الأحد، 10 أكتوبر 2021

أربعة شهور وثلاثة أسابيع ويومان.. الوقت يدمر أي شيء!

بوستر الفيلم
الوقت يدمر أي شيء، وكل شيء. إنها الجملة التي لا بد لها أن تدور في ذهن المُشاهد للفيلم الروماني
4 Months, 3 Weeks And 2 Days
أربعة شهور وثلاثة أسابيع ويومان، أو 4 luni, 3 săptămâni și 2 zile حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة الرومانية للمُخرج والسيناريست الروماني Cristian Mangiu كريستيان مونجيو، حيث يعمل المُخرج للوقت حسابا مُهما في فيلمه؛ ومن ثم تدور أحداث الفيلم اعتمادا على مرور الوقت وأهميته في تحديد مصائر الجميع، بل والتحكم فيها.

نلاحظ هنا أننا أمام فيلم يعتمد اعتمادا مُباشرا على الإضاءة الطبيعية مُبتعدا في ذلك عن إضاءة الاستوديوهات، ويتجنب المُوسيقى التصويرية بشكل كامل، حتى أن الفيلم لا يوجد فيه أي لحن من المُمكن أن يعبر عن مشاعر أبطاله وحالاتهم النفسية مُستعيضا عنها بالمؤثرات الطبيعية والأصوات الواقعية والحوارات فقط، كما يعتمد في التصوير على اللقطات الطويلة الثابتة المُتأملة لما يدور حوله؛ كي تعطي المُشاهد الفرصة للتأمل بمهل في عناصر الصورة وما يوجد فيها مُستعينا في ذلك بكاميرا واحدة محمولة في بعض الأحيان، وثابتة لا تتحرك في الكثير من المشاهد مهما كانت طويلة.

إذن، فنحن هنا أمام مُخرج يكاد أن يقترب من قواعد جماعة الدوجما السينمائية في أسلوبيته وإن لم يتطابق معهم تماما؛ الأمر الذي يجعله يمتلك أسلوبيته السينمائية التي تخصه وحده، ويختلف بها عن غيره.

يحرص المُخرج على أن يبدأ فيلمه مُحددا إطاره الزمني بكتابته على الشاشة: رومانيا 1987م، أي أننا في نهايات حُكم تشاوشيسكو الحديدي والفاشي الديكتاتوري لرومانيا، ولعل تحديد الإطار الزمني كان من الأهمية بمكان ما يجعلنا كمُشاهدين مُهيأيين للأحداث وما يشوبها من قهر وخوف، ومُراقبة على كل المستويات- سواء منها الاجتماعية أو السياسية، أو حتى التربوية- رغم أن المُخرج لم يتعرض لأي أحداث سياسية في فيلمه، أو يتعرض لها من قريب أو بعيد، لكنها كانت تطل برأسها ثقيلة على صدور الجميع الشاعرين بالخوف والقلق الدائم من كل شيء.


يتناول الفيلم مسألتي الإجهاض والصداقة، ولعل مسألة الإجهاض- بالنسبة لمن لا يعرفها في رومانيا في هذه الفترة- من المسائل الخطيرة التي يتم التعامل معها باعتبارها جريمة من الجرائم الكبرى؛ حيث سن تشاوشيسكو عام 1966م قانونا يجرم الإجهاض، ليس من مُنطلق أخلاقي، ولكن من مُنطلق رغبته في زيادة عدد المواليد في رومانيا من أجل إعداد المزيد من القادة، وهو ما جعل الإجهاض حتى ثلاثة شهور من الحمل بمثابة جريمة تستحق السجن من عام لثلاثة أعوام، في حين أن الإجهاض بعد الشهر الرابع يُعد جريمة قتل يُعاقب من يقوم بها بمدة تتراوح بين خمس سنوات حتى عشر سنوات! كما يحرص الفيلم على التأكيد على معنى الصداقة التي من المُمكن لها أن تجعل الصديق يضحي بحياته وبكل شيء يمتلكه من أجل صديقه مُمثلا في بطلتي الفيلم.

يبدأ المُخرج فيلمه على لقطة طويلة ثابتة مُستخدما فيها كاميرا ثابتة لمنضدة عليها حوض أسماك، ومطفأة يوجد فيها سيجارة مُشتعلة ليتصاعد الدخان عاليا، بينما تمتد يد أنثوية بين الفينة والأخرى لتتناول السيجارة ولا تلبث أن تعيدها إلى مكانها في الوقت الذي نستمع فيه إلى حوار المُمثلتين الرئيسيتين مع استمرار الكاميرا على ثباتها لأطول فترة.


إن هذا الثبات للكاميرا لا بد له أن يجذب المُشاهد ويجعله ينتبه إلى أسلوبية المُخرج التي ستستمر معه حتى نهاية الفيلم، وهي الأسلوبية التي تتلاءم تماما مع أحداث فيلمه.

نعرف أن جابرييلا- قامت بدورها المُمثلة الرومانية Laura Vasiliu لاورا فاسيليو- طالبة في بداية العشرينيات، وتقيم في سكن الطلبة في العاصمة بوخاريست، وتستعد في هذا اليوم لعملية إجهاض سري غير قانوني بينما تشعر بالكثير من الخوف والتوتر، تساعدها في هذا الفعل مُعضدة لها صديقتها الأقرب أوتيليا- قامت بدورها المُمثلة الرومانية Anamaria Marinca آناماريا مارينكا-.

يحرص المُخرج على تقديم شخصيتيه الرئيسيتين من خلال استعراض سماتهما السيكولوجية من خلال الحوار، وهي السمات التي سيفصلها فيما بعد من خلال الأحداث؛ فنعرف أن جابرييلا تتسم بالكثير من الطفولية والاتكالية وعدم المقدرة على تحمل مسؤولية أي شيء، بينما تمارس أوتيليا معها دور الأم المسؤولة عنها وليس دور الصديقة فقط، وتقوم بالنيابة عنها بكل شيء من المُمكن أن تحتاجه جابرييلا التي تتهرب من المسؤولية أو فعل أي شيء مهما كان مُهما ويخصها في محنتها.


نفهم من خلال الحوار أن جابرييلا وصديقتها قد اتفقتا مع أحد الأشخاص الذي يدعى بيبي- قام بدوره بإتقان المُمثل الروماني Vald Ivanov فالد إيفانوف- على أن يقوم بإجهاضها، وأنه قد اتفق من خلال الهاتف مع جابرييلا على أن تحجز في أحد الفنادق المُعينة التي اعتاد على أن يجري الإجهاض فيها بأمان، كما طلب منها أن تقابله بشكل شخصي في هذا اليوم مُعطيا لها عنوانا سوف تنتظره فيه، لكن لأن جابرييلا لا يمكن لها الاعتماد على نفسها في أي شيء؛ تطلب من أوتيليا الذهاب إلى الفندق من أجل استلام الحجز الذي قامت به هاتفيا، كما تطلب منها أن تقابل بيبي بالنيابة عنها.

تذهب أوتيليا بالفعل إلى الفندق الذي حدده بيبي، لكن موظفة الاستقبال، التي تتعامل معها بالكثير من الفظاظة، تؤكد لها أنه لا يوجد أي حجز باسم جابرييلا، وحينما تخبرها أوتيليا أنه قد تم الحجز هاتفيا تعيد الموظفة تأكيدها بعدم وجود حجز، كما أن الفندق لا يوجد فيه أي غرفة شاغرة، تتحير أوتيليا وتذهب إلى فندق آخر محاولة الحجز بأي سبيل، فترفض موظفة الاستقبال في البداية مُتعللة بعدم وجود أي غرفة شاغرة، ولكن بعد إلحاح أوتيليا وقبولها بغرفة بسرير مزدوج توافق الموظفة على حجز ثلاثة أيام لها.


ربما نلاحظ هنا حرص المُخرج على عرض شكل الحياة في رومانيا في هذه الفترة الفاسدة اجتماعيا وسياسيا؛ فالمجتمع هنا لا يمكن أن يتم فيه أي شيء من دون وجود الرشوة في مُقابل الخدمات التي تمثل حقا طبيعيا للجميع؛ لذلك نرى أوتيليا تضطر إلى شراء علبة سجائر Kent النادرة في الأسواق الرومانية والتي لا تباع إلا في السوق السوداء بسعر غال من أجل إهدائها لموظفة الاستقبال في الفندق على سبيل الرشوة، كما نلاحظ أن المُجتمع بالكامل يكاد أن يكون رقيبا، أو مُخبرا على بعضهم البعض؛ فالجميع يتدخلون في شؤون غيرهم ويزجون بأنوفهم في حيوات الآخرين باعتبار أن هذا حقا من حقوقهم؛ لذلك تتساءل موظفة الاستقبال موجهة حديثها لأوتيليا حينما ترغب في حجز الغرفة: أنت طالبة؟ إذا كنت تعيشين في سكن الطلبة، فلماذا تحتاجين لغرفة هنا؟ وهو الأمر الذي يجعل الفتاة تخبرها بأنهم على وشك الاختبارات وتحتاج هي وصديقتها إلى مكان هادئ تستطيعان أن تحصلا دروسهما فيه، كذلك نلاحظ أن ثمة قبضة أمنية وتدخل في شؤون الجميع وحيواتهم الشخصية في تأكيد على عدم وجود الخصوصية لأي مواطن في رومانيا حينما تحاول أوتيليا الصعود إلى غرفتها في الفندق ومعها بيبي فيوقفهما موظف الاستقبال قائلا: ألم يخبرك أحد بترك مُفتاح الغرفة في الاستقبال عندما تغادرين؟ كما يجب الإعلان عن الزيارات. لا يمكن دخول الأصدقاء هكذا، فترد عليه أوتيليا خائفة: بعد العاشرة، هذا ما قالته زميلتك، فترد عليها زميلته/ موظفة الاستقبال: أسأت الفهم، لو بقي لما بعد العاشرة عليه الدفع من أجل سرير، لكن يجب الإعلان عن جميع الزيارات، ثم تطلب من الضيف هويته الشخصية قبل الصعود، وتركها لحين رغبته في مُغادرة الفندق!


إذن، فنحن أمام مُجتمع يتم تقييده وخنقه ومُراقبته والقضاء على حياته الخاصة بكافة الطُرق المُمكنة؛ وهو الأمر الذي يُشعر جميع شخصيات الفيلم بالخوف طوال الوقت، والتوتر.

تقابل أوتيليا بيبي الذي يبدي غضبه لأن جابرييلا لم تلتزم بما سبق أن أخبرها به بأن تحجز في فندق مُعين يريده هو ليكون آمنا، وعدم مُقابلتها بنفسها له، لكن أوتيليا تشرح له الأمر، وحينما يصعد معهما إلى الغرفة يكتشف أن جابرييلا قد كذبت عليه حينما أخبرته أنها في الشهر الثاني من حملها في حين أنها في الشهر الرابع، وهذا يعرضهم لمسؤولية قانونية أكبر وهي تهمة القتل؛ فتتوسل إليه جابرييلا أن يخلصها من الجنين ويقف إلى جوارها، وتؤكد عليه أوتيليا أنهما يمتلكان 3000 لي مقابل خدمته، لكنه يثور ويوجه حديثه لجابرييلا: هل طلبت منك أي نقود حينما تحادثنا في الهاتف؟ أنا سأساعدك وأكون لطيفا معك، ولكن بالمُقابل لا بد أن تكونا لطيفتين معي، ويبدأ في ابتزازهما واضعا لهما شرطا مُقابل تخليص جابرييلا من الجنين، وهو أن يقوم بمُضاجعتهما قبل القيام بعمله!


تحاول كل من الفتاتين زيادة المبلغ المعروض عليه وتؤكدان أنهما تستطيعان الاستدانة من أجل تغطية نفقاته، لكنه يثور ويهم بالرحيل رافضا أخذ أي مال ويصر على مُضاجعة كل منهما قبل القيام بعمله، تتوسل جابرييلا له ألا يتركها؛ الأمر الذي يجعل أوتيليا الشاعرة نحو صديقتها بمشاعر الأمومة والمسؤولية توافق باكية على شرطه وتبدأ في خلع ملابسها.

بالفعل يقوم بيبي بمُضاجعة كل منهما قبل أن يقوم بإدخال أنبوب إلى رحم جابرييلا، ويقوم بتثبيته، ويؤكد عليها ألا تتحرك من الفراش إلا إذا شعرت بنزول الجنين، ولا يترك لها أي شيء سوى الإمبسيلين فقط، ومُخفض للحرارة، ويوصيهما ألا يتخلصا من الجنين في المرحاض حتى لا يسده، ولا تقوما بدفنه حتى لا تخرجه الكلاب، بل عليهما أن تصعدا إلى إحدى البنايات العالية ووضع الجنين في مصفاة القمامة هناك.


لعل المشهد التالي بعد رحيل بيبي حينما نرى أوتيليا في مشهد طويل ثابت لا ينقل لنا سوى وجهها وشعورها الشديد بالألم والغضب الذي تصبه على جابرييلا من المشاهد المُهمة التي تسأل فيه أوتيليا صديقتها عن سبب كذبها في كل ما فعلته، فهي كذبت أولا على بيبي بأنها في الشهر الثاني، ثم كذبت عليه في أنها أخبرته بأن أوتيليا شقيقتها، ثم كذبت بشأن حجز الفندق، ولم يكن لديها أي سبب في عدم الذهاب إلى مُقابلته كما اتفقت معه هاتفيا، وهو الأمر الذي بررته بأنها كانت خائفة؛ مما يُدلل على أن الفتاة غير قادرة على تحمل مسؤولية أي شيء، وهو ما تخبرها به أوتيليا بأن كذبها قد وضعهما في هذا المأزق الذي ابتزهما من خلاله بيبي وقام بمُضاجعتهما؛ الأمر الذي يسبب لأوتيليا الكثير من الألم والشعور بالمهانة.

تتذكر أوتيليا أنها لا بد لها من الذهاب إلى بيت حبيبها آدي الذي وعدته بحضور عيد ميلاد أمه، لا سيما أنه حينما التقاها في الصباح قد جعل ذهابها إلى عيد ميلاد أمه دليلا على مدى تمسكها بعلاقتهما معا؛ فتسرع إليه مع شعورها الشديد بالتوتر والعصبية بسبب ما حدث مع بيبي، وهناك تشعر بالكثير من السأم والملل بين أصدقاء والده ووالدته الذين يتحدثون في الكثير من الأمور التافهة التي لا قيمة لها، وإن عرفنا من خلالها الكثير من التفكير الذي يتميز به العديدين من الرومانيين- كبار العمر على الأقل- لكن، إن مشهد العشاء الذي شاركت فيه أوتيليا مع أسرة آدي، وهو المشهد الذي بلغ عشر دقائق كاملة على الشاشة كان مشهدا طويلا جدا، ومن الخطورة التي كادت أن تُفقد المخرج اهتمام جمهوره رغم أهمية الفيلم وأحداثه؛ فالحديث الذي كانوا يتحدثون فيه يمتلك من الملل والسأم الكثير الذي كان لا بد له أن يدفع المُخرج إلى اختصاره في خمس دقائق فقط، لا سيما وأننا كمُشاهدين فهمنا ما يرغب أن ينقله إلينا من خلال هذا المشهد. صحيح أن المشهد قد تم تنفيذه بحرفية من خلال الأسلوبية الخاصة بالمُخرج؛ حيث تم تصويره بكاميرا ثابته تماما في مواجهة أوتيليا الجالسة بينهم، وهو المشهد الذي لم يقطع فيه المُخرج مرة واحدة، بل ظلت الكاميرا مُتأملة لها مصورة إياها بينهم وكأنها مجرد قزمة، ومُنفصلة عنهم كليا، حتى أنها لم تمد يدها إلى أي شيء لتتناوله، لكن المشهد كان من الطول الذي يجعل المُشاهد يشعر بالكثير من الملل والانصراف عن الفيلم بعدما جذبه المُخرج إلى أحداثه.


تنهض أوتيليا بعد ذلك إلى غرفة آدي وهناك تكون شديدة التوتر حتى أنهما كادا أن يتشاجرا، وتخبره بشأن إجهاض جابرييلا، لكنها لا تخبره شيئا عن مُضاجعة بيبي لها، لعل هذا المشهد من الأهمية التي لا بد أن تجعلنا نتوقف أمامه قليلا؛ فأوتيليا تبدأ في لوم آدي وتسأله عما إذا كانت هي الحامل بجنين فماذا سيكون موقفه حينها، ويشتد غضبها عليه رغم أنه يؤكد لها أنه لا يمكن له أن يخذلها، بل سيتزوجها بدلا من الإجهاض، لكنها تبدأ في لومه والتأكيد على أنه لا يعرف حتى موعد دورتها الشهرية، وأنها إذا ما وقعت في مثل هذا الموقف فلن تلجأ إليه لأنها تعرف أنه لن يقف إلى جوارها، ورغم أنه يؤكد لها أنه لا يمكن له أن يتصرف بمثل هذا التصرف الذي تظنه، إلا أنها تصب عليه غضبها. قد يبدو المشهد هنا مُقنعا إلى حد ما؛ فهي تشعر بالكثير من الغضب والألم بعدما ساومها وابتزها بيبي وقام بمُضاجعتها هي وصديقتها حتى أنها تمنع صديقها آدي بغضب من مجرد لمسها، لكن، إذا كانت أوتيليا تحمل مثل هذا القدر من الغضب الذي تصبه على صديقها الذي لا ذنب له في شيء، ورغم أنه يؤكد لها حبه وعدم تخليه عنها، فهي قد خادعته بأنها لم تخبره بأي شيء مما حدث لها بشأن مُضاجعتها الجنسية وخيانتها له، بل وخرجت من بيته غاضبة منه من دون أي سبب في شكل أقرب إلى إنهاء علاقتها به من دون أي مُبرر رغم أنها هي في حقيقة الأمر المخطئة والخائنة له!


إن طريقة التفكير التي يفكر بها الكبار في رومانيا، وهي الطريقة التي أحرجت أوتيليا كثيرا تتمثل في المشهد الطويل للعشاء حينما تناولت إحدى السجائر من أجل تدخينها؛ فيعترض أحد أصدقاء والد آدي بفظاظة على محاولتها التدخين أمام والديّ صديقها، ويؤكد لها أن هذا الأمر لا يليق ولا علاقة له بالاحترام، ويخبرها بأن والده حينما توفي كان هو في الثالثة والأربعين من عمره، ورغم ذلك لم يدخن أمام أبيه مرة واحدة، بل ويبدأ في التحسر على أن جميع الشباب اليوم يتجرؤون أمام الكبار ولا يحترمونهم.

تعود أوتيليا إلى الفندق وتعرف أن جابرييلا قد تخلصت من الجنين، ولعل المشهد الذي وقفت فيه أوتيليا أمام باب الحمام مُتأملة للجنين الملفوف في منشفة الفندق من المشاهد المُهمة الثابتة على وجهها من أجل توضيح انفعالاتها وتأملها للجنين.


تسرع أوتيليا بوضع الجنين في حقيبتها، وتؤكد عليها جابرييلا ألا تلقيه في القمامة وتقوم بدفنه، لكن أوتيليا تخرج في الليل وحيدة خائفة، وتحاول بالفعل دفنه في تصوير جيد لشوارع بوخاريست المُخيفة والمُظلمة حتى أن بعض المشاهد كادت أن تكون مُظلمة تماما، كما تشعر بأن أحد الأشخاص يتابعها؛ الأمر الذي يجعلها تصعد إلى إحدى البنايات وتلقي بالجنين من خلال فتحة التخلص من القمامة وتعود مرة أخرى إلى الفندق، لكنها حينما تصعد إلى الغرفة لا تجد جابرييلا؛ الأمر الذي يجعلها تهبط وقد شعرت بالقلق الشديد لتخبرها موظفة الاستقبال بأن صديقتها تجلس في الناحية الأخرى تتناول طعامها.

تتوجه أوتيليا إلى جابرييلا التي تخبرها بأنها قد هبطت لشعورها بالجوع الشديد، وتكتشف أوتيليا أن درجة حرارة جابرييلا قد ارتفعت وأنها تناولت بعض الإسبرين لتخفيض درجة حرارتها، ثم تسألها هل قامت بدفن الجنين، فترد عليها أوتيليا: أتعلمين ما هو أفضل شيء من المُمكن أن نفعله؟ ألا نتحدث أبدا عن هذا.


إن العبارة الختامية التي قالتها أوتيليا لصديقتها لتستمر الكاميرا الثابتة شاخصة لهما صامتتين فترة ليست بالقليلة قبل إظلام الشاشة من العبارات المُهمة التي تُدلل لنا على أن أوتيليا لديها رغبة ماسة وقوية في نسيان كل ما حدث بسبب الشعور المؤلم للمهانة التي تشعر بها بعد مُضاجعتها هي وصديقتها من قبل بيبي.

في الفيلم الروماني المُهم أربعة شهور وثلاثة أسابيع ويومان للمُخرج كريستيان مونجيو ثمة إتقان وأسلوبية خاصة في التصوير الذي كان هو البطل الأساس في هذا الفيلم، يعود الفضل في ذلك إلى اختيار المصور الروماني Oleg Mutu أوليج موتو الذي حرص مع المُخرج منذ اللقطة الأولى على اللقطات الطويلة الثابتة التي تسمح للمُمثلين بالدخول والخروج داخل إطار الشاشة بينما الكاميرا ثابتة لا تتحرك، كما أن المصور كان نادرا ما يقطع اللقطة على لقطة أخرى كأن يجعلها متوسطة أو شاملة، أي أنه حرص على عدم التنويع بين اللقطات، بل كان القطع الوحيد الذي قد يلجأ إليه، حينما يرغب في ذلك، هو القطع إلى لقطة جديدة تماما في مكان جديد غير المكان السابق، ولعلنا لاحظنا أن الكاميرا لديه هي كاميرا محمولة تتابع المُمثل في حالة حركته من دون اللجوء إلى القطع؛ ففي مشهد أوتيليا حينما تخرج في بداية الفيلم للتجول خارج غرفتها في المدينة الجامعية نراها تخرج من الغرفة، وتسير في الممر بين الغرف، وتدخل إلى الحمام المُشترك الذي نرى فيه زميلاتها يستحممن، ثم تتجول داخل الحمام، وتخرج مرة أخرى إلى الممر، وتتوقف أمام إحدى الغرف لابتياع السجائر، كل هذه الحركة الطويلة ينقلها المُخرج والمصور من خلال لقطة واحدة طويلة لم يلجأ فيها المصور إلى القطع مرة واحدة، بل حرص على مُتابعتها بكاميرته المحمولة في كل حركاتها كظلها، أو كأنها تراقبها؛ مما منح الفيلم مذاقا خاصا، وأسلوبية تخص مخرجه فقط.

 

محمود الغيطاني

مجلة الشبكة العراقية

 5 أكتوبر 2021م

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق