيرا من القرى وتحصنوا داخل وكر في منطقة حزبون، وأطلقوا النار على المركبات التي مرّت في المنطقة الوسطى". ففضلا عن لجوء الكاتبة إلى هذه الأسلوبية البحثية في كتابتها، فلقد أشارت في الهامش بقولها: "لتفاصيل أوفى شاهدوا: فلسطين في الذاكرة - مشروع التاريخ الشفوي للنكبة. https://www.youtube.com/watch?v=8mfZgHmq_9A"، أي انها تُحيلنا إلى المصادر التأريخية التي حاولت الأخذ منها، والتي قامت بسردها بطريقة بحثية تاريخية، وهو ما سنراه بعد عدة صفحات بشكل لا يمكن القبول به مُطلقا حينما نقرأ مرة أخرى في الهامش قولها: "سوف نقرأ المزيد في الأحداث من شهادات الذين ما يزالون على قيد الحياة، في القسم الثاني من الكتاب"! أي أن الكاتبة هنا تؤكد لنا بأنها تُعد كتابا بحثيا تاريخيا عما حدث في فلسطين، وليست رواية أدبية فنية، أو حتى رواية سيرة ذاتية، ولعلنا لا بد لنا من الانتباه إلى جملة "القسم الثاني من الكتاب"، والتي تؤكد لنا مرة أخرى أن الكاتبة في لا وعيها تكاد أن تتيقن من أنها تُقدم لنا كتابا بحثيا، وليس رواية أدبية.

صحيح إننا لا نستطيع إنكار وجود لون من ألوان السرد الروائي وهو ما نُطلق عليه الرواية التوثيقية، أي الرواية التي تلجأ إلى سوق الوثائق- سواء كانت هذه الوثائق مُقطتفات من الصحف، أو مقاطع من الكتب، أو من المواقع الإليكترونية، أو غير ذلك- وهو اللون الذي تميز فيه الروائي المصري صنع الله إبراهيم؛ حيث يكون اللجوء إلى الوثيقة هنا مُكملا للسرد الروائي، متواشجا معه بحيث لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض وإلا انهار البناء الروائي؛ حيث تعمل الوثائق هنا على إكمال المشهدية الروائية وكأنها بمثابة الأعمدة التي ينشأ عليها الخيال الروائي، لكننا لا نستطيع هنا الذهاب بأن الروائية دينا سليم حنحن قد نجحت في كتابة رواية وثائقية؛ لأننا إذا ما ذهبنا إلى ذلك سنكون كمن يشوه الواقع، ويعمل على تزييف الوعي وفحوى الرواية الوثائقية، أي أن قولنا: إن الروائية قد نجحت في كتابة سيرة ذاتية سيكون، بالضرورة، شكل من أشكال الالتفاف على الحقيقة وتشويه وعي القارئ بمفهوم هذا الشكل من أشكال الرواية الأدبية.

الروائي الأمريكي أليكس هيلي

إن ما يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا نراه جليا في كثرة الالتفات الذي تلجأ إليه الكاتبة فيما تكتبه، وهو الالتفات الذي يخرجنا مما نقرأه ليجعلنا نتساءل غير مرة: هل ما بين أيدينا عملا روائيا، أم بحثا تاريخيا، أم كتابا وثائقيا، وهو ما نراه في: "نظرت إلى الشجرة وركعت لها، شكرتها وترجلت نحو المحطة بخطوات سريعة تشبه مشية طائر الخطّاف قبل حصوله على الغنيمة. ما تزال الشجرة صامدة في مكانها حتى كتابة هذه السطور"! إن الجُملة الأخيرة التي تكتبها الساردة في الاقتباس السابق- وهي جملة التفاتية تخرجنا من سياق السرد إلى الحديث المُباشر من المؤلفة للقارئ- تخرجنا مُباشرة من الانسجام مع كتابتها؛ ومن ثم يسقط التواطؤ الضمني بين المؤلف والكاتب، أو ما يسمى بالحائط الرابع في المسرح حسب تعريف برتولد بريخت، وبالتالي تفتح باب التساؤلات الذي لا ينتهي، وهو ما سنراه أيضا في قولها: "لنعد إلى رشدي وجميلة"، و: "احتفظت جميلة وحتى يوم مماتها بفستان خطبتها الأخضر والذي ستكون له قصة مؤثرة في نهاية الحكاية!"، و: "يوم السقوط، بدأ موشيه ديّان هجومه على مدينة اللد من بن شيمن، ستكون لنا وقفة هامة ضمن هذا الموضوع في الجزء الثاني من المؤلّف"، و: "لنعد إلى الأحداث التي جمعتُها كما قِطَع البازل"، و: "سوف تكون لنا وقفات أخرى استمرارا للأحداث التي حصلت في حيّ المحطة الغربي"، و: "لنعد إلى اليوم الثالث لسقوط حيّ السروات"، و: "اهتم رشدي بعرض شقيقته غالية المريضة بالرّبو على الأطباء في فلسطين، أشرف على علاجها وتفقدها ووضعها تحت ناظريه، وجد عملا لزوجها نصري أيضا، رجل هادئ الطباع، مريح المعشر ومرح، ستكون لنا معه وقفات عديدة. أما في مصر فيقيم أبناء عمومته في منطقة تدعى منيا القمح، يعملون في صياغة وتجارة الذهب، زارهم رشدي كلما سنحت له الفرصة. أنقل لكم ما ذكرته ندى شقيقته، عن الجيش الإنجليزي، عندما دخل أرض غزة في فترة الانتداب، قالت"، وغير ذلك الكثير من الجُمل التي لا يمكن أن توحي لنا إلا بأن الكاتبة هنا تكتب كتابا توثيقيا لا يمكن أن يكون له علاقة بالكتابة الروائية الفنية؛ حيث تشير لنا غير مرة إلى ما ستتحدث فيه قبل كتابته، بل وتحرص على الالتفات والشرح في الكثير من المواقف، ولعل ازدحام صفحات الرواية بالهوامش- حتى أنها لم تخل صفحة واحدة فيها من الهوامش- ما يُدلل على ذلك، بل ويثقل العبء على القارئ الذي يقطع تسلسل السرد- أيا كان نوعه- مع انتهاء كل صفحة ليتوقف من أجل قراءة الهامش الذي تسوقه الكاتبة من أجل الشرح والتعريف، والإشارة إلى الكثير مما ورد في حديثها الذي يسبق الهامش.

إذا ما قرأنا في عمل يدعي صاحبه بأنه عمل روائي هذه العبارة: "قامت العناصر اليهودية بترعيب وترهيب وقتل المواطنين وحثتّهم على الرحيل، اضطر السكان إلى ترك بيوتهم، والنزوح إلى أقرب وجهة سيرًا على الأقدام. في يوليو 1948م احتل الجيش الإسرائيلي المدينة، وبعد توقيع اتفاقيات الهُدنة، التي تمّت في رودس سنة 1949م أُعلن عن اللد مدينة إسرائيلية. منحت دولة إسرائيل الجنسية الإسرائيلية لجميع السكان العرب واليهود. أقامَ القادمون الجدد من اليهود (عوليم حدشيم) داخل خيمات لجوء بظروف بدائية، استمر التدافق وبنيت الــ (معبروت) التي استوعبت اللاجئين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والناجين من المحرقة من أوروبا، لأول مرة يلتقي الشعب اليهودي بأخيه الموّحد بقوميته، والمُشتت بلغاته وعاداته وتقاليده وأسلوب حياته، فظهر التفاوت العقيم على الملأ في المُجتمع الواحد، (لا مجال للخوض في هذا الموضوع في هذا الكتاب)"، نقول: إذا ما قرأنا ذلك هل من المُمكن لنا التسليم مع كاتب العمل بأننا بالفعل نقرأ عملا روائيا؟ وماذا لو استمررنا مع الكاتبة لنقرأ هذا الاقتباس: "المزيد عن خطوط سكك الحديد: اُفتتح في 1892م أول خط ّ قطار في فلسطين، من يافا إلى القدس عبر اللد والرّملة، بادر يوسف نافون، رجل أعمال يهودي مقدسي ببناء سكة الحديد تعاونا مع شركة فرنسية، فزاد ذلك من أهمية مدينة اللد. في الحرب العالمية الأولى، ربطت السلطات العثمانية مدينة اللد بسكة حديد جديدة، مرّت من مرج بن عامر جنوبا عبر جنين وطولكرم، لتسهيل نقل الجنود والعتاد العسكري لساحات المعارك. في فترة الانتداب البريطاني، قامت حكومة الانتداب بترقية سكة الحديد، حيث أصبحت اللد في عشرينات القرن العشرين مُلتقى لخطوط القطارات المُتجهة إلى جميع أنحاء المنطقة"، ألن يستقر في يقيننا بأننا أمام كتاب بحثي في التاريخ الفلسطيني، ينحو باتجاه التأريخ للوقائع وما دار في فلسطين؛ ومن ثم نعود لقراءة الكتاب مرة أخرى بمعطيات جديدة بعيدة تماما عن الفن الروائي؟

تبدأ الروائية دينا سليم حنحن كتابها بما يشبه السرد الروائي حينما تحكي حكاية جدتها جميلة التي اختفى زوجها رشدي سابا ولم يعد إليها مرة أخرى؛ وهو الأمر الذي يجعلها في انتظاره حتى مماتها، ولعلها بهذه البداية التي تتناول فيها سيرة جدتها وجدها توحي لنا، بالفعل، بأنها تكتب رواية سيرة ذاتية وهي الحكاية التي ستستمر فيها بشكل مُتقطع حتى وفاة جميلة المُنتظرة عودة زوجها الذي لن يعود أبدا، ولعلها استطاعت في بعض المقاطع من هذه الحكاية التعبير عن حال مُعظم الفلسطينيين وما حدث معهم حينما فقدت العديد من الأسر عوائلها أو أبنائها الذين اختفوا ولم يعودوا إليهم مرة أخرى، ولعل هذه المُعاناة التي عانت منها العديد من الأُسر الفلسطينية تتضح في قولها: "أدركتُ فيما بعد أن الانتظار ثقافة مُكتسبة يتقنها المقهورون، بَنتْ جدتي جميلة الأمل على أرصفة ضائعة وبنيتُ بداية مُفرحة لمشهد العودة. أودعتُ نفسي الحائرة في البقعة الجامدة ذاتها، أطلتُ الوقوف أمام صورته المُعلقة على الجدار بنية الامتلاء من وجهه الضائع، عينان واسعتان وجبين عريض، ابتسامة وديعة وشاربان خفيفان، قصيران ومزروعان في الوسط، نبزا على مستوى الشفة العليا، إن حصل وغابت بعض ملامحه أكملتُها من نسج مُخيلتي"، حيث كانت الجدة حريصة على الذهاب الدائم إلى رصيف محطة القطارات مُصطحبة معها حفيدتها/ الكاتبة؛ من أجل انتظار عودة الجد/ رشدي سابا الذي كان يعمل سائقا للقطار الذي يسافر إلى القاهرة، ورغم أنها تكاد أن توقن بأن رشدي لن يعود، إلا أنها لم تملّ من انتظاره على رصيف المحطة مع حفيدتها لفترة طويلة من الزمن، وهو الأمر الذي جعل الحفيدة/ الكاتبة تقول: "آمنتُ في يوم ما أنه تجلّى لها كما تجلى المسيح أمام تلاميذه على جبل الطور، يا لها من امرأة حالمة! أورثتني الحلم والصبر أيضا. يا لهذا الانتظار، ويا لهذا العذاب الذي هي فيه! كم تمنيتُ أن ينزل من السماء ويفاجئها بعودته، أن يقوده حدسه ويأتي إليها، أن يدخل من باب الحديقة مُناديا، أن يطرق بابها وتفتح هي فيحضنها مُبتسما"، أي أنها نجحت إلى حد بعيد من خلال هذا الأسلوب السردي- الذي لم يستمر طويلا- في التعبير عن حال الفلسطينيين الذين لم يفقدوا الأمل حينما فقدوا أحبائهم، وظلوا مُتمسكين به حتى نهاية أعمارهم في انتظار عودة المفقودين، في إحالة مُباشرة على أسطورة سيزيف التي تحيل هذا الانتظار إلى انتظار سيزيفي، لا يكاد أن ينتهي حتى يبدأ من جديد، وهو ما ستؤكد عليه الكاتبة في مقطع آخر بقولها: "آمنت جدتي بقصص فقدان الذاكرة التي تحصل عادة في الحروب، أصيبت بالشكوك وتلبستها الأوهام، اتهمت ذاكرته المُصابة بالنسيان، قالت: (فقدَ رشدي ذاكرته، عندما يستعيدها سوف يعود إلينا مُباشرة، سأبقى بانتظاره)! اختلقت جدتي الحقائق ودفعت ظنونها إلى مرامي أطياف النهارات الشاحبة، بقيت الشكوك داخلها مثل جمرة!"، فرغم يقين الجدة باستحالة عودة زوجها مرة أخرى بعد اختفائه الذي لا يعرف أحد سببه، إلا أنها بدأت في بناء عالم آخر غير واقعي، تلتمس فيه الأعذار لزوجها، وتلتمس فيه الأسباب التي تُدرك جيدا أنها غير صحيحة وإن كانت تحاول التمسك بها من أجل المزيد من الصبر، وافتعال الحيلة النفسية التي تساعدها على الانتظار، وإيجاد المُبررات من أجل هذا الاختفاء.

هذا الوصف لحال الفلسطينيين وما عانوه في هذه الفترة التي سبقت سقوط مدينة اللد يتضح لنا مرة أخرى في قول الكاتبة: "حوار بين مواطن عادي، ورجل من المقاومة، وقد فَرضَ عليه الأخير إيواء المُتسللين في بيته، لقّنني المواطن العادي بالحرف الواحد ما حصل معه، وأوصاني بعدم ذكر اسمه: قال المواطن للمقاوِم: أنا ما إلي دعوة، وما خصني بالسياسة، وما بفهم فيها، أنا إنسان حيادي، وما بقدر أعرّض نفسي وعيلتي للخطر. في هذه الحالة سوف تحسب خائنا للوطن! أجاب المقاوم. إن قررتَ أنتَ أن أكون خائنا للوطن فسأكون بعينك فقط، وهذا شأنك، مهما قلتَ لا أستطيع أن أفعل، وين بدك أروح بنسواني يعني، وحياتك تعفي عني! أنتَ تتمنع، انتظر منا العقاب إذا! قال المقاوم. سوف أتبرع لكم بمبلغ يبسطكم، يعني سأشتري العقاب منكم، شو قلت؟ موافقين هات تنشوف شو هو العرض! أجاب المقاوم. ناوله المواطن كيسا من النقود بيدين مُترددتين ومُرتجفتين، صمت المقاوم هنيهه، ثم مسح شاربيه عدة مرات وسأله: كم ليرة يوجد في  الكيس، ومن أين لك كل هذا المبلغ؟ عشرين ليرة اعتبرهم تبرعا مني للبلد، وحياة شواربك هدول، من حق البيت إلي بعتو، فيهم بشتري رأسي ورأس أبنائي الخمسة، عدني أنك لن تقترب من أبنائي! قلت عندك خمسة أبناء؟ هدول الخمسة لازم يحاربوا معنا، العشرين ليرة هدول إعفاء منا باستقبال المقاومين في بيتكَ، راح يصير البيت إلنا، خبرني عن اسم إللي اشتراه! قال المقاوم. له له يا رجل، ما كان هذا اتفاقنا، يعني شو بكون عملنا هيك، وكيف بدنا نعيش؟ أرجوك افهمني والله ما بقي معي غير القليل. هات كمان عشرة، بعفي عنك وعن أبنائك، أنتظرك غدا، تعال مع المبلغ ساعة الغروب، غير هيك ما في بينا اتفاق، كُن هنا ساعة الغروب ومعك المبلغ".

ربما كان في المقطع السابق تعبيرا بليغا عن حال الفلسطينيين مع رجال المقاومة، حيث عانى المواطنون كثيرا مع المقاومين الذين كانوا يقومون بابتزازهم؛ ومن ثم لم تقتصر المُعاناة هنا مع العدو اليهودي فقط، بل أُضيف إليها معاناة أكبر مع المقاومين الذين من المُفترض أن يكون دورهم الأساس والحقيقي حماية المواطن الفلسطيني، وليس ابتزازه والسطو على ماله، بل وتهديده وتهديد أسرته واستقرارها، وهي الأسرة غير المُستقرة أساسا بسبب العدو الصهيوني الذي يهدد الجميع.

طه حسين

لا يفوت الكاتبة التعبير عن أساليب اليهود من أجل التمكن من الأرض الفلسطينية، صحيح أنها قد استعرضت ذلك بأسلوب إخباري توثيقي بعيد عن الأسلوبية الفنية للرواية، لكنها عبرت من خلال هذا الاستعراض عن المأزق الذي كان يعاني منه جميع الفلسطينيين في هذه الفترة: "اعترض فصيل يهودي مركبة جنود إنجليز على مقربة من تل أبيب وقام بتفجيرها عمدا، في حادثة أخرى، نسفت سيارة مُفخخة السراي الكبير (مركز الحكومة) في يافا، أدى الحادث إلى مقتل 26 من الفلسطينيين المدنيين. بعد حادث عملية (الإرغون) في منطقة أبو كبير، ضواحي يافا، سرّحت الحكومة البريطانية 3200 مجند من الجيش الإنجليزي من الفلسطينيين العرب. شهدت المنطقة عدة حوادث قتل مُتعمد لجنود إنجليز مما حدا بالدولة البريطانية إلى التعجل بالخروج. أما بالنسبة لميناء يافا فقد استقبل أفواجا من اليهود ليلا، تمّ إيوائهم في مراكز إيواء سرية في تل أبيب"، كما لم يفتها إدانة الجيش العربي الذي وعدهم بالانتصار على اليهود والدفاع عنهم، وهو الجيش الذي خذلهم جميعا بتسليمه لأرض فلسطين لليهود، ولعل الحوار الذي دار بين رشدي سابا وزوجته جميلة كان مُعبرا خير تعبير عن الآمال التي انعقدت على الجيش العربي الذي لم يؤد مُهمته التي جاء من أجلها، بل خان الفلسطينيين بتضييع أرضهم في قولها: "هل ستحارب ببندقية صيد؟ سألته. ننتظر قدوم الجيش! قال. أين هم ولماذا لم يظهروا بعد؟ سيأتون، الجيوش العربية لن تتركنا وحدنا، سيأتون! قال رشدي بتشكك. لقد تأخروا! أجابته بخيبة أمل. لن أحارب وحدي، لن أضحي بروحي وأتركك والبنات تتشتتن من بعدي، أنا رجل مسؤول عن أسرة كبيرة، لن أعرّضكم للضياع، سأحارب بجانب جيش مُنظم تحكمه قيادة حكيمة، هذا ما ننتظره جميعا، أضع بيد رجال المقاومة تعويضا ماليا نيابة، أشتري روحي حتى لا أفقدكم، الشهرية جاهزة كالعادة، لن أفوتكم، لن أترككم، ذقنا أنا وأنت لوعة اليتم ومرارته، هل يمكننا نسيان ذلك؟"، إن الحوار السابق بين جميلة ورشدي يؤكد الخذلان الذي عانى منه جميع الفلسطينيين بسبب الجيش العربي الذي لم يقم بمهمته كما وعدهم.

لكن، رغم محاولة الكاتبة الفعلية الالتزام بالسرد كي يكون روائيا، ومن ثم يصبح الكتاب الذي بين أيدينا رواية سيرة ذاتية، إلا أنها لم تستطع الالتزام بذلك طويلا، بل تحول السرد في نهاية الأمر، وفي الكثير من صفحات الكتاب إلى مُجرد تأريخ توثيقي لما كان، وهو ما نراه في حوارها مع إحدى الشخصيات: "هذا التاريخ وهذه الأحداث وهذه الذكريات، أحسّها مُقيّدة برقبتي، إن حصل ولم أُدوّنها سوف تشنقني، ذنبي كله، إنني صاحبة قلم فأرجو، أن تساعديني بتحقيق رغبتي بإنجاز هذا العمل، يا والدتي العزيزة. قلت لها متوسلة. تنبشين بأدق التفاصيل، لا تكتبي شيئا والعفو عند المقدرة، نحن عفوْنا عما سبق، خلص الموضوع وبدنا نعيش. أجابتني. طبعا، جميع من استطاع أن يعيش عاش، لكنه لم يستطع التخلص من الصّدمة التي لازمته طوال حياته. قلت دون أن تسمعني"، أي أن الكاتبة هنا تكاد أن تقول لنا: انتبه أيها القارئ؛ فأنا أقوم بتدوين وقائع ما سبق أن حدث، وهذه ليست مُجرد رواية، بل كتاب توثيقي أعمل من خلاله الحفاظ على ذاكرة المكان، والأحداث التي دارت فيه!

هذا الالتفات السابق الذي لا بد له من إخراج القارئ من السرد والحالة شبه الروائية تؤكده الكاتبة في قولها: "زرتُ فلسطين  سنة 2015م، سألتُ عن البيت، أردتُ خوض التجربة القاسية، زيارة المكان الذي صممته في خيالي، ورسمتُه حياة كاملة بين دفتي كتاب. صمتَت خالتي (ـهـ) ووقفت أمامي في خضوع غضّ، طفلة الطّبق، والرّصاصة الطائشة، رافقتني في رحلة البحث عن الماضي"، أي أنها هنا تؤكد على أن الأمر مُجرد بحث في تاريخ عائلتها وغيرها من العوائل التي عاشوا معها، وهو ما يقترب بالكتاب من السيرة الذاتية التي تؤرشف الوقائع، ومن ثم لا يمكن توصيفها بالسيرة الروائية.

ربما تأتي أهمية هذ الكتاب التأريخي من الإشارة إلى العديد من الملامح التي لا نعرف عنها شيئا في حياة الفلسطينيين وموقف البعض منهم مما حدث؛ حيث حرصت الكاتبة على سوق العديد من الشهادات للكثير من الشخصيات التي أجرت معهم لقاءات في عدة بلدان مُختلفة، ومن خلال هذه الشهادات سنعرف أثر ما كان على بعضهم، وموقفه منهم، لذلك نقرأ: "لم نخف من الجنود ولم نختبئ من وجوههم، بل اعتدنا على المشهد المُتكرّر، تبادلنا أحيانا أطراف الحديث، تحدّثنا في مواضيع عامة ولم نخض بأمور تتعلق بالحرب، أو أحاديث تكشف عن أسرارهم الحربية، بل على العكس تمامًا، فتحوا هم منبرًا للحديث بنيّة اكتشاف النّوايا والاطلاع على الآراء. كل يهودي يعتبر أمين سرّ بلده، وحامي وطنه، كان منهم من طلب الماء من والدتي، فلم تتردد قائلة: هدول شباب رايحين على الموت، على القليلة يروحوا مش عطشانين، الله يساعد هالشباب، العرب من جهتهم واليهود من هون، كلهم رايحين على الموت، يا ويللي على أمهاتهم، ويا ويللي علينا، لسّاتنا ما نسينا حرب 1956م، وهيّانا راح نفوت في حرب جديدة، اُستر يا رب، بعدنا عم نلملم جراحنا من وقت النكبة! يعني فكرك كل هدول راح يموتوا في الحرب، يعني مش راح يرجعوا؟ سألتها بفضول. يا نكبتنا، الله ينكب إللي كان سببا لكل هذه الحروب، الله يعلم يا إمي، إياكِ أن تسأليهم عن أي شيء، بعرفك فضولية وبتسألي كثير! تجيبني، ثم تأخذني من يدي، تدخلني إلى البيت وتغلق الباب، وتقول: ما إلناش دعوة فيهم، قاعدين في برندتنا، وكمان شوي بروحوا في طريقهم لحالهم، لا تردّي على حدًا منهم، حتى إذا سألوا عن كوب ماء، بطلّ عنّا ميّ، ما في ميّ. استرقتُ النظر من نافذة بيتنا المُطلة إلى الخارج، وتابعت المُجريات من خلف الستائر، ودوّنت الأحداث في دفتر يومياتي!".

نلمح في الاقتباس السابق أن ثمة تعاطف ما مع الجنود اليهود، ورغم أنهم مُجرد غاصبين لحقوق الفلسطينيين إلا أن أم الكاتبة كانت مُتعاطفة معهم إلى حد بعيد، ولعل هذا التعاطف، أو أزمة الهوية يتضح لنا بشكل أكثر فداحة في: "صوت امرأة، هدّأ من قلقهم. قالت: ( يدافع عنّا الجيش الإسرائيلي، فلا تخافوا، نحن عايشين وسط اليهود، لذلك نحن في أمان!)، لم يكن في الملجأ سوى العرب، وضعت هذه الجملة الجميع في صومعة الصمت، والتفكير في شؤون أعظم من شؤون الحرب، موضوع الهويّة"!

هذا التعاطف أو التعايش، أو أزمة الهوية نراه بشكل صارخ وأكر فداحة في إحدى الشهادات التي حرصت الكاتبة على تسجيلها في: "في فلسطين الداخل اليوم، عايشة الناس برفاهية وجمال وتحضّر، لم تكن البلاد هكذا من قبل، لقد زرتها وعدت قبل أشهر، وين، لم أجد شيئا من الماضي، النظافة، والترتيب، والبنايات الجميلة، والعمار، والشوارع، والازدهار، والجسور، والطُرق المُعبدة السريعة، كل شيء تبدل إلى الأفضل، حُكم إسرائيل كان قاسيا، لكنها مهما عملت تبقى أرحم مما عمله العرب فينا، الذلّ، والحرمان، والبهدلة، والمهانة، والعذاب، والمرار، لم نستطع اقتناء ما يلزمنا من طعام، إلا ما نحتاج إليه، القليل لنبقى أحياء، مضت السنوات ونحن ننازع في حياة صعبة جدا، حتى جاء اليوم وحصلنا فيه على الجوازات، حينها فقط استطعنا الخروج لإيجاد عمل في الخارج. لكن، ونتساءل جميعا، أقصد من زار فلسطين الداخل مُؤخرا، هل إن بقيت بأيدي الفلسطينيين، ستصبح على ما هي عليه الآن؟ هل ستصير مُتحضرة ومُتقدمة؟ الجميع يعلم أن إسرائيل أصبحت رائدة في مُختلف المجالات، وهي من أولى الدول المُتحضرة في العالم، صدّقيني، لو بقي العرب فيها لتناحر عليها الأقوى والذي يحمل سلاحا، تماما كما يحصل الآن في غزة، أقول هذا الكلام وقلبي مليء بالمرارة، قلبي محروق"!

إن هذا الاقتباس من الشهادة السابقة يكاد يكون اقتباسا خطير يوضح لنا انطماس الهوية الكامل والتعايش، بل وقبول المُحتل وتمجيده وتفضيله على أصحاب الأرض، وهو من وجهات النظر التي تثير الكثير من الدهشة للفلسطينيين الذين لم يعودوا يؤمنون بحقوقهم في هذا الوطن، وانسحقوا تماما، وباتوا يرون أن الحياة في كنف المُحتل أفضل لهم من الحياة في وطن مُستقل!

تحرص الكاتبة الفلسطينية دينا سليم حنحن على تقسيم كتابها إلى قسمين رئيسيين، القسم الأول منه يتراوح فيه أسلوبها ما بين السرد الروائي تارة، وما بين السرد التوثيقي التاريخي البحثي تارات أخرى، وهي في القسم الأول منه تعمل على مُتابعة قصة جدتها جميلة وحياتها مع جدها رشدي سابا الذي اختفى ولم يعد مرة أخرى، لكنها في القسم الثاني- الذي ادعت فيه أنها تحاول مُتابعة حياة جدها الآخر داود حنحن- لم تنجح في ذلك، بل تحول السرد والتسجيل إلى كتاب وثائقي بحت صالح للتأريخ فقط، وهو القسم الذي ساقت فيه الكثير جدا من الشهادات والمُقابلات مع العديد من الأشخاص الذين طلبت منهم أن يحكوا ما حدث، ومن ثم أدلى كل منهم ما كان من وقائع بطريقته الشخصية، وكيفما اتفق، وهو ما يجعل القسم الثاني من الكتاب لا داعي له، بل كان عبئا كبيرا على الكتاب؛ لأنه لم يكن سوى مُجرد مجموعة كبيرة من الشهادات التي تكاد أن تتشابه مع بعضها البعض رغم اختلاف الأشخاص الذين حرصت على مُقابلتهم في العديد من الدول المُختلفة التي هاجروا إليها، أي أن الكتاب لو كان قد تخلص من الجزء الثاني منه ما كان الأمر سيختلف كثيرا، ولما شعرنا بأي نقص فيه، وإن ظل الكتاب رغم ذلك- مع افتراض حذف القسم الثاني منه- مُجرد كتاب يتأرجح ما بين السرد الروائي حينا، والسرد التوثيقي في أحيان أخرى كثيرة.

إذن، من خلال ما سبق يتأكد لنا أن الروائية الفلسطينية دينا سليم حنحن، حاولت من خلال ما قدمته كتابة رواية سيرة ذاتية تتتبع فيها الكثير من الشخصيات في عائلتها المُتناثرة في العديد من الدول، وغيرهم من الشخصيات الذين كانوا بمثابة جيران لهم في القرن الماضي، لكنها أخفقت كثيرا في كتابتها؛ الأمر الذي جعل الكتاب في نهاية الأمر يخرج لنا في صورة كتاب توثيقي بعيد كل البُعد عن رواية السيرة الذاتية، وفنيتها، وبقي في نهاية الأمر مُجرد كتاب للتاريخ يحرص على سرد الكثير من الوقائع وشهادات من شاهدوا هذه الوقائع، أي أن الكتاب بمثابة شهادة طويلة جدا على الشتات الذي حدث للفلسطينيين الذين هُجروا من أراضيهم إلى العديد من دول العالم حاملين معهم الكثير من الغصة، والأكثر من القهر والحزن، والفقد لذويهم.

يبقى أن الكاتبة وقعت في العديد من الأخطاء اللغوية- كعهد الكثيرين من الكتاب فيما يقدمونه- وهو ما نراه في كتابتها "اعتني" بدلا من "اعتن"؛ لأنه لا بد من حذف حرف العلة مع الأمر، وكتابتها "إسمها" بهمزة قطع بدلا من "اسمها"، ووصفها للمرأة بالوسامة رغم أنها صفة تُقال على الرجل، أما المرأة فتوصف بالجمال، وكتابتها "الاضراب" بألف الوصل بدلا من "الإضراب"، و"المثلة" بالثاء بدلا من "المسلة"، و"ساعدت المواطنون" برفع المفعول به بدلا من "المواطنين"، و"إحكي" بدلا بهمزة القطع وعدم حذف حرف الياء بدلا من "احك"، و"لجؤوا" بوضع الهمزة على الواو بدلا من "لجأوا" حيث تأتي الهمزة على الألف لأن الحرف الذي قبلها مفتوح، و"لم تعاني" مع الاحتفاظ بحرف العلة بعد الجزم بدلا من "لم تعان"، ومثلها "لم ترتدي" بدلا من "لم ترتد"، و"كان المولود طفل" برفع خبر كان بدلا من "طفلا"، و"إتضح" بهمزة قطع بدلا من "اتضح".

يأتي الكتاب البحثي التأريخي "ما دوّنه التراب" للروائية الفلسطينية دينا سليم حنحن كمحاولة لكتابة رواية السيرة الذاتية، لكنها محاولة أخفقت فيها الروائية كثيرا؛ ومن ثم خرج الكتاب الضخم من بين يديها في نهاية الأمر كمُجرد كتاب يحرص على تسجيل وقائع ما حدث في فلسطين من خلال العديد من الشهادات، والمُقابلات الضخمة التي ازدحم بها الكتاب، ومع اليقين والتسليم بأنه مُجرد كتاب للتوثيق إلا أن ازدحام الشهادات التوثيقية فيه كانت من الكثرة العددية والتشابه ما يجعل الكتاب في حاجة ماسة إلى الكثير من الحذف والاختصار حتى لا تكون الشهادات مُجرد ثرثرات لا داع لها تؤدي بالكتاب إلى التنامي في عدد الصفحات فقط في حين أنه لا يقدم لنا أي شيء جديد، وهو الكتاب الذي حرصت الكاتبة فيه على إنهائه بشكل فيه الكثير من المُباشرة والسطحية حينما نقرأ في الصفحة الأخيرة: "العدم يحوطني، وعري الطريق أمامي يتكشف، طريق يداعبه فراغ أقفر من الناس، هي أقدار الزّمان، سقطت عنها الوجوه! أستفيقُ على ابنتي تهزّ كتفي، وهي تقول: برد شايك ماما ولم ترتشفي منه سوى رشفة، سأجدّد لكِ الكوب. تنتشلني ابنتي من رحلة الكتابة، وتلقي بي في شراك فراغ يحلو له العبث، أتساءل: هل يكون كلّ ما دونتهُ هنا خواء، أم حقيقة تتحول إلى دوامات من الغبار؟! الإجابات لن تضيف شيئا، ولن تسعفني، بل إنها ستثتثير أتون الألم أكثر. سأطوي صفحات على أبطالي بكلمة واحدة. إنها النهاية"!

 

محمود الغيطاني

 مجلة مصر المحروسة.

5 1اكتوبر 2021م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق